تفسير سورة الجن

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الجن من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة الجن مكية حروفها سبعمائة وتسعة وخمسون كلماتها مائتان وخمس وثمانون آياتها ثمان وعشرون ).

(سورة الجن)
(مكية حروفها سبعمائة وتسعة وخمسون كلماتها مائتان وخمس وثمانون آياتها ثمان وعشرون)
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١ الى ٢٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩)
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
القراآت
وَأَنَّهُ تَعالى إلى قوله وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ بالفتح: يزيد وابن عامر وحمزة
367
وعلي وخلف وحفص. والمشهور عن أبي جعفر أنه كان يفتح الألف في سبعة مواضع أَنَّهُ وَأَنَّهُ في خمسة مواضع، واثنين في قوله وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ وهما بالفتح لا غير بالإتفاق. تقول الإنس بالتشديد من التفعل: يعقوب يَسْلُكْهُ على الغيبة: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب. الباقون: بالنون وإنه لما قام بالكسر: نافع وأبو بكر وحماد لِبَداً بالضم: هشام. قُلْ إِنَّما أَدْعُوا على الأمر: عاصم وحمزة ويزيد الآخرون قال على صيغة الماضي والضمير لعبد الله ربي أمدا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ليعلم مبنيا للمفعول: يعقوب.
الوقوف:
عَجَباً هـ لا فَآمَنَّا بِهِ ط للعدول عن الماضي المثبت إلى ضدهما. ثم الوقف على الآيات التي بعد أن جائز ضرورة انقطاع النفس والوقف في قراءة الكسر أجوز أَحَداً هـ وَلا وَلَداً هـ شَطَطاً هـ لا رَهَقاً هـ أَحَداً هـ وَشُهُباً هـ لِلسَّمْعِ ط رَصَداً هـ رَشَداً هـ ذلِكَ ط قِدَداً هـ هَرَباً هـ آمَنَّا بِهِ ط رَهَقاً هـ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ هـ ط للابتداء بالشرط رَشَداً هـ طَباً
هـ لا غَدَقاً هـ لا فِيهِ ج صَعَداً هـ أَحَداً هـ لمن قرأ وَأَنَّهُ بالفتح لِبَداً هـ أَحَداً هـ رَشَداً هـ مُلْتَحَداً هـ وَرِسالاتِهِ ط أَبَداً هـ لا لأن حتى للابتداء بما بعدها عَدَداً هـ لا أَمَداً هـ أَحَداً هـ لا رَصَداً هـ عَدَداً هـ.
التفسير:
روى يونس وهرون عن أبي عمرو وحي بضم الواو من غير ألف.
والوحي والإيحاء بمعنى وهو إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء وسرعة كالإلهام وإنزال الملك وقد مر مرارا. وقرىء أُحْيِ بقلب الواو همزة. والكلام في الجنّ اسما وحقيقته قد سلف في الاستعاذة وكذا بيان اختلاف الروايات أنه ﷺ هل رأى الجن أم لا، وذلك في آخر سورة «حم الأحقاف». والذي أزيده هاهنا ما ذكره بعض حكماء الإسلام أنه لا يبعد أن تكون الجن أرواحا مجردة كالنفوس الناطقة، ثم يكون لكل واحد منهم تعلق بجزء من أجزاء الهواء كما أن أول متعلق النفس الناطقة هو الروح الحيواني في القلب، ثم بواسطة سريان ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحصل التدبير والتصرف فيه كما للنفس الناطقة في البدن، ومنهم من جوز أن يكون الجن عبارة عن النفوس الناطقة التي فارقت أبدان الإنسان فتتصرف فيما يناسبها من الأرواح البشرية التي لم تفارق بعد فتعينها بالإلهام إن كانت خيرة، وبالوسوسة إن كانت بالضد. أما الذاهبون إلى أن الجن أجسام فمنهم الأشاعرة القائلون بأن البنية ليست شرطا في الحياة وأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما بأمور كثيرة وقدرة على أعمال شاقة، فعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن سواء كانت
368
أجسامهم لطيفة أو كثيفة وسواء كانت أجزاؤهم صغارا أو كبارا. ثم الأمر بالخروج إليهم وقراءة القرآن عليهم لا أنه رآهم وعرف جوابهم. والله تعالى أوحى في هذه السورة. ومنهم من قال: البنية شرط وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة.
ومن الأولين من جوز أن يكون المرئي حاضرا والشرائط حاصلة والموانع مرتفعة، ثم أنا لا نراه. وأعلم أن ما ذكرنا في تفسير الأحقاف عن ابن عباس أنه ﷺ ما رأى الجن. وعن ابن مسعود أنه رآهم. فالجمع بين القولين أن ما ذكره ابن عباس لعله وقع أولا فأوحى الله إليه في هذه السورة أنهم قالوا كذا وكذا، أو رآهم وسمع كلامهم وآمنوا به، ثم رجعوا إلى قومهم وذكروا لقومهم على سبيل الحكاية إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً إلى آخره كقوله في «الأحقاف» فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الآية: ٢٩] أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد ﷺ ما جرى بينهم وبين قومهم. والفائدة فيه أن يعلم أنه مبعوث إلى الثقلين وأن الجن مكلفون كالأنس وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا، وأن المؤمن منهم يدعو سائرهم إلى الإيمان. وأجمع القراء على فتح أَنَّهُ اسْتَمَعَ لأنه فاعل أُوحِيَ وكذا على فتح وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ لأنه يعلم بالوحي فهما معطوفان على أَنَّهُ اسْتَمَعَ وأجمعوا على كسر إِنَّا في قوله إِنَّا سَمِعْنا لأنه وقع بعد القول. وفي البواقي خلاف، فمن كسر فمحمول على مقول القول وأنه صريح من كلام الجن، ومن فتح فعلى أنه فاعل أُوحِيَ ولا بد من تقدير ما في الحكاية ليكون حكاية كلام الجن كأنه قيل: وحكوا أنه تعالى جد ربنا إلى آخره إلا في قوله وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ فإنه كاللذين تقدماه يصح وقوعه فاعل أُوحِيَ من غير تقدير، وجوز صاحب الكشاف فيمن قرأ بفتح الكل في قوله وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا وكذلك البواقي أن يكون معناه صدقنا.
قلت: وفيه نظر لنبوه عن الطبع في أكثر المواضع إذ لا معنى لقول القائل مثلا: صدقنا أنا لمسنا السماء وصدقنا أنا لما سمعنا الهدى آمنا به. وبالجملة فكلامه في هذا المقام غير واضح ولا لائق بفضله. قوله سبحانه عَجَباً مصدر وضع موضع الوصف للمبالغة أي قرآنا عجبا بديعا خارجا عن حد أشكاله بحسن مبانيه وصحة معانيه يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي الصواب أو التوحيد والإيمان فَآمَنَّا بِهِ لأن الإيمان بالقرآن إيمان بكل ما فيه من التوحيد والنبوة والمعاد، ويجوز أن يكون الضمير لله لأن قوله وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا يدل عليه بعد دلالة الحال ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك. ذكر الحسن أن فيهم يهود ونصارى ومجوسا ومشركين. قلت: ومما يدل على أن فيهم نصارى قوله تعالى وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي عظمته مكن قولهم «جد فلان في عيني» أي عظم. وفي حديث عمر كان الرجل منا إذا
369
قرأ البقرة وآل عمران جد فينا. ويحتمل أن يراد ملكه وسلطانه أو غناه استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون.
وفي الحديث «لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» «١»
قال أبو عبيدة: لا ينفع ذا الغنى منك غناه.
وفي حديث آخر «قمت على باب الجنة فإذا غلقه من يدخلها من الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون» «٢»
يعني أصحاب الغنى في الدنيا أي ارتفع غنى ربنا عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد كأنهم بسماع القرآن تنبهوا على خطا أهل الشرك من أهل الكتاب وغيرهم. فقوله مَا اتَّخَذَ بيان للأول.
وقيل: الجد أبو الأب وإن علا فهو مجاز عن الأصل أي تعالى أصل ربنا وهو حقيقته المخصوصة عن جميع جهات التعلق بالغير قاله الإمام في التفسير الكبير. النوع الثالث مما ذكره الجن قوله وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً السفه خفة العقل، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولا هو في نفسه شطط، وصف بالمصدر للمبالغة. والسفيه إبليس أو غيره من مردة الجن الذين جاوزوا الحد في طرف النفي إلى أن أفضى إلى التعطيل، أو في طرف الإثبات إلى أن أدى إلى الشريك والصاحبة والولد. الرابع وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أن لا يفتري الكذب على الله أحد، فلما سمعنا القرآن عرفنا أنهم قد يكذبون. وقال جار الله كَذِباً صفة أي قولا مكذوبا فيه، أو مصدر لأن الكذب نوع من القول. ومن قرأ بالتشديد وضع كَذِباً موضع تقولا ولم يجعله صفة لأن التقول لا يكون إلا كذبا. قال بعض العلماء: فيه ذم لطريقة أهل الطريق وحث على الاستدلال والنظر.
الخامس وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ الآية. قال جمهور المفسرين: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في واد قفر خاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم فيبيت في جوار منهم حتى يصبح. وقال آخرون: إذا قحطوا بعثوا رائدهم فإذا وجد مكانا فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فسار بهم، فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي أن يصيبنا آفة يعنون الجن فإن لم يفزعهم أحد نزلوا وربما أفزعهم الجن فهربوا. وقيل: المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضا لكن من شر الجن كأن يقول مثلا: أعوذ برسول الله ﷺ من شر جن هذا الوادي. وإنما ذهبوا إلى هذا التأويل ظنا منهم بأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن، وضعف بأنه لم يقم دليل
(١) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ١٥٥. مسلم في كتاب الصلاة حديث ١٩٤ أبو داود في كتاب الصلاة باب ١٤٠. الترمذي في كتاب الصلاة باب ١٠٨. النسائي في كتاب التطبيق باب ٢٩٥.
(٢) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٥١. مسلم في كتاب الذكر حديث ٩٣.
370
على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلا. أما قوله فَزادُوهُمْ رَهَقاً فمعناه أن الإنس لاستعاذتهم بهم زادوهم إثما وجراءة وطغيانا وكبرا لأنهم إذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا:
سدنا الجن والإنس. وقيل: ضمير الفاعل للجن أي فزاد الجن الإنس خوفا وغشيان شر باغوائهم وإضلالهم فإنهم لما تعوذوا بهم ولم يتعوذوا بالله استولوا واجترءوا عليهم. السادس وَأَنَّهُمْ أي الإنس ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن قاله بعضهم لبعض. وقيل: هذه الآية والتي قبلها من جملة الوحي بلا تقدير الحكاية. والضمير في وَأَنَّهُمْ للجن، والخطاب في ظَنَنْتُمْ لأهل مكة. والأولى أن يكون الكلام من كلام الجن لئلا يقع كلام أجنبي في البين. السابع وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ قال أهل البيان: اللمس المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب التعرف، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم بمعنى الخدام ولها لم يقل شداد. الثامن وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ إلى آخره وفي قوله شِهاباً رَصَداً وجوه: قال مقاتل: يعني رميا بالشهب ورصدا من الملائكة وهو اسم جمع كما قلنا في حرس. فقوله رَصَداً كالخبر بعد الخبر وقال الفراء: هو فعل بمعنى مفعول أي شهابا قد رصد ليرجم به. وقيل: بمعنى فاعل أي شهابا راصدا لأجله. واعلم أنا قد بينا في هذا الكتاب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث نبينا ﷺ وقد جاء ذكرها في الجاهلية وفي كتب الفلاسفة، وإنما غلظت وشدد أمرها عند البعث لئلا يتشوش أمر الوحي بسبب تخليط الكهنة. وفي قوله كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ إشارة إلى أن الجنّ كانوا يجدون بعض المقاعد خالية عن الشهب والحرس والآن ملئت المقاعد كلها. التاسع وَأَنَّا لا نَدْرِي الآية. وفيه قولان: أحدهما لا ندري أن المقصود من منع الاستراق شر أريد بمن في الأرض أم خير وصلاح. وثانيهما لا نعلم أن المقصود من إرسال محمد الذي وقع المنع من الاستراق لأجله هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك المكذبون من الأمم السالفة، أو أن يؤمنوا فيهتدوا، وفيه اعتراف من الجن بأنهم لا يعلمون الغيب على الإطلاق. العاشر وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي قوم أدون حالا في الصلاح من المذكورين حذف الموصوف واكتفى بالصفة كما في قوله وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤] وهذا القسم يشمل المقتصدين والصالحين. وقوله كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً بيان للقسمة المذكورة، فالطرائق جمع الطريقة بمعنى السيرة والمذهب، والقدد جمع قدة من قد كالقطعة من قطع أي كنا قبل الإسلام ذوي مذاهب متفرقة مختلفة أو على حذف المضاف أي كانت طرائقنا طرائق قدد، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة.
الحادي عشر وَأَنَّا ظَنَنَّا أي تيقنا وقد استعمل الظن الغالب مكان اليقين أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ
371
إن أراد بنا أمر وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي هاربين أو بسبب الهرب إن طلبنا وفيه إقرار منهم بأن الله غالب على كل شيء. الثاني عشر وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى الآية. عنوا سماعهم القرآن وإيمانهم به. وقوله فَلا يَخافُ في تقدير مبتدأ أو خبر أي فهو لا يخاف وإلا قيل بالجزم وبدون الفاء، والفائدة في هذا المساق تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة كأنه وقع فأخبر أنه لا يخاف ودلالة على أنه هو المختص بذلك دون غيره إذ يعلم من بناء الكلام على الضمير أن غيره خائف. وقوله بَخْساً وَلا رَهَقاً على حذف المضاف أي جزاء بخس ولا رهق لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد، وفيه أن المؤمن ينبغي أن يكون غير باخس ولا ظالما. ويجوز أن يراد لا يخاف البخس من الله لأنه يجزي الجزاء الأحسن الأوفر ولا ترهقه ذلة. الثالث عشر وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أي الجائرون عن طريق الحق بالكفر والعدوان وهو قريب من العاشر إلا أن في هذا النوع تفصيل جزاء الفريقين فذكر الإيعاد صريحا وفي الوعد اقتصر على ذكر سببه وهو تحري الرشد أي طلب الصواب المستتبع للثواب. قال المبرد: أصل التحري من قولهم ذلك أحرى وأحق وأقرب. وقال أبو عبيدة: تحروا توخوا. وفي العدول عن الحقيقة إلى المجاز في جانب الوعد بشارة وإشارة إلى تحقيق الثواب لما عرفت مرارا أن المجاز أبلغ من الحقيقة. قوله وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا معطوف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ كما مر ومعناه أوحى إليّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريقة المثلى. وجوز جمع من المفسرين أن يعود الضمير في اسْتَقامُوا إلى الأنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بهم لا بالجن، ولأن الآية روي أنها نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين. وزعم القاضي أن الثقلين يدخلون في الآية لأنه أثبت حكما معللا بعلة وهو الاستقامة فوجب أن يعم الحكم بعموم العلة. وأما قول من يقول إن الضمير عائد إلى الجن فله معنيان: أحدهما لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم. وذكر الماء الغدق وهو الكثير كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع لأنه أصل البركات، فتكون الآية نظير قوله وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ [المائدة: ٦٥] وثانيهما لو استقام الجن الذين استمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لو سعنا عليهم الرزق في الدنيا ليذهبوا بطيباتهم في الحياة الفانية وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا [الزخرف: ٣٣] إلى آخره. وأما الذين قالوا: الضمير عائد إلى الإنس فالوجهان جاريان فيه بعينهما. وعن أبي مسلم: إن المراد بالماء الغدق جنات تجري من تحتها الأنهار يعني في الجنة. واحتجاج الأشاعرة بقوله
372
لِنَفْتِنَهُمْ على أنه سبحانه هو الذي يضل عباده ويوقعهم في الفتن والمحن. والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هنا بمعنى الاختبار كقوله لِيَبْلُوَكُمْ [الملك: ٢] ثم بين وعيد المعرضين عن عبادة الله ووحيه. وانتصب عَذاباً صَعَداً على حذف الجار أي في عذاب صعد كقوله ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: ٤٢] أو على تضمين معنى الإدخال. والصعد مصدر بمعنى الصعود، ووصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقد روى عكرمة عن ابن عباس أن صَعَداً جبل في جهنم من صخرة ملساء يكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة، وإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ثم يكلف الصعود مرة أخرى، وهكذا أبدا ومن جملة الوحي قوله وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ذهب الخليل إلى أن الجار محذوف ومتعلقه ما بعده أي ولأجل أن المساجد لله خاصة فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فيها عن الحسن عني بالمساجد الأرض كلها لأنها جعلت للنبي ﷺ مسجدا وهو مناسب لمدح النبي ﷺ في هذا المقام أي كما أنه مفضل على الأنبياء ببعثه إلى الثقلين فكذلك خص بهذا المعجز الآخر. وقال جمع كثير من المفسرين: إنها كل موضع بني للصلاة
ويشمل مساجدنا والبيع والكنائس أيضا. قال قتادة:
كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله فأمرنا بالإخلاص والتوحيد.
وعن الحسن أيضا أن المساجد جمع مسجد بالفتح فيكون مصدرا بمعنى السجود. وعلى هذا قال سعيد بن جبير: المضاف محذوف أي مواضع السجود من الجسد لله وهي الآراب السبعة: الوجه والكفان والركبتان والقدمان. وقال عطاء عن ابن عباس: هي مكة بجميع ما فيها من المساجد، وأنها قبة الدنيا فكل أحد يسجد إليها. قال الحسن: من السنة أن الرجل إذا دخل المسجد أن يقول «لا إله إلا الله» لأن قوله فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً في ضمنه أمر بذكر الله بدعائه. قوله وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ هو النبي باتفاق المفسرين. ثم قال الواحدي:
هذا من كلام الجن لأن الرسول لا يليق به أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة. ولا يخفى ضعفه فإنه وارد على طريق التواضع والأدب في الافتخار بالانتساب إلى عبودية المعبود الحق، وهذا طريق مسلوك في المحاورات والمكاتبات. يقولون: عبدك كذا وكذا دون أن يقال «فعلت كذا». وفي تخصيص هذا اللفظ بالمقام دون الرسول والنبي نكتة أخرى لطيفة هي أن ما قبله النهي عن عبادة غير الله وما بعده ذكر عبادة النبي إياه. فإن كان هذا من جملة الوحي فلا إشكال في النسق، وإن كان من كلام الجن وفرض أن ما قبل قوله وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أيضا من كلامهم كانت الآيتان المتوسطتان كالاعتراض بين طائفتي كلام الجن.
ومناسبة الاستقامة على الطريقة وتخصيص المساجد بعبادة الله وحده لما قبلها ظاهرة فلا
373
اعتراض على هذا الاعتراض. وفي قوله كادُوا ثلاثة أوجه أظهرها أن الضمير للجن، والقيام قيام النبي ﷺ بصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته متزاحمين عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه. والثاني أن الضمير للمشركين والمعنى لما قام رسولا يعبد الله وحده مخالفا للمشركين كاد المشركون لتظاهرهم عليه يزدحمون على عداوته ودفعه. والثالث قول قتادة أي لما قام عبد الله تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره. ولِبَداً جمع لبدة وهي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد. والتركيب يدور على الاجتماع ومنه اللبد. ومن قرأ قُلْ إِنَّما أَدْعُوا فظاهر وهو أمر من الله تعالى لنبيه ﷺ بأن يقول لأمته المتظاهرين أو للجن هذا الكلام. ومن قرأ على المضي فإخبار من الله تعالى أن نبيه ﷺ قال للمتظاهرين أو للجن عند ازدحامهم: ليس ما ترون من عبادتي ربي بأمر بديع وإنما يتعجب ممن يدعو غير الله وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام الجن لقومهم حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أمر أن يخبر أمته بكلمات قاطعة للأسباب والوسائل سوى الإيمان والعمل الصالح. والرشد بمعنى النفع، والضر بمعنى الغي، وكل منهما إمارة على ضده. ثم من هاهنا إلى قوله إِلَّا بَلاغاً اعتراض أكد به نفي الاستطاعة وإثبات العجز على معنى أن الله إن أراد به سوأ لن يخلصه منه أحد ولن يجد من غير الله ملاذا ينحرف إليه. والمقصود أني لا أملك شيئا إلا البلاغ الكائن من الله ورسالاته، فالجار صفة لا صلة لأن التبليغ إنما يعدى ب «عن»
قال ﷺ «بلغوا عني ولو آية»
قال الزجاج: انتصب بَلاغاً على البدل أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به. قلت: على هذا جاز أن يكون استثناء منقطعا. وقيل: أن لا أبلغ بلاغا لم أجد ملتحدا كقولك «أن لا قياما فقعودا». استدل جمهور المعتزلة بقوله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ الآية.
على أن الفساق من أهل القبلة مخلدون في النار، ولا يمكن حمل الخلود على المكث الطويل لاقترانه بقوله أَبَداً وأجيب بأن الحديث في التبليغ عن الله فلم لا يجوز أن تكون هذه القرينة مخصصة؟ أي ومن يعص الله في تبليغ رسالته وأداء وحيه، ومما يقوي هذه القرينة أن سائر عمومات الوعيد لم يقرن بها لفظ أَبَداً فلا بد لتخصيص المقام بها من فائدة وما هي إلا أن التقصير في التبليغ أعظم الذنوب. وقد يجاب أيضا بأن قوله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ لا يحتمل أن يجري على عمومه كأن يراد ومن يعص الله بجميع أنواع المعاصي.
فمن المحال أن يقول شخص واحد بالتجسيم وبالتعطيل، وإذا صار هذا العام مخصصا بدليل العقل فلم لا يجوز أن يتطرق إليه تخصيص آخر كأن يقال: ومن يعص الله بالكفر.
وحينئذ لا يبقى للخصم شبهة بل نقول: لا حاجة إلى التزام تخصيص آخر، فإن الآتي بالكفر
374
آت بجميع المعاصي الممكنة الجمع. قال جار الله: حَتَّى إِذا متعلق بقوله يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي يتظاهرون عليه بالعداوة إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة حين يعلم يقينا أن الكافر أضعف الفريقين. وجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار واستقلالهم لعدده كأنه قال: لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا. ثم أمره بأن يفوّض علم تعيين الساعة إلى الله لأنه عالم الغيب ومِنْ رَسُولٍ بيان لِمَنِ ارْتَضى وفيه أن الإنسان المرتضى للنبوة قد يطلعه الله تعالى على بعض غيوبه، وعلم الكهنة والمنجمين ظن وتخمين فلا يدخل فيه، وعلم الأولياء إلهامي لا يقوى قوة علم الأنبياء كنور القمر بالنسبة إلى ضياء الشمس. وهاهنا أسرار لا أحب إظهارها فلنرجع إلى التفسير. قوله فَإِنَّهُ يَسْلُكُ الأكثرون على أن الضمير لله سبحانه. وسلك بمعنى أسلك. رَصَداً مفعول أي يدخل الله من أمام المرتضى وورائه حفظة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك. وفي الكلام إضمار التقدير. إلا من ارتضى من رسول فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي ثم يسلك. وقيل: الضمير للمرتضى وسلك بمعنى سار وفاعله الملائكة ورَصَداً حال. قال في الكواشي: ثم بين غاية الإظهار والسلك فقال لِيَعْلَمَ أي ليظهر معلوم الله كما هو الواقع من غير زيادة ولا نقص، ومثل هذا التركيب قد مر مرارا. قال قتادة ومقاتل: أي ليعلم محمد أن قد أبلغ جبرائيل ومن معه من الملائكة الوحي بلا تحريف وتغيير. وقوله مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مع قوله أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا كقوله فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ من الحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى. ثم ما ذكرنا وهو أن المراد بالعلم هو الظهور بقوله وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ من الحكم والشرائع أي وقد أحاط قبل به. ثم عمم العلم فقال وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ من ورق الأشجار وزبد البحار وقطر الأمطار. وعَدَداً مصدر في معنى الإحصاء أو حال أي ضبط كل شيء معدودا محصورا أو تمييز والله أعلم.
375
Icon