تفسير سورة الجن

روح البيان
تفسير سورة سورة الجن من كتاب روح البيان المعروف بـروح البيان .
لمؤلفه إسماعيل حقي . المتوفي سنة 1127 هـ

تفسير سورة الجن
ثمان وعشرون آية مكية بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ يا محمد لقومك أُوحِيَ إِلَيَّ اى ألقى على بطريق الوحى وأخبرت باعلام من الله تعالى والإيحاء اعلام فى خفاء وفائدة اخباره بهذه الاخبار بيان انه رسول الثقلين والنهى عن الشرك والحث على التوحيد فان الجن مع تمردهم وعدم مجانستهم إذا آمنوا فكيف لا يؤمن البشر مع سهولة طبعهم ومجانستهم أَنَّهُ بالفتح لانه فاعل اوحى والضمير الشأن اى ان الشأن والحديث اسْتَمَعَ اى القرآن او طه او اقرأ وقد حذف لدلالة ما بعده عليه والاستماع بالفارسية نيوشيدن. والمستمع من كان قاصدا للسماع مصغيا اليه والسامع من اتفق سماعه من غير قصد اليه فكل مستمع سامع من غير عكس نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ جماعة منهم ما بين الثلاثة والعشرة وبالفارسية كروهى كه از ده كمتر واز سه بيشتر بودند.
قال فى القاموس النفر ما دون العشرة من الرجال كالنفير والجمع انفار وفى المفردات النفر عدة رجال يمكنهم النفر الى الحرب بالفارسية بيرون شدن. والجن واحده جنى كروم ورومى ونحوه قال ابن عباس رضى الله عنهما انطلق رسول الله عليه السلام فى طائفة من أصحابه الى سوق عكاظ فأدركهم وقت صلاة الفجر وهم ننحلة فأخذ هو عليه السلام يصلى بأصحابه صلاة الفجر فمر عليهم نفر من الجن وهم فى الصلاة فلما سمعوا القرآن استمعوا له وفيه دليل على انه عليه السلام لم ير الجن حينئذ إذ لو رأهم لما أسند معرفة هذه الواقعة الى الوحى فان ما عرف بالمشاهدة لا يستند إثباته الى الوحى وكذا لم يشعر بحضورهم وباستماعهم ولم يقرأ عليهم وانما اتفق حضورهم فى بعض اوقات قراءته فسمعوها فأخبره الله بذلك وقد مضى ما فيه من التفصيل فى سورة الأحقاف فلا نعيده والجن أجسام رقاق فى صورة تخالف صورة الملك والانس عاقلة كالانس خفية عن أبصارهم لا يظهرون لهم ولا يكلمونهم الا صاحب معجزة بل يوسوسون سائر الناس يغلب عليهم النارية او الهوائية ويدل على الاول مثل قوله تعالى وخلق الجان من مارج نار فان المشهور ان المركبات كلها من العناصر فما يغلب فيه النار فنارى كالجن وما يغلب فيه الهولء فهوائى كالطير وما يغلب فيه الماء فمائى كالسمك وما يغلب فيه التراب فترابى كالانسان وسائر الحيوانات الارضية واكثر الفلاسفة ينكرون وجود الجن فى الخارج واعترف به جمع عظيم من قدمائهم وكذا جمهور أرباب الملل المصدقين بالأنبياء قال القاشاني ان فى الوجود نفوسا ارضية قوية لا فى غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها وقلة إدراكها ولا على هيئات النفوس الانسانية واستعداداتها ليلزم تعلقها بالاجرام الكثيفة الغالب عليها الارضية ولا فى صفاء النفوس المجردة ولطافتها لنتصل بالعالم الطوى وتتجرد او تتعلق ببعض الاجرام السماوية متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة غلبت عليها الهوائية او النارية او الدخانية على اختلاف أحوالها سماها بعض الحكماء الصور المعلقة ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وادراكاتنا ولما كانت قريبة الطبع الى الملكوت السماوي
ان العالم الغير العامل فى حكم الجاهل فان إبليس كان من اهل العلم فلما لم يعمل بمقتضى علمه جعل سفيها جاهلا لا يجوز التقليد له فالاتباع للجاهل ومن فى حكمه اتباع للشيطان والشيطان يدعو الى النار لانه خلق منها وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ مخففة من الثقيلة اى ان الشان لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيهم اى كنا نظن ان الشان والحديث لن يكذب على الله أحد ابدا ولذلك اتبعنا قوله وصدقناه فى ان لله صاحبة وولدا فلما سمعنا القرآن وتبين لنا الحق بسببه علمنا انهم قد يكذبون عليه تعالى وكذبا مصدر مؤكد لتقول لانه نوع من القول وأشار بالانس الى القوى الروحانية وبالجن الى القوى الطبيعية وقال القاشاني انس الحواس الظاهرة وجن القوى الباطنة فتوهمنا ان البصر يدرك شكله ولونه والاذن تسمع صوته والوهم والخيال يتوهمه ويتخيله حقا مطابقا لما هو عليه قبل الاهتداء والتنور بنور الروح فعلمنا من طريق الوحى الوارد على القلب بواسطة روح القدس ان لسنا فى شىء من إدراكه فليس له شكل ولالون ولا صوت ولا هو داخل فى الوهم والخيال وليس كلام الله من جنس الكلام المصنوع المتلقف بالفكر والتخيل والمستنتج من القياسات العقلية او المقدمات الوهمية والتخييلية فليس الله من قبيل المخلوق جنسا او نوعا او صنفا او شخصا فكيف يكون له صاحبة وولد وَأَنَّهُ اى وان الشان كانَ فى الجاهلية رِجالٌ كائنون مِنَ الْإِنْسِ خبر كان قوله يَعُوذُونَ العوذ الالتجاء الى الغير والتعلق به بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فيه دلالة ان للجن نساء كالانس لان لهم رجالا ولذا قيل فى حقهم انهم يتوالدون لكنهم ليسوا بمنظرين كابليس وذريته قال اهل التفسير كان الرجل من العرب إذا امسى فى واد قفر فى بعض مسايره وخاف على نفسه يقول أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم فيبيت فى أمن وجوار حتى يصبح فاذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الانس والجن وذلك قوله تعالى فَزادُوهُمْ عطف على يعوذون والماضي للتحقق اى فزاد الرجال العائذون الإنسيون الجن رَهَقاً مفعول ثان لزاد اى تكبرا وعتوا وسفها فان الرهق محركة يجيئ على معان منها السفه وركوب الشر والظلم قال فى آكام المرجان وبهذا يجيبون المعزم والراقي بأسمائهم واسماء ملوكهم فانه يقسم عليهم بأسماء من يعظمونه فيحصل لهم بذلك من الرياسة والشرف على الانس ما يحملهم على ان يعطوهم بعض سؤلهم وهم يعلمون ان الانس أشرف منهم وأعظم قدرا فاذا خضعت الانس لهم واستعاذت بهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لهم أصاغرهم يقضون لهم حاجاتهم او المعنى فزاد الجن العائذين غيا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم وإذا استعاذوا بهم فأمنوا ظنوا ان ذلك من الجن فازدادوا رغبة فى طاعة الشياطين وقبول وساوسهم والفاء حينئذ لترتيب الاخبار واسناد الزيادة الى الانس والجن باعتبار السببية (وروى) عن كردم بن ابى السائب الأنصاري رضى الله عنه انه قال خرجت مع أبى الى المدينة فى حاجة وذلك أول ما ذكر النبي عليه السلام بمكة فأدانى المبيت الى راعى غنم فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم فقال الراعي يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه يقول يا سرحان أرسله فأتى
بالاستفهام وأن يكون فاعل فعل مضمر مفسر بما بعده بمعنى لا ندرى. أريد شرام خير ورجحوه للموافقة بين المعطوفين فى كونهما جملة فعلية والباء فى الموضعين متعلقة بما قبلها والجملة الاستفهامية قائمة مقام المفعول ونسبة الخير الى الله تعالى دون الشر من الآداب الشريفة القرآنية كما فى قوله تعالى وإذا أمرضت فهو يشفين ونظائره قال صاحب الانتصاب ومن عقائد الجن ان الهدى والضلال جميعا من خلق الله تعالى فتأدبوا من نسبة الرشاد اليه وجعلوا الشر مضمر الفاعل فجمعوا بين حسن الاعتقاد والأدب وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ اى الموصوفون بصلاح الحال فى شأن أنفسهم وفى معاملتهم مع غيرهم او ما يكون الى الخير والصلاح حسبما تقتضية الفطرة السليمة لا الى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة والقصر ادعائى كأنهم لم يعتدوا بصلاح غير ذلك البعض فالصالحون مبتدأ ومنا خبره المقدم والجملة خبر ان ويجوز أن يكون الصالحون فاعل الجار والمجرور الجاري مجرى الظرف لاعتماده على المبتدأ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ اى قوم دون ذلك فى الصلاح فحذف الموصوف لانه يجوز حذف هذا الموصوف فى التفصيل بمن حتى قالوا مناظعن ومنا اقام يريدون منا فريق ظعن ومنا فريق أقام ودون ظرف وهم المقتصدون فى صلاح الحال على الوجه المذكور غير الكاملين فيه لا فى الايمان والتقوى كما توهم فان هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن كما يعرب به عنه قوله تعالى كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً واما حالهم بعد استماعه فسيحكى بقوله وانا لما سمعنا الهدى الى قوله وانا منا المسلمون اى كنا قبل هذا طرائق فى اختلاف الأحوال فهو بيان للقسمة المذكورة وقدر المضاف لامتناع كون الذوات طرائق قالوا فى الجن قدرية ومرجئة وخوارج وروافض وشيعية وسنية قال فى المفردات جمع الطريق طرق وجمع الطرق طرائق والظاهر أن الطرائق جمع طريقة كقصائد جمع قصيدة ثم قال وقوله تعالى كنا طرائق قددا اشارة الى اختلافهم فى درجاته كقوله هم درجات والطريق الذي يطرق بالأرجل اى يضرب ومنه استعير كل مسلك يسلكه الإنسان فى فعل محمودا كان او مذموما وقيل طريقة من النخل تشبيها بالطريق فى الامتداد والقد قطع الشيء طولا والقد المقدود ومنه قيل لقامة الإنسان قد كقولك تقطيعة والقدة كالقطعة يعنى انها من القد كالقطعة من القطع وصفت الرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق وفى القاموس القدة الفرقة من الناس هوى كل واحد على حدة ومنه كنا طرائق قددا اى فرقا مختلفة أهواؤها وقد تعددوا قال القاشاني وانا منا الصالحون كالقوى المدبرة لنظام المعاش وصلاح البدن ومنادون ذلك من المفسدات كالوهم والغضب والشهوة والمعاملة بمقتضى هوى النفس والمتوسطات كالقوى النباتية الطبيعية كنا ذوى مذاهب مختلفة لكل طريقة ووجهة مما عينه الله ووكله به قال بعض المفسرين المراد بالصالحين السابقون بالخيرات وبما دون ذلك اى أدنى مكان منهم المقتصدون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا واما الظالمون لانفسهم فمندرج فى قوله تعالى كنا طرائق قددا فيكون تعميما بعد تخصيص على الاستئناف ويحتمل أن يكون
اى اهتداء عظيما الى طريق الحق والصواب يبلغهم الى دار الثواب فتحرى الرشد مجاز عن ذلك بعلاقة السببية وبالفارسية قصد كرده اند راه راست واز ان بمقصد خواهند رسيد.
ودل على ان للجن ثوابا على أعمالهم لانه ذكر سبب الثواب وموجبه وقد سبق تحقيقه أَمَّا الْقاسِطُونَ
الجائرون عن سنن الهدى كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
الحطب ما بعد للايقاد اى حطبا توقد بهم كما توقد بكفرة الانس (روى) ان الحجاج قال لسعيد بن جبير حين أراد قتله ما تقول فى قال انك قاسط عادل فقال الحاضرون ما احسن ما قال حسبوا انه يصفه بالقسط والعدل فقال الحجاج يا جهلة جعلنى جاهلا كافرا وتلا قوله تعالى واما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وقوله تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وأسند بعضهم قول سعيد الى امرأة كما قال فى الصحاح ومنه قول تلك المرأة للحجاج انك قاسط عادل فيحتمل التوارد وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا ان مخففة من الثقيلة والجملة معطوفة قطعا على انه استمع والمعنى واوحى الى ان الشان لو استقام الجن او الانس او كلاهما عَلَى الطَّرِيقَةِ التي هى ملة الإسلام لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً الاسقاء والسقي بمعنى وقال الراغب السقي والسقيا هو أن تعطيه ماء ليشرب والاسقاء أن تجعل له ذلك له حتى يتناوله كيف شاء كما يقال أسقيته نهرا فالاسقاء ابلغ وغدق من باب علم إذا غزر وصف الماء به للمبالغة فى غزارته كرجل عدل وتخصيص الماء الكثير بالذكر لانه اصل السعة وان كان اصل المعاش هو اصل الماء لاكثرته ولعزة وجوده بين العرب قال عمر رضى الله عنه أينما كان الماء كان العشب وأينما كان العشب كان المال وأينما كان المال كانت الفتنة والمعنى لا عطيناهم مالا كثيرا وعيشا رغدا ووسعنا عليهم الرزق فى الدنيا وبالفارسية هر آيينه بدهيم ايشان را آب بسيار بعد از تنك سالى يعنى روزى بر ايشان فراخ كردانيم.
وفيه دلالة على ان الجن يأكلون ويشربون ولكن فيه تفصيل وقد سبق وقال بعض اهل المعرفة المراد بالاستقامة على الطريقة هو القيام على سبيل السنة والميل الى اهل الصلاح وبالاسقاء الافاضة على قلوبهم ماء الوداد لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم فى ذلك الاسقاء والتوسيع كيف يشكرونه كما قال تعالى وبلوناهم بالحسنات او فى ذلك الماء والمآل واحد (وقال الكاشفى) تا بيازماييم ايشانرا در آن زندكانى كه بوظائف شكر چكونه قيام نمايند. وفيه اشارة الى ان المرزوق بالرزق الروحاني والغذاء المعنوي يجب عليه القيام بشكره ايضا وذلك بوظائف الطاعات وصنوف العبادات وضروب الخدمات وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ عن عبادته او عن موعظته او وحيه يَسْلُكْهُ يدخله عَذاباً صَعَداً اى شاقا صعبا يتصعد اى يعلوا لمعذب ويغلبه فلا يطيقه على انه مصدر وصف به للمبالغة يقال سلكت الخيط فى الابرة إذا أدخلته فيها اى يسلكه فى عذاب صعد كما قال ما سلككم فى سقر أي أدخلهم فيها فحذف الجار وأوصل الفعل ثم ان كان اعراضه بعدم التصديق عذابه بالتأبيد والا فبقدر جريمته ان لم يغفر له وروى ان صعدا جبل فى النار إذا وضع عليه يديه او رجليه ذابتا وإذا رفعهما عادتا وقال بعضهم صعدا جبل أملس فى جهنم ويكلف الوليد ابن المغيرة صعوده أربعين
تعيين العدد على ما فعله بعضهم بلا معنى وان كان المراد ما ذهب اليه ابن مسعود رضى الله عنه ففيه ان ذلك كان بطريق المشاهدة على ما اسلفناه فى الأحقاف ولا معنى لاخباره بطريق الوحى على ما مضى فى أول السورة وايضا انه لم يكن معه عليه السلام إذ ذاك إلا نفر قليل من أصحابه بل لم يكن الا زيد ابن حارثة رضى الله عنه على ما فى انسان العيون فلا معنى للازدحام والله اعلم بمراده قُلْ إِنَّما أَدْعُوا اى اعبد رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ اى بربي فى العبادة أَحَداً فليس ذلك ببدع فلا مستنكر يوجب التعجب او الاطباق على عداوتى وهذا حالى فليكن حالكم ايضا كذلك قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لا أستطيع لَكُمْ ايها المشركون ضَرًّا وَلا رَشَداً كأنه أريد لا املك ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا اى ليس هذا بيدي بل بيد الله تعالى فانه هو الضار النافع الهادي المضل فترك من كلا المتقابلين ما ذكر فى الآخر فالآية من الاحتباك وهو الحذف من كل ما يدل مقابلة؟؟؟ كليه وفى التأويلات النجمية اى من حيث وجوده المضاف اليه كما قال انك لا نهدى من أحببت واما من حيث وجوده الحق المطلق فانه يملك الضر والرشد كقوله وانك لتهدى الى صراط مستقيم قال القاشاني اى غيا وهدى انما الغواية والهداية من الله ان سلطنى عليكم تهتدوا بنوري والا بقيتم فى الضلال ليس فى قوتى ان اقسركم على الهداية قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي ينقذنى ويخلصنى مِنَ اللَّهِ من قهره وعذابه ان خالفت امره وأشركت به أَحَدٌ ان استنقذته او لن ينجينى منه أحد ان أرادنى بسوء قدره على من مرض او موت او غيرهما قال بعضهم هذه لفظة تدل على الإخلاص فى التوحيد إذا التوحيد هو صرف النظر الى الحق لا غير وهذا لا يصح الا بالإقبال على الله والاعراض عما سواه والاعتماد عليه دون ما عداه وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً يقال ألحد فى دين الله والتحد فيه اى مال عنه وعدل ويقال للملجأ الملتحد لان اللاجئ يميل اليه والمعنى ولن أجد عند الشدائد ملتجأ غيره تعالى وموئلا ومعد فلا ملجأ ولا موئل ولا معدل الا هو وهذا بيان لعجزه عليه السلام عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه عن شؤون غيره اى وإذ لا املك لنفسى شيأ فكيف املك لكم شيأ إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء متصل من قوله لا املك اى من مفعوله فان التبليغ ارشاد ونفع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفى الاستطاعة عن نفسه فلا يضر طول الفصل بينهما وفائدة الاستثناء المبالغة فى توصيف نفسه بالتبليغ لدلالته على انه لا يدع التبليغ الذي يستطيعه لتظاهرهم على عداوته وقوله من الله صفة بلاغا اى بلاغا كائنا منه وليس متعلقا بقوله بلاغا لان صلة التبليغ فى المشهور انما هى كلمة عن دون من وبلاغا واقع موقع التبليغ كما يقع السلام والكلام موقع التسليم والتكليم او استثناء من قوله لمتحدا اى لن أجد من دونه تعالى منجى الا ان ابلغ عنه ما أرسلني به فهو حينئذ منقطع فان البلوغ ليس ملتحدا من دون الله لانه من الله وبإعانته وتوفيقه وَرِسالاتِهِ عطف على بلاغا بإضمار المضاف وهو البلاغ اى لا املك لكم الا تبليغا كائنا منه تعالى وتبليغ رسالاته التي أرسلني بها يعنى الآن ابلغ عن الله وقول قال الله كذا ناسبا للمقالة اليه وان
للمتقدمين ووقوع عين القيامة للمتأخرين كما أوعد نوح عليه السلام بالطوفان فلم يدركه بعضهم بل هلك قبله وغرق فى طوفان الموت وبحر البلاء قال بعض اهل المعرفة قل ان أدرى أقريب ما توعدون فى القيامة الصغرى من الفناء الصوري والموت الطبيعي الاضطراري والدخول فى نار الله الكبرى عند البعث لعدم الوقوف على قدر الله او فى الكبرى من الموت لارادى والفناء الحقيقي لعدم الوقوف على قوة الاستعداد فيقع عاجلا أم ضرب الله غاية وأجلا عالِمُ الْغَيْبِ وحده وهو خبر مبتدأ محذوف اى هو عالم لجميع ما غاب عن الحس على ان اللام للاستغراق والجملة استئناف مقرر لما قبله من عدم الدراية فَلا يُظْهِرُ آگاه نكند عَلى غَيْبِهِ أَحَداً الفاء لترتيب عدم الإظهار على تفرده تعالى بعلم الغيب على الإطلاق اى فلا يطلع على غيبه اطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين أحد من خلقه إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ الارتضاء پسنديدن وأصله تناول مرضى الشيء اى الا رسولا ارتضاه واختاره لا ظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقا ما اما لكونه من مبادى رسالته بان يكون معجزة دالة على صحتها واما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي امر بها المكلفون وكيفيات أعمالهم واجزيتها المترتبة عليها فى الآخرة وما تتوقف هى عليه من احوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة واما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها وقت قيام الساعة فلا يظهر عليه أحدا أبدا على ان بيان وقته مخل بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة وليس فيه ما يدل على نفى كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف فان اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلا ولا يدعى أحد لاحد من الأولياء ما فى مرتبة الرسل من الكشف الكامل الحاصل بالوحى الصريح بل اطلاعهم بالأخبار الغيبى والتلقف من الحق فيدخل فى الرسول وارثه قال الجنيد قدس سره قعد على غلام نصرانى متنكرا وقال أيها الشيخ ما معنى قوله عليه السلام اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله قال فأطرقت رأسى ورفعت فقلت اسلم اسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام فهذا اما بطريق الفراسة او بغيرها من انواع الكشوف وخرج من البين اهل الكهانة والتنجيم لانهم ليسوا من اهل الارتضاء والاصطفاء كالانبياء والأولياء فليس اخبارهم بطريق الإلهام والكشف بل بالأمارات والظنون ونحوها ولذا لا يقع أكثرها الا كاذبا ومن قال أنا اخبر من اخبار الجن يكفر لان الجن كالانس لا تعلم غيبا وقد سبق ان الكهانة انقطعت اليوم فلا كهانة أبدا لان الشياطين منعوا من السماء قال ابن الشيخ انه تعالى لا يطلع على الغيب الذي يختص به علمه الا المرتضى الذي يكون رسولا وما لا يختص به يطلع عليه غير الرسول اما بتوسط الأنبياء او بنصب الدلائل وترتيب المقدمات او بأن يلهم الله بعض الأولياء وقوع بعض المغيبات فى المستقبل بواسطة الملك فليس مراد الله بهذه الآية ان لا يطلع أحدا على شىء من المغيبات الا الرسل لظهور أنه تعالى قد يطلع على شىء
Icon