تفسير سورة سورة السجدة من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
أشهر أسماء هذه السورة هو﴿ سورة السجدة ﴾، وهو أخصر أسمائها، وهو المكتوب في السطر المجعول لاسم السورة من المصاحف المتداولة. وبهذا الاسم ترجم لها الترمذي في جامعه وذلك بإضافة كلمة ﴿ سورة ﴾ إلى كلمة ﴿ السجدة ﴾. ولا بد من تقدير كلمة ﴿ ألم ﴾ محذوفة للاختصار إذ لا يكفي مجرد إضافة سورة إلى السجدة في تعريف هذه السورة، فإنه لا تكون سجدة من سجود القرآن إلا في سورة من السور.
وتسمى أيضا ﴿ ألم تنزيل ﴾ ؛ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ ﴿ ألم تنزيل ﴾ و﴿ تبارك الذي بيده الملك ﴾.
وتسمى ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾ و﴿ هل أتى على الإنسان ﴾. قال شارحو صحيح البخاري ضبط اللام من كلمة ﴿ تنزيل ﴾ بضمة على الحكاية، وأما لفظ ﴿ السجدة ﴾ في هذا الحديث فقال ابن حجر هو بالنصب : وقال العيني والقسطلاني بالنصب على أنه عطف بيان يعني أنه بيان للفظ ﴿ ألم تنزيل ﴾، وهذا بعيد لأن لفظ السجدة ليس اسما لهذه السورة إلا بإضافة ﴿ سورة ﴾ إلى ﴿ السجدة ﴾، فالوجه أن يكون لفظ ﴿ السجدة ﴾ في كلام أبي هريرة مجرورا بإضافة مجموع ﴿ ألم تنزيل ﴾ إلى لفظ ﴿ السجدة ﴾، وسأبين كيفية هذه الإضافة.
وعنونها البخاري في صحيحه ﴿ سورة تنزيل السجدة ﴾. ويجب أن يكون ﴿ تنزيل ﴾ مضمونا على حكاية لفظ القرآن، فتميزت هذه السورة بوقوع سجدة تلاوة فيها من بين السور المفتتحة ب﴿ ألم ﴾، فلذلك فمن سماها ﴿ سورة السجدة ﴾ عنى تقدير مضاف أي سورة ﴿ ألم السجدة ﴾.
ومن سماها ﴿ تنزيل السجدة ﴾ فهو على تقدير ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾ بجعل ﴿ ألم تنزيل ﴾ اسما مركبا ثم أضافته إلى السجدة، أي ذات السجدة، لزيادة التمييز والإيضاح، وإلا فإن ذكر كلمة ﴿ تنزيل ﴾ كاف في تمييزها عما عداها من ذوات ﴿ ألم ﴾ ثم اختصر بحذف ﴿ ألم ﴾ وإبقاء ﴿ تنزيل ﴾، واضيف ﴿ تنزيل ﴾ إلى ﴿ السجدة ﴾ على ما سيأتي في توجيه تسميتها ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾.
ومن سماها ﴿ إلم السجدة ﴾ فهو على إضافة ﴿ ألم ﴾ إلى ﴿ السجدة ﴾ إضافة على معنى اللام وجعل ﴿ ألم ﴾ اسما للسورة.
ومن سموها ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾ لم يتعرضوا لضبطها في شروح صحيح البخاري ولا في النسخ الصحيحة من الجامع الصحيح، ويتعين أن يكون ﴿ ألم ﴾ مضافا إلى ﴿ تنزيل ﴾ على أن مجموع المضاف والمضاف إليه اسم لهذه السورة محكي لفظه ؛ فتكون كلمة ﴿ تنزيل ﴾ مضمونه على حكاية لفظها القرآني، وأن يعتبر هذا المركب الإضافي اعتبار العلم مثل : عبد الله، ويعتبر مجموع ذلك المركب الإضافي مضافا إلى السجدة إضافة المفردات، وهو استعمال موجود، ومنه قول تأبط شرا :
إذ أضاف مجموع ابن عم إلى الصدق، ولم يرد إضافة عم إلى الصدق. وكذلك قول أحد الطائيين في ديوان الحماسة :
فإنه ما أراد وصف عمه بالسوء ولكنه أراد وصف ابن عمه بالسوء. فأضاف مجموع ابن عم إلى السوء، ومثله قول رجل من كلب في ديوان الحماسة :
وقال عيينة بن مرداس في الحماسة :
فأضاف مجموع أيادي سبا وهو كالمفرد لأنه جرى مجرى المثل إلى الحاجات.
وقال بعض رجازهم :
فأضاف ( ابن عم ) إلى لفظ ( الليل )، وأضاف ( ابن خال ) إلى ضمير ( الليل ) على معنى أنا مخالط الليل، ولا يريد إضافة عم ولا خال إلى الليل.
ومن هذا اسم عبد الله بن قيس الرقيات، فالمضاف إلى الرقيات هو مجموع المركب إما عبد الله، أو ابن قيس لا أحد مفرداته.
وهذه الإضافة قريبة من إضافة العدد المركب إلى من يضاف إليه مع بقاء اسم العدد على بنائه كما تقول : أعطه خمسة عشره.
وتسمى هذه السورة أيضا ﴿ سورة المضاجع ﴾ لوقوع لفظ ﴿ المضاجع ﴾ في قوله تعالى :﴿ تتجافى جنوبهم عن المضاجع ﴾.
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي أن خالد بن معدان١ سماها ﴿ المنجية ﴾. قال : بلغني أن رجلا يقرؤها ما يقرأ شيئا غيرها، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها وقالت : رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي فشفعها الرب فيه وقال : اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة اهـ.
وقال الطبرسي : تسمى ﴿ سورة سجدة لقمان ﴾ لوقوعها بعد سورة لقمان لئلا تلتبس بسورة ﴿ حم السجدة ﴾، أي كما سموا سورة ﴿ حم السجدة ﴾ وهي سورة فصلت ﴿ سورة سجدة المؤمن ﴾ لوقوعها بعد ﴿ سورة المؤمنين ﴾.
وهي مكية في إطلاق أكثر المفسرين وإحدى روايتين عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه استثناء ثلاث آيات مدنية وهي ﴿ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا ﴾ إلى ﴿ لعلهم يرجعون ﴾. قيل نزلت يوم بدر في علي بن أبي طالب والوليد ابن عقبة وسيأتي إبطاله. وزاد بعضهم آيتين ﴿ تتجافى جنوبهم عن المضاجع ﴾ إلى ﴿ بما كانوا يعملون ﴾ لما روي في سبب نزولها وهو ضعيف.
والذي نعول عليه أن السورة كلها مكية وأن ما خالف ذلك إن هو إلا تأويل أو إلحاق خاص بعام كما أصلنا في المقدمة الخامسة.
نزلت بعد سورة النحل وقبل سورة نوح، وقد عدت الثالثة والسبعين في النزول.
وعدت آياتها عند جمهور العادين ثلاثين، وعدها البصريون سبعا وعشرين.
من أغراض هذه السورة
أولها التنويه بالقرآن أنه منزل من عند الله، وتوبيخ المشركين على ادعائهم أنه مفترى بأنهم لم يسبق لهم التشرف بنزول كتاب.
والاستدلال على إبطال إلهية أصنامهم بإثبات انفراد الله بأنه خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما.
وذكر البعث والاستدلال على كيفية بدء خلق الإنسان ونسله، وتنظيره بإحياء الأرض، وأدمج في ذلك أن إحياء الأرض نعمة عليهم كفروا بمسديها.
والإنحاء على الذين أنكروه ووعيدهم.
والثناء على المصدقين بآيات الله ووعدهم، ومقابلة إيمانهم بكفر المشركين، ثم إثبات رسالة رسول عظيم قبل محمد صلى الله عليه وسلم هدى به أمة عظيمة.
والتذمير بما حل بالمكذبين السابقين ليكون ذلك عظة للحاضرين، وتهديدهم بالنصر الحاصل للمؤمنين.
وختم ذلك بانتظار النصر.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه تحقيرا لهم، ووعده بانتظار نصره عليهم.
ومن مزايا هذه السورة وفضائلها ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد والدرامي عن جابر بن عبد الله قال كان النبي لا ينام حتى يقرأ ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾ و﴿ تبارك الذي بيده الملك ﴾.
وتسمى أيضا ﴿ ألم تنزيل ﴾ ؛ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ ﴿ ألم تنزيل ﴾ و﴿ تبارك الذي بيده الملك ﴾.
وتسمى ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾ و﴿ هل أتى على الإنسان ﴾. قال شارحو صحيح البخاري ضبط اللام من كلمة ﴿ تنزيل ﴾ بضمة على الحكاية، وأما لفظ ﴿ السجدة ﴾ في هذا الحديث فقال ابن حجر هو بالنصب : وقال العيني والقسطلاني بالنصب على أنه عطف بيان يعني أنه بيان للفظ ﴿ ألم تنزيل ﴾، وهذا بعيد لأن لفظ السجدة ليس اسما لهذه السورة إلا بإضافة ﴿ سورة ﴾ إلى ﴿ السجدة ﴾، فالوجه أن يكون لفظ ﴿ السجدة ﴾ في كلام أبي هريرة مجرورا بإضافة مجموع ﴿ ألم تنزيل ﴾ إلى لفظ ﴿ السجدة ﴾، وسأبين كيفية هذه الإضافة.
وعنونها البخاري في صحيحه ﴿ سورة تنزيل السجدة ﴾. ويجب أن يكون ﴿ تنزيل ﴾ مضمونا على حكاية لفظ القرآن، فتميزت هذه السورة بوقوع سجدة تلاوة فيها من بين السور المفتتحة ب﴿ ألم ﴾، فلذلك فمن سماها ﴿ سورة السجدة ﴾ عنى تقدير مضاف أي سورة ﴿ ألم السجدة ﴾.
ومن سماها ﴿ تنزيل السجدة ﴾ فهو على تقدير ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾ بجعل ﴿ ألم تنزيل ﴾ اسما مركبا ثم أضافته إلى السجدة، أي ذات السجدة، لزيادة التمييز والإيضاح، وإلا فإن ذكر كلمة ﴿ تنزيل ﴾ كاف في تمييزها عما عداها من ذوات ﴿ ألم ﴾ ثم اختصر بحذف ﴿ ألم ﴾ وإبقاء ﴿ تنزيل ﴾، واضيف ﴿ تنزيل ﴾ إلى ﴿ السجدة ﴾ على ما سيأتي في توجيه تسميتها ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾.
ومن سماها ﴿ إلم السجدة ﴾ فهو على إضافة ﴿ ألم ﴾ إلى ﴿ السجدة ﴾ إضافة على معنى اللام وجعل ﴿ ألم ﴾ اسما للسورة.
ومن سموها ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾ لم يتعرضوا لضبطها في شروح صحيح البخاري ولا في النسخ الصحيحة من الجامع الصحيح، ويتعين أن يكون ﴿ ألم ﴾ مضافا إلى ﴿ تنزيل ﴾ على أن مجموع المضاف والمضاف إليه اسم لهذه السورة محكي لفظه ؛ فتكون كلمة ﴿ تنزيل ﴾ مضمونه على حكاية لفظها القرآني، وأن يعتبر هذا المركب الإضافي اعتبار العلم مثل : عبد الله، ويعتبر مجموع ذلك المركب الإضافي مضافا إلى السجدة إضافة المفردات، وهو استعمال موجود، ومنه قول تأبط شرا :
إني لمهد من ثنـائي فـقـاصـد | به لبن عم الصدق شمس بن مالك |
داو ابن السوء بالنأي والغنـى | كفى بالغنى والنأي عنه مداويا |
هنيئا لابن عم السوء أني | مجاورة بني ثعل لبوني |
فلما عرفت اليأس منه وقد بدت | أيادي سبا الحاجات للمتذكـر |
وقال بعض رجازهم :
أنا ابن عم الليل وابن خاله | إذا دجى دخلت في سرباله |
ومن هذا اسم عبد الله بن قيس الرقيات، فالمضاف إلى الرقيات هو مجموع المركب إما عبد الله، أو ابن قيس لا أحد مفرداته.
وهذه الإضافة قريبة من إضافة العدد المركب إلى من يضاف إليه مع بقاء اسم العدد على بنائه كما تقول : أعطه خمسة عشره.
وتسمى هذه السورة أيضا ﴿ سورة المضاجع ﴾ لوقوع لفظ ﴿ المضاجع ﴾ في قوله تعالى :﴿ تتجافى جنوبهم عن المضاجع ﴾.
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي أن خالد بن معدان١ سماها ﴿ المنجية ﴾. قال : بلغني أن رجلا يقرؤها ما يقرأ شيئا غيرها، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها وقالت : رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي فشفعها الرب فيه وقال : اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة اهـ.
وقال الطبرسي : تسمى ﴿ سورة سجدة لقمان ﴾ لوقوعها بعد سورة لقمان لئلا تلتبس بسورة ﴿ حم السجدة ﴾، أي كما سموا سورة ﴿ حم السجدة ﴾ وهي سورة فصلت ﴿ سورة سجدة المؤمن ﴾ لوقوعها بعد ﴿ سورة المؤمنين ﴾.
وهي مكية في إطلاق أكثر المفسرين وإحدى روايتين عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه استثناء ثلاث آيات مدنية وهي ﴿ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا ﴾ إلى ﴿ لعلهم يرجعون ﴾. قيل نزلت يوم بدر في علي بن أبي طالب والوليد ابن عقبة وسيأتي إبطاله. وزاد بعضهم آيتين ﴿ تتجافى جنوبهم عن المضاجع ﴾ إلى ﴿ بما كانوا يعملون ﴾ لما روي في سبب نزولها وهو ضعيف.
والذي نعول عليه أن السورة كلها مكية وأن ما خالف ذلك إن هو إلا تأويل أو إلحاق خاص بعام كما أصلنا في المقدمة الخامسة.
نزلت بعد سورة النحل وقبل سورة نوح، وقد عدت الثالثة والسبعين في النزول.
وعدت آياتها عند جمهور العادين ثلاثين، وعدها البصريون سبعا وعشرين.
من أغراض هذه السورة
أولها التنويه بالقرآن أنه منزل من عند الله، وتوبيخ المشركين على ادعائهم أنه مفترى بأنهم لم يسبق لهم التشرف بنزول كتاب.
والاستدلال على إبطال إلهية أصنامهم بإثبات انفراد الله بأنه خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما.
وذكر البعث والاستدلال على كيفية بدء خلق الإنسان ونسله، وتنظيره بإحياء الأرض، وأدمج في ذلك أن إحياء الأرض نعمة عليهم كفروا بمسديها.
والإنحاء على الذين أنكروه ووعيدهم.
والثناء على المصدقين بآيات الله ووعدهم، ومقابلة إيمانهم بكفر المشركين، ثم إثبات رسالة رسول عظيم قبل محمد صلى الله عليه وسلم هدى به أمة عظيمة.
والتذمير بما حل بالمكذبين السابقين ليكون ذلك عظة للحاضرين، وتهديدهم بالنصر الحاصل للمؤمنين.
وختم ذلك بانتظار النصر.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه تحقيرا لهم، ووعده بانتظار نصره عليهم.
ومن مزايا هذه السورة وفضائلها ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد والدرامي عن جابر بن عبد الله قال كان النبي لا ينام حتى يقرأ ﴿ ألم تنزيل السجدة ﴾ و﴿ تبارك الذي بيده الملك ﴾.
١ - خالد بن معدان الكلاعي الحمصي أبو عبد الله من فقهاء التابعين. توفي سنة ثلاث أو أربع أو ثمان ومائة. روى عن جماعة من الصحابة مرسلا..
ﰡ
وَمِنْ مَزَايَا هَذِهِ السُّورَةِ وَفَضَائِلِهَا مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ [السَّجْدَةِ: ١- ٢] وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
[الْملك: ١].
[١]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١]
تَقَدَّمَ مَا فِي نَظَائِره.
[٢]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٢]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)
افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ جَامِعُ الْهُدَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ وَغَيْرُهَا وَلِأَنَّ جِمَاعَ ضَلَالِ الضَّالِّينَ هُوَ التَّكْذِيبُ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَاللَّهُ جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلنَّاسِ وخصّ الْعَرَب أَن شَرَّفَهُمْ بِجَعْلِهِمْ أَوَّلَ مَنْ يَتَلَقَّى هَذَا الْكِتَابَ، وَبِأَنْ أَنْزَلَهُ بِلُغَتِهِمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ أَشَدُّ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ، لَا جَرَمَ أَنَّ تَكْذِيبَ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ أَعْرَقُ فِي الضَّلَالَةِ وَأَوْغَلُ فِي أَفْنِ الرَّأْيِ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ لِإِطَالَتِهِ لِيَحْصُلَ بِتَطْوِيلِهِ ثُمَّ تَعْقِيبِهِ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ التَّشْوِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقِيلَ: قُرْآنٌ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ أُسْلُوبِ قَوْلِهِ الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١، ٢] لِأَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ نَازِلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [الْبَقَرَة:
٤] وَأَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ فَقَدْ جَابَهَ اللَّهُ بِهَا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْإِلَهِ الْوَاحِدِ وَلَا يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَهُمْ أَصْلَبُ عُودًا، وَأَشَدُّ كُفْرًا وَصُدُودًا.
فَقَوْلُهُ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ لَا رَيْبَ فِيهِ جُمْلَةٌ هِيَ صِفَةٌ لِلْكِتَابِ أَوْ حَالٌ أَوْ هِيَ مُعْتَرِضَةٌ.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ [السَّجْدَةِ: ١- ٢] وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
[الْملك: ١].
[١]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١)تَقَدَّمَ مَا فِي نَظَائِره.
[٢]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٢]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)
افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ جَامِعُ الْهُدَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ وَغَيْرُهَا وَلِأَنَّ جِمَاعَ ضَلَالِ الضَّالِّينَ هُوَ التَّكْذِيبُ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَاللَّهُ جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلنَّاسِ وخصّ الْعَرَب أَن شَرَّفَهُمْ بِجَعْلِهِمْ أَوَّلَ مَنْ يَتَلَقَّى هَذَا الْكِتَابَ، وَبِأَنْ أَنْزَلَهُ بِلُغَتِهِمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ أَشَدُّ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ، لَا جَرَمَ أَنَّ تَكْذِيبَ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ أَعْرَقُ فِي الضَّلَالَةِ وَأَوْغَلُ فِي أَفْنِ الرَّأْيِ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ لِإِطَالَتِهِ لِيَحْصُلَ بِتَطْوِيلِهِ ثُمَّ تَعْقِيبِهِ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ التَّشْوِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقِيلَ: قُرْآنٌ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ أُسْلُوبِ قَوْلِهِ الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١، ٢] لِأَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ نَازِلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [الْبَقَرَة:
٤] وَأَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ فَقَدْ جَابَهَ اللَّهُ بِهَا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْإِلَهِ الْوَاحِدِ وَلَا يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَهُمْ أَصْلَبُ عُودًا، وَأَشَدُّ كُفْرًا وَصُدُودًا.
فَقَوْلُهُ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ لَا رَيْبَ فِيهِ جُمْلَةٌ هِيَ صِفَةٌ لِلْكِتَابِ أَوْ حَالٌ أَوْ هِيَ مُعْتَرِضَةٌ.
وَقَوْلُهُ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالْمَعْنَى: مِنْ عِنْدِهِ وَوَحْيُهُ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ. وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيهِ بِأُسْلُوبِ الْمَعْلُومِ الْمُقَرَّرِ فَلَمْ تُجْعَلْ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ لِزِيَادَةِ التَّشْوِيقِ إِلَى الْخَبَرِ لِيُقَرِّرَ كَوْنَهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَمَعْنَى لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يَرْتَابَ أَحَدٌ فِي تَنْزِيلِهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِمَا حَفَّ بِتَنْزِيلِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ بِسَبَبِ إِعْجَازِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ فَضْلًا عَنْ مَجْمُوعِهِ، وَمَا عَضَّدَهُ مِنْ حَالِ الْمُرْسَلِ بِهِ مِنْ شُهْرَةِ الصِّدْقِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَمَجِيءِ مِثْلِهِ مِنْ مِثْلِهِ مَعَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ. فَمَعْنَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الرَّيْبُ مَظْرُوفًا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُثِيرُ الرَّيْبَ، فَالَّذِينَ ارْتَابُوا بَلْ كَذَّبُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُمْ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا مُتَعَنِّتِينَ عَلَى عِلْمٍ، أَوْ جُهَّالًا يَقُولُونَ قَبْلَ أَن يتأملوا وينظروا وَالْأَوَّلُونَ زُعَمَاؤُهُمْ وَالْأَخْيَرُونَ دَهْمَاؤُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَاسْتِحْضَارُ الْجَلَالَةِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ بِوَصْفِ رَبِّ الْعالَمِينَ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عُمُومِ الشَّرِيعَةِ وَكَوْنِ كِتَابِهَا مُنَزَّلًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨]. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ دَوَاعِي تَكْذِيبِهِمْ بِهِ أَنَّهُ كَيْفَ خَصَّ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ بَشَرًا مِنْهُمْ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ رُبُوبِيَّةَ الله للْعَالمين تنبىء عَنْ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَأَنَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَل رسالاته.
[٣]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٣]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)
جَاءَتْ أَمْ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ إِضْرَابَ انْتِقَالٍ، وَهِيَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بل الَّتِي للإضراب.
وَالْمَعْنَى: مِنْ عِنْدِهِ وَوَحْيُهُ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ. وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيهِ بِأُسْلُوبِ الْمَعْلُومِ الْمُقَرَّرِ فَلَمْ تُجْعَلْ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ لِزِيَادَةِ التَّشْوِيقِ إِلَى الْخَبَرِ لِيُقَرِّرَ كَوْنَهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَمَعْنَى لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يَرْتَابَ أَحَدٌ فِي تَنْزِيلِهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِمَا حَفَّ بِتَنْزِيلِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ بِسَبَبِ إِعْجَازِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ فَضْلًا عَنْ مَجْمُوعِهِ، وَمَا عَضَّدَهُ مِنْ حَالِ الْمُرْسَلِ بِهِ مِنْ شُهْرَةِ الصِّدْقِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَمَجِيءِ مِثْلِهِ مِنْ مِثْلِهِ مَعَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ. فَمَعْنَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الرَّيْبُ مَظْرُوفًا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُثِيرُ الرَّيْبَ، فَالَّذِينَ ارْتَابُوا بَلْ كَذَّبُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُمْ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا مُتَعَنِّتِينَ عَلَى عِلْمٍ، أَوْ جُهَّالًا يَقُولُونَ قَبْلَ أَن يتأملوا وينظروا وَالْأَوَّلُونَ زُعَمَاؤُهُمْ وَالْأَخْيَرُونَ دَهْمَاؤُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَاسْتِحْضَارُ الْجَلَالَةِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ بِوَصْفِ رَبِّ الْعالَمِينَ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عُمُومِ الشَّرِيعَةِ وَكَوْنِ كِتَابِهَا مُنَزَّلًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨]. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ دَوَاعِي تَكْذِيبِهِمْ بِهِ أَنَّهُ كَيْفَ خَصَّ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ بَشَرًا مِنْهُمْ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ رُبُوبِيَّةَ الله للْعَالمين تنبىء عَنْ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَأَنَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَل رسالاته.
[٣]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٣]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)
جَاءَتْ أَمْ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ إِضْرَابَ انْتِقَالٍ، وَهِيَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بل الَّتِي للإضراب.
206
وَحَيْثُمَا وَقَعَتْ أَمْ فَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِاسْتِفْهَامٍ بِالْهَمْزَةِ بَعْدَهَا الْمُلْتَزِمُ حَذْفُهَا بَعْدَ أَمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَهَا هُنَا تَعْجِيبِيٌّ لِأَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ الشَّنِيعَ وَعَلِمَهُ النَّاسُ عَنْهُمْ فَلَا جَرَمَ كَانُوا أَحِقَّاءَ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَبْدَوْا بِهِ أَمْرًا غَرِيبًا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ لَدَى الْعُقَلَاءِ ذَوي الْأَحْلَامِ الرَّاجِحَةِ وَالنُّفُوسِ الْمُنْصِفَةِ، إِذْ دَلَائِلُ انْتِفَاءِ الرَّيْبِ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَاضِحَةٌ بَلْهَ الْجَزْمَ بِأَنَّهُ مُفْتَرًى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَصِيَغُ الْخَبَرِ عَنْ قَوْلِهِمُ الْعَجِيبِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ تَحْقِيقًا
لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُ حَتَّى لَا تَغْفَلَ عَنْ حَالِ قَوْلِهِمْ أَذْهَانُ السَّامِعِينَ كَلَفْظِ (تَقُولُ) فِي بَيْتِ هُذْلُولٍ الْعَنْبَرِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
وَفِي الْمُضَارِعِ مَعَ ذَلِكَ إِيذَانٌ بِتَجَدُّدِ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ وَأَنَّهُمْ لَا يُقْلِعُونَ عَنْهَا عَلَى الرَّغْمِ مِمَّا جَاءَهُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ رغم افْتِضَاحِهِمْ بِالْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَقَامِ حِكَايَةِ مَقَالِهِمُ الْمُشْتَهَرِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتابِ [السَّجْدَة: ٢]. وَأُضْرِبَ عَلَى قَوْلِهِمُ افْتَراهُ إِضْرَابَ إِبْطَالٍ بِ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِإِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَمَعْنَى الْحَقِّ: الصِّدْقُ، أَيْ: فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الَّذِي مِنْهُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَعْرِيفُ الْحَقُّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ تَحْقِيقَ الْجِنْسِيَّةِ فِيهِ. أَيْ: هُوَ حَقٌّ ذَلِكَ الْحَقُّ الْمَعْرُوفَةُ مَاهِيَّتُهُ مِنْ بَيْنِ الْأَجْنَاسِ وَالْمُفَارِقُ لِجِنْسِ الْبَاطِلِ. وَفِي تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ ذَرِيعَةٌ إِلَى اعْتِبَارِ كَمَالِ هَذَا الْجِنْسِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى الْقَصْرِ الِادِّعَائِي لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: أَنْتَ الْحَبِيبُ وَعَمْرٌو الْفَارِسُ.
ومِنْ رَبِّكَ فِي مَوْضِعِ حَالٍ مِنَ الْحَقُّ، وَالْحَقُّ الْوَارِدُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ أَكْمَلُ جِنْسِ الْحَقِّ. وَكَافُ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتُحْضِرَتِ الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ هُنَا بِعُنْوَانِ رَبِّكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَاءَ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمُ افْتَراهُ، يَعْنُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مَقَامُ الرَّدِّ مُقْتَضِيًا تَأْيِيدَ مَنْ أَلْصَقُوا بِهِ مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ بِإِثْبَاتِ أَنَّ الْكِتَابَ حَقٌّ مِنْ رَبِّ مَنْ أَلْصَقُوا بِهِ الِافْتِرَاءَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَصِيَغُ الْخَبَرِ عَنْ قَوْلِهِمُ الْعَجِيبِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ تَحْقِيقًا
لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُ حَتَّى لَا تَغْفَلَ عَنْ حَالِ قَوْلِهِمْ أَذْهَانُ السَّامِعِينَ كَلَفْظِ (تَقُولُ) فِي بَيْتِ هُذْلُولٍ الْعَنْبَرِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
تَقُولُ وَصَكَّتْ صَدْرَهَا بِيَمِينِهَا | أَبَعْلِيَ هَذَا بِالرَّحَى الْمُتَقَاعِسِ |
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَقَامِ حِكَايَةِ مَقَالِهِمُ الْمُشْتَهَرِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتابِ [السَّجْدَة: ٢]. وَأُضْرِبَ عَلَى قَوْلِهِمُ افْتَراهُ إِضْرَابَ إِبْطَالٍ بِ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِإِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَمَعْنَى الْحَقِّ: الصِّدْقُ، أَيْ: فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الَّذِي مِنْهُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَعْرِيفُ الْحَقُّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ تَحْقِيقَ الْجِنْسِيَّةِ فِيهِ. أَيْ: هُوَ حَقٌّ ذَلِكَ الْحَقُّ الْمَعْرُوفَةُ مَاهِيَّتُهُ مِنْ بَيْنِ الْأَجْنَاسِ وَالْمُفَارِقُ لِجِنْسِ الْبَاطِلِ. وَفِي تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ ذَرِيعَةٌ إِلَى اعْتِبَارِ كَمَالِ هَذَا الْجِنْسِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى الْقَصْرِ الِادِّعَائِي لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: أَنْتَ الْحَبِيبُ وَعَمْرٌو الْفَارِسُ.
ومِنْ رَبِّكَ فِي مَوْضِعِ حَالٍ مِنَ الْحَقُّ، وَالْحَقُّ الْوَارِدُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ أَكْمَلُ جِنْسِ الْحَقِّ. وَكَافُ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتُحْضِرَتِ الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ هُنَا بِعُنْوَانِ رَبِّكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَاءَ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمُ افْتَراهُ، يَعْنُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مَقَامُ الرَّدِّ مُقْتَضِيًا تَأْيِيدَ مَنْ أَلْصَقُوا بِهِ مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ بِإِثْبَاتِ أَنَّ الْكِتَابَ حَقٌّ مِنْ رَبِّ مَنْ أَلْصَقُوا بِهِ الِافْتِرَاءَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
207
وَتَخَلُّصًا إِلَى تَصْدِيقِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكِتَابُ الَّذِي جَاءَ بِهِ حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا.
وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعِ الْإِحْكَامِ إِذْ ثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَأَنَّهُ يَحِقُّ أَنْ لَا يَرْتَابَ فِيهِ مُرْتَابٌ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنَ الَّذِينَ جَزَمُوا بِأَنَّ الْجَائِيَ بِهِ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ الْحَقُّ الْكَامِلُ مِنْ رَبِّ الَّذِي نَسَبُوا إِلَيْهِ افْتِرَاءَهُ فَلَوْ كَانَ افْتَرَاهُ لَقَدِرَ اللَّهُ عَلَى إِظْهَارِ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٧]. ثُمَّ جَاءَ بِمَا هُوَ أَنْكَى لِلْمُكَذِّبِينَ وَأَبْلَغُ فِي تَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَأَوْغَلُ فِي النِّدَاءِ عَلَى إِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي دَقَائِقِ الْمَعَانِي، فَبَيَّنَ مَا فِيهِ تَذْكِرَةٌ لَهُمْ بِبَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي جَاءَ لِأَجْلِهَا هَذَا الْكِتَابُ بِقَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ
قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
فَقَدْ جَمَعُوا مِنَ الْجَهَالَةِ مَا هُوَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ، فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ، عَلَى أَنَّ حَقِّيَّتَهُ مُقْتَضِيَةُ الْمُنَافَسَةِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَلْفِتُوا إِلَى تَقَلُّدِهِ وَعَلَى أَنَّهُمْ دَعَوْا إِلَى الْأَخْذِ بِهِ وَذَلِكَ مِمَّا يُوجب التَّأَمُّلُ فِي حَقِّيَّتِهِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُمْ كَانُوا أَحْوَجَ إِلَى اتِّبَاعِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَسْبِقْ لَهُمْ رِسَالَةُ مُرْسَلٍ فَكَانُوا أَبْعَدَ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى بِمَا تَعَاقَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرُونِ دُونَ دَعْوَةِ رَسُولٍ فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي حِرْصِهِمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهِ وَشُعُورِهِمْ بِمَزِيدِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ رَجَاءً مِنْهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا، قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها [الْأَنْعَام: ١٥٥- ١٥٧]، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ كَمَثَلِ قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ:
وَالْقَوْمُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ أَمْرٌ هُوَ كَالْقِوَامِ لَهُمْ مِنْ نَسَبٍ أَوْ مَوْطِنٍ أَوْ غَرَضٍ تَجَمَّعُوا بِسَبَبِهِ. وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ فِي
وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعِ الْإِحْكَامِ إِذْ ثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَأَنَّهُ يَحِقُّ أَنْ لَا يَرْتَابَ فِيهِ مُرْتَابٌ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنَ الَّذِينَ جَزَمُوا بِأَنَّ الْجَائِيَ بِهِ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ الْحَقُّ الْكَامِلُ مِنْ رَبِّ الَّذِي نَسَبُوا إِلَيْهِ افْتِرَاءَهُ فَلَوْ كَانَ افْتَرَاهُ لَقَدِرَ اللَّهُ عَلَى إِظْهَارِ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٧]. ثُمَّ جَاءَ بِمَا هُوَ أَنْكَى لِلْمُكَذِّبِينَ وَأَبْلَغُ فِي تَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَأَوْغَلُ فِي النِّدَاءِ عَلَى إِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي دَقَائِقِ الْمَعَانِي، فَبَيَّنَ مَا فِيهِ تَذْكِرَةٌ لَهُمْ بِبَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي جَاءَ لِأَجْلِهَا هَذَا الْكِتَابُ بِقَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ
قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
فَقَدْ جَمَعُوا مِنَ الْجَهَالَةِ مَا هُوَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ، فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ، عَلَى أَنَّ حَقِّيَّتَهُ مُقْتَضِيَةُ الْمُنَافَسَةِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَلْفِتُوا إِلَى تَقَلُّدِهِ وَعَلَى أَنَّهُمْ دَعَوْا إِلَى الْأَخْذِ بِهِ وَذَلِكَ مِمَّا يُوجب التَّأَمُّلُ فِي حَقِّيَّتِهِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُمْ كَانُوا أَحْوَجَ إِلَى اتِّبَاعِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَسْبِقْ لَهُمْ رِسَالَةُ مُرْسَلٍ فَكَانُوا أَبْعَدَ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى بِمَا تَعَاقَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرُونِ دُونَ دَعْوَةِ رَسُولٍ فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي حِرْصِهِمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهِ وَشُعُورِهِمْ بِمَزِيدِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ رَجَاءً مِنْهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا، قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها [الْأَنْعَام: ١٥٥- ١٥٧]، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ كَمَثَلِ قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ:
هَلْ تَزْجُرَنَّكُمُ رِسَالَةُ مُرْسَلٍ | أَمْ لَيْسَ يَنْفَعُ فِي أُولَاكِ أُلُوكُ |
208
النَّسَبِ إِلَى جَدٍّ اخْتَصُّوا بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ. وَتَمَيَّزُوا بِذَلِكَ عَمَّنْ يُشَارِكُهُمْ فِي جَدٍّ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَقُرَيْشٌ مَثَلًا قَوْمٌ اخْتَصُّوا بِالِانْتِسَابِ إِلَى فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ فَتَمَيَّزُوا عَمَّنْ عَدَاهُمْ مِنْ عَقِبِ كِنَانَةَ فَيُقَالُ: فُلَانٌ قُرَشِيٌّ وَفُلَانٌ كِنَانِيٌّ وَلَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَبْنَاءِ قُرَيْشٍ كِنَانِيٌّ.
وَوُصِفَ الْقَوْمُ بِأَنَّهُمْ مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ قبل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنبيء حِينَئِذٍ يَدْعُو أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَرُبَّمَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ شَمِلَتْ أَهْلَ يَثْرِبَ وَكُلُّهُمْ مِنَ الْعَرَبِ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْمِ الْعَرَبُ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قُرَيْشًا خَاصَّةً، أَوْ عَرَبَ الْحِجَازِ أَهْلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَقَبَائِلُ الْحِجَازِ، وَعَرَبُ الْحِجَازِ جِذْمَانٌ: عَدْنَانِيُّونَ وَقَحْطَانِيُّونَ فَأَمَّا الْعَدْنَانِيُّونَ فَهُمْ أَبْنَاءُ عَدْنَانَ وَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ وَإِنَّمَا تَقَوَّمَتْ قَوْمِيَّتُهُمْ فِي أَبْنَاءِ عَدْنَانَ: وَهُمْ مُضَرُ وَرَبِيعَةُ وَأَنْمَارٌ، وَإِيَادٌ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ مُنْذُ تَقَوَّمَتْ قَوْمِيَّتُهُمْ. وَأَمَّا جَدُّهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ رَسُولًا نَبِيئًا كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَتُهُ خَاصَّةً بِأَهْلِهِ وَأَصْهَارِهِ مِنْ جُرْهُمٍ وَلَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَى الَّذِينَ وُجِدُوا بَعْدَهُ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ لَمْ تَكُنْ دَائِمَةً وَلَا مُنْتَشِرَةً، قَالَ تَعَالَى: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَم: ٥٥].
وَأَمَّا الْقَحْطَانِيُّونَ الْقَاطِنُونَ بِالْحِجَازِ مِثْلُ الْأَوْس والخزرج وطيء فَإِنَّهُمْ قَدْ تَغَيَّرَتْ
فِرَقُهُمْ وَمَوَاطِنُهُمْ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ وَانْقَسَمُوا أَقْوَامًا جُدُدًا وَلَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْمُنْذِرُونَ قَدْ جَاءُوا أَسْلَافَهُمْ مِثْلَ هُودٍ وَصَالِحٍ وَتُبَّعٍ، فَذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَقَوُّمِ قَوْمِيَّتِهِمُ الْجَدِيدَةِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَرَبَ كُلَّهُمْ بِمَا يَشْمَلُ أَهْلَ الْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَكُلُّهُمْ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى ذَيْنِكَ الْجِذْمَيْنِ، وَقَدْ كَانَ انْقِسَامُهُمْ أَقْوَامًا وَمَوَاطِنَ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ وَلَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ بَعْدَ ذَلِكَ الِانْقِسَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَالِ الْقَحْطَانِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ صَاحِبِ أَهْلِ الرَّسِّ، وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ صَاحِبِ بَنِي عَبْسَ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمَا رَسُولَانِ وَاخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِمَا. وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ ابْنَةَ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ وَفَدَتْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَوُصِفَ الْقَوْمُ بِأَنَّهُمْ مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ قبل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنبيء حِينَئِذٍ يَدْعُو أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَرُبَّمَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ شَمِلَتْ أَهْلَ يَثْرِبَ وَكُلُّهُمْ مِنَ الْعَرَبِ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْمِ الْعَرَبُ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قُرَيْشًا خَاصَّةً، أَوْ عَرَبَ الْحِجَازِ أَهْلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَقَبَائِلُ الْحِجَازِ، وَعَرَبُ الْحِجَازِ جِذْمَانٌ: عَدْنَانِيُّونَ وَقَحْطَانِيُّونَ فَأَمَّا الْعَدْنَانِيُّونَ فَهُمْ أَبْنَاءُ عَدْنَانَ وَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ وَإِنَّمَا تَقَوَّمَتْ قَوْمِيَّتُهُمْ فِي أَبْنَاءِ عَدْنَانَ: وَهُمْ مُضَرُ وَرَبِيعَةُ وَأَنْمَارٌ، وَإِيَادٌ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ مُنْذُ تَقَوَّمَتْ قَوْمِيَّتُهُمْ. وَأَمَّا جَدُّهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ رَسُولًا نَبِيئًا كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَتُهُ خَاصَّةً بِأَهْلِهِ وَأَصْهَارِهِ مِنْ جُرْهُمٍ وَلَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَى الَّذِينَ وُجِدُوا بَعْدَهُ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ لَمْ تَكُنْ دَائِمَةً وَلَا مُنْتَشِرَةً، قَالَ تَعَالَى: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَم: ٥٥].
وَأَمَّا الْقَحْطَانِيُّونَ الْقَاطِنُونَ بِالْحِجَازِ مِثْلُ الْأَوْس والخزرج وطيء فَإِنَّهُمْ قَدْ تَغَيَّرَتْ
فِرَقُهُمْ وَمَوَاطِنُهُمْ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ وَانْقَسَمُوا أَقْوَامًا جُدُدًا وَلَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْمُنْذِرُونَ قَدْ جَاءُوا أَسْلَافَهُمْ مِثْلَ هُودٍ وَصَالِحٍ وَتُبَّعٍ، فَذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَقَوُّمِ قَوْمِيَّتِهِمُ الْجَدِيدَةِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَرَبَ كُلَّهُمْ بِمَا يَشْمَلُ أَهْلَ الْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَكُلُّهُمْ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى ذَيْنِكَ الْجِذْمَيْنِ، وَقَدْ كَانَ انْقِسَامُهُمْ أَقْوَامًا وَمَوَاطِنَ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ وَلَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ بَعْدَ ذَلِكَ الِانْقِسَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَالِ الْقَحْطَانِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ صَاحِبِ أَهْلِ الرَّسِّ، وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ صَاحِبِ بَنِي عَبْسَ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمَا رَسُولَانِ وَاخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِمَا. وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ ابْنَةَ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ وَفَدَتْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
209
وَهِيَ عَجُوزٌ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: «مرْحَبًا بابنة نبيء ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ»
. وَلَيْسَ لِذَلِكَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْعَرَبُ كُلُّهُمْ أَوِ الَّذِينَ شَمِلَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ وَصْفُ مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ وَقْتِ تَحَقُّقِ قَوْمِيَّتِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ بِهِ: تَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ الْأَقْوَامِ إِلَى نَذِيرٍ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ هُدًى وَأَثَارَةُ هِمَمِهِمْ لِاغْتِبَاطِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِيَتَقَبَّلُوا الْكِتَابَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَيَسْبِقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى اتِّبَاعِهِ فَيَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ السَّبْقُ فِي الشَّرْعِ الْأَخِيرِ كَمَا كَانَ لِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ السَّبْقُ بِبَعْضِ الِاهْتِدَاءِ وَمُمَارَسَةِ الْكِتَابِ السَّابِقِ. وَقَدِ اهْتَمَّ بَعْضُ أَهْلِ الْأَحْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ بِتَطَلُّبِ الدِّينِ الْحَقِّ فَتَهَوَّدَ كَثِيرٌ مِنْ عَرَبِ الْيمن، وتنصّرت طَيء وَكَلْبٌ وَتَغْلِبُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَتَتَّبَعَ الْحَنِيفِيَّةَ نَفَرٌ مِثْلُ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَطَلُّبًا لِلْكَمَالِ وَلَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ بِذَلِكَ.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَقْتَضِي اقْتِصَارَ الرِّسَالَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَلَا يُنَافِي عُمُومَ الرِّسَالَةِ لِمَنْ أَتَاهُمْ نَذِيرٌ، لِأَنَّ لَامَ الْعِلَّةِ لَا تَقْتَضِي إِلَّا كَوْنَ مَا بَعْدَهَا بَاعِثًا عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ دُونَ انْحِصَارِ بَاعِثِ الْفِعْلِ فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِد قد تكون لَهُ بَوَاعِثُ كَثِيرَةٌ، وَأَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى مَنُوطَةٌ بِحِكَمٍ عَدِيدَةٍ، وَدَلَائِلُ عُمُومِ الرِّسَالَةِ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ صَرِيحِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْ عُمُومِ الدَّعْوَةِ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلُ جَمِيعُ الْأُمَمِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ بَعْدَ أَنْ ضَلُّوا، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ ضَلَّ فِي شَرْعِهِ مِثْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ ضَلَّ بِالْخُلُوِّ عَنْ شَرْعٍ كَالْعَرَبِ. وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ عَنْ لَفْظِ (قَوْمٍ) وَعَنْ فِعْلِ أَتاهُمْ وَمُفِيتٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا قَضِيَّةُ عُمُومِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ
فَدَلَائِلُهَا كَثِيرَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذِه الْآيَة. و (لعلّ) مُسْتَعَارَةٌ تَمْثِيلًا لِإِرَادَةِ اهْتِدَائِهِمْ وَالْحِرْصِ على حُصُوله.
. وَلَيْسَ لِذَلِكَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْعَرَبُ كُلُّهُمْ أَوِ الَّذِينَ شَمِلَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ وَصْفُ مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ وَقْتِ تَحَقُّقِ قَوْمِيَّتِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ بِهِ: تَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ الْأَقْوَامِ إِلَى نَذِيرٍ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ هُدًى وَأَثَارَةُ هِمَمِهِمْ لِاغْتِبَاطِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِيَتَقَبَّلُوا الْكِتَابَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَيَسْبِقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى اتِّبَاعِهِ فَيَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ السَّبْقُ فِي الشَّرْعِ الْأَخِيرِ كَمَا كَانَ لِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ السَّبْقُ بِبَعْضِ الِاهْتِدَاءِ وَمُمَارَسَةِ الْكِتَابِ السَّابِقِ. وَقَدِ اهْتَمَّ بَعْضُ أَهْلِ الْأَحْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ بِتَطَلُّبِ الدِّينِ الْحَقِّ فَتَهَوَّدَ كَثِيرٌ مِنْ عَرَبِ الْيمن، وتنصّرت طَيء وَكَلْبٌ وَتَغْلِبُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَتَتَّبَعَ الْحَنِيفِيَّةَ نَفَرٌ مِثْلُ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَطَلُّبًا لِلْكَمَالِ وَلَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ بِذَلِكَ.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَقْتَضِي اقْتِصَارَ الرِّسَالَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَلَا يُنَافِي عُمُومَ الرِّسَالَةِ لِمَنْ أَتَاهُمْ نَذِيرٌ، لِأَنَّ لَامَ الْعِلَّةِ لَا تَقْتَضِي إِلَّا كَوْنَ مَا بَعْدَهَا بَاعِثًا عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ دُونَ انْحِصَارِ بَاعِثِ الْفِعْلِ فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِد قد تكون لَهُ بَوَاعِثُ كَثِيرَةٌ، وَأَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى مَنُوطَةٌ بِحِكَمٍ عَدِيدَةٍ، وَدَلَائِلُ عُمُومِ الرِّسَالَةِ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ صَرِيحِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْ عُمُومِ الدَّعْوَةِ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلُ جَمِيعُ الْأُمَمِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ بَعْدَ أَنْ ضَلُّوا، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ ضَلَّ فِي شَرْعِهِ مِثْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ ضَلَّ بِالْخُلُوِّ عَنْ شَرْعٍ كَالْعَرَبِ. وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ عَنْ لَفْظِ (قَوْمٍ) وَعَنْ فِعْلِ أَتاهُمْ وَمُفِيتٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا قَضِيَّةُ عُمُومِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ
فَدَلَائِلُهَا كَثِيرَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذِه الْآيَة. و (لعلّ) مُسْتَعَارَةٌ تَمْثِيلًا لِإِرَادَةِ اهْتِدَائِهِمْ وَالْحِرْصِ على حُصُوله.
210
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)لَمَّا كَانَ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَرْكَانِ هُدَى الْكِتَابِ هُوَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلْإِلَهِ وَإِبْطَالُ الشِّرْكِ عَقِبَ الثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ بِإِثْبَاتِ هَذَا الرُّكْنِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً لِإِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ بِالِاسْمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ قَطْعًا لِدَابِرِ عَقِيدَةِ الشَّرِيكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ جُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما صِفَةً لِاسْمِ الْجَلَالَةِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَأَنَّهُ الِانْفِرَادُ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ الْمَعْنِيُّونَ بِالْخَبَرِ، وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
وَالْوَلِيُّ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَاءِ، بِمَعْنَى: الْعَهْدِ وَالْحَلِفِ وَالْقَرَابَةِ. وَمِنْ لَوَازِمِ حَقِيقَةِ الْوَلَاءِ النَّصْرُ وَالدِّفَاعُ عَنِ الْمَوْلَى. وَأُرِيدَ بِالْوَلِيِّ: الْمُشَارِكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ.
وَالشَّفِيعُ: الْوَسِيطُ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ. وَالْمُشْرِكُونَ زَعَمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ آلِهَةٌ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ ثُمَّ قَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣].
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ دُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ ضمير لَكُمْ، و (دون) بِمَعْنَى غَيْرُ، ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ وَلِيٍّ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: لَا وَلِيَّ لَكُمْ وَلَا شَفِيعَ لَكُمْ غَيْرُ اللَّهِ فَلَا وِلَايَةَ لِلْأَصْنَامِ وَلَا شَفَاعَةَ لَهَا إِبْطَالًا لِمَا زَعَمُوهُ لِأَصْنَامِهِمْ مِنَ الْوَصْفَيْنِ إِبْطَالًا رَاجِعًا إِلَى إِبْطَالِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ وَلَا شَفِيعَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ نَفْسِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١] وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٥].
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
وَبَيَانُ تَأْوِيلِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ إِنْكَارٌ عَلَى عَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ فِي ذَلِكَ وَإِهْمَالُهُمُ النَّظَرَ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَالتَّذَكُّرُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ الَّذِي هُوَ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَر بِالْعقلِ.
[٥]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٥]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)
جُمْلَةُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [السَّجْدَة: ٤]، أَيْ: خَلَقَ تِلْكَ الْخَلَائِقِ مُدَبِّرًا أَمْرَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا، وَقَوْلُهُ مِنَ السَّماءِ مُتَعَلِّقٌ بِ يُدَبِّرُ أَوْ صِفَةٌ لِلْأَمْرِ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حَرْفَيِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ شُمُولُ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى الْأُمُورَ كُلَّهَا فِي الْعَالَمَيْنَ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ تَدْبِيرًا شَامِلًا لَهَا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَفَادَ حَرْفُ الِانْتِهَاءِ شُمُولَ التَّدْبِيرِ لِأُمُورِ كُلِّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا.
وَالتَّدْبِيرُ: حَقِيقَتُهُ التَّفْكِيرُ فِي إِصْدَارِ فِعْلٍ مُتْقَنٍ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ دُبُرِ الْأَمْرِ، أَيْ: آخِرِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ النَّظَرُ فِي اسْتِقَامَةِ الْفِعْلِ ابْتِدَاءً وَنِهَايَةً. وَهُوَ إِذَا وُصِفَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى كِنَايَةً عَنْ لَازِمِ حَقِيقَتِهِ وَهُوَ تَمَامُ الْإِتْقَانِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ وَأَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ.
والْأَمْرَ: الشَّأْنُ لِلْأَشْيَاءِ وَنِظَامِهَا وَمَا بِهِ تَقَوُّمُهَا. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ مُفِيدٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْأُمُورِ كُلِّهَا لَا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِهِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَجَمِيعُ مَا نُقِلَ عَنْ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْرَ يَرْجِعُ إِلَى بَعْضِ هَذَا الْعُمُومِ.
وَالْعُرُوجُ: الصُّعُودُ. وَضَمِيرُ يَعْرُجُ عَائِدٌ عَلَى الْأَمْرَ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ مُفِيدَةٌ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُدَبَّرَةَ تَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْعُرُوجُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمَصِيرِ إِلَى تَصَرُّفِ الْخَالِقِ دُونَ شَائِبَةِ تَأْثِيرٍ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ فِي الصُّورَةِ كَمَا فِي أَحْوَالٍ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
وَبَيَانُ تَأْوِيلِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ إِنْكَارٌ عَلَى عَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ فِي ذَلِكَ وَإِهْمَالُهُمُ النَّظَرَ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَالتَّذَكُّرُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ الَّذِي هُوَ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَر بِالْعقلِ.
[٥]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٥]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)
جُمْلَةُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [السَّجْدَة: ٤]، أَيْ: خَلَقَ تِلْكَ الْخَلَائِقِ مُدَبِّرًا أَمْرَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا، وَقَوْلُهُ مِنَ السَّماءِ مُتَعَلِّقٌ بِ يُدَبِّرُ أَوْ صِفَةٌ لِلْأَمْرِ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حَرْفَيِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ شُمُولُ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى الْأُمُورَ كُلَّهَا فِي الْعَالَمَيْنَ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ تَدْبِيرًا شَامِلًا لَهَا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَفَادَ حَرْفُ الِانْتِهَاءِ شُمُولَ التَّدْبِيرِ لِأُمُورِ كُلِّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا.
وَالتَّدْبِيرُ: حَقِيقَتُهُ التَّفْكِيرُ فِي إِصْدَارِ فِعْلٍ مُتْقَنٍ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ دُبُرِ الْأَمْرِ، أَيْ: آخِرِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ النَّظَرُ فِي اسْتِقَامَةِ الْفِعْلِ ابْتِدَاءً وَنِهَايَةً. وَهُوَ إِذَا وُصِفَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى كِنَايَةً عَنْ لَازِمِ حَقِيقَتِهِ وَهُوَ تَمَامُ الْإِتْقَانِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ وَأَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ.
والْأَمْرَ: الشَّأْنُ لِلْأَشْيَاءِ وَنِظَامِهَا وَمَا بِهِ تَقَوُّمُهَا. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ مُفِيدٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْأُمُورِ كُلِّهَا لَا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِهِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَجَمِيعُ مَا نُقِلَ عَنْ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْرَ يَرْجِعُ إِلَى بَعْضِ هَذَا الْعُمُومِ.
وَالْعُرُوجُ: الصُّعُودُ. وَضَمِيرُ يَعْرُجُ عَائِدٌ عَلَى الْأَمْرَ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ مُفِيدَةٌ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُدَبَّرَةَ تَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْعُرُوجُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمَصِيرِ إِلَى تَصَرُّفِ الْخَالِقِ دُونَ شَائِبَةِ تَأْثِيرٍ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ فِي الصُّورَةِ كَمَا فِي أَحْوَالٍ
212
الدُّنْيَا مِنْ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ. وَلَمَّا كَانَ الْجَلَالُ يُشَبَّهُ بِالرِّفْعَةِ فِي مُسْتَعْمَلِ الْكَلَامِ شُبِّهَ الْمَصِيرُ إِلَى ذِي الْجَلَالِ بِانْتِقَالِ الذَّوَاتِ إِلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي اللُّغَةِ بِالْعُرُوجِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠]، أَيْ: يَرْفَعُهُ إِلَيْهِ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ مَرْجِعَ الْأَشْيَاءِ إِلَى تَصَرُّفِهِ بَعْدَ صُدُورِهَا مِنْ لَدُنْهُ أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ.
وَقَدْ أَفَادَ التَّرْكِيبُ أَنَّ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ وَقْتِ خَلْقِهِمَا وَخَلْقِ مَا بَيْنَهُمَا يَسْتَقِرُّ عَلَى مَا دُبِّرَ عَلَيْهِ كُلٌّ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ تَدْبِيرِهِ مِنِ اسْتِقْرَارِهِ، وَيَزُولُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، ثُمَّ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَيَصِيرُ إِلَى اللَّهِ مَصِيرًا مُنَاسِبًا لِحَقَائِقِهِ فَالذَّوَاتُ تَصِيرُ مَصِيرَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْرَاضُ وَالْأَعْمَالُ تَصِيرُ مَصِيرَ أَمْثَالِهَا، أَيْ:
يَصِيرُ وَصْفُهَا وَوَصْفُ أَصْحَابِهَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِ الْجَزَاءِ، فَذَلِكَ الْمَصِيرُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعُرُوجِ إِلَى اللَّهِ فَيَكُونُ الْحِسَابُ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ يَوْمَئِذٍ.
وَالْيَوْمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَجِّ [٤٧] بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَمَعْنَى تَقْدِيرِهِ بِأَلْفِ سَنَةٍ: أَنَّهُ تَحْصُلُ فِيهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِي كَائِنَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا لَوْ كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ لَكَانَ حُصُولُ مِثْلِهِ فِي أَلْفِ سَنَةٍ، فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ التَّصَرُّفَاتِ، أَوْ بِقَطْعِ الْمَسَافَاتِ، وَقَدْ فُرِضَتْ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ احْتِمَالَاتٍ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسَعَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ السَّاعَةِ، أَيْ سَاعَةُ اضْمِحْلَالِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَلَيْسَ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْقُرَّاءِ تَعْيِينُ أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ وَلَكِنْ حُصُولُ الْعِبْرَةِ بِأَهْوَالِهِمَا.
وَقَوْلُهُ فِي يَوْمٍ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلَيْ يُدَبِّرُ ويَعْرُجُ أَيْ يَحْصُلُ الْأَمْرَانِ فِي يَوْمٍ.
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠]، أَيْ: يَرْفَعُهُ إِلَيْهِ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ مَرْجِعَ الْأَشْيَاءِ إِلَى تَصَرُّفِهِ بَعْدَ صُدُورِهَا مِنْ لَدُنْهُ أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ.
وَقَدْ أَفَادَ التَّرْكِيبُ أَنَّ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ وَقْتِ خَلْقِهِمَا وَخَلْقِ مَا بَيْنَهُمَا يَسْتَقِرُّ عَلَى مَا دُبِّرَ عَلَيْهِ كُلٌّ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ تَدْبِيرِهِ مِنِ اسْتِقْرَارِهِ، وَيَزُولُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، ثُمَّ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَيَصِيرُ إِلَى اللَّهِ مَصِيرًا مُنَاسِبًا لِحَقَائِقِهِ فَالذَّوَاتُ تَصِيرُ مَصِيرَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْرَاضُ وَالْأَعْمَالُ تَصِيرُ مَصِيرَ أَمْثَالِهَا، أَيْ:
يَصِيرُ وَصْفُهَا وَوَصْفُ أَصْحَابِهَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِ الْجَزَاءِ، فَذَلِكَ الْمَصِيرُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعُرُوجِ إِلَى اللَّهِ فَيَكُونُ الْحِسَابُ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ يَوْمَئِذٍ.
وَالْيَوْمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَجِّ [٤٧] بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَمَعْنَى تَقْدِيرِهِ بِأَلْفِ سَنَةٍ: أَنَّهُ تَحْصُلُ فِيهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِي كَائِنَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا لَوْ كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ لَكَانَ حُصُولُ مِثْلِهِ فِي أَلْفِ سَنَةٍ، فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ التَّصَرُّفَاتِ، أَوْ بِقَطْعِ الْمَسَافَاتِ، وَقَدْ فُرِضَتْ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ احْتِمَالَاتٍ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسَعَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ السَّاعَةِ، أَيْ سَاعَةُ اضْمِحْلَالِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَلَيْسَ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْقُرَّاءِ تَعْيِينُ أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ وَلَكِنْ حُصُولُ الْعِبْرَةِ بِأَهْوَالِهِمَا.
وَقَوْلُهُ فِي يَوْمٍ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلَيْ يُدَبِّرُ ويَعْرُجُ أَيْ يَحْصُلُ الْأَمْرَانِ فِي يَوْمٍ.
213
وَ (أَلْفَ) عِنْدَ الْعَرَبِ مُنْتَهَى أَسْمَاءِ الْعَدَدِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَعْدَادٍ أُخْرَى مَعَ عَدَدِ الْأَلْفِ كَمَا يَقُولُونَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَمِائَةُ أَلْفٍ، وَأَلْفُ أَلْفٍ.
وأَلْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ كِنَايَةً عَنِ الْكَثْرَةِ الشَّدِيدَةِ كَمَا يُقَالُ: زُرْتُكَ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [الْبَقَرَة: ٩٦]، وَهُوَ هُنَا بِتَقْدِيرِ كَافِ التَّشْبِيهِ أَوْ كَلِمَةِ نَحْوَ، أَيْ كَانَ مِقْدَارُهُ كَأَلْفِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَ أَلْفِ سَنَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الْحَج: ٤٧]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلْفَ مُسْتَعْمَلًا فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا تَعُدُّونَ، أَيْ: مِمَّا تَحْسُبُونَ فِي أَعْدَادِكُمْ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولِيَّةٌ وَهُوَ وَصْفٌ لِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ اسْمِ أَلْفَ مُسْتَعْمَلًا
فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيضَاحًا لِلتَّشْبِيهِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذِكْرِ وَجْهِ الشَّبَهِ مَعَ التَّشْبِيهِ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَوْصُوفِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِمَدْلُولِهِ فَكَانَ رَافِعًا لِاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي الْعدَد.
[٦]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٦]
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦)
جِيءَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى اسْم الْجَلالَة بعد مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَوْصَافِ التَّصَرُّفِ بِخَلْقِ الْكَائِنَاتِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ حَقِيقٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥]، لَا جَرَمَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ ومحيط بِجَمِيعِ شؤونها فَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ، أَيْ: مَا غَابَ عَنْ حَوَاسِّ الْخَلْقِ، وَعَالِمُ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ، فَالْمُرَادُ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ: كُلُّ غَائِبٍ وَكُلُّ مَشْهُودٍ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ عِلْمُ الْغَيْبِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي إِحَالَتِهِ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَجْسَامِ تَفَرَّقَتْ وَتَخَلَّلَتِ الْأَرْضَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠]. وَأَمَّا عَطْفُ وَالشَّهادَةِ فَهُوَ تَكْمِيلٌ وَاحْتِرَاسٌ.
وأَلْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ كِنَايَةً عَنِ الْكَثْرَةِ الشَّدِيدَةِ كَمَا يُقَالُ: زُرْتُكَ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [الْبَقَرَة: ٩٦]، وَهُوَ هُنَا بِتَقْدِيرِ كَافِ التَّشْبِيهِ أَوْ كَلِمَةِ نَحْوَ، أَيْ كَانَ مِقْدَارُهُ كَأَلْفِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَ أَلْفِ سَنَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الْحَج: ٤٧]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلْفَ مُسْتَعْمَلًا فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا تَعُدُّونَ، أَيْ: مِمَّا تَحْسُبُونَ فِي أَعْدَادِكُمْ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولِيَّةٌ وَهُوَ وَصْفٌ لِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ اسْمِ أَلْفَ مُسْتَعْمَلًا
فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيضَاحًا لِلتَّشْبِيهِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذِكْرِ وَجْهِ الشَّبَهِ مَعَ التَّشْبِيهِ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَوْصُوفِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِمَدْلُولِهِ فَكَانَ رَافِعًا لِاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي الْعدَد.
[٦]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٦]
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦)
جِيءَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى اسْم الْجَلالَة بعد مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَوْصَافِ التَّصَرُّفِ بِخَلْقِ الْكَائِنَاتِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ حَقِيقٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥]، لَا جَرَمَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ ومحيط بِجَمِيعِ شؤونها فَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ، أَيْ: مَا غَابَ عَنْ حَوَاسِّ الْخَلْقِ، وَعَالِمُ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ، فَالْمُرَادُ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ: كُلُّ غَائِبٍ وَكُلُّ مَشْهُودٍ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ عِلْمُ الْغَيْبِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي إِحَالَتِهِ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَجْسَامِ تَفَرَّقَتْ وَتَخَلَّلَتِ الْأَرْضَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠]. وَأَمَّا عَطْفُ وَالشَّهادَةِ فَهُوَ تَكْمِيلٌ وَاحْتِرَاسٌ.
وَمُنَاسَبَةُ وَصْفِهِ تَعَالَى بِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ بِدُونِ مُعِينٍ، فَالْعِزَّةُ وَهِيَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْغَيْرِ ظَاهِرَةٌ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَلَى أَحْوَالٍ فِيهَا لُطْفٌ بِهِمْ فَهُوَ رَحِيمٌ بِهِمْ فِيمَا خَلَقَهُمْ إِذْ جَعَلَ أُمُورَ حَيَاتِهِمْ مُلَائِمَةً لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ لَهُمْ وَجَنَّبَهُمُ الْآلَامَ فِيهَا. فَهَذَا سَبَبُ الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَتَيِ الْعَزِيزُ والرَّحِيمُ هُنَا عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ مِنْ ذِكْرِ الْحَكِيمِ مَعَ الْعَزِيزِ.
والْعَزِيزُ الرَّحِيمُ يَجُوزُ كَوْنُهُمَا خَبَرَيْنِ آخَرَيْنِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ وَصْفَيْنِ لِ عالِمُ الْغَيْبِ.
[٧- ٩]
[سُورَة السجده (٣٢) : الْآيَات ٧ إِلَى ٩]
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (٩)
خَبَرٌ آخَرُ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ وَصْفٌ آخَرُ لِ عالِمُ الْغَيْبِ [السَّجْدَة: ٦]، وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ مَشُوبٌ بِامْتِنَانٍ عَلَى النَّاسِ أَنْ أَحْسَنَ خَلْقَهُمْ فِي جُمْلَةِ إِحْسَانِ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ
وَبِتَخْصِيصِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَخَاصَّةً الْإِنْسَانَ خَلْقًا بَعْدُ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَأَخْرَجَ أَصْلَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ كَوَّنَ فِيهِ نِظَامَ النَّسْلِ مِنْ مَاءٍ، فَكَيْفَ تُعْجِزُهُ إِعَادَةُ أَجْزَائِهِ.
وَالْإِحْسَانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَسَنًا، أَيْ مَحْمُودًا غَيْرَ مَعِيبٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ وَافِيًا بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ فَإِنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ الْأَشْيَاءَ رَأَيْتَهَا مَصْنُوعَةً عَلَى مَا يَنْبَغِي فَصَلَابَةُ الْأَرْضِ مَثَلًا لِلسَّيْرِ عَلَيْهَا، وَرِقَّةُ الْهَوَاءِ لِيَسْهُلَ انْتِشَاقُهُ لِلتَّنَفُّسِ، وَتَوَجُّهُ لَهِيبِ النَّارِ إِلَى فَوْقُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِثْلَ الْمَاءِ تَلْتَهِبُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَكَثُرَتِ الْحَرَائِقُ فَأَمَّا الْهَوَاءُ فَلَا يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ.
وَقَوْلُهُ خَلَقَهُ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِ شَيْءٍ أَيْ: كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا وَهُمْ يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنْهَا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ هُوَ بَدَلٌ مِنْ كُلَّ شَيْءٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.
والْعَزِيزُ الرَّحِيمُ يَجُوزُ كَوْنُهُمَا خَبَرَيْنِ آخَرَيْنِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ وَصْفَيْنِ لِ عالِمُ الْغَيْبِ.
[٧- ٩]
[سُورَة السجده (٣٢) : الْآيَات ٧ إِلَى ٩]
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (٩)
خَبَرٌ آخَرُ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ وَصْفٌ آخَرُ لِ عالِمُ الْغَيْبِ [السَّجْدَة: ٦]، وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ مَشُوبٌ بِامْتِنَانٍ عَلَى النَّاسِ أَنْ أَحْسَنَ خَلْقَهُمْ فِي جُمْلَةِ إِحْسَانِ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ
وَبِتَخْصِيصِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَخَاصَّةً الْإِنْسَانَ خَلْقًا بَعْدُ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَأَخْرَجَ أَصْلَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ كَوَّنَ فِيهِ نِظَامَ النَّسْلِ مِنْ مَاءٍ، فَكَيْفَ تُعْجِزُهُ إِعَادَةُ أَجْزَائِهِ.
وَالْإِحْسَانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَسَنًا، أَيْ مَحْمُودًا غَيْرَ مَعِيبٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ وَافِيًا بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ فَإِنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ الْأَشْيَاءَ رَأَيْتَهَا مَصْنُوعَةً عَلَى مَا يَنْبَغِي فَصَلَابَةُ الْأَرْضِ مَثَلًا لِلسَّيْرِ عَلَيْهَا، وَرِقَّةُ الْهَوَاءِ لِيَسْهُلَ انْتِشَاقُهُ لِلتَّنَفُّسِ، وَتَوَجُّهُ لَهِيبِ النَّارِ إِلَى فَوْقُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِثْلَ الْمَاءِ تَلْتَهِبُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَكَثُرَتِ الْحَرَائِقُ فَأَمَّا الْهَوَاءُ فَلَا يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ.
وَقَوْلُهُ خَلَقَهُ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِ شَيْءٍ أَيْ: كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا وَهُمْ يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنْهَا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ هُوَ بَدَلٌ مِنْ كُلَّ شَيْءٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.
215
وَتَخَلَّصَ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ الْعَامِّ إِلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ دَقَائِقُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَأَعْظَمُهَا الْعَقْلُ.
والْإِنْسانِ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، وَبَدْءُ خَلْقِهِ هُوَ خَلْقُ أَصْلِهِ آدَمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَاف: ١١]، أَيْ: خَلَقْنَا أَبَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُنَا قَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ فَإِن ذَلِك بدىء مِنْ أَوَّلِ نَسْلٍ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَلْقُ آدَمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ طِينٍ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالنَّسْلُ: الْأَبْنَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ. سُمِّيَ نَسْلًا لِأَنَّهُ يَنْسَلُّ، أَيْ: يَنْفَصِلُ مِنْ أَصْلِهِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَسَلَ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ إِذَا سَقَطَ عَنْ جِلْدِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ مِنْ بَابَيْ كَتَبَ وَضَرَبَ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُلالَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَسُمِّيَتِ النُّطْفَةُ الَّتِي يَتَقَوَّمُ مِنْهَا تَكْوِينُ الْجَنِينِ سُلَالَةً كَمَا فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَنْفَصِلُ عَنِ الرَّجُلِ، فَقَوْلُهُ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ بَيَانٌ لِ سُلالَةٍ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ فَالسُّلَالَةُ هِيَ الْمَاءُ الْمَهِينُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِمُتَعَارَفِ النَّاسِ وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ عِلْمِيٌّ لَمْ يُدْرِكْهُ النَّاسُ إِلَّا فِي هَذَا الْعَصْرِ وَهُوَ أَنَّ النُّطْفَةَ يَتَوَقَّفُ تَكَوُّنُ الْجَنِينِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يَتَكَوَّنُ مِنْ ذَرَّاتٍ فِيهَا تَخْتَلِطُ مَعَ سُلَالَةٍ مِنَ الْمَرْأَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَذْهَبُ فَضْلُهُ، فَالسُّلَالَةُ الَّتِي تَنْفَرِزُ مِنَ الْمَاءِ الْمَهِينِ هِيَ النَّسْلُ لَا جَمِيعُ الْمَاءِ الْمَهِينِ، فَتَكُونُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ.
وَالْمَهِينُ: الشَّيْءُ الْمُمْتَهَنُ الَّذِي لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَالْغَرَضُ مِنْ إِجْرَاءِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِنِظَامِ التَّكْوِينِ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ تَكْوِينَ هَذَا الْجِنْسِ الْمُكْتَمِلِ التَّرْكِيبِ الْعَجِيبِ الْآثَارِ مِنْ نَوْعِ مَاءٍ مِهْرَاقٍ لَا يُعْبَأُ بِهِ وَلَا يُصَانُ.
وَالتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: ٤].
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي سَوَّاهُ عَائِدٌ إِلَى نَسْلَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَلِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْعَطْفِ بِ ثُمَّ وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ سُوِّيَ وَنُفِخَ فِيهِ مِنَ الرُّوحِ، قَالَ تَعَالَى:
والْإِنْسانِ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، وَبَدْءُ خَلْقِهِ هُوَ خَلْقُ أَصْلِهِ آدَمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَاف: ١١]، أَيْ: خَلَقْنَا أَبَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُنَا قَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ فَإِن ذَلِك بدىء مِنْ أَوَّلِ نَسْلٍ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَلْقُ آدَمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ طِينٍ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالنَّسْلُ: الْأَبْنَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ. سُمِّيَ نَسْلًا لِأَنَّهُ يَنْسَلُّ، أَيْ: يَنْفَصِلُ مِنْ أَصْلِهِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَسَلَ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ إِذَا سَقَطَ عَنْ جِلْدِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ مِنْ بَابَيْ كَتَبَ وَضَرَبَ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُلالَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَسُمِّيَتِ النُّطْفَةُ الَّتِي يَتَقَوَّمُ مِنْهَا تَكْوِينُ الْجَنِينِ سُلَالَةً كَمَا فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَنْفَصِلُ عَنِ الرَّجُلِ، فَقَوْلُهُ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ بَيَانٌ لِ سُلالَةٍ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ فَالسُّلَالَةُ هِيَ الْمَاءُ الْمَهِينُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِمُتَعَارَفِ النَّاسِ وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ عِلْمِيٌّ لَمْ يُدْرِكْهُ النَّاسُ إِلَّا فِي هَذَا الْعَصْرِ وَهُوَ أَنَّ النُّطْفَةَ يَتَوَقَّفُ تَكَوُّنُ الْجَنِينِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يَتَكَوَّنُ مِنْ ذَرَّاتٍ فِيهَا تَخْتَلِطُ مَعَ سُلَالَةٍ مِنَ الْمَرْأَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَذْهَبُ فَضْلُهُ، فَالسُّلَالَةُ الَّتِي تَنْفَرِزُ مِنَ الْمَاءِ الْمَهِينِ هِيَ النَّسْلُ لَا جَمِيعُ الْمَاءِ الْمَهِينِ، فَتَكُونُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ.
وَالْمَهِينُ: الشَّيْءُ الْمُمْتَهَنُ الَّذِي لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَالْغَرَضُ مِنْ إِجْرَاءِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِنِظَامِ التَّكْوِينِ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ تَكْوِينَ هَذَا الْجِنْسِ الْمُكْتَمِلِ التَّرْكِيبِ الْعَجِيبِ الْآثَارِ مِنْ نَوْعِ مَاءٍ مِهْرَاقٍ لَا يُعْبَأُ بِهِ وَلَا يُصَانُ.
وَالتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: ٤].
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي سَوَّاهُ عَائِدٌ إِلَى نَسْلَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَلِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْعَطْفِ بِ ثُمَّ وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ سُوِّيَ وَنُفِخَ فِيهِ مِنَ الرُّوحِ، قَالَ تَعَالَى:
216
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [ص: ٧٢]. وَذِكْرُ التَّسْوِيَةِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِي جَانِبِ النَّسْلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ أَصْلَهُ كَذَلِكَ، فَالْكَلَامُ إِيجَازٌ.
وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ السِّرِّ الْعَجِيبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَكْوِينَهُ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَالْإِضَافَةُ تُفِيدُ أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الْمَخْلُوقَاتِ اخْتِصَاصًا بِاللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا لِلَّهِ.
وَالنَّفْخُ: تَمْثِيلٌ لِسَرَيَانِ اللَّطِيفَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي الْكَثِيفَةِ الْجَسَدِيَّةِ مَعَ سُرْعَةِ الْإِيدَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٢٩].
وَالِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمُ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَجَعْلَ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْمُخَاطَبِينَ فَلَمَّا انْتَهَضَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ المتحدث عَنْهُم بطرِيق الْغَيْبَةِ الشَّامِلِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ نَاسَبَ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى الْحَاضِرِينَ بِنَقْلِ الْكَلَامِ إِلَى الْخِطَابِ لِأَنَّهُ آثَرُ بِالِامْتِنَانِ وَأَسْعَدُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.
وَالِامْتِنَانُ بِقُوَى الْحَوَاسِّ وَقُوَى الْعَقْلِ أَقْوَى مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْخَلْقِ وَتَسْوِيَتِهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْحَوَاسِّ وَالْإِدْرَاكِ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ فَهُوَ مَحْسُوسٌ بِخِلَافِ التَّكْوِينِ وَالتَّقْوِيمِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ فِي آثَارِهِ.
وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَجَعَلَكُمْ سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ عَالِمِينَ إِلَى جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْرَقُ فِي الْفَصَاحَةِ، وَلِمَا تُؤْذِنُ بِهِ اللَّامُ مِنْ زِيَادَةِ الْمِنَّةِ فِي هَذَا الْجَعْلِ إِذْ كَانَ جَعْلًا لِفَائِدَتِهِمْ وَلِأَجْلِهِمْ، وَلِمَا فِي تَعْلِيقِ الْأَجْنَاسِ مِنَ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ بِفِعْلِ الْجَعْلِ مِنَ الرَّوْعَةِ وَالْجَلَالِ فِي تَمَكُّنِ التَّصَرُّفِ، وَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْأَفْئِدَةَ أَجْمَعُ مِنْ كَلِمَةِ عَاقِلِينَ لِأَنَّ الْفُؤَادَ يَشْمَلُ الْحَوَاسَّ الْبَاطِنَةَ كُلَّهَا وَالْعَقْلُ بَعْضٌ مِنْهَا.
وَأَفْرَدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ، وَجَمَعَ الْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ النَّاسِ. وَتَقْدِيمُ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ تَقَدَّمَ وَجْهُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ السِّرِّ الْعَجِيبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَكْوِينَهُ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَالْإِضَافَةُ تُفِيدُ أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الْمَخْلُوقَاتِ اخْتِصَاصًا بِاللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا لِلَّهِ.
وَالنَّفْخُ: تَمْثِيلٌ لِسَرَيَانِ اللَّطِيفَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي الْكَثِيفَةِ الْجَسَدِيَّةِ مَعَ سُرْعَةِ الْإِيدَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٢٩].
وَالِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمُ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَجَعْلَ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْمُخَاطَبِينَ فَلَمَّا انْتَهَضَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ المتحدث عَنْهُم بطرِيق الْغَيْبَةِ الشَّامِلِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ نَاسَبَ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى الْحَاضِرِينَ بِنَقْلِ الْكَلَامِ إِلَى الْخِطَابِ لِأَنَّهُ آثَرُ بِالِامْتِنَانِ وَأَسْعَدُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.
وَالِامْتِنَانُ بِقُوَى الْحَوَاسِّ وَقُوَى الْعَقْلِ أَقْوَى مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْخَلْقِ وَتَسْوِيَتِهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْحَوَاسِّ وَالْإِدْرَاكِ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ فَهُوَ مَحْسُوسٌ بِخِلَافِ التَّكْوِينِ وَالتَّقْوِيمِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ فِي آثَارِهِ.
وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَجَعَلَكُمْ سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ عَالِمِينَ إِلَى جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْرَقُ فِي الْفَصَاحَةِ، وَلِمَا تُؤْذِنُ بِهِ اللَّامُ مِنْ زِيَادَةِ الْمِنَّةِ فِي هَذَا الْجَعْلِ إِذْ كَانَ جَعْلًا لِفَائِدَتِهِمْ وَلِأَجْلِهِمْ، وَلِمَا فِي تَعْلِيقِ الْأَجْنَاسِ مِنَ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ بِفِعْلِ الْجَعْلِ مِنَ الرَّوْعَةِ وَالْجَلَالِ فِي تَمَكُّنِ التَّصَرُّفِ، وَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْأَفْئِدَةَ أَجْمَعُ مِنْ كَلِمَةِ عَاقِلِينَ لِأَنَّ الْفُؤَادَ يَشْمَلُ الْحَوَاسَّ الْبَاطِنَةَ كُلَّهَا وَالْعَقْلُ بَعْضٌ مِنْهَا.
وَأَفْرَدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ، وَجَمَعَ الْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ النَّاسِ. وَتَقْدِيمُ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ تَقَدَّمَ وَجْهُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
217
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧]. وَتَقْدِيمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ على الْأَفْئِدَةَ هُنَا عَكْسَ آيَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهُ رُوعِيَ هُنَا تَرْتِيبُ حُصُولِهَا فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ قَبْلَ اكْتِسَابِ التَّعَقُّلِ.
وقَلِيلًا اسْمُ فَاعِلٍ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمُ، وَمَا تَشْكُرُونَ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَهُوَ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِ قَلِيلًا، أَيْ: أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ وَحَالُكُمْ قِلَّةُ الشُّكْرِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَهِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ حَاصِلًا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كَثِيرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْعَدَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاء: ٤٦]. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَحْصُلُ التَّوْبِيخُ لِأَنَّ النِّعَمَ الْمُسْتَحِقَّةَ لِلشُّكْرِ وَافِرَةٌ دَائِمَةٌ فَالتَّقْصِيرُ فِي شُكْرِهَا وَعَدَمُ الشُّكْر سَوَاء.
[١٠]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١٠]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠)
الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالْحَالُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ كَيْفَ أَحَالُوا إِعَادَةَ الْخَلْقِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ النَّشْأَةَ الْأُولَى، وَلَيْسَتِ الْإِعَادَةُ بِأَعْجَبَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَخَاصَّةً بَدْءَ خَلْقِ آدَمَ عَنْ عَدَمٍ، وَخُلُوُّ الْجُمْلَةِ الْمَاضَوِيَّةِ عَنْ حَرْفِ (قَدْ) لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا حَالًا عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَإِذا ضَلَلْنا لِلتَّعَجُّبِ وَالْإِحَالَةِ، أَيْ أَظْهَرُوا فِي كَلَامِهِمُ اسْتِبْعَادَ الْبَعْثِ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَادِ وَاخْتِلَاطِهَا بِالتُّرَابِ، مُغَالَطَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَرْوِيجًا لِكُفْرِهِمْ.
وَالضَّلَالُ: الْغِيَابُ، وَمِنْهُ: ضَلَالُ الطَّرِيقِ، وَالضَّالَّةُ: الدَّابَّةُ الَّتِي ابْتَعَدَتْ عَنْ أَهْلِهَا فَلَمْ يُعْرَفْ مَكَانُهَا. وَأَرَادُوا بِذَلِكَ إِذَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ أَجْسَادِنَا فِي خِلَالِ الْأَرْضِ وَاخْتَلَطَتْ بِتُرَابِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: الضَّلَالُ فِي الْأَرْضِ: الدُّخُولُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ: أَضَلَّ النَّاسُ الْمَيِّتَ، أَيْ: دَفَنُوهُ. وَأَنْشَدُوا قَوْلَ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ:
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكسَائِيّ وَيَعْقُوب: إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى
وقَلِيلًا اسْمُ فَاعِلٍ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمُ، وَمَا تَشْكُرُونَ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَهُوَ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِ قَلِيلًا، أَيْ: أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ وَحَالُكُمْ قِلَّةُ الشُّكْرِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَهِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ حَاصِلًا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كَثِيرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْعَدَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاء: ٤٦]. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَحْصُلُ التَّوْبِيخُ لِأَنَّ النِّعَمَ الْمُسْتَحِقَّةَ لِلشُّكْرِ وَافِرَةٌ دَائِمَةٌ فَالتَّقْصِيرُ فِي شُكْرِهَا وَعَدَمُ الشُّكْر سَوَاء.
[١٠]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١٠]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠)
الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالْحَالُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ كَيْفَ أَحَالُوا إِعَادَةَ الْخَلْقِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ النَّشْأَةَ الْأُولَى، وَلَيْسَتِ الْإِعَادَةُ بِأَعْجَبَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَخَاصَّةً بَدْءَ خَلْقِ آدَمَ عَنْ عَدَمٍ، وَخُلُوُّ الْجُمْلَةِ الْمَاضَوِيَّةِ عَنْ حَرْفِ (قَدْ) لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا حَالًا عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَإِذا ضَلَلْنا لِلتَّعَجُّبِ وَالْإِحَالَةِ، أَيْ أَظْهَرُوا فِي كَلَامِهِمُ اسْتِبْعَادَ الْبَعْثِ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَادِ وَاخْتِلَاطِهَا بِالتُّرَابِ، مُغَالَطَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَرْوِيجًا لِكُفْرِهِمْ.
وَالضَّلَالُ: الْغِيَابُ، وَمِنْهُ: ضَلَالُ الطَّرِيقِ، وَالضَّالَّةُ: الدَّابَّةُ الَّتِي ابْتَعَدَتْ عَنْ أَهْلِهَا فَلَمْ يُعْرَفْ مَكَانُهَا. وَأَرَادُوا بِذَلِكَ إِذَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ أَجْسَادِنَا فِي خِلَالِ الْأَرْضِ وَاخْتَلَطَتْ بِتُرَابِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: الضَّلَالُ فِي الْأَرْضِ: الدُّخُولُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ: أَضَلَّ النَّاسُ الْمَيِّتَ، أَيْ: دَفَنُوهُ. وَأَنْشَدُوا قَوْلَ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ:
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ | وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ |
218
الْإِخْبَارِ اكْتِفَاءً بِدُخُولِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى أَوَّلِ الْجُمْلَةِ وَمُتَعَلِّقِهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا للاستفهام وَالثَّانيَِة تَأْكِيد لِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى أَإِذا ضَلَلْنا فِي
الْأَرْضِ
. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِتَرْكِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ.
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِحَرْفِ إِنَّ لِأَنَّهُمْ حَكَوُا الْقَوْلَ الَّذِي تَعَجَّبُوا مِنْهُ وَهُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَأْكِيدِ تَجْدِيدِ الْخَلْقِ فَحَكَوْهُ بِالْمَعْنَى كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: ٧]، أَيْ: يُحَقِّقُ لَكُمْ ذَلِكَ.
وإِذا ظَرْفٌ وَهُوَ مَعْمُولٌ لِمَا فِي جُمْلَةِ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ مِنْ مَعْنَى الْكَوْنِ.
وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ. وَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَمَعْنَاهَا الْمُصَاحَبَةُ.
وَالْجَدِيدُ: الْمُحْدَثُ، أَيْ غَيْرِ خَلْقِنَا الَّذِي كُنَّا فِيهِ.
وبَلْ مِنْ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ إِضْرَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ، أَيْ لَيْسَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ لِلِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِحَالَةِ لِأَنَّ دَلَائِلَ إِمْكَانِهِ وَاضِحَةٌ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ وَلَكِنَّ الْبَاعِثَ عَلَى إِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ هُوَ كُفْرُهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ، أَيْ كُفْرُهُمُ الَّذِي تَلَقَّوْهُ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَالْمَعْنَى: بَلْ هُمْ قَدْ أَيْقَنُوا بِانْتِفَاءِ الْبَعْثِ فَهُمْ مُتَعَنِّتُونَ فِي الْكُفْرِ مُصِرُّونَ عَلَيْهِ لَا تَنْفَعُهُمُ الْآيَاتُ وَالْأَدِلَّةُ. فَالْكُفْرُ الْمُثْبَتُ هُنَا كُفْرٌ خَاصٌّ وَهُوَ غَيْرُ الْكُفْرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ لَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِبْعَادِ تَشْكِيكًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَرْوِيجًا لِكُفْرِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى كافِرُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ والثبات عَلَيْهِ.
الْأَرْضِ
. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِتَرْكِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ.
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِحَرْفِ إِنَّ لِأَنَّهُمْ حَكَوُا الْقَوْلَ الَّذِي تَعَجَّبُوا مِنْهُ وَهُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَأْكِيدِ تَجْدِيدِ الْخَلْقِ فَحَكَوْهُ بِالْمَعْنَى كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: ٧]، أَيْ: يُحَقِّقُ لَكُمْ ذَلِكَ.
وإِذا ظَرْفٌ وَهُوَ مَعْمُولٌ لِمَا فِي جُمْلَةِ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ مِنْ مَعْنَى الْكَوْنِ.
وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ. وَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَمَعْنَاهَا الْمُصَاحَبَةُ.
وَالْجَدِيدُ: الْمُحْدَثُ، أَيْ غَيْرِ خَلْقِنَا الَّذِي كُنَّا فِيهِ.
وبَلْ مِنْ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ إِضْرَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ، أَيْ لَيْسَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ لِلِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِحَالَةِ لِأَنَّ دَلَائِلَ إِمْكَانِهِ وَاضِحَةٌ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ وَلَكِنَّ الْبَاعِثَ عَلَى إِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ هُوَ كُفْرُهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ، أَيْ كُفْرُهُمُ الَّذِي تَلَقَّوْهُ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَالْمَعْنَى: بَلْ هُمْ قَدْ أَيْقَنُوا بِانْتِفَاءِ الْبَعْثِ فَهُمْ مُتَعَنِّتُونَ فِي الْكُفْرِ مُصِرُّونَ عَلَيْهِ لَا تَنْفَعُهُمُ الْآيَاتُ وَالْأَدِلَّةُ. فَالْكُفْرُ الْمُثْبَتُ هُنَا كُفْرٌ خَاصٌّ وَهُوَ غَيْرُ الْكُفْرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ لَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِبْعَادِ تَشْكِيكًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَرْوِيجًا لِكُفْرِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى كافِرُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ والثبات عَلَيْهِ.
219
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١١]
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)اسْتِئْنَافُّ ابْتِدَائِيٌّ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ لِأَنَّ جُمْلَةَ قُلْ فِي مَعْنَى جَوَابٍ لِقَوْلِهِمْ أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠] أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُعِيدَ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ إِذْ هُوَ مَنَاطُ إِنْكَارِهِمْ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ يَتَوَفَّاهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ فَذَكَرَهُ لِتَذْكِيرِهِمْ بِالْمَوْتِ وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ أَلْهَتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عَنِ النَّظَرِ فِي إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ فَذُكِّرُوا بِهِ ثُمَّ أُدْمِجَ فِيهِ ذِكْرُ مَلَكِ الْمَوْتِ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ مِنَ الْمَوْتِ وَالتَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ فَإِنَّهُ مُوَكَّلٌ بِكُلِّ مَيِّتٍ بِمَا يُنَاسِبُ مُعَامَلَتَهُ عِنْدَ
قَبْضِ رُوحِهِ. وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِجَهْلِهِمْ بِأَنَّ الْمَوْتَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ كَمَا خَلَقَهُمْ يُمِيتُهُمْ وَكَمَا يُمِيتُهُمْ يُحْيِيهِمْ، وَأَنَّ الْإِمَاتَةَ وَالْإِحْيَاءَ بِإِذْنِهِ وَتَسْخِيرِ مَلَائِكَتِهِ فِي الْحَالَيْنِ. وَذَلِكَ إبِْطَال لقَولهم مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا [الجاثية: ٢٤] فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ قَبْضَةِ تَصَرُّفِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَا فِي حَالِ الْمَمَاتِ. وَإِذَا كَانَ مَوْتُهُمْ بِفِعْلِ مَلَكِ الْمَوْتِ الْمُوَكَّلِ مِنَ اللَّهِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ مَرْدُودَةٌ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ مَتَى شَاءَ اللَّهُ.
وَالتَّوَفِّي: الْإِمَاتَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٠]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ فِي سُورَة الْأَنْفَالِ [٥٠].
وَمَلَكُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدًا كَمَا هُنَا وَوَرَدَ مَجْمُوعًا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٥٠]، وَقَوْلِهِ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦١]، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مَلَائِكَةً كَثِيرِينَ لَقَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَجَعَلَ مُبَلِّغَ أَمْرِ اللَّهِ بِذَلِكَ عِزْرَائِيلَ فَإِسْنَادُ التَّوَفِّي إِلَيْهِ كَإِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: ٤٢]، وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ أَعْوَانًا لَهُ وَأُولَئِكَ يُسَلِّمُونَ الْأَرْوَاحَ إِلَى عِزْرَائِيلَ فَهُوَ يَقْبِضُهَا وَيُودِعُهَا فِي مَقَارِّهَا الَّتِي أَعَدَّهَا
اللَّهُ لَهَا، وَلَمْ يَرِدِ اسْمُ عِزْرَائِيلَ فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ فَتَكُونُ كَقَوْلِهِ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَام: ٦١].
[١٢]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١٢]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢)
أَرْدَفَ ذِكْرَ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِتَصْوِيرِ حَالِ الْمُنْكِرِينَ أَثَرَ الْبَعْثِ وَذَلِكَ عِنْدَ حَشْرِهِمْ إِلَى الْحِسَابِ، وَجِيءَ فِي تَصْوِيرِ حَالِهِمْ بِطَرِيقَةِ حَذْفِ جَوَابِ لَوْ حَذْفًا يُرَادِفُهُ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْ تَصْوِيرِ فَظَاعَةِ حَالِهِمْ وَهَوْلِ مَوْقِفِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ، وَبِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِإِفَادَةِ تَنَاهِي حَالِهِمْ فِي الظُّهُورِ حَتَّى لَا يَخْتَصَّ بِهِ مُخَاطَبٌ.
وَالْمَعْنَى: لَوْ تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا.
والْمُجْرِمُونَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة:
١٠]، فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ مُجْرِمُونَ، أَيْ آتُونَ بِجُرْمٍ وَهُوَ جُرْمُ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْطِيلِ الدَّلِيلِ.
وَالنَّاكِسُ: الَّذِي يَجْعَلُ أَعْلَى شَيْءٍ إِلَى أَسْفَلَ، يُقَالُ: نَكَّسَ رَأْسَهُ، إِذَا طَأْطَأَهُ لِأَنَّهُ كَمَنْ جَعَلَ أَعْلَى الشَّيْءِ إِلَى أَسْفَل. ونكس الرؤوس عَلَامَةُ الذُّلِّ وَالنَّدَامَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُلَاقُونَ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالْإِهَانَةِ.
وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ السُّلْطَةِ، أَيْ وَهُمْ فِي حُكْمِ رَبِّهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ مَحِيدًا عَنْهُ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالْكَوْنِ فِي مَكَانٍ مُخْتَصٍّ بِرَبِّهِمْ فِي أَنَّهُمْ لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَي ناكسو رؤوسهم يَقُولُونَ أَوْ قَائِلِينَ: أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا، وَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ نَدَامَةً وَإِقْرَارًا بِأَنَّ مَا تَوَعَّدَهُمُ الْقُرْآنُ بِهِ حَقٌّ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ أَبْصَرْنا وَمَفْعُولِ سَمِعْنا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ أَبْصَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُبْصَرَةِ مَا يُصَدِّقُ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ- فَقَدْ رَأَوُا الْبَعْثَ مِنَ الْقُبُورِ وَرَأَوْا مَا يُعَامَلُ بِهِ الْمُكَذِّبُونَ-، وَسَمِعْنَا مِنْ أَقْوَالِ الْمَلَائِكَةِ مَا فِيهِ تَصْدِيقُ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدَنَا
[١٢]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١٢]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢)
أَرْدَفَ ذِكْرَ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِتَصْوِيرِ حَالِ الْمُنْكِرِينَ أَثَرَ الْبَعْثِ وَذَلِكَ عِنْدَ حَشْرِهِمْ إِلَى الْحِسَابِ، وَجِيءَ فِي تَصْوِيرِ حَالِهِمْ بِطَرِيقَةِ حَذْفِ جَوَابِ لَوْ حَذْفًا يُرَادِفُهُ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْ تَصْوِيرِ فَظَاعَةِ حَالِهِمْ وَهَوْلِ مَوْقِفِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ، وَبِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِإِفَادَةِ تَنَاهِي حَالِهِمْ فِي الظُّهُورِ حَتَّى لَا يَخْتَصَّ بِهِ مُخَاطَبٌ.
وَالْمَعْنَى: لَوْ تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا.
والْمُجْرِمُونَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة:
١٠]، فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ مُجْرِمُونَ، أَيْ آتُونَ بِجُرْمٍ وَهُوَ جُرْمُ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْطِيلِ الدَّلِيلِ.
وَالنَّاكِسُ: الَّذِي يَجْعَلُ أَعْلَى شَيْءٍ إِلَى أَسْفَلَ، يُقَالُ: نَكَّسَ رَأْسَهُ، إِذَا طَأْطَأَهُ لِأَنَّهُ كَمَنْ جَعَلَ أَعْلَى الشَّيْءِ إِلَى أَسْفَل. ونكس الرؤوس عَلَامَةُ الذُّلِّ وَالنَّدَامَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُلَاقُونَ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالْإِهَانَةِ.
وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ السُّلْطَةِ، أَيْ وَهُمْ فِي حُكْمِ رَبِّهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ مَحِيدًا عَنْهُ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالْكَوْنِ فِي مَكَانٍ مُخْتَصٍّ بِرَبِّهِمْ فِي أَنَّهُمْ لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَي ناكسو رؤوسهم يَقُولُونَ أَوْ قَائِلِينَ: أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا، وَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ نَدَامَةً وَإِقْرَارًا بِأَنَّ مَا تَوَعَّدَهُمُ الْقُرْآنُ بِهِ حَقٌّ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ أَبْصَرْنا وَمَفْعُولِ سَمِعْنا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ أَبْصَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُبْصَرَةِ مَا يُصَدِّقُ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ- فَقَدْ رَأَوُا الْبَعْثَ مِنَ الْقُبُورِ وَرَأَوْا مَا يُعَامَلُ بِهِ الْمُكَذِّبُونَ-، وَسَمِعْنَا مِنْ أَقْوَالِ الْمَلَائِكَةِ مَا فِيهِ تَصْدِيقُ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدَنَا
بِهِ، أَيْ: فَعَلِمْنَا أَنَّ مَا دَعَانَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي بِهِ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ فَارْجِعْنَا إِلَى الدُّنْيَا نَعْمَلْ صَالِحًا كَمَا قَالُوا فِي مَوْطِنٍ آخَرَ رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إِبْرَاهِيم: ٤٤].
وَقَوْلُهُ إِنَّا مُوقِنُونَ تَعْلِيلٌ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِأَنَّهُمْ صَارُوا مُوقِنِينَ بِحَقِيَّةِ مَا يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَكَانَتْ إِنَّ مُغَنِيَةً غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ مَا يَمْنَعُنَا مِنْ تَحْقِيقِ مَا وُعِدْنَا بِهِ شَكٌ وَلَا تَكْذِيبٌ، إِنَّا أَيْقَنَّا الْآنَ أَنَّ مَا دُعِينَا إِلَيْهِ حَقٌّ. فَاسْمُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ مُوقِنُونَ وَاقِعٌ زَمَانَ الْحَالِ كَمَا هُوَ أَصله.
[١٣]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١٣]
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ قَبْلَ قَوْلِهِ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السَّجْدَة: ١٢] وَبَيْنَ الْجَوَابِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ [السَّجْدَة: ١٤] فَالْوَاوُ الَّتِي فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ وَاوِ الْحَالِ.
وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الْوَاقِعِ شَرْطًا اسْتِغْنَاءً عَنِ الْمَفْعُولِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا لَجَبَلْنَا كُلَّ نَفْسٍ عَلَى الِانْسِيَاقِ إِلَى الْهُدَى بِدُونِ اخْتِيَارٍ كَمَا جُبِلَتِ الْعَجْمَاوَاتُ عَلَى مَا أُلْهِمَتْ إِلَيْهِ مِنْ نِظَامِ حَيَاةِ
أَنْوَاعِهَا فَلَكَانَتِ النُّفُوسُ غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى النَّظَرِ فِي الْهُدَى وَضِدِّهِ، وَلَا إِلَى دَعْوَةٍ مِنَ اللَّهِ إِلَى طَرِيقِ الْهُدَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكِلَ إِلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ تَعْمِيرَ هَذَا الْعَالَمِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ عُنْوَانًا لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنْ يُفَضِّلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ الْعَامِرَةِ لِهَذَا الْعَالَمِ اقْتَضَى لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ أَنْ يَخْلُقَ فِي الْإِنْسَانِ عَقْلًا يُدْرِكُ بِهِ النَّفْعَ وَالضُّرَّ، وَالْكَمَالَ وَالنَّقْصَ، وَالصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ، وَالتَّعْمِيرَ وَالتَّخْرِيبَ، وَتَنْكَشِفُ لَهُ بِالتَّدَبُّرِ عَوَاقِبُ الْأَعْمَالِ الْمُشْتَبِهَةِ وَالْمُمَوَّهَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ اخْتِيَارُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَجْنَاسِ وَأَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ فِي مُكْنَتِهِ بِإِرَادَةٍ تَتَوَجَّهُ إِلَى الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، وَخَلَقَ فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ
وَقَوْلُهُ إِنَّا مُوقِنُونَ تَعْلِيلٌ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِأَنَّهُمْ صَارُوا مُوقِنِينَ بِحَقِيَّةِ مَا يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَكَانَتْ إِنَّ مُغَنِيَةً غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ مَا يَمْنَعُنَا مِنْ تَحْقِيقِ مَا وُعِدْنَا بِهِ شَكٌ وَلَا تَكْذِيبٌ، إِنَّا أَيْقَنَّا الْآنَ أَنَّ مَا دُعِينَا إِلَيْهِ حَقٌّ. فَاسْمُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ مُوقِنُونَ وَاقِعٌ زَمَانَ الْحَالِ كَمَا هُوَ أَصله.
[١٣]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١٣]
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ قَبْلَ قَوْلِهِ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السَّجْدَة: ١٢] وَبَيْنَ الْجَوَابِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ [السَّجْدَة: ١٤] فَالْوَاوُ الَّتِي فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ وَاوِ الْحَالِ.
وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الْوَاقِعِ شَرْطًا اسْتِغْنَاءً عَنِ الْمَفْعُولِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا لَجَبَلْنَا كُلَّ نَفْسٍ عَلَى الِانْسِيَاقِ إِلَى الْهُدَى بِدُونِ اخْتِيَارٍ كَمَا جُبِلَتِ الْعَجْمَاوَاتُ عَلَى مَا أُلْهِمَتْ إِلَيْهِ مِنْ نِظَامِ حَيَاةِ
أَنْوَاعِهَا فَلَكَانَتِ النُّفُوسُ غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى النَّظَرِ فِي الْهُدَى وَضِدِّهِ، وَلَا إِلَى دَعْوَةٍ مِنَ اللَّهِ إِلَى طَرِيقِ الْهُدَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكِلَ إِلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ تَعْمِيرَ هَذَا الْعَالَمِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ عُنْوَانًا لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنْ يُفَضِّلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ الْعَامِرَةِ لِهَذَا الْعَالَمِ اقْتَضَى لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ أَنْ يَخْلُقَ فِي الْإِنْسَانِ عَقْلًا يُدْرِكُ بِهِ النَّفْعَ وَالضُّرَّ، وَالْكَمَالَ وَالنَّقْصَ، وَالصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ، وَالتَّعْمِيرَ وَالتَّخْرِيبَ، وَتَنْكَشِفُ لَهُ بِالتَّدَبُّرِ عَوَاقِبُ الْأَعْمَالِ الْمُشْتَبِهَةِ وَالْمُمَوَّهَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ اخْتِيَارُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَجْنَاسِ وَأَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ فِي مُكْنَتِهِ بِإِرَادَةٍ تَتَوَجَّهُ إِلَى الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، وَخَلَقَ فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ
222
الْعَمَلِ وَآلَاتِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً فَكَانَ بِذَلِكَ مُسْتَطِيعًا لِأَنْ يَعْمَلَ وَأَنْ لَا يَعْمَلَ عَلَى وِفَاقِ مَيْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَكَسْبِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الْأَشْعَرِيُّ بِالْكَسْبِ وَبِالِاسْتِطَاعَةِ وَتَكَفَّلَ لَهُ بِإِعَانَتِهِ عَلَى مَا خَلَقَ لَهُ مِنَ الْإِدْرَاكِ يَدْعُوهُ إِلَى مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْهُ مِنَ الْهُدَى وَالصَّلَاحِ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِوَاسِطَةِ رُسُلٍ مِنْ نَوْعِهِ يُبَلِّغُونَ إِلَيْهِ مُرَادَ رَبِّهِمْ فَطَرَهُمْ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَلَكِيَّةِ وَجَعَلَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فِي إِبْلَاغِ مُرَادِ رَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ. وَوَعْدُهُ النَّاسَ بِالْجَزَاءِ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَفِعْلِ الشَّرِّ بِمَا فِيهِ بَاعِثٌ عَلَى الْخَيْرِ وَرَادِعٌ عَنِ الشَّرِّ.
وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُفَضِّلَ هَذَا النَّوْعَ بِأَنْ يَجْعَلَ مِنْهُ عُمَّارًا لِعَالَمِ الْكَمَالِ الْخَالِدِ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ فَجَعَلَ لِأَهْلِ الْكَمَالِ الدِّينِيِّ مَرَاتِبَ سَامِيَةً مُتَفَاوِتَةً فِي عَالَمِ الْخُلْدِ عَلَى تَفَاوُتِ نُفُوسِهِمْ فِي مَيْدَانِ السَّبْقِ إِلَى الْكَمَالَاتِ، وَجَعَلَ أَضْدَادَ هَؤُلَاءِ عُمَّارًا لِهُوَّةِ النَّقَائِصِ فَمَلَأَ مِنْهُمْ تِلْكَ الْهُوَّةَ الْمُسَمَّاةَ جَهَنَّمَ.
فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ الْبَالِغِ مِنَ الْإِيجَازِ مَبْلَغَ الْإِعْجَازِ، إِذْ حَذَفَ مُعْظَمَ مَا أُرِيدَ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ الْوَارِدِ عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها فَإِنَّ مُقْتَضَى الِاسْتِدْرَاكِ أَنْ يُقَّدَّرَ: وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ ذَلِكَ بَلْ شِئْنَا أَنْ نَخْلُقَ النَّاسَ مُخْتَارِينَ بَيْنَ طَرِيقَيِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَوَضَعْنَا لَهُمْ دَوَاعِيَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَأَرَيْنَاهُمْ وَسَائِلَ النَّجَاةِ وَالِارْتِبَاكِ بِالشَّرَائِعِ قَالَ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: ١٠] أَيِ: الطَّرِيقَيْنِ، وَحَقَّقْنَا الْأَخْبَارَ عَنِ الْجَزَاءَيْنِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالْجَنَّةِ وَجَهَنَّمَ فَلْأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ بِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَدَخَلَ هَذَا فِي قَوْله [تَعَالَى] : حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ بِمَا يُشْبِهُ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا مِلْأَهَا وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا مِلْأَهَا». وَإِنَّمَا اخْتِيرَ الِاقْتِصَارُ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ الدَّالِّ عَلَى الْمَحْذُوفِ عَلَى
شِقِّ مَصِيرِ أَهْلِ الضَّلَالِ لِأَنَّهُ الْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الِاعْتِرَاضِ إِثْرَ كَلَامِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَلِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي تَعَلُّقِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ بِمَضْمُونِ اقْتِرَاحِهِمْ، أَيْ لَوْ كَانَ
وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُفَضِّلَ هَذَا النَّوْعَ بِأَنْ يَجْعَلَ مِنْهُ عُمَّارًا لِعَالَمِ الْكَمَالِ الْخَالِدِ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ فَجَعَلَ لِأَهْلِ الْكَمَالِ الدِّينِيِّ مَرَاتِبَ سَامِيَةً مُتَفَاوِتَةً فِي عَالَمِ الْخُلْدِ عَلَى تَفَاوُتِ نُفُوسِهِمْ فِي مَيْدَانِ السَّبْقِ إِلَى الْكَمَالَاتِ، وَجَعَلَ أَضْدَادَ هَؤُلَاءِ عُمَّارًا لِهُوَّةِ النَّقَائِصِ فَمَلَأَ مِنْهُمْ تِلْكَ الْهُوَّةَ الْمُسَمَّاةَ جَهَنَّمَ.
فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ الْبَالِغِ مِنَ الْإِيجَازِ مَبْلَغَ الْإِعْجَازِ، إِذْ حَذَفَ مُعْظَمَ مَا أُرِيدَ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ الْوَارِدِ عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها فَإِنَّ مُقْتَضَى الِاسْتِدْرَاكِ أَنْ يُقَّدَّرَ: وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ ذَلِكَ بَلْ شِئْنَا أَنْ نَخْلُقَ النَّاسَ مُخْتَارِينَ بَيْنَ طَرِيقَيِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَوَضَعْنَا لَهُمْ دَوَاعِيَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَأَرَيْنَاهُمْ وَسَائِلَ النَّجَاةِ وَالِارْتِبَاكِ بِالشَّرَائِعِ قَالَ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: ١٠] أَيِ: الطَّرِيقَيْنِ، وَحَقَّقْنَا الْأَخْبَارَ عَنِ الْجَزَاءَيْنِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالْجَنَّةِ وَجَهَنَّمَ فَلْأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ بِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَدَخَلَ هَذَا فِي قَوْله [تَعَالَى] : حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ بِمَا يُشْبِهُ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا مِلْأَهَا وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا مِلْأَهَا». وَإِنَّمَا اخْتِيرَ الِاقْتِصَارُ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ الدَّالِّ عَلَى الْمَحْذُوفِ عَلَى
شِقِّ مَصِيرِ أَهْلِ الضَّلَالِ لِأَنَّهُ الْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الِاعْتِرَاضِ إِثْرَ كَلَامِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَلِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي تَعَلُّقِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ بِمَضْمُونِ اقْتِرَاحِهِمْ، أَيْ لَوْ كَانَ
223
إِرْجَاعُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ مُقْتَضًى لِحِكْمَتِنَا لَكُنَّا جَبَلْنَاهُمْ عَلَى الْهُدَى فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا فَكَانُوا يَأْتُونَ الصَّالِحَاتِ بِالْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ. فَالْمُرَادُ الْقَوْلُ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ.
والْجِنَّةِ: الجنّ وهم الشَّيَاطِين.
وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها إِلَى آخِرِهِ جَوَابًا مُوَجَّهًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُجْرِمِينَ عَنْ قَوْلِهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا [السَّجْدَة: ١٢] إِلَخْ.
وَوُجُودُ الْوَاوِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكَلَامِ يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ جَوَابًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُجْعَلُوا أَهْلًا لِتَلَقِّي هَذِهِ الْحِكْمَةِ بَلْ حَقُّهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ جَوَابِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي آيَة سُورَة الْمُؤمنِينَ [١٠٦- ١٠٨] : قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُلَاقِي سُؤَالَهُمْ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا الرُّجُوعَ لِيَعْمَلُوا صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُمُ اعْتِذَارًا عَنْ ضَلَالِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُؤْتِهِمُ الْهُدَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ سَاقَهُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيُحِيطُوا عِلْمًا بِدَقَائِقِ الْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ.
وَعَدَلَ عَنِ الْإِضَافَةِ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي فَلَمْ يَقُلْ: حَقَّ قَوْلِي، لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلٍ مَعْهُودٍ وَهُوَ مَا فِي سُورَةِ ص [٨٥] : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ حَقَّ الْقَوْلُ الْمَعْهُودُ. وَاجْتُلِبَتْ مِنَ الِابْتِدَائِيَّةُ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ.
وَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ إِلَى ضَمِيرِ النَّفْسِ لِإِفَادَةِ الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ، مَعَ مَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ من التفنن.
[١٤]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١٤]
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)
هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السَّجْدَة: ١٢] الَّذِي هُوَ إِقْرَارٌ بِصِدْقِ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ، الْمُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا. فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ جَوَابٍ
والْجِنَّةِ: الجنّ وهم الشَّيَاطِين.
وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها إِلَى آخِرِهِ جَوَابًا مُوَجَّهًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُجْرِمِينَ عَنْ قَوْلِهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا [السَّجْدَة: ١٢] إِلَخْ.
وَوُجُودُ الْوَاوِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكَلَامِ يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ جَوَابًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُجْعَلُوا أَهْلًا لِتَلَقِّي هَذِهِ الْحِكْمَةِ بَلْ حَقُّهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ جَوَابِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي آيَة سُورَة الْمُؤمنِينَ [١٠٦- ١٠٨] : قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُلَاقِي سُؤَالَهُمْ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا الرُّجُوعَ لِيَعْمَلُوا صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُمُ اعْتِذَارًا عَنْ ضَلَالِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُؤْتِهِمُ الْهُدَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ سَاقَهُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيُحِيطُوا عِلْمًا بِدَقَائِقِ الْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ.
وَعَدَلَ عَنِ الْإِضَافَةِ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي فَلَمْ يَقُلْ: حَقَّ قَوْلِي، لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلٍ مَعْهُودٍ وَهُوَ مَا فِي سُورَةِ ص [٨٥] : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ حَقَّ الْقَوْلُ الْمَعْهُودُ. وَاجْتُلِبَتْ مِنَ الِابْتِدَائِيَّةُ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ.
وَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ إِلَى ضَمِيرِ النَّفْسِ لِإِفَادَةِ الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ، مَعَ مَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ من التفنن.
[١٤]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١٤]
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)
هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السَّجْدَة: ١٢] الَّذِي هُوَ إِقْرَارٌ بِصِدْقِ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ، الْمُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا. فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ جَوَابٍ
224
عَنْ إِقْرَارِهِمْ إِلْزَامًا لَهُمْ بِمُوجَبِ إِقْرَارِهِمْ، أَيْ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى اعْتِرَافِكُمْ بِحَقِيَّةِ مَا كَانَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَنْ يَلْحَقَكُمْ عَذَابُ النَّارِ.
وَمَجِيءُ التَّفْرِيعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ إِلْزَامٌ بِالْحُجَّةِ كَالْفَاءَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الْحجر: ٣٤] وَقَوْلِهِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٧٩- ٨٢]، وَقَوْلِهِ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٤- ٨٥] فَهَذِهِ خَمْسُ فَاءَاتٍ كُلُّ فَاءٍ مِنْهَا هِيَ تَفْرِيعٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وَاسْتِعْمَالُ الذَّوْقِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩٥]. وَمَفْعُولُ (ذُوقُوا) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ فَذُوقُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِمَّا دَعَاكُمْ إِلَى أَنْ تَسْأَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا.
وَالنِّسْيَانُ الْأَوَّلُ: الْإِهْمَالُ وَالْإِضَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَنَسِيَ فِي سُورَةِ طه [٨٨].
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ إِهْمَالِكُمُ الِاسْتِعْدَادَ لِهَذَا الْيَوْمِ. وَالنِّسْيَانُ فِي قَوْلِهِ نَسِيناكُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحِرْمَانِ مِنَ الْكَرَامَةِ مَعَ الْمُشَاكَلَةِ.
وَاللِّقَاءُ: حَقِيقَتُهُ الْعُثُورِ عَلَى ذَاتٍ، فَمِنْهُ لِقَاءُ الرَّجُلِ غَيْرَهُ وَتَجِيءُ مِنْهُ الْمُلَاقَاةُ، وَمِنْهُ:
لِقَاءُ الْمَرْءِ ضَالَّةً أَوْ نَحْوَهَا. وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ: شَيْءٌ لَقًى، أَيْ مَطْرُوحٌ. وَلِقَاءُ الْيَوْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَجَازٌ فِي حُلُولِ الْيَوْمِ وَوُجُودِهِ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ كَأَنَّهُ عُثِرَ عَلَيْهِ.
وَإِضَافَةُ (يَوْمٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ فَلَمَّا تَحَقَّقُوهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ لِأَنَّ الْيَوْمَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْقَوْمِ أَوِ الْجَمَاعَةِ إِذَا كَانَ يَوْمَ انْتِصَارٍ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ قَالَ السَّمَوْأَلُ:
وَمَجِيءُ التَّفْرِيعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ إِلْزَامٌ بِالْحُجَّةِ كَالْفَاءَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الْحجر: ٣٤] وَقَوْلِهِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٧٩- ٨٢]، وَقَوْلِهِ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٤- ٨٥] فَهَذِهِ خَمْسُ فَاءَاتٍ كُلُّ فَاءٍ مِنْهَا هِيَ تَفْرِيعٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وَاسْتِعْمَالُ الذَّوْقِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩٥]. وَمَفْعُولُ (ذُوقُوا) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ فَذُوقُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِمَّا دَعَاكُمْ إِلَى أَنْ تَسْأَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا.
وَالنِّسْيَانُ الْأَوَّلُ: الْإِهْمَالُ وَالْإِضَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَنَسِيَ فِي سُورَةِ طه [٨٨].
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ إِهْمَالِكُمُ الِاسْتِعْدَادَ لِهَذَا الْيَوْمِ. وَالنِّسْيَانُ فِي قَوْلِهِ نَسِيناكُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحِرْمَانِ مِنَ الْكَرَامَةِ مَعَ الْمُشَاكَلَةِ.
وَاللِّقَاءُ: حَقِيقَتُهُ الْعُثُورِ عَلَى ذَاتٍ، فَمِنْهُ لِقَاءُ الرَّجُلِ غَيْرَهُ وَتَجِيءُ مِنْهُ الْمُلَاقَاةُ، وَمِنْهُ:
لِقَاءُ الْمَرْءِ ضَالَّةً أَوْ نَحْوَهَا. وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ: شَيْءٌ لَقًى، أَيْ مَطْرُوحٌ. وَلِقَاءُ الْيَوْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَجَازٌ فِي حُلُولِ الْيَوْمِ وَوُجُودِهِ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ كَأَنَّهُ عُثِرَ عَلَيْهِ.
وَإِضَافَةُ (يَوْمٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ فَلَمَّا تَحَقَّقُوهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ لِأَنَّ الْيَوْمَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْقَوْمِ أَوِ الْجَمَاعَةِ إِذَا كَانَ يَوْمَ انْتِصَارٍ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ قَالَ السَّمَوْأَلُ: