تفسير سورة الجمعة

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

- ١ - يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
- ٢ - هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ
- ٣ - وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- ٤ - ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسَبِّحُ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَيْ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ نَاطِقِهَا وَجَامِدِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾، ثم قال تعالى ﴿الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ﴾ أَيْ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، المتصرف فيها بحكمه، وهو المقدس أَيِ الْمُنَزَّهِ عَنِ النَّقَائِصِ، الْمَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، ﴿العزيز الحكيم﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾، الْأُمِّيُّونَ: هُمُ الْعَرَبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ﴾؟ وَتَخْصِيصُ الْأُمِّيِّينَ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَنْ عَدَاهُمْ، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ ولقومك﴾ وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به، وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ مِصْدَاقُ إِجَابَةِ اللَّهِ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، حِينَ دَعَا لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَبْعَثَ الله فيهم رسولاً منهم، فبعثه الله تعالى عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ، وَطُمُوسٍ مِنَ السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَدَّلُوهُ وغيّروه. وَاسْتَبْدَلُوا بِالتَّوْحِيدِ شِرْكًا، وَبِالْيَقِينِ شَكًّا، وَابْتَدَعُوا أَشْيَاءَ لم يأذن بها الله، وكذلك أَهْلَ الكتاب قَدْ بَدَّلُوا كُتُبَهُمْ وَحَرَّفُوهَا، وَغَيَّرُوهَا وَأَوَّلُوهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِشَرْعٍ عظيم كامل شامل، فيه هدايته والبيان لجميع ما يحتاج الناس إليه من أمر معاشهم ومعادهم، وجمع له تعالى
497
جَمِيعَ الْمَحَاسِنِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَأَعْطَاهُ مَا لم يعط أحداً من الأولين ولا يعيطه أَحَدًا مِنَ الْآخَرِينَ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وقوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم﴾. روى الإمام الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ﴾ قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُمْ حَتَّى سُئِلَ ثَلَاثًا، وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ على سلمان الفارسي، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لناله رجال - أو رجل - من هؤلاء» (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي). ففي هذا الحديث دليل على عُمُومِ بَعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جميع الناس، لأنه فسَّر قوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ بفارس، ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ﴾ قَالَ: هُمُ الْأَعَاجِمُ وَكُلُّ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ العرب، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أَيْ ذُو الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ في شرعه وقدره، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ يَعْنِي مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النُّبُوَّةِ العظيمة. وما خص به أُمته من بعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ.
498
- ٥ - مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- ٦ - قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ
- ٧ - وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
- ٨ - قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْيَهُودِ، الَّذِينَ أُعطوا التَّوْرَاةَ وَحَمَلُوهَا لِلْعَمَلِ بها، ثم لم يَعْمَلُوا بِهَا، مَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ أَيْ كَمَثَلِ الْحِمَارِ إِذَا حُمِّلَ كُتُبًا لَا يَدْرِي مَا فِيهَا، فَهُوَ يَحْمِلُهَا حَمْلًا حِسِّيًّا وَلَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ فِي حَمْلِهِمُ الْكِتَابَ الَّذِي أُوتُوهُ، حَفِظُوهُ لفظاً ولم يتفهموه، ولا عملوا بمقتضاه، فهم أسوأ حالاً من الحمار، لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا فَهْمَ لَهُ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فهوم
لم يستعملوها، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغافلون﴾، وقال تعالى ههنا: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ، والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ لَيْسَ لَهُ جمعة" (أخرجه الإمام أحمد)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى هُدًى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى الضَّالِّ مِنَ الْفِئَتَيْنِ ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي فِيمَا تَزْعُمُونَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفُجُورِ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ وقد قدمنا الكلام في سورة البقرة عَلَى هَذِهِ الْمُبَاهَلَةِ لِلْيَهُودِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ
498
اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} كَمَا تَقَدَّمَتْ مُبَاهَلَةُ النَّصَارَى فِي آلِ عِمْرَانَ ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ﴾ الآية. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: إِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أهلاً ولا مالاً» (رواه البخاري والترمذي والنسائي)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، كَقَوْلِهِ تعالى في سورة النساء: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يدركم الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾، وفي معجم الطبراني عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: "مَثَلُ الَّذِي يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ كَمَثَلِ الثَّعْلَبِ تَطْلُبُهُ الْأَرْضُ بِدَيْنٍ، فَجَاءَ يَسْعَى حَتَّى إِذَا أَعْيَا وَانْبَهَرَ دخل حجره: فَقَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ، يَا ثَعْلَبُ دَيْنِي، فَخَرَجَ لَهُ حِصَاصٌ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تَقَطَّعَتْ عُنُقُهُ فمات" (رواه الحافظ الطبراني).
499
- ٩ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
- ١٠ - فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تفلحون
إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْجُمُعَةُ جُمُعَةً لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً بِالْمَعَابِدِ الْكِبَارِ، وَفِيهِ كَمُلَ جميع الخلائق، وفيه خلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيخ أُخرج منها، وفيه تقوم الساعة، كما ثبت بذلك الأحاديث الصحاح، وقد كان يقال له (يَوْمُ الْعُرُوبَةِ)، وَثَبَتَ أَنَّ
الْأُمَمَ قَبْلَنَا أُمروا بِهِ فَضَلُّوا عَنْهُ، وَاخْتَارَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ الذي لم يقع فيه خلق آدم، وَاخْتَارَ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ الْخَلْقُ، وَاخْتَارَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّذِي أَكْمَلَ اللَّهُ فِيهِ الْخَلِيقَةَ، كَمَا أَخْرَجَهُ البخاري ومسلم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قبلنا، ثم إن هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد» (هذا لفظ البخاري) ولمسلم: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتَ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأحد، فجاء الله بها فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ القيامة، المقضي بينهم قبل الخلائق» (أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم). وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاجْتِمَاعِ لِعِبَادَتِهِ يَوْمَ الجمعة فقال تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها، وليس المراد بالسعي ههنا الْمَشْيُ السَّرِيعُ وَإِنَّمَا هُوَ الِاهْتِمَامُ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مؤمن﴾، فَأَمَّا الْمَشْيُ السَّرِيعُ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَلَا تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فصلوا وما فاتكم
499
فأتموا». وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟» قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: «فَلَا تفعلوا. إذا أتيتم الصلاة فامشكوا وَعَلَيْكُمُ السِّكِينَةُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلَّوْا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» (أَخْرَجَاهُ في الصحيحين). وفي رواية: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَلَكِنِ ائْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فصلوا وما فاتكم فأتموا» (رواه الترمذي)، قَالَ الْحَسَنُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالسَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَلَقَدْ نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الصَّلَاةَ إِلَّا وَعَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلَكِنْ بِالْقُلُوبِ وَالنِّيَّةِ والخشوع، وقال قتادة في قوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي أَنْ تَسْعَى بِقَلْبِكَ وَعَمَلِكَ وَهُوَ الْمَشْيُ إِلَيْهَا، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي﴾ أي المشي معه.
ويستحب لمن جاء إلى الْجُمُعَةَ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ مَجِيئِهِ إِلَيْهَا، لِمَا ثبت في الصحيحين عن عبد الله ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ». وَلَهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقٌّ الله عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). وعن أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: من غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرُ سَنَةٍ صيامها وقيامها" (قال ابن كثير: هذا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ وَأَلْفَاظٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ جنابة ثم راح في الساعة الأولى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذكر» (أخرجه الشيخان)، ويستحب أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيَتَطَيَّبَ وَيَتَسَوَّكَ وَيَتَنَظَّفَ ويتطهر. لما روى الإمام أحمد عن أبي أيوب الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَسَّ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ إِنْ بَدَا لَهُ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى» (أخرجه الإمام أحمد). وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَأَى عَلَيْهِمْ ثِيَابَ النِّمَارِ، فَقَالَ: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ سَعَةً أَنْ يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوب مِهْنَتِهِ» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذاً نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة﴾ الْمُرَادُ بِهَذَا النِّدَاءِ
هُوَ (النِّدَاءُ الثَّانِي) الَّذِي كَانَ يُفْعَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنَّهُ كَانَ حينئذٍ يُؤَذَّنُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ، فَأَمَّا النِّدَاءُ الْأَوَّلُ الَّذِي زَادَهُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِكَثْرَةِ النَّاسِ، كما رواه البخاري رحمه الله، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ
500
قَالَ: «كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلَهُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بَعْدَ زَمَنٍ وَكَثُرَ الناس، زاد النداء على الزوراء»
(رواه البخاري) يعني يؤذن به على الدار التي تسمة بِالزَّوْرَاءِ، وَكَانَتْ أَرْفَعَ دَارٍ بِالْمَدِينَةِ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ. وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إِذَا نُودِيَ بِهِ، فَأَمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُنَادَى قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ الرِّجَالُ الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان، ويعذر المسافر والمريض وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ كَمَا هُوَ مقرر في كتب الفروع.
وقوله تعالى: ﴿وَذَرُواْ الْبَيْعَ﴾ أَيِ اسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَاتْرُكُوا الْبَيْعَ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْبَيْعِ بعد النداء الثاني، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ تَرْكُكُمُ الْبَيْعَ وَإِقْبَالُكُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾ أَيْ فُرِغَ مِنْهَا ﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ لَمَّا حجر عليهم من التَّصَرُّفِ بَعْدَ النِّدَاءِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ، أَذِنَ لَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ فِي الِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ وَالِابْتِغَاءِ مِن فَضْلِ اللَّهِ، كَمَا كَانَ (عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَرُوِي عَنْ بَعْضِ السلف أنه قال: من باع واشترع فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ مَرَّةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله﴾، وقوله تعالى: ﴿واذكروا الله كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي في حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَلَا تَشْغَلْكُمُ الدُّنْيَا عَنِ الَّذِي يَنْفَعُكُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ دَخَلَ سُوقًا مِنَ الْأَسْوَاقِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حسنة ومحا عَنْهُ أَلْفُ أَلْفِ سَيِّئَةٍ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا حَتَّى يَذْكُرَ اللَّهَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا.
501
- ١١ - وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان من وَقَعَ مِنْ الِانْصِرَافِ عَنِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى التِّجَارَةِ الَّتِي قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ يومئذٍ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً﴾ أَيْ عَلَى الْمِنْبَرِ تَخْطُبُ، عن جابر رضي الله عنه قال: قدمت عير مرة الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَخَرَجَ النَّاسُ، وَبَقِيَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ (أخرجاه في الصحيحين). وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدِمَتْ عِيرٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَابْتَدَرَهَا أَصْحَابُ رسول الله ﷺ حتى لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَتَابَعْتُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي نَارًا» وَنَزَلَتْ
501
هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً﴾، وَقَالَ: كَانَ فِي الاثني عشر للذين ثَبَتُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (رواه الحافظ الموصلي)، وفي قوله تعالى: ﴿وَتَرَكُوكَ قَآئِماً﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صحيحه عن جابر بن سمرة قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَتَانِ يَجْلِسُ بينهما يقرأ القرآن ويذكّر الناس، ولكن ههنا شَيْءٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ
وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدِّمُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْخُطْبَةِ، كَمَا رَوَاهُ أبو داود في كتاب المراسيل، عن مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ مِثْلَ الْعِيدَيْنِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَقَدْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ دَحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ قَدْ قَدِمَ بِتِجَارَةٍ، يَعْنِي فَانْفَضُّوا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ (أخرجه أبو داود)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ أَيِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ﴿خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ أَيْ لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَطَلَبَ الرِّزْقَ فِي وقته.
502
- ٦٣ - سورة المنافقون.
503
Icon