تفسير سورة النّمل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة النمل من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة النّمل
مكية. وهى ثلاث وتسعون آية. وقيل: أقل. ومناسبتها لما قبلها: قوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ «١» إلى ما قرره من نفى تنزل الشياطين به، مع ما افتتح به السورة، من الإشارة إليه بقوله: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ. ثم افتتح السورة برموز بينه وبين حبيبه، على عادته، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥)
يقول الحق جلّ جلاله: طس أي: يا طاهر يا سيد. قال ابن عباس: «هو اسم من أسماء الله تعالى» «٢»، أقسم به أن هذه السورة آياتها القرآن وكتاب مبين. قلت: ولعلها مختصرة من اسمه «اللطيف والسميع». وقيل: إشارة إلى طهارة سر حبيبه. تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ، الإشارة إلى نفس السورة، وما في معنى الإشارة من معنى البُعد، مع قرب العهد بالمشار إليه، للإيذان ببُعد منزلته في الفضل والشرف، أي: تلك السورة الكريمة التي نتلوها عليك هي آيات القرآن، المعروف بعلو الشأن. وَآيات كِتابٍ عظيم الشأن مُبِينٍ مظهر بما في تضاعيفه من الحِكَم، والأحكام، وأحوال الآخرة، أو: مبين: مُفرق بين الرشد والغي، والحلال والحرام، أو: ظاهر الإعجاز، على أنه من:
أبان، بمعنى بان، وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى، نحو: هذا فعل السخي والجواد.
ونكّر الكتاب ليكون أفخم له. وقيل: إنما نكّر الكتاب وعرّفه في الحِجْر «٣»، وعرّف القرآن ونكره في الحِجْر لأن القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفان له لأنه يُقرأ ويكتب، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم، وحيث جاء بلفظ التنكير فهو الوصف. قاله النسفي.
(١) الآية ١٩٢ من سورة الشعراء.
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٦/ ١٤٣).
(٣) فى قوله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ الآية الأولى.
173
وما قيل من أن الكتاب هو اللوح المحفوظ، وإبانته أنه خُطَّ فيه ما هو كائن، لا يساعده إضافة الآيات إليه.
والوصف بالهداية والبشارة في قوله: هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي: حال كون تلك الآيات هادية ومبشرة للمؤمنين، فهما منصوبان على الحال، من الآيات، على أنهما مصدران بمعنى الفاعل للمبالغة، كأنهما نفس الهداية والبشارة، والعامل فيها ما في «تلك» من معنى الإشارة، أو: خبر، أي: هي هدى وبشرى للمؤمنين خاصة إذ لا هداية لغيرهم بها.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يُديمون على إقامة فرائضها وسننها، ويحافظون على خشوعها وإتقانها، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي: يؤدون زكاة أموالهم، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ حق الإيقان. إما من جملة الموصول، وإما استئناف، كأنه قيل: هؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان، لا من عداهم لأن من تحمل مشاق العبادات، إنما يكون لخوف العقاب، ورجاء الثواب، أولاً، ثم عبودية آخراً، لمن كمل إخلاصه.
ثم ذكر ضدهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي: لا يُصدّقون بها، وبما فيها من الثواب والعقاب، زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ الخبيثة، حيث جعلناها مشتهية للطبع، محبوبة للنفس، حتى رأوها حسنة، كقوله: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً «١»، فَهُمْ يَعْمَهُونَ يترددون في ضلالتهم. كما يكون حال الضال عن الطريق.
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أشدّ الناس خسراناً لأنهم لو آمنوا لكانوا من أكرم الناس، شهداء على جميع الأمم يوم القيامة، فخسروا ذلك مع خسران ثواب الله والنظر إليه. عائذاً بالله من جميع ذلك.
الإشارة: طس: طهر سرك أيها الإنسان، لتكون من أهل العيان، طهر سرك من الأغيار لتشاهد سر الأسرار، وحينئذٍ تذوق أسرار القرآن والكتاب المبين، وتصير هداية وبشارة للمؤمنين. فإنَّ من قرأ القرآن وعمل به فقد أدرج النبوة بين كتفيه، كما في الخبر «٢». ثم ذكر من امتلأ قلبه بالأكدار فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.. إلخ، قال القشيري: أغشيناهم فهم لا يُبصِرون، وعَمَّيْنَا عليهم المسالك، فهم عن الطريقة المُثْلَى يَصدون. أولئك الذين في ضلالتهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون. أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ هو أن يجد الألم ولا يجد شهود المُبْتَلِي «٣»، ولو وجدوه تحمل عنهم ثِقَله، بخلاف المؤمنين. هـ.
(١) من الآية ٨ من سورة فاطر.
(٢) جاء ذلك فيما أخرجه الحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي (١/ ٥٥٢) عن عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما- إن رسول الله ﷺ قال: «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحى إليه..» الحديث.
(٣) فى القشيري: يجد الآلام ولا يجد التسلّى.
174
ثم ذكر الحق تعالى كيفية نزول القرآن، الذي تقدم ذكره، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
قلت: (تُلَقَّى) : مبني للمفعول. والفاعل هو الله لدلالة ما تقدم عليه، من قوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ.
و (لقى) : يتعدى إلى واحد، وبالتضعيف إلى اثنين. وكأنه كان غائباً فلقيه، فالمفعول الأول صار نائباً. و «القرآن» :
مفعول ثان، أي: وإنك ليلقيك الله القرآن.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّكَ يا محمد لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي: لتؤتاه بطريق التلقية والتلقين مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي: من عند أيّ حكيم وأيّ عليم، فالتنكير للتفخيم. وفي تفخيمه تفخيم لشأن القرآن.
وتنصيص على علو طبقته- عليه الصلاة والسلام- في معرفته، والإحاطة بما فيه من العلوم والحِكَم والأسرار، فإن من تلقى العلوم والحِكَم من الحكيم العليم يكون عَلَماً في إتقان العلوم والحِكَم. والجمع بينهما مع دخول العلم في الحكمة لعموم العلم، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، والإشعار بأن ما في القرآن من العلوم، منها ما هو حكمة، كالعقائد والشرائع، ومنها ما ليس كذلك، كالقصص والأخبار الغيبية. قاله أبو السعود.
قال ابن عطية: في الآية رد على كفار قريش في قولهم: القرآن من تلقاء محمد. وقال القرطبي: الآية تمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه، ومن آثار ذلك: قصة موسى إذ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ... إلخ. هـ.
الإشارة: قال أبو بكر بن طاهر: وإنك لَتُلَقَّى القرآن من الحق حقيقية، وإن كنت تأخذه في الظاهر عن واسطة جبريل عليه السلام. قال تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ «١» هـ. قلت: العارفون بالله لا يسمعون القرآن إلا من لدن حكيم عليم، بلا واسطة، الواسطة محذوفة في نظرهم، فهم يسمعون مِن الله إلى الله، ويقرأون بالله على الله، كما قال القائل: أنا بالله أنطق، ومن الله أسمع. ومما يحقق لك حذف الواسطة: قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
«٢» وسمعت شيخى البوزيدى رضي الله عنه، يقول: لا يكون الإنسان من الراسخين في العلم حتى يقرأ كله وهو مجموع فيه، أي: يقرأ بالله ويسمعه من الله. والله تعالى أعلم.
(١) الآيتان: ١- ٢ من سورة الرحمن.
(٢) الآية ٢٨ من سورة القيامة.
ثم شرع فى قصص الأنبياء، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧ الى ١١]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ زوجته ومن معه، عند مسيره من مدْين إلى مصر: إِنِّي آنَسْتُ أي: أبصرت نارا، سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ عن حال الطريق التي ضل عنها. والسين للدلالة على نوع بُعد في المسافة، وتأكيد الوعد. أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ «١» قَبَسٍ أي: شعلة نار مقبوسة، أي:
مأخوذة. ومن نوّن فبدل، أو صفة، وعلى القراءتين فالمراد: تعيين المقصود الذي هو القبس، الجامع لمنفعتي الضياء والاصطلاء لأن من النار ما ليس بقبس، كالجمرة. وكلتا العِدتين منه عليه السلام بطريق الظن، كما يُفصح عن ذلك ما في سورة طه، من صيغتي الترجي والترديد «٢» لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول: سأفعل كذا، وسيكون كذا، مع تجويزه التخلف. وأتى بأو لأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معاً لم يعدم واحدة منهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ولم يدر أنه ظافر بحاجته الكبرى، وهي عزّ الدنيا والآخرة.
واختلاف الألفاظ في هاتين السورتين، والقصة واحدة، دليل على نقل الحديث بالمعنى، وجواز النكاح بغير لفظ النكاح والتزويج. قاله النسفي.
لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون بالنار من البرد إذا أصابكم.
فَلَمَّا جاءَها أي: النار التي أبصرها نُودِيَ من جانب الطور أَنْ بُورِكَ، على أنّ «أنْ» مفسرة لما في النداء من معنى القول. أو: بأن بورك، على أنها مصدرية، وقيل: مخففة، ولا ضرر في فُقدان الفصل ب «لا»،
(١) قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف (بشهاب) بالتدوين، على القطع عن الإضافة، و «قبس» بدل منه، أو: صفة له، بمعنى مقتبس، أو مقبوس. وقرأ الباقون بغير تنوين، لبيان النوع. أي من قبس، كخاتم فضة. انظر الإتحاف (٢/ ٣٢٣).
(٢) فى قوله تعالى:.. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً الآية ١٠ من سورة طه.
176
أو قد، أو السين، أو سوف لأن الدعاء يخالف غيره في كثير من الأحكام، أي: إنه، أي: الأمر والشأن بُورِكَ أي: قدّس، أو: جعل فيه البركة والخير، مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي: من في مكان النار، وهم الملائكة، وَمَنْ حَوْلَها أي: موسى عليه السلام، بإنزال الوحي عليه، الذي فيه خير الدنيا والآخرة.
وقال ابن عباس والحسن: (بورك من في النار أي: قُدِّس من في النار، وهو الله تعالى) «١» أي: نوره وسره، الذي قامت به الأشياء، من باب قيام المعاني بالأواني، أو: من قيام أسرار الذات بالأشياء، بمعنى أنه نادى موسى منها وسمع كلامه من جهتها، ثم نزّه- سبحانه- ذاته المقدسة عن الحلول والاتحاد، فقال: وَسُبْحانَ اللَّهِ أي:
تنزيهاً له عن الحلول في شيء، وهو رَبِّ الْعالَمِينَ.
ثم فسر نداءه، فقال: يا مُوسى إِنَّهُ أي: الأمر والشأن أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أو: إنه، أي: مكلمك، الله العزيز الحكيم، وهو تمهيد لِما أراد أن يظهر على يديه من المعجزات. وَأَلْقِ عَصاكَ لتعلم معجزتها، فتأنس بها، وهو عطف على (بُورك) أي: نودي أن بورك وأنْ ألق عصاك. والمعنى: قيل له: بورك من في النار، وقيل له: أَلقِ عصاك، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ تتحرك يميناً وشمالاً، كَأَنَّها جَانٌّ حية صغيرة وَلَّى موسى مُدْبِراً أي: أدبر عنها، وجعلها تلي ظهره، خوفاً من وثوب الحية عليه، وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع على عقبيه، من: عقّب المقاتل: إذا كرّ بعد الفر. والخوف من الشيء المكروه أمر طبيعي، لا يتخلف، وليس في طوق البشر.
قال له تعالى: يا مُوسى لا تَخَفْ من غيري، ثقة بي، أو: لا تخف مطلقاً إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي: لا يخاف المرسلون عند خطابي إياهم، فإنهم مستغرقون في شهود الحق، لا يخطر ببالهم خوف ولا غيره. وأما في غير أحوال الوحي فهم أشد الناس خوفاً منه سبحانه، أو: لا يخافون من غيري، لأنهم لديَّ في حفظي ورعايتي. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ أي: لكن من ظلَم مِن غيرهم لأن الأنبياء لا يَظلمون قط، فهو استثناء منقطع، استدرك به ما عسى يختلج في العقل، من نفي الخوف عن كلهم، مع أن منهم من فرطت منه صغيرة مما يجوز صدوره عن الأنبياء- عليهم السلام- كما فرط من آدم، وموسى، وداود، وسليمان- عليهم السلام- فحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى- عليه السلام- من وكزه القبطيّ.
وسماها ظلماً، كقوله عليه السلام في سورة القصص: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ «٢».
(١) أخرجه الطبري فى تفسيره (١٩/ ١٣٣). [.....]
(٢) من الآية ١٦ من سورة القصص.
177
قال في الحاشية الفاسية: والظاهر في الاستثناء كونه متصلاً، وأطلق الظلم باعتبار منصب النبوة، وإشفاقهم مما لا يشفق منه غيرهم، كما اتفق لموسى في مدافعة القبطي عن الإسرائيلي، مع أن إغاثة المظلوم مشروعة عموماً، ولكن لَمَّا لم يُؤذَن له خصوصاً عُد ذلك ظلماً وذنباً. وأما ما سرى من القتل فلم يقصده، وإنما اتفق من غير قصد. هـ.
قوله: ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي: أتبع زلته حسنة محلها، كالتوبة وشبهها، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أقبل توبته، وأغفر حوبته، وأرحمه، فأحقق أمنيّة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: تقدم بعض إشارة الآية في سورة طه «١». وقوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ... تقدم قول ابن عباس وغيره: أن المراد بمن في النار: نور الحق تعالى. قال بعض العلماء: كانت النار نوره تعالى، وإنما ذكره بلفظ النار لأن موسى حسبه ناراً، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. هـ. ومنه حديث: «حجُابه النَّارُ، لَوْ كَشَفَهُ لأحْرَقَتْ سُبحات وجهه كلَّ شيء ادركه بصره» «٢»، أي: حجابه النور الذي تجلى به في مظاهر خلقه، فالأواني حجب للمعانى، والمعاني هى أنوار الملكوت، الساترة لأسرار الجبروت، السارية في الأشياء.
وقال سعيد بن جبير: (هي النار بعينها) «٣»، وهي إحدى حجب الله تعالى. ثم استدل بالحديث: «حجابة النار» ومعنى كلامه: أن الله تعالى احتجت في مظاهر تجلياته، وهي كثيرة، ومن جملتها النار، فهي إحدى الحجب التي احتجب الحق تعالى بها، وإليه أشار ابن وفا بقوله:
هو النورُ المحيط بكل كَون ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء في الذات، العارفون بالله، وحسْب مَن لم يَبلُغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه، وإلا وقع الإنكار على أولياء الله بالجهل، والعياذ بالله.
(١) راجع المجلد الثالث، ص/ ٣٧٩- ٣٨٠.
(٢) بعض حديث رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأخرجه مسلم فى (الإيمان، باب فى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام»، ١/ ١٦١، ح ١٧٩)، وأحمد فى المسند (٤/ ٤١٠) بلفظ «حجابه النار، وجاء فى رواية عند مسلم، فى الموضع السابق، وأحمد فى المسند (٤/ ٤٠٥) وابن ماجه فى (المقدمة، باب فى ما أنكرت الجهمية ١/ ٧٠- ٧١ ح ١٩٥- ١٩٦) بلفظ «حجابه النور» (انظر شرح الحديث فى مسلم بشرح النووي ٣/ ١٤- ١٦)
(٣) ذكره البغوي فى تفسيره (٦/ ١٤٥).
178
ثم ذكر معجزة اليد، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَدْخِلْ يَدَكَ يا موسى فِي جَيْبِكَ في جيب قميصك. والجيب: الفتح في الثوب لرأس الإنسان. قال الثعلبي: إنما أمره بذلك لأنه كان عليه مدرعة صوف، لا كُم لها. تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير آفة، كَبَرَصٍ ونحوه، فِي تِسْعِ آياتٍ أي: هاتان الآيتان في جملة تسع آيات، وهي الفلق، والطوفان، والجراد، والقُمل، والضفادع، والدم، والطمس، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم.
ومن عدّ اليد والعصا من التسع عدّ الاخيرين واحداً، ولم يعد الفلق لأنه لم يبعث به إلى فرعون. وقوله: إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف، أي: مرسلاً، أو: ذاهباً إلى فرعون وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن أمر الله، كافرين به.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا معجزاتنا، وظهرت على يد موسى، حال كونها مُبْصِرَةً بيّنة واضحة، وهي اسم فاعل، أطلق على المفعول، إشعاراً بأنها لفرط ظهورها كأنها تبصر نفسها مبالغة في وضوحها، وإلا فهي مبصرة لمن ينظر ويتفكر فيها. أو: ذات تبصر لأنها تهدي من يتبصر بها. فلما جاءتهم قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح سحريته.
وَجَحَدُوا بِها أي: كذّبوا بها وَقد اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي: علمتها علماً يقيناً، فالاستيقان: أبلغ من الإيقان. يعني: أنهم جحدوا بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم. ظُلْماً: حال من ضمير (جحدوا) أي: ظالمين في ذلك، ولا ظلم أفحش ممن تيقن أنها آيات من عند الله، وسماها سحراً بيّناً، وَعُلُوًّا تكبراً وترفعاً عن الإيمان بموسى عليه السلام، وهو أيضاً حال، أو: علة، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وهو الإغراق في الدنيا، والإحراق في الآخرة. نسأل الله العافية.
الإشارة: وأدْخِل يد فكرتك في جيب قلبك، تخرج بيضاء شعشعانية، يستولي شعاعها على وجود بشريتك، فتنخنس البشرية تحت أنوار المعاني، ثم يستولي على الوجود بأسره، فيصير كله نوراً ملكوتياً جبروتياً، متصلاً
بالنور الأعظم، والبحر الطام، بعد قطع مقامات التوبة، والتقوى، والإستقامة، والإخلاص، والصدق، والطمأنينة، والمراقبة والمحبة، والمشاهدة، فيكون حينئذٍ آية مبصرة واضحة، من آيات الله، يدلّ على الله، ويدعوا إليه على بصيرة منه. فمن جحدها انخرط في سلك من قال تعالى في حقه: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا... الآية.
ثم ذكر قصة داود وسليمان- عليهما السلام- فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً أي: أعطينا كل واحد منهما طائفة خاصة به من علم الشرائع والأحكام، وغير ذلك مما يختص به كل واحد منهما، كصنعة الدروع، ومنطق الطير. أو: علماً لدُنِيا. وَقالا أي: كل واحد منهما، شكراً لما أُوتيه من العلم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بما آتانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. قال النسفي: وهنا محذوف، ليصلح عطف الواو عليه، ولولا تقدير المحذوف لكان الوجه: الفاء، كقولك: أعطيته فشكر، وتقديره: آتيناهما علماً، فعملا به، وعرفنا حق النعمة فيه، وقالا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ. والكثير المفضّل عليه: من لم يؤت علماً، أو: من لم يؤت مثل علمهما.
وفيه: أنهما فُضّلا على كثير، وفضل عليهما كثير.
وفي الآية دليلٌ على شرف العلم، وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم، وأن من أوتيه فقد أُوتي فضلاً على كثير من عباده، وما سماهم رسول الله ﷺ ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم في الشرف والمنزلة لأنهم القوّام بما بُعِثُوا من أجله. وفيها: أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله تعالى على ما أوتوه، وأن يعتقدَ العالم أنه إذا فُضّل على كثير فقد فُضّل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر رضي الله عنه: (كُلّ الناسِ أفقه من عمر). هـ.
والعلماء على قسمين: علماء بالله وعلماء بأحكام الله. فالعلماء بالله هم العارفون به، أهل الشهود والعيان. وهم أهل علم الباطن، أعني: علم القلوب، والعلماء بأحكام الله هم علماء الشرائع والنوازل. وحيث انتهت درجة العلماء بأحكام الله ابتدئت درجة العلماء بالله. فنهاية علماء الظاهر بداية علماء الباطن لأن علم أهل الظاهر جله ظني،
180
وعلم أهل الباطن عياني، ذوقي، وليس الخبر كالعيان، مع ما فاقوهم به من المجاهدة، والمكابدة، ومقاساة مخالفة النفوس، وقطع المقامات، حتى ماتوا موتات، ثم حييت أرواحهم، فشاهدوا من الأنوار والأسرار ما تعجز عنه العقول، وتكل عنه النقول.
ثم قال تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ، وَرِثَ منه النبوة والملك دون سائر بنيه، وكانوا تسعة عشر.
ووراثته للنبوة: انتقالها إليه بعد أبيه، وإلا فالنبوة لا تورث. وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ تشهيراً لنعمة الله، واعترافاً بمكانها، ودعاء للناس إلى تصديقه بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير.
والمنطق: كل ما يصوَّت به من المفرد والمؤلّف، والمفيد وغير المفيد. وكان سليمان عليه السلام يفهم عنها كما يفهم بعضها بعضاً. يُحكى أنه مرَّ على بلبل على شجرة، يحرك رأسه، ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيه أعلم، قال يقول: إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العَفَاء. وصاحت فاختة «١»، فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يُخلقوا، وصاح طاووس، فقال: يقول: كما تدين تدان، وصاح هُدهد، فقال: يقول: من لا يرحم لا يُرحم، وصاح صُّرَد «٢» - وهو طائر ضخم الرأس- فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاح طيطوى «٣»، فقال: يقول: كل حي ميت، وكل جديد بال. وصاح خُطَّاف «٤»، فقال: يقول: قَدِّموا خيراً تجدوه.
وصاح قُمْرِيّ «٥»، فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى. وصاحت رخمة «٦»، فقال: إنها تقول سبحان ربي الأعلى ملء أرضه وسمائه.
وفي رواية: هدرت حمامة، فقال: إنها تقول: سبحان ربي الأعلى- مثل الرخمة- وقال: الغراب يدعو على العشَّار. والحِدَأة تقول: كل شيء هالك إلا وجهه. والقطاة «٧» تقول: من سكت سَلِمَ، والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه، والديك يقول: اذكروا الله يا غافلين، والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت، آخرك الموت. والعقاب «٨» يقول:
(١) الفاختة: نوع من الحمام المطوّق، إذا مشى توسع فى مشيه، وباعد بين جناحيه وإبطيه، وتمايل. انظر اللسان (٥/ ٣٣٦٠، مادة/ فخت).
(٢) الصّرد: طائر أبقع، نصفه أبيض، ونصفه أسود، ضخم الرأس والمنقار، له مخلب يصطاد به العصافير. انظر النهاية (٣/ ٢١ مادة صرد).
(٣) الطيطوى: ضرب القطا، وقيل: هو طائر لا يفارق الآجام وكثرة المياه.
(٤) الخطاف: العصفور، وهو الذي تدعوه العامة: عصفور الجنة. وجمعه: خطاطيف. انظر اللسان (٢/ ١٢٠١).
(٥) القمرىّ: نوع من الحمام، مطوّق، حسن الصوت.
(٦) الرّخمة: طائر غزير الريش، أبيض اللون، مبقّع بسواد، له منقار طويل. موصوف بالغدر، والجمع: رخم ورخم. انظر اللسان (٣/ ١٦١٧، مادة رخم).
(٧) القطاة: نوع من اليمام، يؤثر الحياة فى الصحراء.
(٨) العقاب: طائر من الجوارح، تسميها العرب بالكاسر، وقيل: العقاب: سيد الطيور، والنسر عريفها، ويكلى الذكر: أبا الهيثم. والأنثى: أم الحوار، وهى حادة البصر.
181
في البُعد من الناس أُنس. والضفدع تقول: سبحان ربي القدوس. والبازي «١» يقول: سبحان ربي وبحمده، المذكور في كل مكان. والدراج «٢» يقول: الرحمن عَلَى العرش استوى. والقنب «٣» يقول: إلهي العن مبغض آل محمد، عليه الصلاة والسلام «٤».
وقيل: إن سليمان كان يفهم صوت الحيوانات كلها، وإنما خصّ الطير لأنه معظم جنده.
ثم قال: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي: ما نحتاج إليه. والمراد به كثرة ما أُوتي، كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، كناية عن كثرة علمه. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ والإحسان من الله تعالى الْمُبِينُ أي:
الواضح، الذي لا يخفى على أحد، أو: إن هذا الفضل الذي أوتيته هو الفضل المبين. على أنه عليه السلام قاله على سبيل الشكر والمحمدة. كما قال رسول الله ﷺ «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» أي: أقول هذا القول شكراً، لا فخراً، والنون في (عُلمنا) و (أُوتينا) نون الواحد المطاع، وكان حينئذٍ ملكاً، فكلم أهل طاعته على الحالة التي كان عليها، وليس فيه تكبر ولا فخر لعصمة الأنبياء من ذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أشرف العلوم وأعظمها وأعزها العلم بالله، على سبيل الذوق والكشف والوجدان، ولا يكون إلا من طريق التربية على يد شيخ كامل لأنه إذا حصل هذا العلم أغنى عن العلوم كلها، وصغرت في جانبه، حتى إن صاحب العلم بالله يعد الاشتغال بطلب علم الرسوم بطالة وانحطاطاً، ومَثَله كمن عنده قناطير من الفضة، ثم وجد جبلاً من الإكسير، فهل يلتفت صاحبُ الإكسير إلى الفضة أو الفلوس؟ لأن من كانت أوقاته كلها مشاهدة ونظراً لوجه الملك، كيف يلتفت إلى شيء سواه. ولذلك قال الجنيد رضي الله عنه: لو نعلم تحت أديمِ السماء أشرف من هذا العلم، الذي نتكلم فيه مع أصحابنا، لسعيت إليه. هـ. وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف: كنتُ أعرف أربعة عشر علما، فلما أدركت علم الحقيقة، سرطت ذلك كله، ولم يبق إلا التفسير والحديث، نتكلم فيه مع أصحابنا. أو قريباً من هذا الكلام. وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه:
أقارئين علم التوحيد... هنا البحور إلي تنبي
هذا مقام أهل التجريد... الواقفين مَع ربي
وهذا أمر بيِّن عند أهل هذا الفن، وقال الورتجبي: العلم علمان: علم البيان وعلم العيان. علم البيان ما يكون بالوسائط الشرعية، وعلم العيان مستفاد من الكشوفات الغيبية. ثم قال: فالعلم البياني معروف بين العموم، والعلم
(١) البازي: ضرب من الصقور، وهو أشد الجوارح تكبرا، وأضيقها خلقا، ويؤخذ للصيد.
(٢) الدرّاج: طائر جميل المنظر ملون الريش. [.....]
(٣) القنبر: صرب من الطبر. انظر اللسان (٥/ ٣٥١٠، مادة: قبر).
(٤) ذكر نحوه البغوي فى تفسيره (٦/ ١٤٨) عن كعب. وقال محققه، فى الحاشية: وهذه التفصيلات فى كلام الطير متلقاة من أهل الكتاب، كرواية كعب هذه، ولا يتوقف فهم الآية عليها، وليس فيها نص صحيح، مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
182
العياني مشهور بين الخصوص، لم يطلع عليه إلا نبي أو وَليّ، لأنه صدر من الحق لأهل شهوده، من المحبين العارفين، والموحدين والصديقين، والأنبياء والمرسلين. انظر بقية كلامه.
وقال أيضاً في قوله: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ: أفْهَم أن أصوات الطيور والوحوش وحركات الأكوان جميعاً هي خطابات من الله عزّ وجل للأنبياء والمرسلين، والعارفين والصديقين، يفهمونها من حيث أحوالهم ومقاماتهم.
فللأنبياء والمرسلين علم بمناطقها قطعياً. ويمكن أن يقع ذلك بوحي، ولكن أكثر فهوم الأنبياء «١» أنهم يفهمون من أصواتها ما يتعلق بحالهم، بما يقع في قلوبهم من إلهام الله، لا بأنهم يعرفون لغاتهم بعينها. هـ. قلت: وكذلك الأولياء يفهمون عنها ما يليق بمقاماتهم، من ألفاظ، أو أنس، أو إعلام، أو غير ذلك. والله تعالى أعلم.
ولما أراد سليمان الغزو، جمع جنوده، كما قال تعالى:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
قلت: قالَتْ نَمْلَةٌ: التاء للوحدة، لا للتأنيث. قال الرضي: تكون التاء للفرق بين المذكور والمؤنث، وتكون لآحاد الجنس، كنحلة ونحل، وثمرة وثمر، وبطة وبط، ونملة ونمل، فيجوز أن تكون النملة مذكراً، والتاء للوحدة، وأنث الفعل باعتبار تأنيث اللفظ. هـ. مختصراً. و (لا يحطمنكم) : يحتمل أن يكون جواباً للأمر، أو: نهياً بدلاً من الأمر لتقارب المعنى لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده. والضد ينشأ عنه الحطْم، فلا: ناهية، ومثله الحديث:
«فليُمسك بِنَصَالها، لا يعقر مسلماً» «٢». هـ.
(١) عبارة الورتجبي، كما فى عرائس البيان: (ويمكن أن يقع ذلك لولى، ولكن أكثر فهوم الأولياء بها... ).
(٢) أخرجه بنحوه البخاري فى (الفتن، باب قول النبي ﷺ «من حمل علينا السلاح فليس منا» ح ٧٠٧٤) ومسلم فى (البر والصلة، باب أمر من مرّ بسلاح، فى مسجد أو سوق أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس أن يمسك بنصالها ٤/ ٢٠١٨- ٢٠١٩، ح ٢٦١٤- ٢٦١٥) من حديث سيدنا جابر رضي الله عنه.
183
يقول الحق جلّ جلاله: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ أي: جُمع له جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ بمباشرة مخاطبيه، فإنهم رؤساء مملكته، وعظماء دولته، من الثقلين وغيرهم. وتقديم الجن على الإنس للإيذان بكمال قوة ملكه وعزة سلطانه لأن الجن طائفة عاتية، وقبيلة طاغية، ماردة، بعيدة من الحشر والتسخير، فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: يحبس أوائلهم على أواخرهم، أي: يوقف سلاف العسكر «١» حتى يلحقهم الثواني، فيكونوا مجتمعين، لا يختلف منهم أحد، وذلك لكثرة العظمة والقهرية.
قال قتادة: فكان لكل صنف منهم وزعة «٢». أو: لترتيب الصفوف، كما هو المعتاد في العساكر. والوزع:
المنع، ومنه قول الحسن البصري، حين ولي القضاء: (لا بد للحاكم من وزعة) أي: شُرط يمنعون الناس من الظلم.
وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر، دون سوق أواخرهم، مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضاً لأن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع، وهذا إن لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو. قال محمد بن كعب: كان عسكر سليمان مائة فرسخ، خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة، وسبعمائة سرية. وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم، فرسخاً في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه، وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء- عليهم السلام- على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها، حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير به مسيرة شهر، من الصباح إلى الرواح.
ورُوي أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تُسيِّره، فأوحى الله تعالى إليه، وهو يسير بين السماء والأرض: إني زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك. قال وهب: حدثني أبي: أن سليمان مرّ بحرّاثٍ، فقال: لقد أُوتي آلَ داود مُلكاً عظيماً، فالتفت ونزل إلى الحرّاث، فقال: إني سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير لك مما أوتي آلُ داود. هـ.
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ أي: فساروا حتى بلغوا وادي النمل، وهو واد بالشام، كثير النمل، قاله مقاتل. أو: بالطائف، قاله كعب. وقيل: هو واد يسكنه الجن، والنمل مراكبهم «٣». وعدي الفعل ب «على» لأن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء. ولعلهم أرادوا أن ينزلوا بأعلى الوادي إذ حينئذٍ يخافهم من فى
(١) سلاف العسكر: متقدموهم.
(٢) ذكره البغوي فى التفسير (٦/ ١٤٩).
(٣) انظر التعليق التالي.
184
الأرض، لا عند سيرهم في الهواء. وجواب (إذ) قوله: قالَتْ نَمْلَةٌ، وكأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرّت منهم، فصاحت صيحة، فنبهت بها ما بحضرتها من النمل.
قال كعب: مرّ سليمان عليه السلام بوادي السدير، من أودية الطائف، فأتى على واد النمل، فقالت نملة، وهي تمشي، وكانت عرجاء تتكاوس، مثل الذئب في العِظَم. قال الضحاك: كان اسم تلك النملة طاحية، وقيل: منذرة، وقيل:
جرمي. وقال نوف الحميري: كان نمل وادي سليمان أمثال الذباب «١». وعن قتادة: أنه دخل الكوفة، فالتف عليه الناس، فقال: سلوني عما شئتم، فسأله أبو حنيفة، وهو شاب، عن نملة سليمان، أكان ذكراً أو أنثى؟ فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: بم عرفت؟ فقال: قوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ ولو كان ذكراً لقال: قال نملة. هـ.
قلت: وهو غير صحيح لِمَا تقدم عن الرضي «٢».
قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لم يقل: ادخلن لأنه لَمَّا جعلها قائلة، والنمل مقولاً لهم، كما يكون من العقلاء، أجرى خطابهن مجرى ذوي العقل، لا يَحْطِمَنَّكُمْ لا يكسرنّكم. والحطم: الكسر، وهو في الظاهر نهى لسليمان عن الحطم، وفي الحقيقة نهى لهم عن البروز والوقوف على طريقه، نحو: لا أرينك هاهنا، أي: لا تتعرضوا فيكسرنكم سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وقيل: أراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لا يعلمون بمكانكم، أي: لو شعروا ما فعلوا. قالت ذلك على وجه العذر، واصفةً سليمان وجنوده بالعدل، فحمل الريح قولها إلى سليمان على ثلاثة أميال.
رُوي أن سليمان قال لها: لم حذرت النمل، أَخفتِ ظلمي؟ أما عَلِمتِ أني نبي عدل، فلِمَ قُلتِ: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ؟ فقالت: أما سمعتَ قولي: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، مع أني لم أُرد حَطْم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب، خشيتُ أن يتمنينَّ ما أُعطيتَ، ويشغلن بالنظر إليك عن التسبيح، فقال لها سليمان: عظيني، فقالت: هل علمتِ لِمَ سُمي أبوك داود؟ قال: لا، قالت: لأنه داوى حرجه. هل تدري لِمَ سميت سليمان؟ قال: لا، قالت: لأنك سليم، ما ركنت إلى ما أوتيت، لسلامة صدرك، وأنَى لك أن تلحق أباك. ثم قالت: اتدري لِمَ سخر الله لك الريح؟
قال: لا، قالت: أخبرك الله أن الدنيا كلها ريح. قال ابن عباس: ومن هنا «نهى النبي ﷺ عن قتل أربعة من الدواب: الهدهد، والصُّرد، والنحلة، والنملة «٣» ».
(١) قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (٣/ ٣٥٩) : من قال من المفسرين: إن هذا الوادي كان بأرض الشام، أو بغيره، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين، كالذباب، أو غير ذلك من الأقاويل، فلا حاصل لها. ثم قال: والغرض: أن سليمان عليه السلام فهم قولها، وتبسم ضاحكا من ذلك، وهذا أمر عظيم جدا.
(٢) راجع الصفحة قبل السابقة.
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (١/ ٣٣٢) وأبو داود فى (الأدب، باب فى قتل الذر، ٥/ ٤١٨ ح ٥٢٦٧) وابن ماجه فى (الصيد، باب ما ينهى عن قتله ٢/ ١٠٧٤ ح ٣٢٢٤) والدارمي فى (الأضاحى، باب النهى عن قتل الضفادع والنحلة ٢/ ١٢١، ح ١٩٩٩) من حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
185
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً، معجباً مِنْ قَوْلِها ومِن حَذَرِها، واهتدائها لمصالحها، ونُصحها للنمل، وفرحاً بظهور عدله. والتبسم: ابتداء الضحك، وأكثر ضحك الأنبياء التبسّم، أي: فتبسم ابتداء، ضاحكاً انتهاء. وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، الإيزاع في الأصل: الكف، أي: كُفَّني عن كل شيء إلاّ عن شكر نعمتك، ويطلق على الإلهام، أي: ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من النبوة والمُلك والعلم، وَعَلى والِدَيَّ لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد، وَألهمنى أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ في بقية عمري، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ أي: وأدخلني الجنة برحمتك، لا بصالح عملي إذ لا يدخل الجنة إلا برحمتك، كما في الحديث.
فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي: في جملة أنبيائك المرسلين، الذين صلحوا لحضرتك. أو: مع عبادك الصالحين.
رُوي أن النملة أحست بصوت الجنود، ولم تعلم أنهم في الهواء، فأمر سليمان عليه السلام الريح، فوقفت لئلا يذعرن، حتى دخلن مساكنهن، ثم دعا بالدعوة. قاله النسفي.
الإشارة: من أقبل بكليته على مولاه، وأطاعه في كل شيء، سخرت له الأكوان، وأطاعته في كل شيء.
ومن أعرض عن مولاه أعرض عنه كلُّ شيء، وصعب عليه كلُّ شيء. «أنت مع الأكون ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك». فإذا سخرت له الأشياء، وزهد فيها، وأعرض عنها، واختار مقام العبودية، ارتفع قدره، ولم ينقص منه شيئاً، كحال نبينا- عليه الصلاة والسلام-. ومن سخرت له الأشياء، ونظر إليها، انتقص قدره، وإن كان كريماً على الله، ولذلك ورد في الخبر أن سليمان عليه السلام: هو آخر مَن يدخل الجنة من الأنبياء. ذكره في القوت.
وذكر فيه أيضاً: أن سليمان عليه السلام لبس ذات يوم ثياباً رفيعة، ثم ركب على سريره، فحملته الريح، وسارت به، فنظر إلى عطفيه نظرة، فأنزلته إلى الأرض، فقال لها: لِمَ أنزلتني ولم آمرك؟ فقالت له: نطيعك إذا أطعت الله، ونعصيك إذا عصيته. فاستغفر وتاب، فحملته. وهذا مما يعتب على المقربين لِكِبر مقامهم، فكل نعيم فى الدنيا ينقض في الآخرة. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)
186
يقول الحق جلّ جلاله: وَتَفَقَّدَ سليمانُ الطَّيْرَ أي: تعرف أحوال الطير تعرف َالمَلِك لمملكته، حسبما تقتضيه عناية الملك بمملكته، والاهتمام بكل جزء منها، أو: تفقده لمعرفته بالماء، أو: لغير ذلك على ما يأتي. فلما تفقده لم ير الهدهد فيما بينها. والتفقد: طلب ما غاب عنك. فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أساتر ستره؟ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ، و «أم» : بمعنى «بل»، كأنه قال: مالى لا أراه؟ ثم بدا له أنه غائب، فأضرب عنه، وقال: بل هو من الغائبين.
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً، قيل: كان عذابه للطير: نتفه ريشه وتشميسه، أو: يجعله مع أضداده في قفص، أو: بالتفريق بينه وبين إلفه. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد، ومفارقة الأحباب. أو: نتفه، وطرحه بين يدي النحل تلدغه، أو: النمل تأكله. وحلّ له تعذيب الهدهد لينزجر غيره، ولِما سخرت له الحيوانات- ولا يتم التسخير إلا بالتأديب- حلّ له التأديب.
أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ليعتبر به أبناء جنسه، أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحُجة تُبين عذره، والحلف في الحقيقة على أحد الأمرين، على تقدير عدم الثالث. قال بعضهم: وسبب طلبته للهدهد، لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها. وقيل: كانت الطير تظله، فأصابته لمعة من الشمس، فنظر، فرأى موضع الهدهد خالياً، فتفقده، وقيل:
احتاج إلى الماء، وكان عِلْمُ ذلك إلى الهدهد، فتفقده، فلم يجده، فتوعده.
والسبب فيه: أن سليمان عليه السلام لَمَّا فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم، للحج، فتجهز للمسير، وخرج بجنوده- كما تقدم- فبلغ الحرم، وأقام به، وكان ينحر كل يوم بمكة خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، قرباناً. وقال: إن هذا مكان يخرج منه نبي عزيزُ، صفته كذا وكذا، يُعطَى النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد في الحق عنده سواء، لا تأخذه في الله
187
لومة لائم، دينه دين الحنيفية، فطوبى لمن أدركه وآمن به، وبيننا وبين خروجه زهاء ألف عام. ثم قضى نسكه، وخرج نحو اليمن صباحاً، يؤم سهيلاً، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء، تزهو خضرتها، فأحب النزول بها ليصلي، ويتغذى، فطلبوا الماء فلم يجدوه، وكان الهدهد دليله على الماء، كان يرى الماء من تحت الأرض، كما نرى الماء في الزجاجة، فينقر الأرض فتجيء الشياطين يستخرجونه. وبحث فيه القشيري بأن الهدهد متعدد في عسكره، إذا فقدوا واحداً بقي آخر، قال: اللهم إلا أن يكون ذلك الواحد مخصوصاً بمعرفة ذلك، والله أعلم. هـ.
قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا الحديث: قال له نافع بن الأزرق: كيف ينظر الماء تحت الأرض، ولا يبصر الفخ حتى يقع فيه؟ قال ابن عباس: ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر. هـ. قلت: ونافع هذا هو رأس الخوارج والمعتزلة.
فلما نزل سليمانُ، قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع نحو السماء، ونظر طول الدنيا وعرضها، ونظر يميناً وشمالاً، فرأى بستاناً لبلقيس فيه هدهد. وكان اسم هدهد سليمان «يعفور» واسم هدهد اليمن «عنفير».
فقال هدهد اليمن لهدهد سليمان: من أين أقبلتَ وأين تريد؟ قال: أقبلتُ من الشام، مع صاحبي سليمان بن داود، قال:
ومَن سليمان؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمِن أين أنت؟ قال من هذه البلد، ملكها امرأة، يقال لها «بلقيس» تحت يديها اثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل. فانطلق معه، ونظر إلى بلقيس ومُلكها، ورجع إلى سليمان وقت العصر. وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة، فلم يجده، وكان على غير ماء.
قال ابن عباس: فدعا عريف الطير- وهو النسر- فسأله؟، فقال: ما أدري أين هو، فغضب سليمان وقال:
(لأُعذبنه... ) إلخ، ثم دعا بالعقاب، سيد الطير، فقال: عليّ بالهدهد الساعة، فرفع العقاب نفسه نحو السماء، حتى التزق بالهواء، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، فإذا هو بالهدهد مُقبلاً من نحو اليمن، فانقضّ نحوه، فقال له الهدهد: بحق الحق الذي قوّاك إلا ما رحمتني، فقال: ويلك، إن نبي الله حلف أن يعذبك ويذبحك. ثم تلقته النسور والطير في العسكر، وقالوا له: لقد توعدك نبيُّ الله. قال: أوَ ما استثنى؟ قالت: بلى، قال: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. ثم دخل على سليمان، فرفع رأسه، وأرخَى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض، تواضعاً لله ولسليمان، فقال سليمان: أين كنت؟ لأعذبنَّك... فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه، فمده إليه، فقال له الهدهد: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، بمنزلة وقوفي بين يديك، فارتعد سليمان وعفا عنه «١». وقال عكرمة: إنما صُرف سليمان عن ذبح الهدهد لبره بوالديه، كان يلتقط الطعام ثم يزقه لهما.
(١) هذه الأخبار ذكرها البغوي فى تفسيره (٦/ ١٥٤) وغيره من المفسرين. وهى من الأخبار التي لا سند لها.
188
قال تعالى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي: تفقد مكث سليمان حين تفقد الهدهد، وأرسل من ورائه غير زمان بعيد، وهو من الظهر إلى العصر- كما تقدم- أو: فمكث الهدهد في غيبته غير بعيد، خوفاً من سليمان، فالضمير إما لسليمان، أو: للهدهد، وهو الظاهر، ويرجحه قراءة: (فتمكث). وفي «مكث» لغتان: الضم والفتح.
ولما قدِمَ من غيبته، أحضر بين يديه، على الهيئة المتقدمة، ثم سأله عن غيبته، فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي: أدركت علماً لم تُحط به أنت، أَلهم الله الهدهدَ فكافح «١» سليمانَ بهذا الكلام، مع ما أوتي من فضل النبوة والعلوم الجمة، ابتلاء له عليه السلام في علمه، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفهم من أحاطه الله علماً بما لم يُحط به لتتصاغر إليه نفسه، ويصغر فى عينه علمه، في جانب علم الله، رحمة به ولُطفاً في ترك الإعجاب، الذي هو فتنة العلماء.
ثم قال: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ- بالصرف- اسماً للحيّ، أو: للأب الأكبر، وبعدمه اسماً للقبيلة. بِنَبَإٍ يَقِينٍ، والنبأ: الخبر الذي له شأن. وقوله: مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ من محاسن الكلام، ويسمى البديع. وقد حسن وبرع لفظاً ومعنىً، حيث فسر إبهامه بأبدع تفسير، وأراه أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة. وعبّر عما جاء به بالنبأ، الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير، ووصفه بما وصفه به. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ هو استئناف لبيان ما جاء به من النبأ، وتفسير له إثر الإجمال. وهي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان. وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، ورث الملك من أربعين أباً. وقيل: كان أبوها- اسمه الهدهاد- ملكاً عظيم الشأن، ملك أرض اليمن كلها، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن، يقال لها «ريحانة» فولدت له بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها.
قال أبو هريرة: قال النبي ﷺ «كان أحد أبوي بلقيس جنياً» «٢» فمات أبوها، فاختلف قومه فرقتين، وملّكوا أمرهم رجلاً قائماً بسيرته، حتى فجَر بحرم رعيته، فأدركت بلقيس الغيرة، فعرضت عليه نفسها، فتزوجته، فسقته الخمر، فسكر، فجزت رأسه، ونصبته على باب دارها فملكوها «٣».
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تحتاج إليه الملوك، من العدة والآلة، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ: كبير، قيل: كان ثلاثين ذراعاً في ثلاثين عرضاً، وقيل: كان ثمانين ذراعاً في ثمانين، وطوله في الهواء: ثمانون. وكان من ذهب وفضة، مرصعاً بأنواع الجواهر، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر، ودرّ، وزبرجد، وعليه سبعة أبيات، فى كل بيت
(١) كافحه مكافحة وكفاحا: واجهه. انظر اللسان (مادة كفح ٥/ ٣٨٩٧)
(٢) أخرجه الطبري فى التفسير (١٩/ ١٦٩) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (٥/ ١٩٨) لأبى الشيخ فى العظمة، وابن عساكر، وقال ابن كثير فى البداية والنهاية (٢٠/ ٢١) : هذا حيث غريب، وفى سنده ضعف.
(٣) ذكره البغوي فى تفسيره (٦/ ١٥٦). [.....]
189
باب مغلق. واستصغر الهدهد حالها إلى حال سليمان، فلذلك عظّم عرشها. وقد أخفى الله تعالى ذلك على سليمان لحكمة، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب، ليتحقق ضعف العبودية في جانب علم الربوبية.
وكانت بلقيس مجوسية، فلذلك قال: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: يعبدونها متجاوزين عبادة الله. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ التي هي عبادة الشمس، ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ عن سبيل الرشد والصواب، وهو التوحيد فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ إليه.
ولا يَبْعد من الهدهد التهدّي إلى معرفة الله، ووجوب السجود له، وحرمة السجود للشمس، إلهاماً من الله له، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة، التي لا يكاد العقلاء، الراجحة العقول، يهتدون إليها.
وهذا من أسرار الربوبية، التي سرت في الأشياء، فوحّدَت الله تعالى، ولهجت بحمده.
أَلَّا يَسْجُدُوا بالتشديد، أي: فصدّهم عن السبيل لئلا، فحذف الجار، أي: لأجل ألا يسجدوا لله. ويجوز أن تكون «لا» مزيدة، أي: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. وقرئ: هلا يسجدون. ومن قرأ بالتخفيف «١». فالتقدير عنده: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فألاَ للتنبيه، والمنادي محذوف، فمن شدّد لم يقف على يَهْتَدُونَ، ومن خفف وقف ثم استأنف: ألا يا هؤلاء اسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ الشيء المخبوء المستور فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قال قتادة: خبء السموات: المطر، وخبء الأرض: النبات. واللفظ أعم من ذلك، وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ «٢» عطف على «يخرج» إشارة إلى أنه تعالى يُخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا، كما يُخرج ما في العالم الكبير من الخبايا.
اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الذي هو أول الأجرام وأعظمهما. ووصفُ الهدهد عرشَ الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. وفي الخبر: «إن السموات والأرض في جانب العرش كحلقة في فلاة» ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك. هذا آخر كلام الهدهد. ثم دلهم على الماء فحفروا وشربوا، وملأوا الركايا، والله تعالى أعلم.
الإشارة: هُدهد كل إنسان نفسه، فإذا تفقدها فوجدها غائبة عن الله، في أودية الغفلة، هدهد بالعذاب الشديد، وبذبحها بأنواع المخالفة، حتى تأتيه بحجة واضحة، تعذر بها، فإن لم تأت بحجة عذَّبها وذبحها، بإدخالها في كل ما تكره ويثقل عليها، فتمكث غير بعيد، فتأتيه بالعلوم اللدنية، والأسرار الربانية، التي لم يحط بها علماً قبل ذلك، وتجيئه بالخبر اليقين، في العلم بالله، من عين اليقين، أو حق اليقين، فتخبره عن أحوال عامة أهل الحجاب،
(١) قرأ أبو جعفر، والكسائي: (ألا يسجدوا) بالتخفيف. وقرأ الباقون (ألّا) بالتشديد.
(٢) قرأ حفص، والكسائي: (ما تخفون وما تعلنون) بالتاء على الخطاب، وقرأ الآخرون بالياء. انظر الإتحاف (٢/ ٣٢٦).
190
فتقول: إني وجدت إمرأة تملكهم، وهي نفسهم الأمارة، وأوتيت من كل شيء تشتهيه وتهواه، من غير وازع ولا قامع، ولها عرش عظيم، وهو سرير الغفلة والانهماك في حب الدنيا والشهوات. أو: لها تسلط كبير على من ملكته، وجدتها وقومها يسجدون للسّوى، ويخضعون للهوى من دون الله، وزيّن لهم الشيطانُ ذلك، فصدهم عن طريق الوصول، فهم لا يهتدون إلى الوصول إلى الحضرة أبداً ما داموا كذلك لأن حضرة ملك الملوك محرمة على من هو لنفسه مملوك. ألا يسجدوا بقلوبهم لله وحده، فإنه مطلع على خبايا القلوب والأسرار، وعلى ما يُسرون من الإخلاص، وما يُعلنون من الأعمال، التي توجب الاختصاص. وبالله التوفيق.
ولما سمع سليمان كلام الهدهد أرسله بكتابه إلى بلقيس، كما قال تعالى:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٧ الى ٣٤]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ سليمانُ للهدهد: سَنَنْظُرُ أي: نتأمل فيما أخبرتَ، فنعلم أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ، وهو أبلغُ من: أَكَذَبْتَ لأنه إذا كان معروفاُ بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً، لا محالة، وإذا كان كاذباً اتّهم فيما أخبر به، فلا يُوثق به، ثم كتب: من عبد الله، سليمان بن داود، إلى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين. قال منصور: كان سليمان أبلغ الناس في كتابه، وأقلهم كلاماً فيه. ثم قرأ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ... إلخ، والأنبياء كلهم كذلك، كانت تكتب جُملاً، لا يُطيلون ولا يُكثرون. وقال ابن جريج: لم يزد سليمان على ما قال الله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ... إلخ. ثم طَيَّبه بالمسك، وختمه بخاتمه «١»، وقال للهدهد: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ
(١) ذكره البغوي فى التفسير (٦/ ١٥٨).
191
أي: إلى بلقيس وقومها لأنه ذكرهم معها في قوله: وَجَدْتُها وَقَوْمَها، وبنى الخطاب على لفظ الجمع لذلك.
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي: تنح عنهم إلى مكان قريب، بحيث تراهم ولا يرونك، ليكون ما يقولون بمسمع منك، فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي: ما الذي يردّونه من الجواب، أو: ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول.
فأخذ الهدهدُ الكتابَ بمنقاره، ودخل عليها من كوّة، فطرح الكتاب على نحرها، وهي راقدةٌ، وتوارى في الكوة. وقيل: نقرها، فانتبهت فزعة، أو: أتاها والجنود حولها، فوقف ساعة يرفرف فوق رؤوسهم، ثم طرح الكتاب في حجرها، وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم قالَتْ لأشراف قومها وهي خائفة: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ، وصفتْه بالكرم لكرم مضمونه إذ هو حق، أو: لأنه من ملك كريم، أو: لكونه مختوما. قال- عليه الصلاة والسلام-: «كَرَمُ الكتابِ خَتْمُهُ» «١» أو: لكونه مصدراً بالتسمية، أو: لغرابة شأنه، ووصوله إليها على وجه خَرْق العادة.
ومضمونه والمكتوب فيه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وهذا تبيين لما أُلقي إليها، كأنها لما قالت: أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ قيل لها: ممن هو وما هو؟ فقالت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ، «إن» : مفسرة، أي: لا تترفعوا عليّ ولا تتكبروا، كما يفعل جبابرة الملوك، وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ: مؤمنين، أو: منقادين، وليس فيه الأمر بالإسلام. وقيل: إقامة الحجة على رسالته لأن إلقاء الكتاب على تلك الصفة معجزة باهرة.
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ، كررت حكاية قولها إيذاناً بغاية اعتنائها بما في حيزه: أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي:
أجيبوني في أمري، الذي حزبني وذكرتُه لكم، وعبّرت عن الجواب بالفتوى، الذي هو الجواب عن الحوادث المشكلة غالباً تهويلاً للأمر، ورفعاً لمحلهم، بالإشعار بأنهم قادرون على حل المشكلات الملمة. ثم قالت:
ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً من الأمور المتعلقة بالمملكة حَتَّى تَشْهَدُونِ بكسر النون، ولا يصح الفتح لأنه يُحذف للناصب. وأصله: تشهدونني، فحذفت الأولى للناصب وبقي نون الوقاية، أي: تحضروني، وتشهدوا أنه على صواب، أي: لا أقطع أمراً إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، كل واحد على عشرة آلاف.
قالُوا في جوابها: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: نجدة وشجاعة، فأرادوا بالقوة: قوة الأجساد والآلات، وبالبأس: النجدة والبلاء في الحرب. وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أي: هو موكل إليك فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ،
(١) رواه الطبراني فى الأوسط (ح ٣٨٧٢) والشهاب القضاعي فى مسنده (ح ٣٩) عن ابن عباس رضي الله عنه. وفى سنده السدى الصغير، متروك. انظر مجمع الزوائد (٨/ ٩٩).
192
فنحن مطيعون إليك، فمُرينا بأمرك، نمتثل أمرك، ولا نخالفك. كأنهم أشاروا عليها بالقتال، أو أرادوا: نحن من أبناء الحرب، لا من أبناء الرأى والمشورة، وأنت ذات الرأي والتدبير، فانظري ماذا تأمرين نتبع رأيك.
فلما أحست منهم الميلَ إلى المحاربة مالتْ إلى المصالحة، فزيفت رأيهم، حيث قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً على منهاج المقاتلة والحرب، أو عنوة وقهراً أَفْسَدُوها بتخريب عمارتها، وإتلاف ما فيها من الأموال، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالقتل والأسر والإجلاء، وغير ذلك من فنون الإهانة ليستقيم لهم مُلْكُهم وحدهم. ثم قالت: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أي: وهذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت المملكة قديماً، أباً عن أب، فجربت الأمور، أو: يكون من قول الله تعالى، تصديقاً لقولها، أي: قال الله تعالى: وكذلك شأن الملوك إذا غلبوا وقهروا أفسدوا. وأنشدوا في هذا المعنى:
إِنَّ الْمُلُوكَ بَلاَءٌ حَيثُمَا حَلُّوا فَلاَ يَكُن بكَ فِي أَكْنَافِهِمْ ظلُّ
مَاذَا يُؤمَّل مِن قَوْمٍ إِذَا غَضِبُوا جَارُوا عَلَيْكَ وَإِن أَرْضَيْتهمُ مَلوا
وَإِن صدقتهم خالوك تخدعهم واستثقلُوكَ كَمَا يُسْتَثْقَلُ الكُلّ
فَاسْتَغْنِ بالله عن أبْوابِهِمْ أبداً إِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَبْوَابِهِم ذُلُّ
ففي صحبة الملوك خطر كبير، وتعب عظيم، فمن قوي نوره، حتى يغلب على ظلمتهم، بحيث يتصرف فيهم، ولا يتصرفون فيه، فلا بأس بمعرفتهم، إن كان فيه نفع للناس بالشفاعة والنصيحة، وقد أقيم في هذا المقام الشيخ أبو الحسن الشاذلي، وشيخ شيخنا مولاي العربي الدرقاوي- رضى الله عنهما- وكان تلميذاهما الشيخ أبو العباس المرسي، وشيخنا سيدي محمد البوزيدى الحسنى- رضى الله عنهما- يفران من صحبتهم، أشد الفرار، وهو أسلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال صاحب الخصوصية لنفسه: سننظر أَصدقتِ في الخصوصية أم أنتِ من الكاذبين، اذهب بما معك من العلم، وذكّر به عباد الله، وألقه إليهم، ثم تولّ عنهم، وانظر ماذا يرجعون، فإن تأثروا بوعظك، وانتقش فيهم قولك، فأنتِ صادقة في ثبوت الخصوصية لديك لأن أهل العلم بالله إذا تكلموا وقع كلامهم في قلوب العباد، فحييت به قلوبهم وأرواحهم. ومن لا خصوصية له صدت كلامه الآذان. قالت حين أراد التذكير: يا أيها الملاُ إني أُلقي إليّ في قلبي كتابٌ كريمٌ، وعلمٌ عظيم، فلا تعلو عليّ وأتوني مسلمين، منقادين لما آمركم به، وقالت- لَمَّا تطهرت من الأكدار، وتحررت من الأغيار، وأحدقت بها جنود الأنوار: يا أيها الملأ- تعني جنود الأنوار- أفتوني في
193
أمري الذي أريد ان أفعله، ما كنت قاطعة أمراً من الأمور، التي تتجلى في القلب، حتى تشهدون، وتشهدوا أنه رشد وحق، قالوا: نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد، والأمر إليك، حيث تطهرت، فانظري ماذا تأمرين لأن النفس إذا تزكت وتخلصت وجب تصديقها فيما تهتم به، قالت: إن الملوك- أي: الواردات الإلهية التي تأتي من حضرة القهار، إذا دخلوا قرية، أي: قلب نفس، أفسدوا ظاهرها بالتخريب والتعذيب، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، أي: أبدلوا عزها ذُلاً، وجاهها خمولاً، وغناها من الدنيا فقراً، وكذلك يفعلون.
وفي الحِكَم العطائية: «متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك، إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون». فكل وارد نزل بالإنسان ولم يغير عليه عوائده فهو كاذب، قال في الحِكَمِ: «لا تزكين وارداً لم تعلم ثمرته، فليس المراد من السحابة الأمطار، وإنما المراد منها وجود الأثمار».
وبالله التوفيق.
ثم أشارت عليهم بإرسال الهدية لسليمان، كما قال تعالى:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)
يقول الحق جلّ جلاله في حكاية بلقيس- وكانت سيسة، قد سيست وساست، فقالت لقومها: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ سليمان وقومه، بِهَدِيَّةٍ أُصانعه بذلك عن ملكي، وأختبره، أملك هو أم نبي؟ فَناظِرَةٌ فمنتظرة بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ بأي شيء يرجعون، بقبولها أم بردها لأنها عرفت عادة الملوك، وحسن موقع الهدايا عندهم، فإن كان مَلِكاً قَبِلَها وانصرف. وإن كان نبياً ردها، ولم يَقبل منا إلا أن نتبعه على دينه، فبعثت خمسمائة غلام، عليهم ثياب الجواري وحُليهنِ، راكبين خيلاً، مغشاة بالديباج، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجوهر، وخمسمائة جارية على رِمَاك «١» في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت، وحُقاً فيه دُرة عذراء، وخرزة جزعية مثقوبة، معوجّة الثقب، وأرسلت رسلاً، وأمّرت عليهم المنذر ابن عمرو، وكتبت كتاباً فيه نسخة الهدية. وقالت فيه: إذ كنتَ نبياً فميّز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما فى
(١) الرماك: جمع رمكة، وهى أنثى البغال. راجع اللسان (رمك ٣/ ١٧٣٣).
194
الحُقّ، واثقب الدرّة ثقباً مستوياً، واسلك في الخرزة خيطاً. ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضب فهو ملك، فلا يهولنك منظره، وإن رأيته ليناً لطيفاً فهو نبيّ «١».
فأقبل الهدهد، فأخبر سليمان الخبر كله، فأمر سليمانُ الجن فضربوا لبِنَات الذهب والفضة، وفرشوها في الميدان بين يديه، طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطاً، شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر، فربطوها عن يمين الميدان ويساره، على اللبنات. وأمر بأولاد الجن- وهم خلقٌ كثير- فأُقيموا عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره، والكراسي من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ، والإنس صفوفاً فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك، فلما دنا القوم، ونظروا، بُهتوا، ورأوا الدواب تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا بما معهم من الهدايا.
ولما وقفوا بين يديه، نظر إليهم سليمان بوجهٍ طَلْقٍ، فأعطوه كتاب الملكة، فنظر فيه، فقال: أين الحُق؟ فأتى به، فحرّكه، وأخبره جبريلُ عليه السلام بما فيه. فقال لهم: إن فيه كذا وكذا. ثم أمر بالأرضَة فأخذت شعرة، ونفذت في الدرّة، فجعل رزقها في الشجر. وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها، ونفذت في ثقب الجزعة، فجعل رزقها في الفواكه. ودعا بالماء، وأمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى، ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه فميزهم بذلك. ثم ردّ الهدية.
ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ أي: جاء رسولها المنذرُ بن عمرو إليه قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ، توبيخ وإنكار لإمدادهم إياه بالمال، مع علو شأنه وسعة سلطانه. والتنكير للتحقير، والخطاب للرسول ومن معه، أو للرسول والمرسل تغليب للحاضر. فَما آتانِيَ اللَّهُ من النبوة والمُلك الذي لا غاية وراءه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي: من المال الذي من جملته ما جئتم به، فلا حاجة لي إلى هديتكم، ولا وقْعَ لها عندي، ولعله عليه السلام إنما قال لهم هذه المقالة.. إلخ بعد ما جرى بينه وبينهم ما حكي من قصة الحُقّ وغيرها، لا أنه عليه السلام خاطبهم بها أول ما جاءوه.
ثم قال لهم: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. الهدية: اسم للمُهدَى، كما أن العطية اسم للمُعطَى، فتضاف إلى المُهْدِي والمهدَى له. والمعنى: أن ما عندي خير مما عندكم، وذلك أن الله تعالى آتاني الدين والمعرفة به، التي هي الغنى الأكبر، والحظ الأوفر، وأتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يُمد بمال من قِبلكم؟ بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك تفرحون بما تزدادون ويُهدى إليكم لأنَّ ذلك مبلغ همتكم، وحالي خلاف ذلكم، فلا أرضى منكم بشيء، ولا أفرح إلا بالإيمان منكم، وترك ما أنتم عليه من المجوسية.
والإضراب راجع إلى معنى ما تقدم، كأنه قيل: أنا لا أفرح بما تمدونني به بل أنتم.
(١) قال العلامة ابن كثير، بعد ذكره لهذه الروايات: والله أعلم أكان ذلك أم لا، وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات. انظر تفسير ابن كثير (٣/ ٣٦٣).
195
ثم قال للرسول: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ إلى بلقيس وقومها، وقل لهم: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ: لا طاقة لَهُمْ بِها. وحقيقة القِبَل: المقابلة والمقاومة، أي: لا يقدرون أن يقابلوهم، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أي: من سبأ أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ: أسارى مهانون. فالذل: أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك، والصغار:
أن يبقوا في أسر واستعباد. فلما رجع إليها رسولها بالهدايا، وقصّ عليها القصة، قالت: هو نبي، ومالنا به طاقة. ثم تجهزت للقائه، على ما يأتي إن شاء الله.
الإشارة: إذا توجه المريد إلى مولاه، توجهت إليه نفسه بأجنادها، وهي الدنيا، والجاه، والرئاسة، والحظوظ، والشهوات، فتُمده أولاً بمالٍ وجاه، تختبره، فإن علت همته، وقويت عزيمته، أعرض عن ذلك وأنكره، وقال:
أتمدونني بمال حقير، وجاه صغير، فما آتانيَ الله من معرفته والغنى به خير مما آتاكم. ثم يقول للوارد بذلك: ارجع إليهم- أي: للنفس وجنودها- فلنأتينهم بجنود من الأنوار لا قِبَل لهم بها، ولنخرجنهم منها- أي: قرية القلب- أذلة وهم صاغرون. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم ذكر إتيان عرشها قبل إتيانها، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٤]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
196
ولما أرادت بلقيس الخروج إلى سليمان، جعلت عرشها فى آخر سبعة أبيات، وغلّقت الأبواب، وجعلت عليه حُراساً يحفظونه، وبعثت إلى سليمان: إني قادمة إليك لأنظر ما الذي تدعو إليه، وشَخَصَتْ إليه في اثني عشر ألف قَيْل «١»، تحت كل قيل ألوفٌ، فلما بلغت على رأس فرسخ من سليمان، قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى به، من إجراء العجائب على يده، مع إطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان. أو: أراد أن يأخذه قبل أن تتحصن بالإسلام، فلا يحل له، والأول أليق بمنصب النبوة، أو: أراد أن يختبرها في عقلها، بتغييره، هل تعرفه أو تُنكره.
قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ، وهو المارد الخبيث، واسمه «ذكوان»، أو: «صَخْر» : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي: من مجلسك إلى الحكومة، وكان يجلس إلى تُسع النهار، وقيل: إلى نصفه. وَإِنِّي عَلَيْهِ على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، آتي به على ما هو عليه، لا أغير منه شيئاً ولا أُبدله، فقال سليمان عليه السلام، أريد أعجل من هذا، قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ. قيل هو: آصف بن برخيا- وزير سليمان عليه السلام، كان عنده اسمُ الله الأعظم، الذي إذا سئل به أجاب. قيل هو: يا حيّ يا قيوم، أو: يا ذا الجلال والإكرام، أو: يا إلهنا وإله كل شيء، إلهاً واحداً، لآَّ إِلَهَ إِلآَّ أَنتَ. وليس الشأن معرفة الاسم، إنما الشأن أن يكون عين الاسم، أي: عين مسمى الاسم، حتى يكون أمره بأمر الله. وقيل: هو الخضر، أو: جبريل، أو: ملك بيده كتاب المقادير، أرسله تعالى عند قول العفريت. والأول أشهر «٢». قال: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أي: ترسل طرفك إلى شيء، فقبل أن ترده تُبصر العرش بين يديك.
رُوي: أن آصف قال لسليمان: مُدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ عينيه، فنظر نحو اليمن، فدعا آصف، فغار العرش في مكانه، ثم نبع عند مجلس سليمان، بقدرة الله تعالى، قبل أن يرجع إليه طرفه. فَلَمَّا رَآهُ أي:
العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ثابتاً لديه غير مضطرب، قالَ هذا أي: حصول مرادي، وهو حضور العرش في مدة قليلة، مِنْ فَضْلِ رَبِّي عليّ، وإحسانه إليّ، بلا استحقاق مني، بل هو فضل خالٍ من العوض، لِيَبْلُوَنِي: ليختبرني أَأَشْكُرُ نعمَه أَمْ أَكْفُرُ، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنه يقيد به محصولها، ويستجلب به مفقودها، ويحط عن ذمته عناء الواجب، ويتخلص من وصمة الكفران. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ أي: ومن كفر بترك الشكر، فإن ربي غني عن شكره، كريم بترك تعجيل العقوبة إليه. وفي الخبر: «من شكر النعم فقد قيّدها بعقالها، ومن لم يشكر فقد تعرض لزوالها».
(١) القيل: الملك من ملوك اليمن فى الجاهلية، دون الملك الأعظم. وجمعه: أقيال وقيول. انظر اللسان (٥/ ٣٧٩٨، مادة قيل).
(٢) انظر هذه الأقوال فى تفسير الطبري (١٩/ ١٦٢- ١٦٣) وتفسير البغوي (٦/ ١٦٤).
197
وقال الواسطي: ما كان مِنَّا من الشكر فهو لنا، وما كان منه من النعمة فهو إلينا، وله المنة والفضل علينا. هـ.
قالَ سليمانُ عليه السلام لأصحابه: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي: غيّروا هيئته بوجه من الوجوه، نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي لمعرفته، أو: للجواب الصواب إذا سُئلت عنه، أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى معرفة عرشها.
أو إلى الجواب الصواب.
فَلَمَّا جاءَتْ بلقيسُ سليمانَ عليه السلام، وقد كان العرش بين يديه، قِيلَ من جهة سليمان، أو بواسطة:
أَهكَذا عَرْشُكِ؟ ولم يقل: أهذا عرشك لئلا يكون تلقيناً، فيفوت ما هو المقصود من اختبار عقلها، وقد قيل لسليمان- لما أراد تزوجها-: إن في عقلها شيئاً، فاختبرها بذلك. قالَتْ- لما رأته-: كَأَنَّهُ هُوَ فأجابت أحسن جواب، فلم تقل: هو هو، ولا: ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقل: هو هو، مع علمها بحقيقة الحال، ولِمَا شبّهوا عليها بقولهم: أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها: كَأَنَّهُ هُوَ مع أنها علمت بعرشها حقيقة، تلويحاً بما اعتراه بالتنكير من نوع مغايرة في الصفات مع اتحاد الذات، ومراعاة لحسن الأدب في محاورته عليه السلام.
ولو قالوا: أهذا عرشك؟ لقالت: هو.
ثم قالت: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بقدرة الله تعالى، وبصحة نبوتك مِنْ قَبْلِها من قَبل هذا الأمر، أي: من قبل هذه المعجزة التي شاهدنا الآن، من أمر الهدهد، وبما سمعناه من المنذر من الآيات الدالة على ذلك، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ منقادين لك من ذلك الوقت، وكأنها ظنت أنه أراد عليه السلام اختبار عقلها، وإظهار المعجزة، لتؤمن به، فأظهرت أنها آمنت به قيل وصولها إليه. أو قال سليمان: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بالله تعالى وبكمال قدرته من قبل هذه الآية، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ موحدين، أو: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بإسلامها ومجيئها طائعةً مِنْ قَبْلِها مجيئها، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ موحّدين.
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، هو من كلام سليمان، أي: وصدها عن العلم بما علمناه- أو: عن التقدم إلى الإسلام- عبادةُ الشمس وإقامتها بين ظهرانيِّ الكفرة، أو: من كلام تعالى، بياناً لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام الآن، أي: صدَّها عن ذلك عبادتُها القديمة للشمس، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أي: كانت من قوم راسخين في الكفر، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها، وهى بين ظهرانيهم، حتى دخلت تحت ملكة سليمان عليه السلام، أو: وصدها الله تعالى، أو: سليمان، عما كانت تعبدُ من دون الله، فحذف الجار وأوصل الفعل.
لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
أي: القصر، أو: صحن الدار، لَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
: ماء عظيما، كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
. رُوي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها، فبُني له على طريقها قصر من زجاج
198
أبيض، وأجرى من تحته الماء، وألقى فيه السمك وغيره، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه، وعكف عليه الطير والجن والإنس. وإنما فعل ليزيدها استعظاماً لأمره، وتحقيقاً لنبوته. وقيل: إن الجن كرهوا أن يتزوجها، فتفضى إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنّية. وقيل: خافوا أن يولد له منها ولد، فيجتمع له فطنة الجن والإنس، فيخرجون من مُلْكِ سليمان إلى مُلْكِ أشدّ منه، فقالوا له: إن في عقلها شيئاً، وهي شَعْراء الساقين، ورِجْلها كحافر الحمار، فاحتبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقيها ورِجلها «١» فكشفت عنهما، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً، إلا أنها شعراء، وصرف بصره. ثم الَ
لها: نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
مملس مستو. ومنه:
الأمرد، للذي لا شعر فى وجهه، نْ قَوارِيرَ
من الزجاج، وأراد سليمان تزوجها، فكره شعرها، فعملت له الشياطين النورة، فنكحها سليمان، وأحبها، وأقرها على ملكها، وكان يزورُها في الشهر مرة، فيقيم عندها ثلاثة ايام، وولدت له، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان عليه السلام، فسبحان من لا انقضاء لملكه.
رُوي أنه مُلِك وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. هـ.
ثم ذكر إسلامها، فقال: الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بعبادة الشمس، أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
تابعة له، مقتدية به، لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
. وفيه الالتفات إلى الاسم الجليل، ووصفه بربوبيته للعالمين لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى، وتفرده باستحقاق العبادة، وربوبيته لجميع الموجودين، التي من جملتها: ما كانت تعبد قبل ذلك من الشمس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: عرش النفس الذي تستقر عليه هو الدنيا، فمن أحب الدنيا وركن إلى أهلها، فقد أجلس نفسه على عرشها، وصيَّرها مالكه له، متصرفة فيه بما تُحب، ومن أبغض الدنيا وزهد في أهلها، فقد هدم لها عرشها، وصارت خادمة مملوكة له، يتصرف فيها كيف يشاء. فيقول الداعي إلى الله- وهو من أهَّله الله للتربية- للمريدين:
أيكم يأتيني بعرشها، ويَخرج عنها لله في أول بدايته؟ فمنهم من يأتي بها بعد مدة، ومنهم من يأتي بها أسرع من طرفة، على قدر القوة والعزم والصدق في الطلب، ومن أتى بعرش نفسه، وخرج عنها لله، فهو الذي آتاه الله علماً
(١) الواضح أن سليمان، عليه السلام أراد ببناء الصرح: أن يريها عظمة ملكه وسلطانه، وأن الله أعطاه من الملك ما لم يعطها، فضلا عن النبوة، التي هى فوق الملك، وحاشا لسليمان- وهو الذي سأل الله أن يعطيه حكما، يوافق حكمه، فأوتيه، أن يحتال لينظر إلى ساقيها، وهى أجنبية. وما نقل من روايات إنما هو من الإسرائيليات المكذوبة، لا يصح القول بها.
قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره: (٣/ ٣٦٦) معقبا على رواية لابن أبى شيبة، فى هذا الشأن: والأقرب فى مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما وجد فى صحفهم- كروايات كعب ووهب- سامحهما الله تعالى، فيما نقلاه إلى هذه الأمة، من أخبار بنى إسرائيل، من الأوابد، والغرائب، والعجائب، مما كان، ومما لم يكن، ومما حرّف، وبدل، ونسخ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك، بما هو أصح منه وأنفع وأوضح، ولله الحمد والمنة.
199
من الكتاب، وعرف مدلوله ومقصوده، لكن من السياسة أن يتدرج المريدُ في تركها شيئاً فشيئاً، حتى يخرج عنها، أو يغيب عن شغلها بالكلية، وإن كانت بيده. فلما خرجوا عن عرش نفوسهم لله، وتوجهوا إليه، ورأى ذلك منهم، قال: هذا من فضل ربي، حيث وقعت الهداية على يدي، ليبلوني، أشكر أم أكفر.. الآية. قال نكروا لها عرشها، أي:
اعرضوا عليها الدنيا، وأرُوها عرشها التي كانت عليه، متغيراً عن حاله الأولى- لأنه كان معشوقاً لها، والآن صار ممقوتاً لغناها بالله- ننظر أتهتدي إليه، وترجع إلى محبته، فيكون علامة على عدم وصولها، أم تكون من الذين لا يهتدون إليه أبداً، فتكون قد تمكنت من الأنس بالله، فلما جاءت وأظهر لها عرشها اختباراً، قيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو، وأوتينا العلم بالله من قبل هذه الساعة، وكنا منقادين لمراده، فلن نرجع إلى ما خرجنا عنه لله أبداً. وصدّها عن الحضرة ما كانت تعبدُ من الهوى، من دون محبة الله، إنها كانت من قوم كافرين، منكرين للحضرة، غير عارفين بها. قيل لها حين رحلت عن عرشها: ادخلي دار الحضرة، فلما رأت بحر الوحدة، يتموج بتيار الصفات، دهشت، وحسبته لُجةً، يغرق صاحبه في بحر الزندقة، قال لها رئيس البحرية- وهو شيخ التربية: إنه بحر منزه متصل، لا أول له، ولا آخر له. ليس مثله شيء، ولا معه شيء، محيط بكل شيء، وماحٍ لكل شيء. ثم اعترفت أنها ظالمة لنفسها، مشغولة بهواها، قبل أن تعرف هواه، فلما عرفته غابت عن غيره، واستسلمت وانقادت له. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧)
قلت: (ولقد أرسلنا) : عطف على (ولقد آتينا داود... ) الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالله لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ نسباً صالِحاً، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: بأن اعبدوه وحده، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي: ففاجئوا التفرق والاختصام، ففريق مؤمن به،
200
وفريق كافر، أو: يختصمون فيه، فكل فريق يقول: الحق معي. وقد فسر هذا الاختصام قوله تعالى في الأعراف:
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «١». قالَ عليه السلام للفريق الكافر، بعد ما شاهد منهم ما شاهد من نهاية العتو والعناد، حتى استعجلوا العذاب: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ بالعقوبة السيئة قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي: التوبة الصالحة، فتؤخرونها إلى حين نزولها، حيث كانوا- من جهلهم وغوايتهم يقولون: إن وقع العذاب تُبنا حينئذٍ، وإلا فنحن على ما كنا عليه. أو: لِمَ تستعجلون بالعذاب قبل الرحمة، أو: بالمعصية قبل الطاعة، لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ: هلا تطلبون المغفرة من كفركم بالتوبة والإيمان قبل نزوله، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالإجابة قبل النزول، إذ لا قبول بعده، قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ تشاء منا بك وَبِمَنْ مَعَكَ من المؤمنين لأنهم قُحِطوا عند مبعثه لكفرهم، فنسبوه إلى مجيئه. والأصل: تطيرنا. وقرئ به، فأدغمت التاء في الطاء، وزيدت ألف وصل، للسكون.
قالَ صالح عليه السلام: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: سببكم الذي به ينالكم ما ينالكم من الخير والشر عند الله، وهو قدره وقضاؤه، أو: عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل، عقوبة لكم وفتنة. ومنه: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «٢» أي: ألزمناه جزاء عمله، أو: ما قدر له في عنقه، وأصله: أن المسافر كان إذا مرّ بطائر يزجره، فإن مر إلى جهة اليمين تيمن، وإن مر إلى ناحية الشمال تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته، أو: من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ: تختبرون بتعاقب السراء والضراء، أو: تعذبون، أو: يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة. قال- عليه الصلاة والسلام-: «لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ» «٣» وقال أيضاً: «إذا تطيرت فلا ترجع» «٤». والله تعالى أعلم.
الإشارة: سَير أهل التربية مع أهل زمانهم كسير الأنبياء مع أممهم، إذا بعثهم الله إلى أهل زمانهم اختصموا فيهم، ففريق يصدق وفريق يكذب، فيطلبون الكرامة والبرهان، ويتطيرون بهم وبمن تبعهم، إن ظهرت بهم قهرية من عند الله، كما رأينا ذلك كله. وبالله التوفيق.
(١) الآيتان: ٧٥- ٧٦ من سورة الأعراف.
(٢) من الآية ١٣ من سورة الإسراء.
(٣) أخرجه البخاري فى (الطب، باب الطيرة، ح ٥٧٥٣) ومسلم فى (السلام، باب الطيرة والفأل ٤/ ١٧٤٧، ح ٢٢٢٥) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(٤) قال ابن حجر فى الفتح (١٠/ ٢٢٤) : أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يسلم منهن أحد:
الطيرة، والظن، والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تٌحَقّق، وهذا مرسل أو معضل، لكن له شاهد من حديث أبى هريرة، أخرجه البيهقي فى الشعب. هـ.
201
ثم ذكر اهتمامهم بقتل صالح وهلاكهم، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٨ الى ٥٣]
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ مدينة ثمود، وهي الحجر، تِسْعَةُ رَهْطٍ أي:
أشخاص، وهو جمع لا واحد له، فلذا جاز تمييز التسعة به، فكأنه قيل: تسعة أنفس، وهو من الثلاثة إلى العشرة، وكان رئيسهم «قدار بن سالف» وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا أبناءَ أشرافهم ومن عتاتهم، يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي: في المدينة، إفساداً لا يخالطه شيء من الصلاح أصلاً، وَلا يُصْلِحُونَ يعني: إن شأنهم الإفساد المحض، الذي لا صلاح معه. وعن الحسن: يظلمون الناس، ولا يمنعون الظالمين عن الظلم. وعن ابن عطاء: يتبعون معايب الناس، ولا يسترون عوراتهم.
قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ: استئناف لبيان بعض فسادهم. و (تقاسموا) : إما أمر مقول لقالوا، أي: تحالفوا أمر بعضهم بعضاً بالقسم على قتله. وإما خبر حال، أي: قالوا متقاسمين. لَنُبَيِّتَنَّهُ: لنقتلنه بياتاً، أي: ليلاً، وَأَهْلَهُ: ولده ونساءه، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي: لوليّ دمه: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي: ما حضرنا هلاكهم، أو: وقت هلاكهم. أو: مكانه فضلاً أن نتولى إهلاكهم، وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما ذكرناه. وهو إما من تمام المقول، أو: حال، أي: نقول ما نقول والحال أنا صادقون في ذلك لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفاً. ولأنا ما شهدنا مهلك أهله وحده، بل مهلكه ومهلككم جميعاً، كقولك: ما رأيت ثمَّ رجلاً، أي: بل رجلين. ولعل تحرجهم من الكذب في الأَيْمان مع كفرهم لِما تعودوا من تعجيل العقوبة للكاذب في القسامة، كما كان أهل الشرك مع البيت الحرام في الجاهلية. وكان تقاسمهم بعد أن أنذرهم بالعذاب، وبعد قوله: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «١».
(١) من الآية ٦٥ من سورة هود. [.....]
202
قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً بهذه المواضع، وَمَكَرْنا مَكْراً أهلكناهم إهلاكاً غير معهود، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي: من حيث لا يحتسبون، فمكرهم: هو ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله.
ومكر الله: إهلاكهم من حيث لا يشعرون. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أي: فتفكر في أنه كيف كان عاقبة مكرهم. فسره بقوله: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ: أهلكناهم بالصيحة وَقَوْمَهُمْ الذين لم يكونوا معهم في التبييت أَجْمَعِينَ. رُوي أنه كان لصالح مسجد في شِعْبٍ يُصلِّي فيه. فقالوا: زعم صالح يفرع منا إلى ثلاث، وقد رأى علامة ذلك، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب، وقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله تعالى صخرة من الهَضب التي حِيالهم «١»، فبادروا، فأطبقت الصخرة عليهم فم الشعب، فلم يدر قومهم أين هم، ولم يدروا ما فُعِل بقومهم، وعذَّب الله كلاً في مكانه ونجى صالحاً ومن معه.
وقال ابن عباس: أرسل الله الملائكة ليلاً، فامتلأت بهم دار صالح، فأتى التسعة إلى دار صالح، شاهرين السيوف، فقتلتهم الملائكة بالحجارة يرون الحجارة، ولا يرون رامياً «٢».. هـ. ويمكن الجمع بأن بعضهم مات تحت الصخرة، وبعضهم أتى إلى دار صالح فقتل.
قال تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً ساقطة متهدمة، من: خوى النجم: إذا سقط. أو: خالية من السكان، بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم. إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما ذكر من التدمير العجيب لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قدرتنا، فيتعظون.
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أي: صالحاً ومَن معه من المؤمنين، وَكانُوا يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي، اتقاء مستمراً، ولذلك نجوا مع صالح. قال مقاتل: لما وقت لهم صالح العذاب إلى ثلاث، خرج أول يوم على أبدانهم مثل الحمّص أحمر، ثم اصفر من الغد، ثم اسود من اليوم الثالث. ثم تفقأت، وصاح جبريل في خلال ذلك، فخمدوا، وكانت القرية المؤمنة الناجية أربعة آلاف، خرج بهم صالح إلى حضرموت، فلما دخلها مات صالح، فسميت حضرموت. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكان في مدينة القلب تسعُ علل، يُفسدون فيها ولا يُصلحون، وهي حب الدنيا، وحب الرئاسة، والحسد. والكبر، والحقد، والعجب، والرياء، والمداهنة، والبخل، هم أفسدوا قلوب الناس، وتقاسموا على هلاكها، ومكروا بهم حتى زيَّنوا لهم سوءَ عملهم، ومكر الله بهم، فدفعهم ودمَّرهم عن قلوب الصالحين، فتلك بيوتهم خاوية منها، أخرجهم منها، بسبب ظلمهم لها.
(١) حياله: إزاءه.
(٢) انظر تفسير البغوي (٦/ ١٧٠).
203
وقال القشيري على قوله: وَمَكَرُوا مَكْراً... الآية: مَكْرُ اللهِ: جزاؤهم على مَكْرِهم، بإخفاء ما أراد منهم من العقوبة، ثم إحلالها بهم بغتةً. هـ. وقال الورتجبي: حقيقة المكر: امتناع سر الأزلية عن مطالعة الخليفة، فإذا كان كذلك من ينجو من مكره، والحدث لا يطلع على سوابق علمه في القِدم، فمَكْره وقهره صفتان من صفاته، لا تفارقان ذاته، وذاته أبدية، انظر تمامه. قلت: ومعنى كلامه: أن مكر الله في الجملة: هو إخفاء السر الأزلي- وهو القضاء والقدر- عن مطالعة الخلق، فلا يدري أحد ما سَبق له في العلم القديم، وإذا كان كذلك فلا ينجوا أحد من مكره إذ الحدث لا يطلع على سوابق العلم القديم، إلا من اطلع عليه بوحي، كالأنبياء، أو بنص صريح منهم، كالمبشرين بالجنة، ومع ذلك: العارف لا يقف مع وعد ولا وعيد إذ قد يتوقف على شرط وأسباب خفية، ولذلك قيل: العارف لا يسكن إلى الله. قاله في لطائف المنن، أيّ: لا يسْكُن إلى وعد الله ولا وعيده، فلا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره.
وقال القشيري- على قوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً.. ، في الخبر: «لو كان الظلم بيتاً في الجنة لسلط الله عليه الخراب». هـ. قلت: فكل مَن اشتغل بظلم العباد، فعن قريب ترى دياره بلاقع «١»، كما هو مجرب. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة لوط- عليه السّلام- فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٨]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
قلت: (ولوطا) : عطف على (صالحا) داخل معه في القسم، أي: ولقد أرسلنا صالحاً ولوطاً. و (إذ قال) : ظرف للإرسال، أو: منصوب باذكر، و (إذ قال) : بدل من (لوط).
(١) البلقع: الأرض القفر، التي لا شىء فيها، والخالي من البرية. انظر اللسان (١/ ٣٤٨، مادة: بلقع).
204
يقول الحق جلّ جلاله: وَلقد أرسلنا لُوطاً، أو: واذكر لوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي: وقت قوله لهم: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي: الفعلة المتناهية في الفُحش والسماجة، وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي: والحالة أنكم تعلمون علماً يقينياً أنها فاحشة، لم تُسبَقوا إليها. والجملة الحالية تفيد تأكيد الإنكار، فإنَّ تعاطيَ القبيح من العالم بقُبحه أقبح وأشنع، ولذلك ورد في الخبر: «أشدُّ الناس عذاباً يومَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لَم يَنفَعهُ الله بعلْمِه» «١». وقال الفخر:
لا تصدر المعصية من العالم قط وهو عالم، وحين صدورها منه هو جاهل لأنه رجح المرجوح، وترجيح المرجوح جهل، ولذلك قال: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. هـ. وفي الحديث: «لا يَزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» «٢». إذ لو صدّق بإطلاع الحق عليه ما قدر على الزنى، لكنه جهل ذلك. وتُبْصِرُونَ، من: بصر القلب. وقيل: يُبصر بعضُكم بعضاً لأنهم كانوا يرتكبونها في ناديهم، معلنين بها، لا يستتر بعضهم من بعض، مَجانةً وانهماكاً في المعصية، أو: تُبصرون آثار العصاة قبلكم، وما نزل بهم.
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً أي: للشهوة مِنْ دُونِ النِّساءِ أي: أن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر، ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فهي مضادة للهِ تعالى في حكمته، فلذلك كانت أشنع المعاصي، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تفعلون فعل الجاهلين بقُبحها، أو: تجهلون العاقبة. أو: بمعنى السفاهة والمجون، أي: بل أنتم سُفهاء ماجنون. والتاء فيه- مع كونه صفة لقوم لكونهم في حيز الخطاب. وكذا قوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ «٣»، غلّب الخطاب على الغيبة. قال ابن عرفة: «بل» : للانتقال، والانتقال في باب الذم إنما يكون عن أمر خفيف إلى ما هو أشد منه، وتقرير الأشدّية هنا: أن المضروب عنه راجع للقوة الحسية العملية، وهي منقطعة تنقضي بانقضاء ذلك الفعل، والثاني راجع للقوة العلمية، وهي دائمة لأن العلم بالشيء دائم، والعمل به منقطع غير دائم. هـ.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ حين نهاهم عن تلك الفاحشة ودعاهم إلى الله، إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي: لوطاً ومتبعيه مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يتنزهون عن أفعالنا، أو: عن القاذورات، ويعدون فعلنا قذراً. وعن ابن عباس: أنه استهزاء، كقوله: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ «٤».
(١) رواه الطبراني فى المعجم الصغير (١/ ١٨٢- ١٨٣) والبيهقي فى الشعب (ح ٧٧٧٨)، من حديث أبى هريرة- رضي الله عنه. والحديث ضعّفه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ١٠٥٣).
(٢) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (المظالم، باب النّهبى بغير إذن صاحبها، ح ٢٤٧٥) ومسلم فى (الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ١/ ٧٦ ح ١٠٠) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٣) من الآية ٤٧ من سورة النمل.
(٤) الآية ٨٧ من سورة هود.
205
فَأَنْجَيْناهُ: فخلّصناه من العذاب الواقع بالقوم، وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها بالتشديد والتخفيف، أي:
قدرنا أنها مِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً غير معهود حجارة مكتوب عليها اسم صاحبها، فَساءَ: قَبُحَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الذين لم يقبلوا الإنذار. وقد مرّ كيفية ما جرى بهم غير مرة.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما أنكر لوط على قومه إلا غلبة الشهوة على قلوبهم، والانهماك في غفلتهم، فرجعت إلى معصية القلوب، وهي أشد من معصية الجوارح لأن معصية الجوارح إذا صحبتها التوبة والانكسار، عادت طاعة، بخلاف معصية القلوب فإنها تنطمس بها أنوار الغيوب، فلا يزيد صاحبها إلا البُعد والطرد، والعياذ بالله.
ثم أمر رسوله محمدا ﷺ بالتحميد، ثم بالسلام على عباده المرسلين توطئة لما يتلوه من الدلالة على وحدانيته تعالى، وقدرته على كل شىء، وهو تعليم لكل متكلم فى كل أمر ذى بال، بأن يبتدئ فى خطبته بحمد الله، والثناء على رسله، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠)
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أنعم به عليك من فنون النعم، ومن جملتها: اطلاعك على أسرار علم غيوبه، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى لرسالته. وقال ابن عباس وسفيان: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، اصطفاهم بصحبته- عليه الصلاة والسلام- وقال الكلبي: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته. ثم قل لهم إلزاماً للحجة: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ «١» أي: آلله الذي ذكرت شئونه العظيمة خير، أم ما تشركونه معه تعالى من الأصنام؟ ومرجع الترديد إلى التعرض بتبكيت الكفرة، وتسفيه آرائهم الركيكة، والتهكم بهم إذ من البيِّن أن ليس فيما أشركوه به تعالى شائبة خير، حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من لا خير إلا خيره، ولا إله غيره.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال: «بلِ الله خيْرٌ، وأَبْقَى، وأجلُّ، وأكرم» «٢».
(١) قرأ عاصم، وأبو عمرو، ويعقوب: «يشركون» بالياء. وقرأ الباقون: «تشركون» بالخطاب... انظر الإتحاف (٢/ ٣٣٢).
(٢) قال الحافظ ابن حجر: كذا ذكره الثعلبي بغير إسناد. انظر الكافي الشاف على هامش الكشاف (٣/ ٣٧٥).
ثم عدَّد سبحانه الخيرات والمنافع، الدالة على انفراده بالخيرية، فقال: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، «أم» هنا: منقطعة، بخلاف أَمَّا يُشْرِكُونَ أي: بل أمّن خلق العالم العلوي والسفلي، وأفاض من كل واحد ما يليق به من الخيرات، خير، أم جماد لا يقدر على شيء؟ فمن: مبتدأ، وخبرها: محذوف مع «أم» المعادلة للهمزة، كما قررنا.
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً. مطراً فَأَنْبَتْنا، التفت من الغيبة إلى التكلم تأكيداً لمعنى اختصاص الفعل به تعالى، وإيذاناً بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان، والطعوم والأشكال، مع بهجتها، بماء واحد، لا يقدر عليه غيره، أي: فأخرجنا بِهِ حَدائِقَ: بساتين، فالحديقة: بستان عليه حائط، من: الإحداق، وهو الإحاطة، ذاتَ بَهْجَةٍ أي: ذات حُسن ورونق، تبتهج به النظار، ولم يقل: ذوات لأن المعنى: جماعة حدائق، كما تقول: النساء ذهبت. ما كانَ لَكُمْ ما صح وما أمكن لكم أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها فضلاً عن ثِمارها وسائر صفاتها البديعة المبهجة، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ أي: أإله كائن مع الله، الذي ذكرت أفعاله، التي لا يقدر عليها غيره، حتى يُتوهم جعله شريكاً له تعالى في العبادة؟ أو: أإله مع الله يفعل ذلك؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ:
بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية، والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور، فلذلك يفعلون ما يفعلون من الإشراك والجرائم، أو: يعدلون به غيره فيُشركونه معه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قل الحمد لله، الذي كشف الحجب عن قلوب أوليائه، وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصطفاهم لحضرته، آلله خير، أي: أشهود الله وحده في الوجود خير، أم شهود الغير معه؟، فتشركون في توحيدكم. أمن خلق سموات أرواحكم، وهيأها لشهود الربوبية، وخلق أرض نفوسكم، وهيأها لآداب العبودية، وأنزل لكم من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية، فأنبتنا به في قلوب العارفين بساتين المعرفة، ذات بهجة ونزهة؟ ما كان لكم، وفي طوقكم، أن تُنبتوا في قلوبكم شجر المعرفة، ولا ثمار المحبة، أإله مع الله يمنّ عليكم بذلك؟، بل هم قوم يعدلون عن طريق الوصول إلى هذه البساتين البهية لأنها محفوفة بالمكاره النفسية، لا يقدر على سلوكها إلا الشجعان، أهل الهمم العلية. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نوعا آخر من دلائل توحيده، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦١]
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١)
يقول الحق جلّ جلاله: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي: قارة ثابتة، ليستقر عليها الإنسان والدواب، بإظهار بعضها من الماء، ودحوها وتسويتها، حسبما يدور عليه منافعهم. وَجَعَلَ خِلالَها أواسطها أَنْهاراً جارية ينتفعون بها، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أي: جبالا ثوابت، تمنعها أن تميد بأهلها، ولتتكون فيها المعادن، وينبع من حضيضها المنابع. وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي: العذب والمالح، أو: خليجي فارس والروم حاجِزاً برزخاً مانعاً من المعارجة والمخالطة، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في الوجود، أو: في إبداع هذه البدائع؟
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شيئاً من الأشياء، ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره.
الإشارة: أم من جعل أرض النفوس قراراً، لتستقر عليها أحكام العبودية، وتتصرف فيها أقدار الربوبية، وجعل خلالها أنهاراً من علوم الشرائع، وما يتعلق بعالم الحكمة من الحِكَم والأحكام، وجعل لها جبالاً من العقل لتعرف صانعها ومدبرها، وجعل بين بحر الحقيقة والشريعة حاجزاً وبرزخاً، وهو نور العقل؟ فما دام العقل صاحياً ميّز بين الحقيقة والشريعة، فيلزمه التكليف، ويعطي كل ذي حق حقه. فإذا سكر وغاب نوره سقط التكليف. وقد تُشرق على نور قمر العقل شمسُ العرفان، فتغطيه مع وجود صحوه، فيميز بين الحقائق والشرائع، وتكون عباداته أدباً وشكراً.
وبالله التوفيق.
ثم ذكر نوعا آخر، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٢]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢)
قلت: الاضطرار: الافتعال من الضرورة، وهي الحاجة المحوجة إلى اللجأ، يقال: اضطره إلى كذا، واسم الفاعل والمفعول: مضطر، ويختلف التقدير.
يقول الحق جلّ جلاله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ، وهو من نزلت به شدة من شدائد الزمان، ألجأته إلى الدعاء والتضرع، كمرض، أو فقر، أو نازلة من نوازل الدهر ونوائبه، أو: المذنب إذا استغفر مبتهلاً، أو:
المظلوم إذا دعا، أو: من رفع يديه، ولم ير لنفسه حسنة يرجو بها القبول غير التوحيد، وهو منه على خطر، فهذه أنواع المضطر. وإجابة دعوته مقيدة بالحديث: «الدّاعِي عَلَى ثَلاث مراتب، إما أن يُعجل له ما طلب، وإما أن
208
يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله» «١». وأيضاً: إذا حصل الاضطرار الحقيقي حصلت الإجابة قطعاً، إما بعين المطلوب، أو بما هو أتم منه، وهو الرضا والتأييد. وَيَكْشِفُ السُّوءَ وهو الذي يعترى الإنسان مما يسوؤه، كضرر أو جَور، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي: خلفاء فيها، تتصرفون فيها كيف شئتم، بالسكنى وغيره، وراثة عمن كان قبلكم من الأمم، قرناً بعد قرن. أو: أراد بالخلافة: الملك والتسلط. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي يفيض على الخلق هذه النعم الجسام، يمكن أن يعطيكم مثلها؟ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ «٢» أي: تذكراً قليلاً، أو:
زماناً قليلاً تتذكرون فيه. و «ما» : مزيدة، لتأكيد معنى القلة، التي أريد بها العدم، أو: ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى. وتذييل الكلام بنفي عدم التذكر منهم إيذان بأن وجود التذكر مركوز في ذهن كل ذكي، وأنه من الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه وتذكره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الاضطرار الحقيقي الذي لا تتخلف الإجابة عنه في الغالب: هو أن يكون العبد في حال شدته كالغريق في البحر وحده، لا يرى لغياثه غير سيده. وقال ذو النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله. وقال سهل بن عبد الله: هو الذي رفع يديه إلى الله تعالى داعياً، ولم تكن له وسيلة من طاعة قدّمها. هـ. بل يقدم إساءته بين يديه، ليكون دعاؤه بلا شيء يستحق عليه الإجابة، إلا من محض الكرم.
قال القشيري: يقال للجناية: سراية، فَمَن كان في الجناية مختاراً، فليس يسلم له دعوى الاضطرار عند سراية جرمه الذي سلف، وهو في في ذلك مختار، فأكثر الناس أنهم مضطرون، وذلك الاضطرار سراية ما بَرَزَ منهم في حال اختيارهم، ومادام العبد يتوهم من نفسه شيئاً من الحَوْلِ والحِيل، ويرى لنفسه شيئاً من الأسباب يعتمد عليه، ويستند إليه، فليس بمضطر، إلا أن يرى نفسه كالغريق في البحر، والضَّالِّ في المتاهة. والمضطر يرى غِيَاثه بيد سَيِّدهِ، وزِمَامَه في قبضته، كالميت في يد غاسِله، ولا يرى لنفسه استحقاقاً في أن يجاب، بل اعتقاده في نفسه أنه من أهل السخط، ولا يقرأ اسمه في ديوان السعادة، ولا ينبغي للمضطر أن يستعين بأحدٍ في أن يدعو له لأن الله وَعَدَ الإجابة له لا من يدعو له. هـ. وبحث معه المحشي الفاسي في بعض ألفاظه، فانظره.
قوله تعالى: وَيَكْشِفُ السُّوءَ. أي: ما يسوء القلب ويحجبه عن مولاه، من أكدار وأغيار، وقوله: (ويجعلكم خلفاء الأرض) أي: تتصرفون في الوجود بأسره، بهمتكم، إن زال غم الحجاب عنكم، وشاهدتم ربكم بعين
(١) جاء بلفظ: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليسَ فيها إثمٌ، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن يجعل له دعوته، وإما أن يدخرها له فى الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها..» الحديث، أخرجه أحمد فى المسند (٣/ ١٨) والحاكم (١/ ٤٩٣) وصححه، ووافقه الذهبي، والبزار (كشف الأستار، ح ٣١٤٣، ٣١٤٤) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٢) قرأ حفص، وحمزة، والكسائي «تذكرون» بتخفيف الذال. انظر الإتحاف (٢/ ٣٣٢).
209
بصيرتكم وبصركم لأن نور البصيرة إذا استولى على البصر، بعد فتح البصيرة، غطى نوره، فلا يرى البصر إلا ما تراه البصيرة من أسرار الذات الأزلية القديمة. فمن بلغ هذا المقام كان خَلِيفَةَ اللهِ في أرضه، يُملكه الوجود بأسره، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم ذكر نوعا آخر من دلائل توحيده، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٣]
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
يقول الحق جلّ جلاله: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ليلاً، وبعلامات في الأرض نهاراً؟.
أو: أمّن يهديكم إلى سلوك الطريق التي تُوصلكم إلى مقصدكم، وأنتم في ظلمات الليل، سواء كنتم في البر أو البحر؟ فلا هادي إلى ذلك إلا الله تعالى. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ، أو بالإفراد. نَشْراً «١» بالنون- أي: تنشر السحاب إلى الموضع الذي أمر الله بإنزال المطر فيه، أو بُشْراً- بالباء- أي: مبشرة بالمطر، بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قدَّام المطر، علامة عليه، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك؟ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإشعار بعلِّية الحُكم، أي: تعالى الله وتنزّه بذاته المنفردة بالألوهية، المقتضية لكون كل المخلوقات مقهوراً تحت قدرته، عن وجود ما يشركونه به تعالى.
الإشارة: أمّن يهديكم إلى حل ما أشكل عليكم، وأظلمت منه قلوبكم، من علم بَر الشرائع. وبحر الحقائق، فيهديكم في الأول إلى كشف الحق والصواب، وفي الثاني إلى كشف الغطاء ورفع الحجاب، أو: في الأول إلى علم البيان، وفي الثاني إلى عين العيان بالذوق والوجدان. أو: في الأول إلى علم اليقين، وفي الثاني إلى عين اليقين وحق اليقين. ومَن يُرسل رياح الواردات الإلهية، بشارة بين يدي رحمته بالوصول إلى حضرته، وهو التوحيد الخاص. ولذلك ختمه بقوله: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ من رؤية وجود السّوى.
(١) قرأ عاصم «الرياح» بالجمع و «بشرا» بالباء المضمومة مع إسكان الشين، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب، بالجمع، و «نشرا» بضم النون والشين. وقرأ ابن كثير بإفراد الريح، وضم النون والشين من «نشرا». راجع الإتحاف (٢/ ٣٣٢).
ثم ذكر نوعا آخر، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥)
قلت: «من» إما فاعل بيعلم، و «الغيب» : بدل منه، و «الله» : مفعول، و «إلا الله» : بدل، على لغة تميم، أي: إبدال المنقطع، وإما مفعول بيعلم، و «الغيب» بدل منه و (الله) : فاعل، والاستثناء: مفرغ.
يقول الحق جلّ جلاله: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي: ينشىء الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت بالبعث. وإنما قيل لهم: ثُمَّ يُعِيدُهُ وهم منكرون للإعادة لأنهم أزيحتْ شبهتهم بالتمكن من المعرفة، والإقرار، فلم يبقَ لهم عذرٌ في الإنكار. وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَالْأَرْضِ أي: ومن الأرض بالنبات، أي: يرزقكم بأسباب سماوية وأرضية، قد رتبها على ترتيب بديع، تقضيه الحكمة التي عليها بني أمر التكوين، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل بذلك؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي: حجتكم، عقلية أو نقلية، على إشراككم، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أن مع الله إلها آخر.
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، بعد ما حقق سبحانه انفراده بالألوهية، ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة، عقَّب بذكر ما هو من لوازمه، وهو اختصاصه بعلم الغيب، تكميلاً لما قبله، وتمهيداً لما بعده من أمر البعث. قالت عائشة- رضى الله عنها-: (منْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ أعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيةَ، والله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.
دخل على الحجاج مُنجِّم، فأخذ الحجاج حصياتٍ، قد عدَّها، فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب، فأصاب، ثم اغتفله الحجاجُ، فأخذ حصيات لم يعدها، فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب، فأخطأ، فقال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها في يدك، فقال: ما الفرق بينهما؟ فقال: إن ذلك أحصيتَه فخرج من حَد الغيب، فحسبتُ فأصبتُ، وإن هذا لم تعرف عدته، فصار غيباً، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى.
ومن جملة الغيب: قيام الساعة، ولذلك قال: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي: متى ينتشرون من القبور، مع كونه مما لا بد لهم منه، ومن أهم الأمور عندهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الرزق ثلاثة: رزق الأشباح، ورزق القلوب، ورزق الأرواح، فرزق الأشباح معلوم، ورزق القلوب:
اليقين والطمأنينة، ورزق الأرواح: المشاهدة والمكالمة. قُل من يرزق قلوبكم وأرواحكم من سماء غيب القدرة وأرض الحكمة؟ فلا رازق سواه، ولا برهان على وجود ما سواه، ولا يعلم الغيب إلا الله. أو: من كان وجوده بالله قد غاب في نور الله، فَشَهِدَ الغيب بالله. والله تعالى أعلم.
ولمّا نفى عنهم علم الغيب، والشعور بمآلهم، أضرب عنه، وبيّن أن ما تناهى فيه أسباب العلم به، وهو مجىء القيامة، لم يحصل لهم به يقين، فضلا عن غيره، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
قلت: قرأ الجمهور: «ادّارَكَ» بالمد، وأصله: تدارك، فأدغمت التاء في الدال، ودخلت همزة وصل. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «ادّرك»، وأصله: افتعل، بمعنى تفاعل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «أدرك» أفعل.
يقول الحق جلّ جلاله: بَلِ ادَّارَكَ أي: تدارك وتناهى وتتابع أسباب عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي:
بالآخرة، أو: في شأنها، بما ذكرنا لهم من البراهين القطعية، والحجج العقلية، على كمال قدرتنا. ومع ذلك لم يحصل لهم بها يقين، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها، والمعنى: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة لا ريب فيها قد حصلت لهم، ومكّنوا من معرفته، بما تتابع لهم من الدلائل. ومع ذلك لم يحصل لهم شيء من علمها، بل شكّوا. أو: أدرك علمهم، بمعنى: يدركهم في الآخرة حين يرون الأمر عياناً، ولا ينفعهم ذلك. قاله ابن عباس وغيره. بَلْ هُمْ اليوم فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ لا يُبصرون دلائلها، ولا يلتفتون إلى العمل لها.
والإضرابات الثلاثة تنزيل لأحوالهم، وتأكيد لجهلهم. وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة مع تتابع أسباب علمها، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، ثم بما هو اسوأ حالاً، وهو العمى، وجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، فلذا عداه ب «من» دون «عن» لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التفكر والتدبر.
ووجه اتصال مضمون هذه الآية- وهو وصف المشركين- بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء بذلك: هو أنه لما ذكر أن
212
العباد لا يعلمون الغيب، وكان هذا بياناً لعجزهم، ووصفاً لقصور علمهم، وصل به أن عندهم عجزاً أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه- وهو وقت بعثهم، ومجازاتهم على أعمالهم: لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه، لا محالة. هـ. قاله النسفي.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ أي: أنُخرج من القبور أحياء إذا صرنا تراباً وآباؤنا. وتكرير الاستفهام فى «أئذا» و «أإنا» في قراءة عاصم، وحمزة وخلف، إنكار بعد إنكار، وجحود بعد جحود، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والعامل في (إذا) : ما دلّ عليه لَمُخْرَجُونَ وهو: نُخرج، لا مخرجون، لموانع كثيرة. والضمير فى «أإنا» لهم ولآبائهم.
لَقَدْ وُعِدْنا هذا البعث نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، قدّم هنا «هذا» على «نحن» وفي المؤمنون «١» قدّم «نحن» ليدل هنا أن المقصود بالذكر هو البعث وثمَّ المبعوث لأن هنا تكررت أدلة البعث قبل هذا القول كثيراً، فاعتنى به، بخلاف «ثم». ثم قالوا: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ: ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم. وقد كذبوا، ورب الكعبة.
الإشارة: العلم بالآخرة يَقْوى بقوة العلم بالله، فكلما قوي اليقين في جانب الله قوي اليقين في جانب ما وعد الله به من الأمور الغيبية، فأهل العلم بالله الحقيقي أمور الآخرة عندهم نُصب أعينهم، واقعة في نظرهم لقوة يقينهم. وانظر إلى قول حارثة رضي الله عنه حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حقيقة إيمانك؟» فقال: يا رسول الله عزَفَتُ الدنيا من قلبي، فاستوى عندى ذهبها ومدرها. ثم قال: وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وأهل النار يتعاوون فيها، فقال له صلى الله عليه وسلم: «قد عرفت فالزَم، عَبدٌ نوّر اللهُ قلبَه». اللهم نَوِّر قلوبنا بأنوار معرفتك الكاملة، حتى نلقاك على عين اليقين وحق اليقين. آمين.
ثم أمرهم بالاعتبار بمن قبلهم، فقال:
قُلْ سِيرُوا...
(١) فى قوله تعالى، حكاية لقول الذين لا يؤمنون بالآخرة: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ.. الآية ٨٣.
213

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ بسبب تكذيبهم للرسل- عليهم السلام- فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله- عزّ وجل- وحده، واليوم الآخر، الذي ينكرونه، فإن في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولي البصائر. وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين، لطف بالمسلمين، بترك الجرائم، وحث لهم على الفرار منها، كقوله: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ «١» ومِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا «٢».
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي: لأجل أنهم لم يتبعوك، ولم يُسْلِموا فَيَسْلَمُوا. وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ في حرج صدر مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم وكيدهم، أي: فإن الله يعصمك من الناس. يقال: ضاق ضيقاً- بالفتح والكسر.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي: وعد العذاب التي تعدنا، إن كنت من الصادقين في إخبارك بإتيانه على من كذّب. والجملة باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك. قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي: تبعكم ولحقكم. استعجلوا العذاب، فقيل لهم: عسى أن يكون رَدِفَ، أي: قرب لكم بعضه. وهو عذاب يوم بدر، واللام زائدة للتأكيد. أو: ضمّن الفعل معنى يتعدّى باللام، نحو: دنا لكم، أو: أزف لكم. وعسى ولعل وسوف، في وعد الملوك ووعيدهم، يدل على صدق الأمر، وجدّه، وعلى ذلك جرى وعد الله، ووعيده.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي: إفضال وإنعام على كافة الناس. ومن جملة إنعامه: تأخير العقوبة عن هؤلاء، بعد استعجالهم لها، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي: أكثرهم لا يعرفون حق النعمة، ولا يشكرونها، فيستعجلون بجهلهم وقوع العذاب، كدأب هؤلاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار، ساعة منه أفضل من عبادة سبعين سنة. ومن أجلّ ما يتفكر فيه الإنسان: ما جرى على أهل الغفلة والبطالة والعصيان، من تجرع كأس الحِمام، قبل النزوع والإقلاع عن الإجرام، فندّموا حيث لم ينفع الندم، وقد زلَّت بهم القدم، فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم من الأعمال الصالحات رجعوا. فليعتبر الإنسان بحالتهم، لئلا يجري عليه ما جرى عليهم، وليبادر بالتوبة إلى ربه، وليشديده على أوقات عمره، قبل أن تنقضي في البطالة والتقصير، فيمضي عمره سبهللاً. ولله در القائل:
(١) من الآية ١٤ من سورة الشمس. [.....]
(٢) من الآية ٢٥ من سورة نوح.
السباق السباق قولا وفعلا حذر النفس حسرة المسبوق
قال أبو على الدقاق رضي الله عنه: رؤي بعضهم مجتهداً، فقيل له في ذلك، فقال: ومن أولى مني بالجهد، وأنا أطمع أن ألحق الأبرار الكبار من السلف. هـ. ويقال للواعظ أو للعارف، إذا رأى إدبار الناس عن الله، وإقبالهم على الهوى:
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.. الآية.
ثم ذكر سعة علمه وحلمه، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
قول الحق جل جلاله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ أي: تخفي صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي: يُظهرون من القول. وليس تأخير العذاب عنهم لخفاءَ حالِهم عليه، ولكن له وقت مقدر، فيمهلهم إليه. أو: إن ربك ليعلم ما يخفون وما يُعلنون من عداوتك ومكايدهم لك، وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه، وقرئ بفتح [التاء] «١»، من: كننت الشيء: سترته.
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي: من خافية فيهما إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ في اللوح المحفوظ.
يُسمى الشيء الذي يخفى ويغيب غائبه وخافية. والتاء فيهما كالتاء في العاقبة والعافية. ونظائرهما، وهي أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين، وتاؤهما للمبالغة، كالرواية. كأنه قال: وما من شيء شديد الغيوبة إلا وقد علمه الله، وأحاط به، وأثْبتَه في اللوح المحفوظ. ومن جملة ذلك: تعجيل عقوبتهم، ولكن لكل شيء أجل معلوم، لا يتأخر عنه ولا يتقدم. ولولا ذلك لعَجَّل لهم ما استعجلوه. والمُبين: الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة. أو:
مبين لما فيه من تفاصيل المقدورات. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية حثٌّ على مراقبة العبد لمولاه، فى سره وعلانيته، فلا يفعل ما يخل بالأدب مع العليم الخبير، ولا يجول بقلبه فيما يستحيي أن يظهره لغيره، إلا أن يكون خاطراً ماراً، لا ثبات له، فلا قدرة للعبد على دفعه. وبالله التوفيق.
(١) فى الأصول [الكاف]. قلت: قرأ الجمهور (ما تكن) بضم التاء من: أكن الشيء: أخفاه. وقرأ ابن محيصن وحميد: بفتح التاء وضم الكاف، من: كن الشيء: ستره. انظر الإتحاف (٢/ ٣٣٤) والبحر المحيط (٧/ ٩٠).
ثم مدح كتابه المشتمل على جلّ العلوم الغيبية، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٨١]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ يُبين لهم أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين الذي اشتبه عليهم. ومن جملة ما اختلفوا فيه: المسيح، وتحزّبوا فيه أحزاباً، وركبوا متن العند والغلو في الإفراط والتفريط، ووقع بينهم المناكرة في أشياء، حتى لعن بعضُهم بعضاً. وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه، لو أنصفوا وأخذوا به، وأسلموا. يريد اليهود والنصارى، وإن كانت الآية خاصة باليهود. وَإِنَّهُ- أي: القرآن لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ على الإطلاق، فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولاً أولياً.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي: بين بني إسرائيل، أو: بين من آمن بالقرآن ومن كفر به، بِحُكْمِهِ أي:
بعدله لأنه لا يحكم إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكماً. أو: بحكمته، ويدلّ عليه قراءة مَن قرأ «بِحِكَمه» : جمع:
حِكمة «١» لأن أحكامه تعالى كلها حِكَم بديعة. وَهُوَ الْعَزِيزُ، فلا يُردّ حُكمه وقضاؤه، الْعَلِيمُ بجميع الأشياء، ومن جملتها: من يقضي له ومن يقضي عليه. أو: العزيز في انتقامه من المبطلين، العليم بالفصل بين المختلفين.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، الفاء لترتيب ما قبله من ذكر شئونه- عز وجل- فإنها موجبة للتوكل عليه، داعية إلى الأمر به، أي: فتوكل على الله الذي هذا شأنه. وهذه أوصافه، فإنه موجب لكل أحد أن يتوكل عليه، ويفوض جميع أموره إليه. أو: فتوكل على الله ولا تُبالي بأعداء الدين. إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، تعليل للأمر بالتوكل بأنه الحق الأبلج، وهو الدين الواضح الذي لا يتطرقه شك ولا ريب.
(١) وهى قراءة جناح بن حبيش، كما ذكر صاحب البحر المحيط (٧/ ٩١).
216
وفيه تنبيه على أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله في نصرته. وقد تضمنت الآية من أولها ثناء على القرآن، بنفي ما رموه من كونه أساطير الأولين. ثم وصفه بكونه هدى ورحمة للمؤمنين. ثم توعد الرامين له بحُكمه عليهم بما يستحقونه، ثم أمره بالتوكل عليه في كفايته أمرهم ومكرهم.
ثم بيّن سبب طعنهم في القرآن، بأنهم ليس فيهم قابلية الإدراك لكونهم موتى صماً، لا حياة لهم ولا سمعَ استبصار، قال تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، شُبِّهوا بالموتى لعدم تأثرهم بما يُتلى عليهم من القوارع والزواجر، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ أي: الدعوة إلى أمر من الأمور إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ عنك. وتقييد النفي بالإدبار لتكميل التنبيه وتأكيد النفي، فإنهم مع صمَمهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي، مولون على أدبارهم. ولا ريب أن الأصم لا يسمع الدعاء، مع كون الداعي بمقابلة صماخة، قريباً منه، فكيف إذا كان خلفه بعيداً منه؟.
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ هدايةً موصلةً إلى المطلوب، كما في قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «١» فإن الاهتداء منوط بالبصر في الحس، وبالبصيرة في المعنى. ومن فقد هما لا يتصور منه اهتداء، و «عن» متعلق بهادي باعتبار تضمنه معنى الصرف، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية.
إِنْ تُسْمِعُ أي: ما تُسمع سماعاً يجدي السامع وينفعه إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي: من عَلِمَ الله أنهم يؤمنون بآياته. فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون، من قوله: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «٢» أي: جعله سالماً لله خالصاً. جعلنا الله ممن أسلم بكليته إليه. آمين.
الإشارة: إذا وقع الاختلاف في الأحكام الظاهرة، وهي ما يتعلق بالجوارح الظاهرة، رُجع فيه إلى الكتاب العزيز، أو السُنَّة المحمدية، أو الإجماع، أو القياس، وإن وقع الاختلاف في الأمور القلبية، وهي ما يتعلق بالعقائد التوحيدية، من طريق الأذواق أو العلوم، يُرجع فيه إلى أرباب القلوب الصافية، فإنه لا يتجلى فيها إلا ما هو حق وصواب. فلا يمكن قلع عروق الشكوك والأوهام، والوساوس من القلوب المُسوسة، إلا بالرجوع إليهم وصحبتهم، ومن جمع بين الظاهر والباطن، رجع إليه في الأمرين معاً.
ذكر ابن الصباغ أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى رضي الله عنه كان يُناظر جماعة من المعتزلة، ليردهم إلى الحق، فدخل عليه رجل من القراء، يُقال له: أبو مروان، فسلَّم عليه، فقال له الشيخ: اقرأ علينا آيةً من كتاب الله، فأجرى الله على
(١) من الآية ٥٦ من سورة القصص.
(٢) من الآية ١١٢ من سورة البقرة.
217
لسانه، من غير قصد، قوله تعالى: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إلى قوله: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ فتهلل وجه الشيخ، وقال: ما بعد بيان الله من بيان، فتابوا واهتدوا إلى الحق، ورجعوا عن مذهبهم، وشفا الله قلوبهم من مرض الاعتزال. فهذا شأن العارفين بالله، جعلهم الله شفاء من كل داء، لكن الأعمى والأصم لا يُبصر الداعي، ولا يَسمع المنادي. ولذلك قال تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى.. إلخ: قال الورتجبي: الميت: من ليس له استعداد لقبول المعرفة الحقيقية بغير الدلائل، والأصم: من كان أذن قلبه مسدودة بغواشي القهر، ومَن كان بهذه الصفة لا يقبل إلا ما يليق بطبعه وشهواته. هـ.
ثم ذكر بعض مقدمات الساعة، التي كانوا يستعجلونها، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٢]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي: وقع مصداق القول الناطق بمجيء الساعة، بأن قَرُب إتيانها، وظهرت أشراطها، فأراد بالوقوع: دنوه واقترابه، كقوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ... «١» رُوي أن ذلك حين ينقطع الخير، ولا يُؤمر بمعروف ولا يُنهى عن منكر، ولا يبقى منيب ولا تائب. و «وقع» : عبارة عن الثبوت واللزوم، وهذا بمنزلة: حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ «٢» أي: وإذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي، وأراد أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب، أخرج لهم دابة من الأرض. وفي الحديث: «إن الدابة، وطلوع الشمس من المغرب، من أول الأشراط» «٣».
فلا ينبغي لهؤلاء الكفرة ترك الإيمان حيث ينفعهم، ويتطلبون وقوع الساعة الموعود بها، التي لا ينفع الإيمان لمن لم يكن آمن، مع ظهور مقدماتها، فضلاً عنها. فإذا وقع الوعد وَسَمَت الدابة مَن لم يؤمن بِسمة الكفر، وكان ذلك طبعاً وختماً، فلا يقبل منه إيمان، ويقال له: أيها الكافر لم تؤمن بالآيات غيباً، فلا يقبل منك بعد رؤيتها عينا.
(١) الآية الأولى من سورة النحل.
(٢) من الآية ١٩ من سورة الزمر.
(٣) أخرج مسلم فى (الفتن، باب خروج الدجال، ٤/ ٢٢٦٠، ح ٢٩٤١) عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن أول الآيات خروجا: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا».
وهذا معنى قوله: أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ، وهي الجساسة، طولها ستون ذراعاً، لا يدركها طالبٌ، ولا يفوتها هاربٌ، لها أربع قوائم، وزغب، وريش، وجناحان «١». وقيل: لها رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن أيّل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرّة، وذنب كبش، وخف بعير، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً، تخرج من الصفا فتكلّمهم بالعربية، فتقول: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي: بخروجي لأن خروجها من الآيات، وتقول: ألا لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: «تأتي الدابة المؤمن، فتُسلم عليه، وتأتي الكافر فتخطه- أي تسمه- في وجهه».
وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «تَخْرُجُ الدَّابةُ مَعها خاتمُ سُليمانَ، وعَصا مُوسى، فتجلوا وَجْهَ المُؤمِن، وَتَخْتُم أنْفَ الكافر بالخاتم، حتّى أَنَّ أَهْلَ الحِواء «٢» مجْتَمِعُون، فيقول: هاها يا مُؤمْن، ويقول: هاها يا كافِرُ» «٣».
وهي بعد نزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وإذا وقع القول على قوم بإسدال الحجاب، وإدامة غلق الباب، أخرج لهم جاهل بالله، يكلمهم بادعاء التربية، فيأخذون عنه، ويقتدون به. قال في المباحث:
واعلم بأن عُصْبَةَ الجُهَّالِ بَهَائِمٌ في صور الرجال
فالجاهل بالله دابة في الأرض: أن الناس كانوا بآياتنا الدالة علينا- وهم العلماء بالله، أهل الشهود والعيان- لا يُوقنون بوجودهم، ولا يعرفون وجود الخصوصية عندهم. فإذا أراد الله تعب عبد، وإبقاءه في غم الحجاب، ألقاه إلى شيخ جاهل بالله، أو: إلى ميت يتخذه شيخاً، ويفنى فى محبته، فلا يُرجى فلاحه في طريق الخصوصية، مادام مقيداً به، فإن تركه واقتدى بالعارف الحي، فقد هيأه لرفع الحجاب. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قيام الساعة، بعد ذكر بعض أشراطها، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
(١) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (٢/ ٨٩١) للثعلبى، من حديث حذيفة.
(٢) الحواء: جماعة بيوت الناس إذا تدانت، والجمع: أحوية. انظر اللسان (٢/ ١٠٦٣، مادة: حوا).
(٣) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٢/ ٢٩٥) والترمذي وحسنه فى (التفسير، سورة النمل، ٥/ ٣١٨، ح ٣١٨٧) بلفظ [الخوان] بدل [الحواء]. وأخرجه ابن ماجة فى (الفتن، باب دابة الأرض ٢/ ١٣٥١ ح ٤٠٦٦). من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
219
قلت: «ماذا» تأتي على أوجه أحَدُها: أن تكون «ما» : استفهاماً، و «ذا» : إشارة، نحو: ماذا التواني.
الثاني: أن تكون «ما» : استفهاماً، و «ذا» : موصولة، كقول لبيد:
ألا تَسْأَلانِ المرْءَ ماذا يُحاوِلُ؟ أَنَحْبٌ فَيُقْضَى، أَمْ ضَلالٌ وباطِلُ؟
الثالث: «ماذا» كله: استفهام على التركيب، كقولك: لماذا جئت؟. الرابع: أن تكون «ماذا» كله: اسم جنس بمعنى شيء، أو: بمعنى «الذي» كقوله: دعني ماذا علمت؟، وتكون «ذا» زائدة. انظر القاموس.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً، الفوج: الجماعة الكثيرة.
و «من» : للتبعيض، أي: واذكر يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا، «مِن» : لبيان الفوج، أي: فوجاً مكذبين بآياتنا، المنزلة على أنبيائنا، فَهُمْ يُوزَعُونَ: يُحبس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا، حين يُساقون إلى موضع الحساب. وهذه عبارة عن كثرة العدد، وتباعد أطرافهم، والمراد بهذا الحشر: الحشر للعذاب، والتوبيخ والمناقشة، بعد الحشر الكلي، الشامل لكافة الخلق. وعن ابن عباس: (المراد بهذا الفوج: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة، يُساقون بين يدي أهل مكة) وهكذا يُحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار.
حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف السؤال والجواب، والمناقشة والحساب، قالَ أي: الله عزّ وجل، موبخاً لهم على التكذيب: أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي المنزلة على رسلي، الناطقة بلقاء يومكم، وَالحال أنكم لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أي: أكذبتم بها في بادئ الرأي، من غير فكر، ولا نظر، يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق حتماً. وهذا نص في أن المراد بالآيات في الموضعين هي الآيات القرآنية. وقيل: هو عطف على «كذبتم»، أي: أجمعتم بين التكذيب وعدم التدبر فيها. أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ حيث لم تتفكروا فيها، فإنكم لم تُخلقوا عبثاً. أو: أيُّ شيء كنتم تعملون، استفهام، على معنى استبعاد الحجج، أي: إن كانت لكم حجة وعمل فهاتوا ذلك. وخطابهم بهذا تبكيت لهم. ثم يُكبون في النار، وذلك قوله تعالى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي: حلَّ بهم العذاب، الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله، بِما ظَلَمُوا: بسبب ظلمهم، الذي هو تكذيبهم بآيات
220
الله فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ لانقطاعهم عن الجواب بالكلية، وابتلائهم بشغل شاغل من العذاب الأليم، يشغلهم العذاب عن النطق والاعتذار.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث، وما ينشأ بعد ذلك، بقوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ، الرؤية هنا قلبية، أي: ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالنوم والقرار. وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي: يُبصروا، بما فيه من الإضاءة، طرق التقلب في أمور المعاش. وبولغ فيه، حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس، حالاً له، ووصفاً من أوصافه، بحيث لا ينفك عنها، ولم يسلك في الليل هذا المسلك لأن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير النهار في الإبصار. قاله أبو السعود.. قلت: وقد جعله كذلك في قوله:
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً «١» فانظره.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ كثيرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يُصدِّقون، فيعتبرون، فإنَّ من تأمل في تعاقب الليل والنهار، واختلافهما على وجوه بديعة، مبنية على حِكَمٍ رائقة، تحار في فهمها العقول، وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل، المحاكية للموت، بضياء النهار، المضاهي للحياة، وعاين في نفسه غلبة النوم، الذي هو يضاهي الموت، وانتباهه منه، الذي هو يضاهي البعث، قضى بأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
قال لقمانُ لابنه: يَا بُني إن كنت تشك في الموت فلا تنم، فكما أنك تنام قهراً كذلك تموت، وإن كنت تشك في البعث فلا تنتبه، فكما أنك تنتبه بعد نومك كذلك تُبعث بعد موتك هـ. وبالله التوفيق.
الإشارة: يوم نحشر من كل إمة فوجاً يُنكر على أهل الخصوصية، ممن يكذب بآياتنا، وهم العارفون بنا، الدالون علينا، المعرِّفون بنا، فهم يُوزعون: يُجمعون للعتاب، حتى إذا جاءوا إلينا بقلب سقيم، قال: أكذَّبتم بأوليائي، الدالين على حضرتي، بعد التطهير والتهذيب، ولم تُحيطوا بهم علماً، منعكم من ذلك حب الرئاسة والجاه، أم ماذا كنتم تعملون؟. ووقع القول عليهم بالبقاء مع عامة أهل الحجاب، فهم لا ينطقون، ولا يجدون اعتذاراً يُقبل منهم.
ألم يعلموا أنهم يموتون على ما عاشوا عليه، ويُبعثون على ما ماتوا عليه، فهلاّ صحبوا أهل اليقين الكبير، - وهو عين اليقين أو حق اليقين، المستفاد من شهود الذات الأقدس- فيكتسبوا منهم اليقين، حتى يموتوا على اليقين ويُبعثوا على اليقين. وبالله التوفيق.
(١) من الآية ٩٦ من سورة الأنعام. وقد سار المفسر على قراءة «جاعل».
221
ثم ذكر النفخ في الصور، وما يكون بعده من الأهوال، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٧ الى ٩٠]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل- عليه السلام- عن أبى هريرة رضي الله عنه إن رسول الله ﷺ قال: «لما فرغ الله تعالى من خلق السموات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخص بصره إلى العرش، حتى يؤمر، قال: قلت: كيف هو؟ قال:
عظيم، والذي نفسي بيده إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض»
وفي حديث آخر: «فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة، فيؤمر بالنفخ فيه، فينفخ نفخة، لا يبقى عندها في الحياة أحد، غير من شاء الله تعالى وذلك قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «١»، ثم يؤمر بأخرى، فينفخ نفخه لا يبقى معها ميت إلا بُعث». وفي رواية: «فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح، كأنها النحل، فتملأ ما بين السماء والأرض، وتأتي كل روح إلى جسدها، كما تأتي النحل إلى وكرها. وذلك قوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «٢».
قال أبو السعود: والذي يستدعيه النظم الكريم أن المراد بالنفخ هاهنا: النفخة الثانية، وفي الفزع في قوله تعالى:
فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ما يعتري الكل عند البعث والنشور، بمشاهدة الأمور الهائلة، الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، من الرعب والتهيب، الضروريين، الجبلين في كل نفس. وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف عليه مضارعاً للدلالة على تحقق وقوعه. هـ. وظاهره أن النفخ مرتان فقط، واعتمده القرطبي وغيره، وصحح ابن عطية أنها ثلاث، ورُوي ذلك عن أبي هريرة: نفخة الفزع وهي فزع حياة الدنيا، وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور.
(١)، (٢) من الآية ٦٨ من سورة الزمر.
222
وقوله: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أي: ألاَّ يفزع، وهو من ثبّت الله قلبه، فإن قلنا: المراد بها النفخة الثانية، فالمستثنى: هم من سبقت لهم الحسنى، بدليل قوله: لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «١» وإن قلنا: هي نفخة الصعق، فالمستثنى: قيل: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، لكن يموتون بعد صعق الخلق. وقيل: الحور وحَملةُ العرش، وإن قلنا: المراد نفخة الفزع في الدنيا، فالمستثنى: أرواح الأنبياء والأولياء والشهداء والملائكة.
ثم قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ «٢» بصيغة الماضي، أي: وكل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروه في موقف الحساب، بين يدي الله جل جلاله، والسؤال والجواب. أو: وكل حاضروه، على قراءة إسم الفاعل، وأصله:
آتيوه، حال كونهم داخِرِينَ: صاغرين أذلاء.
وَتَرَى الْجِبالَ حال الدنيا تَحْسَبُها جامِدَةً واقفة ممسّكة عن الحركة، من: جمد في مكانه: إذا لم يبرح. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي: مراً مثل مر السحاب، التي تسيرها الرياح، سيراً حثيثاً، والمعنى: أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد لِعظمها، وهي تسير سيراً سريعا، كالسحاب إذا ضربته الرياح، وهكذا الأجرام العظام، إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها. ومثال ذلك: الشمس لعظم جرمها وبُعدها لا تتبين حركتها، مع كونها أسرع من الريح.
والذي في حديث أبي هريرة: أنَّ تسيير الجبال يكون بعد نفخة الفزع وقبل الصعق. ونص الحديث- بعد كلام تقدم: «فيأمر إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله، فيأمره فيمدها- أي: النفخة- ويطيلها، فيُسير الله الجبال، فتمر مر السحاب، فتكون سراباً، وتَرْتج الأرض بأهلها رجاً، فتكون كالسفينة تضربها الأمواج، وتقلبها الرياح، وهو قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ «٣» الآية، فتميد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين، هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار هاربة، فتلقاها الملائكة تضرب وجهها وأدبارها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضاً، وهو قوله: يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ.. الآية «٤» فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض، من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً، لم يروا مثله. ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والأموات يومئذٍ لا يعلمون بشيء من ذلك».
قال أبو هريرة: قلت: يا رسول الله فمن استثنى الله من الفزع؟ قال: «أولئك الشهداء».
(١) من الآية ١٠٣ من سورة الأنبياء. [.....]
(٢) قرأ حفص، وحمزة، وخلف: «أتوه» بقصر الهمزة، وفتح التاء، فعلا ماضيا، وقرأ الباقون بالمد وضم التاء «آتوه» اسم فاعل، مضافا للضمير.. انظر الإتحاف (٢/ ٣٣٥).
(٣) الآية السادسة من سورة النازعات.
(٤) من الآية ٣٣ من سورة غافر.
223
قلت: ومثلهم الأنبياء والأولياء إذ هم أعظم منهم، وأحياء مثلهم. ثم قال عليه الصلاة والسلام: «وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، وهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه». وهو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إلى قوله: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
«١» فيمكثون طويلاً، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل، فينفخ نفخة الصعق، فيصعق مَن في السموات، ومَن في الأرض، إلا من شاء الله، فإذا اجتمعوا في البرزخ، جاء ملك الموت إلى الجبار، فيقول: قد مات أهل السموات والأرض، إلا من شئتَ، فيقول الله تعالى، وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي القيوم، الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وبقيتُ أنا، فيقول تعالى: فليمتْ جبريل وميكائيل، فينطق الله العرش، فيقول: أيّ رب يموت جبريل، وميكائيل! فيقول: اسكت، إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي، فيموتان. ثم يأتي ملك الموت الجبارَ، فيقول: أي رب قد مات جبريل وميكائيل، فيقول- وهو أعلم: من بقي؟ بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي إسرافيل، وبقيتُ أنا. فيقول: ليمتْ حملة العرش، فيموتون، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يقول: ليمت إسرافيل، فيموت، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب قد مات حملة عرشك، فيقول، وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، فيقول: أنت خلق من خلقي، خلقتك لِما رأيتَ، فمتْ، فيموت. فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يُولد، ولم يكن له كفواً أحد، فكان آخراً، كما كان أولاً، طوى السماء طي السجل للكتاب، فيقول: أنا الجبار، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فلا يجيبه أحد، ثم يقول تعالى: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ثم تُبدل الأرض غير الأرض، والسموات يبسطها بسطاً، ثم يمدها مدّ الأديم العكاظي، لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا.
ثم قال: ثم ينزل ماء من تحت العرش، كمنيّ الرجل، ثم يأمر الله السحاب أن تمطر أربعين يوماً، حتى يكون فوقهم اثني عشر ذراعاً، ويأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل، حتى إذا تكاملت أجسادهم، كما كانت، قال الله تعالى: ليحيَى حملة العرش، فيحيون، ثم يقول الله تعالى: ليحيى جبريل وميكائيل وإسرافيل، فيحيون، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل، فيأخذ الصور فيضعه على فيه، ثم يدعو الله تعالى الأرواح، فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نوراً، والأخرى ظلمة، فيقبضها، ثم يلقيها في الصور، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح، كأنها النحل، وقد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول تعالى: لترجعن كل روح إلى جسدها، فتدخل الأرواح الخياشيم، ثم تمشي في الأجساد، مشي السم في اللديغ، ثم تنشق الأرض عنهم سراعاً، فأنا أول من
(١) الآيتان: ١- ٢ من سورة الحج
224
تنشق عنه، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون، عراةً، حفاةً، غُرلاً، مهطعين إلى الداعي، فيقول الكافر: هذا يوم عسير. نقله الثعلبي «١».
ثم قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ، هو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله، أي: صَنَعَ الله ذلك صُنعاً، على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور، وما ترتب عليه جميعاً. قصد به التنبيه على عِظَم شأن تلك الأفاعيل، وتهويل أمرها، والإيذان بأنها ليست بطريق الإخلال بنظم العالم، وإفساد أحوال الكائنات، من غير أن تدعو إليه داعية، بل هي من بدائع صنع الله تعالى، المبنية على أساس الحكمة، المستتبعة للغايات الجليلة، التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع، على الوجه المتين، والنهج الرصين، كما يُعرب عنه قوله: الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي: أحكم خلقه وسوّاه، على ما تقتضيه الحكمة.
وقوله تعالى: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ: تعليل لكون ما ذكر صنعاً محكماً له تعالى لبيان أن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها، مما يدعو إلى إظهارها وبيان كيفياتها، على ما هي عليه من الحسن والسوء، وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرهم.
وقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها: بيان لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أجزيتها عليها، أي: من جاء من أولئك الذين أوتوه بالحسنة فله خير منها، باعتبار أنه أضعفها بعشر، أو: باعتبار دوامه وانقضائها، وعن ابن عباس رضي الله عنه: «الحسنة: كلمة الشهادة» «٢» وَهُمْ أي: الذين جاءوا بالحسنات مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ أي: من فزع هائل، وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب، بعد تمام المحاسبة، وظهور الحسنات والسيئات. وهو المراد في قوله تعالى: لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «٣».
وقال ابن جريج: حين يُذبح الموت ويُنادى: يا أهل الجنة خلود لا موت، ويا أهل النار خلود لا موت.
فيكون هؤلاء مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ، أي: يوم إذ ينفخ في الصور وما بعده آمِنُونَ لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل، ولا يلحقهم ضرره أصلاً. وأما الفزع الذي يعتري كل من السموات ومَن في الأرض، غير ما استثناه الله تعالى، فإنما هو التهيب والرعب الحاصل في ابتداء النفخة، من معاينة فنون الدواهي والأهوال، ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة، وإن كان آمناً من لحوق الضرر. قال جميعه أبو السعود.
(١) انظر تفسير البغوي (٦/ ١٨٢).
(٢) انظر تفسير الطبري (٢٠/ ٢٢).
(٣) من الآية ١٠٣ من سورة الأنبياء.
225
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ قيل: هو الشرك. فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، أي: كُبوا فيها على وجوههم منكوسين. ويقال لهم: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الشرك والمعاصي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من أراد أن يكون ممن استثنى الله من الفزع والهول، فليكن قلبه معموراً بالله، ليس فيه غير مولاه، ولا مقصود له في الدارين إلا الله، وظاهره معموراً بطاعة الله، متمسكاً بسنة رسول الله، هواه تابع لما جاء به مِن عند الله، لا شهوة له إلا ما يقضي عليه مولاه، فبهذا ينخرط في سلك أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين سبقت لهم الحسنى، لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. جعلنا الله من خواصهم، بمنِّه وكرمه، آمين.
وقوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً... الآية. كذلك قلوب الراسخين في العلم بالله، لا تؤثر فيهم هواجم الأحوال والواردات الإلهية، بل تهزهم في الباطن، وظواهرهم ساكنة، كالجبال الراسية، قيل للجنيد: قد كنت تتواجدُ عند السماع، والآن لا يتحرك فيك شيء؟ فتلى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ.
وقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي: بالخصلة الحسنة، وهي المعرفة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وهو دوام النظرة والحبرة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ هي الجهل بالله، فينكس وجهه عن مواجهة المقربين. والعياذ بالله.
ولما بلّغ الرسول ﷺ ما أمره الله من بيان عواقب الأمور، تبرأ منهم، فقال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
يقول الحق جلّ جلاله: قل لكفار قريش، بعد تبيين أحوال المبعث، وشرح أحوال القيامة، بما لا مزيد عليه: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أي: مكة، أي: إنما أمرني ربي أن أعبده، وأستغرق أوقاتي في مراقبته ومشاهدته، غير مبالٍ بكم، ضللتم أم رشِدتم، وما عليّ إلا البلاغ، وقد بلغتكم وأنذرتكم. وتخصيص مكة
226
بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها، الَّذِي حَرَّمَها أي: جعلها حرماً آمناً، يأمن الملتجأ إليها، ولا يختلي خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفّر صيدها. والتعرض لبيان تحريمه إياها تشريف لها بعد تشريف، وتعظيم إثر تعظيم، مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر بعبادة ربها، وأنهم مُكلفون بذلك، كما في قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «١». ومن الإشارة إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها، ألا يُرى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها، ويلحد فيها بإثم، قد استمروا فيها على تعاطي أفجر الفجور، وأشنع الإلحاد، حيث تركوا عبادة ربها، ونصبوا الأوثان، وعكفوا على عبادتها، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون. قاله أبو السعود.
ثم قال تعالى: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقاً وملكاً وتصرفاً، من غير أن يشاركه أحد في شيء من ذلك، تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على إن إفراد مكة بالإضافة لما ذكر من التفخيم والتشريف، مع عموم الربوبية لجميع الموجودات.
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين له، الثابتين على ما كنا عليه، من ملة الإسلام والتوحيد. الذين أسلموا وجوههم له تعالى، وانقادوا إليه بالكلية.
وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي: أُواظب على تلاوته، لتنكشف حقائقه الرائقة، المخزونة فى تضاغيفه، شيئاً فشيئاً.
أو: على تلاوته على الناس بطريق تكرير الدعوة، وتثنية الإرشاد، فيكون ذلك تنبيهاً على كفايته في الهداية والإرشاد، من غير حاجة إلى إظهار معجزة أخرى.
فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي: فمن اهتدى بالإيمان به، والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام، فإنما منافع هدايته عائدة إليه، لا إلى غيره. وَمَنْ ضَلَّ بالكفر به، والإعراض عن العمل بما فيه فَقُلْ في حقه: إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وقد خرجتُ من عهدة الإنذار، فليس عليَّ من وبال ضلالته شيء. قال الصفاقسي: جواب «من» : محذوف، يدل عليه ما قبله، أي: فوبال ضلاله عليه، أو: يكون الجواب: «فقل»، ويقدر ضمير عائد من الجواب إلى الشرط لأنه اسم غير ظرف، أي: من المنذرين له. هـ.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أفاض عليّ من نعمائه، التي أجلُها نعمة النبوة، المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية، ووفقني لتحمل أعبائها، وتبليغ أحكامها إلى كافة الورى، بالآيات البينة والبراهين النيرة، سَيُرِيكُمْ آياتِهِ قطعاً في الدنيا، التي وعدكم بها، كخروج الدابة وسائر الأشراط، فَتَعْرِفُونَها أي: فتعرفون أنها آيات
(١) الآيتان: ٣- ٤ من سورة قريش.
227
الله، حين لا تنفعكم المعرفة، أو: سيضطركم إلى معرفة آياته، والإقرار بأنها آيات الله حين ظهورها، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، بل محيط بعمل المهتدي والضال، غير غافل، فيجازي كلا بما يستحقه.
وتخصيص الخطاب أولاً به- عليه الصلاة والسلام- وتعميمه ثانياً للكفرة تغليباً، أي: وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم- أيها الكفرة- من السيئات، فيجازي كلاً بعمله. ومن قرأ بالغيب «١» فهو وعيد محض، أي: وما ربك بغافل عن أعمالهم، فسيعذبهم ألبتة، فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم، بل يُمهل ولا يهمل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا فرغ الواعظ من وعظه وتذكيره، أو: العالم من تدريسه وتعليمه، أقبل على عبادة ربه، إما عبادة الجوارح الظاهرة، من صلاة وذكر وتلاوة، أو عبادة القلوب، كتفكر واعتبار، أو استخراج علوم وحكم ودُرر.
وإما عبادة الأرواح، كنظرة وفكرة وشهود واستبصار. وهذه عبادة الفحول من الرجال، فمن اهتدى إليها فلنفسه، ومن ضل عنها فقل إنما أنا من المنذرين. والحمد لله رب العالمين- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
(١) قرأ حفص، ونافع، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب (تعملون) بتاء الخطاب. وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (٢/ ٣٣٧).
228
Icon