تفسير سورة التغابن

اللباب
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة التغابن
مدنية في قول الأكثرين١.
وقال الضحاك : مكية٢. وقال الكلبي : هي مدنية ومكية٣.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن سورة " التغابن " نزلت ب " مكة " إلا آيات من آخرها نزلت ب " المدينة " في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله - عز وجل- :﴿ يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم ﴾ [ التغابن : ١٤ ] إلى آخرها٤.
وهي ثماني عشرة آية ومائتان وإحدى وأربعون كلمة، وألف وسبعون حرفا.
عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة سورة التغابن " ٥.
١ ينظر: القرطبي (١٨/٨٧)..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٨٧)..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٤٢) وعزاه إلى النحاس..
٥ أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (٣/٨٠) ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (١/١٥٢) من طريق الوليد بن الوليد العنسي عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمرو به، وقال: موضوع قال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج بالوليد وتعقبه السيوطي في "اللآلىء المصنوعة" (١/٩٨) وقال: قلت: قال في الميزان قال فيه أبو حاتم صدوق وقال الحافظ ابن حجر في "اللسان" ذكره ابن حبان في "الثقات" ثم غفل فذكره في "الضعفاء" فقال روى عن ابن ثوبان نسخة أكثرها مقلوبة وقال أبو نعيم روى عن ابن ثوبان موضوعات، والحديث أخرجه الطبراني في "الأوسط" وابن مردويه في التفسير وأخرجه البخاري في "تاريخه" عن ابن عمرو موقوفا.
وله شاهد عن أبي ذر موقوفا، أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١١٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٤٢) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه..

قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾. تقدم نظيره.
قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، هو أن تلك السورة للمنافقين الكاذبين، وهذه السورة للموافقين الصادقين، وأيضاً فإن تلك السورة مشتملة على ذكر النفاق سرًّا وعلانية، وهذه السورة مشتملة على التهديد البالغ لهم عن ذلك، وهو قوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾، وأما تعلق هذه السورة بآخر التي قبلها فلأن في آخر تلك السورة التنبيه على الذكر والشكر كما تقدم، وفي أول هذه السورة أشارة إلى أن في الناس أقواماً يواظبون على الذِّكر والشكر دائماً وهم الذين يُسَبِّحُون، كما قال تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾.
قوله: ﴿لَهُ الملك﴾.
مبتدأ وخبر، وقدم الخبر ليفيد اختصاص الملك والحمد لله تعالى، إذ الملك والحمد له - تعالى - حقيقة ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
قوله: ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ﴾.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً.
وروى أبو سعيد الخدري قال: «خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشية فذكر شيئاً مما يكون، فقال:» يُولَدُ النَّاسُ على طَبقاتٍ شَتَّى: يُولَدُ الرَّجُلُ مؤمِناً ويَعيشُ مُؤمِناً ويمُوتُ مُؤمِناً ويُولَدُ الرَّجُلُ كَافِراً ويعيشُ كَافِراً ويمُوتُ كَافِراً، ويُولَدُ الرَّجُلُ مُؤِمناً ويَعِيشُ مُؤمِناً ويَمُوتُ كَافِراً، ويُولَدُ الرَّجلُ كَافِراً ويَعيشُ كَافِراً ويَمُوتُ مُؤمِناً «».
وقال ابن مسعود: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خَلَق اللَّهُ فِرْعونَ في بَطْنِ أمِّهِ كَافِراً، وخلق يَحْيَى بْنَ زكريَّا في بَطْنِ أمِّهِ مُؤمِناً».
123
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: «وإنَّ أحَدَكُمْ ليَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ أو باعٌ فيَسبقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بعَملِ أهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وإن كان أحَدُكُمْ ليَعْمَلُ بِعَملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذراعٌ أو باعٌ فَيَسْبِقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمِل أهْلِ الجنَّةِ فَيدخُلُهَا».
وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ الرَّجُلَ ليَعملُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ النَّارِ فيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ من أهْلِ الجَنَّةِ».
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم، وكذلك الكفر. وقيل: في الكلام محذوف تقديره: فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه.
قاله الحسن.
وقال غيره: لا حذف فيه؛ لأن المقصود ذكر الطرفين.
وقيل: إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، والتقدير: «هُو الَّذي خَلقُكُمْ»، ثم وصفهم فقال: ﴿فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ﴾ كقوله تعالى: ﴿والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ﴾ [النور: ٤٥] الآية، قالوا: فالله خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله ﴿فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ﴾، واحتجوا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ فأبواهُ يَهوِّدانهِ ويُنصِّرانهِ ويُمْجِّسانِهِ».
قال البغوي: وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الغلامَ الذي قَتلهُ الخضِرُ طُبعَ كافراً».
وقال تعالى: ﴿وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً﴾ [نوح: ٢٧].
وروى أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «وكل اللَّهُ بالرَّحمِ مَلكاً، فيقُولُ: أي: ربِّ نُطفَةٌ،
124
أي ربِّ علقَةٌ، أي: ربِّ مُضغَةٌ، فإذا أرَادَ اللَّهُ أن يقْضِيَ خَلْقَهَا، قال: ربِّ أذكرٌ أم أنْثَى؟ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فما الرِّزْقُ؟ فما الأجلُ؟ فيُكْتَبُ ذلِكَ في بَطْنِ أمِّهِ».
وقال الضحَّاك: فمنكم كافر في السِّر، مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر، كافر في العلانية كعمّار وذويه.
وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب يعني في شأن الأنْوَاء، كما جاء في الحديث.
قال القرطبي: وقال الزجاج - وهو أحسن الأقوال -: والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر، وكُفره فعل له وكسبٌ، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكَسْب، مع أنَّ الله خالق الإيمان، والكافر يكفر، ويختار الكفر بعد خلق اللَّه تعالى إياه؛ لأن اللَّه - تعالى - قدّر ذلك عليه وعلمه منه؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل، ولا يليقان باللَّه تعالى، وفي هذا سلامة من الجَبْر والقدر. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة.
وقيل: فمنكم كافر بأن الله خلقه، وهو مذهب الدَّهْرية، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: إنه - تعالى - حكيم وقد سبق في علمه أنه إذا [خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر، فأي حكمة دعته إلى خلقهم؟].
فالجواب إذا علمنا أنه تعالى حكيم، علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة.
قوله: ﴿خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾.
أي: خلقها يقيناً لا ريب فيه.
وقيل: الباء بمعنى اللام، أي: خلقها للحق، وهو أن يجزي الذي أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
125
قوله: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾.
قرأ العامة: بضم صاد «صُوركم»، وهو القياس في فعله.
وقرأ زيد بن علي والأعمش، وأبو رزين: بكسرها، وليس بقياس وهو عكس لُحَى - بالضم - والقياس «لِحى» بالكسر.

فصل


معنى «وَصَوَّركُمْ» يعني آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خلقه بيده كرامة له. قاله مقاتل.
وقيل: جميع الخلائق، وقد مضى معنى التصوير، وأنه التخطيط والتشكيل.
فإن قيل: كيف أحسن صوركم؟.
قيل: بأن جعلهم أحسن الحيوان كلِّه وأبهاه صورة، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصُّور، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب كما قال - عزَّ وجلَّ -: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] كما يأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: قد كان من أفراد هذا النوع من كان مشوه الخِلقة سمج الصورة؟.
فالجواب: لا سماجة لأن الحسن في المعاني، وهو على طبقات ومراتب، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه، فهو داخل في خير الحسن غير خارج عن حده. قوله ﴿وَإِلَيْهِ المصير﴾. أي: المرجع، فيجازي كلاًّ بعمله.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ المصير﴾ يوهم الانتقال من جانب إلى جانب، وذلك على الله تعالى مُحال؟.
فالجواب: أن ذلك الوهْمَ بالنسبة إلينا وإلى زماننا لا بالنسبة إلى ما يكون في نفسه بمعزل عن حقيقة الانتقال إذا كان المنتقل منزهاً عن الجانب والجهة.
قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾. تقدم نظيره.
قال ابن الخطيب: إنه - تعالى - نبَّه بعلمه ما في السماوات وما في الأرض، ثم
126
بعلمه ما يسرونه وما يعلنونه ثم بعلمه ما في الصدور من الكليات والجزئيات على أنه لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض ألبتة.
ونظيره قوله: ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ [سبأ: ٣].
وقرأ العامّة: بتاء الخطاب في الحرفين.
وروي عن أبي عمرو وعاصم: بياء الغيبة، فيحتمل الالتفات وتحمل الإخبار عن الغائبين.
﴿والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ فهو عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء.
127
قوله :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً١.
وروى أبو سعيد الخدري قال :«خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئاً مما يكون، فقال :" يُولَدُ النَّاسُ على طَبقاتٍ شَتَّى : يُولَدُ الرَّجُلُ مؤمِناً ويَعيشُ مُؤمِناً ويمُوتُ مُؤمِناً ويُولَدُ الرَّجُلُ كَافِراً ويعيشُ كَافِراً ويمُوتُ كَافِراً، ويُولَدُ الرَّجُلُ مُؤِمناً ويَعِيشُ مُؤمِناً ويَمُوتُ كَافِراً، ويُولَدُ الرَّجلُ كَافِراً ويَعيشُ كَافِراً ويَمُوتُ مُؤمِناً " ٢.
وقال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم :«خَلَق اللَّهُ فِرْعونَ في بَطْنِ أمِّهِ كَافِراً، وخلق يَحْيَى بْنَ زكريَّا في بَطْنِ أمِّهِ مُؤمِناً »٣.
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود :«وإنَّ أحَدَكُمْ ليَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ أو باعٌ فيَسبقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بعَملِ أهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وإن كان أحَدُكُمْ ليَعْمَلُ بِعَملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذراعٌ أو باعٌ فَيَسْبِقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمِل أهْلِ الجنَّةِ فَيدخُلُهَا »٤.
وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي : أن رسول الله قال :«إنَّ الرَّجُلَ ليَعملُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ النَّارِ فيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ من أهْلِ الجَنَّةِ »٥.
قال القرطبي٦ رحمه الله : قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم، وكذلك الكفر. وقيل : في الكلام محذوف تقديره : فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه. قاله الحسن.
وقال غيره : لا حذف فيه ؛ لأن المقصود ذكر الطرفين.
وقيل : إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، والتقدير :«هُو الَّذي خَلقُكُمْ »، ثم وصفهم فقال :﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ كقوله تعالى :﴿ والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ ﴾ [ النور : ٤٥ ] الآية، قالوا : فالله خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله ﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام :«كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ فأبواهُ يَهوِّدانهِ ويُنصِّرانهِ ويُمْجِّسانِهِ »٧.
قال البغوي٨ : وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الغلامَ الذي قَتلهُ الخضِرُ طُبعَ كافراً »٩.
وقال تعالى :﴿ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ﴾[ نوح : ٢٧ ].
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«وكل اللَّهُ بالرَّحمِ مَلكاً، فيقُولُ : أي : ربِّ نُطفَةٌ، أي ربِّ علقَةٌ، أي : ربِّ مُضغَةٌ، فإذا أرَادَ اللَّهُ أن يقْضِيَ خَلْقَهَا، قال : ربِّ أذكرٌ أم أنْثَى ؟ أشقيٌّ أم سعيدٌ ؟ فما الرِّزْقُ ؟ فما الأجلُ ؟ فيُكْتَبُ ذلِكَ في بَطْنِ أمِّهِ ».
وقال الضحَّاك : فمنكم كافر في السِّر، مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر، كافر في العلانية كعمّار وذويه١٠.
وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب يعني في شأن الأنْوَاء، كما جاء في الحديث١١.
قال القرطبي١٢ : وقال الزجاج١٣ - وهو أحسن الأقوال - : والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر، وكُفره فعل له وكسبٌ، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكَسْب، مع أنَّ الله خالق الإيمان، والكافر يكفر، ويختار الكفر بعد خلق اللَّه تعالى إياه ؛ لأن اللَّه - تعالى - قدّر ذلك عليه وعلمه منه ؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل، ولا يليقان باللَّه تعالى، وفي هذا سلامة من الجَبْر والقدر. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة١٤.
وقيل : فمنكم كافر بأن الله خلقه، وهو مذهب الدَّهْرية، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه.
قال ابن الخطيب١٥ : فإن قيل : إنه - تعالى - حكيم وقد سبق في علمه أنه إذا [ خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر، فأي حكمة دعته إلى خلقهم ؟ ]١٦.
فالجواب إذا علمنا أنه تعالى حكيم، علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٨٧) عن ابن عباس..
٢ ذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (٣٢٤٣٨) من حديث ابن مسعود وله شاهد من حديث ابن عباس ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٤٣) وعزاه إلى ابن مردويه..
٣ أخرجه الطبراني في "الكبير" (١٠/٢٧٦) وأبو نعيم في أخبار أصفهان (٢/١٩٠) وابن عدي في "الكامل" (٦/٢٧٦) من طريق أبي هلال الراسبي عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ناجية بن كعب عن عبد الله بن مسعود.
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/١٩٦) وقال: رواه الطبراني وإسناده جيد..

٤ تقدم..
٥ تقدم..
٦ ينظر: الجامع لأحكام القرآن (١٨/٨٨)..
٧ تقدم..
٨ ينظر: معالم التنزيل ٤/٣٥٢..
٩ أخرجه مسلم (٤/٢٠٥٢) كتاب القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة حديث (٢٩/٢٦٦١) والخطيب (٦/١٤٨) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب مرفوعا..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٨٨)..
١١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٣٥٢) وينظر أيضا المصدر السابق..
١٢ الجامع لأحكام القرآن ١٨/٨٨..
١٣ ينظر: معاني القرآن ٥/١٧٩..
١٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٣٥٢) والقرطبي (١٨/٨٨)..
١٥ ينظر التفسير الكبير ٣٠/٢١..
١٦ سقط من أ..
قوله :﴿ خَلَقَ السماوات والأرض بالحق ﴾.
أي : خلقها يقيناً لا ريب فيه.
وقيل : الباء بمعنى اللام، أي : خلقها للحق، وهو أن يجزي الذي أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى١.
قوله :﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾.
قرأ العامة : بضم صاد «صُوركم »، وهو القياس في فعله.
وقرأ زيد٢ بن علي والأعمش، وأبو رزين : بكسرها، وليس بقياس وهو عكس لُحَى - بالضم - والقياس «لِحى » بالكسر.

فصل


معنى «وَصَوَّركُمْ » يعني آدم - عليه الصلاة والسلام - خلقه بيده كرامة له. قاله مقاتل.
وقيل : جميع الخلائق، وقد مضى معنى التصوير، وأنه التخطيط والتشكيل.
فإن قيل : كيف أحسن صوركم ؟.
قيل٣ : بأن جعلهم أحسن الحيوان كلِّه وأبهاه صورة، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصُّور، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب كما قال - عزَّ وجلَّ - :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ كما يأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب٤ : فإن قيل : قد كان من أفراد هذا النوع من كان مشوه الخِلقة سمج الصورة ؟.
فالجواب : لا سماجة لأن الحسن في المعاني، وهو على طبقات ومراتب، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه، فهو داخل في خير الحسن غير خارج عن حده. قوله ﴿ وَإِلَيْهِ المصير ﴾. أي : المرجع، فيجازي كلاًّ بعمله٥.
قال ابن الخطيب٦ : فإن قيل : قوله تعالى :﴿ وَإِلَيْهِ المصير ﴾ يوهم الانتقال من جانب إلى جانب، وذلك على الله تعالى مُحال ؟.
فالجواب : أن ذلك الوهْمَ بالنسبة إلينا وإلى زماننا لا بالنسبة إلى ما يكون في نفسه بمعزل عن حقيقة الانتقال إذا كان المنتقل منزهاً عن الجانب والجهة.
١ ينظر: القرطبي ١٨/٨٨..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣١٨، والبحر المحيط ٨/٢٧٣، والدر المصون ٦/٣٢٥..
٣ ينظر القرطبي ١٨/٨٨..
٤ التفسير الكبير ٣٠/٢١..
٥ الجامع لأحكام القرآن ١٨/٨٩..
٦ التفسير الكبير ٣٠/٢١..
قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾. تقدم نظيره.
قال ابن الخطيب١ : إنه - تعالى - نبَّه بعلمه ما في السماوات وما في الأرض، ثم بعلمه ما يسرونه وما يعلنونه ثم بعلمه ما في الصدور من الكليات والجزئيات على أنه لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض ألبتة.
ونظيره قوله :﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض ﴾ [ سبأ : ٣ ].
وقرأ العامّة : بتاء الخطاب في الحرفين.
وروي عن أبي عمرو وعاصم٢ : بياء الغيبة، فيحتمل الالتفات وتحمل الإخبار عن الغائبين.
﴿ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ فهو عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء٣.
١ التفسير الكبير ٣٠/٢١..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٧٤، والدر المصون ٦/٣٢٥..
٣ ينظر: القرطبي ١٨/٨٩..
قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ﴾.
الخطاب لقريش، أي: ألم يأتكم خبر كُفَّار الأمم السالفة ﴿فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ أي: عوقبوا ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: مُؤلم.
قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ﴾
الهاء للشأن والحديث، و ﴿كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم﴾ : خبرها، ومعنى الإشارة أي: هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم بالبينات، أي: بالدلائل الواضحة.
قوله: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾.
يجوز أن يرتفع «بشر» على الفاعلية، ويكون من الاشتغال، وهو الأرجح، لأن الأداة تطلب الفعل، وأن يكون مبتدأ وخبراً.
وجمع الضمير في «يَهْدُونَنَا» إذ البشر اسم جنس.
أنكروا أن يكون الرسول من البشر.
127
وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع، فيكون اسماً للجنس، وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد كقوله تعالى: ﴿مَا هذا بَشَراً﴾ [يوسف: ٣١].
قوله: «فَكَفَرُوا» أي: بهذا القول إذ قالوه استصغاراً، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده.

فصل


فإن قيل: قوله «فَكَفَرُوا» يفهم منه التولي، فما الحاجة إلى ذكره؟ فالجواب: قال ابن الخطيب: إنهم كفروا وقالوا: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية، وهذا هو التولي، فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدلّ على التولي، فلهذا قال: ﴿فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ﴾.
وقيل: كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.
قوله: ﴿واستغنى الله﴾ استغنى بمعنى المجرد.
وقال الزمخشري: «ظَهَر غناه»، فالسين ليست للطلب.
قال مقاتل: استغنى الله، أي: بسلطانه عن طاعة عباده.
وقيل: استغنى الله، أي: بما أظهره لهم من البرهان، وأوضحه لهم من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد، وتعود إلى الهداية ﴿والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ غنيٌّ عن خلقه حميد في أفعاله.
فإن قيل: قوله: ﴿وَتَوَلَّواْ واستغنى الله﴾ يوهم وجود التولّى والاستغناء معاً، والله تعالى لم يزل غنيًّا؟.
فأجاب الزمخشري: بأن معناه أنه ظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
ثم أخبر عن إنكارهم للبعث فقال - عَزَّ وَجَلَّ -:
﴿زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ﴾ أي: ظنوا، والزعم هو القول بالظن.
وقال الزمخشري: الزعم ادِّعاء العلم، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «زَعَمُوا مطيَّة الكَذِب».
128
وقال شريح: لكل شيء كنية وكنية الكاذب زعموا.
وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب كما تقدم في آخر سورة «مريم» ثم عمّت كل كافر.
قوله: ﴿أَن لَّن يُبْعَثُواْ﴾.
«أن» مخففة لا ناصبة لئلا يدخل ناصب على مثله، و «أن» وما في خبرها سادة مسدَّ المفعولين للزعم أو المفعول.
قوله: «بَلَى» إيجاب للنفي، و «لتُبْعثُنَّ» جواب قسم مقدر، أي: لتخرجن من قبوركم أحياء، «ثُمَّ لتُنَبَّؤُنَّ» لتخبرن «بِمَا عَمِلْتُمْ» أي: بأعمالكم، ﴿وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
فإن قيل: كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث وهم قد أنكروا الرسالة؟.
قال ابن الخطيب: والجواب: أنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً جازماً لا مزيد عليه فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون صدق هذا الإخبار عنده أظهر من الشمس في اعتقاده ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسم بعد قسم.
ثم إنه تعالى لما أخبر عن البعث، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان، قال: ﴿فآمنوا بالله ورسوله﴾ وهذا يجوز أن يكون صلة لما تقدم؛ لأنه تعالى ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، وذلك لكفرهم بالله، وتكذيبهم للرسل فقال «فآمِنُوا» أنتم «باللَّه ورسُولِهِ» لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة.
وقال القرطبي: قوله: ﴿فآمنوا بالله ورسوله﴾ أمرهم بالإيمان بعد أن عرفهم قيام الساعة ﴿والنور الذي أنزلنا﴾ وهو القرآن لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلال كما يهتدى بالنور في الظلمات.
فإن قيل: هلا قيل: ونوره بالإضافة كما قال: ورسوله؟.
فالجواب: إن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة، فكأنه قال: ورسوله ونوره، ثم قال: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي: بما تسرّون وما تعلنون فراقبوه في السر والعلانية.
قوله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ﴾. منصوب بقوله: «لتُنبَّؤنَّ» عند النحاس، وب «خَبِير» عند
129
الحوفي، لما فيه من معنى الوعيد، كأنه قال: والله يعاقبكم يوم يجمعكم.
وب «اذكر» مضمراً عند الزمخشري، فيكون مفعولاً به.
أو بما دلّ عليه الكلام، أي يتفاوتون يوم يجمعكم. قاله أبو البقاء.
وقرأ العامَّة: «يَجْمعُكُمْ» بفتح الياء وضم العين.
ورُوِي سكونُها وإشمامها عن أبي عمرو، وهذا منقول عنه في الراء نحو «ينصركُمْ» وبابه كما تقدم في البقرة.
وقرأ يعقوب وسلام وزيد بن علي والشعبي ونصر وابن أبي إسحاق والجحدري: «نَجْمعُكُمْ» بنون العظمة، اعتباراً بقوله: ﴿والنور الذي أَنزَلْنَا﴾. والمراد ب «يَوْمَ الجَمْعِ» أي: يوم القيامة، يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض.
وقيل: يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله.
وقيل: يجمع فيه بين الظالم والمظلوم.
وقيل: يجمع فيه بين كل نبي وأمته.
وقيل: يجمع فيه ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي.
قوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التغابن﴾.
«التَّغَابُن» تفاعل من الغبن في البيع والشراء على الاستعارة، وهو أخذ الشيء بدون قيمته.
وقيل: الغبن: الإخفاء، ومنه غبن البيع لاستخفائه، والتفاعل هنا من واحد لا من اثنين.
ويقال: غبنت الثوب وخبنته، أي: أخذت ما طال منه من مقدارك: فهو نقص وإخفاء.
وفي التفسير: هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه فيرثه غيره، فيعمل فيه بطاعة الله، فيدخل الأول النار، والثاني الجنة بذلك المال، فذلك هو الغَبْن البَيِّن والمغابن: ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين.
130
والمغبون: من غبن في أهله ومنازله في الجنة، ويظهر يؤمئذ غَبْن كُلِّ كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام.
قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه.
فإن قيل: فأيُّ معاملة وقعت بينهما حى يقع الغبن فيها؟.
فالجواب: هو تمثيل للغَبْنِ في الشِّراء والبيع كقوله: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦]، فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خَسِرُوا، ذكر أيضاً أنهم غُبِنُوا، وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً، وقد فرق الله الخلق فريقين: فريقاً للجنة وفريقاً في السعير.
وقال الحسن وقتادة: بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف:
رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يُسَألُ عنها وشحَّ عليه وفرط في طاعة ربه بسببه، ولم يعمل فيه خيراً وتركه لوارث لا حساب عليه، فعمل ذلك الوارث في بطاعة ربه، ورجل كان له عبد، فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي.
وروى القرطبي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقِيمُ الرَّجُلَ والمَرْأةَ يَوْم القِيامَةِ بَيْنَ يَديْهِ، فيقُولُ اللَّهُ تَعَالى لَهُمَا: قُولا مَا أنتما بِقَائِلين، فيقُولُ الرَّجُلُ: يَا ربِّ أوْجَبْتَ نَفَقَتَهَا عليَّ فَتَعَسَّفْتُها من حلالٍ أو مِنْ حَرامٍ، وهؤلاءِ الخُصُومُ يَطْلبُونَ ذلِكَ، ولَمْ يَبْقَ لي ما أوفِّي فتقُولُ المَرْأةُ: يا ربِّ، وما عَسَى أَن أقُولَ، اكتسَبَهُ حَرَاماً وأكَلْتُهُ حلالاً، وعَصَاكَ فِي مَرْضَاتِي ولَمْ أرْضَ لَهُ بِذَلِكَ، فبُعْداً لَهُ ومُحْقاً، فيقُولُ اللَّهُ تعالى: قَدْ صَدَقْتِ فيُؤمَرُ بِهِ إلى النَّارِ، ويُؤمَرُ بِهَا إلى الجَنَّةِ فتطلعُ عليْهِ من طبقَاتِ الجَنَّة، فتقُولُ لَهُ: غَبنَّاكَ غَبنَّاكَ، سَعِدْنَا بِمَا شَقِيتَ أنت؛ فذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ».

فصل


استدلّ بعض العلماء بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التغابن﴾ على أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية، لأن الله تعالى خَصَّ التغابن بيوم القيامة فقال: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التغابن﴾،
131
وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في بيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث. واختاره البغداديون، واحتجوا عليه بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لحبان بن منقد: «إذا بِعْتَ فَقُل: لا خَلابَةَ ولَكَ الخِيَارُ ثلاثاً».
ولأن الغَبْنَ في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخِدَاع المحرم شرعاً في كل ملّة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه فمضى في البيوع، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً؛ لأنه لا يخلو منه، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به، والفرق بين القليل والكثير في الشريعة معلوم فقدرناه بالثلث، وهذا الحد اعتبر الشارع في الوصية وغيرها.
ويكون معنى الآية على هذا: يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل، وذلك يوم التَّغابن الذي لا يستدرك أبداً.
قال بعض علماء الصُّوفية: إنَّ الله - تعالى - كتب الغَبْنَ على الخَلْقِ أجمعين، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً؛ لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لاَ يَلْقَى اللَّهَ أحَدٌ إلاَّ نَادِماً إن كَان مُسِيئاً أن لَمْ يُحْسِنْ، وإن كَانَ مُحْسِناً أنْ لَمْ يَزْدَدْ».
قوله: ﴿وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ﴾.
قرأ نافع وابن عامر: بالنون، والباقون: بالياء.
قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ﴾ يعني القرآن ﴿أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المصير﴾.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: قال الله تعالى في حق المؤمنين: ﴿وَمَن يُؤْمِن بالله﴾ بلفظ المستقبل، وفي حق الكُفَّار قال: «والذين كفروا» بلفظ الماضي؟.
فالجواب: أن تقدير الكلام: ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ندخله جنات ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
فإن قيل: قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن﴾ بلفظ الواحد و «خَالدِينَ» بلفظ الجمع؟.
فالجواب: ذلك بحسب اللفظ وهذا بحسب المعنى.
132
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ بعد قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ﴾ وذلك بئس المصير؟.
والجواب: أن ذلك وإن كان في معناه فلا بد من التصريح [بما] يؤكده.

فصل

133
قوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ ﴾
الهاء للشأن والحديث، و ﴿ كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم ﴾ : خبرها، ومعنى الإشارة أي : هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم بالبينات، أي : بالدلائل الواضحة١.
قوله :﴿ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾.
يجوز أن يرتفع «بشر » على الفاعلية، ويكون من الاشتغال، وهو الأرجح، لأن الأداة تطلب الفعل، وأن يكون مبتدأ وخبراً.
وجمع الضمير في «يَهْدُونَنَا » إذ البشر اسم جنس٢.
أنكروا أن يكون الرسول من البشر.
وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع، فيكون اسماً للجنس، وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد كقوله تعالى :﴿ مَا هذا بَشَراً ﴾[ يوسف : ٣١ ].
قوله :«فَكَفَرُوا » أي : بهذا القول إذ قالوه استصغاراً، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده٣.

فصل


فإن قيل : قوله «فَكَفَرُوا » يفهم منه التولي، فما الحاجة إلى ذكره ؟ فالجواب : قال ابن الخطيب٤ : إنهم كفروا وقالوا :﴿ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية، وهذا هو التولي، فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدلّ على التولي، فلهذا قال :﴿ فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ ﴾.
وقيل٥ : كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.
قوله :﴿ واستغنى الله ﴾ استغنى بمعنى المجرد.
وقال الزمخشري٦ :«ظَهَر غناه »، فالسين ليست للطلب.
قال مقاتل : استغنى الله، أي : بسلطانه عن طاعة عباده٧.
وقيل٨ : استغنى الله، أي : بما أظهره لهم من البرهان، وأوضحه لهم من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد، وتعود إلى الهداية ﴿ والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ غنيٌّ عن خلقه حميد في أفعاله.
فإن قيل : قوله :﴿ وَتَوَلَّواْ واستغنى الله ﴾ يوهم وجود التولّى والاستغناء معاً، والله تعالى لم يزل غنيًّا ؟.
فأجاب الزمخشري٩ : بأن معناه أنه ظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
١ السابق..
٢ ينظر: الدر المصون ٦/٣٢٥..
٣ ينظر: القرطبي ١٨/٨٩..
٤ التفسير الكبير ٣٠/٢٢..
٥ الجامع لأحكام القرآن ١٨/٨٩..
٦ الكشاف ٤/٥٤٧..
٧ ذكره الماوردي (٦/٢١) والقرطبي (١٨/٨٩)..
٨ القرطبي ١٨/٨٩..
٩ الكشاف ٤/٥٤٧..
ثم أخبر عن إنكارهم للبعث فقال - عز وجل - :
﴿ زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ ﴾ أي : ظنوا، والزعم هو القول بالظن.
وقال الزمخشري١ : الزعم ادِّعاء العلم، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - :«زَعَمُوا مطيَّة الكَذِب »٢.
وقال شريح : لكل شيء كنية وكنية الكاذب زعموا.
وقيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب كما تقدم في آخر سورة «مريم » ثم عمّت كل كافر٣.
قوله :﴿ أَن لَّن يُبْعَثُواْ ﴾.
«أن » مخففة لا ناصبة لئلا يدخل ناصب على مثله، و «أن » وما في خبرها سادة مسدَّ المفعولين للزعم أو المفعول٤.
قوله :«بَلَى » إيجاب للنفي، و «لتُبْعثُنَّ » جواب قسم مقدر، أي : لتخرجن من قبوركم أحياء، «ثُمَّ لتُنَبَّؤُنَّ » لتخبرن «بِمَا عَمِلْتُمْ » أي : بأعمالكم، ﴿ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ إذ الإعادة أسهل من الابتداء٥.
فإن قيل : كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث وهم قد أنكروا الرسالة ؟.
قال ابن الخطيب٦ : والجواب : أنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً جازماً لا مزيد عليه فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون صدق هذا الإخبار عنده أظهر من الشمس في اعتقاده ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسم بعد قسم.
ثم إنه تعالى لما أخبر عن البعث، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان، قال :﴿ فآمنوا بالله ورسوله ﴾ وهذا يجوز أن يكون صلة لما تقدم ؛ لأنه تعالى ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، وذلك لكفرهم بالله، وتكذيبهم للرسل فقال «فآمِنُوا » أنتم «باللَّه ورسُولِهِ » لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة.
١ ينظر السابق..
٢ ذكره الحافظ في "تخريج أحاديث الكشاف" (٤/٥٤٨) وقال: لم أجده مرفوعا بهذا اللفظ..
٣ ينظر؛ القرطبي ١٨/٨٩..
٤ ينظر: الدر المصون ٦/٣٢٦..
٥ ينظر: القرطبي ١٨/٩٠..
٦ ينظر التفسير الكبير ٣٠/٢٢..
وقال القرطبي : قوله :﴿ فآمنوا بالله ورسوله ﴾ أمرهم بالإيمان بعد أن عرفهم قيام الساعة ﴿ والنور الذي أنزلنا ﴾ وهو القرآن لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلال كما يهتدى بالنور في الظلمات١.
فإن قيل : هلا قيل : ونوره بالإضافة كما قال : ورسوله ؟.
فالجواب٢ : إن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة، فكأنه قال : ورسوله ونوره، ثم قال :﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ أي : بما تسرّون وما تعلنون فراقبوه في السر والعلانية.
١ ينظر: القرطبي ١٨/٩٠..
٢ ينظر: التفسير الكبير ٣٠/٢٣..
قوله :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ﴾. منصوب بقوله :«لتُنبَّؤنَّ » عند النحاس، وب «خَبِير » عند الحوفي، لما فيه من معنى الوعيد، كأنه قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم١.
وب «اذكر » مضمراً عند الزمخشري، فيكون مفعولاً به٢.
أو بما دلّ عليه الكلام، أي يتفاوتون يوم يجمعكم. قاله أبو البقاء٣.
وقرأ العامَّة :«يَجْمعُكُمْ » بفتح الياء وضم العين.
ورُوِي سكونُها٤ وإشمامها عن أبي عمرو، وهذا منقول عنه في الراء نحو «ينصركُمْ » وبابه كما تقدم في البقرة.
وقرأ يعقوب٥ وسلام وزيد بن علي والشعبي ونصر وابن أبي إسحاق والجحدري :«نَجْمعُكُمْ » بنون العظمة، اعتباراً بقوله :﴿ والنور الذي أَنزَلْنَا ﴾. والمراد ب «يَوْمَ الجَمْعِ »٦ أي : يوم القيامة، يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض.
وقيل : يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله.
وقيل : يجمع فيه بين الظالم والمظلوم.
وقيل : يجمع فيه بين كل نبي وأمته.
وقيل : يجمع فيه ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي.
قوله :﴿ ذَلِكَ يَوْمُ التغابن ﴾.
«التَّغَابُن » تفاعل من الغبن في البيع والشراء على الاستعارة، وهو أخذ الشيء بدون قيمته.
وقيل : الغبن : الإخفاء، ومنه غبن البيع لاستخفائه، والتفاعل هنا من واحد لا من اثنين٧.
ويقال : غبنت الثوب وخبنته، أي : أخذت ما طال منه من مقدارك : فهو نقص وإخفاء.
وفي التفسير : هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه فيرثه غيره، فيعمل فيه بطاعة الله، فيدخل الأول النار، والثاني الجنة بذلك المال، فذلك هو الغَبْن البَيِّن٨ والمغابن : ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين.
والمغبون : من غبن في أهله ومنازله في الجنة، ويظهر يومئذ غَبْن كُلِّ كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام٩.
قال الزجاج١٠ : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه.
فإن قيل : فأيُّ معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها ؟.
فالجواب١١ : هو تمثيل للغَبْنِ في الشِّراء والبيع كقوله :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ ﴾[ البقرة : ١٦ ]، فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خَسِرُوا، ذكر أيضاً أنهم غُبِنُوا، وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً، وقد فرق الله الخلق فريقين : فريقاً للجنة وفريقاً في السعير.
وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف :
رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يُسَألُ عنها وشحَّ عليه وفرط في طاعة ربه بسببه، ولم يعمل فيه خيراً وتركه لوارث لا حساب عليه، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه، ورجل كان له عبد، فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي١٢.
وروى القرطبي١٣ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقِيمُ الرَّجُلَ والمَرْأةَ يَوْم القِيامَةِ بَيْنَ يَديْهِ، فيقُولُ اللَّهُ تَعَالى لَهُمَا : قُولا مَا أنتما بِقَائِلين، فيقُولُ الرَّجُلُ : يَا ربِّ أوْجَبْتَ نَفَقَتَهَا عليَّ فَتَعَسَّفْتُها من حلالٍ أو مِنْ حَرامٍ، وهؤلاءِ الخُصُومُ يَطْلبُونَ ذلِكَ، ولَمْ يَبْقَ لي ما أوفِّي فتقُولُ المَرْأةُ : يا ربِّ، وما عَسَى أَن أقُولَ، اكتسَبَهُ حَرَاماً وأكَلْتُهُ حلالاً، وعَصَاكَ فِي مَرْضَاتِي ولَمْ أرْضَ لَهُ بِذَلِكَ، فبُعْداً لَهُ ومُحْقاً١٤، فيقُولُ اللَّهُ تعالى : قَدْ صَدَقْتِ فيُؤمَرُ بِهِ إلى النَّارِ، ويُؤمَرُ بِهَا إلى الجَنَّةِ فتطلعُ عليْهِ من طبقَاتِ الجَنَّة، فتقُولُ لَهُ : غَبنَّاكَ غَبنَّاكَ، سَعِدْنَا بِمَا شَقِيتَ أنت ؛ فذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ »١٥.

فصل


استدلّ بعض العلماء بقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ يَوْمُ التغابن ﴾ على أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية، لأن الله تعالى خَصَّ التغابن بيوم القيامة فقال :﴿ ذَلِكَ يَوْمُ التغابن ﴾، وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في بيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث. واختاره البغداديون، واحتجوا عليه بقوله - عليه الصلاة والسلام - لحبان بن منقد :«إذا بِعْتَ فَقُل : لا خَلابَةَ ولَكَ الخِيَارُ ثلاثاً ».
ولأن الغَبْنَ في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخِدَاع المحرم شرعاً في كل ملّة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه فمضى في البيوع، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً ؛ لأنه لا يخلو منه، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به، والفرق بين القليل والكثير في الشريعة معلوم فقدرناه بالثلث، وهذا الحد اعتبره الشارع في الوصية وغيرها١٦.
ويكون معنى الآية على هذا : يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل، وذلك يوم التَّغابن الذي لا يستدرك أبداً.
قال بعض علماء الصُّوفية : إنَّ الله - تعالى - كتب الغَبْنَ على الخَلْقِ أجمعين، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً ؛ لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب١٧.
قال - عليه الصلاة والسلام - :«لاَ يَلْقَى اللَّهَ أحَدٌ إلاَّ نَادِماً إن كَان مُسِيئاً أن لَمْ يُحْسِنْ، وإن كَانَ مُحْسِناً أنْ لَمْ يَزْدَدْ »١٨.
قوله :﴿ وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ ﴾.
قرأ نافع١٩ وابن عامر : بالنون، والباقون : بالياء.
١ ينظر: الدر المصون ٦/٣٢٦..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٥٤٨..
٣ ينظر: الإملاء ٢/١٦٢٦..
٤ ينظر: السبعة ٦٣٨، والحجة ٦/٢٩٦، والمحرر الوجيز٥/٣١٩، والبحر المحيط ٨/٢٧٤، والدر المصون ٦/٣٢٦..
٥ ينظر: شرح الطيبة ٦/٥٧، وإتحاف ٢/٥٤٢، والمحرر الوجيز ١٥/٣١٩، والبحر المحيط ٨/٢٧٤، والدر المصون ٦/٣٢٦، والقرطبي ١٨/٩٠..
٦ ينظر: القرطبي ١٨/٩٠..
٧ ينظر: الدر المصون ٦/٣٢٦..
٨ ينظر: الدر المصون ٦/٣٢٦..
٩ ينظر: القرطبي ١٨/٩٠..
١٠ ينظر: معاني القرآن ١٨٠..
١١ ينظر: القرطبي ١٨/٩٠..
١٢ السابق ١٨/٩١..
١٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٩)..
١٤ في أ: سحقا..
١٥ ينظر: تفسير القرطبي (١٨/٩١)..
١٦ ينظر: السابق..
١٧ القرطبي (١٨/٩١-٩٢)..
١٨ تقدم..
١٩ ينظر: السبعة ٦٣٨، والحجة ٢٩٥، وإعراب القراءات ٢/٣٧١، وحجة القراءات ٧١١، والعنوان ١٩١، وإتحاف ٢/٥٤٢..
قوله :﴿ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ يعني القرآن ﴿ أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المصير ﴾.
قال ابن الخطيب١ : فإن قيل : قال الله تعالى في حق المؤمنين :﴿ وَمَن يُؤْمِن بالله ﴾ بلفظ المستقبل، وفي حق الكُفَّار قال :«والذين كفروا » بلفظ الماضي ؟.
فالجواب : أن تقدير الكلام : ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ندخله جنات ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
فإن قيل : قال تعالى :﴿ وَمَن يُؤْمِن ﴾ بلفظ الواحد و «خَالدِينَ » بلفظ الجمع ؟.
فالجواب : ذلك بحسب اللفظ وهذا بحسب المعنى.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿ وَبِئْسَ المصير ﴾ بعد قوله :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ وذلك بئس المصير ؟.
والجواب : أن ذلك وإن كان في معناه فلا بد من التصريح [ بما ]٢ يؤكده.
١ ينظر: التفسير الكبير ٣٠/٢٣..
٢ في أ: بالذي..
لما ذكر ما للمؤمنين ذكر ما للكفار فقال:
﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي: بإرادته وقضائه.
وقال الفراء: يريد إلا بأمر الله.
وقيل: إلا بعلم الله.
وقيل: سبب نزول هذه الآية: أنَّ الكُفَّار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقًّا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا فبيّن الرب تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل يقتضي همّاً أو يوجب عقاباً آجلاً أو عاجلاً فبعلم الله وقضائه.
فإن قيل: بم يتصل قوله: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ ؟.
فالجواب: يتعلق بقوله: ﴿فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ [التغابن: ٨] كما أن من يؤمن بالله يصدق بأنه لا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله.
قوله: ﴿وَمَن يُؤْمِن بالله﴾ يصدق ويعلم أنه لا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ للصبر والرضا.
وقيل: يثبته على الإيمان.
وقال أبو عثمان الجيزي: من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة.
وقيل: ﴿وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ عند المصيبة فيقول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٥٦]. قال ابن جبير.
وقال ابن عباس: هو أن يجعل في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
133
وقال الكلبي: هو إذا ابتلي صبر وإذا أنْعِمَ عليه شكر وإذا ظلم غفر.
وقيل: ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ إلى نَيْل الثَّواب في الجنَّة.
قوله: ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾.
قراءة العامة: بالياء مجزوماً جواباً للشرط لتقدم ذكر الله.
وابن جبير وابن هرمز طلحة والأزرق: بالنون على التعظيم.
والضحاك وأبو حفص وأبو عبد الرحمن وقتادة: «يُهْدَ» مبنياً للمفعول «قَلْبُهُ» قائم مقام الفاعل.
ومالك بن دينارٍ، وعمرو بن دينار، وعكرمة: «يَهْدَأ» بهمزة ساكنة «قلبه» فاعل به، بمعنى يطمئن ويسكن.
وعمرو بن فائد: «يَهْدَا» بألف مبدلة من الهمزة كالتي قبلها، ولم يحذفها نظراً إلى الأصل، وهي أفصح اللغتين.
وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً: «يَهْدَ» بحذف هذه الألف إجراء لها مُجرى الألف الأصلية، كقول زهير: [الطويل]
٤٧٧٩ - جَرِيءٌ مَتَى يُظْلَمُ يُعَاقِبْ بظُلْمِهِ سريعاً، وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ
وقد تقدم إعراب ما قبل هذه الآية وما بعدها.
﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. لا يخفى عليه تسليم من انقاد لأمره، ولا كراهة من كرهه.
قوله: ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾. أي: هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول في العمل بسنته ﴿فَإِن تَولَّيْتُمْ﴾ عن الطاعة فليس على الرسول إلا البلاغ المبين.
قوله: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾. أي: لا معبود سواه، ولا خالق غيره.
قال ابن الخطيب: «قوله ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ يحتمل أن يكون من جملة ما تقدم من الأوصاف الجميلة بحضرة الله تعالى من قوله: {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ
134
قوله :﴿ وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول ﴾. أي : هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول في العمل بسنته ﴿ فَإِن تَولَّيْتُمْ ﴾ عن الطاعة فليس على الرسول إلا البلاغ المبين١.
١ ينظر: السابق ١٨/٩٣..
قوله :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾. أي : لا معبود سواه، ولا خالق غيره.
قال ابن الخطيب١ :«قوله ﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ يحتمل أن يكون من جملة ما تقدم من الأوصاف الجميلة بحضرة الله تعالى من قوله :﴿ لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، فإن من كان موصوفاً بهذه الأوصاف هو الذي لا إله إلا هو ».
قوله :﴿ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾.
قال الزمخشري٢ : هذا بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.
١ ينظر: التفسير الكبير ٣٠/٢٤..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٥٤٩..
قَدِيرٌ} [التغابن: ١]، فإن من كان موصوفاً بهذه الأوصاف هو الذي لا إله إلا هو».
قوله: ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾.
قال الزمخشري: هذا بعث لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على التوكل عليه حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها
الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم﴾
.
قال ابن عبَّاس: نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكى إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جفاء أهله وولده، فنزلت، ذكره النحاس.
وحكاه الطَّبريّ عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التَّغابن كلها ب «مكة» إلا هؤلاء الآيات: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم﴾ نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه، فقالوا: إلى من تدعنا فيَرقّ فيقيم فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة.
روى الترمذي عن ابن عباس، وسئل عن هذه الآية قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإذا الناس قد تفقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
حديث حسن صحيح.

فصل


قال ابن العربي: هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته، وإنما كان
135
عدواً بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ فِي طريقِ الإيمانِ، فقَال لَهُ: أتُؤمِنُ وتَذَرُ دينكَ ودينَ أهْلكَ ومالكَ فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتترك أهلك فَخالفَهُ وهاجَرَ، ثُمَّ قَعدَ لَهُ على طريقِ الجهادِ، فقَالَ لَهُ: أتُجَاهدُ فتَقْتُلَ نَفْسَك فتنُكَحَ نِسَاؤكَ ويُقسَّم مالك فخَالفَهُ فَجَاهَدَ فقُتِلَ فحقٌّ على اللَّهِ أن يُدْخِله الجَنَّة».
وقعود الشَّيطان يكون بوجهين:
أحدهما: أن يكون بالوسوسة.
والثاني: أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب، فقال تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [فصلت: ٢٥]، وفي حكمة عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان في الدنيا عبداً.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «تَعِسَ عَبدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عبدُ الدِّرهَمِ، تعِسَ عبْدُ الخَميصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ القَطِيفَة»، ولا دَنَاءَةَ أعْظَمُ مِنْ عبادَة الدِّينار والدِّرهم، ولا همَّة أخسُّ من همَّة تَرْتَفِعُ بثَوبٍ جَديدٍ.
واعلم أن قوله: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ يدخل فيه الذكر والأنثى، فكما أن الرجل تكون زوجته وولده عدوّاً له، كذلك المرأة يكون زوجها عدوّاً لها بهذا المعنى.
قوله: ﴿فاحذروهم﴾. أي: فاحذروهم على أنفسكم، والحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدنِ، أو لضررٍ في الدين، وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة، فحذر الله تعالى العبد من ذلك.
قال ابن الخطيب: وقيل: أعلم الله تعالى أن الأموال والأولاد من جملة ما تقع به الفتنة، وهذا عام يعم جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببه وباشر الفعل الحرام لأجله كغصب مال الغير وغيره.
قوله: ﴿وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
136
روى الطَّبري عن عكرمة في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم﴾. قال: كان الرجل يريد أن يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول أهله: أين تذهب وتدعنا؟.
قال: فإذا أسلم وفَقُهَ قال: لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر فلأفعلن ولأفعلن. قال: فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وقال مجاهد في هذه الآية: ما عادوهم في الدنيا، ولكن حملتهم مودتهم لهم على أن اتخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم.
والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد، وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.
قوله: ﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾.
أي: بلاء واختبار يحملكم على كسب الحرام ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله.
وفي الحديث: «يُؤتى بِرَجُلٍ يوم القِيامَةِ، فيُقال: أكَلَ عياله حَسَنَاته».
وقال بعض السلف: العيال سوس الطاعات.
وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم، اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال ولا ولد إلا وهو مشتمل على فتنةٍ، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مُضلاّت الفتن.
وقال الحسنُ في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾، أدخل «من» للتبعيض؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر من في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ ؛ لأنهما لا يخلوان من الفتنة، واشتغال القلب بهما.
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخطب، فجاء الحسن والحُسَين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله - عَزَّ وَجَلَّ -:
137
﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ نظرتُ إلى هذينِ الصَّبيَّين يمشيان ويعثُرانِ فلمْ أصْبِرْ حتَّى قطعتُ حديثي ورَفعتُهُمَا ثُمَّ أخَذَا في خُطْبَتِهِ».
﴿والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾. يعني: الجنة، فلا أعظم أجراً منها.
قوله: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾.
قال قتادة، والربيع بن أنس، والسُّدي، وابن زيد: هذه الآية ناسخة لقوله ﴿اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
ذكر الطبري عن ابن زيد في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] قال: جاء أمر شديد، قال: ومن يعرف هذا ويبلغه، فلما عرف الله أنه اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم، وجاء بهذه الآية الأخرى فقال: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾.
وقال ابن عباس: هي محكمة لا نسخ فيها، ولكن حق تقاته أن تجاهد لله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
فإن قيل: إذا كانت الآية غير منسوخة، فكيف الجمع بين الآيتين، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقاً من غير تخصيص، ولا مشروط بشرط، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة؟.
فالجواب: أن قوله تعالى: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ معناه فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون، وذلك أن الله - تعالى - قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: ٩٧] إلى قوله: ﴿فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ [النساء: ٩٩]، فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً بالإقامة في دار
138
الشرك، فكذلك معنى قوله: ﴿مَا استطعتم﴾ في الهجرة من دار الشِّرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم.
ويدل على صحة هذا قوله تعالى: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ عقيب قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم﴾، ولا خلاف بين علماء التأويل أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كانوا تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم، وهذا اختيار الطبري.
وقال ابن جبير: قوله: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ فيما تطوع به من نافلة أو صدقة، فإنه لما نزل قوله تعالى: ﴿اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرَّحت جباهُهُمْ، فأنزل الله تخفيفاً عنهم: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ فنسخت الأولى.
قال الماوردي: ويحتمل أن يثبت هذا النَّقْل، لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها، لأنه لا يستطيع اتقاءها.
قوله: ﴿واسمعوا وَأَطِيعُواْ﴾.
أي: اسمعوا ما توعظون به، وأطيعوا ما تؤمرون به، وتنهون عنه.
وقال مقاتل: «اسْمَعُوا» أي: أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله، وهو الأصل في السَّماع «وأطِيعُوا» الرسول فيما يأمركم أو ينهاكم.
وقيل: معنى «واسْمَعُوا» أي: اقبلوا ما تسمعون وعبر عنه بالسماع؛ لأنه فائدته.
قوله: ﴿وَأَنْفِقُواْ﴾.
قال ابن عباس: هي الزكاة.
وقيل: هي النفقة في النفل.
وقال الضحاك: هي النفقة في الجهاد.
وقال الحسن: هي نفقة الرجل لنفسه.
وقال ابن العربي: وإنما أوقع قائل هذا، قوله: «لأنفُسِكُمْ» وخفي عليه قوله: إن نفقة الفرض والنَّفْل في الصَّدقة على نفسه، قال الله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾
[الإسراء: ٧]. فكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه، والصحيح أنها عامة.
139
قوله: ﴿خَيْراً لأَنفُسِكُمْ﴾.
في نصبه أوجه:
أحدها: قال سيبويه: إنه مفعول بفعل مقدر، دلَّ عليه «وأنفقوا»، تقديره: ايتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم وقدموا لأنفسكم كقوله: ﴿انتهوا خَيْراً لَّكُمْ﴾ [النساء: ١٧١].
الثاني: تقديره: يكن الإنفاق خيراً، فهو خبر كان المضمرة، وهو قول أبي عبيدة.
الثالث: أنه نعت مصدر محذوف، وهو قول الكسائي والفراء، أي: إنفاقاً خيراً.
الرابع: أنه حال، وهو قول الكوفيين.
الخامس: أنه مفعول بقوله «أنفِقُوا»، أي: أنفقوا مالاً خيراً.
قوله: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون﴾.
تقدم نظيره.
وكذا ﴿إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ﴾.
تقدم في سورة البقرة والحديد.
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾.
تقدم معنى الشكر في «البقرة». والحليم: الذي لا يعجل.
قال بعضهم القَرْض الحسن: هو التصدق من الحلال.
وقيل: التصدق بطيب النفس، والقرض هو الذي يرجى بدله.
قوله: ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾.
أي: ما غاب وحضر، «وهُوَ العَزيزُ» الغالب القاهر، فهو من صفات الأفعال، ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم﴾ [الزمر: ١] أي: من الله القاهر المُحْكم خالق الأشياء.
وقال الخطابي: وقد يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: «عَزَّ يَعِزُّ» - بكسر العين - فيكون معنى العَزِيز على هذا أنه لا يعادله شيء وأنه لا مثل له «الحَكِيمُ» في تدبير خلقه.
وقال ابن الأنباري: «الحَكِيمُ» هو المُحْكِم الخلق للأشياء، صرف عن «مفعل» إلى «فعيل» ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿الم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم﴾ [لقمان: ١، ٢].
140
فصرف عن «مفعل» إلى «فعيل» والله أعلم.
روى الثعلبي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا مِنْ مولُودٍ يُولَدُ إلاَّ وهو على الفطرة فِي تَشَابِيكِ رَأسِهِ مَكتُوبٌ خَمْسُ آيَاتٍ من فَاتحةِ سُورةِ التَّغَابنِ».
وعن زرّ بن حبيش قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَن قَرَأ سُورَةَ التَّغَابُنِ رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْتَ الفُجَاءَةِ» والله أعلم.
141
سورة الطلاق
142
قوله :﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾.
أي : بلاء واختبار يحملكم على كسب الحرام ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله١.
وفي الحديث :«يُؤتى بِرَجُلٍ يوم القِيامَةِ، فيُقال : أكَلَ عياله حَسَنَاته »٢.
وقال بعض السلف : العيال سوس الطاعات.
وقال ابن مسعود : لا يقولن أحدكم، اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال ولا ولد إلا وهو مشتمل على فتنةٍ، ولكن ليقل : اللهم إني أعوذ بك من مُضلاّت الفتن٣.
وقال الحسنُ في قوله تعالى :﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ﴾، أدخل «من » للتبعيض ؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر من في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ ؛ لأنهما لا يخلوان من الفتنة، واشتغال القلب بهما.
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال :«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحُسَين - رضي الله عنهما - وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال : صدق الله - عز وجل - :﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ نظرتُ إلى هذينِ الصَّبيَّين يمشيان ويعثُرانِ فلمْ أصْبِرْ حتَّى قطعتُ حديثي ورَفعتُهُمَا ثُمَّ أخَذَا في خُطْبَتِهِ »٤.
﴿ والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾. يعني : الجنة، فلا أعظم أجراً منها٥.
١ ينظر القرطبي ١٨/٩٤..
٢ تقدم..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٤٥) وعزاه إلى ابن المنذر والطبراني عن عبد الله بن مسعود..
٤ أخرجه الترمذي (٣٧٧٦) وابن أبي شيبة (١٢/٩٩-١٠٠) رقم (١٢٢٣٧) وأبو داود (١١٠٩) وابن ماجه (٣٦٠٠) والحاكم (٤/١٨٩-١٩٠) والنسائي (٣/١٠٨، ١٢٧) وابن حبان (٢٢٣٠-موارد) والطبراني في "تفسيره" (١٢/١١٨) من طريق علي بن الحسين بن واقد ثني أبي ثنا عبد الله بن بريدة قال سمعت أبي بريدة فذكره مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من حديث الحسين بن واقد وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٤٥) وزاد نسبته إلى ابن مردويه..

٥ ينظر: القرطبي (١٨/٩٤)..
قوله :﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم ﴾.
قال قتادة، والربيع بن أنس، والسُّدي، وابن زيد : هذه الآية ناسخة لقوله ﴿ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾[ آل عمران : ١٠٢ ].
ذكر الطبري عن ابن زيد في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ قال : جاء أمر شديد، قال : ومن يعرف هذا ويبلغه، فلما عرف الله أنه اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم، وجاء بهذه الآية الأخرى فقال :﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم ﴾١.
وقال ابن عباس : هي محكمة لا نسخ فيها، ولكن حق تقاته أن تجاهد لله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم٢.
فإن قيل : إذا كانت الآية غير منسوخة، فكيف الجمع بين الآيتين، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقاً من غير تخصيص، ولا مشروط بشرط، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة ؟.
فالجواب٣ : أن قوله تعالى :﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم ﴾ معناه فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون، وذلك أن الله - تعالى - قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها، لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ ﴾ إلى قوله :﴿ فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ﴾ [ النساء : ٩٧ ]، فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً بالإقامة في دار الشرك، فكذلك معنى قوله :﴿ مَا استطعتم ﴾ في الهجرة من دار الشِّرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم.
ويدل على صحة هذا أن قوله تعالى :﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم ﴾ عقيب قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم ﴾، ولا خلاف بين علماء التأويل أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كانوا تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم، وهذا اختيار الطبري٤.
وقال ابن جبير : قوله :﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم ﴾ فيما تطوع به من نافلة أو صدقة، فإنه لما نزل قوله تعالى :﴿ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾[ آل عمران : ١٠٢ ] اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرَّحت جباهُهُمْ، فأنزل الله تخفيفاً عنهم :﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم ﴾ فنسخت الأولى.
قال الماوردي٥ : ويحتمل أن يثبت هذا النَّقْل، لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها، لأنه لا يستطيع اتقاءها.
قوله :﴿ واسمعوا وَأَطِيعُواْ ﴾.
أي : اسمعوا ما توعظون به، وأطيعوا ما تؤمرون به، وتنهون عنه.
وقال مقاتل :«اسْمَعُوا » أي : أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله، وهو الأصل في السَّماع «وأطِيعُوا » الرسول فيما يأمركم أو ينهاكم.
وقيل : معنى «واسْمَعُوا » أي : اقبلوا ما تسمعون وعبر عنه بالسماع ؛ لأنه فائدته.
قوله :﴿ وَأَنْفِقُواْ ﴾.
قال ابن عباس : هي الزكاة٦.
وقيل : هي النفقة في النفل.
وقال الضحاك : هي النفقة في الجهاد٧.
وقال الحسن : هي نفقة الرجل لنفسه٨.
وقال ابن العربي٩ : وإنما أوقع قائل هذا، قوله :«لأنفُسِكُمْ » وخفي عليه قوله : إن نفقة الفرض والنَّفْل في الصَّدقة على نفسه، قال الله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾[ الإسراء : ٧ ]. فكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه، والصحيح أنها عامة.
قوله :﴿ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ ﴾.
في نصبه أوجه١٠ :
أحدها : قال سيبويه : إنه مفعول بفعل مقدر، دلَّ عليه «وأنفقوا »، تقديره : ايتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم وقدموا لأنفسكم كقوله :﴿ انتهوا خَيْراً لَّكُمْ ﴾.
الثاني : تقديره : يكن الإنفاق خيراً، فهو خبر كان المضمرة، وهو قول أبي عبيدة.
الثالث : أنه نعت مصدر محذوف، وهو قول الكسائي والفراء، أي : إنفاقاً خيراً.
الرابع : أنه حال، وهو قول الكوفيين.
الخامس : أنه مفعول بقوله «أنفِقُوا »، أي : أنفقوا مالاً خيراً.
قوله :﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾.
تقدم نظيره.
١ تقدم تخريجه في سورة آل عمران..
٢ تقدم..
٣ ينظر: القرطبي ١٨/٩٥-٩٦..
٤ ينظر: جامع البيان ١٢/١١٧..
٥ ينظر: النكت والعيون ٦/٢٦..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره"(١٨/٩٦)..
٧ ينظر: المصدر السابق..
٨ ينظر: المصدر السابق..
٩ ينظر: أحكام القرآن ٤/١٨٢٢..
١٠ ينظر: الدر المصون ٦/٣٢٦، ٣٢٧..
وكذا ﴿ إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ﴾.
تقدم في سورة البقرة والحديد.
﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾.
تقدم معنى الشكر في «البقرة ». والحليم : الذي لا يعجل١.
قال بعضهم القَرْض الحسن : هو التصدق من الحلال.
وقيل : التصدق بطيب النفس، والقرض هو الذي يرجى بدله٢.
١ ينظر: القرطبي ١٨/٩٧..
٢ ينظر: التفسير الكبير ٣٠/٢٦..
قوله :﴿ عَالِمُ الغيب والشهادة ﴾.
أي : ما غاب وحضر، «وهُوَ العَزيزُ » الغالب القاهر، فهو من صفات الأفعال، ومنه قوله - عز وجل - :﴿ تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم ﴾ [ الزمر : ١ ] أي : من الله القاهر المُحْكم خالق الأشياء١.
وقال الخطابي٢ : وقد يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه :«عَزَّ يَعِزُّ » - بكسر العين - فيكون معنى العَزِيز على هذا أنه لا يعادله شيء وأنه لا مثل له «الحَكِيمُ » في تدبير خلقه.
وقال ابن الأنباري :«الحَكِيمُ » هو المُحْكِم الخلق للأشياء، صرف عن «مفعل » إلى «فعيل » ومنه قوله - عز وجل - :﴿ الم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم ﴾[ لقمان : ١، ٢ ].
فصرف عن «مفعل » إلى «فعيل » والله أعلم.
١ ينظر: القرطبي ١٢٨/٩٧..
٢ ينظر السابق..
Icon