تفسير سورة العصر

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة العصر من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة العصر
هذه السورة مكية في قول ابن عباس وابن الزبير والجمهور، ومدنية في قول مجاهد وقتادة ومقاتل. لما قال فيما قبلها :﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ ﴾
ووقع التهديد بتكرار ﴿ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾
بين حال المؤمن والكافر.

سورة العصر
[سورة العصر (١٠٣) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)
وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْجُمْهُورِ، وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ. لَمَّا قَالَ فِيمَا قَبْلَهَا: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ «١»، وَوَقَعَ التَّهْدِيدُ بِتَكْرَارِ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «٢» بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ.
وَالْعَصْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الدَّهْرُ، يُقَالُ فِيهِ عَصْرٌ وَعِصْرٌ وَعُصْرٌ أَقْسَمَ بِهِ تَعَالَى لِمَا فِي مُرُورِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْعَجَائِبِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْعَصْرُ: الْعَشِيُّ، أَقْسَمَ بِهِ كَمَا أَقْسَمَ بِالضُّحَى لِمَا فِيهِمَا مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ. وَقِيلَ: الْعَصْرُ: الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ، وَمِنْهُ قَوْلِ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:
وَلَنْ يَلْبَثَ الْعَصْرَانِ يوم وَلَيْلَةً إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا
وَقِيلَ: الْعَصْرُ بُكْرَةٌ، وَالْعَصْرُ عَشِيَّةٌ، وَهُمَا الْأَبْرَدَانِ، فَعَلَى هَذَا وَالْقَوْلِ قَبْلَهُ يَكُونُ الْقَسَمُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْعَصْرُ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، أَقْسَمَ بِهَا. وَبِهَذَا الْقَوْلِ بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: لِفَضْلِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالصَّلاةِ الْوُسْطى «٣»، صلاة
(١) سورة ألهاكم: ١٠٢/ ١.
(٢) سورة ألهاكم: ١٠٢/ ٣- ٤.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٨.
538
الْعَصْرِ، فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»،
لِأَنَّ التَّنْكِيفَ فِي أَدَائِهَا أَشَقُّ لِتَهَافُتِ النَّاسِ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَتَحَاسُبِهِمْ آخِرَ النَّهَارِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِمَعَايِشِهِمْ، انْتَهَى. وَقَرَأَ سَلَّامٌ: وَالْعَصْرِ بِكَسْرِ الصَّادِ، والصبر بِكَسْرِ الْبَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْوَقْفِ عَلَى نَقْلِ الْحَرَكَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالصَّبْرِ بِكَسْرِ الْبَاءِ إِشْمَامًا، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْوَقْفِ، انْتَهَى. وَفِي الْكَامِلِ لِلْهُزَلِيِّ: وَالْعِصْرِ، وَالصِّبْرِ، وَالْفِجْرِ، وَالْوِتْرِ، بِكَسْرِ مَا قَبْلَ السَّاكِنِ فِي هَذِهِ كُلِّهَا هَارُونُ وَابْنُ مُوسَى عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْبَاقُونَ: بِالْإِسْكَانِ كَالْجَمَاعَةِ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ، بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عِيسَى: الْبَصْرَةِ بِالصَّبِرِ، بِنَقْلِ حَرَكَةِ الهاء إلى الياء لِئَلَّا يَحْتَاجَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ الْحَرَكَةِ فِي الْوَقْفِ، وَلَا إِلَى أَنْ يُسَكِّنَ فَيَجْمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، وَذَلِكَ لُغَةٌ شَائِعَةٌ، وَلَيْسَتْ شَاذَّةً بَلْ مُسْتَفِيضَةٌ، وَذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى الْإِعْرَابِ، وَانْفِصَالٌ عَنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَمَادَّتُهُ حَقُّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُونِ، انْتَهَى. وَقَدْ أَنْشَدْنَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ عِدَّةَ أَبْيَاتٍ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
أَنَا جَرِيرٌ كُنْيَتِي أَبُو عَمِرْ أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَسَعْدٌ فِي الْعَصِرْ
يريد: أبو عمر. وَالْعَصْرُ وَالْإِنْسَانُ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَالْخُسْرُ: الْخُسْرَانُ، كَالْكُفْرِ وَالْكُفْرَانِ، وَأَيُّ خُسْرَانٍ أَعْظَمُ مِمَّنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَهَارُونُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: خُسُرٍ بِضَمِّ السِّينِ، وَالْجُمْهُورُ بِالسُّكُونِ. وَمَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْخُسْرَانِ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ اشْتَرَى الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا، فَرَبِحَ وَسَعِدَ. وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ: أَيْ بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ مِنَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِهِ وَتَوَاصَوْا بِهِ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنِ الْمَعَاصِي.
539
Icon