تفسير سورة لقمان

الطبري
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري .
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) ﴾
وقد تقدّم بياننا تأويل قول الله تعالى ذكره (الم). وقوله: (تِلكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ) يقول جل ثناؤه: هذه آيات الكتاب الحكيم بيانا وتفصيلا. وقوله: (هُدًى وَرَحْمَةً) يقول: هذه آيات الكتاب بيانا ورحمة من الله، رحم به من اتبعه، وعمل به من خلقه، وبنصب الهدى والرحمة على القطع من آيات الكتاب قرأت قرّاء الأمصار غير حمزة، فإنه قرأ ذلك رفعا على وجه الاستئناف، إذ كان منقطعا عن الآية التي قبلها بأنه ابتداء آية وأنه مدح، والعرب تفعل ذلك مما كان من نعوت المعارف، وقع موقع الحال إذا كان فيه معنى مدح أو ذمّ. وكلتا القراءتين صواب عندي، وإن كنت إلى النصب أميل، لكثرة القراء به.
وقوله: (للْمُحْسِنِينَ) وهم الذين أحسنوا في العمل بما أنزل الله في هذا القرآن، يقول تعالى ذكره: هذا الكتاب الحكيم هدى ورحمة للذين أحسنوا، فعملوا بما فيه من أمر الله ونهيه (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يقول: الذين يقيمون الصَّلاةَ المفروضة بحدودها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) من جعلها الله له المفروضة في أموالهم (وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) يقول: يفعلون ذلك وهم بجزاء الله وثوابه لمن فعل ذلك في الآخرة يوقنون.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم على بيان من ربهم ونور (وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلحونَ) يقول: وهؤلاء هم المنْجِحون المدركون ما رَجَوا وأملوا من ثواب ربهم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٦) ﴾
اختلف أهل التأويل، في تأويل قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيث) فقال بعضهم: من يشتري الشراء المعروف بالثمن، ورووا بذلك خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو ما حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن خلاد الصفار، عن عبيد الله بن زَحْر، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحِلُّ بَيْعُ المُغَنِّيَاتِ، وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَلا التِّجارَةُ فِيهِنَّ، وَلا أثمَانُهُنَّ، وفيهنّ نزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن خَلاد الصفار، عن عبيد الله بن زَحْر، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة، عن النبيّ ﷺ بنحوه، إلا أنه قال: "أكْلُ ثَمَنِهِنَّ حَرَامٌ" وقال أيضا: "وفِيهِنَّ أنزلَ اللهُ عليَّ هَذِهِ الآيَةَ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ".
حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سليمان بن حيان، عن عمرو بن قيس الكلابي، عن أبي المهلَّب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة. قال: وثنا إسماعيل بن عَياش، عن مُطَرَّح بن يزيد، عن عبيد الله بن زَحْر، عن عليّ بن زيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا يحلّ تَعْلِيمُ المُغَنِّياتِ، وَلا بَيْعُهُنَّ وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَثمَنُهُنَّ حَرامٌ، وقَدْ نزلَ تَصْدِيقُ ذلكَ فِي كِتابِ الله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيث... ) إلى آخر الآية".
وقال آخرون: بل معنى ذلك: من يختار لهو الحديث ويستحبه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بغَيْرِ عِلْمٍ) والله لعله أن لا ينفق فيه مالا،
126
ولكن اشتراؤه استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ، وما يضرّ على ما ينفع.
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا أيوب بن سويد، قال: ثنا ابن شوذب، عن مطر في قول الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيث) قال: اشتراؤه: استحبابه.
وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من قال: معناه: الشراء، الذي هو بالثمن، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه.
فإن قال قائل: وكيف يشتري لهو الحديث؟ قيل: يشتري ذات لهو الحديث، أو ذا لهو الحديث، فيكون مشتريا لهو الحديث.
وأما الحديث، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الغناء والاستماع له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يزيد بن يونس، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جُبَير، عن أبي الصهباء البكري (١) أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بغَيْرِ عِلْمٍ) فقال عبد الله: الغناء، والذي لا إله إلا هو، يردّدها ثلاث مرّات.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: أخبرنا حميد الخراط، عن عمار، عن سعيد بن جُبَير، عن أبي الصهباء، أنه سأل ابن مسعود، عن قول الله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عليّ بن عابس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا عمران بن عيينة، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال:
(١) أبو الصهباء "كما في خلاصة الخزرجي": هو صهيب الهاشمي، عن مولاه ابن عباس، وعلى، وابن مسعود، ولم يقل في نسبته: البكري، هناك صهيب المكي أبو موسى الحذاء، ولم يكنه بأبي الصهباء.
127
الغناء وأشباهه.
حدثنا ابن وكيع، والفضل بن الصباح، قالا ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: هو الغناء ونحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس، مثله.
حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الأنماطي، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: هو الغناء والاستماع له، يعني قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ).
حدثنا الحسن بن عبد الرحيم، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا سفيان، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن جابر في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: هو الغناء والاستماع له.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم أو مقسم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: شراء المغنية.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص والمحاربي، عن ليث، عن الحكم، عن ابن عباس، قال: الغناء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال: باطل الحديث: هو الغناء ونحوه.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن مجاهد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن مجاهد قال: الغناء.
قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
128
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا الأشجعي، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن مجاهد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: هو الغناء، وكلّ لعب لهو.
حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الأنماطي، قال: ثنا عليّ بن حفص الهمداني، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء والاستماع له وكل لهو.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: المغني والمغنية بالمال الكثير، أو استماع إليه، أو إلى مثله من الباطل.
حدثني يعقوب وابن وكيع، قالا ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: هو الغناء أو الغناء منه، أو الاستماع له.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثام بن عليّ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن شعيب بن يسار، عن عكرِمة قال: (لَهْوَ الحَدِيثِ) : الغناء.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا عثام، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن شعيب بن يسار هكذا قال عكرِمة، عن عبيد، مثله.
حدثنا الحسين بن الزبرقان النخعي، قال: ثنا أبو أسامة وعبيد الله، عن أسامة، عن عكرِمة في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أسامة بن زيد، عن عكرِمة، قال: الغناء.
وقال آخرون: عنى باللهو: الطبل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج الأعور، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: اللهو: الطبل.
وقال آخرون: عنى بلهو الحديث: الشرك.
* ذكر من قال ذلك:
حديث عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) يعني: الشرك.
129
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيل اللهِ بغيرِ عِلْمٍ وِيتَّخِذَها هُزُوًا) قال: هؤلاء أهل الكفر، ألا ترى إلى قوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) فليس هكذا أهل الإسلام، قال: وناس يقولون: هي فيكم وليس كذلك، قال: وهو الحديث الباطل الذي كانوا يلغون فيه.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: عنى به كلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله؛ لأن الله تعالى عمّ بقوله: (لَهْوَ الحَدِيثِ) ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه حتى يأتي ما يدلّ على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك.
وقوله: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يقول: ليصدّ ذلك الذي يشتري من لهو الحديث عن دين الله وطاعته، وما يقرّب إليه من قراءة قرآن وذكر الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال: سبيل الله: قراءة القرآن، وذكر الله إذا ذكره، وهو رجل من قريش اشترى جارية مغنية.
وقوله: (بغَيرِ عِلْم) يقول: فعل ما فعل من اشترائه لهو الحديث جهلا منه بما له في العاقبة عند الله من وزر ذلك وإثمه. وقوله: (وَيَتَّخِذَها هُزُوًا) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: (وَيَتَّخِذُها) رفعا، عطفا به على قوله: (يَشْتَرِي) كأن معناه عندهم: ومن الناس من يشتري لهو الحديث، ويتخذ آيات الله هزوا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: (وَيَتَّخِذَها) نصبا عطفا على يضلّ، بمعنى: ليضلّ عن سبيل الله، وليتخذَها هُزُوًا.
والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته، والهاء والألف في قوله: (وَيَتَّخِذَها) من ذكر سبيل الله.
130
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَيَتَّخِذَها هُزُوًا) قال: سبيل الله.
وقال آخرون: بل ذلك من ذكر آيات الكتاب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قال: بِحَسْب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ، وما يضرّ على ما ينفع، ويتخذها هزوا يستهزئ بها ويكذّب بها. وهما من أن يكونا من ذكر سبيل الله أشبه عندي لقربهما منها، وإن كان القول الآخر غير بعيد من الصواب، واتخاذه ذلك هزوا هو استهزاؤه به.
وقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ عذَابٌ مُهِينٌ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا أنهم يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله. لهم يوم القيامة عذاب مُذِلّ مخزٍ في نار جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإذا تُتلى على هذا الذي اشترى لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله آيات كتاب الله، فقرئت عليه (ولَّى مُسْتَكْبِرًا) يقول: أدبر عنها، واستكبر استكبارا، وأعرض عن سماع الحقّ والإجابة عنه (كأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كأنَّ فِي أُذُنَيهِ وَقْرًا) يقول: ثقلا فلا يطيق من أجله سماعه.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: (فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) قال: ثقلا.
وقوله: (فَبشِّرْهُ بعَذَابٍ ألِيمٍ) يقول تعالى ذكره: فبشر هذا المعرض عن آيات الله إذا تُلِيت عليه استكبارا بعذاب له من الله يوم القيامة مُوجِع، وذلك عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) }
يقول تعالى ذكره: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله فوحدوه، وصدّقوا رسوله واتبعوه (وَعمِلُوا الصَّالحَاتِ) يقول: فأطاعوا الله، فعملوا بما أمرهم في كتابه وعلى لسان رسوله، وانتهوا عما نهاهم عنه (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيم) يقول: لهؤلاء بساتين النعيم (خالدين فِيها) يقول: ماكثين فيها إلى غير نهاية (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) يقول: وعدهم الله وعدا حقا، لا شكّ فيه ولا خلف له (وَهُوَ العَزِيزُ) يقول: وهو الشديد في انتقامه من أهل الشرك به، والصادّين عن سبيله (الحَكِيمُ) في تدبير خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: ومن حكمته أنه (خَلَقَ السَّمَوَاتِ) السبع (بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)، وقد ذكرت فيما مضى اختلاف أهل التأويل في معنى قوله: (بغَيْرِ عمَدٍ تَرَوْنَها) وبيَّنا الصواب من القول في ذلك عندنا.
وقد حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن عمران بن حدير، عن عكرِمة، عن ابن عباس (بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قال: لعلها بعمد لا ترونها.
وقال: ثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن بن مسلم، عن مجاهد قال: إنها بعمد لا ترونها.
قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سماك، عن عكرِمة، عن ابن عباس قال: لعلها بعمد لا ترونها.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد، عن سماك، عن عكرمة في هذا الحرف (خَلَقَ السَّمَواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قال: ترونها بغير عمد، وهي بِعمد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (خَلَقَ السَّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قال: قال الحسن وقَتادة: إنها بغير عمد ترونها، ليس لها عمد.
وقال ابن عباس (بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) قال: لها عمد لا ترونها.
وقوله: (وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) يقول: وجعل على ظهر الأرض رواسي، وهي ثوابت الجبال أن تميد بكم أن لا تميد بكم. يقول: أن لا تضطرب بكم، ولا تتحرّك يمنة ولا يسرة، ولكن تستقرّ بكم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة: (وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ) : أي: جبالا (أنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أثبتها بالجبال، ولولا ذلك ما أقرّت عليها خلقا، وذلك كما قال الراجز:
والمُهْرُ يأْبَى أنْ يَزَال مُلَهَّبا (١)
بمعنى: لا يزال.
وقوله: (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلّ دابَّةٍ) يقول: وفرّق في الأرض من كلّ أنواع الدوابّ. وقيل: الدوابّ اسم لكلّ ما أكل وشرب، وهو عندي لكلّ ما دبّ على الأرض.
وقوله: (وأنزلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فأنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) يقول تعالى ذكره: وأنزلنا من السماء مطرا، فأنبتنا بذلك المطر في الأرض من كلّ زوج، يعني: من كل نوع من النبات (كريم)، وهو الحسن النِّبتة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) : أي حسن.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) ﴾
يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعددت عليكم أيها الناس أني خلقته في هذه الآية خلق الله الذي له ألوهة كل شيء، وعبادة كل خلق، الذي لا تصلح العبادة لغيره، ولا تنبغي لشيء سواه، فأروني أيها المشركون في عبادتكم إياه من دونه من الآلهة والأوثان، أي شيء خلق الذين من دونه من آلهتكم وأصنامكم، حتى استحقت عليكم
(١) البيت من شواهد الفراء في (معاني القرآن الورقة ٢٥١). قال عند تفسير قوله تعالى: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) : لئلا تميد بكم؛ و (أن) في هذا الموضع تكفي من (لا) كما قال الشاعر: والمهر يأتي أن يزل ملهبًا
* معناه: يأبى أن لا يزال. اهـ.
133
العبادة فعبدتموها من دونه؟ كما استحقّ ذلك عليكم خالقكم، وخالق هذه الأشياء التي عددتها عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (هَذَا خَلْقُ اللهِ) ما ذكر من خلق السموات والأرض، وما بثّ من الدوابّ، وما أنبت من كلّ زوج كريم (فأرونِي ماذا خلق الذين مِن دُونِه) الأصنام الذين تدعون من دونه.
وقوله: (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول تعالى ذكره: ما عبد هؤلاء المشركون الأوثان والأصنام من أجل أنها تخلق شيئا، ولكنهم دعاهم إلى عبادتها ضلالهم، وذهابهم عن سبيل الحقّ، فهم في ضلال: يقول: فهم في جور عن الحقّ، وذهاب عن الاستقامة مبين: يقول: يبين لمن تأمله، ونظر فيه وفكَّر بعقل أنه ضلال لا هدى.
134
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا لقمان الفقه في الدين والعقل والإصابة في القول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمان الحِكْمَةَ) قال: الفقه والعقل والإصابة في القول من غير نبوّة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ) أي الفقه في الإسلام، قال قَتادة: ولم يكن نبيا، ولم يوح إليه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن مجاهد في قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ) قال: الحكمة: الصواب، وقال غير أبي بشر: الصواب في غير النبوّة.
حدثنا ابن المثنى، ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد
134
أنه قال: كان لقمان رجلا صالحا، ولم يكن نبيا.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي وابن حميد، قالا ثنا حكام، عن سعيد الزبيدي، عن مجاهد قال: كان لقمان الحكيم عبدا حبشيا، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، قاضيا على بني إسرائيل.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: كان لقمان عبدا أسود، عظيم الشفتين، مشقَّق القدمين.
حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثني يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: كان لقمان الحكيم أسود من سودان مصر.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن عكرِمة، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدا حبشيا.
حدثنا العباس بن الوليد، قال: أخبرنا أبي، قال: ثنا الأوزاعي، قال: ثنا عبد الرحمن بن حرملة، قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأل، فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بِلال، ومهجِّع مولى عمر بن الخطاب، ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي الأشهب، عن خالد الربعي، قال: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا، فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، قال: أخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، ثم مكث ما شاء الله، ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، فقال: أخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما، فقال له لقمان: إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، قال: كان لقمان عبدا أسود، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، فأتاه رجل، وهو في مجلس أناس يحدّثهم، فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني.
135
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقمانَ الحِكْمَةَ) قال: القرآن.
قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الحكمة: الأمانة.
وقال آخرون: كان نبيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرِمة، قال: كان لقمان نبيا.
وقوله: (أنِ اشْكُرْ لِلهِ) يقول تعالى ذكره: (ولقد آتينا لقمان الحكمة)، أن احمد الله على ما آتاك من فضله، وجعل قوله: (أنِ اشكُرْ) ترجمة عن الحكمة؛ لأن من الحكمة التي كان أوتيها، كان شكره الله على ما آتَاهُ، وقوله: (وَمَنْ يَّشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) يقول: ومن يشكر الله على نعمه عنده فإنما يشكر لنفسه، لأن الله يجزل له على شكره إياه الثواب، وينقذه به من الهلكة (وَمَن كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يقول: ومن كفر نعمة الله عليه إلى نفسه أساء؛ لأن الله معاقبه على كفرانه إياه، والله غنيّ عن شكره إياه على نعمه، لا حاجة به إليه، لأن شكره إياه لا يزيد في سلطانه، ولا ينقص كفرانه إياه من ملكه. ويعني بقوله: (حَمِيدٌ) محمود على كلّ حال، له الحمد على نعمه، كفر العبد نعمته أو شكره عليها، وهو مصروف من مفعول إلى فعيل.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) يقول: لخطأ من القول عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: وأمرنا الإنسان ببرّ والديه (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ)
136
يقول: ضعفا على ضعف، وشدّة على شدّة، ومنه قول زهير:
فَلَنْ يَقُولُوا بِحَبْلٍ وَاهِنٍ خَلَقٍ لَوْ كانَ قَوْمُكَ فِي أسْبابِه هَلَكُوا (١)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في المعني بذلك، فقال بعضهم: عنى به الحمل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) يقول: شدّة بعد شدّة، وخلقا بعد خلق.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَهْنًا عَلى وَهْنٍ) يقول: ضعفا على ضعف.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ) أي جهدا على جهد.
وقال آخرون: بل عنى به: وهن الولد وضعفه على ضعف الأمّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَهْنًا عًلى وَهْنٍ) قال: وهن الولد على وهن الوالدة وضعفها.
وقوله: (وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ) يقول: وفطامه في انقضاء عامين. وقيل:
(١) البيت لزهير بن أبي سلمى (مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي ص ٢٤٥). وقبل البيت بيت مرتبط به ارتباط السؤال بالجواب قال:
هَلا سأَلتَ بني الصَّيْدَاءِ كُلِّهِمِ بِأَيّ حَبْلِ جِوَارٍ كُنْتُ أمْتَسِكُ
ومعنى بيت الشاهد: هو حبل شديد محكم، فمن تمسك به نجا، وليس بحبل ضعيف، من تعلق بأسبابه هلك. قالوا: وكان الحارث بن ورقاء الصيداوي من بني أسد، أغار على بني عبد الله بن غطفان، فغنم، واستاق إبل زهير وراعيه يسارًا فخاطبه زهير بهذه القصيدة، وذكره بأنه كان في عهده وجواره، وأنه إن لم يرد عليه الإبل والراعي فإنه سيقول فيه من قصائد الهجو ما يفضحه في أحياء العرب. وقال أبو عبيدة في تفسير قوله تعالى: (وهنًا على وهنٍ) : أي ضعفًا إلى ضعفها. واستشهد بالبيت. اهـ. وفيه الواهي بمعنى: الضعيف.
137
(وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ) وترك ذكر انقضاء اكتفاء بدلالة الكلام عليه، كما قيل: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) يراد به أهل القرية.
وقوله: (أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) يقول: وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمي عليك، ولوالديك تربيتهما إياك، وعلاجهما فيك ما عالجا من المشقة حتى استحكم قواك. وقوله: (إليَّ المَصِيرُ) يقول: إلى الله مصيرك أيها الإنسان، وهو سائلك عما كان من شكرك له على نعمه عليك، وعما كان من شكرك لوالديك، وبرّك بهما على ما لقيا منك من العناء والمشقة في حال طفوليتك وصباك، وما اصطنعا إليك في برّهما بك، وتحننهما عليك.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه.
ذكر الرواية الواردة في ذلك:
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: حلفت أمّ سعد أن لا تأكل ولا تشرب، حتى يتحوّل سعد عن دينه، قال: فأبى عليها، فلم تزل كذلك حتى غشي عليها، قال: فأتاها بنوها فسقوها، قال: فلما أفاقت دعت الله عليه، فنزلت هذه الآية (وَوَصَّيْنا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ... ) إلى قوله: (فِي الدُّنْيا مَعْرُوفًا).
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قالت أمّ سعد لسعد: أليس الله قد أمر بالبرّ، فوالله، لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا، ثم أوجروها، فنزلت هذه الآية (وَوَصَّيْنا الإنسانَ بِوَالِدَيْهِ).
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن سماك بن حرب، قال: قال سعد بن مالك: نزلت فيّ (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) قال: لما أسلمت، حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا، قال: فناشدتها أوّل يوم، فأبت وصبرت، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها، فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت: والله، لو كانت لك مئة نفس لخرجت قبل أن أدع ديني هذا، فلما رأت ذلك،
138
وعرفت أني لست فاعلا أكلت.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت أبا هبيرة يقول: قال: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص (وَإن جَاهَداكَ عَلَى أن تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ علْمٌ فَلا تُطِعْهُما... ) الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإن جاهدك أيها الإنسان، والداك على أن تشرك بي في عبادتك إياي معي غيري، مما لا تعلم أنه لي شريك، ولا شريك له تعالى ذكره علوّا كبيرا، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك بي، (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيا مَعْرُوفًا) يقول: وصاحبهما في الدنيا بالطاعة لهما فيما لا تبعة عليك فيه، فيما بينك وبين ربك ولا إثم.
وقوله: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليَّ) يقول: واسلك طريق من تاب من شركه، ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إليَّ) أي: من أقبل إليّ.
وقوله: (إليَّ مَرْجِعُكُمْ فأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) فإن إليّ مصيركم ومعادكم بعد مماتكم، فأخبركم بجميع ما كنتم في الدنيا تعملون من خير وشرّ، ثم أجازيكم على أعمالكم، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.
فإن قال لنا قائل: ما وجه اعتراض هذا الكلام بين الخبر عن وصيتي لقمان ابنه؟ قيل: ذلك أيضا وإن كان خبرا من الله تعالى ذكره عن وصيته عباده به، وأنه إنما أوصى به لقمان ابنه، فكان معنى الكلام: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ولا تطع في الشرك به والديك (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيا مَعْرُوفا) فإن الله وصّى بهما، فاستؤنف الكلام على وجه الخبر من الله، وفيه هذا المعنى، فذلك
وجه اعتراض ذلك بين الخبرين عن وصيته.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) ﴾
اختلف أهل العربية في معنى الهاء والألف اللتين في قوله: (إنَّها) فقال بعض نحويي البصرة: ذلك كناية عن المعصية والخطيئة. ومعنى الكلام عنده: يا بنيّ، إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل، أو إن الخطيئة. وقال بعض نحويي الكوفة: وهذه الهاء عماد. وقال: أنَّث تك، لأنه يراد بها الحبة، فذهب بالتأنيث إليها، كما قال الشاعر:
وَتَشْرَقُ بالقَوْلِ الَّذِي قَدْ أذَعْتَهُ كمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدَّمِ (١)
وقال صاحب هذه المقالة: يجوز نصب المثقال ورفعه، قال: فمن رفع رفعه (بتَكُ)، واحتملت النكرة أن لا يكون لها فعل في كان وليس وأخواتها، ومن نصب جعل في تكن اسما مضمرا مجهولا مثل الهاء التي في قوله: (إنَّها إن تَكُ) : ومثله قوله: (فإنَّها لا تَعْمَى الأبْصَارُ) قال: ولو كان (إن يك مثقال حبة) كان صوابا، وجاز فيه الوجهان. وأما صاحب المقالة الأولى، فإن نصب مثقال في قوله، على أنه خبر، وتمام كان، وقال: رفع بعضهم فجعلها كان التي لا تحتاج إلى خبر.
وأولى القولين بالصواب عندي، القول الثاني؛ لأن الله تعالى ذكره لم يعد عباده أن يوفيهم جزاء سيئاتهم دون جزاء حسناتهم، فيقال: إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل يأت الله بها، بل وعد كلا العاملين أن يوفيه جزاء أعمالهما. فإذا كان ذلك كذلك، كانت الهاء في قوله: (إنَّها) بأن تكون عمادا أشبه منها بأن تكون كناية عن الخطيئة والمعصية. وأما النصب في المثقال، فعلى أن في "تَكُ" مجهولا والرفع فيه على أن الخبر مضمر، كأنه قيل: إن تك في موضع مثقال حبة؛ لأن النكرات تضمر أخبارها،
(١) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعة القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص ١٢٣) وهو من قصيدة يهجو بها عمير بن عبد الله بن المنذر بن عبدان، حين جمع بينه وبين جهنام الشاعر، ليهاجيه. ورقم البيت (٣٤) ومعنى تشرق: تغص، وصدر القناة: أعلاها. والقناة: الرمح. اهـ. وفي "فرائد القلائد، شرح مختصر الشواهد" للعيني. قال: والشاهد في شرقت حيث أنث، مع أن فاعله مذكر، وهو الصدر، والقياس: شرق. ولكن لما كان الصدر الذي هو مضاف، بعض المضاف إليه، أعطى له حكمه. اهـ.
140
ثم يترجم عن المكان الذي فيه مثقال الحبة.
وعنى بقوله: (مِثْقالَ حَبَّةٍ) : زنة حبة. فتأويل الكلام إذن: إن الأمر إن تك زنة حبة من خردل من خير أو شرّ عملته، فتكن في صخرة، أو في السموات، أو في الأرض، يأت بها الله يوم القيامة، حتى يوفيك جزاءه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) من خير أو شرّ.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ) فقال بعضهم: عنى بها الصخرة التي عليها الأرض، وذلك قول رُوي عن ابن عباس وغيره، وقالوا: هي صخرة خضراء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال: الصخرة خضراء على ظهر حوت.
حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن عبد الله، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: خلق الله الأرض على حوت، والحوت هو النون الذي ذكر الله في القرآن (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء، ولا في الأرض.
وقال آخرون: عنى بها الجبال، قالوا: ومعنى الكلام: فتكن في جبل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة في قوله: (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ) أي: جبل.
وقوله: (يَأْتِ بِهَا اللهُ) كان بعضهم يوجه معناه إلى: يعلمه الله، ولا أعرف يأتي به بمعنى: يعلمه، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أن لقمان إنما
141
وصف الله بذلك؛ لأن الله يعلم أماكنه، لا يخفى عليه مكان شيء منه فيكون وجها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ويحيى، قالا ثنا أبو سفيان، عن السدي، عن أبي مالك (فَتَكُن فِي صخْرَةٍ أوْ فِي السَّمَوَاتِ أوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِها اللهُ) قال: يعلمها الله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، مثله.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) يقول: إن الله لطيف باستخراج الحبة من موضعها حيث كانت خبير بموضعها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (١٧) ﴾
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل لقمان لابنه (يا بُنَيَّ أقِمِ الصَّلاةَ) بحدودها (وأمُرْ بالمعْرُوفِ) يقول: وأمر الناس بطاعة الله، واتباع أمره (وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ) يقول: وانه الناس عن معاصي الله ومواقعة محارمه (وَاصْبِرْ عَلى ما أصَابَكَ) يقول: واصبر على ما أصابك من الناس في ذات الله، إذا أنت أمرتهم بالمعروف، ونهيتهم عن المنكر، ولا يصدّنك عن ذلك ما نالك منهم (إنَّ ذلكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) يقول: إن ذلك مما أمر الله به من الأمور عزما منه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني حجاج، عن ابن جُرَيج في قوله: (يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) قال: اصبر على ما أصابك من الأذى في ذلك (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) قال: إن ذلك مما عزم الله عليه من الأمور، يقول: مما أمر الله به من الأمور.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨) ﴾
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَلا تُصَعِّرْ) فقرأه بعض قرّاء الكوفة والمدنيين والكوفيين: (وَلا تُصَعِّرْ) على مثال (تُفَعِّل). وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة (وَلا تُصَاعِرْ) على مثال (تُفَاعِل).
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام: ولا تعرض بوجهك عمن كلمته تكبرا واستحقارا لمن تكلمه، وأصل (الصعر) داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رءوسها حتى تلفت أعناقها عن رءوسها، فيشبه به الرجل المتكبر على الناس، ومنه قول عمرو بن حُنَيٍّ التَّغلبيّ:
وكُنَّا إذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أقَمْنا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقوَّما (١)
(١) البيت لعمرو بن حني (بالنون) التغلبي (معجم الشعراء للمرزباني ص ٢٠٦ - ٢٠٧) وهو فارس جاهلي مذكور، يقول في قتلهم عمرو بن هند، على رواية محمد بن داود:قال: يريد: فتقوم أنت. وهذا البيت يروى من قصيدة المتلمس التي أولها:
نُعَاطِي المُلُوكَ الحَقَّ مَا قَصَدُوا بِنَا وَلَيْسَ عَلَيْنَا قَتْلُهُمْ بِمُحَرَّمِ
أنِفْتُ لَهُمْ مِنْ عَقْلِ عَمْرِو بنِ مَرْثَدٍ إذَا وَرَدُوا مَاءً وَرُمْح بنِ هَرْثَمِ
وَكُنَّا إذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمِ
يُعَيِّرُنِي أُمِّي رِجَالٌ وَلَنْ تَرَى أخا كرمٍ إلا بِأنْ يَتَكَرمَّا
وبعده البيت، وآخره: "أقمنا له من ميله فتقوما"
وغيره يروون هذه الأبيات لجابر بن حني التغلبي. وقال أبو عبيدة في تفسير قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس) : مجازه: لا تقلب وجهك، ولا تعرض بوجهك في ناحية، من الكبر؛ ومنه الصعر الذي يأخذ الإبل في رءوسها، حتى يلفت أعناقها عن رءوسها. وقال عمرو بن حني التغلبي: "وكنا... فتقوما". ونسب البيت في (اللسان: صعر) للمتلمس جرير بن عبد المسيح. قال: الصعر: ميل في الوجه. وقيل: الصعر: ميل في الخد خاصة. وربما كان خلقة في الإنسان والظليم. وقيل: هو ميل في العنق، وانقلاب في الوجه إلى حد الشقين. وقد صعر خده وصاعره: أماله من الكبر، قال المتلمس "وكنا... فتقوما". يقول: إذا أمال متكبر خده أذللناه حتى يتقوم ميله. اهـ.
143
واختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) يقول: ولا تتكبر؛ فتحقر عباد الله، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) يقول: لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلا تُصَعِّرْ) قال: الصدود والإعراض بالوجه عن الناس.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن جعفر بن برقان، عن يزيد في هذه الآية (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) قال: إذا كلمك الإنسان لويت وجهك، وأعرضت عنه محقرة له.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا خالد بن حيان الرقي، عن جعفر بن ميمون بن مهران، قال: هو الرجل يكلم الرجل فيلوي وجهه.
حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، قال: ثنا محمد بن ربيعة، قال: ثنا أبو مكين، عن عكرِمة في قوله: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) قال: لا تُعْرض بوجهك.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) يقول: لا تعرض عن الناس، يقول: أقبل على الناس بوجهك وحسن خلقك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) قال: تصعير الخدّ: التجبر والتكبر على الناس ومحقرتهم.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي مكين، عن عكرمة، قال: الإعراض.
وقال آخرون: إنما نهاه عن ذلك أن يفعله لمن بينه وبينه صعر، لا على وجه التكبر.
144
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) قال: الرجل يكون بينه وبين أخيه الحنة، فيراه فيعرض عنه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) قال: هو الرجل بينه وبين أخيه حنة فيعرض عنه.
وقال آخرون: هو التشديق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن جعفر الرازي، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: هو التشديق.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: هو التشديق أو التشدّق "الطبري يشكُّ".
حدثنا يحيى بن طلحة، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، بمثله.
وقوله: (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا) يقول: ولا تمش في الأرض مختالا.
كما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا) يقول: بالخيلاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ولا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا إنَّ اللهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) قال: نهاه عن التكبر، قوله: (إنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) متكبر ذي فخر.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) قال: متكبر. وقوله: (فخور) قال: يعدّد ما أعطى الله، وهو لا يشكر الله.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) ﴾
145
يقول: وتواضع في مشيك إذا مشيت، ولا تستكبر، ولا تستعجل، ولكن اتئد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أن منهم من قال: أمره بالتواضع في مشيه، ومنهم من قال: أمره بترك السرعة فيه.
ذكر من قال: أمره بالتواضع في مشيه:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن جابر، عن مجاهد (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) قال: التواضع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) قال: نهاه عن الخيلاء.
ذكر من قال نهاه عن السرعة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن عبد الله بن عقبة، عن يزيد بن أبي حبيب، في قوله: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) قال: من السرعة. قوله: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) يقول: واخفض من صوتك، فاجعله قصدا إذا تكلمت.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) قال: أمره بالاقتصاد في صوته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) قال: اخفض من صوتك.
واختلف أهل التأويل قوله: (إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) فقال بعضهم: معناه: إن أقبح الأصوات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة وأبان بن تغلب، قالا ثنا أبو معاوية عن جُوَيبر، عن الضحاك (إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ) قال: إن أقبح الأصوات (لَصَوْتُ الحَمِيرِ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ) أي: أقبح الأصوات لصوت الحمير، أوّله زفير، وآخره شهيق، أمره بالاقتصاد في صوته.
146
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت الأعمش يقول: (إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ) (١) صوت الحمير.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن أشرّ الأصوات.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن يحيى بن واضح، عن أبي حمزة، عن جابر عن عكرِمة والحكم بن عُتيبة (إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ) قال: أشرّ الأصوات.
قال جابر: وقال الحسن بن مسلم: أشدّ الأصوات.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) قال: لو كان رفع الصوت هو خيرا ما جعله للحمير.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: إن أقبح أو أشرّ الأصوات، وذلك نظير قولهم: إذا رأوا وجها قبيحا، أو منظرا شنيعا، ما أنكر وجه فلان، وما أنكر منظره.
وأما قوله: (لَصَوْتُ الحَمِيرِ) فأضيف الصوت، وهو واحد، إلى الحمير وهي جماعة، فإن ذلك لوجهين: إن شئت، قلت: الصوت بمعنى الجمع، كما قيل: (لَذَهَبَ بِسَمْعهمْ) وإن شئت قلت: معنى الحمير: معنى الواحد، لأن الواحد في مثل هذا الموضع يؤدّي عما يؤدي عنه الجمع.
(١) لعل فيه سقطًا، والأصل: أي أقبح الأصوات صوت... إلخ.
147
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٢٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: (أَلَمْ تَرَوْا) أيها الناس (أنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ) من شمس وقمر ونجم وسحاب (وَما فِي الأرْضِ) من دابة وشجر وماء وبحر وفلك، وغير ذلك من المنافع، يجري ذلك كله لمنافعكم ومصالحكم، لغذائكم وأقواتكم وأرزاقكم وملاذّكم، تتمتعون ببعض ذلك كله، وتنتفعون بجميعه، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً).
147
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض المكيين وعامة الكوفيين: (وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً) على الواحدة، ووجهوا معناها إلى أنه الإسلام، أو إلى أنها شهادة أن لا إله إلا الله. وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (نِعَمَهُ) على الجماع، ووجَّهوا معنى ذلك، إلى أنها النعم التي سخرها الله للعباد مما في السموات والأرض، واستشهدوا لصحة قراءتهم ذلك كذلك بقوله: (شاكِرًا لأنْعُمِهِ) قالوا: فهذا جمع النعم.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار، متقاربتا المعنى، وذلك أن النعمة قد تكون بمعنى الواحدة، ومعنى الجماع، وقد يدخل في الجماع الواحدة. وقد قال جلّ ثناؤه (وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فمعلوم أنه لم يعن بذلك نعمة واحدة. وقال في موضع آخر: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ)، فجمعها، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ ذلك فمصيب.
ذكر بعض من قرأ ذلك على التوحيد، وفسَّره على ما ذكرنا عن قارئيه أنهم يفسرونه.
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، قال: ثني مستور الهنائي، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قرأها: (وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً) وفسَّرها: الإسلام.
حُدثت عن الفراء قال: ثني شريك بن عبد الله، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قرأ: (نِعْمَةً) واحدة. قال: ولو كانت (نِعْمَهُ)، لكانت نعمة دون نعمة، أو نعمة فوق نعمة "الشكّ من الفراء".
حدثني عبد الله بن محمد الزهري، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا حميد، قال: قرأ مجاهد: (وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً) قال: لا إله إلا الله.
حدثني العباس بن أبي طالب، قال: ثنا ابن أبي بكير، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً) قال: كان يقول: هي لا إله إلا الله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد (وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً) قال: لا إله إلا الله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عُيينة، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال:
148
لا إله إلا الله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عيسى، عن قَيْس، عن ابن عباس (نِعَمَةً ظاهِرَةً وَباطِنَةً) قال: لا إله إلا الله. وقوله: (ظاهِرَةً) يقول: ظاهرة على الألسن قولا وعلى الأبدان وجوارح الجسد عملا. وقوله: (وَباطِنَةً) يقول: وباطنة في القلوب، اعتقادا ومعرفة.
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى) يقول تعالى ذكره: ومن الناس من يخاصم في توحيد الله، وإخلاص الطاعة والعبادة له (بِغَيرِ عِلْمٍ) عنده بما يخاصم، (وَلا هُدًى) : يقول: ولا بيان يبين به صحة ما يقول (وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) يقول: ولا بتنزيل من الله جاء بما يدعي، يبين حقية دعواه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) ليس معه من الله برهان ولا كتاب.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٢١) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يجادلون في توحيد الله جهلا منهم بعظمة الله اتبعوا أيها القوم ما أنزل الله على رسوله، وصدِّقوا به، فإنه يفرق بين المحقّ منا والمبطل، ويفصل بين الضّالّ والمهتدى، فقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من الأديان، فإنهم كانوا أهل حقّ، قال الله تعالى ذكره (أوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) بتزيينه لهم سوء أعمالهم، واتباعهم إياه على ضلالتهم، وكفرهم بالله، وتركهم اتباع ما أنزل الله من كتابه على نبيه (إلى عَذَابِ السَّعِيرِ) يعني: عذاب النار التي تتسعر وتلتهب.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (٢٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: ومن يُعبِّد وجهه متذللا بالعبودة، مقرّا له بالألوهة (وَهُوَ مُحْسِنٌ) يقول: وهو مطيع لله في أمره ونهيه، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) يقول:
فقد تمسك بالطرف الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه من تمسك به، وهذا مثل، وإنما يعني بذلك: أنه قد تمسك من رضا الله بإسلامه وجهه إليه وهو محسن، ما لا يخاف معه عذاب الله يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي السوداء، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) قال: لا إله إلا الله.
وقوله: (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) يقول: وإلى الله مرجع عاقبة كلّ أمر خيره وشرّه، وهو المسائل أهله عنه، ومجازيهم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (٢٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: ومن كفر بالله فلا يحزنك كفره، ولا تذهب نفسك عليهم حسرة، فإنّ مرجعهم ومصيرهم يوم القيامة إلينا، ونحن نخبرهم بأعمالهم الخبيثة التي عملوها في الدنيا، ثم نجازيهم عليها جزاءهم (إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول: إن الله ذو علم بما تكنه صدورهم من الكفر بالله، وإيثار طاعة الشيطان. وقوله: (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا) يقول: نمهلهم في هذه الدنيا مهلا قليلا يتمتعون فيها (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) يقول: ثم نوردهم على كره منهم عذابا غليظا، وذلك عذاب النار، نعوذ بالله منها، ومن عمل يقرّب منها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك (مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ لله) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد، فإذا
قالوا ذلك، فقل لهم: الحمد لله الذي خلق ذلك، لا لمن لا يخلق شيئا وهم يخلقون، ثم قال تعالى ذكره: (بَلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلَمون) يقول: بل أكثر هؤلاء المشركون لا يعلمون من الذي له الحمد، وأين موضع الشكر، وقوله: (لِلهِ ما فِي السَّمَوَاتِ والأرْضِ) يقول تعالى ذكره: لله كلّ ما في السموات والأرض من شيء ملكا كائنا ما كان ذلك الشيء من وثن وصنم وغير ذلك، مما يعبد أو لا يعبد (إنَّ الله هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ) يقول: إن الله هو الغنيّ عن عباده هؤلاء المشركين به الأوثان والأنداد، وغير ذلك منهم ومن جميع خلقه؛ لأنهم ملكه وله، وبهم الحاجة إليه، الحميد: يعني: المحمود على نعمه التي أنعمها على خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولو أن شجر الأرض كلها بريت أقلاما (والبَحْرُ يَمُدُّهُ) يقول: والبحر له مداد، والهاء في قوله: (يَمُدُّهُ) عائدة على البحر. وقوله: (منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مِا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) وفي هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه منه، وهو يكتب كلام الله بتلك الأقلام وبذلك المداد، لتكسرت تلك الأقلام، ولنفذ ذلك المداد، ولم تنفد كلمات الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن عن هذه الآية (وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ) قال: لو جعل شجر الأرض أقلاما، وجعل البحور مدادا، وقال الله: إن من أمري كذا، ومن أمري كذا، لنفد ماء البحور، وتكسَّرت الأقلام.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو في قوله: (وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ) قال: لو بريت أقلاما والبحر مدادا، فكتب بتلك الأقلام منه (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ولو مدّه سبعة أبحر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَلَوْ أنَّما في
151
الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، قال: لو كان شجر البرّ أقلاما، ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.
وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ في سبب مجادلة كانت من اليهود له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: ثني رجل من أهل مكة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: أن أحبار يهود قالوا لرسول الله ﷺ بالمدينة: يا محمد، أرأيت قوله: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْم إلا قَلِيلا) إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلا"، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كلّ شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّها في عِلْمِ اللهِ قَلِيلٌ وَعِنْدَكُمْ مِنْ ذلكَ ما يكْفِيكُمْ"، فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك (وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، قال: سأل أهل الكتاب رسول الله ﷺ عن الروح، فأنزل الله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة، وهي الحكمة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) قال: فنزلت (وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدذُهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قال: ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار، وأدخلكم الجنة، فهو كثير طيب، وهو في علم الله قليل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: لما نزلت بمكة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العلْم إلا قَلِيلا) يعني: اليهود، فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة، أتاه أحبار يهود، فقالوا: يا محمد، ألم يبلغنا أنك تقول: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا) أفتعنينا أم قومك؟ قال: "كُلا قَدْ عَنَيْتُ"، قالوا: فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة، وفيها تبيان
152
كلّ شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِيَ فِي عِلمِ اللهِ قَلِيلٌ، وقَدْ أتاكُمُ اللهُ ما إنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ"، فأنزل الله: (وَلَوْ أنَّما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ... ) إلى قوله: (إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (والبَحْرُ يَمُدُّهُ مَنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ) فقرأته عامَّة قرّاء المدينة والكوفة: (والبحرُ) رفعا على الابتداء، وقرأته قرّاء البصرة نصبا، عطفا به على "ما" في قوله: (وَلَوْ أنَّمَا فِي الأرْضِ)، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندي. وقوله: (إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يقول: إن الله ذو عزّة في انتقامه ممن أشرك به، وادّعى معه إلها غيره، حكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: ما خلقكم أيها الناس ولا بعثكم على الله إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، وذلك أن الله لا يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع منه شيء شاءه (إنما أمره إذَا أرَادَ شَيْئا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون) فسواء خلق واحد وبعثه، وخلق الجميع وبعثهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (كَنَفْسٍ وِاحِدَةٍ) يقول: كن فيكون للقليل والكثير.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) قال: يقول: إنما خلق الله الناس كلهم وبعثهم كخلق نفس واحدة وبعثها، وإنما صلح أن يقال: إلا كنفس واحدة، والمعنى: إلا كخلق نفس واحدة؛ لأن المحذوف فعل يدلّ عليه قوله: (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) والعرب تفعل ذلك في المصادر، ومنه قول الله: (تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ) والمعنى: كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت، فلم يذكر الدوران والعين لما وصفت.
153
وقوله: (إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله سميع لما يقول هؤلاء المشركون ويفترونه على ربهم، من ادّعائهم له الشركاء والأنداد وغير ذلك من كلامهم وكلام غيرهم، بصير بما يعملونه وغيرهم من الأعمال، وهو مجازيهم على ذلك جزاءهم.
154
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: (ألَمْ تَرَ) يا محمد بعينك (أنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) يقول: يزيد من نقصان ساعات الليل في ساعات النهار (وَيُولجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) يقول: يزيد ما نقص من ساعات النهار في ساعات اللَّيل.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) نقصان الليل في زيادة النهار (وَيُولجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) نقصان النهار في زيادة الليل.
وقوله: (وَسَخَّر الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إلى أجَل مُسَمًّى) يقول تعالى ذكر: وسخر الشمس والقمر لمصالح خلقه ومنافعهم، (كلٌّ يجري) يقول: كلّ ذلك يجري بأمره إلى وقت معلوم، وأجل محدود إذا بلغه كوّرت الشمس والقمر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يقول: لذلك كله وقت وحد معلوم، لا يجاوزه ولا يعدوه.
وقوله: (وَأنَّ اللهَ بمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ) يقول: وإن الله بأعمالكم أيها الناس من خير أو شرّ ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميع ذلك، وخرج هذا الكلام خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنيّ به المشركون، وذلك
أنه تعالى ذكره: نبه بقوله: (أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) على موضع حجته من جهل عظمته، وأشرك في عبادته معه غيره، يدلّ على ذلك قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) ﴾
يقول تعالى ذكر: هذا الذي أخبرتك يا محمد أن الله فعله من إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل، وغير ذلك من عظيم قُدرته، إنما فعله بأنه الله حقا، دون ما يدعوه هؤلاء المشركون به، وأنه لا يقدر على فعل ذلك سواه، ولا تصلح الألوهة إلا لمن فعل ذلك بقُدرته.
وقوله. (وأنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطِلُ) يقول تعالى ذكره: وبأن الذي يعبد هؤلاء المشركون من دون الله الباطل الذي يضمحلّ، فيبيد ويفنى (وأنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) يقول تعالى ذكره: وبأن الله هو العليُّ، يقول: ذو العلوّ على كلّ شيء، وكلّ ما دونه فله متذلل منقاد، الكبير الذي كل شيء دونه، فله متصاغر.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر يا محمد أن السفن تجري في البحر نعمة من الله على خلقه (لِيُرِيكُمْ مِنْ آياتِهِ) يقول: ليريكم من عبره وحججه عليكم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يقول: إن في جري الفلك في البحر دلالة على أن الله الذي أجراها هو الحقّ، وأنّ ما يدعون من دونه الباطل (لكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يقول: لكلّ من صبر نفسه عن محارم الله، وشكره على نعمه فلم يكفره.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قال: كان مطرف يقول: إنّ من أحبّ عباد الله إليه: الصبَّار الشَّكور.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، قال: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كله، ألم تر إلى قوله: (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ
لكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ للْمُوقِنينَ)، (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ للْمُؤْمِنينَ).
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن مغيرة، عن الشعبيّ (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ لكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) قال: الصبر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كله.
إن قال قائل: وكيف خصّ هذه الدلالة بأنها دلالة للصبَّار الشَّكور دون سائر الخلق؟ قيل: لأنّ الصبر والشكر من أفعال ذوي الحجى والعقول، فأخبر أن في ذلك لآيات لكلّ ذي عقل؛ لأن الآيات جعلها الله عبرا لذوي العقول والتمييز.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإذا غشى هؤلاء الذين يدعون من دون الله الآلهة والأوثان في البحر -إذا ركبوا في الفُلك- موج كالظُلل، وهي جمع ظُلَّة، شبَّه بها الموج في شدة سواد كثرة الماء، قال نابغة بني جعدة في صفة بحر:
يُماشِيهِنَّ أخْضَرُ ذُو ظلال عَلى حافاتِهِ فِلَق الدّنانِ (١)
وشبه الموج وهو واحد بالظلل، وهي جماع، لأن الموج يأتي شيء منه بعد شيء، ويركب بعضه بعضا كهيئة الظلل. وقوله: (دَعَوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ) يقول تعالى ذكره: وإذا غشى هؤلاء موج كالظلل، فخافوا الغرق، فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له الطاعة، لا يشركون به هنالك شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره. قوله: (فَلَمَّا نجَّاهُمْ إلى البَرّ) مما كانوا يخافونه في البحر من الغرق والهلاك إلى البرّ. (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) يقول: فمنهم مقتصد في قوله وإقراره بربه، وهو مع ذلك مضمر الكفر به.
(١) البيت في (مجاز القرآن لأبي عبيدة الورقة ١٩١ ب) قال عند تفسير قوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل) : واحدتها: ظلة. ومجازه: من شدة سواد كثرة الماء ومعظمه. قال النابغة الجعدي وهو يصف البحر: "يماشيهن... فلق الدنان". يريد: أن البحر يمتد معهن في سيرهن. وظلال البحر: أمواجه، لأنها ترفع فتظل السفينة ومن فيها. والدنان بالدال المهملة: جمع دن بالفتح، هو راقود الخمر الكبير.
156
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال: المقتصد في القول وهو كافر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال: المقتصد الذي على صلاح من الأمر.
وقوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) يقول تعالى ذكره: وما يكفر بأدلتنا وحججنا إلا كلّ غدّار بعهده، والختر عند العرب: أقبح الغدر، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
وَإنَّكَ لَوْ رأيْتَ أبا عُمَيْرٍ مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرٍ (١)
وقوله: (كَفُور) يعني: جحودا للنعم، غير شاكر ما أسدى إليه من نعمة.
وبنحو الذي قلنا في معنى الختار قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد (كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قال: كلّ غَدّار.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كُلُّ خَتَّارٍ) قال: غدّار.
حدثني يعقوب وابن وكيع، قالا ثنا ابن علية، عن أبي رجاء عن الحسن في قوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قال: غدّار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَمَا يَجْحَدُ
(١) البيت في (مجاز القرآن لأبي عبيدة، الورقة ١٩١ ب) عند تفسير قوله تعالى: (كل مختار كفور) قال: الختر: الكبر والغدر، قال عمرو بن معد يكرب "وإنك لو رأيت" البيت وفي (اللسان ختر) : الختر شبيه بالغدر والخديعة، وقيل: هو الخديعة بعينها، وقيل: هو أسوأ الغدر وأقبحه، ختر يختر، فهو خاتر، وختار للمبالغة، والفعل من بابي ضرب ونصر.
157
بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) الختار: الغدار، كلّ غدار بذمته كفور بربه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قال: كلّ جحاد كفور.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قال: الختار: الغدّار، كما تقول: غدرني.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مسعر، قال: سمعت قَتادة قال: الذي يغدر بعهده.
قال: ثنا المحاربي، عن جُوَيبر، عن الضحاك، قال: الغدّار.
قال: ثنا أبي: عن الأعمش، عن سمر بن عطية الكاهلي، عن عليّ رضي الله عنه قال: المكر غدر، والغدر كفر.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: أيها المشركون من قريش، اتقوا الله، وخافوا أن يحلّ بكم سخطه في يوم لا يغني والد عن ولده، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا؛ لأن الأمر يصير هنالك بيد من لا يغالب، ولا تنفع عنده الشفاعة والوسائل، إلا وسيلة من صالح الأعمال التي أسلفها في الدنيا. وقوله: (إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقّ) يقول: اعلموا أن مجيء هذا اليوم حقّ، وذلك أن الله قد وعد عباده ولا خلف لوعده (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا) يقول: فلا تخدعنكم زينة الحياة الدنيا ولذّاتها، فتميلوا إليها، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله ذلك اليوم. وقوله: (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغَرُورُ) يقول: ولا يخدعنَّكم بالله خادع. والغَرور بفتح الغين: هو ما غرّ الإنسان من شيء كائنا ما كان شيطانا كان أو إنسانا، أو دنيا، وأما الغُرور بضم الغين: فهو مصدر من قول القائل: غررته غرورا.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (ولا يَغُرَّنَّكُمْ باللهِ الغَرُورُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (الغَرُور) قال: الشيطان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَلا يَغُرنَّكُمْ باللهِ الغَرُور) ذاكم الشيطان.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد المروزي، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (الغَرُورُ) قال: الشيطان.
وكان بعضهم يتأوّل الغَرور بما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَير قوله: (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ باللهِ الغَرُورُ) قال: إن تعمل بالمعصية وتتمنى المغفرة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا) هو آتيكم؛ علم إتيانه إياكم عند ربكم، لا يعلم أحد متى هو جائيكم، لا يأتيكم إلا بغتة، فاتقوه أن يفجأكم بغتة، وأنتم على ضلالتكم لم تنيبوا منها، فتصيروا من عذاب الله وعقابه إلى ما لا قبل لكم به. وابتدأ تعالى ذكره الخبر عن علمه بمجيء الساعة. والمعنى: ما ذكرت لدلالة الكلام على المراد منه، فقال: (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) التي تقوم فيها القيامة، لا يعلم ذلك أحد غيره (وينزلُ الغيْثَ) من السماء، لا يقدر على ذلك أحد غيره، (وَيَعْلَمُ ما في الأرْحامِ) أرحام الإناث (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَدًا) يقول: وما تعلم نفس حيّ ماذا تعمل في غد، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْض تَمُوتُ) يقول: وما تعلم نفس حيّ بأيّ أرض تكون منيتها (إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) يقول: إن الذي يعلم ذلك كله هو الله دون كلّ أحد سواه، إنه ذو علم بكلّ شيء، لا يخفى عليه شيء، خبير بما هو كائن، وما قد كان.
159
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قال: جاء رجل - قال أبو جعفر: أحسبه أنا، قال: - إلى النبيّ ﷺ فقال: إن امرأتي حُبلى، فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادنا محل جدبة، فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت، فأخبرني متى أموت، فأنزل الله: (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الغَيْثَ... ) إلى آخر السورة، قال: فكان مجاهد يقول: هنّ مفاتح الغيب التي قال الله (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... ) الآية، أشياء من الغيب، استأثر الله بهنّ، فلم يطلع عليهنّ ملَكا مقرّبا، ولا نبيا مرسلا (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة، في أيّ سنة، أو في أيّ شهر، أو ليل، أو نهار (ويُنزلُ الغَيْثَ) فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ليلا أو نهارا ينزل؟ (وَيَعْلَمُ ما فِي الأرْحامِ) فلا يعلم أحد ما فِي الأرحام، أذكر أو أنثى، أحمر أو أسود، أو ما هو؟ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) خير أم شرّ، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت؟ لعلك الميت غدا، لعلك المصاب غدا؟ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْضٍ تَمُوتُ) ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض في بحر أو برّ أو سهل أو جبل، تعالى وتبارك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبيّ، قال: قالت عائشة: من قال: إن أحدا يعلم الغيب إلا الله فقد كذب، وأعظم الفرية على الله، قال الله: (لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله).
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن يونس بن عبيد، عن عمرو بن شُعيب أن رجلا قال: يا رسول الله، هل من العلم علم لم تؤته؟ قال: "لَقَدْ أُوتِيتُ عِلْما
160
كَثِيرًا، وَعِلما حَسنًا"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الغَيْثَ... ) إلى (إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لا يَعْلَمُهُنَّ إلا اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عمرو بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال: "مَفاتِحُ الغَيبِ خَمْسَةٌ" ثم قرأ هؤلاء الآيات (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة... ) إلى آخرها.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَفاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إلا اللهُ، (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الغَيْثَ وَيعْلَمُ ما فِي الأرْحامِ... ) " الآية، ثم قال: "لا يعْلَمُ ما فِي غَدٍ إلا اللهُ، وَلا يَعْلَمُ أحَدٌ مَتى يَنزلُ الغَيْثَ إلا اللهُ، وَلا يَعْلَمُ أحَدٌ مَتى قِيامُ السَّاعَةِ إلا اللهُ، وَلا يَعْلَمُ أحَدٌ ما فِي الأرْحامِ إلا اللهُ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْض تَمُوتُ."
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَفاتحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُها إلا اللهُ: إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الغيْثَ وَيعْلَمُ ما فِي الأرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَدًا وما تَدْري نَفْسٌ بأيّ أرضٍ تَمُوتُ إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن مسعر، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلمة، عن ابن مسعود قال: كلّ شيء أوتيه نبيكم ﷺ إلا علم الغيب الخمس: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة، قالت: من حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: (وَما تَدْرِي
161
نَفْسٌ ماذَا تكْسبُ غَدًا).
قال: تنا جرير وابن علية، عن أبي خباب، عن أبي زُرعة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: "خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إلا اللهُ: (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنزلُ الغَيْثَ... ) الآية".
حدثني أبو شُرَحبيل، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا إسماعيل، عن جعفر، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلمة، عن ابن مسعود، قال: كلّ شيء قد أوتي نبيكم غير مفاتح الغيب الخمس، ثم قرأ هذه الآية (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَة... ) إلى آخرها.
وقيل: (بأيّ أرض تموت)، وفيه لغة أخرى: (بأيَّةِ أرْضٍ) فمن قال: (بأيّ أرْضٍ) اجتز بتأنيث الأرض من أن يظهر في (أيِّ) تأنيث آخر، ومن قال (بأيَّة أرْضٍ) فأنث، (أي) قال: قد تجتزئ بأي مما أضيف إليه، فلا بدّ من التأنيث، كقول القائل: مررت بامرأة، فيقال له: بأيةٍ، ومررت برجل، فيقال له بأيٍّ؟ ويقال: أي امرأة جاءتك وجاءك، وأية امرأة جاءتك.
آخر تفسير سورة لقمان.
162
تفسير سورة السجدة
163
Icon