تفسير سورة الجن

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الجن من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الجنّ
«١» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز به أقرّ من أقرّ بربوبيته، وبه أصرّ من أصرّ على معرفته، وبه استقرّ من استقرّ من خليقته، وبه ظهر ما ظهر من مقدوراته، وبه بطن ما بطن من مخلوقاته «٢» فمن جحد فبخذلانه «٣» وحرمانه، ومن وحد «٤» فبإحسانه وامتنانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١ الى ١٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦)
قيل: إن الجنّ كانوا يأتون السماء فيستمعون إلى قول الملائكة، فيحفظونه، ثم يلقونه إلى الكهنة، فيزيدون فيه وينقصون.. وكذلك كانوا في الفترة التي بين نبيّنا ﷺ وبين عيسى عليه السلام. فلمّا بعث نبيّنا ﷺ ورجموا بالشّهب علم إبليس أنه وقع شىء «٥» ففرّ جنوده، فأتى تسعة منهم إلى بطن نخلة واستمعوا قراءته ﷺ فآمنوا، ثم آتوا قومهم وقالوا: إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به...
إلى آخر الآيات.
(وجاءه سبعون منهم وأسلموا وذلك قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ..» ) «٦»
(١) أخطأ الناسخ في ص وجعلها (سورة المزمل) بينما التفسير جار لسورة الجن.
(٢) إشارة إلى الجن.. وهنا نوع من الترابط بين إيحاءات البسملة والسورة.
(٣) الباء هنا معناها (بسبب) أي أن الجاحد جحد بسبب خذلان الله له في القسمة.
(٤) هكذا في ص وهي الصواب بينما هي في م (قصد) ونحن نعلم أن القشيري يستعمل (جحد) و (وحد) متقابلين.
(٥) «حدث شىء في الأرض» (الترمذي).
(٦) ما بين القوسين ورد في م ولم يرد في ص، والآية هي رقم ٢٩ سورة الأحقاف.
637
قوله جل ذكره: «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» الجدّ العظمة، والعظمة استحقاق نعوت الجلال.
«وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً» أراد بالسفيه الجاهل بالله يعنى إبليس. والشطط السّرف.
«وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فى كفرهم وكلمتهم بالشّرك.
«وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» أي ذلة وصغار فالجنّ زادوا للانس ذلّة ورهقا «١» (فكانوا إذا نزلوا يقولون: نعوذ بربّ هذا الوادي فيتوهم الجنّ أنهم على شىء فزادوهم رهقا) «٢» حيث استعاذوا بهم.
قوله جل ذكره: «وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً» أي ظنّوا كما ظنّ الكفار من الجن ألّا بعث ولا نشور- كما ظننتم أيها الإنس.
«وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً» يعنى حين منعوا عن الاستماع.
«وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً».
(١) أي أن الجن زادوا الإنس رهقا وهو الخطيئة والإثم حين استعاذوا بغير الله.
وقال مجاهد: زاد الإنس الجنّ رهقا أي طغيانا بهذا التعوذ حتّى قالت الجن: سدنا الإنس والجن.
(٢) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.
638
فالآن قد منعنا.
«وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» الاستقامة على الطريقة تقتضى إكمال النعمة وإكثار الراحة. والإعراض عن الله يوجب تنغص العيش ودوام العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩)
للمسجد فضيلة، ولهذا خصّه الله سبحانه وأفرده بالذكر من بين البقاع فهو محلّ العبادة..
وكيف يحلّ العابد عنده إذا حلّ محلّ قدمه «١» ؟!.
ويقال: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها، أخبر أنها لله، فلا تعبدوا بما لله غير الله.
قوله جل ذكره: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» لما قام عبد الله يعنى محمدا عليه السلام يدعو الخلق إلى الله كاد الجنّ والإنس يكونون مجتمعين عليه، يمنعونه عن التبليغ، قل يا محمد:
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣)
لا أقدر أن أدفع عنكم ضرّا، أو أسوق لكم خيرا.. فكلّ شىء من الله. ولن أجد من دونه ملتجأ إلا:
(١) العبارة غامضة وتحتاج إلى توضيح.. وربما قصد القشيري إلى أنه إذا كان المسجد وهو محل قدم العابد مكرما... فما بالك بالعابد نفسه، ومحله عند الله؟.
«إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ» فلن ينجّينى من الله إلا تبليغى رسالاته بأمره.
«وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً».
قوله جل ذكره:
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
أي: لا أدرى ما توعدون من العقوبة، ومن قيام الساعة أقريب أم بعيد؟ فكونوا على حذر. ويجب أن يتوقّع العبد العقوبات أبدا مع مجارى الأنفاس ليسلم من العقوبة.
قوله جل ذكره: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» فيطلعه بقدر ما يريده.
«لِيَعْلَمَ «١» أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» أرسل مع الوحى ملائكة قدّامه وخلفه.. هم ملائكة حفظة، يحفظون الوحى من الكهنة والشياطين، حتى لا يزيدوا أو ينقصوا الرسالات التي يحملها... والله يعلم ذلك، وأحاط علمه به.
(١) قرأ ابن عباس (ليعلم) أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم.
Icon