ﰡ
يسبّح لله وينزّهه عما لا يليق به كلُّ ما في هذا الوجود من بشرٍ وحيوان وشجر وجماد، هو الملكُ القُدّوس المنزه عن النقائص، المتصفُ بالكمال، ﴿العزيز الحكيم﴾.
والله تعال ىهو الذي ارسلَ رسولَه محمداً ﷺ من العرب الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون، كي يتلو عليهم القرآن، ويزكّيهم بالاخلاق الفاضلة ويطهرهم من الشرك وعبادة الاوثان، ويعلّمهم الشرائع والعلم النافع ليقودوا العالم وينشروا القِيَم الفاضلة في الشرق والغرب.. وقد كان ذلك من أولئك الأميين بفضل الاسلام وتحت راية القرآن.
﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾
وأي ضلالٍ اكبر من عبادة الاصنام وإتيان الفواحش، كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهـ يخاطب النجاشيّ ملكَ الحبشة لما هاجروا اليه:
«أيها الملك كنّا قوماً أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجِوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصِدقه وأمانته وعفافه. فدعانا الى الله لنوحّده ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الامانة وصلة الرحم، وحُسن الوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكْل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمَرَنا ان نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.»
﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم﴾
وبعثه الله تعالى الى جماعات آخرين من العرب وغيرِهم من جميع العالم لم يجيئوا بعد، سيأتون ويحملون مِشعلَ الهداية وينشرون نور الاسلام في مشارق الارض ومغاربها. وهذا يعني أن هذه الأمة المباركة موصولةُ الحلقات ممتدة في جميع اطراف الأرض على مدى الزمان، تحمل هذه الأمانةَ وتُخرج الناس من الظلمات الى النور. والتاريخُ شاهد على ذلك، وهذه الآية من دلائل النبوة، ومن الأدلّة على ان القرآن من عند الله.
﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ والله ذو العزة والسلطان.
﴿ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم﴾
إن ذلك الاختيارَ من الله، اختيارَ رسوله الكريم في هذه الأمة التي هي خير أمةٍ أُخرجت للناس - فضلٌ كبير من الله لا يَعدِله فضل، وتكريم كبير لأمة الاسلام السابقين واللاحقين منهم.
نسأل الله تعالى ان يرد زعماء هذه الأمة الى دينهم، ويبصّرهم شئون أمتهم ويهديهم سواء السبيل.
الكلام في هذه الآيات الكريمة عن اليهود وكَذِبهم، وتعنُّتِهِم، وتبجُّحهم، فبعد ان منّ الله على هذه الأمة بإرسال رسول من أنفسِهم. قال اليهود: إن هذا الرسولَ لم يُبعث اليهم، ولذلك يردّ الله عليهم مقالهم بأنهم لو عملوا بالتوراة وفهموها حقَّ الفهم، لرأوا فيها وصفَ النبي الكريم والبشارة به، وانه يجب عليهم اتّباعه، لأنه رسول ورحمة للعالمين.
وما مثلُهم في حَملِهم للتوراة وتركهم العملَ بها الا كمثل الحمار الذي يحمل الكتبَ ولا يفهم منها شيئا، ولا يجديه حملُها نعفا.
ثم زاد في توبيخهم بقوله:
﴿بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾.
وكيف يهتدون وهم متكبرون وقد رانَ الضلالُ على قلوبهم؟.
ثم زاد الله تعالى في توبيخهم على تماديهم في الغيّ والضلال بأن تحداهم أن يتمنّوا الموت اذا كانوا صادقين في زعمهم انهم وحدَهم أحباءُ الله وأولياؤه. فقال:
﴿قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
قل لهم ايها الرسول: أيها اليهود، إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم، وأنكم أحباء الله وحدكم، فتمنوا من الله الموتَ حتى تذهبوا اليه ان كنتم صادقين، وتلاقوا ربكم.
ثم أخبر الله تعالى بأنهم لن يتمنوا الموت ابدا، لما يعلمون من سوء أفعالهم وكذبهم على الله وعلى الناس، ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ لا يخفى عليه شيء.
ثم أخبر أن الموتَ عاقبة كل حيّ، لا مهربَ منه فقال:
﴿قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
قل لهم أيها الرسول: إنكم ميتون، ولا مهرب لكم من الموت، ثم تُرجَعون الى خالقكم الذي يعلمُ السر والعلانية، فيخبركم بما كنتم تعملون، وتحاسَبون على كل ما قلتموه وعملتموه. وأيّ تهديد ووعيد أشد من هذا القول لو كانوا يعقلون!!
الحديثُ في هذه الآيات الكريمة عن صلاةِ الجمعة، وهي ركعتان بعد خطبتين يلقيهما الإمام، وهي فرضُ عَين، وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنّة والاجماع.
وتجب صلاةُ الجمعة على المسلم الحرّ العاقلِ البالغ المقيمِ القادرِ على السعي إليها، ولا تجب على المرأة والصبيّ، والمريضِ والمسافر، وكلِّ معذور مرخَّص له في ترك الجماعة، كعذر المطر والوحل والبرد ونحو ذلك، ولا تصحّ إلا جماعة.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل يوم الجمعة، وفضل الصلاة فيها، والحثّ عليها والاستعداد لها بالغسل والثياب النظيفة والطِّيب.
ويجوز للنساء والصبية ان يحضروا الجمعة، فقد كانت النساء تحضر المسجدَ على عهد رسول الله وتصلّي معه. ومن صلى الجمعةَ سقطت عنه فريضة الظهر، ومن أراد زيادة فليرجع الى كتب الفقه.
﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع﴾
يا أيها الذين آمنوا: إذا أُذَّن للصلاة يوم الجمعة فاذهبوا الى المسجد لحضور الصلاة وذِكر الله، واتركوا البيعَ وكلَّ عمل من الاعمال، وامشوا الى الصلاة بسَكينة ووقار، ولا تسرعوا في مشيكم. والأفضلُ ان يبكّر الانسان بالذهاب الى المسجد، فاذا لم يستطع فليمشِ الهوينا. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلّي مع رسول الله ﷺ اذ سمع جلبةَ رجالٍ، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا الى الصلاة. قال: فلا تفعلوا، إذا اتيتم فامشُوا وعليكم السَكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا «.
﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
ذلك الذي أُمِرْتم به أنفعُ لكم ان كنتم من ذوي العلم الصحيح، فصلاةُ الجمعة عبادة من العبادات الممتازة لأنها تنظم المسلمين وتعوّدهم على النظام، وفيها الخطبة فيها موعظةٌ حسنة وتعليم للمسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
روى الامام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهـ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:» من اغتسلَ يوم الجمعة، ومسَّ من طِيب أهله إن كان عنده، وليس أحسنَ ثيابه، ثم خرج يأتي المسجد، فيركع إن بدا له، ولم يؤذِ أحدا، ثم أنصتَ اذا خرج إمامُه حتى يصلي، كانت كفارةً لما بينها وبين الجمعة الأخرى «.
﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
فاذا أديتم الصلاة فتفرقوا في الأرض لمتابعة أعمالكم ومصالحكم الدنيوية التي فيها معاشُكم، واطلبوا من فضلِ الله ما تشاؤون من خَيري الدنيا والآخرة، واذكُروا الله بقلوبكم وألسنتِكم كثيراً، لعلّكم تفوزون بالفلاح في الدنيا والآخرة.
﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً﴾.
روى الامام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهـ قال: بينما النبي ﷺ يخطب يوم الجمعة اذ قدمت عِير (ابل محمَّلة طعاما وغي رذلك من الشام) فابتدرها الناس حتى لم يبق في المسجد الا اثنا عشر رجلاً انا فيهم وأبو بكر وعمر، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً﴾...
والذي قدِم بهذه التجارة دِحْيةُ الكلبي من الشام، وكانت العادةُ إذا قدمت هذه العير يُضرب بالطبل ليؤذَنَ الناسُ بقدومها، فيخرجوا ليبتاعوا منها، فيخرج الناس. فصادف مجيءُ هذه العِير وقتَ صلاة الجمعة، فترك عدد من المصلّين الصلاة وذهبوا اليها. فعاتبهم الله على ذلك وافهمهم ان اصلاة لها وقتٌ محترم ولا يجوز تركها. ثم رغّبهم في سماع العظات من الأئمة وان الله عنده ما هو خير من اللهو ومن التجارة، فقال:
﴿قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين﴾
فاطلبوا رزقه وتوكلوا عليه، ولا يأخذ كل انسان الا ما كُتب له. والله كفيل بالأرزاق للجميع.
وكان عراك بن مالك، رضي الله عنهـ، اذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إنّي أجبتُ دعوتك، وصلّيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتَني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. عراك هذا من التابعين من الفقهاء العلماء.