تفسير سورة الشرح

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الشرح من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة ﴿ ألم نشرح ﴾ وهي مكية١
١ من م: ساقطة من الأصل.

الآية١ : وقوله تعالى :﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾ الخطاب١ في هذه السورة من الله تعالى لرسوله٢ صلى الله عليه وسلم خاطب ( به حين قال )٣ :﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾ إلى ما ذكر.
والمخاطبة في سورة الضحى إذا كانت من غير الله تعالى إياه، كان جبرائيل عليه السلام خاطبه في ذكر منن الله تعالى إياه وذكر نعمه، إلا أنه قال :﴿ ما ودعك ربك وما قلا ﴾ ( الآية : ٣ ) ولم يقل : ودعناك.
ويجوز أن يكون الخطاب في سورة الضحى من الله تعالى على المغايبة، يقال : إن أمير المؤمنين يقول : كذا، أراد نفسه.
ثم اختلف في قوله :﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾ قال بعضهم : شرح صدره للإسلام كقوله :﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ﴾ ( الزمر : ٢٢ ) أخبر أن من شرح صدره للإسلام، ﴿ فهو على نور من ربه ﴾ / ٦٤٦ ب/والشرح : قيل : هو التليين والتوسيع والفتح، أي ألم نوسع لك صدرك، ونفتح، ونلين للإسلام.
وقد روي في الخبر أنه لما نزل هذا قيل : يا رسول الله، وهل لذلك من علامة ؟ فقال : بلى التجافي من دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت. قبل نزوله ) ( الحاكم في المستدرك ٤ / ٣١١ ) ولكن يعرف ذلك من رسول الله بطريق الحقيقة، ويظهر ذلك منه باليقين، فأما من غيره فإنما يعرف بالتجافي من دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود بالتقارب. وغالب الظن أن٤ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له الآخرة وأمورها كالمشاهدة والمعاينة. وكذلك جميع الأنبياء والرسل. فأما لغيرهم يبلغ ذلك، وهو ما ذكرنا أن رؤيا الأنبياء كالعيان، أي تعرف بطريق اليقين بخلاف رؤيا غيرهم.
وقال بعضهم : شرح صدره لأنه لما كلف بتبليغ الرسالة إلى الجن والإنس وإلى الفراعنة والجبابرة الذين همتهم إهلاك من يخالفهم والانقلاع عن عبادة من يعبد الله، ضاق صدره لذلك، وثقل على قلبه، فوسع الله صدره، وشرحه حتى هان ذلك عليه، وخف، وهو قول أبي بكر الأصم. إلا أنه فعل ذلك به، وحققه٥ بالآيات والحجج.
ونحن نقول باللطف منه حتى قام بوفاء ما كلف، وأمر. أما هو فلا يقول باللطف والاختصاص للبعض دون البعض لقوله بالأصلح.
ويحتمل أن يكون ما ذكر من شرح صدره وتوسيعه، هو ما ذكر في قوله ﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ ( القلم : ٤ ) وخلقه كان يجاوز وسعه وطاقته حتى كادت نفسه تهلك لمكان كفر أولئك، وما يعلم أنه ينزل بهم، إشفاقا ورحمة كقوله :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾ ( الشعراء : ٣ ) وقوله :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ﴾ ( هود : ١٢ ) وغير ذلك من أمثال هذا، وذلك، والله أعلم، ما وصف من خلقه أنه عظيم، فوسع صدره، وشرحه حتى يخف ذلك عليه حين٦ قال له :﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون ﴾ ( فاطر : ٨ ) وقال :﴿ ولا تحزن عليهم ﴾ ( النمل : ٧٠ ).
وقال الحسن في قوله :﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾ بلى قد شرح له صدره، وملأه علما وحكمة، ثم قوله :﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾ إلى ما ذكر إن كان المخاطب به رسول الله، وهو المراد به.
فتأويل السورة يخرج على ما ذكر من تيسير٧ الأمر عليه وتخفيف ما حمّله وأمر به.
١ في الأصل وم: المخاطب.
٢ في الأصل وم: رسوله.
٣ في الأصل وم: إياه حيث، وفي م: إياه حيث قال..
٤ في الأصل وم: لأن.
٥ في الأصل وم: وحقق.
٦ في الأصل وم: حيث.
٧ من نسخة الحرم المكي: في الأصل وم: تبيين.
وتخفيف ما حمله عليه وأمر به.
وقوله - تعالى -: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ):
على ابتداء وضع الوزر والإثم على ما نذكر، وإن كان المخاطب به غيره وهم أمته، وإن كان الخطاب أضيف إليه، فالأمر فيه سهل، وإن كان الخطاب على الاشتراك، فيحتاج إلى التأويل أيضا.
وقوله - تعالى -: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ):
قال عامة أهل التأويل: على تحقيق الوزر له والإثم؛ كقوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ...)، وقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) يقولون: أثبت له الذنب والوزر، فوضع ذلك عنه، ولكن هذا وحش من القول، لكنا نقول: إن قوله: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ): الوزر هو الحمل والثقل؛ كأنه يقول: قد خففنا عليك ما حمل عليك من أمر النبوة والرسالة والأحمال التي حملت عليك؛ كأنه يقول: قد خفف ذلك عليك، ما لو لم يكن تخفيفنا إياها عليك لأنقض ظهرك، أي: أثقل، واللَّه أعلم.
والثاني: جائز أن يكون قوله: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) ابتداء وضع الوزر، أي: عصمك وحفظك، ما لو لم يكن عصمته إياك لكانت لك أوزار وآثام، كقوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، أي: لو لم يهدك لوجدك ضالا؛ لأنه كان بين قوم ضلال، ولكن هداه فلم يجده ضالا؛ فعلى ذلك ما ذكر من وضع وزره ابتداء، وهو كقوله: (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، أي: عصمكم عن أن تدخلوا فيها، لا أن كانوا فيها، ثم أخرجهم، ولكن ابتداء إخراج، فعلى ذلك ما ذكر من وضع وزره.
وقوله: (أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣)، أي: أثقل ظهرك.
وقوله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤):
جائز أن يكون رفع ذكره؛ لما ألزم الخلق الإيمان به حتى لا يقبل من أحد الإيمان بالله تعالى، والتوحيد له، والطاعة، والعبادة إلا بالإيمان به والطاعة له، قال اللَّه - تعالى -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...)، وقال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ...).
وجائز أن يكون ما ذكر من رفع ذكره هو أنه يذكر حيث ذكر اللَّه، قرن ذكره بذكره في الأذان والإقامة، وفي الصلاة، وفي التشهد، وفي غيره من الخطب، واللَّه أعلم.
والأول عندنا أرفع وأعظم من الثاني.
وجائز أن يكون رفع ذكره ما أضاف اسمه إلى اسمه بما قال: رسول اللَّه، ونبي اللَّه، ولم يسمه باسمه على غير إضافة إلى الرسالة والنبوة، فقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ...)، وقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ...)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ...)، ونحو ذلك، وهو المخصوص بهذا دون غيره من إخوانه عليه السلام؛ لأنه قلما أضاف اسمهم إلى اسمه، وقلما قرن أسماءهم باسمه، بل ذكرهم بأسمائهم، كقوله: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ...)، وقوله: (وَيُونُسَ وَلُوطًا)، ونحو ذلك.
أو رفع ذكره بما عظَّمه وشرفه عند الخلق كله، حتى إن من استخف به خسر الدنيا والآخرة.
وقوله - تعالى -: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦):
روي في الخبر أنه قال: " لن يغلب عسر يسرين ".
قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما كان عسرا واحدا، وإن ذكره مرتين " لأن العسر الثاني ذكره بحرف التعريف؛ فهو والأول واحد؛ واليسر ذكره بحرف النكرة؛ فهو غير الأول.
الآيتان ٥ و ٦ ) : وقوله تعالى :﴿ فإن مع العسر يسرا ﴾ ﴿ إن مع العسر يسرا ﴾ روي في الخبر أنه قال صلى الله عليه وسلم : " لن يغلب عسر يسرين ) ( الحاكم في المستدرك : ٢ / ٥٢٨ ).
قال بعضهم : إنما كان عسرا واحدا، وإن ذكره مرتين، لأن العسر الثاني ذكره بحرف التعريف فهو والأول واحد، واليسر ذكره، بحرف النكرة، فهو غير الأول.
وقال أبو معاذ : كلما كررت المعرفة كانت واحدة١، والنكرة على العدد يقال في الكلام : إن مع الأمير غلاما، إن مع الأمير غلاما، فالأمير واحد، ومعه غلامان، وإذا قيل : إن مع الأمير الغلام، إن مع الأمير غلاما، فالأمير واحد، ومعه غلامان، وإذا قيل : إن مع الأمير الغلام، إن مع الأمير الغلام، فالأمير واحد، والغلام واحد، وإذا قيل : إن مع أمير غلاما، إن مع أمير غلاما، فهما أميران وغلامان. فعلى ذلك ما ذكر هاهنا.
ثم قوله ( صلى الله عليه وسلم )٢ " يسرين " هما٣ يسر الإسلام والهدى، ويجوز أن يطلق اسم اليسر على الإسلام والدين، قال الله تعالى :﴿ فسنيسره لليسرى ﴾ ( الليل : ٧ ) ويسر آخر ما وعد لهم من السعة في الدنيا.
ويحتمل أن يكون يسرين أحدهما : رجاء اليسر، والآخر وجوده، فهما يسران : الرجاء والوجود. ويحتمل أن يكون يسرا في الدنيا ويسرا في الآخرة، أو أن يكون توسيعا٤ عليهم الدنيا ويسرا٥ما يفتح لهم الفتوح في الدنيا، ويسوق إليهم المغانم والسبايا، والله أعلم.
ثم قالوا في قوله :﴿ فإن مع العسر يسرا ﴾ / ٦٤٧ أ/ أي بعد العسر يسرا.
وأصله : أن حرف مع إذا أضيف إلى الأوقات والأحوال يقع على اختلاف الأوقات في المكان الواحد، وإذا أضيف إلى المكان يقع على اختلاف المكان في وقت واحد. وهاهنا أضيف إلى الوقت. فهو على اختلاف الأوقات واحد بعد واحد. فإذا قيل : فلان مع فلان في مكان فالوقت واحد، والمكان مختلف متفرق.
١ في الأصل وم: واحدا.
٢ ساقطة من الأصل وم.
٣ في الأصل وم: هو.
٤ في الأصل وم: توسيع توسيع.
٥ في الأصل وم: ويسريان.
وقال أبو معاذ: كلما كررت المعرفة كان واحدا، والنكرة على العدد؛ يقال في الكلام: إن مع الأمير غلاما إن مع الأمير غلاما، فالأمير واحد ومعه: غلامان، وإذا قيل: إن مع الأمير الغلام، إن مع الأمير الغلام؛ فالأمير واحد والغلام واحد، وإذا قيل: إن مع أمير غلاما، إن مع أمير غلاما، فهما أميران وغلامان؛ فعلى ذلك ما ذكر هاهنا.
ثم قوله: " يسرين " هو يسر الإسلام والهدى، ويجوز أن يطلق اسم اليسر على الإسلام والدِّين، قال اللَّه - تعالى -: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، ويسر آخر: ما وعد لهم من السعة في الدنيا. ويحتمل أن يكونا يسرين: أحدهما: رجاء اليسر، والآخر وجوده، فهما يسران: الرجاء، والوجود.
ويحتمل أن يكون يسرًا في الدنيا، ويسرًا في الآخرة.
أو أن يكون توسيعًا: توسع عليهم الدنيا، ويسرًا ثانيا: ما يفتح لهم الفتوح في الدنيا، ويسوق إليهم المغانم والسبايا، واللَّه أعلم.
ثم قالوا في قوله: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، أي: بعد العسر يسر. وأصله أن حرف " مع " إذا أضيف إلى الأوقات والأحوال يقع على اختلاف الأوقات في المكان الواحد، وإذا أضيف إلى المكان يقع على اختلاف المكان في وقت واحد، وهاهنا أضيف إلى الوقت؛ فهو على اختلاف الأوقات واحدا بعد واحد؛ فإذا قيل: فلان مع فلان في مكان، فالوقت واحد، والمكان مختلف متفرق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨):
قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا فرغت من دنياك فانصب لآخرتك، وهو من النصب، أي: التعب.
وقال الحسن: أمره إذا فرغ من غزوة أن يجتهد في العبادة له، لكن هذا بعيد؛ لأنه نزل ذلك بمكة، ولم يكن أمر بالغزو والجهاد بمكة، إلا أن يكون أمر بالجهاد بمكة في أوقات تأتيه في المستقبل؛ فيكون الحكم لازما عليه في تلك الأوقات، لا في حال ورود الأمر.
568
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فإذا فرغت من الصلاة، فانصب في الدعاء.
وقال قتادة: إذا فرغ من الصلاة أن يبالغ في دعائه وسؤاله إياه.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: فإذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام الليل.
ويحتمل عندنا: إذا فرغت من تبليغ الرسالة إليهم، فانصب لعبادة ربك والأمور التي بينك وبين ربك، على ما ذكرنا في أحد التأويلين في قوله: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا)، في أمر الرسالة والتبليغ، واذكر اسم ربك فيما بينك وبين ربك.
ويجب ألا نتكلف تفسير ما ذكر في هذه السورة من أولها إلى آخرها؛ لأنه أمر بينه وبين ربه، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعلم ما أراد به فيما خاطبه من الجميع، وأنه فيم كان؟ وقد كان خصوصا له، وليس شيئًا مما يجب علينا العمل به حتى يلزمنا التكلف لاستخراج ذلك سوى الشهادة على اللَّه تعالى؛ فكان الإمساك عنه أولى، وترك التكلف فيه والاشتغال به أرفق وأسلم، واللَّه الموفق.
* * *
569
Icon