تفسير سورة العاديات

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة العاديات من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة العاديات
هذه السورة مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، مدنية في قول ابن عباس وأنس وقتادة. لما ذكر فيما قبلها ما يقتضي تهديداً ووعيداً بيوم القيامة، بتعنيف لمن لا يستعد لذلك اليوم، ومن آثر أمر دنياه على أمر آخرته.

سورة العاديات
[سورة العاديات (١٠٠) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)
الْعَادِيَّاتُ: الْجَارِيَاتُ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ وَصْفٌ، وَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ الْخِلَافُ فِي الْمَوْصُوفِ، الضَّبْحُ: تَصْوِيتٌ جَهِيرٌ عِنْدَ الْعَدْوِ الشَّدِيدِ، لَيْسَ بِصَهِيلٍ وَلَا رُغَاءٍ وَلَا نُبَاحٍ، بَلْ هُوَ غَيْرُ الْمُعْتَادِ مِنْ صَوْتِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَضْبَحُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ يَضْبَحُ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرَ الْخَيْلِ وَالْكِلَابِ. قِيلَ: وَلَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ الْإِبِلَ تَضْبَحُ، وَالْأَسْوَدَ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْبُومَ وَالصَّدَى وَالْأَرْنَبَ وَالثَّعْلَبَ وَالْقَوْسَ، كَمَا اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ لَهَا الضَّبْحَ.
أَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي صِفَةِ قَوْسٍ:
حَنَّانَةٌ مِنْ نَشَمٍ أَوْ تَأَلُّبٍ تَضْبَحُ فِي الْكَفِّ ضِبَاحِ الثَّعْلَبِ
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُهُ لِلثَّعْلَبِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْخَيْلِ، وَهُوَ مِنْ ضَبَحَتْهُ النَّارُ: غَيَّرَتْ لَوْنَهُ وَلَمْ تُبَالِغْ فِيهِ، وَانْضَبَحَ لَوْنُهُ: تَغَيَّرَ إِلَى السَّوَادِ قَلِيلًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الضَّبْحُ وَالضَّبْعُ بِمَعْنَى الْعَدْوِ الشَّدِيدِ، وَكَذَا قَالَ الْمُبَرِّدُ: الضَّبْحُ مِنْ إِضْبَاعِهَا فِي السَّيْرِ. الْقَدْحُ: الصَّكُّ، وَقِيلَ:
الِاسْتِخْرَاجُ، وَمِنْهُ قَدَحْتُ الْعَيْنَ: أَخْرَجْتَ مِنْهَا الْفَاسِدَ، وَالْقَدَّاحُ وَالْقَدَّاحَةُ وَالْمِقْدَحَةُ: مَا تُورَى بِهِ النَّارُ. أَغَارَ عَلَى الْعَدُوِّ: قَصَدَهُ لِنَهْبٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ. النَّقْعُ: الْغُبَارُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
526
يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتَطَارِ النَّقْعِ دَامِيَةً كَأَنَّ آذَانَهَا أَطْرَاقُ أَقْلَامِ
وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ:
عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كُدَاءِ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النَّقْعُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
فَمَتَى يَنْقَعْ صُرَاخٌ صَادِقٌ تَحْلِبُوهَا ذات حرس وَزَجَلِ
الْكَنُودُ: الْكَفُورُ لِلنِّعْمَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَنُودٌ لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ وَمَنْ يَكُنْ كَنُودًا لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ يَبْعُدُ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكَنُودُ، بِلِسَانِ كندة وحضر موت: الْعَاصِي وَبِلِسَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ:
الْكَفُورُ وَبِلِسَانِ كِنَانَةَ: الْبَخِيلُ السيّء الْمَلَكَةِ، وَقَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَبِلِسَانِ بَنِي مَالِكٍ: البخيل، ولم يذكر وحضر موت، وَيُقَالُ: كَنَدَ النِّعْمَةَ كُنُودًا. وَقَالَ أَبُو زُبَيْدٍ فِي الْبَخِيلِ:
إِنْ تَفُتْنِي فَلَمْ أَطِبْ عَنْكَ نَفْسًا غَيْرَ أَنِّي أُمْنَى بِدَهْرٍ كَنُودِ
حَصَّلَ الشَّيْءَ: جَمَعَهُ، وَقِيلَ: مَيَّزَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ قيل للمنحل: الْمِحْصَلُ، وَحَصَلَ الشَّيْءُ: ظَهَرَ وَاسْتَبَانَ.
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَقَتَادَةَ. لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا مَا يَقْتَضِي تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِتَعْنِيفٍ لِمَنْ لَا يَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَنْ آثَرَ أَمْرَ دُنْيَاهُ عَلَى أَمْرِ آخِرَتِهِ. وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْعَادِيَاتِ هُنَا الْخَيْلُ، تَعْدُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَضْبَحُ حَالَةَ عَدْوِهَا، وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
وَالْخَيْلُ تَكْدَحُ حِينَ تَضْبَحُ فِي حِيَاضِ الْمَوْتِ ضَبْحَا
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيٌّ وَإِبْرَاهِيمُ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: الْعَادِيَاتُ: الْإِبِلُ.
أَقْسَمَ بِهَا حِينَ تَعْدُو مِنْ عَرَفَةَ وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِذَا دَفَعَ الْحَاجُّ.
وَبِأَهْلِ غَزْوَةِ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ فَرَسَيْنِ، فَرَسٍ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٍ لِلْمِقْدَادِ، وَبِهَذَا حَجَّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
527
ابْنَ عَبَّاسٍ حِينَ تَمَارَيَا، فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
فَلَا وَالْعَادِيَاتِ غَدَاةَ جَمْعٍ بِأَيْدِيهَا إِذَا سَطَعَ الْغُبَارُ
وَانْتَصَبَ ضَبْحًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ يَضْبَحْنَ ضَبْحًا أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ ضَابِحَاتٍ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِنَّ مَعْنَاهُ الْعَدْوُ الشَّدِيدُ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِالْعَادِيَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ بِالْعَادِيَاتِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالضَّابِحَاتِ، لِأَنَّ الضَّبْحَ يَكُونُ مَعَ الْعَدْوِ، انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ الضَّبْحُ مَعَ الْعَدْوِ، فَلَا يَكُونُ مَعْنَى وَالْعادِياتِ مَعْنَى الضَّابِحَاتِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، وَالْإِيرَاءُ: إِخْرَاجُ النَّارِ، أَيْ تَقْدَحُ بِحَوَافِرِهَا الْحِجَارَةَ فَيَتَطَايَرُ مِنْهَا النَّارُ لِصَكِّ بَعْضِ الْحِجَارَةِ بَعْضًا. وَيُقَالُ: قَدَحَ فَأَوْرَى، وَقَدَحَ فَأَصْلَدَ. وَتُسَمَّى تِلْكَ النَّارُ الَّتِي تَقْدَحُهَا الْحَوَافِرُ مِنَ الْخَيْلِ أَوِ الْإِبِلِ: نَارَ الْحُبَاحِبِ. قَالَ الشاعر:
تقدّ السلو في الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ وَتُوقِدُ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ
وَقِيلَ: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً مَجَازٌ، أَوِ اسْتِعَارَةٌ فِي الْخَيْلِ تُشْعِلُ الْحَرْبَ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «١». وَيُقَالُ: حَمِيَ الْوَطِيسُ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرْبُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمُورِيَاتُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَمْكُرُ فِي الْحَرْبِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُهُ إِذَا أَرَادَتِ الْمَكْرَ بِالرَّجُلِ: وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، وَلَأُورِيَنَّ لَكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الَّتِي تُورِي نَارَهَا بِاللَّيْلِ لِحَاجَتِهَا وَطَعَامِهَا. وَعَنْهُ أَيْضًا: جَمَاعَةُ الْغُزَاةِ تُكْثِرُ النَّارَ إِرْهَابًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَلْسِنَةُ الرِّجَالِ تُورِي النَّارَ مِنْ عَظِيمِ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ، وَتُظْهِرُ مِنَ الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، وَإِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً: أَيْ تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ فِي الصُّبْحِ، وَمَنْ قَالَ هِيَ الْإِبِلُ، قَالَ الْعَرَبُ تَقُولُ: أغار إذا عدى جَرْيًا، أَيْ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، أَوْ فِي بَدْرٍ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لِذَاتٍ وَاحِدَةٍ، لِعَطْفِهَا بِالْفَاءِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْخَيْلُ الَّتِي يُجَاهَدُ عَلَيْهَا الْعَدُوُّ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهَا الْإِبِلُ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا فَرَسَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ وَقْعَةُ بَدْرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يُوجَدُ أَنَّ الْإِبِلَ جُوهِدَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَلْ الْمَعْلُومُ أَنَّهُ لَا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى الْخَيْلِ فِي شَرْقِ الْبِلَادِ وَغَرْبِهَا.
(١) سورة المائدة: ٥١/ ٦٤.
528
فَأَثَرْنَ: مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ صِلَةُ أَلْ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: فَاللَّاتِي عَدَوْنَ فَأَغَرْنَ فَأَثَرْنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي وُضِعَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَوْضِعَهُ، انْتَهَى. وَتَقُولُ أَصْحَابُنَا: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الِاسْمِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَثَرْنَ، فَوَسَطْنَ، بِتَخْفِيفِ الثَّاءِ وَالسِّينِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِشَدِّهِمَا
وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: بِشَدِّ السِّينِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَأَثَرْنَ بِالتَّشْدِيدِ، بِمَعْنَى: فَأَظْهَرْنَ بِهِ غُبَارًا، لِأَنَّ التَّأْثِيرَ فِيهِ مَعْنَى الْإِظْهَارُ، أَوْ قَلَبَ ثَوَرْنَ إِلَى وَثُرْنَ، وقلب الواو همزة. وقرىء: فَوَسَّطْنَ بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: فَأْتُوا بِهِ «١»، وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي وَسَطْنَ، انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ قَلَبَ، فَتَمَحُّلٌ بَارِدٌ. وَأَمَّا أَنَّ التَّشْدِيدَ لِلتَّعْدِيَةِ، فَقَدْ نَقَلُوا أَنَّ وَسَطَ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ فِي الْأَوَّلِ عَلَى الصُّبْحِ، أَيْ هَيَّجْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غُبَارًا، وَفِي بِهِ الثَّانِي عَلَى الصُّبْحِ. قِيلَ: أَوْ عَلَى النَّقْعِ، أَيْ وَسَطْنَ النَّقْعَ الْجَمْعَ، فَيَكُونُ وَسَطَهُ بِمَعْنَى تَوَسُّطِهِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً: أي الإبل
، وجمعا اسْمٌ لِلْمُزْدَلِفَةِ، وَلَيْسَ بِجَمْعٍ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ:
فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمْ وَأَفْلَتَ حَاجِبٌ تَحْتَ الْعَجَاجَةِ فِي الْغُبَارِ الْأَقْتَمِ
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ مَعًا يَعُودُ عَلَى الْعَدْوِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَالْعادِياتِ أَيْضًا. وَقِيلَ:
يَعُودُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، لِدَلَالَةِ وَالْعَادِيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّقْعِ هُنَا الصِّيَاحُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ جِنْسُ الْعَادِيَاتِ، وَلَيْسَتْ أَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْكَنُودُ يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: هُوَ الْجَحُودُ لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: هُوَ اللَّائِمُ لِرَبِّهِ، يَعُدُّ السَّيِّئَاتِ وَيَنْسَى الْحَسَنَاتِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: هُوَ الَّذِي تُنْسِيهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً، وَيُعَامِلُ اللَّهَ عَلَى عَقْدِ عِوَضٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الَّذِي لَا يُعْطِي فِي النَّائِبَاتِ مَعَ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: الْبَخِيلُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَرْضٌ كَنُودٌ: لَا تُنْبِتُ شَيْئًا.
وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، أَيْ يَشْهَدُ عَلَى كُنُودِهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْحَدَهُ لِظُهُورِ أَمْرِهِ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ وَرَبُّهُ شَاهِدٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَرَبُّهُ شَاهِدٌ عَلَيْهِ هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ، ويكون
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٦١.
529
ذَلِكَ كَالْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ عَنِ الْمَعَاصِي، انْتَهَى. وَلَا يَتَرَجَّحُ بِالْقُرْبِ إِلَّا إِذَا تَسَاوَيَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَالْإِنْسَانُ هُنَا هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ وَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْكَنُودُ. وَأَيْضًا فَتَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ لِوَاحِدٍ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِمَا لِمُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَوَسَّطَ الضَّمِيرُ بَيْنَ ضَمِيرَيْنِ عَائِدَيْنِ عَلَى وَاحِدٍ. وَإِنَّهُ: أَيْ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ، لِحُبِّ الْخَيْرِ: أَيِ الْمَالِ، لَشَدِيدٌ:
أَيْ قَوِيٌّ فِي حُبِّهِ. وَقِيلَ: لَبَخِيلٌ بِالْمَالِ ضَابِطٌ لَهُ، وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: شَدِيدٌ وَمُتَشَدِّدٌ. وَقَالَ طَرَفَةُ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَيْرُ مِنْ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْمَالُ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل إن يُرَادَ هَذَا الْخَيْرُ الدُّنْيَوِيُّ من مال وصحة وجاءه عِنْدَ الْمُلُوكِ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ وَالْجُهَّالَ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْمُحِبُّ فِي خَيْرِ الْآخِرَةِ فَمَمْدُوحٌ مرجوله الْفَوْزُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نَظْمُ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ الْحُبِّ لِلْخَيْرِ. فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْحُبُّ قَالَ لَشَدِيدٌ، وَحَذَفَ مِنْ آخِرِهِ ذِكْرَ الْحُبِّ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ، وَلِرُءُوسِ الْآيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «١»، وَالْعُصُوفُ: لِلرِّيحِ لَا لِلْأَيَّامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيحِ، انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ مَا مَعْنَاهُ:
لِأَنَّهُ لَيْسَ أَصْلُهُ ذَلِكَ التَّرْكِيبَ، بَلِ اللَّامُ فِي لِحُبِّ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ وَإِنَّهُ لِأَجْلِ حُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ أَوْ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْمَالِ وَإِيثَارِهِ قَوِيٌّ مُطِيقٌ، وَهُوَ لِحُبِّ عِبَادَةِ اللَّهِ وَشُكْرِ نِعَمِهِ ضَعِيفٌ مُتَقَاعِسٌ. تَقُولُ: هُوَ شَدِيدٌ لِهَذَا الْأَمْرِ وَقَوِيٌّ لَهُ إِذَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ ضَابِطًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
أَوْ أَرَادَ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرَاتِ غَيْرُ هَشٍّ مُنْبَسِطٍ، وَلَكِنَّهُ شَدِيدٌ مُنْقَبِضٌ.
أَفَلا يَعْلَمُ: تَوْقِيفٌ إِلَى ما يؤول إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَمَفْعُولُ يَعْلَمُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، أَيْ أَفَلَا يَعْلَمُ ما آله؟ إِذا بُعْثِرَ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: إِذَا ظَرْفٌ مُضَافٌ إِلَى بُعْثِرَ وَالْعَامِلُ فِيهِ يَعْلَمُ. انْتَهَى، وَلَيْسَ بِمُتَّضِحٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَفَلَا يَعْلَمُ الْآنَ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بُعْثِرَ بِالْعَيْنِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: بِالْحَاءِ. وَقَرَأَ الْأَسْوَدُ بْنُ زَيْدٍ: بَحَثَ. وَقَرَأَ نضر بْنُ عَاصِمٍ: بَحْثَرَ عَلَى بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعْدَانَ:
وَحَصَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ أَيْضًا: وَحَصَلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ خَفِيفَ الصَّادِ، وَالْمَعْنَى جُمِعَ مَا فِي الْمُصْحَفِ، أَيْ أُظْهِرَ مُحَصَّلًا مَجْمُوعًا. وَقِيلَ: مُيِّزَ وَكُشِفَ لِيَقَعَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ بِكَسْرِ
(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٨.
530
الْهَمْزَةِ، لَخَبِيرٌ بِاللَّامِ: هُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، وَالْعَامِلُ فِي بِهِمْ، وَفِي يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ، وَهُوَ تَعَالَى خَبِيرٌ دَائِمًا لَكِنَّهُ ضَمَّنَ خَبِيرٌ مَعْنَى مُجَازٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَالْحَجَّاجُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْقَاطِ اللَّامِ. وَيَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَسَلُّطُ يَعْلَمُ عَلَى إِنَّ، لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِعْمَالُ خَبِيرٌ فِي إِذَا لِكَوْنِهِ فِي صِلَةِ إِنَّ الْمَصْدَرِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ عَامِلٌ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَجْزِيهِمْ إِذَا بُعْثِرَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ مُعَلَّقَةً عَنِ الْعَمَلِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَسَدَّتْ مَسَدَّ الْمَعْمُولِ فِي إِنَّ، وَفِي خَبَرِهَا اللَّامُ ظَاهِرٌ، إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِيَعْلَمُ. وَإِذَا الْعَامِلُ فِيهَا مِنْ مَعْنَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ تَقْدِيرُهُ: كَمَا قُلْنَا يَجْزِيهِمْ إِذَا بُعْثِرَ.
531
Icon