ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (١) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (٥) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)﴾.أسباب النزول
سبب نزول سورة العاديات: ما قاله الكلبي: أن النبي - ﷺ - بعث سرية إلى أناس من كنانة، فمكث ما شاء الله أن يمكث لا يأتيه منهم خبر، فتخوف عليها، فنزل جبريل عليه السلام بخبر مسيرها، وكأنه سبحانه وتعالى أقسم بخيل تلك السرية المجاهدة في سبيل الله. وذكر أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري في كتابه "أسباب النزول" سبب نزول هذه السورة، فقال: قال مقاتل: بعث رسول الله - ﷺ - سرية إلى حيٍّ من كنانة، واستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري (١) وكان أحد النقباء، فتأخر خبرهم، فقال المنافقون: قتلوا جميعًا، فأخبر الله تعالى عنها وعن سلامتها وبشرهم بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم العاديات ضبحا؛ يعني تلك الخيل. ثم ذكر الواحدي رواية عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله - ﷺ - بعث خيلًا فأسهبت شهرًا لم يأته منها خبر، فنزلت: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (١)﴾ ضبحته بمناخرها إلى آخر السورة ومعنى أسهبت أمضت في السهوب، وهي الأرض الواسعة جمع سهب صفحة: (٢٥٨) أسباب النزول.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾ أي أقسم بالخيول العاديات التي تعدو وتجري بسرعة وتضبح ﴿ضَبْحًا﴾؛ أي: تصوت بأنفاسهن صوتًا شديدًا لشدة جريهنَّ وعَدْوهن. والعاديات جمع عادية؛ وهي الجارية بسرعة، من العدو وهو المشي بسرعة، وياؤها مقلوبة عن
٢ - ﴿فَالْمُورِيَاتِ﴾؛ أي: فأقسم بالخيول اللاتي توري وتوقد ﴿قَدْحًا﴾؛ أي: نارًا؛ أي: تخرج النار بحوافرها من الحجارة التي في طريقها لشدة جريها، ويتطاير منها الشرر أثناء جريها. فالإيراء إخراج النار، والقدح الضرب، فجعل ضرب الخيل بحوافرها الحجارة بعضها ببعض حتى يخرج منها الشرر كالقدح بالزناد. قال الزجاج: إذا عدت الخيل بالليل وأصاب حوافرها الحجارة.. انقدح منها النيران. والكلام في انتصاب ﴿قَدْحًا﴾ كالكلام في انتصاب ﴿ضَبْحًا﴾ في الأوجه الثلاثة؛ أي: تقدح قدحا، فالقادحات قدحًا أو قادحات وعبارة الروح: الإيراء إخراج النار، والقدح الضرب، فإن الخيل يضربن بحوافرهن الحجارة فيخرجن منها نارًا، يقال: قدح الزند فأورى، وقدح فأصلد؛ أي صوَّت ولم يور، فالقدح يتقدم على الإيراء بخلاف الضبح حيث يتأخر ويتسبب عن العدو.
والمعنى: فبالخيول التي تورى النار بحوافرها إذا مشت في الأرض ذات الحجارة
٣ - ﴿فَالْمُغِيرَاتِ﴾؛ أي: فبالخيول التي تعدو وتغير على العدو لتأخذه بغتة ﴿صُبْحًا﴾؛ أي: في وقت الصباح، يقال: أغار على القوم غارة وإغارة دفع عليهم الخيل، وأغار الفرس اشتد عدوه في الغارة وغيرها، أسند الإغارة - التي هي مباغتة العدو للنهب والقتل والأسر - إلى الخيل، وهي حال أهلها، إيذانًا بأنها العمدة في إغارتهم وقوله: ﴿صُبْحًا﴾ نُصب على الظرفية؛ أي: في وقت الصبح، وخصه بالذكر لأنه المعتاد في الغارات؛ لأنهم يعدون ليلًا لئلا يشعر بهم العدو ويهجمون عليهم صباحًا على حين غفلة ليروا ما يأتون وما يذرون، ومنه قولهم عند خوف الغارة: يا
٤ - وقوله: ﴿فَأَثَرْنَ﴾؛ أي: هيجن ﴿بِهِ﴾؛ أي: في وقت الصباح ﴿نَقْعًا﴾؛ أي: غبارًا معطوف على الفعل الذي دل عليه اسم الفاعل، إذ المعنى: والخيول اللاتي عدون فأورين فأغرن ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ﴾؛ أي: فهيجن في ذلك الوقت وأصله أَثْوَرْن، من الثور وهو الهيجان، كما سيأتي بسطه في مبحث التصريف، والنقع: الغبار المرتفع، من نقع الصوت إذا ارتفع، سمي الغبار نقعًا لارتفاعه، أو من النقع في الماء، فكان صاحب الغبار خاض فيه كما يخوض الرجل في الماء. وتخصيص إثارة النقع بالصبح لأنه لا يثور ولا يظهر ثورانه بالليل، وبهذا يظهر أن الإيراء الذي لا يظهر في النهار واقع في الليل، ولله در شأن التنزيل. قال سعدي المفتي: وإثارة النقع لأنهم يكونون حال الإغارة مختلفين يمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا، بحَسَب الكر والفر في المجاولة إثر المدبر الهارب، والمصاولة مع المقبل المحارب، فينشأ الغبار الكثير. ويجوز أن يجعل الضمير في ﴿بِهِ﴾ لفعل الإغارة فـ ﴿الباء﴾ للسببية أو للملابسة؛ أي: فأثرن بسبب الإغارة، أو حال كونها متلبسات بالإغارة.
والمعنى: فهيجن في وقت الصبح غبارًا لشدة عدوهن،
٥ - ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (٥)﴾ من الأعداء؛ أي: تواسطن جمعًا من جموع الأعداء ففرقنه وشتتن شمله، أي: دخلن في وسطهم في وقت الصباح فوسطن بمعنى توسطن و ﴿الباء﴾ في ﴿به﴾ للظرفية، والضمير عائد إلى صبحًا، من للملابسة، والضمير للنقع؛ أي: توسطن - حال كونهن متلبسات بالنقع والغبار - جمعًا من الأعداء، أي: دخلن بينهم للقتل والأسر والنهب، وقوله: ﴿جَمْعًا﴾ مفعول به، والفاءات (١) في المواضع الأربعة للدلالة على ترتب ما بعد كل منها على ما قبلها، فإن توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة على الإغارة المترتبة على الإيراء المترتب على العدو،
٦ - وقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦)﴾ جواب القسم؛ أي: أقسمت بتلك الخيول الموصوفات بالصفات المذكورة على أن جنس الإنسان لشديد الكفران لنعم ربه، حيث خلقه وأنعمه بنعمة الإيجاد والتربية، فجعل له شريكًا. وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَأَثَرْنَ﴾ ﴿فَوَسَطْنَ﴾ بتخفيف الثاء والسين، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بشدهما، وقرأ علي
(٢) البحر المحيط.
وعبارة الخازن هنا: قوله عز وجل: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (١)﴾ فيه (١) قولان:
أحدهما: أنها الإبل في الحج، قال علي كرم الله وجهه: (هي الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى). وعنه أيضًا قال: (كانت أول غزاة في الإِسلام بدرًا. وما كان معنا إلا فَرَسان، فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات فيها؟) فعلى هذا القول يكون معنى ضبحها: مد أعناقها في السير، وأصله من حركة النار في العود. ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢)﴾؛ يعني: أن أخفاف الإبل ترمي بالحجارة من شدة عدوها، فيضرب بعض الحجارة حجرًا آخر فيوري النار. وقيل: هي النيران بجَمْعٍ ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣)﴾؛ يعني: الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى، والسُّنَة أن لا يدفع حتى يصبح. والإغارة: سرعة السير، ومنه قولهم: أشرق ثبير كيما نغير. ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤)﴾؛ أي: هيجن بمكان سيرها غبارًا، ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (٥)﴾؛ أي: وسطن بالنقع جمعًا، وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا القول: أن الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة، وتعريضه بإبل الحج للترغيب، وفيه تقريع لمن لم يحج بعد الاستطاعة عليه، فإن الكُنود هو الكفر ومن لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك.
والقول الثاني: في تفسير ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (١)﴾ قال ابن عباس وجماعة: هي الخيل العادية في سبيل الله، والضبح: صوت أجوافها إذا عدت، قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوانات يضبح سوى الفرس والكلب والثعلب. وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغير حالها من فزع من تعب، وهو من قول العرب: ضبحته النار، إذا غيرت لونه. ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢)﴾؛ يعني: أنها توري النار بحوافرها إذا سارت في
وهذا القول في تفسير هذه الآيات أولى بالصحة وأشبه بالمعنى؛ لأن الضبح من صفة الخيل، وكذا إيراء النار بحوافرها وإثارة الغبار أيضًا. وإنما أقسم الله سبحانه بخيل الغزاة لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية، الأجر والغنيمة، وتنبيهًا على فضلها وفضل رباطها في سبيل الله عز وجل، ويؤيده ما سبق في أسباب النزول من أن رسول الله - ﷺ - بعث إلى أناس من بني كنانة سرية، واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري - رضي الله عنه - وكان أحد النقباء، فأبطأ عليه - ﷺ - خبرها شهرًا، فقال المنافقون: إنهم قتلوا، فنزلت السورة إخبارًا للنبي - ﷺ - بسلامتها، وإشارة له بإغارتها على القوم، ونعيًا على المرجفين في حقهم ما هم فيه من الكفر والكفران. فـ ﴿اللام﴾ في ﴿العاديات﴾ إن كانت للعهد.. كان المقسَمُ به خيلَ تلك السرية، وإن كانت للجنس.. كان ذلك قسمًا بكل خيل عدت في سبيل الله تعالى واتصفت بالصفات المذكورة، وعلى التقديرين فهي مستحقة لأن يقسم لاتصافها بتلك الصفات الشريفة. وفي تخصيص خيل الغزاة بالإقسام بها من البراءة ما لا مزيد عليه، كأنه قيل: وخيل الغزاة التي فعلت كيت وكيت، وإذا كان شرف خيل الغزاة بهذه المرتبة حتى أقسم الله بها.. فما ظنك بشرف الغزاة وفضلهم عند الله تعالى؟.
والحاصل: أن الله سبحانه أقسم (١) بالخيل التي لها هذه الصفات والتي تعمل تلك الأعمال ليُعِلي من شأنها في نفوس عباده المؤمنين أهل الجد والعمل؛ وليُعْنوا بتربيتها وتعويدها الكر والفر، وليحملهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب
وقصارى ذلك: أن للخيل في عدوها فوائد لا يحصى عدها، فهي تصلح للطلب وتسعف في الهرب، وتساعد جِد المساعدة في النجاء والفر والكر على الأعداء وقطع شاسع المسافة في الزمن القليل.
ثم ذكر المحلوف عليه بتلك الإيمان الشريفة ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦)﴾؛ أي: إن جنس (١) الإنسان طبع على نكران الحق وجحوده، وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له، إلا من عصم الله تعالى وهم الذين روَّضوا أنفسهم على فعل الفضائل وترك الرذائل ما ظهر منها وما بطن. وعبارة الرازي: لما ذكر المقسم به، وهو ثلاثة أمور: ذكر المقسم عليه، وهو أمور ثلاثة، أولها: قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦)﴾، ثانيها: قوله: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧)﴾ ثالثها: قوله: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨)﴾، وقوله: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ...﴾ إلخ، شروع في تخويف الإنسان بعد تعديد قبائح أفعاله عليه، فأقسم بثلاثة على ثلاثة اهـ. وروي: أن النبي - ﷺ - قال: "الكَنود: الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده"؛ أي: عطاءه، أي: أنه لا يعطي شيئًا مما أنعم الله به عليه، ولا يرأف بعباده كما رأف به، فهو كافر بنعمته مجانف لما يقتضي به العقل والشرع. وسر الجِبِلَّة: أن الإنسان يحصر همه فيما حضره وينسى ماضيه وما عسى أن يستقبله، فإذا أنعم الله عليه بنعمة.. غرته غفلته، وقسا قلبه، وامتلأ جفوة على عباده. وقال ابن عباس: الكنود: الكفور الجحود لنعمة الله تعالى. وقيل: ﴿الكنود﴾ العاصي، وقيل: هو الذي يعد المصائب وينسى النعم، وقيل: هو قليل الخير، مأخوذ من الأرض الكنود وهي التي لا تنبت شيئًا. وقال الفضيل بن
وقال الحسن: ﴿لَكَنُودٌ﴾؛ أي: لوام لربه، يذكر المصيبات وينسى النعم. وقال: القاشاني: لكفور لربه باحتجاجه بنعمه عنه ووقوفه معها، وعدم استعماله لها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه، وقيل غير ذلك. والمراد بالإنسان: بعض أفراده؛ أي: إنه لنعمة ربه خصوصًا لكفور؛ أي: شديد الكفران. فقوله: ﴿لِرَبِّهِ﴾ متعلق بـ ﴿كنود﴾، قدم عليه لإفادة التخصيص ومراعاة الفواصل،
٧ - ﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: وإن الإنسان، ﴿عَلَى ذَلِكَ﴾؛ أي: على كُنوده ﴿لَشَهِيدٌ﴾؛ أي: شاهد يشهد على نفسه بالكنود لظهور أثره عليه، فالشهادة هنا بلسان الحال لا بلسان المقال، ويحتمل أن يجعل من الشهود، بمعنى أنه لكفور مع علمه بكفرانه، والعمل السيء مع العلم به غاية المذمة. والمعنى أي (٢): وإنه مع كنوده ولجاجته في الطغيان وتماديه في الإنكار والبهتان إذا خلى ونفسَه.. رجع إلى الحق وأذعن إلى أنه ما شكر ربه على
(٢) المراغي.
٨ - لقوله: ﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: وإن الإنسان ﴿لِحُبِّ الْخَيْرِ﴾ أي لحب المال، فإن الضمير راجع إلى الإنسان، والمعنى (١): وإنه لحب المال ﴿لَشَدِيدٌ﴾؛ أي: قوي مطيق مجد في طلبه وتحصيله متهالك عليه، والخير المال، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ قال ابن زيد: سمى المال خيرًا، وعسى أن يكون شرًا بأن كان حرامًا، ولكن الناس يجدونه خيرًا فسماه خيرًا جريًا على عادتهم، كما سمى الجهاد سوءًا فقال: ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾؛ أي: قتال، والقتال ليس بسوء، ولكن ذكره سوءًا جريًا على عادتهم. وحب المال: إيثار الدنيا وطلبها، و ﴿اللام﴾ في ﴿لِحُبِّ﴾ متعلقة بـ ﴿شديد﴾ قدم عليه لمراعاة الفاصلة، يقال: هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقًا له ضابطًا؛ يعني: أنه قوي مجد في طلب المال وتحصيله متهالك عليه، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس. وقيل: الشديد البخيل الممسك؛ يعني: وإنه لأجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبخيل ممسك. والمعنى عليه أي: وإن الإنسان بسبب محبته للمال وشغفه به وتعلقه بجمعه وادخاره لبخيل.. شديد في بخله، حريص متناه في حرصه، ممسك مبالغ في إمساكه متشدد فيه، قال: طرفة:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِيْ | عَقِيْلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ |
٩ - ثم هدد الإنسان الذي هذه صفاته وتوعده بقوله: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ﴾ الهمزة (٢) فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف يقتضيه المقام، و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيفعل ما يفعل من القبائح، من ألا يلاحظ فلا يعلم في الدنيا أن الله مجازيه ﴿إِذَا بُعْثِرَ﴾ وأُخِرج ﴿مَا فِي الْقُبُورِ﴾ من الموتى لمجازاتهم على
(٢) الشوكاني.
١٠ - وقوله: ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠)﴾ معطوف على ﴿بُعْثِرَ﴾؛ أي: مُيَّز وبُيَّن ما فيها من الخير والشر؛ أي: ميز خير ما في القلوب من الأسرار من شره، للمجازاة على كل منهما بموجبه من الثواب والعقاب، فالتحصيل (١) بمعنى التمييز، ومنه قيل للمنخل: المحصل؛ أي آلة التحصيل وتمييز الدقيق من النخالة، فإنه لا بد من التمييز بين الواجب، والمباح، والمكروه، والمحظور، فإن لكل واحد منها حكمًا على حدة، فتمييز البعض من البعض وتخصيص كل واحد منها بحكمه اللاحق هو التحصيل.
وقيل المعنى: أي جُمع في الصحف وأُظهر ما في الصدور من الأسرار الخفية التي من جملتها ما يخفيه المنافقون من الكفر والمعاصي، فضلًا عن الأعمال الجلية؛ أي: أُظهر محصَّلًا مجموعًا، وأصل التحصيل: إخراج المستور بإخراج المغمور فيه وأخذه منه، كإخراج اللب من القشر، وإخراج الذهب من حجر المعدن، والبر من التبن، والدهن من اللبن، ومن الدُّردي، والجمع والإظهار من لوازمه. وتخصيص (٢) أعمال الصدور بالذكر لأنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح، فالقلب أصل وأعمال الجوارح متابعة له، ولذا قال تعالى: ﴿آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ وقال النبي - ﷺ -: "يبعثون على نياتهم" وعبارة "الجمل" هنا: ﴿وَحُصِّلَ﴾؛ أي: اخرج وجُمع بغاية السهولة ﴿مَا فِي الصُّدُورِ﴾ من خير وشر مما يظن أنه لا يعلمه أحد أصلًا وظهر مكتوبًا في صحائف الأعمال، وهذا يدل على أن الإنسان يحاسب بها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها، اهـ خطيب.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿بُعْثِرَ﴾ بالعين، مبنيًا للمفعول، وقرأ عبد الله ﴿بحثر﴾ بالحاء وقرأ الأسود بن يزيد ﴿بحث﴾ وقرأ نصر بن عاصم: ﴿بحثر﴾ على بنائه
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
١١ - وقرأ الجمهور: ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ﴾ بكسر الهمزة، على الاستئناف الإخباري، وبإثبات لام ﴿لَخَبِيرٌ﴾؛ أي: إن رب المبعوثين كنى عنهم بعدًا لإحياء الثاني بضمير العقلاء بعدما عبر عنهم بما في قوله: ﴿مَا فِي الْقُبُورِ﴾ بناء على تفاوتهم في الحالين، فحين كانوا في القبور كانوا كجمادات بلا عقل ولا علم وإن كان لهم نوع حياة فيها، بخلاف وقت الحشر ﴿بِهِمْ﴾؛ أي: بذواتهم وصفاتهم وأحوالهم بتفاصيلها. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يكون ما ذكر من بعث ما في القبور. وتحصيل ما الصدور، والعامل في ﴿بِهِمْ﴾ وفي ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ﴿لَخَبِيرٌ﴾؛ أي: عالم بظواهرهم وبواطنهم علمًا موجبًا للجزاء متصلًا به، كما ينبىء عنه تقييده بذلك اليوم، وإلا فمطلق علمه تعالى محيط بما كان وما سيكون. وقُدِّما عليه مراعاة للفواصل، واللام غير مانعة لعمله فيهما، لكنه ضَمَّن خبير معنى مجاز لهم في ذلك اليوم، أي: إن رب المبعوثين لخبير بهم يوم إذ بعث ما في القبور وحصل ما في الصدور، لا تخفى عليه منهم خافية، فيجازيهم بالخير خيرًا وبالشر شرًا، قال الزجاج: الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى: أن الله يجازيهم في ذلك اليوم، ومثلُه قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ معناه: أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم، انتهى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ﴾ بكسر الهمزة واللام في ﴿لَخَبِيرٌ﴾ كما مر آنفأ وقرأ أبو السمال والحجاج بفتح الهمزة وإسقاط اللام، ويظهر في هذه القراءة تسلط ﴿يَعْلَمُ﴾ على ﴿إِنَّ﴾ لكنه لا يمكن إعمال خبير في ﴿إِذَا﴾؛ لكونه في صلة أن المصدرية، لكنه يمكن أن يقدر له عامل فيه من معنى الكلام، فإنه يقال: يجزيهم إذا بعثر.
والمعنى (٢): أفلا يعلم هذا الإنسان المنكر لنعم الله تعالى عليه الجاحد لفضله وأياديه أنه سبحانه عليم بما تنطوي عليه نفسه، وأنه مجازيه على جحده وإنكاره يوم يحصل ما في الصدور ويبعثر ما في القبور. وقد عبر سبحانه عن مجازاتهم على ما كسبت أيديهم بالخبرة بهم والعلم المحيط لأعمالهم وهذا كثير في الكلام، تقول
(٢) المراغي.
الإعراب
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (١) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣)﴾.
﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾ ﴿الواو﴾ حرف جر وقسم، العاديات: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قَسَم محذوف وجوبًا لكون القسم بالواو تقديره: أقسم بالعاديات، والجملة القَسَمية مستأنفة استئنافًا نحويًا ﴿ضَبْحًا﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي: يضبحن ضبحا، والجملة المقدرة حال من العاديات، ويجوز أن يكون ﴿ضَبْحًا﴾ مصدرًا وقع موضع الحال من ﴿العاديات﴾؛ أي: أقسم بالعاديات حالة كونها ضابحات، ويجوز أن يكون منصوبًا بالعاديات، ﴿فَالْمُورِيَاتِ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿الموريات﴾ معطوف على ﴿العاديات﴾، ﴿قَدْحًا﴾ وقد جاء فيه الأوجه الثلاثة التي في ﴿ضَبْحًا﴾. ﴿فَالْمُغِيرَاتِ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿المغيرات﴾: معطوف على ﴿الموريات﴾ لا على ﴿العاديات﴾ كما توهمه بعضهم؛ لأن العطف إذا كان بحرف مرتب فكل معطوف على ما قبله كما بيّناه في "باكورتنا على الأجرومية" نقلًا عن الشيخ الحامدي، و ﴿صُبْحًا﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿المغيرات﴾ أي: اللاتي تغير في وقت الصبح، قال أبو حيان وأجاد: وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب، والظاهر، أنها الخيل التي يُجاهَد عليها العدو من الكفار كما مرّ بسطه في مبحث التفسير.
﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (٥) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨)﴾.
﴿فَأَثَرْنَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أثرن﴾ فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أثرن﴾ و ﴿نَقْعًا﴾: مفعول به، والضمير في ﴿بِهِ﴾ يعود على العدو من على الصبح، و ﴿الباء﴾ حينئذٍ بمعنى (في)، أي: ﴿فَأَثَرْنَ﴾ في وقت الصبح ﴿نَقْعًا﴾: قال أبو حيان: وهذا أحسن
﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)﴾.
﴿أَفَلَا﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف ﴿لا﴾: نافية ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الإنسان، معطوف على ذلك المحذوف ومفعول ﴿يَعْلَمُ﴾ محذوف تقديره: أيفعل الإنسان ما يفعل من القبائح فلا يعلم أن الله يجازيه إذا بعث ما في القبور؟ والجملة المحذوفة جملة إنشائية مستأنفة لا محل لها من الإعراب ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بمفعول ﴿يَعْلَمُ﴾ المحذوف لا به كما مرّ بسطه؛ أي: أفلا يعلم أن الله مجازيه وقت بعث ما في القبور؟ ﴿بُعْثِرَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل، ﴿فِي الْقُبُورِ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والجملة في محل الخفض بإضافة الظرف إليها، ﴿وَحُصِّلَ﴾: فعل ماض مغير الضيغة ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالْعَادِيَات﴾: جمع عادية، كغازيات جمع غازية، وهي: الخيل الجارية بسرعة، من العدو، وهو المشي بسرعة، ففيه إعلال بالقلب، أصله: العادوات، فقلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة، يقال: عدا يعدو عدوًا، فهو عاد وهي عادية اهـ، "سمين". ﴿ضَبْحًا﴾ والضبح صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو، وليس بصهيل، وفي "المختار": ضبحت الخيل من باب قطع والضبح: صوت أنفاسها إذا عدت اهـ، وفي "القاموس": ضبحت الخيل ضبحًا وضباحًا أسمعت من أفواهها صوتًا ليس بصهيل ولا حمحمة، قال عنترة:
وَالْخَيْلُ تَكْدَحُ حِيْنَ تَضْـ | ـبَحُ فِيْ حِيَاضِ الْمَوْتِ ضَبْحَا |
﴿فَالْمُورِيَاتِ﴾: جمع مورية، من الإيراء، وهو إخراج النار من الحجارة، ففيه حذف همزة أفعل من الوصف، يقال: أورى فلان إذا أخرج النار بزند، ونحوه، وفي "المصباح": وَرَى الزندِ، يَرِيْ، من باب وعد، وفي لغة: ورى - بكسرهما - وأورى بالألف، وذلك إذا أخرج ناره، وفي "المختار": وأوراه غيره اهـ، فاستفيد من مجموعها أنه يستعمل ثلاثيًا لازمًا لا غير، ورباعيًا لازمًا ومتعديًا، وما في الآية من قبيل المتعدي. ﴿قَدْحًا﴾: والقدح الضرب لإخراج النار، كضرب الزناد بالحجر، وفي "القرطبي": وأصل القدح الاستخراج، ومنه: قدحت العين إذا أخرجت منها الفاسد، واقتدحت الزند واقتدحت المرق غرفته، والمقدحة - بكسر الميم - ما تقدح به النار، والقداحة والقدح: الحجر الذي يوري النار اهـ. ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣)﴾: فيه إعلال بالنقل، نقلت حركة حرف العلة إلى الغين قبلها فسكن فصار حرف مد،
أَغَارَ عَلَى الْعَدُوِّ بِكُلِّ طَرْفٍ.... وَسَلْهَبَةٍ تَجُولُ بِلَا حِزَامِ
﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤)﴾؛ أي: هيجن في وقت الصبح غبارًا، يقال: ثار يثور ثورًا، وثورانًا وثؤورًا، أهاج، ومنه ثارت الفتنة بينهم، وثار الغبار من الدخان ارتفع، وثار الجراد ظهر، وثارت نفسه جشأت وجاشت، وثار إليه وبه، وثب عليه. وما في الآية من الإثارة وهو التهييج وتحريك الغبار، وأصله: أَثْوَرْن من الثور وهو الهيجان، نقلت حركة الواو إلى الثاء قبلها، وقلبت الواو ألفًا فصار أثارن، فحذفت الألف لاجتماع الساكنين، فبقي أثرن بوزن أفلن. ﴿نَقْعًا﴾: والنقع الغبار؛ والنقع أيضًا: أن يروى الإنسان من شرب الماء، يقال: نقعت غلي بشربة ماء، وقال بشار:
كَأَنَّ مَثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤُوْسِنَا | وَأَسْيَافُنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَواكِبُهْ |
وعبارة "القاموس": ووَسَطَهُم كوعد، وَسَطًا وسِطَة جلس وسطهم كتوسطهم وهو وسيط فيهم؛ أي: أوسطهم نسبًا، وأرفعهم محلًا، والوسيط بين المتخاصمين إلى آخر ما ذكره. ﴿لَكَنُودٌ﴾: وفي "المختار": كند النعمة كفر بها، وبابه: دخل، فهو كنود وامرأة كنود أيضًا، وقال الحسن في قوله عز وجل: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦)﴾ قال: الكنود الذي يذكر المصائب وينسى النعم. وقال: النمر بن تولب:
كَنُودٌ لَا تَمُنُّ ولَا تُفَادِيْ | إِذَا عَلِقَتْ حَبَائِلُهَا بِرَهْنِ |
لَهَا مَا تَشْتَهِي عَسَلٌ مُصَفَّى | إِذَا شَاءَتْ وَحُوَّارَى بِسَمْنِ |
كَنَد النعمةَ كَفَرها ولم يَشْكُرها.
وأنشدوا:
كَنُوْدٌ لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ وَمَنْ يَكُنْ | كَنُوْدًا لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ يُبَعَّدُ |
فإذا قيل: لم قال: ﴿مَا فِي الْقُبُورِ﴾، ولم يقل: من في القبور، ثم قال بعد ذلك: ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ﴾؟ أجيب عن الأول: بأن ما في الأرض غير المكلفين أكثر، فأخرج الكلام على الأغلب، من أنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل يصيرون كذلك بعد البعث، فلذلك كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء. ﴿وَحُصِّلَ﴾؛ أي: أُظهِر محصلًا مجموعًا في صحائف الأعمال، قال في "القاموس": التحصيل تمييز ما يحصل، والحاصل من كل ما يبقى وثبت وذهب ما سواه اهـ. ﴿مَا فِي الصُّدُورِ﴾؛ أي: ما في القلوب من العزائم والنوايا.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المخالفة بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله: ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤)﴾ إذ عطف الفعل على الاسم الذي هو العاديات وما بعده؛ لأنها أسماء فاعلين تعطي معنى الفعل، ففيها سر بديع، وهو تصوير هذه الأفعال في النفس وتجسيدها أمام
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢)﴾؛ حيث شبه الخيول العادية اللاتي تضرب بحوافرها الحجارة بالجماعة الذين يورون الزند، فالقدح استعارة لضرب الحجارة، من يقال: شبه الحرب بالنار المشتعلة وحذف المشبه وأبقى المشبه به، قال تعالى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣)﴾ حيث أسند الإغارة التي هي مباغتة العدو للنهب والقتل والأسر إلى الخيل وهي حال أهلها، إيذانًا بأنها العمدة في إغارتهم.
ومنها: تخصيص إثارة النقع بالصبح؛ لأنه لا يثور، ولا يظهر ثورانه بالليل، وبهذا يظهر أن الإيراء الذي لا يظهر في النهار واقع في الليل، ولله در شأن التنزيل.
ومنها: التأكيد بـ ﴿إن﴾ واللام واسمية الجملة في قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦)﴾ وفي قوله: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨)﴾ وفي قوله: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧)﴾ لزيادة التقرير والبيان.
ومنها: الجناس المحرف في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ﴾ وهو الذي يكون الضبط فيه فارقًا بين الكلمتين أو بعضهما، وهو أيضًا ما اتفق ركناه في أعداد الحروف واختلفا في الحركات، سواء كانا من اسمين أو فعلين أو اسم وفعل أو من غير ذلك، والغاية فيه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ ولا يقال: إن اللفظين متحدان في المعنى فلا يكون بينهما تجانس؛ لأنا نقول: المراد بالأول: اسم الفاعل، وبالثاني: اسم المفعول، فالاختلاف ظاهر، ومنه قوله - ﷺ -: "اللهم كما حسنت خَلْقِي فحسن خُلُقي" ومنه قولهم: جُبة البُرد جُنة البرد.
ومنها: الجناس اللاحق في قوله: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨)﴾ وهو الذي أبدل في إحدى الكلمتين حرف واحد بغيره من غير مخرجه، وسواء كان الإبدال من الأول نحو قوله: تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١)﴾ أو في الوسط كهذه الآية التي نحن بصددها، أو في الآخر كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ﴾ ومن أمثلة الشعر على هذا الترتيب المذكور أيضًا قول أبي فراس:
إِنَّ الْغَنِيَّ هُوَ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ | وَلَوْ أَنَّهُ عَارِيْ الْمُنَاكِبِ حَافِيْ |
مَا كُلُّ مَا فَوْقَ الْبَسِيْطَةِ كَافِيًا | وَإِذَا قَنِعْتَ فَكُلُّ شَيءٍ كَافِيْ |
وَقُعُودِيْ عَنِ التَّقَلُّبُ وَالأَرْ | ضُ لِمِثْلِي رَحِيْبَةُ الأَكْنَافِ |
لَيْس عَنْ ثَرْوَةٍ بَلَغَتْ مَدَاها | غَيْرَ أَنِّي امْرُؤٌ كَفَانِي كَفَافِيْ |
شَوْقِي لِذَاكَ الْمُحَيَّا الزَّاهِرِ الزَّاهِيْ | شَوْقٌ شَدِيْدٌ وَجِسْمِيْ الوَاهِنُ الْوَاهِيْ |
أَسْهَرْتُ طَرْفِي وَوَلَّهْتُ الفُؤَادَ هَوًى | فَالْقَلْبُ وَالطَّرْفُ بَيْنَ السَّاهِرِ السَّاهِيْ |
ومنها: التضمين في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)﴾ ضمن لفظ ﴿خبير﴾ معنى المجازاة؛ أي: مجازيهم على أعمالهم.
ومنها: إيثار ﴿ما﴾ على (من) في قوله: ﴿مَا فِي الْقُبُور﴾ لكونهم إذ ذاك بمعزل عن مرتبة العقلاء.
ومنها: تخصيص أعمال القلوب بالذكر في قوله: ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ دون أعمال الجوارح؛ لأنها متابعة لأعمال القلوب فإنه لولا تحقق البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح، اهـ "زاده".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
* * *
سورة القارعة مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة قريش، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة القارعة بمكة.
وآياتها: إحدى عشرة آية، من عشرة، من ثمان، كلماتها: ست وثلاثون كلمة، وحروفها: مئة واثنان وخمسون حرفًا.
المناسبة: مناسبتها لما قبلها (١): أن آخر السابقة كان في وصف يوم القيامة، من بعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور، ومجازاة الناس على ما كسبت أيديهم، وهذه السورة بأسرها في وصف ذلك اليوم الشديد وما يكون فيه من الأهوال، من كون الناس كالفراش المبثوث، وكون الجبال كالعهن المنفوش.
قال الرازي: واعلم أَنه سبحانه وتعالى لما ختم السورة المتقدمة بقوله: ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)﴾ فكأنه قيل: وما ذاك اليوم؟ فقيل هي: القارعة، اهـ من "تفسير الكبير".
ومما يدل على فضلها: ما ورد عن النبي - ﷺ - قال: "من قرأ سورة القارعة.. ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة" اهـ "بيضاوي" ولكن فيه مقال.
التسمية: وسميت سورة القارعة لذكر لفظ القارعة فيها.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة القارعة كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *