ﰡ
الجحود والبخل عند الإنسان
يغلب على طبع الإنسان صفتان ذميمتان، الكفر بالنعم أو جحود المعروف والفضل، والبخل أو الشح، وينسى الإنسان أنه في عالم الدنيا في موضع الاختبار والابتلاء، فإن أحسن العمل فاز ونجا، وإن أساء العمل ضل وخسر وهلك. والله خبير مطلع على جميع أعمال الناس، ويحصيها عليهم، لتكون أداة أو وسيلة إثبات عليهم، وهذا تهديد بالعقاب الشديد يوم القيامة، وذلك يتبين من سورة العاديات المكية في قول جماعة من أهل العلم، وهو الراجح:
[سورة العاديات (١٠٠) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤)فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [العاديات: ١٠٠/ ١- ١١].
أخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيلا، ولبثت شهرا، لا يأتيه منها خبر، فنزلت: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١)
(٢) الخيل القادحات التي توري النار، أي تخرجها.
(٣) الخيل التي تغير أو تهجم على العدو وقت الصبح.
(٤) هيجن بمكان عدوهن غبارا، أثناء الحركة.
(٥) توسطن بالنقع جمعا من الأعداء.
(٦) كفور جحود نعمة الله عليه.
(٧) أخرج ما في القبور.
(٨) أظهر ما في الصدور وجمع محصلا.
فهيّجن في وقت الصبح أو في ساحة المعركة غبارا يملأ الجو، ثم توسطن بعدوهن جمعا من الأعداء، اجتمعوا في مكان، ففرّقنه أشتاتا. والنقع: الغبار الساطع المثار، وقوله: جَمْعاً المراد به جمع من الناس هم المحاربون.
- وجواب القسم هو: إِنَّ الْإِنْسانَ.. أي إن جنس الإنسان سواء كان مؤمنا أو كافرا بطبعه للنعمة، كثير الجحود لها، أي ان الإنسان لنعمة ربه لكنود، أي كفور أو عاص.
- وإن الإنسان على كونه كنودا جحودا لشهيد، يشهد على نفسه بالجحود والكفران، أي بلسان حاله، وظهور أثر ذلك عليه، في أقواله، وأفعاله، بعصيان ربه.
- وإن الإنسان أيضا، بسبب حبه للمال، لبخيل به، أو إن حبه للمال قوي، فتراه مجدا في طلبه وتحصيله، متهالكا عليه، ويكون هناك معنيان صحيحان للآية:
أحدهما- وإنه لشديد المحبة للمال. والثاني- وإنه لحريص بخيل بسبب حبه المال، أي من أجل حب الخير لشديد، أي بخيل بالمال، ضابط له. والخير: المال في عرف القرآن.
ثم هدد الله الإنسان وتوعده إذا استمر متلبسا بهذه الصفات، فقال: أَفَلا يَعْلَمُ أي أفلا يدري الجاحد إذا أخرج ما في القبور من الأموات، وجمع محصّلا ما في النفوس أو الصدور من النوايا والعزائم، والخير والشر، إن رب هؤلاء المبعوثين من
وهذا إخبار وتعريف بالمآل والمصير، أي أفلا يعلم الإنسان مآله ومصيره فيستعد له؟
وبعثرة ما في القبور: نقضه مما يستره والبحث عنه، وهي عبارة عن البعث. ثم استؤنف الخبر الصادق بأن الله تعالى خبير بهم يومئذ. والله تعالى خبير دائما، ولكن خصّص (يومئذ) لأنه يوم المجازاة، فإليه طمحت النفوس، وفي هذا وعيد مصرّح بما سيحدث.
تدل هذه الآية على أن الله تعالى عالم بالجزئيات الزمانية، لأنه تعالى نص على كونه عالما بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم، ويعد منكر هذا العلم كافرا.
إن القسم الإلهي بخيول الجهاد على توصيف طبع الإنسان، بكونه جحودا للنعمة، وشهادته بهذا الطبع على نفسه، وبكونه محبا للمال، بخيلا به بخلا شديدا، يوجب علينا الحذر من هذا الطبع، ومحاولة تعديله، وجهاد النفس وترويضها للتخلص من هذه الصفات السيئة فينا.
أما الإصرار على هذا الطبع والإبقاء عليه، فهو مدعاة للتهديد والوعيد والإنكار الشديد، لا سيما إذا علم الإنسان أنه سيلقى ربه، ويحاسبه على أعماله حسابا دقيقا، ويجازيه عليها جزاء وافرا.
وفي ملاحظة هذا الوضع وخطورة المصير، يدرك الإنسان في النهاية: أنه هو الجاني على نفسه إذا قصر في واجباته، وأهمل القيام بما عليه، ولم يتحمس لفعل الخير، ولم يرعو عن فعل الشر.