تفسير سورة المائدة

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة المائدة
وتسمى أيضا بالعقود والمنقذة قال ابن الفرس : لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب وهى مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وقال أبو جعفر بن بشر والشعبي : إنها مدنية إلا قوله تعالى :) اليوم أكملت لكم دينكم ( فانه نزل بمكة وأحرج أبو عبيد عن محمد القرظى قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾ في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾ وذلك من ثقل الوحي وأخرج غير واحد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : المائدة آخر سورة نزلت وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أن آخر سورة المائدة والفتح وقد تقدم آنفا عن البراء أن آخر سورة نزلت براءة ولعل كلا ذكر ماعنده وليس فى ذلك شىء مرفوع إلى النبى ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾ نعم أخرج أبو عبيدة عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾ : المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها « وهو غير واف بالمقصود لمكان » من « واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شىء وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل والحسن رضى الله تعالى عنهما كما أخرج ذلك عنهما أبو داود وأخرج عن الشعبى أنه لم ينسخ منها إلا قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لاتحلوا شعائر الله ولاالشهر الحرام ولاالهدى ولا القلائد وأخرج ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال : نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله سبحانه : فان جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات وسيأتى الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى
وعدة آيها مائة وعشرون عند الكوفيين وثلاث وعشرون عند البصرين واثنان وعشرون عند غيرهم ووجه اعتلاقها بسورة النساء على ما ذكره الجلال السيوطى عليه الرحمة أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا فالصريح عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان والضمنى عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والاجارة وغير ذلك الداخل فى عموم قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكقيل : ياأيها الناس أوفوا بالعقود التى فرغ من ذكرها فى السورة التى تمت وإن كان فى هذه السورة أيضا عقود ووجه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك يا أيها الناس وفيها الخطاب بذلك فى مواضع وهو اشبه بتنزيل المكى وأول هذه ياأيها الذين آمنوا وفيها الخطاب بذلك فى مواضع وهو أشبه بخطاب المدنى وتقديم العام وشبه المكى أنسب ثم إن هاتين السورتين فى التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران فتانك اتحدا فى تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما وهاتان فى تقرير الفروع الحكمية وقد ختمت المائدة فى صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك وافتتحت النساء ببدء الخلق وختمت المائدة بالمنهى من البعث والجزاء فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل.

الَّذِينَ آمَنُوا
[المائدة: ١] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني، وتقديم العام وشبه المكي أنسب.
ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.
وقد ختمت المائدة في صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك، وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الوفاء حفظ ما يقتضيه العقد والقيام بموجبه، ويقال: وفى ووفى وأوفى بمعنى، لكن في المزيد مبالغة ليست في المجرد، وأصل العقد الربط محكما. ثم تجوز به عن العهد الموثوق، وفرق الطبرسي بين العقد والعهد، بأن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ولا يكون إلا بين اثنين، والعهد قد يتفرد به واحد، واختلفوا في المراد بهذه العقود على أقوال: أحدها أن المراد به العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وثانيهما العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد الايمان وعقد النكاح وعقد البيع. ونحو ذلك وإليه ذهب ابن زيد وزيد بن
222
أسلم، وثالثها العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة على من ظلم، وروي ذلك عن مجاهد، والربيع وقتادة وغيرهم ورابعها العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل مما يقتضيه التصديق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به، وروي ذلك عن ابن جريج وأبي صالح، وعليه فالمراد من الَّذِينَ آمَنُوا مؤمنو أهل الكتاب وهو خلاف الظاهر، واختار بعض المفسرين أن المراد بها ما يعم جميع ما ألزمه الله تعالى عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به، أو يحسن دينا، ويحمل الأمر على مطلق الطلب ندبا أو وجوبا، ويدخل في ذلك اجتناب المحرمات والمكروهات لأنه أوفق بعموم اللفظ إذ هو جمع محلى باللام وأوفى بعموم الفائدة.
واستظهر الزمخشري كون المراد بها عقود الله تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه لما فيه- كما في الكشف- من براعة الاستهلال والتفصيل بعد الإجمال، لكن ذكر فيه أن مختار البعض أولى لحصول الغرضين وزيادة التعميم، وأن السور الكريمة مشتملة على أمهات التكاليف الدينية في الأصول والفروع. ولو لم يكن إلا تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى واعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨] لكفى، وتعقب بما لا يخلو عن نظر.
وزعم بعضهم أن فيه نزع الخف قبل الوصول إلى الماء، وما استظهره الزمخشري خال عن ذلك. والأمر فيه هين، وفي القول بالعموم رغب الراغب- كما هو الظاهر- فقد قال: العقود باعتبار المعقود، والعاقد ثلاثة أضرب، عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر، وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز الله تعالى معرفته في الإنسان فتوصل إليه إما ببديهة العقل، وإما بأدنى نظر دل عليه قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف: ١٧٢] الآية، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، والثاني أربعة أضرب: فالأول واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول: عليّ أن أصوم إن عافاني الله تعالى، والثاني مستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك، والثالث يستحب ترك الوفاء به، وهو ما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه»،
والرابع واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول: عليّ أن أقتل فلانا المسلم، فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا فافهم ولا تغفل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ شروع في تفصيل الأحكام التي أمر بإيفائها، وبدأ سبحانه بذلك لأنه مما يتعلق بضروريات المعاش، والبهيمة- من ذوات الأرواح ما لا عقل له مطلقا، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وسمي «بهيمة» لعدم تمييزه وإبهام الأمر عليه.
ونقل الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن سبب تسمية البهائم بهائم ليس إلا لكون أمر كلامها وأحوالها أبهم على غالب الخلق لا أن الأمر أبهم عليها، وذكر ما يدل على عقلها وعلمها، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
وقال غير واحد: البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر، وإضافته إلى الأنعام للبيان كثوب خز أي أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها، واعترض بأن البهيمة اسم جنس، والأنعام نوع منه، فإضافتها إليه كإضافة حيوان إنسان وهي مستقبحة، وأجيب بأن إضافة العام إلى الخاص إذا صدرت من بليغ وقصد بذكره فائدة فحسنة- كمدينة بغداد- فإن لفظ بغداد لما كان غير عربي لم يعهد معناه أضيف إليه مدينة لبيان
223
مسماه وتوضيحه- وكشجر الأراك- فإنه لما كان الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد وهكذا وإلا فلغو زائد مستهجن، وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل معناه على ما قيل، ولذا لا يقال: النعم إلا لها أضيف إليه بهيمة إشارة إلى ما قصد به، وذكر البهيمة وإفرادها لإرادة الجنس، وجمع الأنعام ليشمل أنواعها وألحق بها الظباء وبقر الوحش، وقيل: هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب، وروي ذلك عن الكلبي والفراء، وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما، وجوز بعض المحققين في إضافة المشبه للمشبه به كونها بمعنى اللام على جعل ملابسة المشبه اختصاصا بينهما، أي بمعنى من البيانية على جعل المشبه نفس المشبه به، وفائدة هذه الإضافة هنا الإشعار بعلة الحكم المشتركة بين المتضايفين كأنه قيل: أحلت لكم البهيمة المشبهة بالأنعام التي بين إحلالها فيما سبق لكم المماثلة لها في مناط الحكم، وقيل:
المراد ببهيمة الأنعام ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهي ميتة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر- وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم-
فيكون مفاد الآية صريحا حل أكلها، وبه قال الشافعي، واستدل عليه بغير ما خبر، ويفهم منها حل الأنعام، وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لإظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى ذكر المؤخر.
وفي الآية ردّ على المجوس فإنهم حرموا ذبح الحيوانات وأكلها قالوا: لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح خصوصا إيلام من بلغ في العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم.
وزعموا لعنهم الله أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور، والتناسخية لم يجوزوا صدور الآلام منه تعالى ابتداء بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف الجرائم، والتزموا أن البهائم مكلفة عالمة بما يجري عليها من الآلام وأنها مجازاة على فعلها ولولا ذلك لما تصور انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف.
وزعم البعض منهم أنه ما من جنس من البهائم إلا وفيهم نبي مبعوث إليهم من جنسهم، بل زعم آخرون أن جميع الجمادات أحياء مكلفة وأنها مجازاة على ما تقترفه من الخير والشر، ونسب نحوا من ذلك الإمام الشعراني إلى السادة الصوفية، وأبى أهل الظاهر ذلك كل الإباء، ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوانات من الله تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون، ولا يخفى أن ذلك مصادم للبديهة ولا يقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم، وأجاب المعتزلة بما ردّه أهل السنة، وأجابوا بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه، والتحسين والتقبيح العقليان قد طوي بساط الكلام فيهما في علم الكلام وكذا القول بالنور والظلمة، وقال بعض المحققين: لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات وبه تمت نسخة العالم لم يقبح عقلا جعل شيء مما دونه غذاء له مأذونا بذبحه وإيلامه اعتناء بمصلحته حسبما تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار، وقال بعض الناس: الآية مجملة لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو الكل، وفيه نظر لأن ظهور تقدير الأكل مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان، نعم ذكر ابن السبكي وغيره أن قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ مجمل للجهل بمعناه قبل نزول مبينه، ويسري الإجمال إلى ما تقدم، ولكن ذاك ليس محل النزاع، والاستثناء متصل من بَهِيمَةُ بتقدير مضاف محذوف م ما يُتْلى أي إلا محرم ما يُتْلى عَلَيْكُمْ، وعني بالمحرم الميتة وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إلى آخر ما ذكر في الآية الثالثة من السورة، أو من فاعل يُتْلى أي إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ
224
آية تحريمه لتكون ما عبارة عن البهيمة المحرمة لا اللفظ المتلو، وجوز اعتبار التجوز في الإسناد من غير تقدير وليس بالبعيد وأما جعله مفرغا من الموجب في موقع الحال أي إلا كائنة على الحالات المتلوة فبعيد- كما قال الشهاب- جدا، وذهب بعضهم إلى أنه منقطع بناء على الظاهر لأن المتلو لفظ، والمستثنى منه ليس من جنسه والأكثرون على الأول، ومحل المستثنى النصب وجوز الرفع على ما حقق في النحو غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حال من الضمير في لَكُمْ على ما عليه أكثر المفسرين، والصَّيْدِ يحتمل المصدر والمفعول، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال عما استكن في «محل» والحرم جمع حرام وهو المحرم، ومحصل المعنى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الاصطياد، أو أكل الصيد في الإحرام، وفسر الزمخشري عدم إجلال الصيد في حالة الإحرام بالامتناع عنه وهم محرمون حيث قال: كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حالة امتناعكم عن الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ لئلا يكون عليكم حرج، ولم يحمل الاحلال على اعتقاد الحل ظنّا منه أن تقييد الإحلال بعدم اعتقاد الحل غير موجه، وقد يقال:
إن الأمر كذلك لو كان المراد مطلق اعتقاد الحل أما لو كان المراد عدم اعتقاد ناشئ من الشرع ومترتب منه فلا لأن حاله إن لم يكن عين حال الامتناع فليس بالأجنبي عنه كما لا يخفى على المتدبر، وأشار إليه شيخ مشايخنا جرجيس أفندي الاربلي رحمة الله تعالى عليه.
واعترض في البحر على ما ذهب إليه الأكثرون بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم، وهي قد أحلت لهم مطلقا فلا يظهر له فائدة إلا إذا أريد ببهيمة الأنعام الصيود المشبهة بها كالظباء وبقر الوحش وحمره، ودفع بأنه مع عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله تعالى عليهم بما رخص لهم من ذلك وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم.
وعبارة الزمخشري كالصريحة في ذلك، ودفعه العلامة الثاني بأن المراد من الْأَنْعامِ ما هو أعم من الإنسي والوحشي مجازا أو تغليبا أو دلالة أو كيفما شئت، وإحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين الصيد في الإحرام إذ معه يحرم البعض وهو الوحش، ولا يخفى أنه توجيه وحشي لا ينبغي لحمزة- غابة التنزيل- أن يقصده من مراصد عباراته، وذهب الأخفش إلى أن انتصاب غَيْرَ على الحالية من ضمير أَوْفُوا وضعف بأن فيه الفصل من الحال وصاحبها بجملة ليست اعتراضية إذ هي مبينة، وتخلل بعض أجزاء المبين بين أجزاء المبين مع ما يجب فيه من تخصيص العقود بما هو واجب أو مندوب في الحج، وإلا فلا يبقى للتقييد بتلك الحال- مع أنهم مأمورون بمطلق العقود مطلقا- وجه.
وزعم العلامة أنه أقرب من الأول معنى وإن كان أبعد لفظا، واستدل عليه بما هو على طرف الثمام، ثم قال:
ومنهم من جعله حالا من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ ويستلزم جعل وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أيضا حالا من مقدر أي حال كوننا غير محلين الصيد في حال إحرامكم وليس ببعيد إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في اللفظ.
وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا يصير نسيا منسيا فلا يجوز وقوع الحال منه، فقد قالوا: لو قلت: أنزل الغيث مجيبا لدعائهم على أن مجيبا حال من فاعل الفعل المبني للمفعول لم يجز لا سيما على مذهب القائلين: بأن المبني للمفعول صيغة أصلية ليست محولة عن المعلوم على أن في التقييد أيضا مقالا، وجعله بعضهم حالا من الضمير المجرور في عَلَيْكُمْ ويرده أن الذي يُتْلى لا يتقيد بحال انتفاء
225
إحلالهم الصيد وهم حرم، بل هو يتلى عليهم في هذه الحال وفي غيرها، ونقل العلامة البيضاوي عن بعض أن النصب على الاستثناء، وذكر أن فيه تعسفا، وبينه مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله أفندي الحيدري عليه الرحمة بأنه لو كان استثناء لكان إما من الضمير في لَكُمْ أو في أَوْفُوا إذ لا جواز لاستثنائه من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وعلى الأول يجب أن يخص البهيمة بما عدا الأنعام مما يماثلها، أو تبقى على العموم لكن بشرط إدارة المماثل فقط في حيز الاستثناء، وأن يجعل قوله تعالى: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ من تتمة المستثنى بأن يكون حالا عما استكن في مُحِلِّي ليصح الاستثناء إذ لا صحة له بدون هذين الاعتبارين، فسوق العبارة يقتضي أن يقال: وهم حرم لأن الاستثناء أخرج المحلين من زمرة المخاطبين، واعتبار الالتفات هنا بعيد لكونه رافعا فيما هو بمنزلة كلمة واحدة، وعلى الثاني يجب تخصيص العقود بالتكاليف الواردة في الحج، وتأويل الكلام الطلبي بما يلزمه من الخبر مع ما يلزمه من الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بالأجنبي، وكل ذلك تعسف أي تعسف انتهى، وكأنه رحمه الله تعالى لم يذكر احتمال كون الاستثناء من الاستثناء، مع أن القرطبي نقله عن البصريين لأن ذلك فاسد- كما قاله القرطبي وأبو حيان- لا متعسف إذ يلزم عليه إباحة الصيد في الحرم لأن المستثنى من المحرم حلال، نعم ذكر أبو حيان أنه استثناء من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ على وجه عينه وأنفه التكلف والتعسف فقد قال رحمه الله تعالى: إنما عرض الإشكال في الآية حتى اضطرب الناس في تخريجها من كون رسم مُحِلِّي بالياء فظنوا أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة، وأصل غير محلين الصيد.
والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى النساء الحسان، وكذا هذا أصله غير الصيد المحل، والمحلّ صفة للصيد لا للناس، ووصف الصيد بأنه محل، إما بمعنى داخل في الحل كما تقول أحل الرجل أي دخل في الحل، وأحرم أي دخل في الحرم، أو بمعنى صار ذا حل أي حلالا بتحليل الله تعالى، ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب، فمن الأول أعرق وأشأم وأيمن وأنجد وأتهم، ومن الثاني أعشبت الأرض وأبقلت، وأغد البعير، وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار الوجهين اتضح كونه استثناء ثانيا، ثم إن كان المراد ب بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أنفسها فهو استثناء منقطع، أو الظباء ونحوها فمتصل على تفسير المحل بالذي يبلغ الحل في حال كونهم محرمين، «فإن قلت» ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضا؟.
قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، والقصد بيان تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم.
فإن قلت: ما ذكرته من هذا التوجيه الغريب يعكر عليه رسمه في المصحف بالياء والوقف عليه بها.
قلت: قد كتبوا في المصحف أشياء تخالف النطق نحو «لأذبحنه» بالألف، والوقف اتبعوا فيه الرسم انتهى.
وتعقبه السفاقسي بمثل ما قدمناه من حيث زيادة الياء، وفيها التباس المفرد بالجمع وهم يفرّون من زيادة أو نقصان في الرسم، فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس؟ ومن حيث إضافة الصفة للموصوف وهو غير مقيس، وقال الحلبي: إن فيه خرقا للإجماع فإنهم لم يعربوا غير إلا حالا، وإنما اختلفوا في صاحبها، ثم قال السفاقسي: ويمكن فيه تخريجان: أحدهما أن يكون غير استثناء منقطعا، ومُحِلِّي جمع على بابه، والمراد به الناس الداخلون حل الصيد، أي لكن إن دخلتم حل الصيد فلا يجوز لكم الاصطياد، والثاني أن يكون متصلا من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ، وفي الكلام حذف مضاف، أي أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل الاصطياد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فلا يحل، ويحتمل أن يكون على بابه من التحليل، ويكون الاستثناء متصلا والمضاف محذوف، أي إلا صيد محلي الاصطياد وَأَنْتُمْ
226
حُرُمٌ
، والمراد بالمحلين الفاعلون فعل من يعتقد التحليل فلا يحل، ويكون معناه أن صيد الحرم كالميتة لا يحل أكله مطلقا، ويحتمل أن يكون حالا من ضمير لكم، وحذف المعطوف للدلالة عليه وهو كثير، وتقديره غير محلي الصيد محليه كما قال تعالى: تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] أي والبرد، وهو تخريج حسن.
هذا ولا يخفى أن يد الله تعالى مع الجماعة، وأن ما ذكره غيرهم لا يكاد يسلم من الاعتراض.
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تقف دونها الأفكار، فيدخل فيها ما ذكره من التحليل والتحريم دخولا أوليا، وضمن يَحْكُمُ معنى يفعل، فعداه بنفسه وإلا فهو متعد بالياء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لما بين سبحانه حرمة إحلال الحرم الذي هو من شعائر الحج عقب جل شأنه ببيان إحلال سائر الشعائر، وهو جمع شعرة، وهي اسم لما أشعر، أي جعل شعارا وعلامة للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر، وإضافتها إلى الله تعالى لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها، والمراد منه التهاون بحرمتها، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، وروي عن عطاء أنه فسر الشعائر بمعالم حدود الله تعالى وأمره ونهيه وفرضه، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بها العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم، ومعنى إحلالها عنده مجاوزتها إلى مكة بغير إحرام، وقيل: هي الصفا والمروة، والهدي من البدن وغيرها، وروي ذلك عن مجاهد وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أي لا تحلوه بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين- كما روي عن ابن عباس وقتادة- أو بالنسيء كما نقل عن القتيبي، والأول هو الأولى بحال المؤمنين.
واختلف في المراد منه فقيل: رجب، وقيل: ذو القعدة، وروي ذلك عن عكرمة، وقيل: الأشهر الأربعة الحرم، واختاره الجبائي والبلخي، وإفراده لإرادة الجنس وَلَا الْهَدْيَ بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع من أن يبلغ محله، والمراد به ما يهدى إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء، وهو جمع هدية- كجدي وجدية- وهي ما يحشى تحت السرج والرحل، وخص ذلك بالذكر بناء على دخوله في الشعائر لأن فيه نفعا للناس، ولأنه مالي قد يتساهل فيه، وتعظيما له لأنه من أعظمها وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له، والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي وهي البدن، وخصت بالذكر تشريفا لها واعتناء بها، أو التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها كما في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: ٣١] فإنهن إذا نهين عن إظهار الزينة كالخلخال والسوار علم النهي عن إبداء محلها بالطريق الأولى، ونقل عن أبي علي الجبائي أن المراد النهي عن إحلال نفس القلائد، وإيجاب التصدق بها إن كانت لها قيمة، وروي ذلك عن الحسن، وروي عن السدي أن المراد من القلائد أصحاب الهدي فإن العرب كانوا يقلدون من لحاء شجر مكة يقيم الرجل بمكة حتى إذا انقضت الأشهر الحرم، وأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله، وقال الفراء: أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر، وغير أهل الحرم كانوا يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما، وعن الربيع وعطاء أن المراد نهي المؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يقلدون به كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي ولا تحلوا أقواما قاصدين البيت الحرام بأن تصدوهم عنه بأي وجه كان، وجوز أن يكون على حذف مضاف أي قتال قوم أو أذى قوم آمِّينَ.
وقرىء- ولا آمي البيت الحرام- بالإضافة، والْبَيْتَ مفعول به لا ظرف، ووجه عمل اسم الفاعل فيه ظاهر، وقوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً حال من المستكن في آمِّينَ، وجوز أن يكون صفة،
227
وضعف بأن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الذي عمل بالحمل عليه لأن الموصوفية تبعد الشبه بأنها من خواص الأسماء، وأجيب بأن الوصف إنما يمنع من العمل إذا تقدم المعمول، فلو تأخر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه كما صرح به صاحب اللب وغيره، وتنكير فَضْلًا وَرِضْواناً للتفخيم، ومِنْ رَبِّهِمْ متعلق بنفس الفعل، أو بمحذوف وقع صفة- لفضلا- مغنية عن وصف ما عطف عليه بها، أي فضلا كائنا من ربهم ورضوانا كذلك، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعار بحصول مبتغاهم، والمراد بهم المسلمون خاصة، والآية محكمة.
وفي الجملة إشارة إلى تعليل النهي واستنكار المنهي عنه كذا قيل، واعترض بأن التعرض للمسلمين حرام مطلقا سواء كانوا آمين أم لا؟ فلا وجه لتخصيصهم بالنهي عن الإحلال، ولذا قال الحسن وغيره: المراد بالآمين هم المشركون خاصة، والمراد من الفضل حينئذ الربح في تجاراتهم، ومن الرضوان ما في زعمهم، ويجوز إبقاء الفضل على ظاهره إذا أريد ما في الزعم أيضا لكنه لما أمكن حمله على ما هو في نفس الأمر كان حمله عليه أولى، ويؤيد هذا القول إن الآية نزلت- كما قال السدي وغيره- في رجل من بني ربيعة يقال له الحطيم بن هند، وذلك
أنه أتى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وحده وخلف خيله خارج المدينة فقال: إلام تدعو الناس؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فقال: حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده، فلما خرج قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وما الرجل بمسلم، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول:
قد لفها بسواق حطم... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بخوار على ظهر قطم... باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم... مدملج الساقين ممسوح القدم
فطلبه المسلمون فعجزوا، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام قضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة فقال صلّى الله عليه وسلّم: هذا الحطيم وأصحابه فدونكموه وكان قد قلد ما نهب من السرح وجعله هديا فلما توجهوا لذلك نزلت الآية فكفوا.
وروي عن ابن زيد «أنها نزلت يوم فتح مكة في فوارس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون: يا رسول الله هؤلاء المشركون مثل هؤلاء، دعنا نغير عليهم، فأنزل الله سبحانه الآية»
واختلف القائلون بأن المراد من الآمين المشركون في النسخ وعدمه، فعن ابن جريج أنه لا نسخ لأنه يجوز أن يبتدىء المشركون في الأشهر الحرم بالقتال، وأنت تعلم أن الآية ليست نصا في القتال على تقدير تسليم ما في حيز التعليم، وقال أبو مسلم:
إن الآية منسوخة بقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: ٢٨]، وقيل: بآية السيف، وقيل:
بهما، وقيل: لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد، وروي ذلك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وادعى بعضهم أن المراد بالآمين كافة المسلمين والمشركين وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، والنسخ حينئذ في حق المشركين خاصة.
وبعض الأئمة يسمي مثل ذلك تخصيصا كما حقق في الأصول، ولا بد على هذا من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين، وقرأ حميد بن قيس الأعرج تبتغون بالتاء على خطاب المؤمنين، والجملة على ذلك حال من ضمير المخاطبين في لا تُحِلُّوا على أن المراد بيان منافاة حالهم هذه للمنهي عنه لا تقييد النهي بها، واعترض بأنه لو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم وربهم وأجيب بأن ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأن ربهم يحميهم ولا يرضى بما فعلوه وفيه بلاغة لا تخفى. وإشارة إلى ما مر من أن الله تعالى رب العالمين لا المسلمين فقط، وقال
228
شيخ الإسلام: إن إضافة الرب إلى ضمير آمِّينَ على قراءة الخطاب للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى، وفي ذلك من تعليل النهي وتأكيده والمبالغة في استنكار المنهي عنه ما لا يخفى وَإِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام المشار إليه بقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فَاصْطادُوا أي فلا جناح عليكم بالاصطياد لزوال المانع، فالأمر للإباحة بعد الحظر ومثله لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي إذا أديت أبيح لك دخولها، وإلى كون الأمر للإباحة بعد الحظر ذهب كثير.
وقال صاحب القواطع: إنه ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن، ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء والمتكلمين لأن سبق الحظر قرينة صارفة، وهو أحد ثلاثة مذاهب في المسألة، ثانيها أنه للوجوب لأن الصيغة تقتضيه، ووروده بعد الحظر لا تأثير له، وهو اختيار القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق والسمعاني والإمام في المحصول، ونقله الشيخ أبو حامد الأسفرايني في كتابه عن أكثر الشافعية، ثم قال: وهو قول كافة الفقهاء وأكثر المتكلمين، وثالثها الوقف بينهما، وهو قول إمام الحرمين مع كونه أبطل الوقف في لفظه ابتداء من غير تقدم حظر، ولا يبعد على- ما قاله الزركشي- أن يقال هنا برجوع الحال إلى ما كان قبل، كما قيل في مسألة النهي الوارد بعد الوجوب. ومن قال: إن حقيقة الأمر المذكور للإيجاب قال: إنه مبالغة في صحة المباح حتى كأنه واجب، وقيل: إن الأمر في مثله لوجوب اعتقاد الحل فيكون التجوز في المادة كأنه قيل: اعتقدوا حل الصيد وليس بشيء، وقرىء- أحللتم- وهو لغة في حل، وعن الحسن أنه قرىء فَاصْطادُوا بكسر الفاء بنقل حركة همزة الوصل عليها، وضعفت من جهة العربية بأن النقل إلى المتحرك مخالف للقياس، وقيل: إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل أمال لإمالة الطاء، وإن كانت من المستعلية وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم كما فسره به قتادة، ونقل عن ثعلب والكسائي وغيرهما، وأنشدوا له بقوله:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن تغضبا
فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه، وإلى الآخر بعلى، وقال الفراء وأبو عبيدة: المعنى لا يكسبنكم، وجرم جار مجرى كسب في المعنى، والتعدي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال: جرم ذنبا نحو كسبه، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه، وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني، ومنه الجريمة، وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه، وقد يقال: أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كما يقال: أكسبته ذنبا، وعليه قراءة عبد الله «لا يجرمنكم» بضم الياء شَنَآنُ قَوْمٍ بفتح النون وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم، وإسماعيل عن نافع بسكونها، وفيهما احتمالان: الأول أن يكونا مصدرين بمعنى البغض أو شدته شذوذا لأن فعلان بالفتح مصدر ما يدل على الحركة- كجولان- ولا يكون لفعل متعد كما قال: س، وهذا متعد إذ يقال: شنئته، ولا دلالة له على الحركة إلا على بعد، وفعلان بالسكون في المصادر قليل نحو- لويته ليانا- بمعنى مطلته، والثاني أن يكونا صفتين لأن فعلان في الصفات كثير كسكران، وبالفتح ورد فيها قليلا- كحمار قطوان عسر السير، وتيس عدوان كثير العدو- فإن كان مصدرا فالظاهر أن إضافته إلى المفعول أي إن تبغضوا قوما، وجوز أن تكون إلى الفاعل أي إن يبغضكم قوم، والأول أظهر- كما في البحر- وإن كان وصفا فهو بمعنى بغيض، وإضافته بيانية وليس مضافا إلى مفعوله أو فاعله كالمصدر أي البغيض من بينهم أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنه علة- للشنآن- أي لأن صدوكم عام الحديبية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن أَنْ شرطية، وما قبلها دليل الجواب، أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه، وأورد على ذلك أنه لا صد بعد فتح مكة.
229
وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصدّ السابق على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض، وذلك كقوله تعالى: أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم، وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ بعد ظهور الإسلام وقوته، ويعلم منه النهي عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي عن زيارته والطواف به للعمرة، وهذه- كما قال شيخ الإسلام- آية بينة في عموم آمِّينَ للمشركين قطعا، وجعلها البعض دليلا على تخصيصه بهم أَنْ تَعْتَدُوا أي عليهم، وحذف تعويلا على الظهور، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم، وأن على حذف الجار أي على أن تعتدوا، والمحل بعده إما جر، أو نصب على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي، أو لا حذف، والمنسبك ثاني مفعولي يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم، وهذا على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشنآن عما نسب إليه لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية، ويقال: لا أرينك هاهنا والمقصود نهي المخاطب على الحضور.
ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون إشارة وإدماجا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلا من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ.
وقال شيخ الإسلام: لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمّين بالطريق الأولى، ولعله الأولى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى عطف على وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ من حيث المعنى كأنه قيل: لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء، وقال بعضهم: هو استئناف والوقف على أَنْ تَعْتَدُوا لازم، واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقا، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون تذييلا للكلام، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج، فقد قال تعالى: فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: ٣٢] ويدخل العفو والإغضاء أيضا دخولا أوليا، وعلى العموم أيضا حمل قوله تعالى: وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فيعم النهي كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي، ويندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنهما فسرا الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه، والعدوان بمجاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم، وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود بالذات، وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أمر بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي، ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني.
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لا يتقيه، وهذا في موضع التعليل لما قبله، وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله سبحانه: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ والمراد تحريم أكل الميتة، وهي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه وَالدَّمُ أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه، وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح، وأما الطحال فالأكثرون على
230
إباحته، وأجمعت الإمامية على حرمته،
ورويت الكراهة فيه عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن مسعود رضي الله تعالى عنه وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ إقحام اللحم لما مر، وأخذ داود وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا غيره، وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره، وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة أنه قال: «من أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فإن تاب وإلا قتل» وهو غريب، ولعل ذلك لأن أكله صار اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار، وفيه تأمل وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي رفع الصوت لغير الله تعالى عند ذبحه، والمراد بالإهلال هنا ذكر ما يذبح له- كاللات والعزى- وَالْمُنْخَنِقَةُ قال السدي: هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وقال الضحاك وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد فتموت.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان أهل الجاهلية يخنقون البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين، والأولى أن تحمل على التي ماتت بالخنق مطلقا وَالْمَوْقُوذَةُ أي التي تضرب حتى تموت، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة والسدي، وهو من وقذته بمعنى ضربته، وأصله أن تضربه حتى يسترخي، ومنه وقذه النعاس أي غلب عليه وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي التي تقع من مكان عال أو في بئر فتموت وَالنَّطِيحَةُ أي التي ينطحها غيرها فتموت، وتاؤها للنقل فلا يرد أن فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء، وقال بعض الكوفيين: إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل- كف خضيب وعين كحيل- وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه، ولا حاجة إلى القول بأنها للنقل، وقرىء والمنطوحة وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي ما أكل منه السبع فمات وفسر بذلك لأن ما أكله كله لا يتعلق به حكم ولا يصح أن يستثنى منه قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه
وعن السيدين السندين الباقر والصادق رضي الله تعالى عنهما أن أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن أو الذنب أو الجفن،
وبه قال الحسن وقتادة وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد، وقال بعضهم: يشترط الحياة المستقرة وهي التي لا تكون على شرف الزوال وعلامتها على ما قيل: أن يضطرب بعد الذبح لا وقته، وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع على تقدير إبقائه على ظاهره، وقيل: هو استثناء من التحريم لا من المحرمات، والمعنى حرم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه حلال لكم.
وروي ذلك عن مالك وجماعة من أهل المدينة، واختاره الجبائي، والتذكية في الشرع قطع الحلقوم والمريء بمحدد، والتفصيل في الفقه، واستدل بالآية على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحل.
وقرأ الحسن: «السبع» بسكون الباء، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وأكيل السبع.. وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جمع نصاب كحمر وحمار، وقيل: واحد الأنصاب كطنب وأطناب، واختلف فيها فقيل هي حجارة كانت حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين حجرا، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها- فعلى- على أصلها، ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير الله تعالى وقيل: هي الأصنام لأنها تنصب فتعبد من دون الله تعالى، وعَلَى إما بمعنى اللام، أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام.
واعترض بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله سبحانه: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والأمر في ذلك هين، والموصول معطوف على المحرمات، وقرىء النُّصُبِ بضم النون وتسكين الصاد تخفيفا، وقرىء بفتحتين، وبفتح فسكون وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ جمع زلم- كجمل- أو زلم- كصرد- وهو القدح، أي وحرم عليكم الاستقسام بالأقداح
231
وذلك أنهم- كما روي عن الحسن وغيره- إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي وأبقوا الثالث غفلا لم يكتب عليه شيء فإن خرج الآمر مضوا لحاجتهم، وإن خرج الناهي تجنبوا، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام، واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة التفاؤل، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحب الفأل.
وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم كما يشير إلى ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم إذا أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا ما فعلوا فلهذا صار حراما، وقيل: لأن فيه افتراء على الله تعالى إن أريد- بربي- الله تعالى، وجهالة وشركا إن أريد به الصنم، وقيل: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به، واعترض بأنا لا نسلم أن الدخول في علم الغيب حرام، ومعنى استئثار الله تعالى بعلم الغيب أنه لا يعلم إلا منه، ولهذا صار استعلام الخير والشر من المنجمين والكهنة ممنوعا حراما بخلاف الاستخارة من القرآن فإنه استعلام من الله تعالى، ولهذا أطبقوا على جوازها ومن ينظر في ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لا يطلب إلا علم الغيب منه سبحانه فلو كان طلب علم الغيب حراما لا نسد طريق الفكر والرياضة، ولا قائل به.
وقال الإمام رحمه الله تعالى: لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن يكون علم التعبير كفرا لأنه طلب للغيب، وأن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا، ومعلوم أن كل ذلك باطل، وتعقب القول- بجواز الاستخارة بالقرآن- بأنه لم ينقل فعلها عن السلف، وقد قيل: إن الإمام مالكا كرهها. وأما ما في فتاوى الصوفية نقلا عن الزندوستي من أنه لا بأس بها وأنه قد فعلها علي كرم الله تعالى وجهه ومعاذ رضي الله تعالى عنه.
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال:- من أراد أن يتفاءل بكتاب الله تعالى فليقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: ١] سبع مرات، وليقل ثلاث مرات: اللهم بكتابك تفاءلت، وعليك توكلت، اللهم أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرك المكنون في غيبك، ثم يتفاءل بأول الصحيفة- ففي النفس منه شيء.
وفي كتاب الأحكام للجصاص أن الآية تدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذا كان فيها إثبات ما أخرجته القرعة من غير استحقاق كما إذا أعتق أحد عبيده عند موته على ما بين في الفقه، ولا يرد أن القرعة قد جازت في قسمة الغنائم مثلا، وفي إخراج النساء لأنا نقول: إنها فيما ذكر لتطييب النفوس والبراءة من التهمة في إيثار البعض ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة، وأما الحرية الواقعة على واحد من البعيد فيما نحن فيه فغير جائز نقلها عنه إلى غيره، وفي استعمال القرعة النقل، وخالف الشافعي في ذلك، فجوز القرعة في العتق كما جوزها في غيره، وظواهر الأدلة معه، وتحقيق ذلك في موضعه.
والحق عندي أن الاستقسام الذي كان يفعله أهل الجاهلية حرام بلا شبهة كما هو نص الكتاب، وأن حرمته ناشئة من سوء الاعتقاد، وأنه لا يخلو عن تشاؤم، وليس بتقاؤل محض، وإن مثل ذلك ليس من الدخول في علم الغيب أصلا بل هو من باب الدخول في الظن، وأن الاستخارة بالقرآن مما لم يرد فيها شيء يعول عليه عن الصدر الأول، وتركها أحب إليّ لا سيما وقد أغنى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم عنها بما سن من الاستخارة الثابتة في غير ما خبر صحيح، وأن تصديق المنجمين فيما ليس من جنس الخسوف والكسوف مما يخبرون به من الحوادث المستقبلة محظور وليس من علم الغيب ولا دخولا فيه، وإن زعمه الزجاج لبنائه على الأسباب، ونقل الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم عن القاضي كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب: أحدها أن يكون للإنسان رئي من الجن يخبره به بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم بطل من حين بعث الله تعالى نبينا صلّى الله عليه وسلّم الثاني أن يخبره بما يطرأ ويكون في
232
أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام، الثالث المنجمون وهذا الضرب بخلق الله تعالى في بعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة فصاحبها عرّاف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها- كالزجر والطرق بالحصى- وهذه الأضراب كلها تسمى كهانة، وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم انتهى.
ولعل النهي عن ذلك لغلبة الكذب في كلامهم ولأن في تصديقهم فتح باب يوصل إلى لظى إذ قد يجر إلى تعطيل الشريعة والطعن فيها لا سيما من العوام، واستثناء ما هو من جنس الكسوف والخسوف لندرة خطئهم فيه بل لعدمه إذا أمكنوا الحساب، ولا كذلك ما يخبرون به من الحوادث إذ قد بنوا ذلك على أوضاع السيارات بعضها مع بعض، أو مع بعض الثوابت ولا شك أن ذلك لا يكفي في الغرض والوقوف على جميع الأوضاع، وما تقتضيه مما يتعذر الوقوف عليه لغير علام الغيوب فليفهم، وقيل: المراد بالاستقسام استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة أي طلب قسم من الجزور أو ما قسمه الله تعالى عنهم، ورجح بأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام، وروي عن مجاهد أنه فسر الأزلام بسهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها.
وعن وكيع أنها أحجار الشطرنج ذلِكُمْ أي الاستقسام بالأزلام، ومعنى البعد فيه الإشارة إلى بعد منزلته في الشر فِسْقٌ أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته لما أشرنا إليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلِكُمْ إشارة إلى تناول جميع ما تقدم من المحرمات المعلوم من السياق الْيَوْمَ أي الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية، وقيل: يوم نزول الآية، وروي ذلك عن ابن جريج ومجاهد وابن زيد، وكان- كما رواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه- عصر يوم الجمعة عرفة حجة الوداع، وقيل: يوم دخوله صلّى الله عليه وسلّم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، وقيل: سنة ثمان، وهو منصوب على الظرفية بقوله تعالى: يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ
واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع.
والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها، أو من أن يغلبوكم عليه لما شاهدوا أن الله تعالى وفى بوعده حيث أظهره على الدين كله.
وروي أنه لما نزلت الآية نظر صلّى الله عليه وسلّم في الموقف فلم ير إلا مسلما، ورجح هذا الاحتمال بأنه الأنسب بقوله سبحانه: فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس وَاخْشَوْنِ أن أحل بكم عقابي إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر والإظهار لأنهم بذلك يجرون أحكام الدين من غير مانع وبه تمامه، وهذا كما تقول: تم لي الملك إذا كفيت ما تخافه، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وعن ابن عباس والسدي أن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي بتنزيل ما أنزلت وبيان ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم، وكان يوم عرفة عام حجة الوداع، واختاره الجبائي والبلخي وغيرهما، وادعوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تحليل ولا تحريم، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يلبث بعد سوى أحد وثمانين يوما، ومضى- روحي فداه- إلى الرفيق الأعلى صلّى الله عليه وسلّم.
وفهم عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع الآية نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عنترة «أن عمر رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت»
ولا يحتج بها على هذا القول على إبطال
233
القياس- كما زعم بعضهم- لأن المراد إكمال الدين نفسه ببيان ما يلزم بيانه، ويستنبط منه غيره والتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد، وروي عن سعيد بن جبير وقتادة أن المعنى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ حجكم وأقررتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين- واختاره الطبري- وقال: يرد على ما روي عن ابن عباس والسدي رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل بعد ذلك آية الكلالة وهي آخر آية نزلت، واعترض بالمنع، وتقديم الجار للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم، وفيه أيضا تشويق إلى ذكر المؤخر كما في قوله تعالى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وليس الجار فيه متعلقا- بنعمتي- لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله، وقيل: متعلق به ولا بأس بتقدم معمول المصدر إذا كان ظرفا، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكة، ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكها، والنهي عن حج المشركين وطواف العريان، وقيل: بإتمام الهداية والتوفيق بإتمام سببهما، وقيل: بإكمال الدين، وقيل: بإعطائهم من العلم والحكمة ما لم يعطه أحدا قبلهم، وقيل: معنى أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أنجزت لكم وعدي بقوله سبحانه: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي اخترته لكم من بين الأديان، وهو الدين عند الله تعالى لا غير وهو المقبول وعليه المدار.
وأخرج ابن جبير عن قتادة قال: «ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير حتى يجيء الإسلام فيقول: رب أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول: إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزي»
وقد نظر في الرضا معنى الاختيار ولذا عدي باللام، ومنهم من جعل الجار- صفة لدين- قدم عليه فانتصب حالا، والْإِسْلامَ ودِيناً مفعولا رَضِيتُ إن ضمن معنى صير، أو دِيناً منصوب على الحالية من الإسلام، أو تمييز من لَكُمْ والجملة- على ما ذهب إليه الكرخي- مستأنفة لا معطوفة على أَكْمَلْتُ وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرض لهم الإسلام قبل ذلك اليوم دينا، وليس كذلك إذ الإسلام لم يزل دينا مرضيا لله تعالى وللنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم منذ شرع والجمهور على العطف، وأجيب عن التقييد بأن المراد برضاه سبحانه حكمه جل وعلا باختياره حكما أبديا لا ينسخ وهو كان في ذلك اليوم.
وأخرج الشيعة عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت بعد أن قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي كرم الله تعالى وجهه في غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه فلما نزلت قال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب برسالتي وولاية علي كرم الله تعالى وجهه بعدي،
ولا يخفى أن هذا من مفترياتهم، وركاكة الخبر شاهدة على ذلك في مبتدأ الأمر، نعم ثبت عندنا
أنه صلّى الله عليه وسلّم قال في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه هناك: من كنت مولاه فعلي مولاه
وزاد على ذلك- كما في بعض الروايات- لكن لا دلالة في الجميع على ما يدعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى كما سيأتي إن شاء الله تعالى غير بعيد.
وقد بسطنا الكلام عليه في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية ولم يتم إلى الآن ونسأل الله تعالى إتمامه، ورواياتهم في هذا الفصل ينادي لفظها على وضعها، وقد أكثر منها يوسف إلا والى عليه ما عليه فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات وما بينهما، وهو سبع جمل- على ما قال الطيبي- اعتراض بما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسق عظيم، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي، والاضطرار الوقوع في الضرورة، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من هذه المحرمات فِي مَخْمَصَةٍ أي مجاعة تخمص لها البطون أن تضمر يخاف معها أو مبادئه غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائدا على ما يمسك رمقه، فإن ذلك حرام- كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم- وبه قال أهل العراق، وقال أهل
234
المدينة: يجوز أن يشبع عند الضرورة، وقيل: المراد غير عاص بأن يكون باغيا، أو عاديا بأن ينتزعها من مضطر آخر أو خارجا في معصيته، وروي هذا أيضا عن قتادة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه بأكله وهو الجواب في الحقيقة، وقد أقيم سببه مقامه، وقيل: إنه مقدر في الكلام يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ شروع في تفصيل المحللات التي ذكر بعضها على وجه الإجمال إثر بيان المحرمات،
أخرج ابن جرير والبيهقي في سننه وغيرهما عن أبي رافع قال: «جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال عليه الصلاة والسلام: قد أذنا لك قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني صلّى الله عليه وسلّم أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت، وجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى يسألونك الآية.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن السائل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السائل عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيان، وقد ضمن السؤال معنى القول، ولذا حكيت به الجملة كما تحكى بالقول، وليس معلقا لأنه وإن لم يكن من أفعال القلوب لكنه سبب للعلم وطريق له، فيعلق كما يعلق خلافا لأبي حيان، فاندفع ما قيل: إن السؤال ليس مما يعمل في الجمل ويتعدى بحرف الجر، فيقال: سئل عن كذا، وادعى بعضهم لذلك أنه بتقدير مضاف أي جواب ماذا، والأول مختار الأكثرين، وضمير الغيبة دون ضمير المتكلم الواقع في كلامهم لما أن يسألون بلفظ الغيبة كما تقول: أقسم زيد ليضربن، ولو قلت: لأضربن جاز، والمسئول نظرا للكلام السابق ما أحل من المطاعم والمآكل، وقيل: إن المسئول ما أحل من الصيد والذبائح قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه، وإلى ذلك ذهب البلخي، وعن أبي علي الجبائي وأبي مسلم هي ما أذن سبحانه في أكله من المأكولات والذبائح والصيد، وقيل: ما لم يرد بتحريمه نص أو قياس، ويدخل في ذلك الإجماع إذ لا بد من استناده لنص وإن لم نقف عليه، والطيب- على هذين القولين- بمعنى الحلال، وعلى الأول بمعنى المستلذ، وقد جاء بالمعنيين وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على الطيبات بتقدير مضاف على أن ما موصولة، والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه، قيل: والمراد مصدره لأنه الذي أحل بعطفه على الطَّيِّباتُ من عطف الخاص على العام، وقيل: الظاهر أنه لا حاجة إلى جعل الصيد بمعنى المصيد لأنه الحل والحرمة مما يتعلق بالفعل، ويحتمل أن تكون ما شرطية مبتدأ، والجواب فكلوا، والخبر الجواب، والشرط على المختار، والجملة عطف على جملة أُحِلَّ لَكُمُ ولا يحتاج إلى تقدير مضاف.
ونقل عن الزمخشري أنه قال بالتقدير فيه، وقال تقديره لا يبطل كون ما شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط في حكم المضاف إليه- كما تقول- غلام من يضرب أضرب- كما تقول- من يضرب أضرب، وتعقب بأنه على ذلك التقدير يصير الخبر خاليا عن ضمير المبتدأ إلا أن يتكلف بجعل مِمَّا أَمْسَكْنَ من وضع الظاهر موضع ضمير ما عَلَّمْتُمْ فافهم، وجوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة أيضا، والخبر كلوا، والفاء إنما دخلت تشبيها للموصول باسم الشرط لكنه خلاف الظاهر، ومِنَ الْجَوارِحِ حال من الموصول، أو من ضميره المحذوف، والْجَوارِحِ جمع جارحة، والهاء فيها- كما قال أبو البقاء- للمبالغة، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر معها الموصوف، وفسرت بالكواسب من سباع البهائم والطير، وهو من قولهم: جرح فلان أهله خيرا إذا أكسبهم، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم، وقيل: سميت جوارح لأنها تجرح الصيد غالبا.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما والسدي والضحاك- وهو
المروي عن أئمة أهل البيت بزعم الشيعة- أنها
235
الكلاب فقط
مُكَلِّبِينَ أي معلمين لها الصيد، والمكلب مؤدب الجوارح ومضربها بالصيد، وهو مشتق من الكلب لهذا الحيوان المعروف لأن التأديب كثيرا ما يقع فيه أو لأن كل سبع يسمى كلبا على ما قيل،
فقد أخرج الحاكم في المستدرك- وقال: صحيح الإسناد- من حديث أبي نوفل قال: «كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم:
اللهم سلط عليه كلبا من كلابك- أو كلبك- فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا منزلا فيه سباع فقال: إني أخاف دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء أسد فانتزعه وذهب به»
،
ولا يخفى أن في شمول ذلك لسباع الطير نظرا، ولا دلالة في تسمية الأسد كلبا عليه.
وجوز أن يكون مشتقا من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به، وانتصابه على الحالية من فاعل عَلَّمْتُمْ، وفائدتها المبالغة في التعليم لما أن المكلب لا يقع إلا على النحرير في علمه، وعن ابن عباس وابن مسعود والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم قرؤوا مُكَلِّبِينَ بالتخفيف من أكلب، وفعل وأفعل قد يستعملان بمعنى واحد تُعَلِّمُونَهُنَّ حال من ضمير مُكَلِّبِينَ أو استئنافية إن لم تكن ما شرطية وإلا فهي معترضة، وجوز أن تكون حالا ثانية من ضمير عَلَّمْتُمْ ومنع ذلك أبو البقاء بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين وفيه نظر، ولم يستحسن جعلها حالا من الْجَوارِحِ للفصل بينهما.
مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الحيل وطرق التعليم والتأديب، وذلك إما بالإلهام منه سبحانه، أو بالعقل الذي خلقه فيهم جل وعلا، وقيل: المراد مما عرفكم سبحانه أن تعلموه من اتباع الصيد بأن يسترسل بإرسال صاحبه وينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه.
ورجح بدلالته على أن المعلم ينبغي أن يكون مكلبا فقيها أيضا، ومن- أجلية، وقيل: تبعيضية أي بعض ما علمكم الله فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة مبينة للمضاف المقدر ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره، أو جواب للشرط، أو خبر للمبتدأ، ومن- تبعيضية إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم وغير ذلك، وقيل: «زائدة على رأي الأخفش وخروج ما ذكر بديهي وما موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف أي أمسكنه، وضمير المؤنث للجوارح، وعَلَيْكُمْ متعلق بأمسكن، والاستعلاء مجازي والتقييد بذلك لإخراج ما أمسكنه على أنفسهن، وعلامته أن يأكلن منه فلا يؤكل منه وقد أشار إلى ذلك صلّى الله عليه وسلّم،
روى أصحاب السنن عن عدي بن حاتم قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن صيد الكلب المعلم فقال عليه الصلاة والسلام: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك، فإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه»

وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه والشعبي وعكرمة، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه: إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده، ويؤكل صيد البازي ونحوه وإن أكل، لأن تأديب سباع الطير إلى حيث لا تؤكل متعذر، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج عبد بن حميد عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل، لأن الكلب تستطيع أن تضربه، والصقر لا تستطيع أن تضربه، وعليه إمام الحرمين من الشافعية، وقال مالك والليث: يؤكل وإن أكل الكلب منه، وقد روي عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وقد ذكرت اسم الله تعالى عليه فكل وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير- لما علمتم- كما يدل عليه الخبر السابق، والمعنى سموا عليه عند إرساله وروي ذلك عن ابن عباس والحسن والسدي، وقيل:- لما أمسكن- أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته، وقيل: للمصدر المفهوم من- كلوا- أي سموا الله تعالى على الأكل- وهو بعيد- وإن استظهره أبو حيان، والأمر
236
للوجوب عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وللندب عند الشافعي، وهو على القول الأخير للندب بالاتفاق وَاتَّقُوا اللَّهَ في شأن محرماته، ومنها أكل صيد الجوارح الغير المعلمة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي سريع إتيان حسابه، أو سريع إتمامه إذا شرع فيه، فقد جاء- أنه سبحانه يحاسب الخلق كلهم في نصف يوم- والمراد على التقديرين أنه جل شأنه يؤاخذكم على جميع الأفعال حقيرها وجليلها، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم، ولعل ذكر هذا إثر بيان حكم الصيد لحث متعاطيه على التقوى لما أنه مظنة التهاون والغفلة عن طاعة الله تعالى فقد رأينا أكثر من يتعاطى ذلك يترك الصلاة ولا يبالي بالنجاسة، والمحتاجون للصيد- الحافظون لدينهم- أعز من الغراب الأبيض وهم مثابون فيه.
فقد أخرج الطبراني عن صفوان بن أمية «أن عرفطة بن نهيك التميمي قال: يا رسول الله إني وأهل بيتي مرزوقون من هذا الصيد ولنا فيه قسم وبركة وهو مشغلة عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة في جماعة، وبنا إليه حاجة أفتحله أم تحرمه؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: أحله لأن الله تعالى قد أحله، نعم العمل والله تعالى أولى بالعذر قد كانت قبلي رسل كلهم يصطاد أو يطلب الصيد ويكفيك من الصلاة في جماعة إذا غبت عنها في طلب الرزق حبك الجماعة وأهلها وحبك ذكر الله تعالى وأهله وابتغ على نفسك وعيالك حلالها فإن ذلك جهاد في سبيل الله تعالى»
واعلم أن عون الله تعالى في صالح التجار، واستدل بالآية على جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة لأن التعليم قد يحتاج لذلك، وعلى إباحة اتخاذ الكلب للصيد وقيس به الحراسة، وعلى أنه لا يحل صيد الكلب المجوس، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد روي عنه في المسلم يأخذ كلب المجوسي أو بازه أو صقره أو عقابه فيرسله أنه قال: لا تأكله وإن سميت لأنه من تعليم المجوس، وإنما قال الله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إعادة هذا الحكم للتأكيد والتوطئة لما بعده، وسبب ذكر اليوم يعلم مما ذكر أمس.
وقال النيسابوري: فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره، والأول أولى. وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أي حلال، والمراد بالموصول اليهود والنصارى حتى نصارى العرب عندنا،
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه استثنى نصارى بني تغلب، وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر،
وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وحكاه الربيع عن الشافعي رضي الله تعالى عنه والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة- كما روي عن ابن عباس وأبي الدرداء وإبراهيم وقتادة والسدي والضحاك ومجاهد رضوان الله عليهم أجمعين وبه قال الجبائي والبلخي وغيرهم.
وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد به الذبائح لأن غيرها لم يختلف في حله وعليه أكثر المفسرين، وقيل:
إنه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية وهو المروي عند الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه،
وبه قال جماعة من الزيدية، فلا تحل ذبائحهم عند هؤلاء، وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال صاحباه: الصابئة صنفان: صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة، وصنف لا يقرؤون كتابا ويعبدون النجوم، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب، وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لما
روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الحسن بن محمد بن علي قال: «كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل ومن أصر ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم»
وهو وإن كان مرسلا، وفي إسناده قيس بن الربيع- وهو ضعيف- إلا أن إجماع أكثر المسلمين- كما قال البيهقي- عليه يؤكده، واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم
237
غير الله تعالى- كعزير وعيسى عليهما السلام- فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لا تحل وهو قول ربيعة، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل- وهو قول الشعبي وعطاء- قالا: فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
وقال الحسن: إذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر اسم غير الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله تعالى لك وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ قال الزجاج وكثير من المتأخرين: إن هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى لا جناح عليكم أيها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم، فلا تصلح الآية دليلا لمن يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن التحليل حكم، وقد علقه سبحانه بهم فيها كما علق الحكم بالمؤمنين، واعترض على ظاهره بأنه إنما يتأتى لو كان الإطعام بدل الطعام فإن زعموا أن الطعام يقوم مقام الإطعام توسعا ورد الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ، وهو ممتنع فقد صرحوا بأنه لا يجوز إطعام زيد حسن للمساكين وضربك شديد زيدا فكيف جاز وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ؟ وعن بعضهم فإن قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ أجيب بأن المعنى انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم فإن أطعمكموه فكلوه ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم، ثم نسخ ذلك في شريعتنا، فالآية بيان لنا لا لهم أي اعلموا أن ما كان محرما عليهم مما هو حلال لكم قد أحل لكم أيضا ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا: هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله تعالى لكم طعامنا كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا لا غيره، فحاصل المعنى طعامهم حل لكم إذا كان الطعام الذي أحللته لكم، وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره فافهمه فقد أشكل على بعض المعاصرين. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ عطف على الطيبات أو مبتدأ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي حل لكم أيضا، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات، أو من الضمير فيها على ما قاله أبو البقاء، والمراد بهن عند الحسن، والشعبي وإبراهيم العفائف، وعند مجاهد الحرائر، واختاره أبو علي، وعند جماعة العفائف والحرائر، وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن، فإن نكاح الإماء المسلمات بشرطه صحيح بالاتفاق، وكذا نكاح غير العفائف منهن، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإن كن حربيات كما هو الظاهر، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا يجوز نكاح الحربيات، وخص الآية بالذميات، واحتج له بقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: ٢٢] والنكاح مقتض للمودة لقوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: ٢١] قال الجصاص: وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة، وأصحابنا يكرهون مناكحة أهل الحرب، وذهبت الإمامية إلى أنه لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابيات لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] ولقوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: ١٠]. وأولوا هذه الآية بأن المراد من المحصنات من الذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهن، والمراد من المحصنات من المؤمنات اللاتي كن في الأصل مؤمنات، وذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبين الله تعالى أنه لا حرج في ذلك، وإلى تفسير المحصنات بمن أسلمن ذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضا، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ويأباه النظم، ولذلك زعم بعضهم أن المراد هو الظاهر إلا أن الحل مخصوص بنكاح المتعة وملك اليمين، ووطؤهن حلال بكلا الوجهين عند الشيعة، وأنت تعلم أن هذا أدهى وأمر، ولذلك هرب بعضهم إلى دعوى أن الآية منسوخة بالآيتين المتقدمتين آنفا احتجاجا بما رواه الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه في ذلك، ولا يصح ذلك من طريق أهل السنة، نعم
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى
238
عنهما قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام».
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن جابر بن عبد الله «أنه سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال:
تزوجناهن زمن الفتح ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا فلما رجعنا طلقناهن.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه سئل أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال: ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر الله تعالى المسلمات فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حصانا غير مسافحة، قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينة اتبعته»
إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن وهي عوض الاستمتاع بهن- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره- وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها لا للاحتراز، ويجوز أن يراد بالإيتاء التعهد والالتزام مجازا، ولعله أقرب من الأول، وإن كان المآل واحدا، و «إذا» ظرف لحل المحذوف، ويحتمل أن تكون شرطية حذف جوابها أي إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ حللن لكم. مُحْصِنِينَ أي إعفاء بالنكاح وهو منصوب على الحال من فاعل آتَيْتُمُوهُنَّ وكذا قوله تعالى: غَيْرَ مُسافِحِينَ، وقيل: هو حال من ضمير مُحْصِنِينَ، وقيل:
صفة- لمحصنين- أي غير مجاهرين بالزنا، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي ولا مسرين به، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى، وقيل: الأول نهي عن الزنا، والثاني نهي عن مخالطتهنّ، ومُتَّخِذِي يحتمل أن يكون مجرورا عطفا على مُسافِحِينَ وزيدت لا لتأكيد النفي المستفاد من غير، ويحتمل أن يكون منصوبا عطفا على غَيْرَ مُسافِحِينَ باعتبار أوجهه الثلاثة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي من ينكر المؤمن به، وهو شرائع الإسلام التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة، ويمتنع عن قبولها فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي الذي عمله واعتقد أنه قربة له إلى الله تعالى. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أي الهالكين، والآية تذييل لقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إلخ تعظيما لشأن ما أحله الله تعالى وما حرمه، وتغليظا على من خالف ذلك، فحمل الإيمان على المعنى المصدري وتقدير مضاف- كما قيل- أي بموجب الإيمان، وهو الله تعالى ليس بشيء، وإن أشعر به كلام مجاهد، وضمير الرفع مبتدأ، ومِنَ الْخاسِرِينَ خبره، وفِي متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق، وقيل: بمحذوف دلّ عليه المذكور أي خاسرين في الآخرة، وقيل: بالخاسرين على أن أل معرفة لا موصولة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها، وقيل: يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله:
ربيته (١) حتى إذا ما تمعددا كان جزائي بالعصا أن أجلدا
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالإيمان العلمي أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أي بعزائم التكليف، وقال أبو الحسن الفارسي: أمر الله تعالى عباده بحفظ النيات في المعاملات، والرياضات في المحاسبات، والحراسة في الخطرات، والرعاية في المشاهدات، وقال بعضهم: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عقد القلب بالمعرفة، وعقد اللسان بالثناء، وعقد الجوارح بالخضوع، وقيل: أول عقد عقد على المرء عقد الإجابة له سبحانه بالربوبية وعدم المخالفة بالرجوع إلى ما سواه، والعقد الثاني عقد تحمل الأمانة وترك الخيانة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي أحل لكم جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس السليمة التي لا يغلب عليها السبعية والشره إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ من
(١) قوله: «ربيته» إلخ هكذا بخطه وليس بمستقيم الوزن كما هو ظاهر لمن له إلمام بفن الشعر، فلعل «ما» زيدت من قلمه اه.
239
التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي لا متمتعين بالحظوظ في حال تجردكم للسلوك وقصدكم كعبة الوصال وتوجهكم إلى حرم صفات الجمال والجلال إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ فليرض السالك بحكمه ليستريح، ويهدي إلى سبيل رشده يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ من المقامات والأحوال التي يعلم بها السالك إلى حرم ربه سبحانه من الصبر والتوكل والشكر ونحوها أي لا تخرجوا عن حكمها وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وهو وقت الحج الحقيقي وهو وقت السلوك إلى ملك الملوك، وإحلاله بالخروج عن حكمه والاشتغال بما فيه وَلَا الْهَدْيَ وهو النفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى الحضرة، وإحلالها باستعمالها بما يصرفها، أو تكليفها بما يكون سبب مللها وَلَا الْقَلائِدَ وهي ما قلدته النفس من الأعمال الشرعية التي لا يتم الوصول إلا بها، وإحلالها بالتطفيف بها وعدم إيقاعها على الوجه الكامل وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ وهم السالكون، وإحلالهم بتنفيرهم وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ بتجليات الأفعال وَرِضْواناً بتجليات الصفات، وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء فلا جناح عليكم في التمتع وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أي لا يكسبنكم بغض القوى النفسانية بسبب صدها إياكم عن السلوك أَنْ تَعْتَدُوا عليها، وتقهروها بالكلية فتتعطل أو تضعف عن منافعها، أو لا يكسبنكم بغض قوم من أهاليكم أو أصدقائكم بسبب صدهم إياكم أن تعتدوا عليهم بمقتهم وإضرارهم وإرادة الشر لهم وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى بتدبير تلك القوى وسياستها، أو بمراعاة الأهل والأصدقاء والإحسان إليهم وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فإن ذلك يقطعكم عن الوصول، وعن سهل أن الْبِرِّ الإيمان وَالتَّقْوى السنة والْإِثْمِ الكفر وَالْعُدْوانِ البدعة،
وعن الصادق رضي الله تعالى عنه الْبِرِّ الايمان وَالتَّقْوى الإخلاص وَالْإِثْمَ الكفر وَالْعُدْوانِ المعاصي،
وقيل: الْبِرِّ ما توافق عليه العلماء من غير خلاف وَالتَّقْوى مخالفة الهوى وَالْإِثْمَ طلب الرخص وَالْعُدْوانِ التخطي إلى الشبهات وَاتَّقُوا اللَّهَ في هذه الأمور إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقبكم بما هو أعلم حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وهي خمود الشهوة بالكلية فإنه رذيلة التفريط المنافية للعفة وَالدَّمُ وهو التمتع بهوى النفس وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ أي وسائر وجوه التمتعات بالحرص والشره وقلة الغيرة وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ من الأعمال التي فعلت رياء وسمعة وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي الأفعال الحسنة صورة مع كمون الهوى فيها، وَالْمَوْقُوذَةُ وهي الأفعال التي أجبر عليها الهوى وَالْمُتَرَدِّيَةُ وهي الأفعال المائلة إلى التفريط والنقصان وَالنَّطِيحَةُ وهي الأفعال التي تصدر خوف الفضيحة وزجر المحتسب مثلا وَما أَكَلَ السَّبُعُ وهي الأفعال التي هي من ملائمات القوة الغضبية من الأنفة والحمية النفسانية إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ من الأفعال الحسنة التي تصدر بإرادة قلبية لم يمازجها ما يشينها وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وهو ما يفعله أبناء العادات لا لغرض عقلي أو شرعي وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ بأن تطلبوا السعادة والكمال بالحظوظ والطوالع وتتركوا العمل وتقولوا: لو كان مقدرا لنا لعملنا فإنه ربما كان القدر معلقا بالسعي ذلِكُمْ فِسْقٌ خروج عن الدين الحق لأن فيه الأمر والنهي، والاتكال على المقدر يجعلهما عبثا الْيَوْمَ وهو وقت حصول الكمال يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ بأن يصدّوكم عن طريق الحق فَلا تَخْشَوْهُمْ فإنهم لا يستولون عليكم بعد وَاخْشَوْنِ لتنالوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ببيان ما بينت وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بذلك أو بالهداية إليّ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ أي الانقياد للانمحاء دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول لذة في مخمصة، وهي الهيجان الشديد للنفس غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير منحرف لرذيلة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيستر ذلك ويرحم بمدد التوفيق.
240
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ من الحقائق التي تحصل لكم بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ وهي الحواس الظاهرة والباطنة وسائر القوى والآلات البدنية مُكَلِّبِينَ معلمين لها على اكتساب الفضائل تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من علوم الأخلاق والشرائع فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ مما يؤدي إلى الكمال وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ بأن تقصدوا أنه أحد أسباب الوصول إليه عز شأنه لا أنه لذة نفسانية وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وهو مقام الفرق والجمع وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فلا عليكم أن تطعموهم منه بأن تضموا لأهل الفرق جمعا، ولأهل الجمع فرقا وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وهي النفوس المهذبة الكاملة وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي حقوقهن من الكمال اللائق بهن وألحقتموهن بالمحصنات من المؤمنات مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ
بل قاصدين تكميلهن واستيلاء الآثار النافعة منهن لا مجرد الصحبة وإفاضة ماء المعارف من غير ثمرة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ بأن ينكر الشرائع والحقائق ويمتنع من قبولها فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ بإنكاره الشرائع وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ بإنكاره الحقائق، والظاهر عدم التوزيع، والله تعالى أعلم بمراده، وهو الموفق للصواب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان الشرائع المتعلقة بدينهم بعد بيان ما يتعلق بدنياهم، ووجه التقديم والتأخير ظاهر إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم القيامة إليها والاشتغال بها، فعبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها مجازا، وفائدة الإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وقيل: يجوز أن يكون المراد إذا قصدتم الصلاة، فعبر عن أحد لازمي الشيء بلازمه الآخر وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم الَّذِينَ آمَنُوا من غير اختصاص بالمحدثين، وإن لم
241
يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل، وإنما ذلك من خارج على الصحيح، لكن الإجماع على خلاف ذلك،
وقد أخرج مسلم وغيره «أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه: صنعت شيئا لم تكن تصنعه، فقال عليه الصلاة والسلام: عمدا فعلته يا عمر؟؟»
يعني بيانا للجواز، فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة، والمعنى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ محدثين بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا، وقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً صريح في البدلية، وبعض المتأخرين أن في الكلام شرطا مقدرا أي إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا إلخ إن كنتم محدثين لأنه يلائمه كل الملاءمة عطف وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا عليه، وقيل: الأمر للندب، ويعلم الوجوب للمحدث من السنة واستبعد لإجماعهم على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل، وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض، ووجوب بالنسبة إلى آخرين، وقيل: هو للوجوب، وكان الوضوء واجبا على كل قائم أول الأمر ثم نسخ،
فقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي والحاكم (١) عن عبد الله بن حنظلة الغسيل «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلّى الله عليه وسلّم أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث»
ولا يعارض ذلك
خبر أن المائدة آخر القرآن نزولا إلخ
لأنه ليس في القوة مثله حتى قال العراقي: لم أجده مرفوعا، نعم الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولا، ثم نسخ الوجوب عنهم آخرا بما يدل على الوجوب عليه عليه الصلاة والسلام أولا، ونسخه عنه آخرا لا يخلو عن شيء كما لا يخفى.
وأخرج مالك والشافعي وغيرهما عن زيد بن أسلم أن تفسير الآية إِذا قُمْتُمْ من المضاجع يعني النوم إِلَى الصَّلاةِ والأمر عليه ظاهر، ويحكى عن داود: أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء من بعده كانوا يتوضؤون كذلك، وكان علي كرم الله تعالى وجهه يتوضأ كذلك ويقرأ هذه الآية، وفيه أن حديث عمر رضي الله تعالى عنه يأبى استمرار النبي عليه الصلاة والسلام على ما ذكر، والخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت، وفعل الخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب،
وقد ورد «من توضأ على طهر كتب الله تعالى له عشر حسنات»
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أي أسيلوا عليها الماء، وحد الإسالة أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما، وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يشترط التقاطر، وأما الدلك فليس من حقيقة الغسل خلافا لمالك فلا يتوقف حقيقته عليه، قيل:
ومرجعهم فيه قول العرب: غسل المطر الأرض، وليس في ذلك إلا الإسالة، ومنع بأن وقعه من علو خصوصا مع الشدة والتكرر دلك أيّ دلك. وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض، وهو إنما يكون بدلك، وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل، وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدي الرب سبحانه وتعالى الذي لا يتم بالنسبة إلى سائر المتوضئين إلا بالدلك.
وحكي عنه أن الدلك ليس واجبا لذاته، وإنما هو واجب لتحقق وصول الماء فلو تحقق لم يجب- كما قاله ابن الحاج في شرح المنية- ومن الغريب أنه قال: باشتراط الدلك في الغسل ولم يشترط السيلان فيما لو أمر المتوضئ الثلج على العضو فإنه قال: يكفي ذلك وإن لم يذب الثلج ويسيل، ووافقه عليه الأوزاعي مع أن ذلك لا يسمى غسلا أصلا ويبعد قيامه مقامه، وحد الوجه عندنا طولا من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل اللحيين، وعرضا ما بين
(١) قوله: «والحاكم» كذا بخط المؤلف مكررا مع ما قبله فليحرر اه.
242
شحمتي الأذن لأن المواجهة تقع بهذه الجملة وهو مشتق منها، واشتقاق الثلاثي من المزيد- إذا كان المزيد أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه- شائع، وقال العلامة أكمل الدين: إن ما ذكروا من منع اشتقاق الثلاثي من المزيد إنما هو في الاشتقاق الصغير، وأما في الاشتقاق الكبير وهو أن يكون بين كلمتين تناسب في اللفظ والمعنى فهو جائز، ويعطي ظاهر التحديد وجوب إدخال البياض المعترض بين العذار والأذن بعد نباته، وهو قولهما خلافا لأبي يوسف، ويعطي أيضا وجوب الاسالة على شعر اللحية، وقد اختلفت الروايات فيه عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وغيره، فعنه يجب مسح ربعها، وعنه مسح ما يلاقي البشرة، وعنه لا يتعلق به شيء، وهو رواية عن أبي يوسف، وعن أبي يوسف يجب استيعابها، وعن محمد أنه يجب غسل الكل، قيل:- وهو الأصح- وفي الفتاوى الظهيرية، وعليه الفتوى لأنه قام مقام البشرة فتحول الفرض إليه كالحاجب.
وقال في البدائع عن ابن شجاع: إنهم رجعوا عما سوى هذا وكل هذا في الكثة، أما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها ولو أمرّ الماء على شعر الذقن ثم حلقه لا يجب غسل الذقن، وفي البقال: لو قص الشارب لا يجب تخليله، وإن طال وجب تخليله وإيصال الماء إلى الشفتين وكأن وجهه أن قطعة مسنون فلا يعتبر قيامه في سقوط ما تحته بخلاف اللحية فإن إعفاءها هو المسنون، وعد شيخ الإسلام المرغيناني في التجنيس إيصال الماء إلى منابت شعر الحاجبين والشارب من الآداب من غير تفصيل، وأما الشفة فقيل: تبع للفم وقال أبو جعفر: ما انكتم عند انضمامه تبع له وما ظهر فللوجه، وروي هذا التحديد عن ابن عباس وابن عمر والحسن وقتادة والزهري رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وغيرهم، وقيل: الوجه كل ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر، وما بطن كداخل الأنف والفم، وكذا ما أقبل من الأذنين، وروي عن أنس بن مالك وأم سلمة وعمار ومجاهد وابن جبير وجماعة فأوجبوا غسل ذلك كله ولم أر لهم نصا في باطن العين، والظاهر عدم وجوب غسله عندهم لمزيد الحرج وتوقع الضرر، ولهذا صرح البعض بعدم سنية الغسل أيضا، بل قال بعضهم: يكره، نعم يخطر في الذهن رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يوجب غسل باطن العين في الغسل ويفعله، وأنه كان سببا في كف بصره رضي الله تعالى عنه وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ جمع مرفق بكسر ففتح افصح من عكسه، وهو موصل الذراع في العضد، ولعل وجه تسميته بذلك أنه يرتفق به أي يتكئ عليه من اليد، وجمهور الفقهاء على دخولها.
وحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها، ولذلك قيل:
«إلى» بمعنى مع كما في قوله تعالى: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ [هود: ٥٢] ومَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:
٥٢] [الصف: ١٤]، وقيل: هي إنما تفيد معنى الغاية، ومن الأصول المقررة أن ما بعد الغاية إن دخل في المسمى لولا ذكرها دخل وإلا فلا، ولا شك أن المرافق داخلة في المسمى فتدخل، وما أورد على هذا الأصل من أنه لو حلف لا يكلم فلانا إلى غد لا يدخل مع أنه يدخل لو تركت الغاية غير قادح فيه لأن الكلام هنا في مقتضى اللغة والأيمان تبنى على العرف، وجاز أن يخالف العرف اللغة.
وذكر بعض المحققين أن إِلَى جاءت وما بعدها داخل في الحكم فيما قبلها، وجاءت وما بعدها غير داخل، فمنهم من حكم بالاشتراك، ومنهم من حكم بظهور الدخول، ومنهم من حكم بظهور انتفاء الدخول، وعليه النحويون، ودخول المرافق ثابت بالسنة، فقد صح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه أدار الماء عليها.
ونقل أصحابنا حكاية عدم دخولها عن زفر، واستدل بتعارض الأشباه وبأن في الدخول في المسمى اشتباها
243
أيضا فلا تدخل بالشك، وحديث الإدارة لا يستلزم الافتراض لجواز كونه على وجه السنة كالزيادة في مسح الرأس إلى أن يستوعبه، وأجيب بأنه لا تعارض مع غلبة الاستعمال في الأصل المقرر، وأيضا على ما قال يثبت الإجمال في دخولها فيكون اقتصاره صلّى الله عليه وسلّم على المرفق وقع بيانا للمراد من اليد، فيتعين دخول ما أدخله- واغسل يدك للأكل- من إطلاق اسم الكل على البعض اعتمادا على القرينة.
وقال العلامة ابن حجر: دل على دخولها الاتباع والإجماع، بل والآية أيضا بجعل إِلَى غاية للترك المقدر بناء على أن اليد حقيقة إلى المنكب كما هو الأشهر لغة، وكأنه عنى بالإجماع إجماع أهل الصدر الأول وإلا فلا شك في وجود المخالف بعد، وعدوا داود- وكذا الإمام مالك رضي الله تعالى عنه من ذلك- ولي في عد الأخير تردد، فقد نقل ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على فرضية غسل اليدين مع المرفقين، قيل: ويترتب على هذا الخلاف أن فاقد اليد من المرفق يجب عليه إمرار الماء على طرف العظم عند القائل بالدخول، ولا يجب عند المخالف لأن محل التكليف لم يبق أصلا كما لو فقد اليد مما فوق المرفق، نعم يندب له غسل ما بقي من العضد محافظة على التحجيل، هذا واستيعاب غسل المأمور به من الأيدي فرض كما هو الظاهر من الآية، فلو لزق بأصل ظفره طين يابس أو نحوه، أو بقي قدر رأس إبرة من موضع الغسل لم يجز ولا يجب نزع الخاتم وتحريكه إذا كان واسعا، والمختار في الضيق الوجوب، وفي الجامع الأصغر إن كان وافر الأظفار وفيها درن أو طين أو عجين جاز في القروي والمدني على الصحيح المفتي به- كما قال الدبوسي- وقيل: يجب إيصال الماء إلى ما تحتها إلا الدرن لتولده منه.
وقال الصفار: يجب الإيصال مطلقا إن طال الظفر، واستحسنه ابن الهمام لأن الغسل وإن كان مقصورا على الظواهر لكن إذا طال الظفر بمنزلة عروض الحائل كقطرة شمعة، وفي النوازل يجب في المصري لا القروي لأن دسومة أظفار المصري مانعة من وصول الماء بخلاف القروي، ولو طالت أظفاره حتى خرجت عن رؤوس الأصابع وجب غسلها قولا واحدا، ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة هي الأصلية يجب غسلها، والأخرى زائدة فما حاذى منها محل الفرض وجب غسله، وما لا فلا، ومن الغريب أن بعضا من الناس أوجب البداية في غسل الأيدي من المرافق، فلو غسل من رؤوس الأصابع لم يصح وضوءه.
وقد حكى ذلك الطبرسي في مجمع البيان، والظاهر أن هذا البعض من الشيعة، ولا أجد لهم في ذلك متمسكا وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، قيل: الباء زائدة لتعدي الفعل بنفسه وقيل: للتبعيض، وقد نقل ابن مالك عن أبي علي في التذكرة أنها تجيء لذلك، وأنشد:
شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج
وقيل: إن العرف نقلها إلى التبعيض في المتعدي، والمفروض في المسح عندنا مقدار الناصية، وهو ربع الرأس من أي جانب كان فوق الأذنين لما
روى مسلم عن المغيرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ فمسح بناصيته
والكتاب مجمل في حق الكمية فالتحق بيانا له، والشافعي رضي الله تعالى عنه يمنع ذلك، ويقول: هو مطلق لا مجمل فإنه لم يقصد إلى كمية مخصوصة أجمل فيها، بل إلى الإطلاق فيسقط عنده بأدنى ما يطلق عليه مسح الرأس على أن في حديث المغيرة روايتان: على ناصيته وبناصيته، والأولى لا تقتضي استيعاب الناصية لجواز كون ذكرها لدفع توهم أنه مسح على الفود، أو القذال، فلا يدل على مطلوبكم ولو دل مثل هذا على الاستيعاب لدل- مسح على الخفين- عليه أيضا، ولا قائل به هناك عندنا وعندكم، وإذا رجعنا إلى الثانية كان محل النزاع في الباء كالآية، ويعود التبعيض، ومن هنا قال بعضهم: الأولى أن يستدل
برواية أبي داود عن أنس رضي الله تعالى عنه «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ وعليه عمامة
244
قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه»
وسكت عليه أبو داود فهو حجة، وظاهره استيعاب تمام المقدم، وتمام مقدم الرأس هو الربع المسمى بالناصية، ومثله ما
رواه البيهقي عن عطاء «أنه صلّى الله عليه وسلّم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم رأسه، أو قال: ناصيته»
فإنه حجة وإن كان مرسلا عندنا، وكيف وقد اعتضد بالمتصل؟ بقي شيء وهو أن ثبوت الفعل كذلك لا يستلزم نفي جواز الأقل فلا بد من ضم الملازمة القائلة لو جاز الأقل لفعله مرة تعليما للجواز، وقد يمنع بأن الجواز إذا كان مستفادا من غير الفعل لم يحتج إليه فيه، وهنا كذلك نظرا إلى الآية فإن الباء فيها للتبعيض وهو يفيد جواز الأقل فيرجع البحث إلى دلالة الآية، فيقال حينئذ: إن الباء للإلصاق وهو المعنى المجمع عليه لها بخلاف التبعيض، فإن الكثير من محققي أئمة العربية ينفون كونه معنى مستقلا للباء بخلاف ما إذا كان في ضمن الإلصاق كما فيما نحن فيه، فإن إلصاق الآلة بالرأس الذي هو المطلوب لا يستوعب الرأس، فإذا ألصق فلم يستوعب خرج عن العهدة بذلك البعض، وحينئذ فتعين الربع لأن اليد إنما تستوعب قدره غالبا فلزم.
وفي بعض الروايات أن المفروض مقدار ثلاث أصابع، وصححها بعض المشايخ إلى أن الواجب إلصاق اليد والأصابع أصلها، ولذا يلزم كمال دية اليد بقطعها والثلاث أكثرها، وللأكثر حكم الكل، ولا يخفى ما فيه، وإن قيل:
إنه ظاهر الرواية، وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه والإمام أحمد في أظهر الروايات عنه إلى أنه يجب استيعاب الرأس بالمسح، والإمامية إلى ما ذهب إليه الشافعي رضي الله تعالى عنه، ولو أصاب المطر قدر الفرض سقط عندنا، ولا يشترط إصابته باليد لأن الآلة لم تقصد إلا للإيصال إلى المحل فحيث وصل استغنى عن استعمالها، ولو مسح ببل في يده لم يأخذه من عضو آخر جاز، وإن أخذه لا يجوز، ولو مسح بإصبع واحدة مدها قدر الفرض، وكذا بإصبعين- على ما قيل- لا يجوز خلافا لزفر، وعللوه بأن البلة صارت مستعملة وهو على إشكاله بأن الماء لا يصير مستعملا قبل الانفصال ليستلزم عدم جواز مد الثلاث على القول بأنه لا يجزىء أقل من الربع، والمشهور في ذلك الجواز، واختار شمس الأئمة أن المنع في مد الأصبع والاثنتين غير معلل باستعمال البلة بدليل أنه لو مسح بإصبعين في التيمم لا يجوز مع عدم شيء يصير مستعملا خصوصا إذا تيمم على الحجر الصلد، بل الوجه عنده أنا مأمورون بالمسح باليد والإصبعان منها لا تسميان يدا بخلاف الثلاث لأنها أكثر ما هو الأصل فيها، وهو حسن- كما قال ابن الهمام- لكنه يقتضي تعين الإصابة باليد وهو منتف بمسألة المطر، وقد يدفع بأن المراد تعينها أو ما يقوم مقامها من الآلات عند قصد الإسقاط بالفعل اختيارا غير أن لازمه كون تلك الآية التي هي غير اليد مثلا قدر ثلاث أصابع من اليد حتى لو كان عودا مثلا لا يبلغ ذلك القدر قلنا: بعدم جواز مده، وقد يقال: عدم الجواز بالإصبع بناء على أن البلة تتلاشى وتفرغ قبل بلوغ قدر الفرض بخلاف الإصبعين، فإن الماء يتحمل بين الإصبعين المضمومتين فضل زيادة تحتمل الامتداد إلى قدر الفرض وهذا مشاهد أو مظنون، فوجب إثبات الحكم باعتباره، فعلى اعتبار صحة الاكتفاء بقدر ثلاث أصابع يجوز مد الإصبعين لأن ما بينهما من الماء يمتد قدر إصبع ثالثة، وعلى اعتبار توقف الإجزاء على الربع لا يجوز لأن ما بينهما لا يغلب على الظن إيعابه الربع إلا أن هذا يعكر عليه عدم جواز التيمم بإصبعين فلو أدخل رأسه إناء ماء ناويا للمسح جاز، والماء طهور عند أبي يوسف لأنه لا يعطى له حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال والذي لاقى الرأس من أجزائه لصق به فطهره، وغيره لم يلاقه فلا يستعمل.
واتفقت الأئمة على أن المسح على العمامة غير مجزىء إلا أحمد فإنه أجاز ذلك بشرط أن يكون من العمامة شيء تحت الحنك رواية واحدة، وهل يشترط أن يكون قد لبسها على طهارة؟ فيه روايتان، واختلفت الرواية عنه أيضا في مسح المرأة على قناعها المستدير تحت حلقها، فروي عنه جواز المسح كعمامة الرجل ذات الحنك وروي عنه
245
المنع، ونقل عن الأوزاعي والثوري جواز المسح على العمامة، ولم أر حكاية الاشتراط ولا عدمه عنهما، وقد ذكرنا دليل الجواز في كتاب الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وهما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم، ومنه الكاعب- وهي الجارية التي تبدو ثديها للنهود- وروى هشام عن محمد أن الكعب هو المفصل الذي في وسط القدم عند معترك الشراك لأن الكعب اسم للمفصل، ومنه كعوب الرمح والذي في وسط القدم مفصل دون ما على الساق، وهذا صحيح في المحرم إذا لم يجد نعلين فإنه يقطع خفيه أسفل من الكعبين، ولعل ذلك مراد محمد، فأما في الطهارة فلا شك أنه ما ذكرنا، وفي الأرجل ثلاث قراءات: واحدة شاذة واثنتان متواترتان أما الشاذة فالرفع- وهي قراءة الحسن- وأما المتواترتان فالنصب، وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب، والجر وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم وفي رواية أبي بكر عنه، ومن هنا اختلف الناس في غسل الرجلين ومسحهما.
قال الإمام الرازي: فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهم أن الواجب فيها المسح،
وهو مذهب الإمامية، وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل، وقال داود: يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من الزيدية، وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر فإنها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح فيها وجب فيها والقول إنه جرّ بالجوار كما في قولهم:
هذا جحر ضب خرب، وقوله:
كان ثبيرا في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل
باطل من وجوه: أولها أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه عنه، وثانيها أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما فيما استشهدوا به، وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل، وثالثها أن الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا: إنها تقتضي المسح أيضا لأن العطف حينئذ على محل الرؤوس لقربه فيتشاركان في الحكم وهذا مذهب مشهور للنحاة، ثم قالوا أولا: يجوز رفع ذلك بالإخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، ثم قال الإمام: واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين: الأول أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها، والثاني أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح، والقوم أجابوا عنه من وجهين: الأول أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم، وعلى هذا التقدير يجب المسح على ظهر القدمين، والثاني أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يسمح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين وحينئذ لا يبقى هذا السؤال انتهى.
ولا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما زلت فيه أقدام، وما ذكره الإمام رحمه الله تعالى يدل على أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج إلى شاوي ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فالنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغما لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك، فنقول وبالله تعالى التوفيق، وبيده أزمة التحقيق: إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى
246
ونجتهد في تطبيقهما أولا مهما أمكن لأن الأصل في الدلائل الأعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لها الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة، وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق، ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض، فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من وجهين: الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبو زيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة، فيقال للرجل إذا توضأ: تمسح ويقال: مسح الله تعالى ما بك أي أزال عنك المرض، ومسح الأرض المطر إذا غسلها فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة.
واعترض ذلك من وجوه: أولها أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة، فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا؟! وثانيها أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس- وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف- وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وثالثها أنه لو كان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل
بخبر «أنه صلّى الله عليه وسلّم غسل رجليه»
لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحها فسمي المسح غسلا.
ورابعها أن استشهاد أبي زيد بقولهم: تمسحت للصلاة لا يجدي نفعا لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، ولم يجز أن يقولوا: تغسلت للصلاة لأن ذلك يوهم الغسل، قالوا بدله: تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، فتجوزوا بذلك تعويلا على فهم المراد، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل، وأجيب عن الأول بأنّا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة وشرعا ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء، لكنا ندعي أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز وليس في اللغة والشرع ما يأباه، على أنه قد ورد ذلك في كلامهم، وعن الثاني بأنا نقدر لفظ امسحوا قبل أرجلكم أيضا وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى ولا محذور فيه، فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي وفي المعطوف بالمعنى المجازي، وقالوا: في آية لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [النساء: ٤٣] : إن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي- وهو الأركان المخصوصة- وفي المعطوف بالمعنى المجازي- وهو المسجد- فإنه محل الصلاة، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الاستخدام، وبذلك فسر الآية جمع من مفسري الإمامية وفقهائهم، وعليه فيكون هذا العطف من عطف الجمل في التحقيق، ويكون المسح المتعلق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي، على أن من أصول الإمامية- كالشافعية- جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذا استعمال المشترك في معنييه، ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا للفعل فتدبر ولا يشكل أن في الآية حينئذ إبهاما ويبعد وقوع ذلك في التنزيل لأنا نقول: إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء وعلمه عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في ابتداء البعثة بسنين فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام، فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية، ولم تترك الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان
247
المشبع، وعن الثالث بأن حمل المسح على الغسل لداع لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داع، فكيف يسقط الاستدلال؟! سبحان الله تعالى هذا هو العجب العجاب.
وعن الرابع بأنا لا نسلم أن العدول عن تغسلت لإيهامه الغسل فإن تمسحت يوهم ذلك أيضا بناء على ما قاله من أن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا سلمنا ذلك لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على ذلك، ويكفي- مسح الأرض المطر- في الفرض.
والوجه الثاني أن يبقى المسح على الظاهر، وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات كما في قراءة النصب، والجر للمجاورة، واعترض أيضا من وجوه: الأول والثاني والثالث ما ذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحنا وأنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا أمن فيما نحن فيه، وكونه إنما يكون بدون حرف العطف، والرابع أن في العطف على المغسولات سواء كان المعطوف منصوب اللفظ أو مجروره الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية وهو غير جائز عند النحاة، على أن الكلام حينئذ من قبيل ضربت زيدا، وأكرمت خالدا وبكرا بجعل بكر عطفا على زيد، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم، وهو مستهجن جدا تنفر عنه الطباع، ولا تقبله الأسماع، فكيف يجنح إليه أو يحمل كلام الله تعالى عليه؟! وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار، وقالوا بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إن شاء الله تعالى، ولم ينكره إلا الزجاج- وإنكاره مع ثبوته في كلامهم- يدل على قصور تتبعه، ومن هنا قالوا: المثبت مقدم على النافي، وعن الثاني بأنا لا نسلم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا نقل في ذلك عن النحاة في الكتب المعتمدة، نعم قال بعضهم:
شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة وهو هنا كذلك لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بممسوح إذ المسح لم يوجد مغيا في كلامهم، ولذا لم يغي في آية التيمم، وإنما يغيا الغسل، ولذا غيي في الآية حين احتيج إليه فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه لظهور الأمر فيه، ولا قول المرتضى: إنه لا مانع من تغييه، والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح، وعن الثالث بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت كما سبق من الأمثلة، وقوله تعالى:
عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود: ٨٤] بجر مُحِيطٍ مع أنه نعت للعذاب، وفي التوكيد كقوله:
ألا بلغ ذوي الزوجات كلهم أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر- كلهم- على ما حكاه الفراء، وفي العطف كقوله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:
٢٢، ٢٣] على قراءة حمزة والكسائي، وفي رواية المفضل عن عاصم فإنه مجرور بجوار بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ ومعطوف على وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة: ١٧]، وقول النابغة:
لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق في حبال القد مجنوب
بجر- موثق- مع أن العطف على أسير، وقد عقد النحاة لذلك بابا على حدة لكثرته ولما فيه من المشاكلة وقد كثر في الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك، وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لا يعبأ به، وعن الرابع بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ متعلقة بجملة المغسولات فإن كان معناها وامسحوا الأيدي بعد الغسل برؤوسكم فلا إخلال- كما هو مذهب كثير من أهل السنة- من جواز المسح ببقية ماء الغسل، واليد المبلولة من المغسولات، ومع ذلك لم يذهب أحد من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين الجملتين المتعاطفتين، أو معطوف ومعطوف عليه، بل صرح الأئمة بالجواز، بل نقل أبو البقاء إجماع النحويين على ذلك، نعم توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة وهي هنا ما أشرنا إليه، أو الإيماء إلى
248
الترتيب، وكون الآية من قبيل ما ذكر من المثال في حيز المنع، وربما تكون كذلك لو كان النظم- وامسحوا رؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين- والواقع ليس كذلك، وقد ذكر بعض أهل السنة أيضا وجها آخر في التطبيق، وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفيف، وقراءة النصب على حال دونه، واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما، لأن الخف اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة، وما حل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما، وأيضا المسح على الخف لا يجب إلى الكعبين اتفاقا، وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزىء عليه المسح لأنه لا يجزىء على ساقه، نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد، والقلب لا يميل إليه، وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية، وللإمامية في تطبيق القراءتين وجهان أيضا- لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من الوجهين اللذين عند أهل السنة- أن قراءة النصب التي هي ظاهرة في الغسل عند أهل السنة، وقراءة الجر تعاد إليها وعند الإمامية بالعكس، الوجه الأول: أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل بِرُؤُسِكُمْ فيكون حكم الرؤوس والأرجل كليهما مسحا. الوجه الثاني: أن الواو فيه بمعنى مع من قبيل استوى الماء والخشبة، وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة من وجوه: الأول أن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، والظاهر العطف على المغسولات والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز وإن استدلوا بقراءة الجر، قلنا: إنها لا تصلح دليلا لما علمت، والثاني أنه لو عطف وَأَرْجُلَكُمْ على محل بِرُؤُسِكُمْ جاز أن نفهم منه معنى الغسل، إذ من القواعد المقررة في العلوم العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى- ويكون لكل منهما متعلق- جاز حذف أحدهما وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور كأنه متعلقه، ومن ذلك قوله:
يا ليت بعلك قد غدا... متقلدا سيفا ورمحا
فإن المراد وحاملا رمحا، ومنه قوله:
إذا ما الغانيات برزن يوما... وزجّجن الحواجب والعيونا
فإنه أراد وكحلن العيونا، وقوله:
تراه كان مولاه يجدع أنفه... وعينيه إن مولاه كان له وفر
أي يفقئ عينيه إلى ما لا يحصى كثرة، والثالث أن جعل الواو بمعنى مع بدون قرينة مما لا يكاد يجوز، ولا قرينة هاهنا على أنه يلزم كما قيل: فعل المسحين معا بالزمان، ولا قائل به بالاتفاق، بقي لو قال قائل: لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية ما لم ينضم إليها من خارج ما يقوي تطبيق أهل السنة فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون فرسا رهان، قيل له: إن سنة خير الورى صلّى الله عليه وسلّم وآثار الأئمة رضي الله تعالى عنهم شاهدة على ما يدعيه أهل السنة وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى، وأما من طريق القوم، فقد روى العياشي عن علي عن أبي حمزة قال: «سألت أبا هريرة عن القدمين فقال: تغسلان غسلا».
وروى محمد بن النعمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: «إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك»
وهذا الحديث رواه أيضا الكلبي وأبو جعفر الطوسي بأسانيد صحيحة بحيث لا يمكن تضعيفها ولا الحمل على التقية لأن المخاطب بذلك شيعي خاص،
وروى محمد بن الحسن الصفار عن زيد بن علي عن أبيه عن جده أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «جلست أتوضأ فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما غسلت قدمي قال: يا علي خلل بين الأصابع».
249
ونقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه في نهج البلاغة حكاية وضوئه صلّى الله عليه وسلّم وذكر فيه غسل الرجلين، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة، ولم يدع أحد منهم النسخ ليتكلف لإثباته كما ظنه من لا وقوف له، وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم، فإن أحدا منهم ما روي عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح، إلا أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإنه قال بطريق التعجب: «لا نجد في كتاب الله تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل» ومراده أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل، ففي كلامه هذا إشارة إلى قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم والصحابة رضي الله تعالى عنهم، ونسبة جواز المسح- إلى أبي العالية وعكرمة والشعبي- زور وبهتان أيضا، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمترشد في الإمامة لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه، ولا حجة لهم في دعوى المسح بما
روي عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه «أنه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائما، وقال: إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع مثل ما صنعت»
وهذا وضوء من لم يحدث لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقا، وأما ما
روي عن عباد بن تميم عن عمه بروايات ضعيفة أنه صلّى الله عليه وسلّم توضأ ومسح على قدميه
فهو كما قال الحفاظ: شاذ منكر لا يصلح للاحتجاج مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازا واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد، ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة ما
رواه الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة عن حماد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال: «سألت أبا جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح على الرجلين فقال: هو الذي نزل به جبريل عليه السلام»
وما
روي عن أحمد بن محمد قال: «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح على القدمين كيف هو؟
فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين فقلت له: لو أن رجلا قال: بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزئ؟ قال: لا إلا بكفه كلها»

إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم.
وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا- النفحات القدسية في رد الإمامية- على أن لنا أن نقول: لو فرض أن حكم الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه ولو كان هو الغسل لا يكفي عنه. فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة، وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة، فلا يرد ما قيل: من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض، وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجة المعقول من الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضا لكون سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت دون المسح للاختلاف في سنده، وقال بعض المحققين: قد يلزمهم- بناء على قواعدهم- أن يجوزوا الغسل والمسح ولا يقتصروا على المسح
250
فقط، وزعم الجلال السيوطي أنه لا إشكال في الآية بحسب القراءتين عند المخيرين إلا أنه يمكن أن يدعى لغيرهم أن ذلك كان مشروعا أولا ثم نسخ بتعيين الغسل، وبقيت القراءتان ثابتتين في الرسم كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وبقي رسم ذلك ثابتا، ولا يخفى أنه أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت.
هذا وأما قراءة الرفع فلا تصلح في الاستدلال للفريقين إذ لكل أن يقدر ما شاء، ومن هنا قال الزمخشري فيها:
إنها على معنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة، لكن ذكر الطيبي أنه لا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الاسمية وحذف خبرها يدل على إرادة ثبوتها وظهورها، وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لا يلتبس، وإنما يكون كذلك إذا جعلت القرينة ما علم من منطوق القراءتين ومفهومهما وشوهد وتعورف من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وسمع منهم واشتهر فيما بينهم.
وقد قال عطاء: والله ما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح على القدمين، وكل ذلك دافع لتفسيره هذه القراءة بقوله: وَأَرْجُلَكُمْ مغسولة أو ممسوحة على الترديد لا سيما العدول من الإنشائية إلى الإخبارية المشعر بأن القوم كأنهم سارعوا فيه وهو يخبر عنه انتهى، فالأولى أن يقدر ما هو من جنس الغسل على وجه يبقى معه الإنشاء.
وبمجموع ما ذكرنا يعلم ما في كلام الإمام الرازي قدس الله تعالى سره، ونقله مما قدمناه، فاعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في أن الآية هل تقتضي وجوب النية أم لا؟ فقال الحنفية: إن ظاهره لا يقتضي ذلك، والقول بوجوبها يقتضي زيادة في النص، والزيادة فيه تقتضي النسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير واقع بل غير جائز عند الأكثرين، وكذا بالقياس على المذهب المنصور للشافعي رضي الله تعالى عنه- كما قاله المروزي- فإذن لا يصح إثبات النية، وقال بعض الشافعية: إن الآية تقتضي الإيجاب لأن معنى قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إذا أردتم القيام وأنتم محدثون، والغسل وقع جزاء لذلك، والجزاء مسبب عن الشرط فيفيد وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة، وبذلك يثبت المطلوب، وقال آخرون- وعليه المعول عندهم- وجه الاقتضاء أن الوضوء مأمور به فيها وهو ظاهر، وكل مأمور به يجب أن يكون عبادة وإلا لما أمر به، وكل عبادة لا تصح بدون النية لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [البينة: ٥] والإخلاص لا يحصل إلا بالنية، وقد جعل حالا للعابدين، والأحوال شروط فتكون كل عبادة مشروطة بالنية، وقاسوا أيضا الوضوء على التيمم في كونهما طهارتين للصلاة، وقد وجبت النية في المقيس عليه فكذا في المقيس، ولنا القول بموجب العلة يعني سلمنا أن كل عبادة بنية، والوضوء لا يقع عبادة بدون لكن ليس كلامنا في ذلك بل في أنه لم ينو حتى لم يقع عبادة سببا للثواب فهل يقع الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا؟ ليس في الآية ولا في الحديث المشهور الذي يوردونه في هذا المقام دلالة على نفيه ولا إثباته، فقلنا: نعم لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته، فكيف حصل المقصود وصار كستر العورة؟! وباقي شروط الصلاة التي لا يفتقر اعتبارها إلى أن ينوي، ومن ادعى- أن الشرط وضوء هو عبادة- فعليه البيان، والقياس المذكور على التيمم فاسد، فإن من المتفق عليه أن شرط القياس أن لا يكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع، وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل وشرعية التيمم متأخرة عن الوضوء فلا يقاس الوضوء على التيمم في حكمه، نعم إن قصد الاستدلال بآية التيمم بمعنى أنه لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها في الوضوء وكان معنى القياس أنه لا فارق لم يرد ذلك، وذكر بعض المحققين في الفرق بين الوضوء والتيمم وجهين: الأول أن التيمم ينبئ لغة عن القصد فلا يتحقق بدونه
251
بخلاف الوضوء، والثاني أن التراب جعل طهورا في حالة مخصوصة والماء طهور بنفسه كما يستفاد من قوله تعالى:
ماءً طَهُوراً [الفرقان: ٤٨] وقوله سبحانه: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: ١١] فحينئذ يكون القياس فاسدا أيضا.
واعترض الوجه الأول بأن النية المعتبرة ليست نية نفس الفعل بل أن ينوي المقصود به الطهارة والصلاة ولو صلاة الجنازة وسجدة التلاوة على ما بين في محله، وإذا كان كذلك فإنما ينبئ عن قصد هو غير المعتبر نية فلا يكون النص بذلك موجبا للنية المعتبرة، ومن هنا يعلم ما في استدلال- بعض الشافعية بآية الوضوء على وجوب النية فيه- السابق آنفا، وذلك لأن المفاد بالتركيب المقدر إنما هو وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة مع الحدث لا إيجاب أن يغسل لأجل الصلاة إذ عقد الجزاء الواقع طلبا بالشرط يفيد طلب مضمون الجزاء إذا تحقق مضمون الشرط، وأن وجوبه اعتبر مسببا عن ذلك، فأين طلبه على وجه مخصوص هو فعله على قصد كونه لمضمون الشرط فتأمل، فقد خفي هذا على بعض الأجلة حتى لم يكافئه بالجواب، والوجه الثاني بأنه إن أريد بالحالة المخصوصة حالة الصلاة فهو مبني على أن الإرادة مرادة في الجملة المعطوفة عليها جملة التيمم.
وأنت قد علمت الآن أن لا دلالة فيها على اشتراط النية، وإن أريد حالة عدم القدرة على استعمال الماء فظاهر أن ذلك لا يقتضي إيجاب النية ولا نفيها، واستفاد كون الماء طهورا بنفسه مما ذكر بأن كون المقصود من إنزاله التطهير به، وتسميته طهورا لا يفيد اعتباره مطهرا بنفسه أي رافعا للأمر الشرعي بلا نية، وهو المطلوب بخلاف إزالته الخبث لأن ذلك محسوس أنه مقتضى طبعه ولا تلازم بين إزالته حسا صفة محسوسة وبين كونه يرتفع عند استعماله اعتبار شرعي، والمفاد من لِيُطَهِّرَكُمْ كون المقصود من إنزاله التطهير به، وهذا يصدق مع اشتراط النية- كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه- وعدمه كما قلنا ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه كما هو المقرر فتدبر.
واختلفوا أيضا في أنها هل تقتضي وجوب الترتيب أم لا؟ فذهب الحنفية إلى الثاني لأن المذكور فيها الواو وهي لمطلق الجمع على الصحيح المعول عليه عندهم، والشافعية إلى الأول لأن الفاء في- اغسلوا- للتعقيب فتفيد تعقيب القيام إلى الصلاة بغسل الوجه، فيلزم الترتيب بين الوجه وغيره، فيلزم في الكل لعدم القائل بالفصل.
وأجيب بأنا لا نسلم إفادتها تعقيب القيام به بل جملة الأعضاء وتحقيقه أن المعقب طلب الغسل وله متعلقات وصل إلى أولها ذكرا بنفسه وإلى الباقي بواسطة الحرف المشترك فاشتركت كلها فيه من غير إفادة طلب تقديم تعليقه ببعضها على بعض في الوجود فصار مؤدى التركيب طلب إعقاب غسل جملة الأعضاء، وهذا نظير قولك: ادخل السوق فاشتر لنا خبزا ولحما حيث كان المفاد إعقاب الدخول بشراء ما ذكر كيفما وقع.
وزعم بعضهم أن إفادة النظم للترتيب لأنه لو لم يرد ذلك لأوجب تقديم الممسوح أو تأخيره عن المغسول، ولأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وفيه نظر لأن قصارى ما يدل عليه النظم أولوية الترتيب ونحن لا ننكر ذلك، وقال آخرون: الدليل على الترتيب فعله صلّى الله عليه وسلّم
فقد توضأ عليه الصلاة والسلام مرتبا، ثم قال: «هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به»
وفيه أن الإشارة كانت لوضوء مرتب موالى فيه فلو دل على فرضية الترتيب لدل على فرضية الموالاة ولا قائل بها عند الفريقين، نعم أقوى دليل لهم
قوله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع: «ابدؤوا بما بدأ الله تعالى به»
بناء على أن الأمر للوجوب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأجيب عن ذلك بما أجيب إلا أن الاحتياط لا يخفى، وهذا المقدار يكفي في الكلام على هذه الآية، والزيادة- على ذلك ببيان سنن الوضوء ونواقضه وما يتعلق به- مما لا تفهمه الآية كما فعل بعض المفسرين- فضول لا فضل، وإظهار علم يلوح من خلاله الجهل وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً أي عند القيام إلى الصلاة فَاطَّهَّرُوا أي فاغتسلوا على أتم وجه، وقرى «فأطهروا» أي فطهروا أبدانكم، والمضمضة
252
والاستنشاق هنا فرض كغسل سائر البدن لأنه سبحانه أضاف التطهير إلى مسمى الواو، وهو جملة بدن كل مكلف، فيدخل كل ما يمكن الإيصال إليه إلا ما فيه حرج كداخل العينين فيسقط للحرج ولا حرج في داخل الفم والأنف فيشملهما نص الكتاب من غير معارض كما شملها
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة»
وكونهما من الفطرة كما
جاء في الخبر لا ينفي الوجوب لأنها الدين،
وهو أعم منه، وتشعر الآية بأنه لا يجب الغسل على الجنب فورا ما لم يرد فعل ما لا يجوز بدونه ويؤيد ذلك ما صح أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج لصلاة الفجر ناسيا أنه جنب حتى إذا وقف تذكر فانصرف راجعا فاغتسل وخرج ورأسه الشريف يقطر ماء وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى مرضا تخافون به الهلاك، أو ازدياده باستعمال الماء.
أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مستقرين عليه.
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ- من- لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض وهو متعلق- بامسحوا- وقرأ عبد الله- فأموا صعيدا- وقد تقدم تفسير الآية في سورة النساء فليراجع، ولعل التكرير ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة، ولئلا يتوهم النسخ- على ما قيل- بناء على أن هذه السورة من آخر ما نزل ما يُرِيدُ اللَّهُ بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة والغسل من الجنابة، أو بالأمر بالتيمم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق في الامتثال، والجعل- يحتمل أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى لواحد وهو مِنْ حَرَجٍ ومِنَ زائدة، وعَلَيْكُمْ حينئذ متعلق- بالجعل- وجوز أن يتعلق- بحرج- وإن كان مصدرا متأخرا، ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير، فيكون عَلَيْكُمْ هو المفعول الثاني وَلكِنْ يُرِيدُ أي بذلك لِيُطَهِّرَكُمْ أي لينظفكم، فالطهارة لغوية، أو ليذهب عنكم دنس الذنوب، فإن الوضوء يكفر الله تعالى به الخطايا،
فقد أخرج مالك ومسلم وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيا من الذنوب»
فالطهارة معنوية بمعنى تكفير الذنوب لا بمعنى إزالة النجاسة، لأن الحدث ليس نجاسة بلا خلاف، وإطلاق ذلك عليه باعتبار أنه نجاسة حكمية بمعنى كونه مانعا من الصلاة لا بمعنى كونه بحيث يتنجس الطعام أو الشراب الرطب بملاقاة المحدث أو تفسد الصلاة بحمله، وأما تنجس الماء فيما شاع عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وروي رجوعه عنه فلانتقال المانعية والآثام إليه حكما، وقيل: المراد تطهير القلب عن دنس التمرد عن طاعة الله تعالى.
وجوز أن يكون المراد ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء، والمراد بالتطهر رفع الحدث والمانع الحكمي، وأما ما نقل عن بعض الشافعية- كإمام الحرمين- من أن القول: بأن التراب مطهر قول ركيك، فمراده به منع الطهارة الحسية فلا يرد عليه أنه مخالف
للحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
والإرادة صفة ذات، وقد شاع تفسيرها، ومفعولها في الموضعين محذوف كما أشير إليه، واللام للعلة، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين، وقيل: هي مزيدة والمعنى ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم «ولكن يريد أن يطهركم» وضعف بأن ألا تقدر بعد المزيدة، وتعقب بأن هذا مخالف لكلام النحاة، فقد قال الرضي: الظاهر أن تقدر أن بعد اللام الزائدة التي بعد فعل الأمر والإرادة، وكذا في المغني. وغيره، ووقوع هذه اللام بعد الأمر والإرادة في القرآن وكلام العرب شائع مقيس، وهو من مسائل الكتاب قال فيه: سألته- أي الخليل- عن معنى أريد
253
لأن يفعل فقال: إنما تريد أن تقول: أريد لهذا كما قال تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: ١٢] انتهى، واختلف فيه النحاة فقال السيرافي: فيه وجهان: أحدهما- ما اختاره البصريون- أن مفعوله مقدر أي أريد ما أريد لأن تفعل، فاللام تعليلية غير زائدة، الثاني أنها زائدة لتأكيد المفعول، وقال أبو علي في التعليق عن المبرد: إن الفعل دال على المصدر فهو مقدر أي أردت وإرادتي لكذا فحذف إرادتي واللام زائدة وهو تكلف بعيد، والمذاهب ثلاثة:
أقربها الأول، وأسهلها الثاني- وهو من بليغ الكلام القديم- كقوله:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل
البلاغة فيه مما يعرفه الذوق السليم قاله الشهاب وَلِيُتِمَّ بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الدين، أو ليتم برخصة إنعامه عليكم بالعزائم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، ومن لطائف الآية الكريمة- كما قال بعض المحققين- إنها مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل اثنان: مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب- باعتبار الفعل- غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما التطهير وإتمام النعمة، وزاد البعض مثنيات أخر، فإن غير المحدود وجه ورأس، والمحدود يد ورجل، والنهاية كعب ومرفق، والشكر قولي وفعلي.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وهي نعمة الإسلام، أو الأعم على إرادة الجنس، وأمروا بذلك ليذكرهم المنعم ويرغبهم في شكره وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أي عهده الذي أخذه عليكم وقوله تعالى:
إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ظرف- لواثقكم به- أو لمحذوف وقع حالا من الضمير المجرور في بِهِ أو من ميثاقه أي كائنا وقت قولكم: سَمِعْنا وَأَطَعْنا وفائدة التقييد به تأكيد وجوب مراعاته بتذكير قولهم، والتزامهم بالمحافظة عليه، والمراد به الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في العقبة الثانية سنة ثلاث عشرة من النبوة على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت، وقيل: هو الميثاق الواقع في العقبة الأولى سنة إحدى عشرة، أو بيعة الرضوان بالحديبية، فإضافة الميثاق إليه تعالى مع صدوره عنه صلّى الله عليه وسلّم لكون المرجع إليه سبحانه كما نطق في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: ١٠].
وأخرج ابن جرير وابن حميد عن مجاهد قال: هو الميثاق الذي واثق بني آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم عليه السلام وفيه بعد وَاتَّقُوا اللَّهَ في نسيان نعمته ونقض ميثاقه، أو في كل ما تأتون وتذرون فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي مخفياتها الملابسة لها ملابسة تامة مصححة لإطلاق الصاحب عليه فيجازيكم عليها، فما ظنكم بجليات الأعمال؟؟ والجملة اعتراض وتعليل للأمر وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان الشرائع المتعلقة لما يجري بينهم وبين غيرهم إثر ما يتعلق بأنفسهم كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي كثيري القيام له بحقوقه اللازمة، وقيل: أي ليكن من عادتكم القيام بالحق في أنفسكم بالعمل الصالح، وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابتغاء مرضاة الله تعالى شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أي بالعدل، وقيل: دعاة لله تعالى مبينين عن دينه بالحجج الحقة وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي شدة بغضكم لهم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا فلا تشهدوا في حقوقهم بالعدل، أو فتعدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل اعْدِلُوا أيها المؤمنون في أوليائكم وأعدائكم، واقتصر بعضهم على الأعداء بناء على ما روي أنه لما فتحت مكة كلف الله
254
تعالى المسلمين بهذه الآية أن لا يكافئوا كفار مكة بما سلف منهم، وأن يعدلوا في القول والفعل هُوَ راجع إلى العدل الذي تضمنه الفعل، وهو إما مطلق العدل فيندرج فيه العدل (١) الذي أشار إليه سبب النزول، وإما العدل مع الكفار أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي أدخل في مناسبتها لأن التقوى نهاية الطاعة وهو أنسب الطاعات بها فالقرب بينهما على هذا مناسبة الطاعة للطاعة، ويحتمل أن يكون أقربيته على التقوى باعتبار أنه لطف فيها فهي مناسبة إفضاء السبب إلى المسبب وهو بمنزلة الجزء الأخير من العلة، واللام مثلها في قولك: هو قريب لزيد للاختصاص لا مكملة فإنه بمن أو إلى.
وتكلف الراغب في توجيه الآية فقال: فإن قيل: كيف ذكر سبحانه أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وأفعل إنما يقال في شيئين اشتركا في أمر واحد لأحدهما مزية وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من العدالة؟ قيل:
إن أفعل وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعا لكلامه وإظهارا لتبكيته فيقال لمن اعتقد مثلا في زيد فضلا- وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمرا أفضل منه- اخدم عمرا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: ٥٩] وقد علم أن لا خير فيما يشركون، والجملة في موضع التعليل للأمر بالعدل، وصرح لهم به تأكيدا وتشديدا، وأمر سبحانه بالتقوى بقوله جلّ وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ إثر ما بين أن العدل أقرب لها اعتناء بشأنها وتنبيها على أنها ملاك الأمر كله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال فيجازيكم بذلك، وقد تقدم نظير هذه الآية في النساء، ولم يكتف بذلك لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء نائرة الغيظ، وقيل: لاختلاف السبب، فإن الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود، وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا، وهو أن آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيامة لله تعالى لأنه أردع للمؤمنين، ثم ثني بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الواجبات والمندوبات ومن جملتها العدل والتقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ جملة مستأنفة مبينة لثاني مفعول وَعَدَ المحذوف كأنه قيل: أي شيء وعده؟
فقيل لهم: مغفرة إلخ.
ويحتمل أن يكون المفعول متروكا والمعنى قدم لهم وعدا وهو ما بين بالجملة المذكورة، وجوز أن تكون مفعول وعد باعتبار كونه بمعنى قال، أو المراد حكايته لأنه يحكى بما هو في معنى القول عند الكوفيين، ويحتمل أن يكون القول مقدرا أي وعدهم قائلا ذلك لهم أي في حقهم فيكون إخبارا بثبوته لهم وهو أبلغ، وقيل: إن هذا القول يقال لهم عند الموت تيسيرا لهم وتهوينا لسكرات الموت عليهم.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا القرآنية التي من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى، وحمل بعضهم الآيات على المعجزات التي أيد الله تعالى بها نبيه صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي ملابسو النار الشديدة التأجج ملابسة مؤبدة، والموصول مبتدأ أول، واسم الإشارة مبتدأ ثان وما بعده خبره، والجملة خبر الأول، ولم يؤت بالجملة في سياق الوعيد كما أتي بالجملة قبلها في سياق الوعد قطعا لرجائهم، وفي ذكر حال الكفرة بعد حال المؤمنين كما هو السنة السنية القرآنية وفاء بحق الدعوة، وتطييبا لقلوب المؤمنين
(١) هكذا الأصل «فيه العدل مع الكفار الذي» إلخ ولا معنى له مع ما سيأتي بعد.
255
بجعل أصحاب النار أعداءهم دونهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكير لنعمة الإنجاء من الشر إثر تذكير نعمة إيصاله الخير الذي هو نعمة الإسلام وما يتبعها من الميثاق، أو تذكير نعمة خاصة بعد تذكير النعمة العامة اعتناء بشأنها، وعَلَيْكُمْ متعلق- بنعمة الله- أو بمحذوف وقع حالا منها، وقوله تعالى: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ على الأول ظرف لنفس النعمة، وعلى الثاني لما تعلق به الظرف، ولا يجوز أن يكون ظرفا- لاذكروا- لتنافي زمنيهما فإن إِذْ للمضي، واذْكُرُوا للمستقبل، أي اذكروا إنعامه تعالى عَلَيْكُمْ، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عَلَيْكُمْ وقت قصد قوم أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ أي بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك، يقال: بسط إليه يده إذا بطش به، وبسط إليه لسانه إذا شتمه، والبسط في الأصل مطلق المد، وإذا استعمل في اليد واللسان كان كناية عما ذكر، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان رجوع ضرر البسط وغائلته إليهم حملا لهم من أول الأمر على الاعتداد بنعمة دفعه فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ عطف على هَمَّ وهو النعمة التي أريد تذكيرها، وذكر- الهم- للإيذان بوقوعها عند مزيد الحاجة إليها، والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها، وإظهار الأيدي لزيادة التقرير وتقديم المفعول الصريح على الأصل أن منع أيديهم أي تمد إليكم عقيب همهم بذلك وعصمكم منهم، وليس المراد أنه سبحانه كفها عنكم بعد أن مدوها إليكم، وفي ذلك ما لا يخفى من إكمال النعمة ومزيد اللطف.
والآية إشارة إلى ما
أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر أن المشركين رأوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بعسفان قاموا إلى الظهر معا صلوا ندموا إلا كانوا أكبوا عليهم، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر، فردّ الله تعالى كيدهم بأن أنزل صلاة الخوف،
وقيل: إشارة إلى ما
أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عمرو بن أمية الضمري حيث انصرف من بئر معونة لقي رجلين كلابيين معهما أمان من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتلهما ولم يعلم أن معهما أمانا فواداهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومضى إلى بني النضير ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعمر وعلي فتلقوه فقالوا: مرحبا يا أبا القاسم لماذا جئت؟ قال: رجل من أصحابي قتل رجلين من كلاب معهما أمان مني طلب مني ديّتهما فأريد أن تعينوني قالوا: نعم اقعد حتى نجمع لك فقعد تحت الحصن وأبو بكر وعمر وعلي، وقد تآمر بنو النضير أن يطرحوا عليه عليه الصلاة والسلام حجرا فجاء جبريل عليه السلام فأخبره فقام ومن معه.
وقيل: إشارة إلى ما
أخرجه غير واحد من حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نزل منزلا فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها فعلق النبي صلّى الله عليه وسلّم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسله، ثم أقبل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله تعالى- قالها الأعرابي مرتين، أو ثلاثا- والنبي صلّى الله عليه وسلّم في كل ذلك يقول: الله تعالى، فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه،
ولا يخفى أن سبب النزول يجوز تعدده، وأن القوم قد يطلق على الواحد كالناس في قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران:
١٧٣] وأن ضرر الرئيس ونفعه يعودان إلى المرءوس وَاتَّقُوا اللَّهَ عطف على اذْكُرُوا أي اتقوه في رعاية حقوق نعمته ولا تخلوا بشكرها، أي في الأعم من ذلك ويدخل هو دخولا أوليا.
وَعَلَى اللَّهِ خاصة دون غيره استقلالا، أو اشتراكا فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه سبحانه كاف في درء المفاسد وجلب المصالح، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وإيثار صيغة أمر الغائب وإسنادها للمؤمنين لإيحاب التوكل على المخاطبين بطريق برهاني ولإظهار ما يدعو إلى الامتثال، ويزع عن الإخلال مع رعاية الفاصلة، وإظهار الأمر
256
الجليل لتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة التذييلية- وقد مرت نظائره- وهذه الآية كما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه- تقرأ سبعا صباحا وسبعا مساء لدفع الطاعون.
257
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مستأنف مشتمل على بيان بعض ما صدر من بني إسرائيل مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق، وتحذيرهم من نقضه، أو لتقرير ما ذكر من الهم بالبطش، وتحقيقه بناء على أنه كان صادرا من أسلافهم ببيان أن الغدر والخيانة فيهم شنشنة أخزمية، وإظهار الاسم الجليل هنا لتربية المهابة، وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب في نقضه مع ما فيه من رعاية حق الاستئناف المستدعي للانقطاع عما قبله، والالتفات في قوله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً للجري على سنن الكبرياء، وتقديم المفعول الغير الصريح على الصريح لما مر غير مرة من الاهتمام والتشويق، والنقيب- قيل: فعيل بمعنى فاعل مشتقا من النقب بمعنى التفتيش، ومنه فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق: ٣٦] وسمي بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأسرارهم، وقيل: بمعنى مفعول كأن القوم اختاروه على علم منهم، وتفتيش على أحوالهم.
قال الزجاج: وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل، ويقال: فلان حسن النقيبة أي جميل الخليقة، ونقاب للعالم بالأشياء الذكي القلب الكثير البحث عن الأمور، وهذا الباب كله معناه التأثير في الشيء الذي له عمق، ومن ذلك نقبت الحائط أي بلغت في النقب آخره.
روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمر فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون، وقال سبحانه لهم: إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم، وأمر جل شأنه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء فيما أمروا به فأخذ عليهم الميثاق، واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم فرأوا أجراما عظاما وبأسا شديدا فهابوا، فرجعوا وحدثوا قومهم إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفرائيم بن يوسف عليه السلام، وعند ذلك قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤].
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن النقباء لما دخلوا على الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمس أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الزمانة إذا نزع حبها خمس أنفس أو أربع، وذكر البغوي أنه لقيهم رجل من أولئك يقال له: عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله، ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه السلام، وذلك أنه جاء وقور صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى
258
عليه السلام وكان فرسخا في فرسخ وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله. وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم عليه السلام، وكان مجلسها جريبا من الأرض، فلما لقوا عوجا وعلى رأسه حزمة حطب أخذهم جميعا وجعلهم في حزمته، وانطلق بهم إلى امرأته وقال: انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها، وقال: ألا أطحنهم برجلي؟
فقالت امرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل انتهى.
وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفي فتاوى العلامة ابن حجر قال الحافظ العماد ابن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام ولم يسلم من الكفار أحد، وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعا أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه- كحديث عوج الطويل- وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره، ولا يبين أمره، ثم قال: ولا ريب في أن هذا وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم انتهى.
وأورد ابن المنذر عن ابن عمر من قصته شيئا عجيبا، وتعقبه بعض المصنفين بأن هذا مما يستحي الشخص من نسبته إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ومشى صاحب القاموس على أن أخباره موضوعة، وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن حبان في كتاب العظمة فيه آثارا قال الحفاظ في أطولها المشتمل على غرائب من أحواله: إنه باطل كذب، وقال الحافظ السيوطي: والأقرب في خبر عوج أنه من بقية عاد، وأنه كان له طول في الجملة مائة ذراع، أو شبه ذلك وأن موسى عليه الصلاة والسلام، وهذا هو القدر الذي يحتمل قبوله انتهى، ونعم ما قال، فإن بقاءه في الطوفان مع كفره الظاهر إذ لم ينقل إيمانه، ودعوة نوح عليه السلام التي عمت الأرض مما لا يكاد يقبله المنصف، وكذا بقاؤه بعد الطوفان مع قوله تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: ٧٧] مما لا يسوغه العارف، وشبه الحوت بعين الشمس، مما لا يكاد يعقل- على ما ذكره الحكماء- فقد ذكر الخلخالي أنهم ذهبوا إلى أن الشمس ليست حارة وإلا لكان قلل الجبال أحر من الوهاد لقرب القلل إلى الشمس- وبعد الوهاد عنها- بل الحرارة تحدث من وصول شعاع الشمس إلى وجه الأرض وانعكاسه عنه ولذلك يرى الوهاد أحر لتراكم الأشعة المنعكسة فيها فما وصل إليه الشعاع من وجه الأرض يصير حارا وإلا فلا، وذكر نحو ذلك شارح حكمة العين، ولا يرد على هذا أن بعض الناس روى أن كذا ملائكة ترمي الشمس بالثلج إذا طلعت، ولولا ذلك لأحرقت أهل الأرض لأن ذلك مما لم يثبت عند الحفاظ، وهو إلى الوضع أقرب منه إلى الصحة، ثم كان القائل بوجود عوج هذا من الناس لا يقول بالطبقة الزمهريرية التي هي الطبقة الثالثة من طبقات العناصر السبع، ولا بما فوقها وإلا فكيف يكون الاحتجاز بالسحاب وهو كالرعد والبرق، والصاعقة إنما ينشأ من تلك الطبقة الباردة التي لا يصل إليها أثر شعاع الشمس بالانعكاس من وجه الأرض، وقد ذكروا أيضا أن فوقها طبقتين: الأولى ما يمتزج مع النار وهي التي يتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة عن السفل، ويتكون فيها الكواكب ذوات الأذناب والنيازك، والثانية ما يقرب من الخلوص إذ لا يصل إليه حرارة ما فوقه ولا برودة ما تحته من الأرض والماء، وهي التي يحدث فيها الشهب، فإذا احتجز هذا الرجل بالسحاب وصل رأسه على زعمهم إلى إحدى تينك الطبقتين. فكيف يكون حاله مع ذلك البرد والحر؟! ولا أظن بشرا- كيف كان- يقوى على ذلك، على أن أصل الاحتجاز مما لا يمكن بناء على كلام الحكماء إذ قد علمت أن منشأ السحب الطبقة الزمهريرية.
259
وفي كتاب نزهة القلوب- نقلا عن الحكيم أبي نصر- أن غاية ارتفاعها اثني عشر فرسخا وستمائة ذراع، وعن المتقدمين أنها ثمانية عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع انتهى.
واختلفوا أيضا في غاية انحطاطها، ولم يذكر أحد منهم أنها تنحط إلى ما يتصور معه احتجاز الرجل الذي ذكروا من طوله ما ذكروا بالسحاب. اللهم إلا أن يراد به سحاب لم يبلغ هذا الارتفاع ومع هذا كله قد أخطؤوا في قولهم: ابن عنق، وإنما هو ابن عوق- كنوح- كما نص على ذلك في القاموس، وهو أيضا اسم والده لا والدته كما ذكر هناك أيضا فليحفظ.
وأخرج ابن حميد وابن جرير عن أبي العالية أنه قال في الآية: أخذ الله تعالى ميثاق بني إسرائيل أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره وبعث منهم اثني عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله تعالى بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به ونهاهم عنه، واختاره الجبائي،- والنقباء- حينئذ يجوز أن يكونوا رسلا، وأن يكونوا قادة- كما قال البلخي- واختار أبو مسلم أنهم بعثوا أنبياء ليقيموا الدين ويعلموا الأسباط التوراة ويأمروهم بما فرضه الله تعالى عليهم، وأخرج الطيبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا وزراء وصاروا أنبياء بعد ذلك وَقالَ اللَّهُ أي- للنقباء- عند الربيع، ورجحه السمين للقرب، وعند أكثر المفسرين- لبني إسرائيل- ورجحه أبو حيان إذ هم المحتاجون إلى ما ذكر من الترغيب والترهيب كما ينبئ عنه الالتفاف مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد إِنِّي مَعَكُمْ أسمع كلامكم وأرى أعمالكم وأعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك، وقيل: مَعَكُمْ بالنصرة، وقيل: بالعلم، والتعميم أولى.
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي أي بجميعهم، واللام موطئة للقسم المحذوف، وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع كونهما من الفروع المترتبة عليه لما أنهم- كما قال غير واحد- كانوا معترفين بوجوبهما حسبما يراد منهم مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولمراعاة المقارنة بينه وبين قوله تعالى: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، وقال بعضهم: إن جملة وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي إلى آخره كناية إيمائية عن المجاهدة، ونصرة دين الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام والإنفاق في سبيله كأنه قيل: لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وجاهدتم في سبيل الله يدل عليه قوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: ٢١] فإن المعنى لا ترتدوا على أدباركم في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم عليه الصلاة والسلام، وإنما وقع الاهتمام بشأن هذه القرينة دون الأولين، وأبرزت في معرض الكناية لأن القوم كانوا يتقاعدون عن القتال ويقولون لموسى عليه السلام فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤] انتهى، ولا يخلو عن نظر.
وقيل: إنما قدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنها الظاهر من أحوالهم الدالة على إيمانهم، والتعزير- أصل معناه المنع والذب، وقيل: التقوية من العزر، وهو والأزر من واد واحد، ولا يخفى أن في التقوية منعا لمن قويته عن غيره فهما متقاربان، ثم تجوز فيه عن النصرة لما فيها من ذلك، وعن التأديب وهو في الشرع ما كان دون الحدّ لأنه رادع ومانع عن ارتكاب القبيح، ولذا سمي في الحديث نصرة،
فقد صح عنه صلّى الله عليه وسلّم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل: يا رسول الله انصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تحجزه- أو تمنعه- عن الظلم فإن ذلك نصره»،
وقال الراغب: التعزير النصرة مع التعظيم، وبالنصرة فقط- فسره الحسن ومجاهد، وبالتعظيم فقط فسره ابن زيد وأبو عبيدة، وقرىء- عزرتموهم- بالتخفيف وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ أي بالإنفاق في سبيل الخير، وقيل: بالصدق بالصدقات وأيّا ما كان فهو استعارة لأنه سبحانه لما وعد بجزائه والثواب عليه شبه بالقرض الذي
260
يقضي بمثله، وفي كلام العرب قديما الصالحات قروض قَرْضاً حَسَناً وهو ما كان عن طيب نفس على ما قال الأخفش، وقيل: ما لا يتبعه منّ ولا أذى، وقيل: ما كان من حلال.
وذكر غير واحد أن قرضا يحتمل المصدر والمفعول به لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ دال على جواب الشرط المحذوف وسادّ مسدّه معنى، وليس هو الجواب له خلافا لأبي البقاء بل هو جواب للقسم، فقد تقرر أنه إذا اجتمع شرط وقسم أجيب السابق منهما إلا أن يتقدمه ذو خبر، وجوز أن يكون هذا جوابا لما تضمنه قوله تعالى: ولَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: ٨٣، المائدة: ٧٠] من القسم، وقيل: إن جوابه لَئِنْ أَقَمْتُمُ فلا تكون اللام موطئة، أو تكون ذات وجهين- وهو غريب- وجملة القسم المشروط وجوابه مفسرة لذلك الميثاق المتقدم.
وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ عطف على ما قبله داخل معه في حكمه متأخر عنه في الحصول ضرورة تقدم التخلية على التحلية فَمَنْ كَفَرَ أي برسلي أو بشيء مما عدد في حيز الشرط، والفاء لترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب بالترهيب بَعْدَ ذلِكَ الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم أعني لَأُكَفِّرَنَّ، وقيل: بعد الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم أعني أني معكم بناء على حمل المعية على المعية بالنصرة والإعانة، أو التوفيق للخير فإن الشرط معلق به من حيث المعنى نحو أنا معتن بشأنك إن خدمتني رفعت محلك، وقيل: المراد بعد ما شرطت هذا الشرط ووعدت هذا الوعد وأنعمت هذا الإنعام، وقوله تعالى:
مِنْكُمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل كَفَرَ، ولعل تغيير السبك حيث لم يقل وإن كفرتم عطفا على الشرطية السابقة- كما قال شيخ الإسلام- لإخراج كفر الكل عن حيز الاحتمال وإسقاط من كفر عن رتبة الخطاب، ثم ليس المراد بالكفر إحداثه بعد الإيمان، بل ما يعم الاستمرار عليه أيضا كأنه قيل: فمن اتصف بالكفر بعد ذلك إلا أنه قصد بإيراد ما يدل على الحدوث بيان ترقيهم في مراتب الكفر فإن الاتصاف بشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه، وإن كان استمرارا عليه لكن بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي وسط الطريق وحاقه ضلالا لا شبهة فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك إذ ربما يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم عذر.
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لا بشيء آخر استقلالا وانضماما، فالباء سببية، وما مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس، أو بمعنى شيء كما قال أبو البقاء، والجار متعلق بقوله تعالى:
لَعَنَّاهُمْ أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم- قاله عطاء وجماعة- وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة وخنازير، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب الجزية عليهم، ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقي لأنه حقيقة اللعن في اللغة الطرد والإبعاد فاستعماله في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه، وتخصيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق اللعن والنقض بأن يقال مثلا: فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هلية الشيء البسيطة على هليته المركبة- كما قال شيخ الإسلام- للإيذان بأن تحققهما أمر جلي غني عن البيان، وإنما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السببية والمسببية وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما..
وقيل: المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى- ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون- وهذا كما تقول لغيرك: أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها، وقال
261
الجبائي: المعنى بينا عن حال قلوبهم وما هي عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا إليه إلا الاعتزال، وقرأ حمزة والكسائي قسية، وهي إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل، أو بمعنى ردية من قولهم: درهم قسي إذا كان مغشوشا، وهو أيضا من القسوة، فإن المغشوش فيه يبس وصلابة، وقيل: إن قسي غير عربي بل معرب وقرىء- قسية- بكسر القاف للاتباع يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين والافتراء عليه عز وجل، والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار الصورة، وللدلالة على التجدد والاستمرار، وجوز أن يكون حالا من مفعول لَعَنَّاهُمْ، أو من المضاف إليه في قلوبهم وضعف بما ضعف، وجعله حالا من القلوب، أو من ضميره في قاسِيَةً كما قيل، لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال، وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها وَنَسُوا حَظًّا أي وتركوا نصيبا وافيا، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة:
أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم، وأخرج ابن المبارك وأحمد في الزهد عن ابن مسعود قال: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها، وفي معنى ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي خيانة كما قرىء به على أنها مصدر على وزن فاعلة- كالكاذبة، واللاغية- أو فعلة خائِنَةٍ أي ذات خيانة، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو فرقة خائِنَةٍ، أو نفس خائِنَةٍ، أو شخص خائِنَةٍ على أنه وصف، والتاء للمبالغة لكنها في فاعل قليلة، ومِنْهُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لها، خلا أن- من- على الوجهين، الأولين ابتدائية أي على خيانة، أو فعلة ذات خيانة كائنة منهم صادرة عنهم، وعلى الأوجه الأخر تبعيضية، والمعنى أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم كما يعلم من وصفهم بالتحريف وما معه بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ استثناء من الضمير المجرور في مِنْهُمْ والمراد بالقليل عبد الله بن سلام وأضرابه الذين نصحوا لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وجعله بعضهم استثناء من خائِنَةٍ على الوجه الثاني، فالمراد بالقليل الفعل القليل، ومن ابتدائية كما مر أي إلا فعلا قليلا كائنا منهم، وقيل: الاستثناء من قوله تعالى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أي إذا تابوا أو بذلوا الجزية- كما روي عن الحسن وجعفر بن مبشر- واختاره الطبري، فضمير عنهم راجع إلى ما رجع إليه نظائره، وعن أبي مسلم أنه عائد على القليل المستثنى أي فاعف عنهم ما داموا على عهدك ولم يخونوك، وعلى القولين فالآية محكمة، وقيل: الضمير عائد على ما اختاره الطبري، وهي مطلقة إلا أنها نسخت بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: ٢٩] الآية.
وروي ذلك عن قتادة، وعن الجبائي أنها منسوخة بقوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: ٥٨] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للأمر وحث على الامتثال وتنبيه على أن العفو على الإطلاق من باب الإحسان.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أمر بالتطهير لمن أراد الوقوف بين يدي الملك الكبير جل شأنه وعظم سلطانه، وبدأ بالوجه- لأنه سبحانه وتعالى نقشه
262
بنقش خاتم صفاته، وفي الفتوحات لا خلاف في أن غسل الوجه فرض وحكمه في الباطن المراقبة والحياء من الله تعالى مطلقا، ثم اختلف الحكم في الظاهر في أن تحديد غسل الوجه في الوضوء في ثلاثة مواضع: منها البياض الذي بين العذار والأذن، والثاني ما سدل من اللحية، والثالث تخليل اللحية، فأما البياض المذكور فمن قائل: إنه من الوجه، ومن قائل: إنه ليس من الوجه، وأما ما انسدل من اللحية فمن قائل: بوجوب إمرار الماء عليه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وكذلك تخليل اللحية، فمن قائل: بوجوبه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وحكم ذلك في الباطن أما غسل الوجه مطلقا من غير نظر إلى تحديد الأمر في ذلك فإن فيه ما هو فرض، وفيه ما هو ليس بفرض، فأما الفرض فالحياء من الله تعالى أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، وأما السنة منه فالحياء من الله تعالى أن تنظر إلى عورتك أو عورة امرأتك، وإن كان ذلك قد أبيح لك، ولكن استعمال الحياء فيها أفضل وأولى فما يتعين منه فهو فرض عليك، وما لا يتعين ففعلته فهو سنة واستحباب، فيراقب الإنسان أفعاله ظاهرا وباطنا، ويراقب ربه في باطنه، فإن وجه قلبه هو المعتبر، ووجه الإنسان على الحقيقة ذاته يقال: وجه الشيء أي حقيقته وعينه وذاته، فالحياء خير كله،
و الحياء من الإيمان-
ولا يأتي إلا بخير، وأما البياض الذي بين العذار والأذن، وهو الحد الفاصل بين الوجه والأذن فهو الحد بين ما كلف الإنسان من العمل في وجهه والعمل في سماعه، فالعمل في ذلك إدخال الحد في المحدود، فالأولى بالإنسان أن يصرف حياءه في سمعه كما صرفه في بصره، فكما أن الحياء غض البصر كما قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ [النور: ٣٠] كذلك يلزم الحياء من الله تعالى أن لا يسمع ما لا يحل له من غيبة وسوء قول من متكلم بما لا ينبغي فإن ذلك البياض هو بين العذار والأذن- وهو محل الشبهة- وهو أن يقول: أصغيت إليه لأرد عليه، وهذا معنى العذار فإنه من العذر أي الإنسان يعتذر إذا قيل له: لم أصغيت إلى هذا القول بأذنك؟ فيقول: إني أردت أن أحقق سماع ما قال حتى أنهاه عنه، فكنى عنه بالعذار فمن رأى وجوب ذلك عليه غسله، ومن لم ير وجوب ذلك إن شاء غسل وإن شاء ترك، وأما غسل ما استرسل من اللحية وتخليلها فهي الأمور العوارض، فإن اللحية شيء يعرض في الوجه وليست من أصله، فكل ما يعرض لك في وجه ذلك من المسائل فأنت فيها بحكم ذلك العارض، فإن تعين عليك طهارة ذلك العارض فهو قول من يقول بوجوب غسله، وإن لم يتعين عليك طهارته فطرته استحبابا أو تركته لكونه ما تعين عليك فهو قول من لم يقل بوجوب الطهارة فيه، وقد بين أن حكم الباطن يخالف الظاهر بأن فيه وجها إلى الفريضة، ووجها إلى السنة والاستحباب، فالفرض من ذلك لا بد من إتيانه، وغير الفرض عمله أولى من تركه، وذلك سار في جميع العبادات انتهى.
وقال بعض العارفين: هذا خطاب للمؤمنين بالإيمان العلمي إذا قاموا عن نوم الغفلة وقصدوا صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية والتوجه إلى الحق أن يطهروا وجوه قواهم بماء العلم النافع الطاهر المطهر من علم الشرائع والأخلاق والمعاملات الذي يتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس، وأول هذا الأيدي في قوله تعالى:
وَأَيْدِيَكُمْ بالقوى والقدر أي طهروا أيضا قواكم وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس إِلَى الْمَرافِقِ أي قدر الحقوق والمنافع، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: أجمع الناس على غسل اليدين والذراعين، واختلفوا في إدخال المرافق في هذا الغسل، فمن قائل: بوجوب إدخالهما، ومن قائل: بعدم الوجوب، لكن لم ينازع بالاستحباب، وحكم الباطن في ذلك أن غسل اليدين والذراعين إشارة إلى غسلهما بالكرم والجود والسخاء والهباة والاعتصام والتوكل، فإن هذا وشبهه من نعوت اليدين والمعاصم للمناسبة، بقي غسل المرافق وهي رؤية الأسباب التي يرتفق العبد ويأنس بها لنفسه، فمن رأى إدخال المرافق في نفسه رأى أن الأسباب إنما وضعها الله تعالى حكمة منه في
263
خلقه فلا يريد أن تعطل حكمة الله تعالى لا على طريق الاعتماد عليها فإن ذلك يقدح في اعتماده على الله تعالى، ومن رأى عدم إيجابها في الغسل رأى سكون النفس إلى الأسباب، وأنه لا يخلص له مقام الاعتماد على الله تعالى مع وجود رؤية الأسباب، وكل من يقول: بأنه لا يجب غسلها يقول: يستحب كذلك رؤية الأسباب مستحبة عند الجميع وإن اختلفت أحكامهم فيها، فإن الله تعالى ربط الحكمة في وجودها وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ قال بعض العارفين: أي بجهات أرواحكم عن قتام كدورة القلب وغبار تغيره بالتوجه إلى العالم السفلي ومحبة الدنيا بنور الهدى، فإن الروح لا يتكدر بالتعلق بل يحتجب نوره عن القلب فيسود القلب ويظلم ويكفي في انتشار نوره صقل الوجه العالي الذي يتوجه إليه، فإن القلب ذو وجهين: أحدهما إلى الروح- والرأس- هنا إشارة إليه، والثاني إلى النفس وقواها، وأحرى- بالرجل- أن تكون إشارة إليه.
وقال الشيخ الأكبر قدس الله سره بعد أن بين اختلاف العلماء في القدر الذي يجب مسحه: وأما حكم مسح الرأس في الباطن فأصله من الرياسة وهي العلو والارتفاع، ولما كان أعلا ما في البدن في ظاهر العين وجميع البدن تحته سمي رأسا، فإن الرئيس فوق المرءوس وله جهة فوق، وقد وصل الله تعالى نفسه بالفوقية على عباده بصفة القهر، فقال سبحانه: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: ١٨، ٦١] فكان الرأس أقرب عضو في الجسد إلى الحق تعالى لمناسبة الفوقية، ثم له الشرف الآخر في المعنى الذي به رأس على البدن كله، وهو أنه محل جميع القوى كلها الحسية والمعنوية، فلما كانت له هذه الرياسة من هذه الجهة سمي رأسا، ثم إن العقل الذي جعله الله تعالى أشرف ما في الإنسان جعل محله اليافوخ وهو أعلى موضع في الرأس فجعله سبحانه مما يلي جانب الفوقية، ولما كان محلا لجميع القوى الظاهرة والباطنة ولكل قوة حكم وسلطان وفخر يورثها ذلك عزة على غيرها، وكان محل هذه القوى من الرأس مختلفة فعمت الرأس كله وجب مسح كله في هذه العبارة لهذه الرياسة السارية فيه كله من جهة هذه القوى بالتواضع والإقناع، فيكون لكل قوة مسح مخصوص من مناسبة دعواها، وهذا ملحظ من يرى وجوب مسح جميع الرأس ومن رأى تفاوت القوى بالرياسة فإن القوة المصورة مثلا لها سلطان على القوة الخيالية فهي الرئيسة عليها، وإن كانت للقوة الخيالية رياسة قال: الواجب عليه مسح بعض الرأس وهو المقسم بالأعلى، ثم اختلفوا في هذا البعض، فكل عارف قال بحسب ما أعطاه الله تعالى من الإدراك في مراتب هذه القوى فيمسح بحسب ما يرى، ومعنى المسح هو التذلل وإزالة الكبرياء والشموخ بالتواضع والعبودية لأن المتوضئ بصدد مناجاة ربه وطلب وصلته، والعزيز الرئيس إذا دخل على من ولاه تلك العزة ينعزل عن عزته ورياسته بعز من دخل عليه فيقف بين يديه وقوف العبيد في محل الإذلال لا بصفة الإذلال فمن غلب على خاطره رئاسة بعض القوى على غيرها وجب عليه مسح ذلك البعض من أجل الوصلة التي تطلب بهذه العبادة ولهذا لم يشرع مسح الرأس في التيمم لأن وضع التراب على الرأس من علامات الفراق، فترى الفاقد حبيبه بالموت يضع التراب على رأسه، وتفصيل رياسات القوى معلوم عند أهل هذا الشأن، وأما التبعيض في اليد الممسوح بها، واختلافهم في ذلك فاعمل فيه كما تعمل في الممسوح سواء، فإن المزيل لهذه الرياسة أسباب مختلفة في القدرة على ذلك، ومحل ذلك اليد، فمن مزيل بصفة القهر، ومن مزيل بسياسة وترغيب إلى آخر ما قال: وَأَرْجُلَكُمْ أشير بها إلى القوى الطبيعية البدنية المنهمكة في الشهوات والإفراط باللذات، وغسلها بماء علم الأخلاق وعلم الرياضيات حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به القلب للحضور والمناجاة.
وفي الفتوحات اختلفوا في صفة طهارتها بعد الاتفاق على أنها من أعضاء الوضوء هل ذلك بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير بينهما؟ ومذهبنا التخيير، والجمع أولى، وما من قول إلا وبه قائل، والمسح بظاهر الكتاب، والغسل بالسنة،
264
ومحتمل الآية بالعدول عن الظاهر منها، وأما حكم ذلك في الباطن فاعلم أن السعي إلى الجماعات وكثرة الخطا إلى المساجد. والثبات يوم الزحف مما تظهر به الأقدام فلتكن طهارة رجليك بما ذكرناه وأمثاله، ولا تتمثل بالنميمة بين الناس ولا تمش مرحا واقصد في مشيك واغضض من صوتك، ومن هذا ما هو فرض بمنزلة المرة الواحدة في غسل عضو الوضوء الرجل وغيره، ومنه ما هو سنة وهو ما زاد على الفرض، وهو مشيك فيما ندبك الشرع إليه وما أوجبه عليك، فالواجب عليك نقل الأقدام إلى مصلاك، والمندوب والمستحب والسنة وما شئت فقل من ذلك نقل الأقدام إلى المساجد من قرب وبعد، فإن ذلك ليس بواجب وإن كان الواجب من ذلك عند بعض الناس مسجدا لا بعينه وجماعة لا بعينها فعلى هذا يكون غسل رجليك في الباطن من طريق المعنى، واعلم أن الغسل يتضمن المسح فمن غسل فقد أدرج المسح فيه كاندراج نور الكواكب في نور الشمس، ومن مسح لم يغسل إلا في مذهب من يرى، وينقل عن العرب أن المسح لغة في الغسل فيكون من الألفاظ المترادفة، والصحيح في المعنى في حكم الباطن أن يستعمل المسح فيما يقتضي الخصوص من الأعمال، والغسل فيما يقتضي العموم، ولهذا كان مذهبنا التخيير بحسب الوقت، فإن الشخص قد يسعى لفضيلة خاصة في حاجة شخص بعينه فذلك بمنزلة المسح، وقد يسعى لذلك في حاجة تعم الرعية فيدخل ذلك الشخص في هذا العموم فذلك بمنزلة الغسل الذي اندرج فيه المسح انتهى.
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا الجنابة غربة العبد عن موطنه الذي يستحقه، وليس إلا العبودية. وتغريب صفة ربانية عن موطنها وكل ذلك يوجب التطهير، وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلخ قد تقدم نظيره.
وفي الفتوحات اختلف في حد الأيدي المذكورة في هذه الطهارة، فمن قائل: حدها مثل حدها في الوضوء ومن قائل: هو الكف فقط- وبه أقول- ومن قائل: إن الاستحباب إلى المرفقين والفرض الكفان، ومن قائل: إن الفرض إلى المناكب، والاعتبار في ذلك أنه لما كان التراب في الأرض أصل نشأة الإنسان وهو تحقيق عبوديته وذلته أمر بطهارة نفسه من التكبر بالتراب، وهو حقيقة عبوديته ويكون ذلك بنظره في أصل خلقه، ولما كان من جملة ما يدعيه الاقتدار والعطاء مع أنه مجبول على العجز والبخل، وهذه الصفات من صفات الأيدي قيل له عند هذه الدعوة ورؤية نفسه في الاقتدار الظاهر منه، والكرم والعطاء: طهر نفسك من هذه الصفة بنظرك فيما جبلت عليه من ضعفك ومن بخلك فقد قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الروم: ٥٤] وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: ٩، التغابن: ١٦] وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: ٢١] فإذا نظر إلى هذا الأصل زكت نفسه وتطهرت من الدعوى، واختلفوا في عدد الضربات على الصعيد للتيمم، فمن قائل: واحدة، ومن قائل: اثنتان، والقائلون بذلك، منهم من قال: ضربة للوجه وضربة لليدين، ومنهم من قال: ضربتان لليد وضربتان للوجه، ومذهبنا أنه من ضرب واحدة أجزأه، ومن ضرب اثنتين أجزأه وحديث الضربة الواحدة أثبت، والاعتبار في ذلك التوجه إلى ما يكون به هذه الطهارة، فمن غلب التوحيد في الأفعال قال: بالضربة الواحدة، ومن غلب حكم السبب الذي وضعه الله تعالى ونسب الفعل إلى الله تعالى مع تعريته عنه مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٦] فأثبت ونفى قال: بالضربتين ومن قال: إن ذلك في كل فعل قال: بالضربتين لكل عضو انتهى.
وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في أنواع الطهارة وأتى فيه بالعجب العجاب. ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي من ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ من الصفات الخبيثة، وعن سهل:
الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل وطهارة الذكر من النسيان وطهارة اليقين من الشك وطهارة العقل من الحمق وطهارة الظن من التهمة وطهارة الإيمان مما دونه وطهارة القلب من الإرادات، وقال: إسباغ طهارة الظاهر
265
تورث طهارة الباطن، وإتمام الصلاة يورث الفهم عن الله تعالى، والطهارة تكون في أشياء: في صفاء المطعم، ومباينة الأنام وصدق اللسان وخشوع السر، وكل واحد من هذه الأربع مقابل لما أمر الله تعالى بتطهيره وغسله من الأعضاء الظاهرة.
وقال ابن عطاء: البواطن مواضع نظر الحق سبحانه
فقد روي عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم»،
فموضع نظر الحق جل وعلا أحق بالطهارة، وذلك إنما يكون بإزالة أنواع الخيانات والمخالفات وفنون الوساوس والغش والحقد والرياء والسمعة وغير ذلك من المناهي، وليس شيء على العارفين أشد من جمع الهم وطهارة السر، وفي إضافة التطهير إليه تعالى ما لا يخفى من اللطف وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بالتكميل، وقال بعض العارفين: إتمام النعمة لقوم نجاتهم بتقواهم، وعلى آخرين نجاتهم عن تقواهم فشتان بين قوم وقوم ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند البقاء بعد الفناء وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية إلى طريق الوصول إليه، وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ وهو عقود عزائمه المذكورة إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي إذا قبلتموها من معدن النبوة بصفاء الفطرة، وقال بعضهم: المراد بنعمة الله تعالى هدايته سبحانه السابقة في الأزل لأهل السعادة، وبالميثاق الميثاق الذي واثق الله تعالى به عباده أن لا يشتغلوا بغيره عنه سبحانه، وقال أبو عثمان: النعم كثيرة وأجلها المعرفة به سبحانه، والمواثيق كثيرة وأجلها الإيمان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أي من قوى نفوسكم المحجوبة وصفاتها أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالاستيلاء والقهر لتحصيل مآربها وملاذها فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي فمنعها عنكم بما أراكم من طريق التطهير والتنزيه وَاتَّقُوا اللَّهَ واجعلوه سبحانه وقاية في قهرها ومنعها وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ برؤية الأفعال كلها منه عز وجل وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وهم في الأنفس الحواس الخمس الظاهرة، والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والقوة العملية وذكر غير واحد من ساداتنا الصوفية أن النقباء أحد أنواع: الأولياء: نفعنا الله تعالى ببركاتهم ففي الفتوحات: ومنهم النقباء وهم اثنا عشر نقيبا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الاثني عشر برجا، كل نقيب عالم بخاصية كل برج، وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات، وما يعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت، فإن للثوابت حركات وقطعا في البروج لا يشعر به في الحس لأنه لا يظهر ذلك إلا في آلاف من السنين، وإعمار الرصد، تقصر عن مشاهدة ذلك واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها، وإبليس مكشوف عندهم يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة، وبالديار المصرية منهم كثير يخرجون الأثر في الصخور، وإذا رأوا شخصا يقولون:
هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر وليسوا بأولياء، فما ظنك بما يعطيه الله تعالى لهؤلاء النقباء من علوم الآثار؟ انتهى.
وقد عد الشيخ قدس سره فيها أنواعا كثيرة، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء، ففي بعض فتاوى ابن تيمية، وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة، فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال،
فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن فيهم- يعني أهل الشام- الأبدال أربعين رجلا كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا»
ولا توجد أيضا في كلام السلف انتهى، وأنا أقول:
266
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وقال الله تعالى: إِنِّي مَعَكُمْ بالتوفيق والإعانة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وتحليتم بالعبادات البدنية وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وتخليتم عن الصفات الذميمة من البخل والشح فزهدتم وآثرتم وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي جميعهم من العقل والإلهامات والأفكار الصائبة والخواطر الصادقة من الروح والقلب وإمداد الملكوت وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي وعظتموهم بأن سلطتموهم على شياطين الوهم وقويتموهم ومنعتموهم من الوساوس وإلقاء الوهميات والخيالات والخواطر النفسانية وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن تبرأتم من الحول والقوة والعلم والقدرة، وأسندتم كل ذلك إليه عز شأنه، بل ومن الأفعال والصفات جميعها، بل ومن الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى باريها جل وعلا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ التي هي الحجب والموانع لكم وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ مما عندي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهي أنهار علوم التوكل والرضاء والتسليم والتوحيد، وتجليات الأفعال والصفات والذات فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ العهد وبعث النقباء منكم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ وهلك مع الهالكين فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ الذي وثقوه لَعَنَّاهُمْ وطردناهم عن الحضرة وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى الأمور الأرضية يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ حيث حجبوا عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله تعالى واستبدلوا قوى أنفسهم بها واستعملوا وهمياتهم وخيالاتهم بدل حقائقها وَنَسُوا حَظًّا نصيبا وافرا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ في العهد اللاحق وهو ما أوتوه في العهد السابق من الكمالات الكامنة في استعداداتهم الموجودة فيها بالقوة وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ من نقض عهد ومنع أمانة لاستيلاء شيطان النفس عليهم وقساوة قلوبهم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهو من جره استعداده إلى ما فيه صلاحه فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ إلى عباده باللطف والمعاملة الحسنة جعلنا الله تعالى وإياكم من المحسنين.
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ شروع في بيان قبائح النصارى وجناياتهم إثر بيان قبائح وجنايات إخوانهم اليهود، وَمِنَ متعلقة- بأخذنا- وتقديم الجار للاهتمام، ولأن ذكر إحدى الطائفتين مما يوقع في ذهن السامع أن حال الأخرى ماذا؟ كأنه قيل: ومن الطائفة الأخرى أيضا أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ والضمير المجرور راجع إلى الموصول، أو عائد على بني إسرائيل الذين عادت إليهم الضمائر السابقة، وهو نظير قولك: أخذت من زيد ميثاق عمرو أي مثل ميثاقه.
وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أيضا، وجملة أَخَذْنا صفة أي- ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا منهم ميثاقهم- وقيل: المبتدأ المحذوف مِنَ الموصولة، أو الموصوفة، ولا يخفى أن جواز حذف الموصول وإبقاء صلته لم يذهب إليه سوى الكوفيين، وإنما قال سبحانه: قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل جل وعلا- ومن النصارى- كما هو الظاهر بدون إطناب للإيماء كما قال بعضهم: إلى أنهم على دين النصرانية بزعمهم وليسوا عليها في الحقيقة لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل:
للإشارة إلى أنهم لقبوا بذلك أنفسهم على معنى أنهم أنصار الله تعالى، وأفعالهم تقتضي نصرة الشيطان، فيكون العدول عن الظاهر ليتصور تلك الحال في ذهن السامع ويتقرر أنهم ادعوا نصرة الله تعالى وهم منها بمعزل، ونكتة تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله تعالى ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بالدعوى وقولها دون فعلها، ولا يخفى أن هذا مبني على أن وجه تسميتهم
267
نصارى كونهم أنصار الله تعالى وهو وجه مشهور، ولهذا يقال لهم أيضا: أنصار، وفي غير ما موضع أن عيسى عليه السلام ولد في سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر في بيت لحم من المقدس، ثم سارت به أمه عليها السلام إلى مصر، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام فأقام ببلدة تسمى الناصرة، أو نصورية وبها سميت النصارى، ونسبوا إليها، وقيل: إنهم جمع نصران كندامى وندمان- أو جمع نصرى- كمهرى ومهارى- والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى، والنصرانية أيضا دينهم، ويقال لهم: نصارى وأنصار، وتنصر دخل في دينهم فَنَسُوا على إثر أخذ الميثاق حَظًّا نصيبا وافرا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك من الفرائض، وقيل:
هو ما كتب عليهم في الإنجيل من الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم وتفرقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة فَأَغْرَيْنا أي ألزمنا وألصقنا، وأصله اللصوق يقال: غريت بالرجل غرى إذا لصقت به قاله الأصمعي، وقال غيره:
غريت به غراء بالمد، وأغريت زيدا بكذا حتى غري به، ومنه الغراء الذي يلصق به الأشياء، وقوله تعالى: بَيْنَهُمُ ظرف- لأغرينا- أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي أغرينا الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ كائنة بينهم.
قال أبو البقاء: ولا سبيل إلى جعله ظرفا لهما لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وأنت تعلم أن منهم من أجاز ذلك إذا كان المعمول ظرفا، وقوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إما غاية للإغراء، أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الكثيرة، ومنها النسطورية: واليعقوبية، والملكانية، وقد تقدم الكلام فيهم، فضمير بَيْنَهُمُ إلى النصارى كما روي عن الربيع، واختاره الزجاج والطبري، وعن الحسن وجماعة من المفسرين أنه عائد على اليهود والنصارى وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ في الدنيا من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به، والكلام مساق للوعيد الشديد بالجزاء والعقاب فالإنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم، لا أن ثمت أخبارا حقيقة، والنكتة في التعبير بالإنباء الإنباء بأنهم لا يعلمون حقيقة ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعها للعذاب، فيكون ترتيب العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها، والالتفات إلى ذكر الاسم الجليل لما مرّ مرارا، والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم فيه وَسَوْفَ لتأكيد الوعيد يا أَهْلَ الْكِتابِ التفات إلى خطاب الفريقين من اليهود والنصارى على أن الكتاب جنس صادق بالواحد والاثنين وما فوقهما، والتعبير عنهم بعنوان أهلية الكتاب للتشنيع، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنه بذلك مع الإضافة إلى ضمير العظمة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام يُبَيِّنُ لَكُمْ حال من رَسُولُنا وإيثار الفعلية للدلالة على تجدد البيان أي حال كونه مبينا لكم على سبيل التدريج حسبما تقتضيه المصلحة كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أي التوراة والإنجيل، وذلك كنعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد عليهما الصلاة والسلام،
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال: إن نبي الله تعالى صلّى الله عليه وسلّم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال عليه الصلاة والسلام: «أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام والذي رفع الطور وبالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل (١) فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله تعالى هذه الآية»
وتأخير كَثِيراً عن الجار والمجرور لما مرّ غير مرة، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، ومِمَّا متعلق
(١) أي رعدة اه منه.
268
بمحذوف وقع صفة- لكثيرا- وما موصولة اسمية وما بعدها صلتها، والعائد محذوف، ومن الْكِتابِ حال من ذلك المحذوف أي يبين لكم كثيرا من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والعاكفون عليه وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي ولا يظهر كثيرا مما تخفونه إذا لم تدع إليه داعية دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح، وقال الحسن: أي يصفح عن كثير منكم ولا يؤاخذه إذا تاب واتبعه، وأخرج ابن حميد عن قتادة مثله، واعترض أنه مخالف للظاهر لأن الظاهر أن يكون هذا الكثير كالكثير السابق، وفيه نظر- كما قال الشهاب- لأن النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة، نعم اختار الأول الجبائي وجماعة من المفسرين، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلة في حكمها قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار صلّى الله عليه وسلّم، وإلى هذا ذهب قتادة، واختاره الزجاج، وقال أبو علي الجبائي: عنى بالنور القرآن لكشفه وإظهاره طرق الهدى واليقين، واقتصر على ذلك الزمخشري، وعليه فالعطف في قوله تعالى: وَكِتابٌ مُبِينٌ لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات، وأما على الأول فهو ظاهر، وقال الطيبي: إنه أوفق لتكرير قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ بغير عاطف فعلق به أولا وصف الرسول والثاني وصف الكتاب، وأحسن منه ما سلكه الراغب حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التي خص بها العباد النبوة والعقل، والكتاب، وذكر في الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم فيهدي به إلى آخره ويرجع إلى قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ويخرجهم إلخ يرجع إلى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ ويهديهم يرجع إلى قوله عز شأنه: وَكِتابٌ مُبِينٌ كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] انتهى.
وأنت تعلم أنه لا دليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظي ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع، ولا يبعد عندي أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي صلّى الله عليه وسلّم، والعطف عليه كالعطف على ما قاله الجبائي، ولا شك في صحة إطلاق كل عليه عليه الصلاة والسلام، ولعلك تتوقف في قبوله من باب العبارة فليكن ذلك من باب الإشارة، والجار والمجرور متعلق بجاء، ومِنَ لابتداء الغاية مجازا، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من نور، وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء من جهته تعالى العالية والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، والمبين من بان اللازم بمعنى ظهر فمعناه الظاهر الإعجاز، ويجوز أن يكون من المتعدي فمعناه المظهر للناس ما كان خافيا عليهم.
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ توحيد الضمير لاتحاد المرجع بالذات، أو لكونهما في حكم الواحد، أو لكون المراد يهدي بما ذكر، وتقديم المجرور للاهتمام نظرا إلى المقام وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب، أو النصب على الحالية منه لتخصيصه بالصفة.
وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من رَسُولُنا بدلا من يُبَيِّنُ وأن تكون حالا من الضمير في يُبَيِّنُ، وأن تكون حالا من الضمير في مُبِينٌ، وأن تكون صفة لنور مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي من علم الله تعالى أنه يريد اتباع رضا الله تعالى بالإيمان به، ومَنِ موصولة أو موصوفة سُبُلَ السَّلامِ أي طرق السلامة من كل مخافة- قاله الزجاج- فالسلام مصدر بمعنى السلامة.
وعن الحسن والسدي أنه اسمه تعالى، ووضع المظهر موضع المضمر ردا على اليهود والنصارى الواصفين له سبحانه بالنقائص تعالى عما يقولون علوا كبيرا، والمراد حينئذ بسبله تعالى شرائعه سبحانه التي شرعها لعباده عز وجل، ونصبها قيل: على أنها مفعول ثان ليهدي على إسقاط حرف الجر نحو وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: ١٥٥].
وقيل: إنها بدل من- رضوان- بدل كل من كل، أو بعض من كل، أو اشتمال، والرضوان بكسر الراء وضمها
269
لغتان، وقد قرىء بهما، والسبل- بضم الباء والتسكين لغة، وقد قرىء به وَيُخْرِجُهُمْ الضمير المنصوب عائد إلى مَنِ والجمع باعتبار المعنى كما أن إفراد الضمير المرفوع في اتَّبَعَ باعتبار اللفظ.
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من فنون الكفر والضلال إلى الإيمان بِإِذْنِهِ أي بإرادته أو بتوفيقه.
وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو دين الإسلام الموصل إلى الله تعالى- كما قال الحسن- وفي إرشاد العقل السليم، وهذه الهداية عين الهداية إلى سُبُلَ السَّلامِ وإنما عطفت عليها تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: ٥٨].
وقال الجبائي: المراد بالصراط المستقيم طريق الجنة لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ لا غير المسيح كما يقال: الكرم هو التقوى، وإن الله تعالى هو الدهر أي الجالب للحوادث لا غير الجالب، فالقصر هنا للمسند إليه على المسند بخلاف قولك: زيد هو المنطلق فإن معناه لا غير زيد، والقائلون لذلك- على ما هو المشهور- هم اليعقوبية المدعون بأن الله سبحانه قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه.
وقيل: لم يصرح بهذا القول أحد من النصارى، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا مع تصريحهم بالوحدة، وقولهم:
لا إله إلا واحد لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم، وقال الراغب: فإن قيل: إن أحدا لم يقل الله تعالى هو المسيح وإن قالوا المسيح هو الله تعالى وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت فيصح أن يقال المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت كما صح أن يقال: الإنسان هو حيوان مع تركبه من العناصر، ولا يصح أن يقال: اللاهوت هو المسيح كما لا يصح أن يقال: الحيوان هو الإنسان، قيل: إنهم قالوا: هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا: ما تقولون في عيسى عليه الصلاة والسلام؟ فقال أحدهم: أو تعلمون أحدا يحيي الموتى إلا الله تعالى؟ فقالوا: لا، فقال: أو تعلمون أحدا يبرىء الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟
قالوا: لا، قالوا: فما الله تعالى إلا من هذا وصفه أي حقيقة الإلهية فيه، وهذا كقولك: الكريم زيد أي حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قولهم: إن الله تعالى هو المسيح انتهى، وأنت تعلم أنه مع دعوى أن القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود في المسيح كما هو ظاهر النظم لا يرد شيء قُلْ يا محمد تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان قولهم الفاسد وإلقاما لهم الحجر، وقد يقال: الخطاب لكل من له أهلية ذلك، والفاء في قوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً عاطفة على مقدر، أو جواب شرط محذوف، ومِنَ استفهامية للإنكار والتوبيخ، والملك الضبط والحفظ التام عن حزم، والمراد هنا- فمن يمنع، أو يستطيع- كما في قوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
ومِنَ اللَّهِ متعلق به على حذف مضاف أي ليس الأمر كذلك، أو إن كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ومن حق من يكون إلها أن لا يتعلق به، ولا بشأن من شؤونه، بل بشيء من الموجودات قدرة غيره فضلا عن أن يعجز عن دفع شيء منها عند تعلقها بهلاكه، فلما كان عجزه بينا لا ريب فيه ظهر كونه بمعزل عما تقولون فيه.
والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقا لا عن سخط وغضب، وإظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه
270
الألوهية حيث ذكرت معه الصفة في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه، وقيل: وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من أم، وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف لزيادة تأكيد عجز المسيح، ولعل نظمها في سلك من فرض إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجا لحال بقية من فرض إهلاكه، وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على عيسى عليه الصلاة والسلام لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى لا يقدر على دفع ما أريد به فضلا عما أريد بغيره، وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك كما أنه أسوة لهم في العجز وعدم استحقاق الألوهية. قاله المولى أبو السعود، وجَمِيعاً حال من المتعاطفات، وجوز أن يكون حالا من مِنَ فقط لعمومها، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي ما بين طرفي العالم الجسماني فيتناول ما في السموات من الملائكة وغيرها، وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات، قيل: تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته إثر الإشارة إلى كون البعض كذلك أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة لا لأحد سواه استقلالا ولا اشتراكا، فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عما سواه، وقيل: دليل آخر على نفي ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لو كان إلها كان له ملك السموات والأرض وما بينهما، وقيل: دليل على نفي كونه عليه الصلاة والسلام ابنا ببيان أنه مملوك لدخوله تحت العموم، ومن المعلوم أن المملوكية تنافي البنوة، وقوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبه في أمر المسيح عليه السلام لولادته من غير أب وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص. وإحياء الموتى، وما موصوفة محلها النصب على المصدرية أي يخلق أي خلق يشاؤه، فتارة يخلق من غير أصل- كخلق السموات والأرض- مثلا، وأخرى من أصل- كخلق بعض ما بينهما- وذلك متنوع أيضا، فطورا ينشئ من أصل ليس من جنسه كخلق آدم، وكثير من الحيوانات- وتارة من أصل يجانسه إما من ذكر وحده- كخلق حواء- أو من أنثى وحدها- كخلق عيسى عليه الصلاة والسلام- أو منهما- كخلق سائر الناس، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات- ككثير من المخلوقات- وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر- كخلق الطير- على يد عيسى عليه السلام معجزة له وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فينبغي أن ينسب كل ذلك إليه تعالى لا من أجرى على يده قاله غير واحد.
وقيل: إن الجملة جيء بها هاهنا مبينة لما هو المراد من قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ بحسب اقتضاء المقام، وما نصب على المصدرية أيضا، وقيل: يجوز أن تكون موصولة ومحلها النصب على المفعولية أي يخلق الذي يشاء أن يخلقه، والجملة مسوقة لبيان أن قدرته تعالى أوسع من عالم الوجود، وعلى كل تقدير فقوله سبحانه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله وإظهار الاسم الجليل لما مر من التعليل وتقوية استقلال الجملة وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ حكاية لما صدر من الفريقين من الدعوى الباطلة لأنفسهم، وبيان لبطلانها إثر ذكر ما صدر عن أحدهما من الدعوى الباطلة لغيره وبيان بطلانها أي قال كل من الطائفتين هذا القول الباطل، ومرادهم- بالأبناء المقربون- أي نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم، وبالأحباء- جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب، ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة كما يقال:
أبناء الدنيا، وأبناء الآخرة، وأن يكون أرادوا أشياع من وصف بالبنوة أي قالت اليهود نحن أشياع ابنه عزير، وقالت النصارى: نحن أشياع ابنه المسيح عليهما السلام، وأطلق الأبناء على الأشياع مجازا إما تغليبا أو تشبيها لهم بالأبناء
271
في قرب المنزلة، وهذا كما يقول أتباع الملك: نحن الملوك، وكما أطلق على أشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبون في قوله:
قدني من نصر الخبيبين قدني على رواية من رواه بالجمع، فقد قال ابن السكيت: يريد أبا خبيب ومن كان معه، فحيث جاز جمع خبيب وأشياع أبيه فأولى أن يجوز جمع ابن الله عز اسمه وأشياع الابن بزعم الفريقين، فاندفع ما قيل: إنهم لا يقولون ببنوة أنفسهم ولم يحمل على التوزيع بمعنى أنفسنا الأحباء وأبناؤنا الأبناء بجمع الابنين لمشاكلة الأحباء لأن خطاب بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ يأباه ظاهرا ويدل على ادعائهم البنوة بأي معنى كان:
وقيل: الكلام على حذف المضاف أي نحن أبناء أنبياء الله تعالى وهو خلاف الظاهر، وقائل ذلك من اليهود بعضهم ونسب إلى الجميع لما مر غير مرة،
فقد أخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعمان بن آصى وبحرى بن عمرو وشاش بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعاهم إلى الله تعالى وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه، وقالت النصارى ذلك قبلهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وعن الحسن أن النصارى تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم فقالوا ما قالوا.
وعندي أن إطلاق ابن الله تعالى على المطيع قد كان في الزمن القديم،
ففي التوراة قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى فرعون وقل له يقول لك الرب إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك، وفيها أيضا في قصة الطوفان أنه لما نظر بنو الله تعالى إلى بنات الناس وهم حسان جدا شغفوا بهن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فولدوا جبابرة فأفسدوا فقال الله تعالى: لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم،
وأريد بأبناء الله تعالى أولاد هابيل، وبأبناء الناس أبناء قابيل، وكنّ حسانا جدا فصرفن قلوبهن عن عباده الله تعالى إلى عبادة الأوثان، وفي المزامير أنت ابني سلني أعطك، وفيها أيضا أنت ابني وحبيبي، وقال شعيا في نبوته عن الله تعالى:
تواصوا بي في أبنائي وبناتي يريد ذكور عباد الله تعالى الصالحين وإناثهم، وقال يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من الرسالة الأولى- انظروا إلى محبة الأب لنا أن أعطانا أن ندعي أبناء- وفي الفصل الثالث- أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله تعالى فينبغي لنا أن ننزله في الإجلال على ما هو عليه فمن صح له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك لخطيئة والإثم، واعلموا أن من لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه- وقال المسيح: أحبوا أعدائكم، وباركوا على لاعنيكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا على من طردكم، كيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، وقال يوحنا التلميذ في قصص الحواريين: يا أحبائي إنا أبناء الله تعالى سمانا بذلك، وقال بولس الرسول في رسالته إلى ملك الروم: إن الروح تشهد لأرواحنا أننا أبناء الله تعالى وأحباؤه، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وقد جاء أيضا إطلاق الابن على العاصي ولكن بمعنى الأثر ونحوه، ففي الرسالة الخامسة لبولس إياكم والسفه والسب واللعب فإن الزاني والنجس كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت الله تعالى واحذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على الأبناء الذين لا يطيعونه، وإياكم أن تكونوا شركاء لهم فقد كنتم قبل في ظلمة فاسعوا الآن سعي أبناء النور، ومقصود الفريقين ب نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ هو المعنى المتضمن مدحا، وحاصل دعواهم أن لهم فضلا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق، فرد سبحانه عليهم ذلك، وقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ إلزاما لهم وتبكيتا فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم يوم القيامة بالنار أياما بعدد أيام عبادتكم العجل،
272
وقد اعترفتم بذلك في غير ما موطن، وهذا ينافي دعواكم القرب ومحبة الله تعالى لكم أو محبتكم له المستلزمة لمحبته لكم كما قيل: ما جزاء من يحب إلا يحب، أو فلأيّ شيء أذنبتم بدليل أنكم ستعذبون، وأبناء الله تعالى إنما يطلق إن أطلق في مقام الافتخار على المطيعين كما نطقت به كتبكم، أو إن صح ما زعمتم فلم عذبكم بالمسخ الذي لا يسعكم إنكاره وعدّ بعضهم من العذاب البلايا والمحن كالقتل والأسر، واعترض ذلك بأنه لا يصلح للإلزام فإن البلايا والمحن قد كثرت في الصلحاء، وقد ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء- عليهم السلام- ثم الأمثل فالأمثل»، وقال الشاعر:
ولكنهم أهل الحفائظ والعلا فهم لملمات الزمان خصوم
وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ليس الأمر كذلك بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ وإن شئت قدرت مثل هذا في أول الكلام وجعلت الفاء عاطفة، وقوله سبحانه: مِمَّنْ خَلَقَ متعلق بمحذوف وقع صفة بَشَرٌ أي بشر كائن من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم.
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم المؤمنون به تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه وهم الذين كفروا به سبحانه وبرسله عليهم السلام مثلكم، والذي دل على التخصيص قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨] إن قلنا بعمومه كما هو المعروف المشهور، ومن الغريب ما في شرح مسلم للنووي أنه يحتمل أن يكون مخصوصا بهذه الأمة وفيه نظر.
هذا وأورد بعض المحققين هنا إشكالا ذكر أنه قوي وهو أنه إذا كان معنى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ تعالى أشياع بنيه فغاية الأمر أن يكونوا على طريقة الابن تحقيقا للتبعية لكن من أين يلزم أن يكونوا من جنس الأب كما صرح به الزمخشري في انتفاء فعل القبائح، وانتفاء البشرية والمخلوقية ليحسن الرد عليهم بأنهم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ، نعم ما ذكروه في هذا المقام من استلزام المحبة عدم العصيان والمعاقبة ربما يتمشى لأن من شأن المحب أن لا يعصي الحبيب ولا يستحق منه المعاقبة ومن هنا قيل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
وفيه مناقشة لأن هذا شأن المحبين والأحباء هم المحبون، وأجاب عن إشكال إثبات البشرية بأنه ليس إثباتا لمطلق البشرية ليجب أن يكون رد الدعوى بانتفائه بل هو إثبات أنهم بشر مثل سائر البشر، ومن جنس سائر المخلوقين منهم العاصي والمطيع والمستحق للمغفرة والعذاب لا كما ادعوا من أنهم الأشياع المخصوصون بمزيد قرب واختصاص لا يوجد في سائر البشر ولذا وصف بشرا بقوله سبحانه مِمَّنْ خَلَقَ حتى لا يبعد أن يكون يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أيضا في موقع الصفة على حذف العائد أي لمن يشاء منهم، وأما إشكال الجنسية فقيل في جوابه: المراد أنكم لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم على صفتهم في ترك القبائح وعدم استحقاق العذاب لأن من شأن الأشياع والأتباع أن يكونوا على صفة المتبوعين، والمتبوعون هنا هم الأبناء بالزعم، ومن شأن الأبناء أن يكونوا على صفة الأب فمن شأن الأتباع أن يكونوا على صفة الأب بالواسطة، وقيل: كلام من قال: يلزم أن يكونوا من جنس الأب على حذف مضاف، أي لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم من جنس أشياع الأب يعني أهل الله تعالى الذين لا يفعلون القبائح ولا يستوجبون العقاب.
273
وفي الكشف إن قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ تعالى فيه إثبات الابن، وأنهم من أشياعه مستوجبون محبة الأب لذلك فينبغي أن يكون الرد مشتملا على هدم القولين فقيل: من أسندتم إليه البنوة لا يصلح لها لإمكان القبيح عليه وصدوره هفوة ومؤاخذته بالزلة ودعواكم المحبة كاذبة وإلا لما عذبتم، وأيضا إذا بطل أن يكون له تعالى ابن بطل أن يكونوا أشياعه، وكذلك المحبة المبنية على ذلك، ثم قال: وجاز أن يقال: إنه لإبطال أن يكونوا أبناء حقيقة كما يفهم من ظاهر اللفظ أو مجازا كما فسره الزمخشري اه.
وأنت تعلم أن كل ما ذكره ليس بشيء كما لا يخفى على من له أدنى تأمل، وما ذكرناه كاف في الغرض.
نعم ذكر الشهاب عليه الرحمة توجيها لا بأس به، وهو أن اللائق أن يكون مرادهم بكونهم أبناء الله تعالى أنه لما أرسل إليهم الابن على زعمهم وأرسل لغيرهم رسل عباده دل ذلك على امتيازهم عن سائر الخلق، وأن لهم مع الله تعالى مناسبة تامة وزلفى تقتضي كرامة لا كرامة فوقها، كما أن الملك إذا أرسل لدعوة قوم أحد جنده ولآخرين ابنه علموا أنه مريد لتقريبهم وأنهم آمنون من كل سوء يطرق غيرهم، ووجه الرد أنكم لا فرق بينكم وبين غيركم عند الله تعالى، فإنه لو كان كما زعمتم لما عذبكم وجعل المسخ فيكم، وكذا على كونه بمعنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد ويتعانق الجوابان فافهمه انتهى، والجواب عن المناقشة التي فعلها البعض يعلم ممّا أشرنا إليه سابقا فلا تغفل وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من تتمة الرد أي كل ذلك له تعالى لا ينتمي إليه سبحانه شيء منه إلا بالمملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيه كيف يشاء إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة، وإثابة وتعذيبا فأنّى لهؤلاء ادّعاء ما زعموا؟! وربما يقال: إن هذا مع ما تقدم ردّ لكونهم أبناء الله تعالى بمعنى أشياع بنيه، فنفى أولا كونهم أشياعا وثانيا وجود بنين له عز شأنه وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي الرجوع في الآخرة لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازي كلّا من المحسن والمسيء بما يستدعيه علمه من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه.
يا أَهْلَ الْكِتابِ تكرير للخطاب بطريق الالتفات ولطف في الدعوة، وقيل: الخطاب هنا لليهود خاصة قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة- الشرائع والأحكام النافعة معادا ومعاشا- المقرونة بالوعد والوعيد، وحذف هذا المفعول اعتمادا على الظهور إذ من المعلوم أن ما يبينه الرسول هو الشرائع والأحكام، ويجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم أي يفعل البيان ويبذله لكم في كل ما تحتاجون فيه من أمور الدين، وأما إبقاؤه متعديا مع تقدير المفعول كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كما قيل، فقد قيل فيه: مع كونه تكريرا من غير فائدة يرده قوله سبحانه: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ فإن فتور الإرسال وانقطاع الوحي إنما يحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه، وعَلى فَتْرَةٍ متعلق- بجاءكم- على الظرفية كما في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: ١٠٢] أي «جاءكم» على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحي ومزيد الاحتياج إلى البيان.
وجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ضمير يُبَيِّنُ أو من ضمير لَكُمْ أي يُبَيِّنُ لَكُمْ حال كونه على فترة، أو حال كونكم على فترة. ومِنَ الرُّسُلِ صفة فَتْرَةٍ ومِنَ ابتدائية، أي فترة كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم، والفترة فعلة من فتر عن عمله يفتر فتورا إذا سكن، والأصل فيها الانقطاع عما كان عليه من الجد في العمل، وهي عند جميع المفسرين انقطاع ما بين الرسولين.
واختلفوا في مدتها بين نبينا صلّى الله عليه وسلّم وعيسى عليه السلام، فقال قتادة: كان بينهما عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وستون سنة، وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، وقال ابن جريج: خمسمائة سنة، وقال الضحاك:
أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، وأخرج ابن عساكر عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنها ستمائة سنة، وقيل: كان بين
274
نبينا صلّى الله عليه وسلّم وأخيه عيسى عليه السلام ثلاثة أنبياءهم المشار إليهم بقوله تعالى: أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ [يس: ١٤]، وقيل: بينهما عليهما الصلاة والسلام أربعة: الثلاثة المشار إليهم، وواحد من العرب من بني عبس- وهو خالد بن سنان عليه السلام- الذي
قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك نبي ضيعه قومه»
ولا يخفى أن الثلاثة الذين أشارت إليهم الآية رسل عيسى عليه السلام ونسبة إرسالهم إليه تعالى بناء على أنه كان بأمره عزّ وجلّ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك وأما خالد بن سنان العبسي فقد تردد فيه الراغب في محاضراته، وبعضهم لم يثبته، وبعضهم قال:
إنه كان قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام لأنه
ورد في حديث: «لا نبي بيني وبين عيسى» صلّى الله عليه وسلّم،
لكن في التواريخ إثباته، وله قصة في كتب الآثار مفصلة، وذكر أن بنته أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنت به، ونقش الشيخ الأكبر قدس سره له فصا في كتابه فصوص الحكم، وصحح الشهاب أنه عليه السلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنه قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد ببنته الجائية إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- إن صح الخبر- بنته بالواسطة لا البنت الصلبية إذ بقاؤها إلى ذلك الوقت مع عدم ذكر أحد أنها من المعمرين بعيد جدا، وكان بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ألف وسبعمائة سنة في المشهور، لكن لم يفتر فيها الوحي، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث فيها ألف بني من بني إسرائيل سوى من بعث من غيرهم أَنْ تَقُولُوا تعليل لمجيء الرسول بالبيان أي كراهة أن تقولوا- كما قدره البصريون- أو لئلا تقولوا- كما يقدر الكوفيون- معتذرين من تفريطكم في أحكام الدين يوم القيامة ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ وقد انطمست آثار الشريعة السابقة وانقطعت أخبارها، وزيادة مِنَ في الفاعل للمبالغة في نفي المجيء، وتنكير بَشِيرٍ ونَذِيرٍ على ما قال شيخ الإسلام: للتقليل وتعقيب- قد جاءكم- إلخ بهذا يقتضي أن المقدر، أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت بل مشفوعة بذكر الوعد والوعيد، والفاء في قوله تعالى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ تفصح عن محذوف ما بعدها علة له، والتقدير هنا لا تعتذروا فَقَدْ جاءَكُمْ وتسمى الفاء الفصيحة، وتختلف عبارة المقدر قبلها، فتارة يكون أمرا أو نهيا، وتارة يكون شرطا كما في قوله تعالى: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الروم: ٥٦]، وقول الشاعر:
فقد جئنا خراسانا
. وتارة معطوفا عليه كما في قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ [البقرة: ٦٠] وقد يصار إلى تقدير القول- كما في الفرقان- في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ، وإن شئت قدرت هنا أيضا، فقلنا: لا تعتذروا فقد إلخ، وقد صرح بعض علماء العربية أن حقيقة هذه الفاء أنها تتعلق بشرط محذوف، ولا ينافي ذلك إضمار القول لأنه إذا ظهر المحذوف لم يكن بدّ من إضمار ليرتبط بالسابق فيقال: في البيت مثلا، وقلنا، أو فقلنا: إن صح ما ذكرتم فقد جئنا خراسانا، وكذلك ما نحن فيه فقلنا: لا تعتذروا فقد جاءكم، ثم إنه في المعنى جواب شرط مقدر سواء صرح بتقديره أم لا لأن الكلام إذا اشتمل على مترتبين أحدهما على الآخر ترتب العلية كان في معنى الشرط والجزاء، فلا تنافي بين التقادير والتقارير المختلفة، ولو سلّم التنافي فهما وجهان ذكروا أحدهما في موضع والآخر في آخر- كما حققه في الكشف- وقد مرت الإشارة من بعيد إلى أمر هذه الفاء فتذكر، وتنوين بَشِيرٍ ونَذِيرٍ للتفخيم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على إرسال الرسل تترى، وعلى الإرسال بعد الفترة.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ جملة مستانفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق منهم، وتفصيل كيفية نقضهم له مع الإشارة إلى انتفاء فترة الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما بينهم وإِذْ نصب على أنه مفعول لفعل محذوف خوطب به سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من الجنايات، أي واذكر لهم يا محمد وقت قول موسى عليه السلام ناصحا ومستميلا لهم بإضافتهم إليه
275
يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه، وإن كان هو المقصود بالذات كما مرت الإشارة إليه، وعَلَيْكُمْ متعلق إما بالنعمة إن جعلت مصدرا، وإما بمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما أي اذكروا إنعامه عليكم بالشكر، واذكروا نعمته كائنة عليكم، وكذا إِذْ في قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ متعلقة بما تعلق به الجار والمجرور أي اذكروا إنعامه عليكم في وقت جعله، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء، وصيغة الكثرة على حقيقتها كما هو الظاهر، والمراد بهم موسى وهارون ويوسف وسائر أولاد يعقوب على القول بأنهم كانوا أنبياء، أو الأولون، والسبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه، فقد قال ابن السائب ومقاتل: إنهم كانوا أنبياء.
وقال الماوردي وغيره: المراد بهم الأنبياء الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل، والفعل الماضي مصروف عن حقيقته، وقيل: المراد بهم من تقدم ومن تأخر ولم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً عطف على جَعَلَ فِيكُمْ وغير الأسلوب فيه لأنه لكثرة الملوك فيهم أو منهم صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم في السعة والترفه، فلذا تجوز في إسناد الملك إلى الجميع بخلاف النبوة فإنها وإن كثرت لا يسلك أحد مسلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنها أمر إلهي يخص الله تعالى به من يشاء، فلذا لم يتجوز في إسنادها، وقيل: لا مجاز في الإسناد، وإنما هو في لفظ الملوك فإن القوم كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله تعالى، فسمي ذلك الإنقاذ ملكا، وقيل: لا مجاز أصلا بل جعلوا كلهم ملوكا على الحقيقة، والملك من كان له بيت وخادم كما جاء عن زيد بن أسلم مرفوعا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا.
وأخرج ابن جرير عن الحسن هل الملك إلا مركب وخادم ودار، وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك زوجة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال:
نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادما، قال: فأنت من الملوك، وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار، وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق، وإليه ذهب أبو علي الجبائي، وأنت تعلم أن الظاهر هنا القول بالمجاز وما ذكر في معرض الاستدلال محتمل له أيضا وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر وإغراق العدو وتظليل الغمام وانفجار الحجر وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور المخصوصة، والخطاب لقوم موسى عليه السلام كما هو الظاهر، وأل في الْعالَمِينَ للعهد، والمراد عالمي زمانهم، أو للاستغراق، والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل، وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية، وإيتاء ما لم يؤت أحد وإن لم يلزم منه التفضيل لكن المتبادر من استعماله ذلك، ولذا أول بما أول، وعن سعيد بن جبير وأبي مالك أن الخطاب هنا لهذه الأمة وهو خلاف الظاهر جدا ولا يكاد يرتكب مثله في الكتاب المجيد لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبني إسرائيل فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم، وكأن الداعي للقول به ظن لزوم التفضيل مع عدم دافع له سوى ذلك، وقد علمت أنه من بعض الظن يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ كرر النداء مع الإضافة التشريفية اهتماما بشأن الأمر، ومبالغة في حثهم على الامتثال به.
والْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ هي- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي وابن زيد- بيت المقدس، وقال
276
الزجاج: دمشق وفلسطين والأردن (١)، وقال مجاهد هي أرض الطور وما حوله، وعن معاذ بن جبل هي ما بين الفرات وعريش مصر، والتقديس التطهير، ووصفت تلك الأرض بذلك إما لأنها مطهرة من الشرك حيث جعلت مسكن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو لأنها مطهرة من الآفات، وغلبة الجبارين عليها لا يخرجها عن أن تكون مقدسة، أو لأنها طهرت من القحط والجوع، وقيل: سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب.
الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قدرها وقسمها لكم، أو كتب في اللوح المحفوظ أنها تكون مسكنا لكم.
روي أن الله تعالى أمر الخليل عليه الصلاة والسلام أن يصعد جبل لبنان فما انتهى بصره إليه فهو له ولأولاده فكانت تلك الأرض مدى بصره، وعن قتادة والسدي أن المعنى التي أمركم الله تعالى بدخولها وفرضه عليكم، فالكتب هنا مثله في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: ١٨٣] وذهب إلى الاحتمالين الأولين كثير من المفسرين، والكتب على أولهما مجاز، وعلى ثانيهما حقيقة، وقيدوه بإن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعد ما عصوا: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: ٢٦] وقوله سبحانه: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ فإن ترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعا، والأدبار جمع دبر وهو ما خلفهم من الأماكن من مصر وغيرها، والجار والمجرور حال من فاعل تَرْتَدُّوا أي لا ترجعوا عن مقصدكم منقلبين خوفا من الجبابرة، وجوز أن يتعلق بنفس الفعل، ويحتمل أن يراد بالارتداد صرف قلوبهم عما كانوا عليه من الاعتقاد صرفا غير محسوس أي لا ترجعوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى، وإليه ذهب أبو علي الجبائي، وقوله تعالى: فَتَنْقَلِبُوا إما مجزوم بالعطف وهو الأظهر، وإما منصوب في جواب النهي، قال الشهاب: على أنه من قبيل لا تكفر تدخل النار، وهو ممتنع خلافا للكسائي، وفيه نظر لا يخفى، والمراد بالخسران خسران الدارين قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ شديدي البطش متغلبين لا تتأتى مقاومتهم ولا تجز لهم ناصية، والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي على القياس لا من أجبره على خلافه- كالحساس- من الإحساس وهو الذي يقهر الناس ويكرههم كائنا من كان على ما يريده كائنا ما كان، ومعناه في البخل ما فات اليد طولا، وكان هؤلاء القوم من العمالقة بقايا قوم عاد وكانت لهم أجسام ليست لغيرهم، أخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن ابن حجيرة قال: استظل سبعون رجلا من قوم موسى عليه السلام في قحف رجل من العمالقة، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن زيد بن أسلم قال: بلغني أنه رئيت ضبع وأولادها رابضة في فجاج عين رجل منهم إلى غير ذلك من الأخبار، وهي عندي كأخبار عوج بن عنق وهي حديث خرافة وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها بقتال غيرنا، أو بسبب يخرجهم الله تعالى به فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها، وهذا امتناع عن القتال على أتم وجه فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها فَإِنَّا داخِلُونَ فيها حينئذ، وأتوا بهذه الشرطية- مع كون مضمونها مفهوما مما تقدم- تصريحا بالمقصود وتنصيصا على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها، وأتوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة- بإن- دلالة على تقرر الدخول وثباته عند تحقق الشرط لا محالة وإظهارا لكمال الرغبة فيه وفي الامتثال بالأمر قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون الله تعالى، وبه قرىء، والمراد رجلان من المتقين وهما- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والسدي والربيع- يوشع بن نون وكالب بن يوقنا، وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو، وقيل: المراد بالرجلين ما ذكر، ومِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ بنو إسرائيل
(١) بضم الهمزة وسكون الراء المهملة وضم الدال كذلك وتشديد النون وهي كورة بالشام اه منه.
277
والمراد يخافون العدو، ومعنى كون الرجلين منهم أنهما منهم في النسب لا في الخوف، وقيل: في الخوف أيضا، والمراد أنهما لم يمنعهما الخوف عن قول الحق، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير أن الرجلين كانا من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى عليه السلام، فعلى هذا يكون الَّذِينَ عبارة عن الجبابرة، والواو ضمير بني إسرائيل، وعائد الموصول محذوف أي يخافونهم، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير «يخافون» بضم الياء، وجعلها الزمخشري شاهدة على أن الرجلين من الجبارين كأنه قيل: من المخوّفين أي يخافهم بنو إسرائيل، وفيها احتمالان آخران: الأول أن يكون من الإخافة، ومعناه من الذين يخوّفون من الله تعالى بالتذكير والموعظة أو يخوّفهم وعيد الله تعالى بالعقاب، والثاني أن معنى يَخافُونَ يهابون ويوقرون، ويرجع إليهم لفضلهم وخيرهم: ومع هذين الاحتمالين لا ترجيح في هذه القراءة لكونهما من الجبارين، وترجيح ذلك بقوله تعالى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان والتثبيت غير ظاهر أيضا لأنه صفة مشتركة بين يوشع وكالب وغيرهما، وكونه إنما يليق أن يقال لمن أسلم من الكفار لا لمن هو مؤمن في حيز المنع، والجملة صفة ثانية- لرجلين- أو اعتراض، وقيل: حال بتقدير قد من ضمير يَخافُونَ أو من رَجُلانِ لتخصيصه بالصفة، أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي قالا مخاطبين لهم ومشجعين ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب مدينتهم وتقديم عَلَيْهِمُ عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم في بلدهم أي فاجئوهم وضاغطوهم في المضيق ولا تمهلوهم ليحصروا ويجدوا للحرب مجالا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ عليهم الباب فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ من غير حاجة القتال فإنا قد رأيناهم وشاهدناهم أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم في المضائق فإنهم لا يقدرون على الكر والفر، وقيل: إنما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه السلام، وقوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وقيل: من جهة غلبة الظن، وما تبينا من عادة الله تعالى في نصرة رسله، وما عهدا من صنع الله تعالى لموسى عليه السلام في قهر أعدائه، قيل: والأول أنسب بتعليق الغلبة بالدخول وَعَلَى اللَّهِ تعالى خاصة فَتَوَكَّلُوا بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها لا تؤثر من دون إذنه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله تعالى، والمراد بهذا الإلهاب والتهييج وإلا فإيمانهم محقق، وقد يراد بالإيمان التصديق بالله تعالى وما يتبعه من التصديق بما وعده أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما قالُوا غير مبالين بهما وبمقالتهما مخاطبين لموسى عليه السلام إظهارا لإصرارهم على القول الأول وتصريحا بمخالفتهم له عليه السلام يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أي أرض الجبابرة فضلا عن الدخول عليهم وهم في بلدهم أَبَداً أي دهرا طويلا، أو فيما يستقبل من الزمان كله ما دامُوا فِيها أي في تلك الأرض، وهو بدل من أَبَداً بدل البعض وقيل: بدل الكل من الكل، أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين ومثله في الإبدال قوله:
وأكرم أخاك الدهر ما دمتما معا كفى بالممات فرقة وتنائيا
فإن قوله: «ما دمتما» بدل من الدهر فَاذْهَبْ أي إذا كان الأمر كذلك فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا أي فقاتلاهم وأخرجاهم حتى ندخل الأرض وقالوا ذلك استهانة واستهزاء به سبحانه وبرسوله عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاة، وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم وقسوة قلوبهم، والمقابلة بقوله تعالى إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، وقيل: أرادوا إرادتهما وقصدهما كما تقول: كلمته فذهب يجيبني كأنهم قالوا: فأريدا قتالهم واقصداهم، وقال البلخي: المراد فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ يعينك، فالواو للحال، وأَنْتَ مبتدأ حذف خبره وهو خلاف الظاهر، ولا يساعده فَقاتِلا ولم يذكروا أخاه هارون عليهما السلام ولا الرجلين اللذين قالا كأنهم لم يجزموا بذهابهم أولم يعبؤوا بقتالهم، وأرادوا بالقعود عدم التقدم لا عدم التأخر أيضا قالَ موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من
278
العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة، فليس القصد إلى الإخبار وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه، فليس قوله ردا لما أمر الله تعالى به ولا اعتذارا عن عدم الدخول رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هارون عليه السلام وهو عطف على نَفْسِي أي لا يجيبني إلى طاعتك ويوافقني على تنفيذ أمرك سوى نَفْسِي وَأَخِي ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما وإن كانا يوافقانه إذا دعا لما رأى من تلون القوم وتقلب آرائهم فكأنه لم يثق بهما ولم يعتمد عليهما.
وقيل: ليس القصد إلى القصر بل إلى بيان قلة من يوافقه تشبيها لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه وأخاه، وجوز أن يراد- بأخي- من يؤاخيني في الدين فيدخلان فيه ولا يتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ له في الدين، أو بجنس الأخ وفيه بعد، ويجوز في أَخِي وجوها أخر من الإعراب: الأول أنه منصوب بالعطف على اسم- إن- الثاني أنه مرفوع بالعطف على فاعل أَمْلِكُ للفصل، الثالث أنه مبتدأ خبره محذوف، الرابع أنه معطوف على محل اسم- إن- البعيد لأنه بعد استكمال الخبر، والجمهور على جوازه حينئذ، الخامس أنه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي الكوفيين، ثم لا يلزم على بعض الوجوه الاتحاد في المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أي وأخي إلا نفسه، فلا يرد ما قيل: إنه يلزم من عطفه على اسم- إن- أو فاعل أَمْلِكُ أن موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا نفس موسى عليه السلام فقط، وليس المعنى على ذلك كما لا يخفى، وليس من عطف الجمل بتقدير ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم، وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في مدلول ذلك ومفهومه الكلي لا الشخص المعين بمتعلقاته المخصوصة فإن ذلك إلى القرائن فَافْرُقْ بَيْنَنا يريد نفسه وأخاه عليهما الصلاة والسلام، والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله، وقرىء «فافرق» بكسر الراء وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن طاعتك بأن تحكم لنا بما نستحقه، وعليهم بما يستحقونه كما هو المروي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهم، وقال الجبائي: سأل عليه السلام ربه أن يفرق بالتبعيد في الآخرة بأن يجعله وأخاه في الجنة ويجعلهم في النار، وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين، ويرجحه تعقيب الدعاء بقوله تعالى: قالَ فَإِنَّها فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو به،
وقد أخرج ابن جرير عن السدي قال: إن موسى عليه السلام غضب حين قال له القوم ما قالوا فدعا- وكان ذلك عجلة منه عليه السلام عجلها- فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى عليه فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
والضمير المنصوب عائد إلى الأرض المقدسة أي فإنها لدعائك مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها ولا يملكونها، والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، ومثله قول امرئ القيس يصف فرسه:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام
يريد إني فارس لا يمكنك أن تصرعيني، وجوز أبو علي الجبائي- وإليه يشير كلام البلخي- أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر أَرْبَعِينَ سَنَةً متعلق- بمحرمة- فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبدا فلا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى:
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة لكن- لا- بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقي حسبما
روي أن موسى عليه السلام سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض عليه السلام، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد،
وقيل: لم يدخلها أحد ممن قال: لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً وإنما دخلها مع موسى عليه السلام النواشئ من
279
ذرياتهم، وعليه فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريما عليهم لما بينهما من العلاقة التامة، وقوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ استئناف لبيان كيفية حرمانهم، وقيل: حال من ضمير عَلَيْهِمْ، والتيه: الحيرة، ويقال: تاه يتيه ويتوه، وهو أتوه وأتيه، فهو مما تداخل فيه الواو والياء، والمعنى يسيرون متحيرين وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق.
وقيل: الظرف متعلق ب يَتِيهُونَ، وروي ذلك عن قتادة فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه، وكانت مسافة الأرض التي تاهوا فيها ثلاثين فرسخا في عرض تسعة فراسخ كما قال مقاتل، وقيل: اثني عشر فرسخا في عرض ستة فراسخ، وقيل: ستة في عرض تسعة، وقيل: كان طولها ثلاثين ميلا في عرض ستة فراسخ وهي ما بين مصر والشام، وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون فيصبحون حيث يمسون ويمسون حيث يصبحون- كما قاله الحسن ومجاهد- قيل: وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ عوقبوا بما يشبه القعود، وكان أربعين سنة لأنها غاية زمن يرعوي فيه الجاهل.
وقيل: لأنهم عبدوا العجل أربعين يوما فجعل عقاب كل يوم سنة في التيه وليس بشيء، وكان ذلك من خوارق العادات إذ التحير في مثل تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله العادة، ولعل ذلك كان بمحو العلامات التي يستدل بها، أو بأن ألقي شبه بعضها على بعض.
وقال أبو علي الجبائي: إنه كان بتحول الأرض التي هم عليها وقت نومهم ويغني الله تعالى عن قبوله.
وروي أنه كان الغمام يظلهم من حر الشمس وينزل عليهم المنّ والسلوى، وجعل معهم حجر موسى عليه السلام يتفجر منه الماء دفعا لعطشهم،
قيل: ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم ولا يطول شعرهم ولا تبلى ثيابهم كما روي عن الربيع بن أنس، وكانت تشب معهم إذا شبوا كما روي عن طاوس.
وذكر غير واحد من القصاص أنهم كانوا إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله ولا يبلى إلى غير ذلك مما ذكروه.
والعادة تبعد كثيرا منه فلا يقبل إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولقد سألت بعض أحبار اليهود عن لباس بني إسرائيل في التيه، فقال: إنهم خرجوا من مصر ومعهم الكثير من ثياب القبط وأمتعتهم، وحفظها الله تعالى لكبارهم وصغارهم فذكرت له حديث الظفر، فقال لم نظفر به وأنكره فقلت له: هي فضيلة فهلا أثبتها لقومك؟ فقال: لا أرضى بالكذب ثوبا، واستشكل معاملتهم بهذه النعم مع معاقبتهم بالحيرة، وأجيب بأن تلك المعاقبة من كرمه تعالى، وتعذيبهم إنما كان للتأديب كما يضرب الرجل ولده مع محبته له ولا يقطع عنه معروفه، ولعلهم استغفروا من الكفر إذا كان قد وقع منهم، وأكثر المفسرين على أن موسى وهارون عليهما السلام كانا معهم في التيه لكن لم ينلهما من المشقة ما نالهم، وكان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لإبراهيم عليه السلام، ولعل الرجلين أيضا كانا كذلك.
وروي أن هارون مات في التيه واتهم به موسى عليهما السلام فقالوا: قتله لحبنا له فأحياه الله تعالى بتضرعه، فبرأه مما يقولون، وعاد إلى مضجعه، ومات موسى عليه السلام بعده بسنة،
وقيل: بستة أشهر ونصف، وقيل: بثمانية أعوام، ودخل يوشع أريحا بعده بثلاثة أشهر، وقال قتادة: بشهرين، وكان قد نبئ قبل بمن بقي من بني إسرائيل ولم يبق المكلفون وقت الأمر منهم، قيل- ولا يساعده النظم الكريم- فإنه بعد ما قبل دعوته عليه السلام على بني إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجو من نجا، ويقدر وفاة النبيين عليهما السلام في محل العقوبة ظاهرا، وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة، وأنت تعلم أن الأخبار بموتهما عليهما السلام بالتيه كثيرة لا سيما الأخبار بموت هارون عليه
280
السلام، ولا أرى للاستبعاد محلا، ولعل ذلك أنكى لبني إسرائيل.
وقيل: إنهما عليهما السلام لم يكونا مع بني إسرائيل في التيه، وأن الدعاء- وقد أجيب- كان بالفرق بمعنى المباعدة في المكان بالدنيا، وأرى هذا القول مما لا يكاد يصح، فإن كثيرا من الآيات كالنص في وجود موسى عليه السلام معهم فيه كما لا يخفى فَلا تَأْسَ أي فلا تحزن لموتهم، أو لما أصابهم فيه من الأسى- وهو الحزن- عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الذين استجيب لك في الدعاء عليهم لفسقهم، فالخطاب لموسى عليه السلام كما هو الظاهر، وإليه ذهب أجلة المفسرين.
وقال الزجاج: إنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد- بالقوم الفاسقين- معاصروه عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل كأنه قيل: هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك فإنهم ورثوا ذلك عنهم.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى: وَإِذْ قالَ موسى إلخ، وتعلقه به قيل: من حيث إنه تمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جنايات بني إسرائيل بعد ما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به
281
من البينات وقيل: من حيث إن في الأول الجبن عن القتل، وفي هذا الإقدام عليه مع كون كل منهما معصية، وضمير عَلَيْهِمْ يعود على بني إسرائيل كما هو الظاهر إذ هم المحدث عنهم أولا، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بتلاوة ذلك عليهم إعلاما لهم بما هو في غامض كتبهم الأول الذي لا تعلق للرسول عليه الصلاة والسلام بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم، وقيل: الضمير عائد على هذه الأمة أي اتل يا محمد على قومك نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هابيل عليه الرحمة، وقابيل عليه ما يستحقه، وكانا بإجماع غالب المفسرين ابني آدم عليه السلام لصلبه.
وقال الحسن: كانا رجلين من بني إسرائيل- ويد الله تعالى مع الجماعة- وكان من قصتهما ما
أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين أنه كان لا يولد لآدم عليه السلام مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، جعل افتراق البطون بمنزلة افتراق النسب للضرورة إذ ذاك حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وهابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت واسمها إقليما أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه، وقال: هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى، فقال لهما: قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها، وإنما أمر بذلك لعلمه أنه لا يقبل من قابيل لا أنه لو قبل جاز، ثم غاب عليه السلام عنهما آتيا مكة ينظر إليها فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للأرض: فأبت، وقال للجبال: فأبت، فقال لقابيل: فقال نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم عليه السلام قربا قربانا فقرب هابيل جذعة، وقيل: كبشا، وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وكان ذلك علامة القبول، وكان أكل القربان غير جائز في الشرع القديم وتركت قربان قابيل فغضب، وقال: لأقتلنك فأجابه بما قص الله تعالى
بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر اتْلُ أي اتل تلاوة متلبسة بالحق والصحة، أو حال من فاعل اتْلُ أو من مفعوله أي متلبسا أنت أو نبأهما بالحق والصدق موافقا لما في زبر الأولين، وقوله تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ظرف لنبأ، وعمل فيه لأنه مصدر في الأصل، والظرف يكفي فيه رائحة الفعل، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منه، ورد بأنه حينئذ يكون قيدا في عامله وهو اتْلُ المستقبل، وإِذْ لما مضى فلا يتلاقيان، ولذا لم يتعلق به مع ظهوره، وقد يجاب بالفرق بين الوجهين فتأمل.
وقيل: إنه بدل من نَبَأَ على حذف المضاف ليصح كونه متلوا أي اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، ورده في البحر بأن إِذْ لا يضاف إليها إلا الزمان نحو يومئذ وحينئذ ونَبَأَ ليس بزمان، وأجيب بالمنع، ولا فرق بين نبأ ذلك الوقت ونبأ إِذْ وكل منهما صحيح معنى وإعرابا، ودعوى- جواز الأول سماعا دون الثاني- دون إثباتها خرط القتاد، والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو غيرها- كالحلوان- اسم لما يحلى أي يعطى، وتوحيده لما أنه في الأصل مصدر، وقيل: تقديره إذ قرب كل منهما قربانا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ لأنه سخط حكم الله تعالى، وهو عدم جواز نكاح التوأمة قالَ استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قال من لم يتقبل قربانه؟ فقيل: قال لأخيه لفرط الحسد على قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عز وجل كما يدل عليه الكلام الآتي، وقيل: على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء لَأَقْتُلَنَّكَ أي والله تعالى لَأَقْتُلَنَّكَ بالنون المشددة، وقرىء بالمخففة قالَ استئناف كالذي قبله أي قال الذي تقبل قربانه لما رأى جسد أخيه إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ أي القربان والطاعة مِنَ الْمُتَّقِينَ في ذلك بإخلاص النية فيه لله تعالى لا من غيرهم، وليس
282
المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أول المراتب كما قيل، ومراده من هذا الجواب أنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي، فلم تقتلني وما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول؟! وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان.
وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا في إزالة حظه ونعمته، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه، وقيل: مراده الكناية عن أنه لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة، أو الكناية عن أنه لا يقتله دفعا لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده، ولا يخفى بعده وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك، فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله تعالى يقول: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ قيل: كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله تعالى لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت، وفي تلك الشريعة- كما روي عن مجاهد- وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج- قال: كانت بنو إسرائيل قد كتب عليهم إذا الرجل بسط يده إلى الرجل لا يمتنع منه حتى يقتله أو يدعه، أو تحريا لما هو الأفضل الأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا لا قاتلا بالدفع عن نفسه بناء على جوازه إذ ذاك، قال بعض المحققين: واختلف في هذا الآن على ما بسطه الإمام الجصاص فالصحيح من المذهب أنه يلزم الرجل دفع الفساد عن نفسه وغيره وإن أدى إلى القتل، ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره: إن المعنى في الآية لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ على سبيل الظلم والابتداء لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ على وجه الظلم والابتداء، وتكون الآية على ما قاله مجاهد وابن جريج: منسوخة، وهل نسخت قبل شريعتنا أم لا؟ فيه كلام، والدليل عليه قوله تعالى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ [الحجرات: ٩] وغيره من الآيات والأحاديث، وقيل: إنه لا يلزم ذلك بل يجوز، واستدل بما
أخرجه ابن سعد في الطبقات عن خباب بن الأرت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر «فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل»
وأولوه بترك القتال في الفتنة واجتنابها وأول الحديث يدل عليه، وأما من منع ذلك الآن مستدلا
بحديث: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»
فقد رد بأن المراد به أن يكون كل منهما عزم على قتل أخيه وإن لم يقاتله وتقابلا بهذا القصد انتهى بزيادة.
وعن السيد المرتضى أن الآية ليست من محل النزاع لأن اللام الداخلة على فعل القتل لام كي وهي منبئة عن الإرادة والغرض، ولا شبهة في قبح ذلك أولا وآخرا لأن المدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله، فكأنه قال له: لئن ظلمتني لم أظلمك وإنما قال سبحانه: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ في جواب لَئِنْ بَسَطْتَ للمبالغة في أنه ليس من شأنه ذلك ولا ممن يتصف به، ولذلك أكد النفي بالباء ولم يقل وما أنا بقاتل بل قال: بِباسِطٍ للتبري عن مقدمات القتل فضلا عنه، وقدم الجار والمجرور المتعلق- ببسطت- إيذانا على ما قيل من أول الأمر برجوع ضرر البسط وغائلته إليه، ويخطر لي أنه قدم لتعجيل تذكيره بنفسه المنجر إلى تذكيره بالأخوة المانعة عن القتل، وقوله تعالى: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله، وفيه إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى على أتم وجه، وتعريض بأن القاتل لا يخاف الله تعالى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ تعليل آخر لامتناعه عن البسط، ولما كان كل منهما علة مستقلة لم يعطف أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال ودفعا لتوهم أن يكون جزء علة لا علة تامة، وأصل البوء اللزوم، وفي النهاية: أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع
283
وأقر، والمعنى أني أريد باستسلامي وامتناعي عن التعرض لك أن ترجع بإثمي أي تتحمله لو بسطت يدي إليك حيث كنت السبب له، وأنت الذي علمتني الضرب والقتل، وإثمك حيث بسطت إلي يدك، وهذا نظير ما
أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم»
أي على البادئ إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفو عنه لأنه مكافئ دافع عن عرضه، ألا ترى إلى
قوله: «ما لم يعتد المظلوم»
لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم كذا في الكشاف، قيل: وفيه نظر لأن حاصل ما قرره أن على البادئ إثمه ومثل إثم صاحبه إلا أن يتعدى الصاحب فلا يكون هذا المجموع على البادئ، ولا دلالة فيه على أن المظلوم إذ لم يتعد كان إثمه المخصوص بسببه ساقطا عنه اللهم إلا بضميمة تنضم إليه، وليس في اللفظ ما يشعر بها، ورده في الكشف بأنه كيف لا يدل على سقوطه عنه،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «فعلى البادئ»
مخصص ظاهر، وقول الكشاف: «إلا أن الإثم محطوط» تفسير
لقوله: «فعلى البادئ»
وقوله: فعليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه تفسير لقوله: ما قالا، فكما يدل على أن عليه إثما مضاعفا يدل على أن إثم صاحبه ساقط.
هذا ثم قال: ولعل الأظهر في الحديث أن لا يضمر المثل، والمعنى إثم سبابهما على البادئ، وكان ذلك لئلا يلتزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، والقول: بأنه إذا لم يكن لما قاله غير البادئ إثم، فكيف يقال: إثم سبابهما، وكيف يضاف إليه الإثم مشترك الإلزام؟ وتحقيقه أن لما قاله غير البادئ إثما وليس على البادي، وليس بمناف لقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤، الإسراء: ١٥، فاطر: ١٨، الزمر: ٧] لأنه بحمله عليه عد جانيا، وهذا كما ورد فيمن سن سنة حسنة أو سنة سيئة، نعم فيما نحن فيه العامل لا إثم له إنما هو للحامل، والحاصل أن سب غير البادئ يترتب عليه شيئان، أحدهما بالنسبة إلى فاعله وهو ساقط إذا كان على وجه الدفع دون اعتداء، والثاني بالنسبة إلى حامله عليه وهو غير ساقط أعني أنه يثبت ابتداء لا أنه لا يعفى، وأورد في التحقيق أن ما ذكره من حط الإثم من المظلوم لأنه مكافىء غير صحيح لأنه إذا سب شخص لم يستوف الجزاء إلا بالحاكم، والجواب إن صريح الحديث يدل على ما ذكر في الكشاف، والجمع بينه وبين الحكم الفقهي أن السب إما أن يكون بلفظ يترتب عليه الحد شرعا فذلك سبيله الرفع إلى الحاكم، أو بغير ذلك وحينئذ لا يخلو إما أن يكون كلمة إيحاش أو امتنان أو تفاخر بنسب ونحوه مما يتضمن إزراء بنسب صاحبه من دون شتم- كنحو الرمي بالكفر والفسق- فله أن يعارضه بالمثل، ويدل عليه حديث زينب وعائشة رضي الله تعالى عنهما،
وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: «دونك فانتصري»
أو يتضمن شتما فذلك أيضا يرفع إلى الحاكم ليعزره، والحديث محمول على القسم الذي يجري فيه الانتصار،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لم يعتد المظلوم»
يدل عليه لأنه إذا كان حقه الرفع إلى الحاكم فاشتغل بالمعارضة عد متعديا انتهى، وهو تفصيل حسن، وقيل: معنى بِإِثْمِي بإثم قتلي، ومعنى «بإثمك» إثمك الذي كان قبل قتلي، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد والضحاك، وأطلق هؤلاء الإثم الذي كان قبل، وعن الجبائي، والزجاج أنه الإثم الذي من أجله لم يتقبل القربان وهو عدم الرضا بحكم الله تعالى كما مر، وقيل:
معناه بإثم قتلي وَإِثْمِكَ الذي هو قتل الناس جميعا حيث سننت القتل، وإضافة الإثم على جميع هذه الأقوال إلى ضمير المتكلم لأنه نشأ من قبله، أو هو على تقدير مضاف ولا حاجة إلى تقدير مضاف إليه كما قد قيل به أولا إلا أنه لا خفاء في عدم حسن المقابلة بين التكلم والخطاب على هذا لأن كلا الإثمين إثم المخاطب، والأمر فيه سهل، والجار والمجرور مع المعطوف عليه حال من فاعل تَبُوءَ أي ترجع متلبسا بالإثمين حاملا لهما، ولعل مراده بالذات إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه إذ إرادة الإثم من آخر غير جائزة، وقيل: المراد بالإثم ما يلزمه ويترتب عليه من العقوبة، ولا يخفى أنه لا يتضح حينئذ تفريع قوله تعالى: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ على تلك
284
الإرادة، فإن كون المخاطب من أصحاب النار إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلاء بعقوبتهما وهو ظاهر، وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليه العقوبة النارية يرده- كما قال شيخ الإسلام- قوله سبحانه: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فإنه صريح في أن كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهي من كلام هابيل على ما هو الظاهر، وقيل: بل هي إخبار منه تعالى للرسول صلّى الله عليه وسلّم فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع، وترتيب التطويع على ما قبله من مقالات هابيل مع تحققه قبل كما يفصح عنه قوله: لَأَقْتُلَنَّكَ لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله- وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر- لكنه في الحقيقة أمر حادث وصنع جديد، أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناء على تردده في قدرته على القتل لما أن أخاه كان أقوى منه، وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته له، والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه، وقرأ الحسن- فطاوعت- وفيها وجهان: الأول أن فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه وغيره، وهو أوفق بالقراءة المتواترة، والثاني أن المفاعلة مجازية بجعل القتل يدعو النفس إلى الإقدام عليه وجعلت النفس تأباه، فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أن غلب القتل النفس فطاوعته، ولَهُ للتأكيد والتبيين كما في قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: ١].
والقول بأنه للاحتراز عن أن يكون طوعت لغيره أن يقتله ليس بشيء فَقَتَلَهُ أخرج ابن جرير عن ابن مجاهد، وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ طيرا فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل فقتله كذلك وهو مستسلم،
وأخرج عن ابن مسعود، وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه في رؤوس الجبال فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن إلى أن بعث الله تعالى الغراب،
وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة، واختلف في موضع قتله، فعن عمر الشعباني عن كعب الأحبار أنه قتل على جبل دير المران، وفي رواية عنه أنه قتل على جبل قاسيون، وقيل: عند عقبة حراء، وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم،
وأخرج نعيم بن حماد عن عبد الرحمن بن فضالة أنه لما قتل قابيل هابيل مسخ الله تعالى عقله وخلع فؤاده فلم يزل تائها حتى مات،
وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا، قال: بل قتلته ولذلك اسود جسدك،
وأخرج ابن عساكر وابن جرير عن سالم بن أبي الجعد قال: إن آدم عليه السلام لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزنا عليه فأتى على رأس المائة، فقيل له: حياك الله تعالى وبياك وبشر بغلام، فعند ذلك ضحك، وذكر محيي السنة أنه عليه السلام ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيث عليه السلام،
وتفسيره- هبة الله- يعني أنه خلف من هابيل، وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعبادة الخلق من كل ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وصار وصي آدم وولي عهده،
وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما قتل ابن آدم عليه السلام أخاه بكى آدم عليه السلام ورثاه بشعر،
وأخرج نحو ذلك الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مشهور.
وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر رضي الله تعالى عنه أنه قال: من قال: إن آدم عليه السلام قال شعرا فقد كذب إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسرياني فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا، وذكر بعض علماء العربية إن في ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب ضرورة، والأولى عدم
285
نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة.
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دنيا وآخرة،
أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل»،
وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم»
وورد أنه أحد الأشقياء الثلاثة،
وهذا ونحوه صريح في أن الرجل مات كافرا.
وأصرح من ذلك ما
روي أنه لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس عليهما اللعنة، فقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدمها ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها فهو أول من عبد النار،
والظاهر أن عليه أيضا وزر من يعبد النار بل لا يبعد أن يكون عليه وزر من يعبد غير الله تعالى إلى يوم القيامة، واستدل بعضهم بقول سبحانه: فَأَصْبَحَ على أن القتل وقع ليلا- وليس بشيء- فإن من عادة العرب أن يقولوا:
أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمرا ثمرته الخسران، ويعنون بذلك الحصول مع قطع النظر عن وقت دون وقت، وإنما لم يقل سبحانه- فأصبح خاسرا- للمبالغة وإن لم يكن حينئذ خاسر سواه فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية قال: لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، وكره أن يأتي به آدم عليه الصلاة والسلام فيحزنه وتحير في أمره إذ كان أول ميت من بني آدم عليه السلام، فبعث الله تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر وهو ينظر إليه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه برأسه حتى ألقاه في الحفرة ثم بحث عليه برجله حتى واراه،
وقيل: إن أحد الغرابين كان ميتا.
والغراب: طائر معروف، قيل: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب وذلك مناسب لهذه القصة، وقال بعضهم: إنه كان ملكا ظهر في صورة الغراب والمستكن في- يريه- لله تعالى، أو للغراب، واللام على الأول متعلقة- ببعث- حتما، وعلى الثاني- بيبحث- ويجوز تعلقها ببعث أيضا، وكَيْفَ حال من الضمير في يُوارِي قدم عليه لأن له الصدر، وجملة كَيْفَ يُوارِي في محل نصب مفعول ثان- ليرى- البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهي معلقة عن الثاني، وقيل: إن- يريه- بمعنى يعلمه إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة كَيْفَ يُوارِي موقع حسن، وتكون الجملة في موقع مفعولين له، وفيه نظر، والبحث- في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقا، أو في التراب، والمراد به هنا الحفر، والمراد- بالسوأة- جسد الميت وقيده الجبائي بالمتغير، وقيل: العورة لأنها تسوء ناظرها، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها آكد، والأول أولى، ووجه التسمية مشترك، وضمير أَخِيهِ عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم، وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر، وبعثه حقيقة إن كان المراد منه ملكا ظهر على صورته، وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته، وتعلم قابيل، ففعل مثل ذلك بأخيه، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وغيرهما، وذهب الأصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث في الأرض ووارى هابيل، فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع وتحسر، والويلة- كالويل- الهلكة كأن المتحسر ينادي هلاكه وموته ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادي، ولا يكون طلب الموت إلا ممن كان في حال أشدّ منه، والألف بدل من ياء المتكلم أي- يا ويلتي- وبذلك قرأ الحسن احضري فهذا أوانك أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ تعجب من عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه مع
286
كونه أشرف منه فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي عطف على أَكُونَ وجعله في الكشاف منصوبا في جواب الاستفهام، واعترضه كثير من المعربين، وقال أبو حيان: إنه خطأ فاحش لأن شرط هذا النصب أن ينعقد من الجملة الاستفهامية، والجواب جملة شرطية نحو أتزورني فأكرمك، فإن تقديره إن تزرني أكرمك، ولو قيل هاهنا: ٧ ن- أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوءة أخي- لم يصح المعنى لأن المواراة تترتب على عدم العجز لا عليه، وأجاب في الكشف بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي، ومن باب أتعصي ربك فيعفو عنك، بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين، وفيه تنبيه على أنه في العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول، فإذا رفع كان كلاما ظاهريا في انسحاب الإنكار، وإذا نصب جاءت المبالغة للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو، وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب، ثم قال: فإن قلت: الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع، فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه، أما على العفو والمواراة فلا قلت: التوبيخ على جعل كل واحد سببا، أو تنزيله منزلة من جعله سببا لا على العفو والمواراة فافهم انتهى، ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد، وقيل في توجيه ذلك إن الاستفهام للإنكار- وهو بمعنى النفي- وهو سبب، والمعنى إن لم أعجز واريت، واعترض بأنه غير صحيح لأنه لا يكفي في النصب سببية النفي بل لا بد من سببية المنفي قبل دخول النفي، ألا ترى أن ما تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحديث، قال الشهاب:
والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي وما نصب في جواب الاستفهام، والكلام في الثاني، فكيف يرد الأول نقضا، ولو جعل في جواب النفي لم يرد ما ذكره أيضا لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل- عجزت- بلم اهتد، وقد قال في التسهيل: إنه ينتصب في جواب النفي الصريح والمؤول، وما نحن فيه من الثاني حكمه فتأمل انتهى.
ولعل الأمر بالتأمل الإشارة أن ما في دعوى الفرق بين الاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي، والنفي من الخفاء، وكذا في تأويل- عجزت- بلم أهتد هنا فليفهم، وقرىء «أعجزت» بكسر الجيم وهو لغة شاذة في عجز، وقرىء- فأواري- بالسكون على أنه مستأنف وهم يقدرون المبتدأ لإيضاح القطع عن العطف، أو معطوف إلا أنه سكن للتخفيف كما قاله غير واحد، واعترضه في البحر بأن الفتحة لا تستثقل حتى تحذف تخفيفا، وتسكين المنصوب عند النحويين ليس بلغة كما زعم ابن عطية، وليس بجائز إلا في الضرورة فلا تحمل القراءة عليها مع وجود محمل صحيح، وهو الاستئناف لها انتهى، وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر، فإن تسكين المنصوب في كلامهم كثير، وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ أي صار معدودا من عدادهم، وكان ندمه على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره. وحمله على رقبته أربعين يوما أو سنة أو أكثر على ما قيل.
وتلمذة الغراب فإنها إهانة ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم واسوداد وجهه وتبري أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي ما ذكر في تضاعيف القصة، ومِنْ ابتدائية متعلقة بقوله تعالى: كَتَبْنا أي قضينا، وقيل:
بالنادمين وهو ظاهر ما روي عن نافع، وكَتَبْنا استئناف، واستبعده أبو البقاء وغيره.
والأجل- بفتح الهمزة وقد تكسر، وقرىء به- لكن بنقل الكسرة إلى النون كما قرىء بنقل الفتحة إليها في الأصل- الجناية يقال: أجل عليهم شرا إذا جنى عليهم جناية، وفي معناه جر عليهم جريرة، ثم استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أي من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من غيره.
عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ لذلك الفساد وهو غالب عليهم.
287
وقيل: إنما ذكروا دون الناس لأن التوراة أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل، ومع ذلك كانوا أشد طغيانا فيه وتماديا حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه قيل: بسبب هذه العظيمة كتبنا في التوراة تعظيم القتل، وشددنا عليهم وهم بعد ذلك لا يبالون.
ومن هنا تعلم أن هذه الآية لا تصلح- كما قال الحسن والجبائي وأبو مسلم- على أن ابني آدم عليه السلام كانا من بني إسرائيل، على أن بعثة الغراب الظاهر في التعليم المستغنى عنه في وقتهم لعدم جهلهم فيه بالدفن- تأبى ذلك أَنَّهُ أي الشأن مَنْ قَتَلَ نَفْساً واحدة من النفوس الإنسانية بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص، والباء للمقابلة متعلقة بقتل، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا أي متعديا ظالما أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي فساد فيها يوجب هدر الدم كالشرك مثلا، وهو عطف على ما أضيف إليه- غير- والنفي هنا وارد على الترديد لأن إباحة القتل مشروطة بأحد ما ذكر من القتل والفساد، ومن ضرورته اشتراط حرمته بانتفائهما معا فكأنه قيل: من قتل نفسا بغير أحدهما فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً لاشتراك الفعلين في هتك حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى والتجبر على القتل في استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى العظيم.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود إن هذا التشبيه عند المقتول كما أن التشبيه الآتي عند المستنقذ، والأول أولى وأنسب للغرض المسوق له التشبيه، وقرىء- أو فسادا- بالنصب بتقدير أو عمل فسادا- أو فسد فسادا وَمَنْ أَحْياها أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً، وقيل: المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما إلخ، وما في الموضعين كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها، وجَمِيعاً حال من النَّاسَ أو تأكيد، وفائدة التشبيه الترهيب والردع عن قتل نفس واحدة بتصويره بصورة قتل جميع الناس، والترغيب والتحضيض على إحيائها بتصويره بصورة إحياء جميع الناس وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيدا لوجوب مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليه.
والجملة مستقلة غير معطوفة على كَتَبْنا وأكدت بالقسم لكمال العناية بمضمونها، وإنما لم يقل ولقد أرسلنا إليهم إلخ للتصريح بوصول الرسالة إليهم فإنه أدل على تناهيهم في العتو والمكابرة.
ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ المذكور من الكتب وتأكيد الأمر بالإرسال، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد للإيماء إلى علو درجته وبعد منزلته في عظم الشأن، وثُمَّ للتراخي في الرتبة والاستبعاد فِي الْأَرْضِ متعلق بقوله تعالى:
لَمُسْرِفُونَ وكذا بعد فيما قبل، ولا تمنع اللام المزحلقة من ذلك، والإسراف في كل أمر التباعد عن حدّ الاعتدال مع عدم مبالاة به، والمراد مسرفون في القتل غير مبالين به ولما كان إسرافهم في أمر القتل مستلزما لتفريطهم في شأن الإحياء وجودا وعدما وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى في ذكره في مقام التشنيع المسوق له الآي، وعن الكلبي أن المراد مجاوزون حدّ الحق بالشرك، وقيل: إن المراد ما هو أعم من الإسراف بالقتل والشرك وغيرهما، وإنما قال سبحانه: وإِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ لأنه عز شأنه على ما في الخازن علم أن منهم من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وهم قليل من كثير، وذكر الْأَرْضِ مع أن الإسراف لا يكون إلا فيها للإيذان بأن إسراف ذلك الكثير ليس أمرا مخصوصا بهم بل انتشر شره في الأرض وسرى إلى غيرهم، ولما بين سبحانه عظم شأن القتل بغير حق استأنف بيان حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه، وأدرج فيه بيان ما أشير إليه
288
إجمالا من الفساد المبيح للقتل، فقال جل شأنه: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ذهب أكثر المفسرين- كما قال الطبرسي، وعليه جملة الفقهاء- إلى أنها نزلت في قطاع الطريق، والكلام- كما قال الجصاص- على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: ٥٧].
ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكانوا مرتدين بإظهار محاربته ومخالفته عليه الصلاة والسلام، وقيل: المراد يحاربون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عليه الصلاة والسلام عنده عز وجل، ومحاربة أهل شريعته وسالكي طريقته من المسلمين محاربة له صلّى الله عليه وسلّم فيعم الحكم من يحاربهم بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولو بأعصار كثيرة بطريق العبارة لا بطريق الدلالة أو القياس كما يتوهم، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص بالمكلفين حين النزول ويحتاج في تعميمه إلى دليل آخر على ما تحقق في الأصول، وقيل: ليس هناك مضاف محذوف وإنما المراد محاربة المسلمين إلا أنه جعل محاربتهم محاربة الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له وترفيعا لشأنهم، وجعل ذكر الرسول على هذا تمهيدا على تمهيد وفيه ما لا يخفى، والحرب في الأصل السلب والأخذ، يقال: حربه إذا سلبه، والمراد به هاهنا قطع الطريق وقيل: الهجوم جهرة باللصوصية وإن كان في مصر وَيَسْعَوْنَ عطف على يحاربون، وبه يتعلق قوله تعالى: فِي الْأَرْضِ، وقيل: بقوله سبحانه: فَساداً وهو إما حال من فاعل يَسْعَوْنَ بتأويله بمفسدين، أو ذوي فساد، أو لا تأويل قصدا للمبالغة كما قيل، وإما مفعول له أي لأجل الفساد، وإما مصدر مؤكد- ليسعون- لأنه في معنى يفسدون، وفَساداً إما مصدر حذف منه الزوائد أو اسم مصدر، وقوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ مبتدأ خبره المنسبك من قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أي حدا من غير صلب إن أفردوا القتل، ولا فرق بين أن يكون بآلة جارحة أو لا، والإتيان بصيغة التفعيل لما فيه من الزيادة على القصاص من أنه لكونه حق الشرع لا يسقط بعفو الولي، وكذا التصليب في قوله سبحانه: أَوْ يُصَلَّبُوا لما فيه من القتل أي يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ، وقيل: صيغة التفعيل في الفعلين للتكثير، والصلب قبل القتل بأن يصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا، وأصح قولي الشافعي عليه الرحمة أن الصلب ثلاثا بعد القتل، قيل: إنه يوم واحد.
وقيل: حتى يسيل صديده، والأولى أن يكون على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زجرا للغير عن الإقدام على مثل هذه المعصية.
وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي تقطع مختلفة بأن تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي إذ له ما لنا وعليه ما علينا وكان في المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلّا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمة، وهذا في أول مرة فإن عادوا قطع منهم الباقي، وقطع الأيدي لأخذ المال، وقطع الأرجل لإخافة الطريق وتفويت أمنه أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن لم يفعلوا غير الإخافة والسعي للفساد، والمراد بالنفي عندنا هو الحبس والسجن والعرب تستعمل النفي بذلك المعنى لأن الشخص به يفارق بيته وأهله، وقد قال بعض المسجونين:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة... عجبنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا
289
ويعزرون أيضا لمباشرتهم إخافة الطريق وإزالة أمنه، وعند الشافعي عليه الرحمة المراد به النفي من بلد إلى بلد ولا يزال يطلب وهو هارب فرقا إلى أن يتوب ويرجع، وبه قال ابن عباس والحسن والسدي رضي الله تعالى عنهم وابن جبير وغيرهم، وإليه ذهب الإمامية، وعن عمر بن عبد العزيز وابن جبير في رواية أخرى أنه ينفى عن بلده فقط، وقيل:
إلى بلد أبعد، وكانوا ينفونهم إلى- دهلك- وهو بلد في أقصى تهامة- وناصع- وهو بلد من بلاد الحبشة، واستدل للأول بأن المراد بنفي قاطع الطريق زجره ودفع شره فإذا نفي إلى بلد آخر لم يؤمن ذلك منه، وإخراجه من الدنيا غير ممكن، ومن دار الإسلام غير جائز فإن حبس في بلد آخر فلا فائدة فيه إذ بحبسه في بلده يحصل المقصود وهو أشد عليه.
هذا ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق كما أشرنا إليه- فأو- للتقسيم واللف والنشر المقدر على الصحيح، وقيل: إنها تخييرية والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق، والأول علم بالوحي وإلا فليس في اللفظ ما يدل عليه دون التخيير، ولأن في الآية أجزية مختلفة غلظا وخفة فيجب أن تقع في مقابلة جنايات مختلفة ليكون جزاء كل سيئة سيئة مثلها، ولأنه ليس للتخيير في الأغلظ والأهون في جناية واحدة كبير معنى، والظاهر أنه أوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم هذا التنويع والتفصيل، ويشهد له ما أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وزعم بعضهم أن التخيير أقرب وكونه بين الأغلظ والأهون بالنظر إلى الأشخاص والأزمنة فإن العقوبات للانزجار وإصلاح الخلق، وربما يتفاوت الناس في الانزجار فوكل ذلك إلى رأي الإمام وفيه تأمل فتأمل ذلِكَ أي ما فصل من الأحكام والأجزية، وهو مبتدأ، وقوله تعالى: لَهُمْ خِزْيٌ جملة من خبر مقدم ومبتدأ في محل رفع خبر للمبتدأ، وقوله سبحانه: فِي الدُّنْيا متعلق بمحذوف وقع صفا لخزي، أو متعلق به على الظرفية، وقيل: خِزْيٌ خبر- لذلك- ولَهُمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من خِزْيٌ لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا، وفِي الدُّنْيا إما صفة- لخزي- أو متعلق به كما مر آنفا والخزي الذل والفضيحة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره وذلك لغاية عظم جنايتهم واقتصر في الدنيا على الخزي مع أن لهم فيها عذابا أيضا، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزيا أيضا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها، والآية أقوى دليل لمن يقول إن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة، والقائلون بالإسقاط يستدلون
بقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «من ارتكب شيئا فعوقب به كان كفارة له»
فإنه يقتضي سقوط الإثم عنه وأن لا يعاقب في الآخرة، وهو مشكل مع هذه الآية، وأجاب النووي بأن الحد يكفر به عنه حق الله تعالى، وأما حقوق العباد فلا، وهاهنا حقان لله تعالى والعباد، ونظر فيه إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وأما ما هو من حقوق العباد- كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه- فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدّا، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصا، فإنهم إن شاؤوا عفوا، وإن أحبوا استوفوا.
وقال ناصر الدين البيضاوي: إن القتل قصاصا يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه التحفة، وأفرد له تنبيها فقال- بعد نقله- وهو عجيب، أعجب منه سكوت شيخنا عليه في حاشيته مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل لها في القصاص أصلا إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصا حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له لا واجب مطلقا، أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه
290
قصاصا، وإن جاز أو وجب من حيث كونه حدا فتأمله انتهى.
وتعقبه ابن قاسم فقال: ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلا في صفة القتل قصاصا وهي وجوبه، وقوله: إذ لا يتصور إلخ قلنا: لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه- وهو صحيح- على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين، اعتبار الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه، وقوله: لأنا إذا نظرنا إلخ كلام ساقط، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصا، وقوله: فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئا من قلة التأمل انتهى.
وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بيانا لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بيانا لسقوط الحد في قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصا فلا يرد التشنيع فتدبر، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وذهب أناس إلى أن الآية في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل في الكفار،
وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية،
وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به من السلف والخلف، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا إلخ، ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها، وأيضا إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه.
وأيضا ليست عقوبة المرتدين كذلك، ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضا، وسبب النزول لا يصلح مخصصا فإن العبرة- كما تقرر- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وغيرهما عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ويسعون في الأرض الفساد؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر، فقال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن؟ قال: نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أمانا، وروي عن أبي موسى الأشعري ما هو بمعناه،
ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفعله في غير أولئك،
وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال: إنما سمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء،
وأخرج ابن جرير عن الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاتبة في ذلك وعلمه صلّى الله عليه وسلّم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم،
قال: وكان هذا القول ذكره لأبي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة وقال: بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
291
فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح، أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ بحسب الدواعي والمقتضيات كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ عن الناس في أنفسكم مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ إذا لم تدع إليه داعية قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ أبرزته العناية الإلهية من مكامن العماء وَكِتابٌ خطه قلم الباري في صحائف الإمكان جامعا لكل كمال، وهما إشارة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ أي بواسطته مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي من أراد ذلك سُبُلَ السَّلامِ وهي الطرق الموصلة إليه عز وجل.
وقد قال بعض العارفين: الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبي صلّى الله عليه وسلّم وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية إِلَى النُّورِ وهو نور الرضا والتسليم وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو طريق الترقي في المقامات العلية، وقد يقال: الجملة الأولى إشارة إلى توحيد الأفعال، والثانية إلى توحيد الصفات، والثالثة إلى توحيد الذات لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه- وهو الوجود المطلق- حتى عن قيد الإطلاق قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فإن كل ذلك من التعينات والشؤون والله من ورائهم محيط وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي عالم الأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويظهر ما أراد من الشؤون وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فادّعوا بنوة الاسرار والقرب من حضرة نور الأنوار، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة إليه، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين، فقال الواسطي: ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ والأبناء والأحباب لا يذنبون فيعذبون، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ كسائر عباد الله تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ منهم فضلا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ منهم عدلا وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً بالولاية ومعرفة الصفات، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة، أو مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي، والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي عالمي زمانكم، ومنه اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليه السلام يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ وهي حضرة القلب الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ في القضاء السابق حسب الاستعداد وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ في الميل إلى مدينة البدن، والإقبال عليه بتحصيل لذاته فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ لتفويتكم أنوار القلب وطيباته قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وهي صفات النفس وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا مجاهدة، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ حينئذ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ سوء عاقبة ملازمة الجسم أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالهداية إلى الصراط السوي- وهما العقل النظري والعقل العملي- ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب قرية القلب- وهو التوكل بتجلي الأفعال- كما أن باب قرية الروح هو الرضا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ بخروجكم عن أفعالكم وحولكم، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالحقيقة وهو الإيمان عن
292
حضور، وأقل درجاته تجلي الأفعال قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ أي ملازمون مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي أرض الطبيعة، وذلك مدة بقائهم في مقام النفس، وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش فينتفعون بضوئه وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ القلب اللذين هما هابيل العقل وقابيل الوهم إِذْ قَرَّبا قُرْباناً وذلك كما قال بعض العارفين: إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية، فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان، فقربا قربانا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل العقل بأن نزلت نار
من السماء فأكلته، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته، وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلهية- الذي به الحياة- عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل المطالب النظرية قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الذين يتخذون الله تعالى وقاية، أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أي أني لا أبطل أعمالك التي هي سديدة في مواضعها إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي لأني أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن وأوجدك لحكمة، ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لا تحصل إلا بالوهم ولولا الأمل بطل العمل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي بإثم قتلي وإثم عملك من الآراء الباطلة فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وهي نار الحجاب والحرمان وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ الواضعين للأشياء في غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ بمنعه عن أفعاله الخاصة وحجبه عن نور الهداية فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ لتضرره باستيلائه على العقل فإن الوهم إذا انقطع عن معاضدة العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً وهو غراب الحرص يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي أرض النفس لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ وهو العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ عند ظهور الخسران وحصول الحرمان مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً لأن الواحد مشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع، وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج، ولا اعتبار بالعدد فإن حقيقة النوع لا تزيد بزيادة الأفراد ولا تنقص بنقصها، ويقال في جانب الأحياء مثل ذلك إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي أولياءهما وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بتثبيط السالكين أَنْ يُقَتَّلُوا بسيف الخذلان أَوْ يُصَلَّبُوا بحبل الهجران على جذع الحرمان أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ عن أذيال الوصال وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ عن الاختلاف والتردد إلى السالكين أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
293
الْأَرْضِ
أي أرض القربة والائتلاف فلا يلتفت إليهم السالك ولا يتوجه لهم ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ وهوان فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جنايتهم، وقد جاء- أن الله تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب، ومن آذى وليا فقد آذنته بالمحاربة- نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته- وأشار في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب- أمر المؤمنين بتقواه عز وجل في كل ما يأتون ويذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصي التي من جملتها المحاربة والفساد، وبفعل الطاعة التي من عدادها التوبة والاستغفار ودفع الفساد وَابْتَغُوا إِلَيْهِ أي اطلبوا لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه الْوَسِيلَةَ هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز وجل من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء، والظرف متعلق بها وقدم عليها للاهتمام وهي صفة لا مصدر حتى يمتنع تقدم معموله عليه، وقيل: متعلق بالفعل قبله، وقيل: بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة إليه، ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير إليه كلام قتادة، فإنه ملاك الأمر كله والذريعة لكل خير والمنجاة من كل ضير، والجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد، وقيل: الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل الطاعات، وأخرج ابن الأنباري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الوسيلة الحاجة، وأنشد له قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وكأن المعنى حينئذ اطلبوا متوجهين إليه حاجكم فإن بيده عز شأنه مقاليد السماوات والأرض ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة، وفسر بعضهم- الوسيلة- بمنزلة في الجنة، وكونها بهذا المعنى غير ظاهر لاختصاصها بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بناء على ما
رواه مسلم وغيره «أنها منزلة في الجنة جعلها الله تعالى لعبد من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لي الوسيلة»
وكون الطلب هنا للنبي صلّى الله عليه وسلّم مما لا يكاد يذهب إليه ذهن سليم، وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لا يخفى، واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة،
ويروون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال- إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور-
وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا ولا يتوقف على أفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من المفضول،
فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في العمرة: «لا تنسنا يا أخي من دعائك»
وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني رحمة الله تعالى عليه أن يستغفر له، وأمر أمته صلّى الله عليه وسلّم بطلب الوسيلة له كما مر آنفا وبأن يصلوا عليه، وأما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا فلا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة
فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم»
ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- وهم أحرص الخلق على كل خير- أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك
294
يا أبا بكر السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولا يزيد على ذلك ولا يطلب من سيد العالمين صلّى الله عليه وسلّم أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله تعالى عنهما شيئا- وهم أكرم من ضمته البسيطة وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة- نعم الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة أمر مشروع فقد كانت الصحابة تدعو الله تعالى هناك مستقبلين القبلة ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء مع أنه أفضل من العرش، واختلف الأئمة في استقباله عند السلام، فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يستقبل بل يستدبر ويستقبل القبلة، وقال بعضهم: يستقبل وقت السلام، وتستقبل القبلة ويستدبر وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء تستقبل القبلة، ويجعل القبر المكرم عن اليمين أو اليسار، فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة وعلة الإيجاد على الحقيقة صلّى الله عليه وسلّم، فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة والسلام ليزاد فيها ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد؟؟! وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه سيد ولد آدم، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وقد نقل ذلك عنه المناوي في شرحه الكبير للجامع الصغير، ودليله في ذلك ما
رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ادع الله تعالى أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلّى الله عليه وسلّم نبي الرحمة يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه في، ونقل عن أحمد مثل ذلك.
ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقا وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أي بدعاء أو شفاعة نبيك صلّى الله عليه وسلّم، ففيه جعل الدعاء وسيلة- وهو جائز- بل مندوب، والدليل على هذا التقدير
قوله في آخر الحديث: «اللهم فشفعه في»
بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك، وقد شنع التاج السبكي- كما هو عادته- على المجد، فقال: ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم وصار بين الأنام مثلة انتهى.
وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلّى الله عليه وسلّم، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف كما سمعت، أو نحو ذلك- كما تسمع إن شاء الله تعالى- ومن ادعى النص فعليه البيان، وما
رواه أبو داود في سننه وغيره «من أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك، فسبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى رئي ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك»
لا يصلح دليلا على ما نحن فيه حيث أنكر عليه قوله:
«إنا نستشفع بالله تعالى عليك»
ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله:
«نستشفع بك إلى الله تعالى»
لأن معنى الاستشفاع به صلّى الله عليه وسلّم طلب الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله تعالى، ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبي صلّى الله عليه وسلّم مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلا لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلّى الله عليه وسلّم حيا وميتا، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقا قياسا عليه عليه الصلاة
295
والسلام بجامع الكرامة، وإن تفاوت قوة وضعفا، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في الخبر الأول ليس نصا في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به، وتساوي حالتي حياته ووفاته صلّى الله عليه وسلّم في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه، ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلّى الله عليه وسلّم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون- فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدنى مساغ لذلك، فعدولهم هذا- مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق- دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.
وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلّى الله عليه وسلّم مع التفاوت في الكرامة- الذي لا ينكره إلا منافق- مما لا يكاد يسلم، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام على ربه عز شأنه حيا وميتا مما لم يقم النص عليه لا يقال: إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به صلّى الله عليه وسلّم حيا وكذا بغيره كذلك، أما الأول فلقول عمر رضي الله تعالى عنه فيه: كنا نتوسل بنبيك صلّى الله عليه وسلّم، وأما الثاني فلقوله: إنا نتوسل بعم نبيك لما قيل: إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا، وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه- وهذا هو محل النزاع- وقد علمت الكلام فيه، وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل- اللهم أسألك بجاه فلان- فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك، وقال: إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته فيقال: أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله، المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك الحديث، ونحو ذلك من الأدعية المأثورة، وما يذكره بعض العامة من
قوله صلّى الله عليه وسلّم:- إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم-
لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو شيء في كتب الحديث، وما رواه القشيري عن معروف الكرخي قدس سره- أنه قال لتلامذته:
إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله- الآن لا يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين، وأما ما
رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة،
ففي سنده العوفي- وفيه ضعف- وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلا لا وجوبا كما في قوله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: ٤٧]،
وفي الصحيح من حديث معاذ- حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحقهم عليه
296
إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم-
فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى الفعلية، والسؤال بها مما لا نزاع فيه فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في
قوله صلّى الله عليه وسلّم «أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك»
فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثابته وإجابته.
وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه عز شأنه بمن ليس في العير ولا النفير وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة وتيسير كل عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر- إذا أعيتكم الأمور- إلخ، وهو حديث مفترى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم: عن- اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك- فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ومن كلام السجاد رضي الله تعالى عنه أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام- وبك المستغاث-
وقال صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «إذا استعنت فاستعن بالله تعالى، الخبر،
وقال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥].
وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الله تعالى حيا وميتا، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل بجاه نبيك صلّى الله عليه وسلّم أن تقضي لي حاجتي، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا، بل لا أرى بأسا أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلّى الله عليه وسلّم بهذا المعنى، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك- في التوسل والإقسام بالذات- البحت، نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك- وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام- شيء، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح، وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم- كما يزعمه البعض- في التوسل بجاه عريض الجاه صلّى الله عليه وسلّم لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ودرج عليه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا «بقي هاهنا أمران»
الأول أن التوسل بجاه غير النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى، الثاني أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات
297
وغيرهم، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه، وقد عدّه أناس من العلماء شركا وأن لا يكنه، فهو قريب منه ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد (١) ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا المنافق فجاؤوا إليه، فقال: إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى» لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور- الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه- أمر يجب اجتنابه ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته وتنجح طلبته فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات إنما هو شيطان أضله وأغواه وزين له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لا في مثل هذه الصورة وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ مع أعدائكم بما أمكنكم.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بنيل نعيم الأبد والخلاص من كل نكد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز شأنه قبل انقضاء أوانه، ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلا عن نيل الثواب لَوْ أَنَّ لَهُمْ أي لكل واحد منهم كقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ [يونس: ٥٤] إلخ، وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما ليس في قولنا: لجميعهم ما فِي الْأَرْضِ أي من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة، وهو اسم إِنَّ ولَهُمْ خبرها ومحلها الرفع عندهم خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء لا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه، وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد لَوْ، وقيل:
الخبر محذوف ويقدر مقدما أو مؤخرا قولان، وعند الزجاج والمبرد والكوفيين رفع على الفاعلية أي لو ثبت لهم ما في الأرض، وقوله تعالى: جَمِيعاً توكيد للموصول أو حال منه، وقوله سبحانه: وَمِثْلَهُ بالنصب عطف عليه، وقوله عز وجل: مَعَهُ ظرف وقع حالا من المعطوف، والضمير راجع إلى الموصول، وفائدة التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقا لكمال فظاعة الأمر، واللام في قوله تعالى: لِيَفْتَدُوا بِهِ متعلقة بما تعلق به خبر إِنَّ وهو الاستقرار المقدر في لَهُمْ وبالخبر المقدر عند من يراه، وبالفعل المقدر بعد لَوْ عند الزجاج ومن نحا نحوه، قيل: ولا ريب في أن مدار الاقتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزما له، والباء في بِهِ متعلقة بالافتداء، والضمير راجع إلى الموصول وَمِثْلَهُ مَعَهُ وتوحيده لكونهما بالمعية شيئا واحدا، أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الإشارة إلى ذلك، وقيل: هو راجع إلى الموصول، والعائد إلى
(١) هذا هو الحق وهو أنه يجتنب ذلك مطلقا، وما مال إليه المصنف قبل من الجواز هو رأي له غير مقبول فتنبه.
298
المعطوف- أعني مثله- مثله، وهو محذوف كما حذف الخبر من قيار في قوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وقد جوز أن يكون نصب، ومثله على أنه مفعول مَعَهُ ناصبه الفعل المقدر بعد لَوْ تفريعا على رأي الزجاج ومن رأى رأيه، وأمر توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه الإفراد، وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثنى الضمير، وقال بعض النحاة: الصحيح جوازه على قلة. واعترض هذا الوجه أبو حيان بأنه يصير التقدير مع مثله مَعَهُ، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة، فلا فائدة في ذكر مَعَهُ معه لملازمة معية كل منهما للآخر، وأجاب الطيبي بأن مَعَهُ على هذا تأكيد، وقال السفاقسي: جوابه أن التقدير ليس كالتصريح، والواو- متضمنة معنى مع، وإنما يقبح لو صرح- بمع- وكثيرا ما يكون التقدير بخلاف التصريح، كقولهم: رب شاة وسخلتها، ولو صرحت- برب- فقلت: ورب سخلتها لم يجز، وأجاب الحلبي بأن الضمير في مَعَهُ عائد على مِثْلَهُ ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد، نعم أن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن العامل في المفعول معه هو العامل في المصاحب له كما صرحوا به، وهو هنا ما أو ضميرها، وشيء منهما ليس عاملا فيه ثبت المقدر، وأما صحته على تقدير جعله لهم، أو متعلقه على ما قيل، فممتنع أيضا على ما نقل عن سيبويه أنه قال: وأما هذا لك وأباك فقبيح، لأنه لم يذكر فعل ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل، فإن فيه تصريحا بأن اسم الإشارة وحرف الجر والظرف لا تعمل في المفعول معه، وقوله تعالى: مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق بالافتداء أيضا أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم.
ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ذلك، وهو جواب لَوْ وترتيبه- كما قال شيخ الإسلام- على ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر الافتداء بأن يقال: وافتدوا به، مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مبادئه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن الذكر، وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر، أو للمبالغة في تحقق الرد، وتخييل أنه وقع قبل الافتداء على منهاج ما في قوله تعالى: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل: ٤٠] حيث لم يقل فأتى به فلما رآه إلخ، وما في قوله سبحانه: وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [يوسف: ٣١] من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن ورؤيتهن له، وقال بعض الأفاضل: إنما لم يكتف بقوله: إن الذين كفروا لو يفتدون بما في الأرض جميعا من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم، لأن ما في النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما في الأرض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى وحفظوا الفدية وتفكروا في الافتداء ورعاية أسبابه- كما هو شأن من هو بصدد أمر- ما تقبل منهم فضلا عن أن يكونوا غافلين عن تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة، ولهذا لم يقل لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ويفتدون به ما تقبل إلخ، والجملة الامتناعية بحالها خبر إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي كناية عن لزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه، فإن لزوم العذاب من لوازمه أن ما في الأرض جميعا ومثله معه لو افتدوا به لم يتقبل منهم، فلما كانت هذه الجملة، بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها، وأطلق بعضهم على هذه الجملة تمثيلا، ولعل مراده- على ما ذكره القطب- ما ذكره، وقال بعض المحققين: لا يريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى، وبهذا الاعتبار يقال له: كناية، ويمكن تنزيله على التمثيل الاصطلاحي بأن يقال: إن حالهم في حال التفصي عن العذاب بمنزلة حال من يكون له ذلك الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من
299
العذاب فلا يتقبل منه ولا يتخلص وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قيل: محله النصب على الحالية، وقيل: الرفع عطفا على خبر إن، وقيل: إنه معطوف على إِنَّ الَّذِينَ فلا محل له من الإعراب مثله، وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة الأولى لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته، وقيل: إن المقصود بها الإيذان بأنه كما لا يندفع بذلك عذابهم لا يخفف بل لهم بعد عذاب في كمال الإيلام، وكذلك قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ فإنه لإفادة أنه كما لا يندفع بذلك الافتداء عذابهم لا يندفع دوامه ولا ينفصل، وهو على ما تقدم استئناف مسوق لبيان حالهم في أثناء مكابدة العذاب مبني على سؤال نشأ مما قبله، كأنه قيل: فكيف يكون حالهم، أو ماذا يصنعون؟ فقيل: يُرِيدُونَ إلخ، وقد بين في تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار، والإرادة قيل: على معناها الحقيقي المشهور، وذلك أنهم يرفعهم لهب النار فيريدون الخروج وأنى به، وروي ذلك عن الحسن، وقال الجبائي: الإرادة بمعنى التمني أي يتمنون ذلك.
وقيل: المعنى يكادون يخرجون منها لقوتها وزيادة رفعها إياهم، وهذا كقوله تعالى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: ٧٧] أي يكاد ويقارب، لا يقال: كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بالخلود؟ لأنا نقول: الهول يومئذ ينسيهم ذلك، وعلى تقدير عدم النسيان يقال: العلم بعدم حصول الشيء لا يصرف عن إرادته كما أن العلم بالحصول كذلك، فإن الداعي إلى الإرادة حسن الشيء والحاجة إليه.
وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها إما حال من فاعل يُرِيدُونَ أو اعتراض، وأيا ما كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة- بما- الحجازية الدالة بما في حيزها من الباء على تأكيد النفي لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها، فإن الجملة الاسمية الإيجابية- كما مرت الإشارة إليه- كما تفيد بمعونة المقام دوام الثبوت، تفيد السلبية أيضا بمعونة دوام النفي لا نفي الدوام، وقرأ أبو واقد أَنْ يَخْرُجُوا بالبناء لما لم يسم فاعله من الإخراج، ويشهد لقراءة الجمهور قوله تعالى: بِخارِجِينَ دون بمخرجين، وهذه الآية كما ترى في حق الكفار، فلا تنافي القول بالشفاعة لعصاة المؤمنين في الخروج منها كما لا يخفى على من له أدنى إيمان.
وقد أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة، قال يزيد الفقير: فقلت لجابر: يقول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها قال: اتل أول الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ ألا إنهم الذين كفروا،
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار، ورواية أنه قال له: يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم إلخ حكاها الزمخشري وشنع إثرها على أهل السنة ورماهم بالكذب والافتراء، فحقق ما قيل: رمتني بدائها وانسلت، ولسنا مضطرين لتصحيح هذه الرواية ولا وقف الله تعالى صحة العقيدة على صحتها، فكم لنا من حديث صحيح شاهد على حقيقة ما نقول وبطلان ما يقوله المعتزلة تبا لهم وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ تصريح بما أشير إليه من عدم تناهي مدة العذاب بعد بيان شدته أي عذاب دائم ثابت لا يزول ولا ينتقل أبدا.
300
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى، وقد تقدم بيان اقتضاء الحال لإيراد ما توسط بينهما من المقال، والكلام جملتان- عند سيبويه- إذ التقدير فيما يتلى عليكم- السارق والسارقة- أي حكمهما، وجملة عند المبرد، وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر- لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضربه- قاله الزمخشري، واتبعه من تبعه ومنهم ابن الحاجب.
وتعقبه العلامة أحمد في الانتصاف بكلام كله محاسن فلا بأس في نقله برمته، فنقول: قال فيه: المستقرأ من وجوه القراءات أن العامة لا تتفق فيها أبدا على العدول عن الأفصح، وجدير بالقرآن أن يحرز أفصح الوجوه وأن لا يخلو من الأفصح ويشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها، وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتمال الشاذ الذي لا يعدّ من القرآن عليه، ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل، قال سيبويه في ترجمة باب الأمر والنهي بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب، وملخصها: أنه متى بني الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيه النصب: وأما قوله عزّ وجلّ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: ٢] فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله عزّ وجلّ:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [محمد: ١٥] ثم قال سبحانه بعد: فِيها أَنْهارٌ منها كذا، يريد سيبويه تمييز هذه
301
الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها، ووجه التمييز أن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل، وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه فلا يلزم فيه اختيار النصب، ثم قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده فذكر أخبارا وقصصا، فكأنه قال: ومن القصص- مثل الجنة- فهو محمول على هذا الإضمار والله تعالى أعلم، وكذلك الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي لما قال جل ثناؤه: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النور: ١] قال جل وعلا في جملة الفرائض: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ثم جاء فَاجْلِدُوا بعد أن مضى فيهما الرفع- يريد سيبويه- لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدم، وجاء الفعل طارئا، ثم قال: كما جاء- وقائلة: خولان- فانكح فتاتهم، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، وكذلك وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فيما فرض عليكم السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث، وقد قرأ أناس السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع، يريد أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع القرائن مختلف، وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب، فالنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل، والرفع متعين- لا أقول أرجح- حيث يبنى الاسم على كلام متقدم، وإنما التبس على الزمخشري كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه باب واحد عنده، ألا ترى إلى قوله: لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضرب، كيف رجح النصب على الرفع، حيث يبنى الكلام في الوجهين على الفعل، وقد صرح سيبويه بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم، ثم حقق هذا المقدار بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير، بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره- كما أعربه الزمخشري- فالملخص- على هذا- أن النصب على وجه واحد، وهو بناء الاسم على فعل الأمر، والرفع على وجهين: أحدهما ضعيف وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل، والآخر قوي بالغ كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق، وإذا تعارض لنا وجهان في الرفع، أحدهما قوي والآخر ضعيف تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رحمه الله تعالى ورضي عنه انتهى.
والفاء إذا بني الكلام على جملتين سببية لا عاطفة، وقيل: زائدة وكذا على الوجه الضعيف، فإن المبتدأ متضمن معنى الشرط إذ المعنى والذي سرق والتي سرقت، وزعم بعض المحققين أن مثل هذا التركيب لا يتوجه إلا بأحد أمرين: زيادة الفاء كما نقل عن الأخفش، أو تقدير إما لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ إما لتضمنه معنى الشرط، وإما لوقوع المبتدأ بعد أما، ولما لم يكن الأول وجب الثاني ولا يخفى ما فيه، وعلى قراءة عيسى بن عمر يكون النصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، والفاء أيضا- كما قال ابن جني- لما في الكلام من معنى الشرط، ولذا حسنت مع الأمر لأنه بمعناه، ألا تراه جزم جوابه لذلك إذ معنى أسلم تدخل الجنة إن تسلم تدخل الجنة، والمراد كما يشير إليه بعض شروح الكشاف إن أردتم حكم السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا إلخ، ولذا لم يجز زيدا فضربته لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا، وتقديره إن أردتم معرفة إلخ أحسن من تقديره إن قطعتم لأن لا يدل على الوجوب المراد، وقال أبو حيان: إن الفاء في جواب أمر مقدر أي تنبه لحكمهما فَاقْطَعُوا، وقيل: إنما دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٥٤] وليس بشيء، وبما ذكر صاحب الانتصاف يعلم فساد ما قيل: إن سبب الخلاف السابق في
302
مثل هذا التركيب أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا بما يقبل مباشرة أداة الشرط، وغيرهما لا يشترط ذلك، والظاهر أن سبب هذا عدم الوقوف على المقصود فليحفظ، والسرقة أخذ مال الغير خفية، وإنما توجب القطع إذا كان الأخذ من حرز، والمأخوذ يساوي عشرة دراهم فما فوقها، مع شروط تكفلت ببيانها الفروع، ومذهب الشافعي والأوزاعي وأبي ثور والإمامية رضي الله تعالى عنهم أن القطع فيما يساوي ربع دينار فصاعدا، وقال بعضهم: لا تقطع الخمس إلا بخمسة دراهم، واختاره أبو علي الجبائي، قيل: يجب القطع في القليل والكثير- وإليه ذهب الخوارج- والمراد بالأيدي الأيمان- كما روي عن ابن عباس والحسن والسدي وعامة التابعين رضوان الله عليهم أجمعين- ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- أيمانهما- ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: ٤] اكتفاء بتثنية المضاف إليه كذا قالوا، قال الزجاج: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن، ولفظ به على الجمع لأن الإضافة تبينه، فإذا قلت: أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط.
وفرع الطيبي عليه عدم استقامة تشبيه ما في الآية هنا بما في الآية الأخرى لأن لكل من السارق يدين فيجوز الجمع، وأن تقطع الأيدي كلها من حيث ظاهر اللغة، وكذا قال أبو حيان، وفيه نظر لأن الدليل قد دل على أن المراد من اليد يد مخصوصة وهي اليمين فجرت مجرى القلب والظهر واليد اسم لتمام العضو، ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب، والإمامية على
أنه يقطع من أصول الأصابع ويترك له الإبهام والكف، ورووه عن علي كرم الله تعالى وجهه،
واستدلوا عليه أيضا بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: ٧٩] إذ لا شك في أنهم إنما يكتبونه بالأصابع، وأنت تعلم أن هذا لا يتم به الاستدلال على ذلك المدعى، وحال روايتهم أظهر من أن تخفى، والجمهور على أن المقطع هو الرسغ،
فقد أخرج البغوي وأبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث الحارث بن أبي عبد الله بن أبي ربيعة «أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه»
والمخاطب بقوله سبحانه:
فَاقْطَعُوا على ما في البحر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو ولاة الأمور كالسلطان، ومن أذن له في إقامة الحدود، أو القضاة والحكام، أو المؤمنون أقوال أربعة، ولم تدرج السارقة في السارق تغليبا كما هو المعروف في أمثاله لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر جَزاءً نصب على أنه مفعول له أي فاقطعوا للجزاء، أو على أنه مصدر- لاقطعوا- من معناه، أو لفعل مقدر من لفظه، وجوز أن يكون حالا من فاعل- اقطعوا- مجازين لهما بِما كَسَبا بسبب كسبهما، أو ما كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي وقوله تعالى: نَكالًا مفعول له أيضا- كما قال أكثر المعربين- وقال السمين: منصوب كما نصب جَزاءً، واعترض الوجه الأول بأنه ليس بجيد لأن المفعول له لا يتعدد بدون عطف واتباع لأنه على معنى اللام، فيكون كتعلق حرفي جر بمعنى بعامل واحد وهو ممنوع، ودفع بأن النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه، وقال الحلبي وبعض المحققين: إنه إنما ترك العطف إشعارا بأن القطع للجزاء والجزاء للنكال والمنع عن المعاودة، وعليه يكون مفعولا له متداخلا كالحال المتداخلة، وبه أيضا يندفع الاعتراض وهو حسن، وقال عصام الملة:
إنما لم يعطف لأن العلة مجموعهما- كما في هذا خلو حامض- والجزاء إشارة إلى أن فيه حق العبد، والنكال إشارة إلى أن فيه حق الله تعالى، ولا يخفى ما فيه فتأمل، ونقل عن بعض النحاة أنه أجاز تعدد المفعول له بلا أتباع وحينئذ لا يرد السؤال رأسا، وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أي نكالا كائنا منه تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ في شرع الردع حَكِيمٌ في إيجاب القطع، أو عَزِيزٌ في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصي حَكِيمٌ في فرائضه وحدوده، والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.
303
ومن الغريب أنه نقل عن أبيّ رضي الله تعالى أنه قرأ- والسرق والسرقة- بترك الألف وتشديد الراء، فقال ابن عطية: إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا في المصحف بدون الألف، وقيل في توجيهها: إنهما جمع سارق وسارقة، لكن قيل: إنه لم ينقل هذا الجمع في جمع المؤنث، فلو قيل: إنهما صيغة مبالغة لكان أقرب، واعترض- الملحد- المعري على وجوب قطع اليد بسرقة القليل، فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت... ما بالها قطعت في ربع دينار
تحكم: ما لنا إلا السكوت له... وأن نعوذ بمولانا من النار
فأجابه- ولله دره- علم الدين السخاوي بقوله:
عز الأمانة: أغلاها وأرخصها... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري
وفي الأحكام لابن عربي أنه كان جزاء السارق في شرع من قبلنا استرقاقه، وقيل: كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام ونسخ، فعلى الأول شرعنا ناسخ لما قبله، وعلى الثاني مؤكد للنسخ فَمَنْ تابَ من السرّاق إلى الله تعالى مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ الذي هو سرقته، والتصريح بذلك لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته وَأَصْلَحَ أمره بالتفصي عن التبعات بأن يرد مال السرقة إن أمكن أو يستحل لنفسه من مالكه أو ينفقه في سبيل الله تعالى إن جهله، وقيل: المعنى وفعل الفعل الصالح الجميل بأن استقام على التوبة كما هو المطلوب منه فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع فلا يسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه، ويسقطه عند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه، ولا يخفى ما في هذه الجملة من ترغيب العاصي بالتوبة، وأكد ذلك بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو في موضع التعليل لما قبله، وفيه إشارة إلى أن قبول التوبة تفضل منه تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أو لكل أحد يصلح له، واتصاله بما قبله على ما قاله الطبرسي: اتصال الحجاج، والبيان عن صحة ما تقدم من الوعد والوعيد، وقال شيخ الإسلام: المراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى- على ما سيأتي- من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله تعالى له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما اشتملا عليه إيجادا وإعداما إحياء وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته، والجار والمجرور خبر مقدم، ومُلْكُ السَّماواتِ مبتدأ، والجملة خبر أَنَّ وهي مع ما في حيزها سادّ مسدّ مفعولي «تعلم» عند الجمهور، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم، وقوله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ إما تقرير لكون ملكوت السماوات والأرض له سبحانه، وإما خبر آخر- لأن- وكان الظاهر
لحديث «سبقت رحمتي غضبي»
تقديم المغفرة على التعذيب، وإنما عكس هنا لأن التعذيب للمصر على السرقة، والمغفرة للتائب منها، وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق، أو لأن المراد بالتعذيب القطع، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله تعالى، والأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فجيء به على ترتيب الوجود أو لأن المقام مقام الوعيد، أو لأن المقصود وصفه تعالى بالقدرة، والقدرة في تعذيب من يشاء أظهر من القدرة في مغفرته لأنه لا إباء في المغفرة من المغفور، وفي التعذيب إباء بين وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها، ووجه الإظهار كالنهار يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ خوطب صلّى الله عليه وسلّم بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن، والمراد بالمسارعة في الشيء الوقوع فيه بسرعة ورغبة، وإيثار كلمة فِي على- إلى- للإيذان بأنهم مستقرون في الكفر لا يبرحون، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه
304
إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك.
والتعبير عنهم بالموصول للإشارة بما في حيز صلته إلى مدار الحزن، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه صلّى الله عليه وسلّم بمسارعتهم في الكفر- لكنه في الحقيقة نهي له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاة، والغرض منه مجرد التسلية على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وقطع له من أصله.
وقرىء «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي من أحزن وهي لغة، وقرىء «يسرعون» يقال أسرع فيه الشيب أي وقع فيه سريعا أي لا تحزن ولا تبال بتهافتهم في الكفر بسرعة حذرا- كما قيل- من شرهم وموالاتهم للمشركين فإن الله تعالى ناصرك عليهم، أو شفقة عليهم حيث لم يوفقوا للهداية فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ بيان للمسارعين في الكفر، وقال أبو البقاء: إنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يُسارِعُونَ أو من الموصول أي كائنين مِنَ الَّذِينَ إلخ، والباء متعلقة- بقالوا- لا- بآمنا- لظهور فساده وتعلقها به على معنى- بذي أفواههم- أي يؤمنون بما يتفوهون به من غير أن تلتف به قلوبهم مما لا ينبغي أن يلتفت إليه من له أدنى تمييز وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ جملة حالية من ضمير قالُوا، وقيل: عطف على قالُوا وقوله سبحانه وتعالى:
وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا عطف على مِنَ الَّذِينَ قالُوا وبه تم تقسيم المسارعين إلى قسمين: منافقين ويهود، فقوله سبحانه وتعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ خبر مبتدأ محذوف أي هم سَمَّاعُونَ، والضمير للفريقين أو للذين يسارعون، وجوز أن يكون- للذين هادوا- واعترض بأنه مخل بعموم الوعيد الآتي ومباديه للكل- كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى- وكذا جعل غير واحد وَمِنَ الَّذِينَ إلخ خبرا على أن سَمَّاعُونَ صفة لمبتدأ محذوف، أي ومنهم قوم سماعون لأدائه إلى اختصاص ما عدد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم، على أنه قد قرىء- سماعين- بالنصب على الذم وهو ظاهر في أرجحية العطف، فالوجه ذلك، واللام للتقوية كما في قوله تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود: ١٠٧، البروج: ١٦] وقيل: لتضمين السماع معنى القبول أي قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وتحريف كتابه، واعترضه الشهاب بأن هذا يقتضي أنه إنما فسر بالقبول ليعديه اللام.
وقد قال الزجاج: يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل، ومنه سمع الله لمن حمده أي تقبل منه حمده، وكلام الجوهري يخالفه أيضا، ويقتضي أنه ليس مبنيا على التضمين، وقال عصام الملة: إن القبول أيضا متعد بنفسه ففي القاموس: قبله- كعمله- وتقبله بمعنى أخذه، نعم يتعدى السماع بمعنى القبول باللام بمعنى من، كما في- سمع الله لمن حمده- أي قبل الله تعالى ممن حمده، لكن هذه اللام تدخل على المسموع منه لا المسموع.
وجوز أن تكون اللام للعلة، والمفعول محذوف أي سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه بأن يمسخوه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، أو كلام الناس الدائر فيما بينهم ليكذبوا بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم، أو نحو ذلك مما فيه ضرر بهم، وأيا ما كان فالجملة مستأنفة جارية- على ما قيل- مجرى التعليل للنهي، أو مسوقة لمجرد الذم كما يقتضيه قراءة النصب، وقوله تعالى شأنه: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ خبر ثان للمبتدأ المقدر للأول، ومبين لما هو المراد بالكذب على تقدير التقوية والتضمين، واللام هنا مثلها في- سمع الله لمن حمده- والمعنى مبالغون في قبول كلام قوم آخرين، واختاره شيخ الإسلام.
305
وجوز كونها لام التعليل أي سماعون كلامه صلّى الله عليه وسلّم الصادر منه ليكذبوا عليه لأجل قوم آخرين، والمراد أنهم عيون عليه عليه الصلاة والسلام لأولئك القوم، وروي ذلك عن الحسن والزجاج واختاره أبو علي الجبائي، وليس في النظم ما يأباه ولا بعد فيه، نعم ما قيل: من أنه يجوز أن تتعلق اللام بالكذب على أن سَمَّاعُونَ الثاني مكرر للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقوم آخرين بعيد، وآخَرِينَ صفة لِقَوْمٍ وجملة لَمْ يَأْتُوكَ صفة أخرى، والمعنى لم يحضروا عندك، وقيل: هو كناية عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا إليك، وفيه دلالة على شدة بغضهم له صلّى الله عليه وسلّم، وفرط عداوتهم، واحتمال كونها صفة سَمَّاعُونَ أي سَمَّاعُونَ لم يقصدوك بالإتيان بل قصدوا السماع للإنهاء إلى قوم آخرين مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقوله سبحانه وتعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ صفة أخرى لِقَوْمٍ وصفوا أولا بمغايرتهم للسماعين تنبيها على استقلالهم وأصالتهم في الرأي، ثم بعدم حضورهم مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إيذانا بكمال طغيانهم في الضلال، أو بعدم قدرتهم على النظر إليه عليه الصلاة والسلام إيذانا بما تقدم ثم باستمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى، وتعيينا للكذب الذي سمعه السماعون على بعض الوجوه كما هو الظاهر، وقيل: الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعية عليهم شنائعهم، وقيل: خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم، وقيل: إلى الفريقين، والمعنى يميلون ويزيلون التوراة، أو كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو كليهما أو مطلق الكلم في قول عن المواضع التي وضع ذلك فيها إما لفظا بإهماله، أو تغيير وضعه، وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده.
ومن هنا يعلم توجيه قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ دون عن مواضعه، وقال عصام الملة: إن إدراج لفظ بَعْدِ للتنبيه على تنزيل الكلم منزلة هي أدنى مما وضعت فيه لأنه إبطال النافع بالضار لا بالنافع أو الأنفع، فكأن المحرف واقف في موضع هو أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه، ولا يخفى بعده، وقال بعضهم: إن مِنَ للابتداء، ولفظ بَعْدِ للإشارة إلى أن التحريف مما بعد إلى موضع أبعد، وفيه من المبالغة في التشنيع ما لا يخفى، وقرأ إبراهيم- يحرفون الكلام (١) عن مواضعه- وقوله سبحانه وتعالى: يَقُولُونَ كالجملة السابقة في الوجوه، ويجوز أن تكون حالا من ضمير يُحَرِّفُونَ وجوز كونها كالتي قبلها صفة- لسماعون- أو حالا من الضمير فيه، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لا يحضر مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمخاطب به ممن يحضره، فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه عليه الصلاة والسلام لمن لا يحوم حول حضرته قطعا، وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة النظم الكريم، فالحق الذي لا محيد عنه- وعليه درج غالب المفسرين- أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم إِنْ أُوتِيتُمْ من جهة الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما هو الظاهر هذا فَخُذُوهُ واعملوا بموجبه فإنه موافق للحق وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ من جهته بل أوتيتم غيره فَاحْذَرُوا قبوله وإياكم وإياه، أو فاحذروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة والتحذير ما لا يخفى،
أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله
(١) قوله: «عن مواضعه» كذا بخط مؤلفه وحرر قراءة إبراهيم.
306
صلّى الله عليه وسلّم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، وأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وقوة منكم، فأما إذ قدم محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما ففكرت العزيزة فقال: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم، فدسوا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم من يخبر لكم رأيه فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكموه حذرتموه فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما جاؤوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بأمرهم كله وماذا أرادوا فأنزل يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية،
وعلى هذا يكون أمر التحريف غير ظاهر الدخول في القصة.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة- وقد زنى رجل بعد إحصانه بامرأة من يهود وقد أحصنت- فقالوا: ابعثوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فاسألوه كيف الحكم فيهما وولوه الحكم فيهما، فإن عمل فيهما عملكم من التجبية- وهي الجلد بحبل من ليف مطلي بقار- ثم تسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار فاتبعوه، فإنما هو ملك سيد قوم وإن حكم فيهما بغيره فإنه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكم إياه، فأتوه فقالوا: يا محمد هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما فقد وليناك الحكم فيهما، فمشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أتى أحبارهم في بيت المدارس فقال: يا معشر يهود اخرجوا إلى علمائكم فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهود، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فسألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم حصل أمرهم إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة، فخلا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا- فألظ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسألة يقول: يا ابن صوريا أنشدك الله تعالى وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل هل تعلم أن الله تعالى حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلخ.
وأخرج الحميدي في مسنده وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن عبد الله أنه قال: «زنى رجل من أهل فدك فكتبوا إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك فقال: أرسلوا إلى أعلم رجلين منكم، فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا وآخر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لهما: أليس عندكما التوراة فيها حكم الله تعالى؟ قالا: بلى، قال: فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام ونجاكم من آل فرعون وأنزل التوراة على موسى عليه السلام وأنزل المنّ والسلوى على بني إسرائيل ما تجدون في التوراة في شأن الرجم، فقال أحدهما للآخر: ما أنشدت بمثله قط قالا: نجد ترداد النظر ريبة والاعتناق ريبة والقبل ريبة، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه بيدي ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو كذلك فأمر به فرجم.
وفي جريان الإحصان الشرعي الموجب للرجم في الكافر ما هو مذكور في الفروع، ولعل هذا عند من يشترط الإسلام- كالإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه- كان على اعتبار شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، أو كان قبل نزول الجزية فليتدبر وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي عذابه كما روي عن الحسن وقتادة، واختاره الجبائي وأبو مسلم، أو
307
إهلاكه كما روي عن السدي والضحاك، أو خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه كما نقل عن الزجاج، أو اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدفع ذلك ويحرفه- كما قيل- وليس بشيء، والمراد العموم ويندرج فيه المذكورون اندراجا أوليا، وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بظهوره واستغنائه عن الذكر فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ فلن تستطيع له مِنَ اللَّهِ شَيْئاً في دفع تلك الفتنة، والفاء جوابية، ومِنَ اللَّهِ متعلق- بتملك- أو بمحذوف وقع حالا من شَيْئاً لأنه صفته في الأصل أي شيئا كائنا من لطف الله تعالى، أو بدل الله عز اسمه، وشَيْئاً مفعول به- لتملك- وجوز بعض المعربين أن يكون مفعولا مطلقا. والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، أو مبينة لعدم انفكاك أولئك عن القبائح المذكورة أبدا أُولئِكَ أي المذكورون من المنافقين واليهود، وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مرت الإشارة إليه مرارا، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من رجس الكفر وخبث الضلالة، والجملة استئنافية مبينة لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضي لها لا واقعة منه سبحانه ابتداء، وفيها- كالتي قبلها على أحد التفاسير- دليل على فساد قول المعتزلة: إن الشرور ليست بإرادة الله تعالى وإنما هي من العباد، وقول بعضهم: إن المراد لم يرد تطهير قلوبهم من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب، أو لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها بأنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان- كما قال البلخي- لا يقدم عليه من له أدنى ذوق بأساليب الكلام.
ومن العجيب أن الزمخشري لما رأى ما ذكر خلاف مذهبه قال: معنى- من يرد الله فتنته- من يرد تركه مفتونا وخذلانه فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فلن تستطيع له من لطف الله تعالى وتوفيقه شيئا، ومعنى لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لم يرد أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أن ذلك لا ينجع فيهم ولا ينفع انتهى.
وقد تعقبه ابن المنير بقوله: كم يتلجلج والحق أبلج، هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أن الله تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته سبحانه وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية وأمثالها لو أراد الله تعالى أن يطهر قلوبهم من وضر البدع أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: ٢٤]، وما أشنع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد الله تعالى أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن ألطافه لا تنجح تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون، وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع، فلطف من ينفع؟! وإرادة من تنجع؟! وليس وراء الله للعبد مطمع انتهى، وتفصيهم عن ذلك عسير لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أما المنافقون فخذيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم بين المسلمين، وازدياد غمهم بمزيد انتشار الإسلام وقوة شوكته وعلو كلمته، وأما خزي اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة. وإجلاء بني النضير من ديارهم، وتنكير خِزْيٌ للتفخيم وهو مبتدأ ولَهُمْ خبره، وفِي الدُّنْيا متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من أحوالهم الموجبة للعقاب، كأنه قيل: فما لهم على ذلك من العقوبة؟ فقيل:
لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وكذا الحال في قوله تعالى: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي مع الخزي الدنيوي عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره وهو الخلود في النار مع أعد لهم فيها، وضمير لَهُمْ في الجملتين- لأولئك- من المنافقين واليهود جميعا، وقيل: لليهود خاصة، وقيل: لَهُمْ إن استأنفت بقوله سبحانه: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا وإلا فللفريقين،
308
والتكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد، ولذلك كرر قوله سبحانه: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، وقيل: إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ إلخ. أو توطئة لما بعده، أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة وفيما مر ما يفتريه الأحبار، ويؤيده الفصل بينهما.
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام من سحته إذا استأصلته، وسمي الحرام سحتا- عند الزجاج- لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار، وقال الجبائي: لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبا، وقال الخليل: لأن في طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة الإنسان، والمراد به هنا- على المشهور- الرشوة في الحكم، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل: يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم»
وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هدايا الأمراء سحت»
وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي؟ قال: لا، ولكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية،
وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم، قال: ذاك الكفر، وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود نحو ذلك،
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ست خصال من السحت:
رشوة الإمام- وهي أخبث ذلك كله- وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن»
،
وعدّ ابن عباس رضي الله تعالى عنه في رواية ابن منصور والبيهقي عنه أشياء أخر.
قيل: ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر،
وجاء من طرق عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما».
ولتفاقم الأمر في هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة مولانا- ظل الله تعالى على الخليقة ومجدد نظام رسوم الشريعة والحقيقة- السلطان العدلي محمود خان لا زال محاطا بأمان الله تعالى- حيثما كان في السنة الرابعة والخمسين بعد الألف والمائتين- بمؤاخذة المرتشي وأخويه على أتم وجه، وحد للهدية حدا لئلا يتوصل بها إلى الارتشاء كما يفعله اليوم كثير من الأمراء،
فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستكون من بعدي ولاة يستحلون الخمر بالنبيذ، والنجش بالصدقة، والسحت بالهدية، والقتل بالموعظة يقتلون البريء ليوطئوا العامة يملي لهم فيزدادوا إثما».
هذا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب «السحت» بضمتين، وهما لغتان- كالعنق والعنق.
وقرىء «السحت» بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت كالصيد بمعنى المصيد، و «السحت» بفتحتين و «السحت» بكسر السين فَإِنْ جاؤُكَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بما أراك الله تعالى أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ غير مبال بهم ولا مكترث، وهذا كما ترى تخيير له صلّى الله عليه وسلّم بين الأمرين، وهو معارض لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص- في كتاب الأحكام- أن العلماء اختلفوا، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى، وروي ذلك عن ابن عباس، وإليه ذهب أكثر السلف: قالوا: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان أولا مخيرا، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بإجراء الأحكام عليهم، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وقيل: إن هذه الآية فيمن لم
309
يعقد له ذمة، والأخرى في أهل الذمة فلا نسخ، وأثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا.
وقال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين، وخبر الرجم السابق سبق توجيهه، واختلف في مناكحتهم، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يقرون عليها، وخالفه- في بعض ذلك- محمد وزفر، وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا، فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم، وتمام التفصيل في الفروع وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ بيان لحال الأمرين بعد تخييره صلّى الله عليه وسلّم بينهما، وتقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه حيث كان مظنة لترتب العداوة المقتضية للتصدي للضرر، فمآل المعنى إن تعرض عنهم ولم تحكم بينهم فعادوك وقصدوا ضررك فَلَنْ يَضُرُّوكَ بسبب ذلك شَيْئاً من الضرر فإن الله تعالى يحفظك من ضررهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه قال:- لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم- إن صح يراد منه لازم المعنى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين فيحفظهم عن كل مكروه ويعظم شأنهم وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به، وتنبيه على أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق وإنما هو لطلب الأهون، وإن لم يكن ذلك حكم الله تعالى بزعمهم فقوله سبحانه:
وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ حال من فاعل يُحَكِّمُونَكَ، وقوله تعالى: فِيها حُكْمُ اللَّهِ حال من التوراة إن جعلت مرتفعة بالظرف وكون ذلك ضعيفا لعدم اعتماد الظرف سهو لأنه معتمد- كما قال السمين- على ذي الحال لكن قال: جعل التوراة- مرفوعا بالظرف المصدر بالواو- محل نظر، ولعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة، أو أنه لا يقرن بالواو، وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن في الخبر لأنه لا يصح مجيء الحال من المبتدأ عن سيبويه.
وقيل: استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، وأنثت التوراة معاملة لها- بعد التعريب- معاملة الأسماء العربية الموازنة لها- كموماة ودوداة- ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف على يُحَكِّمُونَكَ داخل في حكم التعجيب لأن التحكيم مع وجود ما فيه الحق المغني عن التحكيم، وإن كان محلا للتعجب والاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب، وثُمَّ للتراخي في الرتبة، وجوز الأجهوري كون الجملة مستأنفة غير داخلة في حكم التعجيب أي ثم هم يتولون أي عادتهم فيما إذا وضح لهم الحق أن يعرضوا ويتولوا، والأول أولى، وقوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد أن يحكموك تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد والتعجب، وقوله عز وجل: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ تذييل مقرر لفحوى ما قبله، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم قصدا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماء إلى علة الحكم مع الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة، أي وَما أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم لإعراضهم عنه المنبئ عن عدم الرضا القلبي به أولا وعن حكمك الموافق له ثانيا، أو بك وبه، وقيل: هذا إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبحكمه أصلا.
وقيل: المعنى- وما أولئك بالكاملين في الإيمان- تهكما بهم إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ كلام مستأنف سيق لتقرير مزيد فظاعة حال أولئك اليهود ببيان علو شأن التوراة على أتم وجه فِيها هُدىً أي إرشاد للناس إلى الحق وَنُورٌ
310
أي ضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه-.
وقال الزجاج: فِيها هُدىً أي بيان للحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وَنُورٌ أي بيان أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام حق، ولعل تعميم المهدي إليه كما في كلام ابن عباس أولى، ويندرج فيه اندراجا أوليا ما ذكره الزجاج من الحكم، وإطلاق النور على ما في التوراة مجاز، ولعل إطلاقه على ذلك دون إطلاقه على القرآن بناء على أن النور مقول بالتشكيك، وقد يقال: إن إطلاقه على ما به بيان أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم- بناء على ما قال الزجاج- باعتبار كون الأمر المبين متعلقا بأول الأنوار الذي لولاه ما خلق الفلك الدوار صلّى الله عليه وسلّم، وحينئذ يكون الفرق بين الإطلاقين مثل الصبح ظاهرا، والظرف خبر مقدم، وهُدىً مبتدأ، والجملة حال من التَّوْراةَ أي كائنا فيها ذلك، وكذا جملة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ في قول إلا أنها حال مقدرة، والأكثرون على أنها مستأنفة مبينة لرفعة رتبة التوراة وسمو طبقتها، والمراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام على ما رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل، وكان بين النبيين عليهما السلام ألف نبي.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلّى الله عليه وسلّم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، وعلى هذا بني الاستدلال بالآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة، والمراد يحكم بأحكامها النبيون الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيين- كما قيل- على سبيل المدح، والظاهر لهم، ونظر فيه ابن المنير بأن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه، والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما فإن أقل متبعيه كذلك، ثم قال: فالوجه- والله تعالى أعلم- أن الصفة قد تذكر لتعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما تذكر تنويها بقدر موصوفها، وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء عليهم السلام بالصلاح في غير ما آية تنويها بمقدار الصلاح إذ جعل صفة للأنبياء عليهم السلام، وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: ٧]، فأخبر سبحانه عن الملائكة المقربين بالإيمان تعظيما لقدره، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا، كيف لا؟! وهم- عند ربهم- كما في الخبر، ثم قال جل وعلا: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني من البشر لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين القبيلتين، فلذلك- والله تعالى أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به، ولقد أحسن القائل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف، وحسان الناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام بقوله:
ما إن مدحت محمدا بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمد
والإسلام- وإن كان من أشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حكمه- إلا أن النبوة أشرف وأجل لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس، ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها در مقاصيرها زبرجدها
فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت أديم صنعته؟ فعلينا
311
أن نتدبر الآيات المعجزات حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهودة لها، والله تعالى الموفق للصواب انتهى.
وفي المفتاح: والتخليص إشارة إلى ما ذكره، وإيراد الطيبي عليه ما أورده غير طيب، نعم قد يقال: إن القائل بكونها مادحة لمن جرت عليه نفسه قد يدعي أن ذلك مما لا بأس به إذا قصد مع المدح فوائد أخر كالتنويه بعلو مرتبة المسلمين هنا والتعريض باليهود بأنهم بمعزل عن الإسلام، على أنه قد ورد في الفصيح- بل في الأفصح- ذكر غير الأبلغ بعد الأبلغ من الصفات، ومن ذلك الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: ١ وغيرها] حيث كان متضمنا نكتة، وقال عصام الملة: إن الإسلام للنبي كمال المدح لأن الانقياد من المقتدي للخلائق التي لا تحصى وصف لا وصف فوقه، ويمكن أن يكون الوصف به هنا إشعارا بمنشأ الحكم ليحافظ عليه الأمة ولا يخرم، ولا يتوهم أن الحكم للنبوة، فغير النبي صلّى الله عليه وسلّم خارج عن هذا المسلك انتهى، وفيه تأمل، إذ الترقي من الأدنى إلى الأعلى لم يظهر بعد، ونهاية الأمر الرجوع إلى نحو ما تقدم فافهم لِلَّذِينَ هادُوا أي تابوا من الكفر- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه- والمراد بهم اليهود- كما قال الحسن- والجار إما متعلق- بيحكم- أي يحكمون فيما بينهم، واللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم، كأنه قيل: لأجل الذين هادوا، وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط التبعة عنه، وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض بالمحرفين، وقيل: من باب سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] وإما متعلق- بأنزلنا- ولعل الفاصل ليس بالأجنبي ليضر، وقيل: بأنزل على صيغة المبني للمفعول، وحذف لدلالة الكلام عليه، وتكون الجملة حينئذ معترضة، وعلى هذا تكون الآية نصا في تخصيص النبيين بأنبياء بني إسرائيل لأنه لا يلزم من إنزالها لهم اختصاصها بهم، وقيل: الجار متعلق- بهدى ونور- وفيه فصل بين المصدر ومعموله، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة لهما أي هُدىً وَنُورٌ كائنان لهما، وكلام الزجاج يحتمل هذا وما قبله وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أي العباد والعلماء قاله قتادة، وقال مجاهد:
الرَّبَّانِيُّونَ العلماء الفقهاء وهم فوق الأحبار، وعن ابن زيد الرَّبَّانِيُّونَ الولاة، وَالْأَحْبارُ العلماء، والواحد:
حبر بالفتح والكسر، قال الفراء: وأكثر ما سمعت فيه الكسر، وهو مأخوذ من التحبير والتحسين، فإن العلماء يحبرون العلم ويزينونه ويبينونه، ومن ذلك الحبر- بكسر الحاء لا غير- لما يكتب به، وهذا عطف على «النبيون» أي هم أيضا يحكمون بأحكامها، وتوسيط المحكوم لهم- كما قال شيخ الإسلام- بين المتعاطفين للإيذان بأن الأصل في الحكم بها، وحمل الناس على ما فيها هم النبيون، وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم في ذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي بالذي استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق، ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام مشعر باستخلافهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها، والجار متعلق «بيحكم»، وما موصولة، وضمير الجمع عائد إلى الربانيين والأحبار، وقوله تعالى:
مِنْ كِتابِ اللَّهِ بيان- لما- وفي الإبهام والبيان بذلك ما لا يخفى من تفخيم أمر التوراة ذاتا وإضافة، وفيه أيضا تأكيد إيجاب حفظها والعمل بما فيها، والباء الداخلة على الموصول سببية فلا يلزم تعلق حرفي جر متحدي المعنى بفعل واحد أي ويحكم الربانيون والأحبار أيضا بالتوراة بسبب ما حفظوه مِنْ كِتابِ اللَّهِ حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه، وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه محفوظا، فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لا محالة على ما في حيز الصلة من الاستحفاظ له، وتوهم بعضهم أن ما بمعنى أمر، ومِنْ لتبيين مفعول محذوف- لاستحفظوا- والتقدير بسبب أمر اسْتُحْفِظُوا به
312
شيئا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وهو مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله تعالى، وقيل: الأولى أن تجعل ما مصدرية ليستغني عن تقدير العائد، وحينئذ لا يتأتى القول بأن مِنْ بيان لها، ومن الناس من جوز كون بِمَا بدلا من بها، وأعيد الجار لطول الفصل وهو جائز أيضا وإن لم يطل، ومنهم من أرجع الضمير المرفوع للنبيين ومن عطف عليهم، فالمستحفظ حينئذ هو الله تعالى، وحديث الأنباء لا يتأتى إذ ذاك، وقيل: إن الرَّبَّانِيُّونَ فاعل بفعل محذوف، والباء صلة له، والجملة معطوفة على ما قبلها، أي ويحكم الربانيون والأحبار بحكم كتاب الله تعالى الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ عطف على اسْتُحْفِظُوا ومعنى شُهَداءَ رقباء يحمونه من أن يحوم حول حماه التغيير والتبديل بوجه من الوجوه، أو شُهَداءَ عليه أنه حق.
ورجح على الأول بأنه يلزم عليه أن يكون الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ رقباء على أنفسهم لا يتركونها أن تغير وتحرف التوراة لأن المحرف لا يكون إلا منهم لا من العامة، وهو كما ترى ليس فيه مزيد معنى، وإرجاع ضمير كانُوا للنبيين مما لا يكاد يجوز، وقيل: عطف على يَحْكُمُ المحذوف المراد منه حكاية الحال الماضية أي حكم الربانيون والأحبار بكتاب الله تعالى.
وكانوا شهداء عليه، ويجوز على هذا- بلا خفاء- أن تكون الشهادة مستعارة للبيان أي مبينين ما يخفى منه، وأمر التعدي بعلى سهل، ولعل المراد به شيء وراء الحكم، وقيل: الضمير المرفوع هنا كسابقه عائد على النبيين وما عطف عليه، والعطف إما على اسْتُحْفِظُوا أو على يَحْكُمُ وتوهم عبارة البعض- حيث قال وبسبب كونهم شهداء- أن العطف على- ما- الموصولة فيؤوّل كانُوا بالمصدر، وكأن المقصود منه تلخيص المعنى لكون ما ذكر ضعيفا فيما لا يكون المعطوف عليه حدثا، وأما العطف على كتاب الله بتقدير حرف مصدري ليكون المعطوف داخلا تحت الطلب فكما ترى، وإرجاع ضمير عَلَيْهِ إلى حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرجم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مما تأباه العربية في بعض الاحتمالات، وهو وإن جاز عربية في البعض الآخر لكنه خلاف الظاهر ولا قرينة عليه، ولعل مراد الحبر بيان بعض ما تضمنه الكتاب الذي هم شهداء عليه، وبالجملة احتمالات هذه الآية كثيرة فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والسدي والكلبي، ويتناول النهي غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة، والفاء لجواب شرط محذوف أي إذا كان الشأن كما ذكر يا أيها الأحبار فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ كائنا من كان، واقتدوا في مراعاة أحكام التوراة وحفظها بمن قبلكم من النبيين والربانيين والأحبار، ولا تعدلوا عن ذلك ولا تحرفوا خشية من أحد وَاخْشَوْنِ في ترك أمري فإن النفع والضر بيدي، أو في الإخلال بحقوق مراعاتها فضلا عن التعرض لها بسوء وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي أي لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم ثَمَناً قَلِيلًا من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية، فإنه وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما يفوتهم بمخالفة الأمر، وذهب الحسن البصري إلى أن الخطاب للمسلمين وهو الذي ينبئ عنه كلام الشعبي.
وعن ابن مسعود- وهو الوجه كما في الكشف- أنه عام، والفاء على الوجهين فصيحة أي وحين عرفتم ما كان عليه النبيون والأحبار، وما تواطأ عليه الخلوف من أمر التحريف والتبديل للرشوة والخشية، فلا تخشوا الناس ولا تكونوا أمثال هؤلاء الخالفين، والذي يقتضيه كلام بعض أئمة العربية أنها على الوجه فصيحة أيضا، وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب فتذكر وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام فَأُولئِكَ إشارة إلى مِنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في سابقه باعتبار لفظها، وهو مبتدأ خبره جملة قوله سبحانه: هُمُ الْكافِرُونَ ويجوز أن
313
يكون هُمُ ضمير فصل، والْكافِرُونَ هو الخبر، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير، واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن، ووجه الاستدلال بها أن كلمة مِنْ فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى، فيدخل الفاسد المصدق أيضا لأنه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى، وأجيب بأن الآية متروكة الظاهر، فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق، ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى، وأيضا إن المراد عموم النفي بحمل ما على الجنس، ولا شك أن من لم يحكم بشيء مما أنزل الله تعالى لا يكون إلا غير مصدق ولا نزاع في كفره، وأيضا أخرج ابن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنما أنزل الله تعالى- ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون- في اليهود خاصة، وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ إلخ ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة وابن جرير عن الضحاك نحو ذلك، ولعل وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة، فلإنكارهم ذلك وصفوا- بالكافرين- ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا- بالظالمين- ولخروجهم عن الحق وصفوا- بالفاسقين- أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم وأحوالهم المنضمة إلى الامتناع عن الحكم، فتارة كانوا على حال تقتضي الكفر، وتارة على أخرى تقتضي الظلم أو الفسق، وأخرج أبو حميد وغيره عن الشعبي أنه قال: الثلاث الآيات التي في المائدة أولها لهذه الأمة والثانية في اليهود والثالثة في النصارى، ويلزم على هذا أن يكون المؤمنون أسوأ حالا من اليهود والنصارى إلا أنه قيل: إن الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ، والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوه وتمرده فيه.
ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الكفر الواقع في أولى الثلاث: إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة كفر دون كفر، والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود وغيرهم، وهو مخرج مخرج التغليظ، أو يلتزم أحد الجوابين، واختلاف الأوصاف لاختلاف الاعتبارات، والمراد من الأخيرين منها الكفر أيضا عند بعض المحققين، وذلك بحملهما على الفسق والظلم الكاملين، وما أخرجه الحاكم وصححه وعبد الرزاق وابن جرير عن حذيفة رضي الله تعالى عنه- أن الآيات الثلاث ذكرت عنده، فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدّ الشراك- يحتمل أن يكون ذلك ميلا منه إلى القول بالعموم، ويحتمل أن يكون كما قيل: ميلا إلى القول بأن ذلك في المسلمين،
وروي الأول عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما إلا أنه قال: كفر ليس ككفر الشرك وفسق ليس كفسق الشرك وظلم ليس كظلم الشرك.
هذا وقد تكلم بعض العارفين على ما في بعض هذه الآيات من الإشارة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي اتقوه سبحانه بتزكية نفوسكم من الأخلاق الذميمة وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي واطلبوا إليه تعالى الزلفى بتحليتها بالأخلاق المرضية وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ بمحو الصفات والفناء في الذات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالمطلوب، وقيل: ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق من إحسانه وعظيم رحمته وهو على حد قوله:
أيا جود معن ناج معنا بحاجتي فليس إلى معن سواه شفيع
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي ما في الجهة السفلية جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ الكبرى ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ لأنه سبب زيادة الحجاب والبعد ولا ينجع ثمة إلا ما في الجهة العلوية
314
من المعارف والحقائق النورية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ أي المتناول من الأنفس والمتناولة من القوى النفسانية للشهوات التي حرمت عليها فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أي امنعوهما بحسم قدرتهما بسيف المجاهدة وسكين الرياضة جَزاءً بِما كَسَبا من تناول ما لا يحل تناوله لها نَكالًا أي عقوبة من الله عز وجل سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ووساوس شيطان النفس سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ وهم القوى النفسانية لَمْ يَأْتُوكَ أي ينقادوا لكم، أو سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ يسنون السنن السيئة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ وهي التعينات الإلهية مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ فيزيلونها عما هي من الدلالة على الوجود الحقاني، أو يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة- كمن يؤوّل القرآن والأحاديث على وفق هواه- وليس ما نحن فيه من هذا القبيل كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادا لله تعالى، وقصر مراده سبحانه على هذه التأويلات، ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من ذلك فإنه كفر صريح، وإنما نقول: المراد هو الظاهر وبه تعبد الله تعالى خلقه لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر يوشك أن يكون ما ذكر بعضا منها وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قال ابن عطاء: من يحجبه الله تعالى عن فوائد أوقاته لم يقدر أحد إيصاله إليه أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي بالمراقبة والمراعاة، وقال أبو بكر الوراق: طهارة القلب في شيئين: إخراج الحسد والغش، وحسن الظن بجماعة المسلمين أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وهو ما يأكلونه بدينهم فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ مداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي داوهم على ما يستحقون ويقتضيه داؤهم، والكلام في باقي الآيات ظاهر والله تعالى الموفق.
وَكَتَبْنا عطف على أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ والمعنى قدرنا وفرضنا عَلَيْهِمْ أي على الذين هادوا، وفي مصحف أبيّ وأنزلنا على بني إسرائيل فِيها أي في التوراة، والجار متعلق بكتبنا، وقيل: بمحذوف وقع حالا أي فرضنا هذه الأمور مبينة فيها، وقيل: صفة لمصدر محذوف أي كَتَبْنا كتابة مبينة فِيها. أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي مأخوذة أو مقتولة أو مقتصة بها إذا قتلتها بغير حق، ويقدر في كل مما في قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ما يناسبه كالفقء والجذع والصلم والقلع، ومنهم من قدر الكون المطلق، وقال: إنه مرادهم أي يستقر أخذها بالعين ونحو ذلك.
وقرأ الكسائي: الْعَيْنَ وما عطف عليه بالرفع، ووجهه أبو علي الفارسي بأن الكلام حينئذ جمل معطوفة على جملة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن معنى- كتبنا عليهم أن النفس بالنفس- قلنا لهم: النفس بالنفس، فالجملة مندرجة تحت ما كتب على بني إسرائيل، وجعله ابن عطية على هذا القول من العطف على التوهم وهو غير مقيس، وقيل: إنه محمول على الاستئناف بمعنى أن الجمل اسمية معطوفة على الجملة الفعلية، ويكون هذا ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة، وقيل: إنه مندرج فيه أيضا على هذا، والتقدير وكذلك- العين بالعين- إلخ لتتوافق القراءتان.
وقال الخطيب: لا عطف، والاستئناف بمعناه المتبادر منه، والكلام جواب سؤال كأنه قيل: ما حال غير النفس؟
فقال سبحانه: الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إلخ، وقيل: إن العين وكذا سائر المرفوعات معطوفة على الضمير المرفوع المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا، والجار والمجرور بعدها حال مبينة للمعنى، وضعف هذا بأنه يلزم العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل ولا تأكيد، وهو لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة.
وأجيب بأنه مفصول تقديرا إذ أصله النفس مأخوذة أو مقتصة هي بالنفس إذ الضمير مستتر في المتعلق المقدم
315
على الجار والمجرور بحسب الأصل وإنما تأخر بعد الحذف وانتقاله إلى الظرف كذا قيل، وهو يقتضي أن الفصل المقدر يكفي للعطف وفيه نظر، ويقدر المتعلق على هذا عاما ليصح العطف إذ لو قدر النفس مقتولة بالنفس والعين لم يستقم المعنى كما لا يخفى فليفهم.
واعلم أن النفس في كلامهم إذا أريد منها الإنسان بعينه مذكر، ويقال: ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص، وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير، وتصغيرها نفيسة لا غير، والعين بمعنى الجارحة المخصوصة مؤنثة، وإطلاق القول بالتأنيث لا يظهر له وجه إذ لا يصح أن يقال: هذه عين هؤلاء الرجال، وأنت تريد الخيار، والأذن مثلها، والأنف مذكر لا غير، والسن تؤنث ولا تذكر وإن كانت السن من الكبر لكن ذكر ابن الشحنة أن السن تطلق على الضرس والناب، وقد نصوا على أنهما مذكران وكذا الناجذ والضاحك والعارض، ونص ابن عصفور على أن الضرس يجوز فيه الأمران، ونظم ما يجوز فيه ذلك بقوله:
وهاك من الأعضاء ما قد عددته تؤنث أحيانا وحينا تذكر
لسان الفتى والإبط والعنق والقفا وعاتقه والمتن والضرس يذكر
وعندي الذراع والكراع مع المعى وعجز الفتى ثم القريض المحبر
كذا كل نحوي حكى في كتابه سوى سيبويه وهو فيهم مكبر
يرى أن تأنيث الذراع هو الذي أتى، وهو للتذكير في ذاك منكر
وقد شاع أن ما منه اثنان في البدن كاليد والضلع والرجل مؤنث، وما منه واحد كالرأس والفم والبطن مذكر، وليس ذاك بمطرد فإن الحاجب والصدغ والخد والمرفق والزند كل منها مذكر مع أن في البدن منه اثنين، والكبد والكرش فإنهما مؤنثان وليس منهما في البدن إلا واحد، وتفصيل ما يذكر ولا يؤنث وما يؤنث ولا يذكر من الأعضاء يفضي إلى بسط يد المقال، والكف أولى بمقتضى الحال هذا وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ بالنصب عطف على اسم إن، وقِصاصٌ هو الخبر، ولكونه مصدرا كالقتال، وليس عين المخبر عنه يؤوّل بأحد التأويلات المعروفة في أمثاله، والكسائي كما قرأ بالرفع فيما قبل قرأ به هنا أيضا، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وإن نصبوا فيما تقدم رفعوا هنا على أنه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصل حكم غيرها من الأعضاء، وهذا الحكم فيما إذا كانت بحيث تعرف المساواة كما فصل في الكتب الفقهية، واستدل بعموم أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ من قال: يقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد والرجل بالمرأة، ومن خالف استدل بقوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى [البقرة: ١٧٨]
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مؤمن بكافر»
وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه، والمراد بما روى الحربي لسياقه ولا ذو عهد في عهده، والعطف يقتضي المغايرة،
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قتل مسلما بذمي،
وذكر ابن الفرس أن الآية في الأحرار المسلمين لأن اليهود المكتوب عليهم ذلك في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا كلهم أحرارا لا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي صلّى الله عليه وسلّم من بين سائر الأنبياء لأن الاستعباد من الغنائم، ولم تحل لغيره عليه الصلاة والسلام، وعقد الذمة لبقاء الكفار ولم يقع ذلك في عهد نبي بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب، وآخر ذلك في هذه الأمة رحمة انتهى.
وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في العموم لكن لم يبقوه على ذلك، فقال قال الأصحاب: لا يقتل المسلم بالمستأمن ولا الذمي به لأنه غير محقون الدم على التأبيد، وكذا كفره باعث على الحرب لأنه على قصد الرجوع،
316
ولا المستأمن بالمستأمن استحسانا لقيام المبيح، ويقتل قياسا للمساواة، ولا الرجل بابنه
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقاد الوالد بولده»
وهو بإطلاقه حجة على مالك في قوله: يقاد إذا ذبحه ذبحا، ولأنه سبب لإحيائه، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه، ولهذا لا يجوز له قتله وإن وجده في صف الأعداء مقاتلا أو زانيا وهو محصن، والقصاص يستحقه المقتول أولا ثم يخلفه وارثه، والجد من قبل الرجال والنساء وإن علا في هذا بمنزلة الأب، وكذا الوالدة والجدة من قبل الأم أو الأب قربت أو بعدت لما بينا، ولا الرجل بعبده ولا مدبره ولا مكاتبه ولا بعبد ولده لأنه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه، وكذا لا يقتل بعبد ملك بعضه لأن القصاص لا يتجزأ فليفهم، واستدل بها على ما روي عن الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من أنه لا يقتل الجماعة بالواحد لقوله تعالى فيها: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ بالإفراد، وأجيب بأن حكمة القصاص- وهو صون الدماء والأحياء- اقتضت القتل، وصرف الآية عما ذكر فإنه لو كان كذلك قتلوا مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص، وحينئذ تهدر الدماء ويكثر الفساد كذا قيل فَمَنْ تَصَدَّقَ أي من المستحقين للقصاص بِهِ أي بالقصاص أي فمن عفا عنه، والتعبير عن ذلك بالتصدق للمبالغة في الترغيب فَهُوَ أي التصدق المذكور كَفَّارَةٌ لَهُ للمتصدق كما أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي وعليه أكثر المفسرين،
وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ الآية فقال: «هو الرجل يكسر سنه أو يجرح من جسده فيعفو فيحط عنه من خطاياه بقدر ما عفا عنه من جسده، إن كان نصف الدية فنصف خطاياه، وإن كان ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان ثلث الدية فثلث خطاياه، وإن كان الدية كلها فخطاياه كلها».
وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عدي بن ثابت «أن رجلا هتم فم رجل على عهد معاوية رضي الله تعالى عنه فأعطي دية فأبى إلا أن يقتص فأعطي ديتين فأبى فأعطي ثلاثا فحدث رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: من تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت»
وقيل: الضمير عائد إلى الجاني، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن جرير ومجاهد وجابر فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة، ومعنى كون ذلك كفارة له على هذا التقدير أنه يسقط به ما لزمه ويتعين عليه أن يكون خبر المبتدأ مجموع الشرط والجزاء حيث لم يكن العائد إلا في الشرط، وإليه ذهب العلامة الثاني، وقيل: إن في الجزاء عائدا أيضا باعتبار أن هو بمعنى تصدقه فيشتمل بحسب المعنى على ضمير المبتدأ، فالتعين ليس بمسلم، وقال بعضهم إنه يحتمل أن يكون معنى الآية أن كل من تصدق واعترف بما يجب عليه من القصاص، وانقاد له فهو كفارة لما جناه من الذنب، ويلائمه كل الملاءمة قوله تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فضمير له حينئذ عائد إلى المتصدق مرادا به الجاني نفسه، وفيه بعد ظاهر، وقرأ أبيّ فهو كفارته له، فالضمير المرفوع حينئذ للمتصدق لا للتصدق، وكذا الضميران المجروران والإضافة للاختصاص واللام مؤكدة لذلك، أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء لأن بعض الشيء لا يكون ذلك الشيء، وهو تعظيم لما فعل حيث جعل مقتضيا للاستحقاق اللائق من غير نقصان، وفيه ترغيب في العفو، والآية نزلت- كما قال غير واحد- لما اصطلح اليهود على أن لا يقتلوا الشريف بالوضيع والرجل بالمرأة، فلم ينصفوا المظلوم من الظالم، وعن السيد السند أن القصاص كان في شريعتهم متعينا عليهم فيكون التصدق مما زيد في شريعتنا، وقال الضحاك: لم يجعل في التوراة دية في نفس ولا جرح، وإنما كان العفو أو القصاص وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية.
317
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ شروع في بيان أحكام الإنجيل- كما قيل- إثر بيان أحكام التوراة، وهو عطف على أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ وضمير الجمع المجرور- للنبيين الذين أسلموا- كما قاله أكثر المفسرين، واختاره علي بن عيسى والبلخي وقيل: للذين فرض عليهم الحكم الذي مضى ذكره، وحكي ذلك عن الجبائي- وليس بالمختار- والتقفية الاتباع، ويقال: قفا فلان أثر فلان إذا تبعه، وقفيته بفلان إذا أتبعته إياه، والتقدير هنا أتبعناهم على آثارهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فالفعل كما قيل: متعد لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء، والمفعول الأول محذوف، وعَلى آثارِهِمْ كالساد مسده لأنه إذا قفا به على آثارهم فقد قفاهم به، واعترض بأن الفعل قبل التضعيف كان متعديا إلى واحد، وتعدية المتعدي إلى واحد لثان بالباء لا تجوز سواء كان بالهمزة أو التضعيف، ورد بأن الصواب أنه جائز لكنه قليل،
318
وقد جاء منه ألفاظ قالوا: صك الحجر الحجر، وصككت الحجر بالحجر، ودفع زيد عمرا ودفعت زيدا بعمرو أي جعلته دافعا له.
وذهب بعض المحققين إلى أن التضعيف فيما نحن فيه ليس للتعدية، وأن تعلق الجار بالفعل لتضمينه معنى المجيء أي جئنا يعيسى ابن مريم على آثارهم قافيا لهم فهو متعد لواحد لا غير بالباء، وحاصل المعنى أرسلنا عيسى عليه الصلاة والسلام وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ عطف على قَفَّيْنا، وقرأ الحسن بفتح الهمزة، ووجه صحة ذلك أنه اسم أعجمي فلا بأس بأن يكون على ما ليس في أوزان العرب، وهو بأفعيل أو فعليل بالفتح، وأما إفعيل بالكسر فله نظائر- كإبزيم وإحليل- وغير ذلك فِيهِ هُدىً وَنُورٌ كما في التوراة، والجملة في موضع النصب على أنها حال من الإنجيل، وقوله تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ عطف على الحال وهو حال أيضا، وعطف الحال المفردة على الجملة الحالية وعكسه جائز لتأويلها بمفرد وتكرير هذا لزيادة التقرير، وقوله عز وجل: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ عطف على ما تقدم منتظم معه في سلك الحالية، وجعل كله هدى- بعد ما جعل مشتملا عليه- مبالغة في التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبينا صلّى الله عليه وسلّم أظهر، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه، وجوز نصب هُدىً وَمَوْعِظَةً على المفعول لها عطفا على مفعول له آخر مقدر أي إثباتا لنبوته وَهُدىً إلخ، ويجوز أن يكونا معللين لفعل محذوف عامل فيه أي وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ آتيناه ذلك وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلّى الله عليه وسلّم وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله تعالى بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها، وأن أحكامه ما قررته تلك الشريعة التي تشهد بصحتها- كما قرره شيخ الإسلام قدس سره- واختار كونه أمرا مبتدأ الجبائي، وقيل: هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على- آتيناه- أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، وحذف القول- لدلالة ما قبله عليه- كثير في الكلام، ومنه قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: ٢٣- ٢٤] واختار ذلك علي بن عيسى.
وقرأ حمزة وَلْيَحْكُمْ بلام الجر ونصب الفعل بأن مضمرة، والمصدر معطوف على هُدىً وَمَوْعِظَةً على تقدير كونهما معللين، وأظهرت اللام فيه لاختلاف الفاعل، فإن فاعل الفعل المقدر ضمير الله تعالى، وفاعل هذا أهل الكتاب، وهو متعلق بمحذوف على الوجه الأول في هُدىً وَمَوْعِظَةً أي وآتيناه ليحكم إلخ، وإنما لم يعطف لعدم صحة عطف العلة على الحال، ومنهم من جوز العطف بناء على أن الحال هنا في معنى العلة وهو ضعيف، وقدر بعضهم في الكلام على تقدير التعليل عليه متعلقا- بأنزل- ليصح كونه علة لإيتاء عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكر.
وعن أبي علي أنه قرأ- وأن ليحكم- على أن- أن- موصولة بالأمر كما في قولك: أمرته بأن قم، ومعنى الوصل أن- أن- تتم بما بعدها جزء كلام كالذي وأخواته، ووصل- أن- المصدرية بفعل الأمر مما تكرر القول به في الكشاف، وذكر فيه نقلا عن سيبويه وقدر هنا أمرنا، كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم، وأورد على سيبويه ما دقق صاحب الكشف في الجواب عنه، وأتى بما يندفع به كثير من الأسئلة على أن المصدرية والتفسيرية وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي المتمردون الخارجون عن حكمه أو عن الإيمان، وقد مر تحقيقه، والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر. والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما
319
في التوراة خاصة، ويشهد لذلك أيضا
حديث البخاري «أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به»
وخالف في ذلك بعض الفضلاء، ففي الملل والنحل للشهرستاني جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام مكلفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا وحراما، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ولهذا لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى عليه الصلاة والسلام، وحمل المخالف هذه الآية على وليحكموا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة، وهو خلاف الظاهر كتخصيص ما أنزل فيه نبوة نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الإطلاق لتفوقه على سائر الكتب السماوية- وهو القرآن العظيم- فاللام للعهد، والجملة عطف على أَنْزَلْنا وما عطف عليه، وقوله تعالى:
بِالْحَقِّ حال مؤكدة من الكتاب أي متلبسا بالحق والصدق، وجوز أن يكون حالا من فاعل أَنْزَلْنا، وقيل: حال من الكاف في إِلَيْكَ وقوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ حال من الْكِتابَ أي حال كونه مصدقا لما تقدمه، وقد تقدم الكلام في كيفية تصديقه لذلك، وزعم أبو البقاء عدم جواز كونه حالا مما ذكر إذ لا يكون حالان لعامل واحد، وأوجب كونه حالا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، وقوله سبحانه: مِنَ الْكِتابِ بيان لِما واللام فيه للجنس بناء على ادعاء أن ما عدا الكتب السماوية ليست كتابا بالنسبة إليها. ويجوز- كما قال غير واحد- أن تكون للعهد نظرا إلى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر إلى وصف كونه سماويا غايته أن عهديته ليست إلى حد الخصوصية الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر، ومن الكتاب السماوي أيضا حيث خص بما عدا القرآن وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ قال الخليل وأبو عبيدة: أي رقيبا على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير حيث يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم: أي شاهدا عليه بأنه الحق، والعطف حينئذ للتأكيد وهاؤه أصلية، وفعله هيمن، وله نظائر- بيطر وخيمر وسيطر- وزاد الزجاج: بيقر، ولا سادس لها، وقيل: إنها مبدلة من الهمزة ومادته من الأمن- كهراق- وقال المبرد وابن قتيبة: إن المهيمن أصله مؤمن وهو من أسمائه تعالى، فصغر وأبدلت همزته هاء، وتعقبه السمين وغيره بأن ذلك خطأ بل كفر أو شبيه به لأن أسماء الله تعالى لا تصغر، وكذا كل اسم معظم شرعا، وعن ابن محيصن ومجاهد أنهما قرآ مُهَيْمِناً بفتح الميم على بنية المفعول فضمير عَلَيْهِ على هذا يعود على الكتاب الأول، والمعنى أنه حوفظ من التحريف والتبديل، والحافظ له هو الله تعالى كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أي بين أهل الكتاب- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن كون القرآن العظيم بذلك الشأن من موجبات الحكم المأمور به أي إذا كان شأن القرآن كما ذكر فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي بما أنزله إليك فإنه الحق الذي لا محيص عنه، والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية، وتقديم بَيْنَهُمْ للاعتناء بتعميم الحكم لهم، ووضع الموصول موضع الضمير تنبيها على علية ما في حيز الصلة للحكم، وترهيبا عن المخالفة، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لما مر مرارا وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الزائغة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد ما حرفوا وبدلوا من أمر الرجم عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الذي لا محيد عنه، وعن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل: لا تعدل عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ
320
متبعا لأهوائهم، وقيل: بمحذوف وقع حالا من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلا عما جاءك، أو من مفعوله أي لا تتبع أهواءهم عادلة عما جاءك، واعترض ذلك بأن ما وقع حالا لا بد أن يكون فعلا عاما، ولعل القائل لا يسلم ذلك، ومِنَ كما قال أبو البقاء: متعلقة بمحذوف وقع حالا من مرفوع جاءَكَ أو من ما، ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة إلى ما يوجب كمال الاجتناب عن اتباع الأهواء، والنهي يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه، فلا يقال: كيف نهى صلّى الله عليه وسلّم عن اتباع أهوائهم وهو عليه الصلاة والسلام معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك، وقيل: الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم والمراد سائر الأحكام لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب من معاصريه صلّى الله عليه وسلّم على الانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى إليه من الحق ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره مما في كتابهم، وإنما الذين كلفوا العمل به من مضى قبل النسخ، والخطاب- كما قال جماعة من المفسرين- للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب، والشرعة- بكسر الشين، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها الشريعة، وهي في الأصل الطريق الظاهر الذي يوصل منه إلى الماء، والمراد بها الدين، واستعمالها فيه لكونه سبيلا موصلا إلى ما هو سبب للحياة الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية، أو لأنه طريق إلى العمل الذي يطهر العامل عن الأوساخ المعنوية كما أن الشريعة طريق إلى الماء الذي يطهر مستعمله عن الأوساخ الحسية.
وقال الراغب: سمي الدين شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع في ذلك على الحقيقة روي وتطهر، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال تعالى: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: ٣٣] والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح، والعطف باعتبار جمع الأوصاف، وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستقيم، وقيل: هما بمعنى واحد وهو الطريق، والتكرير للتأكيد، والعطف مثله في قول الحطيئة: وهند أتى من دونها النأي والبعد. وقول عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقيل: الشرعة الطريق مطلقا سواء كان واضحا أم لا، وقيل: المنهاج الدليل، وقيل: الشرعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، والمنهاج الكتاب، وقيل: الشرعة الأحكام الفرعية، والمنهاج الأحكام الاعتقادية، وليس بشيء، واللام متعلقة- بجعلنا- المتعدية لواحد، وهو إخبار بجعل ماض لا إنشاء، وتقديمها عليه للتخصيص، ومِنْكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين- كل- أي «ولكل أمة» كائنة مِنْكُمْ أيها الأمم الباقية، والخالية عينا ووضعنا شِرْعَةً وَمِنْهاجاً خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها، والأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما الصلاة والسلام شرعتهم ما في الإنجيل، وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم ما في الفرقان ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه، وأوجب أبو البقاء تعلق مِنْكُمْ بمحذوف تقديره أعني، ولم يجوز الوصفية لما أن ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تسديد فيه للكلام، ويوجب أيضا أن يفصل بين جَعَلْنا ومعموله وهو شرعة، وقال شيخ الإسلام: لا ضير في توسط جَعَلْنا بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: ١٤] إلخ، والفصل بين الفعل ومفعوله لازم على كل حال، وما ذكر من كون الخطاب للأمم هو الظاهر، وقيل: إنه للأنبياء الذين أشير إليهم في الآيات قبل، ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الخطاب لهذه الأمة المحمدية ولا يساعده السباق ولا اللحاق، واستدل بالآية من ذهب إلى أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لأن الخطاب كما علمت يعم الأمم، واللام للاختصاص، فيكون لكل أمة دين يخصها، ولو كان متعبدا
321
بشريعة أخرى لم يكن ذلك الاختصاص.
وأجاب العلامة التفتازاني بعد تسليم دلالة اللام على الاختصاص الحصري بمنع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشريعة من قبلنا مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الحصر، لما ذكر مع تقدم الاختصاص، وفيه أنه لا حاجة في إفادة المتعلق، وأيضا الخصوصيات المذكورة لا تنافي تعبدنا لأن القائلين به يدّعون أنه فيما لم يعلم نسخه ومخالفة ديننا له لا مطلقا إذ لم يقل به أحد على الإطلاق، ولذا جمع المحققون بين أضراب هذه الآية الدالة على اختلاف الشرائع، وبين ما يخالفها نحو قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: ١٣] إلخ، وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] بأن كل آية دلت على عدم الاختلاف محمولة على أصول الدين ونحوها، والتحقيق في هذا المقام أنا متعبدون بأحكام الشرائع الباقية من حيث إنها أحكام شرعتنا لا من حيث إنها شرعة للأولين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار، أو ذي ملة واحدة من غير اختلاف بينكم في وقت من الأوقات في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ومفعول شاءَ محذوف تعويلا على دلالة الجزاء عليه، أي لو شاء الله تعالى أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم إلخ، وقيل: المعنى ولو شاء الله تعالى اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه، وروي عن الحسن نحو ذلك، وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى لو شاء الله تعالى لم يبعث إليكم نبيا فتكونون متعبدين بما في العقل وتكونون أمة واحدة وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ متعلق بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يشأ ذلك الجعل بل شاء غيره ليعاملكم سبحانه معاملة من يبتليكم.
فِي ما آتاكُمْ من الشرائع المختلفة لحكم إلهية يقتضيها كل عصر هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن في اختلافها ما يعود نفعه لكم في معاشكم ومعادكم، أو تزيغون عنها وتبتغون الهوى وتشترون الضلالة بالهدى، وبهذا- كما قال شيخ الإسلام- اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء، بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشا ومعادا كما ينبىء عنه قوله عز وجل: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهازا للفرصة وإحرازا لفضل السبق والتقدم، فالسابقون السابقون أولئك المقربون، وقوله تعالى:
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد، وجَمِيعاً حال من الضمير المجرور، والعامل فيه إما المصدر المضاف المنحل إلى فعل مبني للفاعل، أو لما لم يسم فاعله، وإما الاستقرار المقدر في الجار، وقيل- وفيه بعد- إن الجملة واقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ما في ذلك من الحكم؟ فأجيب بأنكم سترجعون إلى الله تعالى وتحشرون إلى دار الجزاء التي تنكشف فيها الحقائق وتتضح الحكم فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين الحق والباطل ما لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا من أمر الدين، فالإنباء هنا مجاز عن المجازاة لما فيها من تحقق الأمر.
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عطف على الكتاب، كأنه قيل: وأنزلنا إليك الكتاب، وقولنا: احكم أي الأمر بالحكم لا الحكم لأن المنزل الأمر بالحكم لا الحكم، ولئلا يلزم إبطال الطلب بالكلية، ولك أن تقدر الأمر بالحكم من أول الأمر من دون إضمار القول كما حققه في الكشف، وجوز أن يكون عطفا على الحق، وفي المحل وجهان: الجر والنصب على الخلاف المشهور، وقيل: يجوز أن يكون الكلام جملة اسمية بتقدير مبتدأ
322
أي وأمرنا أن احكم، وزعم بعضهم أن أَنِ هذه تفسيرية، ووجهه أبو البقاء بأن يكون التقدير وأمرناك، ثم فسر هذا الأمر باحكم، ومنع أبو حيان من تصحيحه بذلك بأنه لم يحفظ من لسانهم حذف المفسر بأن والأمر كما ذكر، وقال الطيبي: ولو جعل هذا الكلام عطفا على فَاحْكُمْ من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله سبحانه:
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ كان أحسن، ورد بأن أَنِ هي المانعة من ذلك العطف، وأمر الإناطة ملتزم على كل حال، وقال بعضهم: إنما كرر الأمر بالحكم لأن الاحتكام إليه صلّى الله عليه وسلّم كان مرتين: مرة في زنا المحصن. ومرة في قتيل كان بينهم، فجاء كل أمر في أمر، وحكي ذلك عن الجبائي والقاضي أبي يعلى، ونون أَنِ فيها الضم والكسر، والمنسبك من أَنْ يَفْتِنُوكَ بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال، أي واحذر: فتنتهم لك وأن يصرفوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ- تعالى- إِلَيْكَ ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق وقال ابن زيد:
بالكذب على التوراة في أن ذلك الحكم ليس فيها، وجوز أن يكون مفعولا من أجله، أي احذرهم مخافة أَنْ يَفْتِنُوكَ وإعادة ما أَنْزَلَ اللَّهُ- تعالى- إِلَيْكَ لتأكيد التحذير بتهويل الخطب، ولعل هذا لقطع أطماعهم قاتلهم الله تعالى،
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وإنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم. وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فَإِنْ تَوَلَّوْا
أي أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى إليك وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وهو ذنب التولي والإعراض، فهو بعض مخصوص والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن لهم ذنوبا كثيرة، وهذا مع كمال عظمه واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي كما في قوله:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
يريد بالبعض نفسه أي نفسا كبيرة ونفسا أي نفس، وقال الجبائي: ذكر البعض، وأريد الكل كما يذكر العموم ويراد به الخصوص، وقيل: المراد بعض مبهم تغليظا للعقاب كأنه أشير إلى أنه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم أي بعض كان، ويهلكوا ويدمر عليهم بذلك، وزعم بعضهم أنه لا يصح إرادة الكل لأن المراد بهذه الإصابة عقوبة الدنيا وهي تختص ببعض الذنوب دون بعض، والذي يعم إنما هو عذاب الآخرة وهذه الإصابة- على ما روي عن الحسن- إجلاء بني النضير، وقيل: قتل بني قريظة، وقيل: هي أعم من ذلك، وما عرى بني قينقاع وأهل خيبر وفدك، ولعله الأولى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ أي متمردون في الكفر مصرون عليه خارجون من الحدود المعهودة، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وفيه من التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى، وقيل: إنه عطف على قوله تعالى:
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها يعني كتبنا حكم القصاص في التوراة وقررناه في الإنجيل، وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ من الأحكام الإلهية المقررة في الأديان ولا يخفى بعده، والمراد من الناس العموم، وقيل: اليهود، وقوله سبحانه: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله تعالى إليك فيبغون حكم الجاهلية، وقيل: محل الهمزة بعد الفاء، وقدمت أن لها الصدارة، وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجب لأن التولي عن حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطلب حكم آخر منكر عجيب، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، أو الأمة الجاهلية، وحكمهم:
ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي أهل الجاهلية، وحكمهم: ما ذكر،
323
فقد روي أن بني النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بني قريظة طلب بعضهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل، فقال عليه الصلاة والسلام:
«القتلى بواء فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك» فنزلت،
وقرأ ابن عامر- تبغون- بالتاء، وهي إما على الالتفات لتشديد التوبيخ، وإما بتقدير القول أي قل لهم أَفَحُكْمَ إلخ، وقرأ ابن وثاب والأعرج وأبو عبد الرحمن وغيرهم أَفَحُكْمَ بالرفع على أنه مبتدأ، ويَبْغُونَ خبره، والعائد محذوف، وقيل: الخبر محذوف، والمذكور صفته أي حكم يبغون، واستضعف حذف العائد من الخبر، وذكر ابن جني أنه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصلة والصفة كقوله:
قد أصبحت أم الخيار تدعي عليّ ذنبا كله لم أصنع
وقال أبو حيان وحسن الحذف في الآية شبه يَبْغُونَ برأس الفاصلة فصار كالمشاكلة، وزعم- أن القراءة المذكورة خطأ- خطأ كما لا يخفى، وقرأ قتادة «أفحكم» بفتح الفاء والحاء والكاف، أي أفحاكما كحكام الجاهلية يَبْغُونَ وكانت الجاهلية تسمى من قبل- كما أخرج ابن أبي حاتم عن عروة- عالمية حتى جاءت امرأة، فقالت يا رسول الله كان في الجاهلية كذا وكذا فأنزل الله تعالى ذكر الجاهلية وحكم عليهم بهذا العنوان وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله تعالى، أو مساو له كما يدل عليه الاستعمال وإن كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي عند قوم، فاللام بمعنى عند، وإليه ذهب الجبائي، وضعفه في الدر المصون، وصحح أنها للبيان متعلقة بمحذوف كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: ٢٣] وسقيا لك، أي تبين وظهر مضمون هذا الاستفهام الإنكاري لقوم يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم وأما غيرهم فلا يعلمون أنه لا أحسن حكما من الله تعالى، ولعل من فسر بعند أراد بيان محصل المعنى، وقيل: إن اللام على أصلها، وإنها صلة أي حكم الله تعالى للمؤمنين على الكافرين أحسن الأحكام وأعدلها، وهذه الجملة حالية مقررة لمعنى الإنكار السابق.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم، وإن كان سبب وروده بعضا- كما ستعرفه إن شاء الله تعالى- ووصفهم بعنوان الإيمان لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه بقوله سبحانه وتعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما أي لا يتخذ أحد منكم أحدا منهم وليا بمعنى لا تصافوهم مصافاة الأحباب ولا تستنصروهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار، فقال رجل لصاحبه: أما أنا فألحق بذلك اليهودي فآخذ منه أمانا وأتهود معه فإني أخاف أن تدال علينا اليهود، وقال الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام فآخذ منه أمانا وأتنصر معه، فأنزل الله تعالى فيهما ينهاهما يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من ولاية يهود وأتولى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، فقال عبد الله بن أبيّ: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي» فنزلت
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي بعض اليهود أولياء لبعض منهم، وبعض النصارى أولياء لبعض منهم، وأوثر الإجمال لوضوح المراد بظهور أن اليهود لا يوالون النصارى كالعكس، والجملة مستأنفة تعليلا للنهي قبلها وتأكيدا لإيجاب اجتناب المنهي عنه أي بعضهم أولياء بعض متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون،
324
ومن ضرورة ذلك إجماع الكل على مضادتكم ومضارتكم بحيث يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة، وزعم الحوفي أن الجملة في موضع الصفة لأولياء، والظاهر هو الأول وقوله تعالى:
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي من جملتهم، وحكمه حكمهم كالمستنتج مما قبله، وهو مخرج مخرج التشديد والمبالغة في الزجر لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة لكان كافرا وليس بمقصود، وقيل: المراد وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ كافر مثلهم حقيقة، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودا أو نصارى، وقيل: لا بل لأن الآية نزلت في المنافقين، والمراد أنهم بالموالاة يكونون كفارا مجاهرين، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنفسهم بموالاة الكفار. أو المؤمنين بموالاة أعدائهم، تعليل آخر على ما قيل يتضمن عدم نفع موالاة الكفرة بل ترتب الضرر عليها، وقيل: هو تعليل لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلالة، وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تنبيها على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض للنفس للعذاب الخالد ووضع للشيء في غير موضعه، وقوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق- كعبد الله بن أبيّ وأضرابه- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان لكيفية توليتهم وإشعار بسببه وبما يؤول إليه أمرهم، والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية وهي للسببية المحضة.
وجوز الكرخي كونها للعطف على إِنَّ اللَّهَ إلخ من حيث المعنى، والخطاب إما للرسول صلّى الله عليه وسلّم بطريق التلوين، وإما لكل من له أهلية، والإتيان بالموصول دون ضمير القوم ليشار بما في حيز الصلة إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما كمن من المرض والرؤية إما بصرية، وقوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ حال من المفعول وهو الأنسب بظهور نفاقهم، وإما قلبية والجملة في موضع المفعول الثاني، والمراد على التقديرين مسارعين في موالاتهم إلا أنه قيل: فيهم مبالغة في بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها، وإيثار كلمة فِي على كلمة- إلى- للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها.
وفسر الزمخشري المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله بفي، وعدل عنه بعض المحققين لكونه تفسيرا بالأخفى. واختير أن تعدي المسارعة هنا بإلى لتضمنها معنى الدخول، وقرىء- فيرى- بياء الغيبة على أن الضمير- كما قال أبو البقاء- لله تعالى، وقيل: لمن يصح منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصول، والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية، والرؤية قلبية أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت أن انقلب الفعل مرفوعا كما في قوله: ألا أي هذا الزاجري احضر الوغى. وقوله عز وجل: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ حال من فاعل يسارعون، والدائرة- من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها داورة لأنها من دار يدور، ومعناها لغة- على ما في القاموس- ما أحاط بالشيء، وفي شرح الملخص إن الدائرة سطح مستو يحيط به خط مستدير يمكن أن يفرض في داخله نقطة يكون البعد بينها وبينه واحدا في جميع الجهات، وقد تطلق الدائرة على ذلك الخط المحيط أيضا انتهى، واختلف في أن أي المعنيين حقيقة، فقيل: إنها حقيقة في الأول، مجاز في الثاني، وقيل:
بالعكس، قال البرجندي: وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفي خط مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها لأن هيئة هذا السطح ذات دور، على أن صيغة الفاعل للنسبة، وإذا توهم حركة نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لا يختلف بعد النقطة المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها لأن النقطة كانت دائرة فسمي ما حصل من دورانها دائرة فإن اعتبر الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط مجازا، وإذا اعتبر الثاني ناسب أن يكون الأمر بالعكس انتهى.
325
وتعقبه بعض الفضلاء بأنه لا يخفى ما فيه لأن إطلاقها بالاعتبار الثاني على المحيط أيضا مجاز لأنه من باب تسمية المسبب باسم السبب اللهم إلا أن يقال: إنه أراد بكون إطلاقها على المحيط حقيقة أن إطلاقها عليه ليس مجازا بالوجه الذي كان به مجازا في الاعتبار الأول، فإن وجه المجاز فيه التسمية للمحيط باسم المحاط، وهاهنا ليس كذلك كما سمعت لكن هذا تكلف بعيد، ولو قال في وجه التسمية في اللاحق لأن هيئة الخط ذات دور على وفق قوله في وجه التسمية السابق لم يرد عليه هذا فتدبر، وكيفما كان فقد استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها، وقولهم هذا كان اعتذارا عن الموالاة أي نخشى أن تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دولة بأن ينقلب الأمر للكفار وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج إليهم قاله مجاهد وقتادة والسدي.
وعن الكلبي أن المعنى نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه- كالجدب والقحط- فلا يميروننا ولا يقرضوننا، ولا يبعد من المنافقين أنهم يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدائرة ما قاله الكلبي، ويضمرون في دوائر قلوبهم ما قاله الجماعة المنبئ عن الشك في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد رد الله تعالى عليهم عللهم الباطلة وقطع أطماعهم الفارغة وبشر المؤمنين بحصول أمنيتهم بقوله سبحانه: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ فإن- عسى- منه عز وجل وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم فما ظنك بأكرم الأكرمين، والمراد بالفتح فتح مكة- كما روي عن السدي- وقيل: فتح بلاد الكفار، واختاره الجبائي، وقال قتادة ومقاتل: هو القضاء الفصل بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزاز الدين، وأن يأتي في تأويل المصدر، وهو خبر- لعسى- على رأي الأخفش، ومفعول به على رأي سيبويه لئلا يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، والأمر في ذلك عند الأخفش سهل أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ وهو القتل وسبي الذراري لبني قريظة، والجلاء لبني النضير عند مقاتل، وقيل: إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتلهم، وروي عن الحسن والزجاج، وقيل: موت رأس النفاق، وحكي ذلك عن الجبائي فَيُصْبِحُوا أي أولئك المنافقون، وهو عطف على يَأْتِيَ داخل معه في حيز خبر عسى، وفاء السببية لجعلها الجملتين كجملة واحدة مغنية عن الضمير العائد على الاسم، والمراد فيصيروا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر والشك في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم نادِمِينَ خبر- يصبح- وبه يتعلق عَلى ما أَسَرُّوا وتخصيص الندامة به لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذي كان يحملهم على تلك الموالاة ويغريهم عليها، فدل ذلك على أن ندامتهم على التولي بأصله وسببه.
وأخرج ابن منصور وابن أبي حاتم عن عمرو أنه سمع ابن الزبير يقرأ- عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين- قال عمرو: لا أدري أكان ذلك منه قراءة أم تفسيرا وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة.
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بياني كأنه قيل: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وقرأ أبو عمرو ويعقوب «ويقول» بالنصب عطفا على «فيصبحوا»، وقيل: على أَنْ يَأْتِيَ بحسب المعنى كأنه قيل: عسى أن يأتي الله بالفتح وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بإسناد يَأْتِيَ إلى الاسم الجليل دون ضميره، واعتبر ذلك لأن العطف على خبر- عسى- أو مفعولها يقتضي أن يكون فيه ضمير الله تعالى ليصح الإخبار به، أو ليجرى على استعماله، ولا ضمير فيه هنا ولا ما يغني عنه، وفي صورة العطف باعتبار المعنى تكون- عسى- تامة لإسنادها إلى أَنْ وما في حيزها فلا حاجة حينئذ إلى ضمير، وهذا كما قيل: قريب من عطف التوهم، وكأنهم عبروا عنه بذلك دونه تأدبا، وجوز بعضهم أن يكون أَنْ يَأْتِيَ بدلا من الاسم الجليل، والعطف على البدل، وعسى- تامة أيضا كما صرح به الفارسي، وبعضهم يجعل العطف على خبر- عسى- ويقدر ضميرا أي وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا به، وذهب ابن النحاس
326
إلى أن العطف على الفتح وهو نظير، ولبس عباءة وتقر عيني.
واعترض بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة، وهو لا يجوز وبأن المعنى حينئذ عسى الله تعالى أن يأتي بقول المؤمنين وهو ركيك وأجيب عن الأول بالفرق بين الإجزاء بالفعل، والإجزاء بالتقدير، وعن الثاني بأن المراد عسى الله سبحانه أن يأتي بما يوجب قول المؤمنين من النصرة المظهرة لحالهم.
واختار شيخ الإسلام قدس سره ما قدمناه، ولا يحتاج إلى تكلف مؤونة تقدير الضمير لأن- فتصبحوا- كما علمت معطوف على يَأْتِيَ والفاء كافية فيه عن الضمير، فتكفي عن الضمير في المعطوف عليه أيضا لأن المتعاطفين كالشيء الواحد، ولا حاجة مع هذا إلى القول بأن العطف عليه بناء على أنه منصوب في جواب الترجي إجراء له مجرى التمني- كما قال ابن الحاجب- لأن هذا إنما يجيزه الكوفيون فقط بخلاف الوجه الذي ذكرناه، والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم تخيبة رجائهم وانعكاس تقديرهم لوقوع ضد ما كانوا يترقبونه، ويتعالون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أي بالنصرة والمعونة- كما قالوه- فيما حكي عنهم، وإن قوتلتم لننصرنكم، فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبره، والمعنى إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم في ذلك- قاله شيخ الإسلام، وغيره، واختار غير واحد- أن المعنى يقول المؤمنون الصادقون بعضهم لبعض أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ تعالى لليهود إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ والخطاب على التقديرين لليهود إلا أنه على الأول من جهة المؤمنين، وعلى الثاني من جهة المقسمين، وفي البحر أن الخطاب على التقدير الثاني للمؤمنين أي يقول الذين آمنوا بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين إذ أغلظوا بالأيمان لهم وأقسموا أنهم معكم وأنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود فلما حل باليهود ما حل أظهروا ما كانوا يسرونه من موالاتهم والتمالؤ على المؤمنين، وإليه يشير كلام عطاء وليس بشيء كما لا يخفى، وجملة إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ لا محل لها من الإعراب لأنها تفسير وحكاية لمعنى أقسموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل: إنا معكم، وذكر السمين وغيره أنه يجوز أن يقال: حلف زيد لأفعلن وليفعلن، وجَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على أنه مصدر- لأقسموا- من معناه، والمعنى أقسموا إقساما مجتهدا فيه، أو هو حال بتأويل مجتهدين، وأصله يجتهدون جهد أيمانهم، فالحال في الحقيقة الجملة، ولذا ساغ كونه حالا كقولهم: افعل ذلك جهدك مع أن الحال حقها التنكير لأنه ليس حالا بحسب الأصل.
وقال غير واحد: لا يبالى بتعريف الحال هنا لأنها في التأويل نكرة وهو مستعار من جهد نفسه إذا بلغ وسعها، فحاصل المعنى أهؤلاء الذين أكدوا الأيمان وشددوها حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ يحتمل أن يكون هذا جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والقسم على المعية في كل حال إثر الإشارة إلى بطلانه بالاستفهام، وأن يكون من جملة مقول المؤمنين بأن يجعل خبرا ثانيا لاسم الإشارة، وقد قال بجواز نحو ذلك بعض النحاة، ومنه قوله سبحانه: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [طه: ٢٠]، أو يجعل هو الخبر والموصول مع ما في حيز صلته صفة للمبتدأ، فالاستفهام حينئذ للتقرير، وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم، والمعنى بطلت أعمالهم التي عملوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعيا بليغا حيث لم تكن لكم دولة كما ظنوا فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحملوا من مكابدة المشاق، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ما لا يخفى- قاله شيخ الإسلام- وذهب بعضهم إلى أنه إذا كانت من جملة المقول فهي في محل نصب بالقول بتقدير أن
327
قائلا يقول: ماذا قال المؤمنون بعد كلامهم ذلك؟ فقيل: قالوا: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إلخ، والجملة إما إخبارية، وشهادة المؤمنين بمضمونها على تقدير أن يكون المراد به خسران دنيوي وذهاب الأعمال بلا نفع يترتب عليها هو ما أملوه من دولة اليهود مما لا إشكال فيه، وعلى تقدير أن يكون المراد أمرا أخرويا فيحتمل أن يكون باعتبار ما يظهر من حال المنافقين في ارتكاب ما ارتكبوا، وأن تكون باعتبار إخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وإما جملة دعائية ولا ضير في الدعاء بمثل ذلك على ما مرت الإشارة إليه، وأشعر كلام البعض أن في الجملة معنى التعجب مطلقا سواء كانت من جملة المقول، أو من قول الله تعالى، ولعله غير بعيد عند من يتدبر.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ شروع في بيان حال المرتدين على الإطلاق بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين، وفصل مصير من يواليهم من المنافقين قيل: وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها،
فقد روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار- وهو الأسود العنسي- كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله ليلة قتل فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد، وأتى خبره في شهر ربيع الأول، وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ابن حبيب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فقدم عليه عليه الصلاة والسلام رسولان له بذلك فحين قرأ صلّى الله عليه وسلّم كتابه، قال لهما: فما تقولان أنتما؟ قال: نقول كما قال، فقال صلّى الله عليه وسلّم: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما، ثم كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين،
وكان ذلك في سنة عشر فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس، وقيل: اشترك في قتله هو وعبد الله بن زيد الأنصاري طعنه وحشي وضربه عبد الله بسيفه، وهو القائل:
يسائلني الناس عن قتله... فقلت: ضربت، وهذا طعن
في أبيات، وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشام، فأسلم وحسن إسلامه، وارتدت سبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فزارة قوم عيينة بن حصين، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة في قصة شهيرة، وصح أنها أسلمت بعد وحسن إسلامها، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه- وهم غسان- قوم جبلة ابن الأيهم تنصر ولحق بالشام ومات على ردته، وقيل: إنه أسلم، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا فيه: إن جبلة ورد إلي في سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه، وفي رواية قلع عينه فاستعدى الفزاري على جبلة إليّ، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك، وهو سوقة؟! فقلت: شملك وإياه الإسلام فما تفضله
328
إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد:
تنصرت بعد الحق عارا للطمة ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر
فأدركني منها لجاج حمية فبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قاله عمر
هذا واعترض القول بأن هذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها بأن من شرطية، والشرط لا يقتضي الوقوع إذ أصله أن يستعمل في الأمور المفروضة، وأجيب بأن الشرط قد يستعمل في الأمور المحققة تنبيها على أنها لا يليق وقوعها بل كان ينبغي أن تدرج في الفرضيات وهو كثير، وقد علم من وقوع ذلك بعد هذه الآية أن المراد هذا، وقرأ نافع وابن عامر- ومن يرتدد- بفك الإدغام وهو الأصل لسكون ثاني المثلين، وهو كذلك في بعض مصاحف الإمام، وقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ جواب مَنْ الشرطية الواقعة مبتدأ، واختلف في خبرها، فقيل:
مجموع الشرط والجزاء، وقيل: الجزاء فقط فعلى الأول لا يحتاج الجزاء وحده إلى ضمير يربطه، وعلى الثاني يحتاج إليه وهو هنا مقدر أي فسوف يأتي الله تعالى مكانهم بعد إهلاكهم بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ محبة تليق بشأنه تعالى على المعنى الذي أراده وَيُحِبُّونَهُ أي يميلون إليه جل شأنه ميلا صادقا فيطيعونه في امتثال أوامره واجتناب مناهيه، وهو معطوف على يُحِبُّونَهُ، وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب فيه أي وهم يحبونه، وفي الكشاف محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم، وأما ما يعتقده أجهل الناس- وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة- وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء- شيئا، وهم الفرقة المفتعلة المنفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله تعالى وفي مراقصهم عطلها الله تعالى بأبيات الغزل المقولة في المرد إن الذين يسمونهم شهداء وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عليه السلام، ثم دك الطور فتعالى الله عنه علوا كبيرا، ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات، ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلامه.
وقد خلط فيه الغث بالسمين فأطلق القول بالقدح الفاحش في المتصوفة ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص البشر، ولا يلزم من تسمي طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله ثم ارتكابهم ما نقل عنهم بل وزيادة أضعاف أضعافه مما نعلمه من هذه الطائفة في زماننا- مما ينافي حال المسمين به حقيقة أن نؤاخذ الصالح بالطالح ونضرب رأس البعض بالبعض وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤، الإسراء: ١٥، فاطر: ١٨، الزمر: ٧].
وتحقيق هذا المقام على ما ذكره ابن المنير في الانتصاف أنه لا شك أن تفسير محبة العبد لله تعالى بطاعته له سبحانه على خلاف الظاهر وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب، والمجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لننظر أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا، فالمحبة لغة ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس كلذة الذوق في المطعوم.
ولذة النظر في الصور المستحسنة إلى غير ذلك، وإلى لذة مدركة بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري
329
مجراها، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها فليس اللذة برياسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرياسة على أقاليم معتبرة، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات، وليس معلوم أكمل ولا أجل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة من معرفته ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد لربه سبحانه ممكنة واقعة من كل مؤمن فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله عزّ وجلّ بمعناها الحقيقي لغة وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها، ألا ترى
إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب»
فهذا ناطق بأن المفهوم من المحبة لله تعالى غير الأعمال والتزام الطاعات لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب، وأقره صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، ثم أثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة والمحبة إذا تأكدت سميت عشقا، فهو المحبة البالغة المتأكدة، والقول بأنه عبارة عن المحبة فوق قدر المحبوب فيكفر من قال: أنا عاشق لله تعالى أو لرسوله صلّى الله عليه وسلّم- كما قاله بعض ساداتنا الحنفية- في حيز المنع عندي، والمعترفون بتصور محبة العبد لله عز شأنه بالمعنى الحقيقي ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا كما أن الصبي ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو نحو ذلك، وكل طائفة تسخر مما فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير شيء.
قال حجة الإسلام الغزالي روّح الله تعالى روحه: والمحبون الله تعالى يقولون لمن أنكر عليهم ذلك: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ [هود: ٣٨] انتهى، مع أدنى زيادة ولم يتكلم على معنى محبة الله تعالى للعبد، وأنت تعلم أن ذلك من المتشابه والمذاهب فيه مشهورة، وقد قدمنا طرفا من الكلام في هذا المقام فتذكر.
والمراد بهؤلاء القوم في المشهور أهل اليمن،
فقد أخرج ابن أبي شيبة في مسنده، والطبراني والحاكم وصححه من حديث عياض بن عمر الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت أشار إلى أبي موسى الأشعري- وهو من صميم اليمن- وقال: هم قوم هذا،
وعن الحسن وقتادة والضحاك أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله تعالى عنهم الذين قاتلوا أهل الردة، وعن السدي أنهم الأنصار، وقيل: هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس، وقد حارب هناك سعد بن أبي وقاص رستم الشقي صاحب جيش يزدجر،
وقال الإمامية: هم علي كرم الله تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه،
ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة،
وقيل: هم الفرس لأنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: هذا وذووه،
وتعقبه العراقي قائلا: لم أقف على خبر فيه، وهو هنا وهم، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى:
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: ٣٨] كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فمن ذكره هنا فقد وهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عاطفين عليهم متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل، وكان الظاهر أن يقال: أذلة للمؤمنين كما يقال تذلل له، ولا يقال: تذلل عليه للمنافاة بين التذلل والعلو لكنه عدي بعلى لتضمينه معنى العطف والحنو المتعدي بها، وقيل: للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم.
330
ولعل المراد بذلك أنه استعيرت عَلَى لمعنى اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى علوهم بهذه الصفة، لكن في استفادة هذا من ذاك خفاء، وكون المراد به أنه ضمن الوصف معنى الفضل والعلو- يعني أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم أذلاء في أنفسهم بل لإرادة أن يضموا إلى علو منصبهم وشرفهم فضيلة التواضع- لا يخفى ما فيه، لأن قائل ذلك قابله بالتضمين فيقتضي أن يكون وجها آخر لا تضمين فيه، وكون الجار على ذلك متعلقا بمحذوف وقع صفة أخرى- لقوم- ومع علو طبقتهم إلخ تفسير لقوله سبحانه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وخافضون إلخ تفسير- لأذلة- مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل: عديت الذلة بعلى لأن العزة في قوله تعالى: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ عديت بها كما يقتضيه استعمالها، وقد قارنتها فاعتبرت المشاكلة، وقد صرحوا أنه يجوز فيها التقديم والتأخير، وقيل: لأن العزة تتعدى بعلى، والذلة ضدها، فعوملت معاملتها لأن النظير كما يحمل على النظير يحمل الضد على الضد كما صرح به ابن جني وغيره، وجر «أذلة» و «أعزة» على أنهما صفتان- لقوم- كالجملة السابقة، وترك العطف بينهما للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة، وقد جاء ذلك في غير ما آية، ومن لم يجوزه جعل الجملة هنا معترضة ولا يخفى أنه تكلف، ومعنى كونهم أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أنهم أشداء متغلبون عليهم من عزه إذا غلبه، ونص العلامة الطيبي أن هذا الوصف جيء به للتكميل لأن الوصف قبله يوهم أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم، فدفع ذلك الوهم بالإتيان به على حد قوله:
جلوس في مجالسهم رزان وإن ضيف ألمّ فهم خفوف
وقرىء «أذلة» و «أعزة» بالنصب على الحالية من- قوم- لتخصيصه بالصفة يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالقتال لإعلاء كلمته سبحانه وإعزاز دينه جل شأنه، وهو صفة أخرى- لقوم- مترتبة على ما قبلها مبينة مع ما بعدها لكيفية عزتهم، وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الضمير في أَعِزَّةٍ أي يعزون مجاهدين، وأن يكون مستأنفا وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فيما يأتون من الجهاد أو في كل ما يأتون ويذرون، وهو عطف على يُجاهِدُونَ بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة والتصلب في الدين، وفيه تعريض بالمنافقين، وجوز أن يكون حالا من فاعل يُجاهِدُونَ أي يجاهدون وحالهم غير حال المنافقين، والتعريض فيه حينئذ أظهر، وقيل: إنه على الأولى لا تعريض فيه بل هو تتميم لمعنى يُجاهِدُونَ مفيد للمبالغة والاستيعاب وليس بشيء، واعترض القول بالحالية بأنهم نصوا على أن المضارع المنفي- بلا أو- ما- كالمثبت في عدم جواز دخول الواو عليه، وأجيب بأن ذلك مبني على مذهب الزمخشري القائل بجواز اقتران المضارع المنفي- بلا، وما- بالواو، فإن النحاة جوزوه في المنفي- بلم، ولما- ولا فرق بينهما، واللومة- المرة من اللوم أي الاعتراض وهو مضاف لفاعله، وأصل لائم لاوم فاعل كقائم، وفي اللومة مع تنكير لائم مبالغتان على ما قيل، ووجه ذلك العلامة الطيبي بأنه ينتفي بانتفاء الخوف من اللومة الواحدة خوف جميع اللومات لأن النكرة في سياق النفي تعم، ثم إذا انضم إليها تنكير فاعلها يستوعب انتفاء خوف جميع اللوّام، فيكون هذا تتميما في تتميم أي لا يخافون شيئا من اللوم من أحد من اللوّام.
وقيل عليه: بأنه كيف يكون لَوْمَةَ أبلغ من لوم مع ما فيها من معنى الوحدة، فلو قيل: لوم لائم كان أبلغ وأجيب بأنها في الأصل للمرة لكن المراد بها هنا الجنس، وأتي بالتاء للإشارة إلى أن جنس اللوم عندهم بمنزلة لومة واحدة، وتعقب بأنه لا يدفع السؤال لأنه لا قرينة على هذا التجوز مع بقاء الإبهام فيه، وقد يقال: إن مقام المدح قرينة قوية على ذلك ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف لا بعضها كما قيل، والإفراد لما تقدم، وكذلك ما فيه من معنى البعد فَضْلُ اللَّهِ أي لطفه وإحسانه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إيتاءه إياه لا أنهم مستقلون في الاتصاف به وَاللَّهُ
331
واسِعٌ
كثير الفضل، أو جواد لا يخاف نفاد ما عنده سبحانه عَلِيمٌ مبالغ في تعلق العلم في جميع الأشياء التي من جملتها من هو أهل الفضل ومحله، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية كما مر غير مرة.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات على ما قاله بعض العارفين: إنا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ يحتمل أن يكون الكتاب الأول إشارة إلى علم الفرقان، والثاني إشارة إلى علم القرآن، والأول هو ظهور تفاصيل الكمال، والثاني هو العلم الإجمالي الثابت في الاستعداد، ومعنى كونه مُهَيْمِناً عَلَيْهِ حافظا عليه بالإظهار، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى ما بين أيدينا من المصحف، والثاني إشارة إلى الجنس الشامل للتوراة التي دعوتها للظاهر، والإنجيل الذي دعوته للباطن، وكتابنا مشتمل على الأمرين حافظ لكل من الكتابين فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من العدل الذي هو ظل المحبة التي هي ظل الوحدة التي انكشفت عليك وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في تغليب أحد الجانبين إما الظاهر، وإما الباطن لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً موردا كمورد النفس ومورد القلب، ومورد الروح وَمِنْهاجاً طريقا كعلم الأحكام والمعارف التي تتعلق بالنفس وسلوك طريق الباطن الموصل إلى جنة الصفات، وعلم التوحيد والمشاهدة الذي يتعلق بالروح وسلوك طريق الفناء الموصل إلى جنة الذات، وقال بعضهم: إن لله سبحانه بحارا للأرواح وأنهارا للقلوب، وسواقي للعقول، ولكل واحد منها شرعة في ذلك ترد منها كشرعة العلم.
وشرعة القدرة وشرعة الصمدية وشرعة المحبة إلى غير ذلك، وله عزّ وجلّ طرق بعدد أنفاس الخلائق كما قال أبو يزيد قدس سره، والمراد بها الطرق الشخصية لا مطلقا وكلها توصل إليه سبحانه، وهذا إشارة إلى اختلاف مشارب القوم وعدم اتحاد مسالكهم، وقد قال جلّ وعلا: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة: ٦٠ الأعراف: ١٦٠] وفرق سبحانه بين الأبرار والمقربين في ذلك، وقلما يتفق اثنان في مشرب ومنهج، ومن هنا ينحل الإشكال فيما حكي عن حضرة الباز الأشهب مولانا الشيخ محيي الدين عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال:- لا زلت أسير في مهامه القدس حتى قطعت الآثار فلاح لي أثر قدم من بعيد فكادت روحي تزهق فإذا النداء هذا أثر قدم نبيك محمد صلّى الله عليه وسلّم فإن ظاهره يقتضي سبقه للأنبياء والرسل أرباب التشريع عليهم الصلاة والسلام ونحوهم من الكاملين وهو كما ترى، ووجهه أنه قدس سره قطع الآثار في الطريق الذي هو فيه، وذلك يقتضي السبق على سالكي ذلك الطريق لا غير، فيجوز أن يكون مسبوقا بمن ذكرنا من السالكين طريقا آخر غير ذلك الطريق، وهذا أحسن ما يخطر لي في الجواب عن ذلك الإشكال نظرا إلى مشربي، ومشارب القوم شتى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متفقين في المشرب والطريق وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ليظهر عليكم ما آتاكم بحسب استعداداتكم على قدر قبول كل واحد منكم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي الأمور الموصلة لكم إلى كمالكم الذي قدر لكم بحسب الاستعدادات المقربة إياكم إليه بإخراجه إلى الفعل «إلى الله مرجعكم» في عين جمع الوجود على حسب المراتب فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وذلك بإظهار آثار ما يقتضيه ذلك الاختلاف وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ حسب ما تقتضيه الحكمة ويقبله الاستعداد بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إليك من القرآن الجامع للظاهر والباطن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ فتقصر على الظاهر البحت أو الباطن المحض وتنفي الآخر فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ كذنب حجب الأفعال لليهود وذنب حجب الصفات للنصارى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ وأنواع الفسق مختلفة، ففسق اليهود خروجهم عن حكم تجليات الأفعال الإلهية برؤية النفس أفعالها، وفسق النصارى خروجهم عن حكم تجليات الصفات الحقانية برؤية النفس صفاتها، والفسق الذي يعتري بعض هذه الأمة الالتفات
332
إلى ذواتهم والخروج عن حكم الوحدة الذاتية أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وهو الحكم الصادر عن مقام النفس بالجهل لا عن علم إلهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الحق فيحتجب ببعض الحجب فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ في الأزل لا لعلة وَيُحِبُّونَهُ كذلك ومرجع المحبة التي لا تتغير عند الصوفية الذات دون الصفات كما قاله الواسطي، وطعن فيه- كما قدمنا- الزمخشري، وحيث أحبهم- ولم يكونوا إلا في العلم- كان المحب والمحبوب واحدا في عين الجمع.
وقال السلمي: إنهم بفضل حبه لهم أحبوه وإلا فمن أين لهم المحبة لله تعالى وما للتراب ورب الأرباب؟! وشرط الحب- كما قال- أن يلحقه سكرات المحبة، وإلا فليس بحب حقيقة، وقالت أعرابية في صفة الحب: خفي أن يرى وجل أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وإن لم يكن شعبة من الجنون فهو عصارة السحر، وهذا شأن حب الحادث فكيف شأن حب القديم جل شأنه، والكلام في ذلك طويل أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لمكان الجنسية الذاتية ورابطة المحبة الأزلية والمناسبة الفطرية بينهم أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ المحجوبين لضد ما ذكر يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمحو صفاتهم وإفناء ذواتهم التي هي حجب المشاهدة وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ لفرط حبهم الذي هو الرشاد الأعظم للمتصف به:
وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه هانت عليه ملامة العذال
بل إذا صدقت المحبة التذ المحب بالملامة كما قيل:
أجد الملامة في هواك لذيذة حبا لذكرك فليلمني اللوّم
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ الذي لا يدرك شأواه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده الذين سبقت لهم العناية الإلهية وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل عَلِيمٌ حيث يجعل فضله، نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بفضله الواسع وجوده الذي ليس له مانع، ثم إنه سبحانه لما قال: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ وعلله بما علله، ذكر عقب ذلك من هو حقيق بالموالاة بطريق القصر، فقال عزّ وجلّ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فكأنه قيل: لا تتخذوا أولئك أولياء لأن بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم إنما أولياؤكم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا تتخطوهم إلى الغير، وأفرد الولي مع تعدده ليفيد كما قيل: إن الولاية لله تعالى بالأصالة وللرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالتبع، فيكون التقدير إنما وليكم الله سبحانه وكذلك رسوله صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا، فيكون في الكلام أصل وتبع لا أن وَلِيُّكُمُ مفرد استعمل استعمال الجمع كما ظن صاحب الفرائد، فاعترض بأن ما ذكر بعيد عن قاعدة الكلام لما فيه من جعل ما لا يستوي الواحد والجمع جمعا، ثم قال: ويمكن أن يقال: التقدير إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أولياؤكم فحذف الخبر لدلالة السابق عليه، وفائدة الفصل في الخبر هي التنبيه على أن كونهم أولياء بعد كونه سبحانه وليا، ثم بجعله إياهم أولياء، ففي الحقيقة هو الولي انتهى.
ولا يخفى على المتأمل أن المآل متحد والمورد واحد، ومما تقرر يعلم أن قول الحلبي، ويحتمل وجها آخر وهو أن وليا زنة فعيل، وقد نص أهل اللسان أنه يقع للواحد والاثنين والجمع تذكيرا وتأنيثا بلفظ واحد- كصديق- غير واقع موقعه لأن الكلام في سر بياني وهو نكتة العدول من لفظ إلى لفظ، ولا يرد على ما قدمنا أنه لو كان التقدير كذلك لنا في حصر الولاية في الله تعالى ثم إثباتها للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، لأن الحصر باعتبار أنه سبحانه الولي أصالة وحقيقة، وولاية غيره إنما هي بالإسناد إليه عز شأنه الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ بدل من الموصول الأول، أو صفة له باعتبار إجرائه مجرى الأسماء لأن الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل
333
والوصف لا يوصف إلا بالتأويل، ويجوز أن يعتبر منصوبا على المدح، ومرفوعا عليه أيضا، وفي قراءة عبد الله «- والذين يقيمون الصلاة» بالواو وَهُمْ راكِعُونَ حال من فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى.
وقيل: هو حال مخصوصة بإيتاء الزكاة، والركوع ركوع الصلاة، والمراد بيان كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه، وغالب الأخباريين على أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه،
فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد متصل قال: «أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا:
يا رسول الله إن منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدث دون هذا المجلس وإن قومنا لما رأونا آمنا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وصدقناه رفضونا وآلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا فشق ذلك علينا، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنما وليكم الله ورسوله، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل، فقال: هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال: نعم خاتم من فضة، فقال: من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم، وأومأ إلى علي كرم الله تعالى وجهه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: على أي حال أعطاك؟ فقال: وهو راكع، فكبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم تلا هذه الآية»
فأنشأ حسان رضي الله تعالى عنه يقول:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي وكل بطيء في الهدى ومسارع
أيذهب مدحيك المحبر ضائعا وما المدح في جنب الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا زكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية وأثبتها أثنا كتاب الشرائع
واستدل الشيعة بها على إمامته كرم الله تعالى وجهه، ووجه الاستدلال بها عندهم أنها بالإجماع أنها نزلت فيه كرم الله تعالى وجهه، وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، ولفظ الولي بمعنى المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها، وظاهر أن المراد هنا التصرف العام المساوي للإمامة بقرينة ضم ولايته كرم الله تعالى وجهه بولاية الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فثبتت إمامته وانتفت إمامة غيره، وإلا لبطل الحصر، ولا إشكال في التعبير عن الواحد بالجمع، فقد جاء في غير ما موضع وذكر علماء العربية أنه يكون لفائدتين: تعظيم الفاعل وأن من أتى بذلك الفعل عظيم الشأن بمنزلة جماعة كقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢] ليرغب الناس في الإتيان بمثل فعله، وتعظيم الفعل أيضا حتى أن فعله سجية لكل مؤمن، وهذه نكتة سرية تعتبر في كل مكان بما يليق به.
وقد أجاب أهل السنة عن ذلك بوجوه: الأول النقض بأن هذا الدليل كما يدل بزعمهم على نفي إمامة الأئمة المتقدمين كذلك يدل على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين كالسبطين رضي الله تعالى عنهما وباقي الاثني عشر رضي الله تعالى عنهم أجمعين بعين ذلك التقرير، فالدليل يضر الشيعة أكثر مما يضر أهل السنة كما لا يخفى، ولا يمكن أن يقال: الحصر إضافي بالنسبة إلى من تقدمه لأنا نقول: إن حصر ولاية من استجمع تلك الصفات لا يفيد إلا إذا كان حقيقيا، بل لا يصح لعدم استجماعها فيمن تأخر عنه كرم الله تعالى وجهه، وإن أجابوا عن النقض بأن المراد حصر الولاية في الأمير كرم الله تعالى وجهه في بعض الأوقات أعني وقت إمامته لا وقت إمامة السبطين ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم «قلنا» فمرحبا بالوفاق إذ مذهبنا أيضا أن الولاية العامة كانت له وقت كونه إماما لا قبله وهو زمان خلافة الثلاثة، ولا بعده وهو زمان خلافة من ذكر.
334
«فإن قالوا» إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لو لم يكن صاحب ولاية عامة في عهد الخلفاء يلزمه نقص بخلاف وقت خلافة أشباله الكرام رضي الله تعالى عنهم فإنه لما لم يكن حيا لم تصر إمامة غيره موجبة لنقص شرفه الكامل لأن الموت رافع لجميع الأحكام الدنيوية «يقال» هذا فرار وانتقال إلى استدلال آخر ليس مفهوما من الآية إذ مبناه على مقدمتين: الأول أن كون صاحب الولاية العامة في ولاية الآخر- ولو في وقت من الأوقات- غير مستقل بالولاية نقص له، والثانية أن صاحب الولاية العامة لا يلحقه نقص ما بأي وجه وأي وقت كان، وكلتهما لا يفهمان من الآية أصلا كما لا يخفى على ذي فهم، على أن هذا الاستدلال منقوض بالسبطين زمن ولاية الأمير كرم الله تعالى وجهه، بل وبالأمير أيضا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، والثاني أنا لا نسلم الإجماع على نزولها في الأمير كرم الله تعالى وجهه، فقد اختلف علماء التفسير في ذلك،
فروى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في المهاجرين والأنصار،
وقال قائل: نحن سمعنا أنها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه،
فقال: هو منهم يعني أنه كرم الله تعالى وجهه داخل أيضا في المهاجرين والأنصار ومن جملتهم.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الملك بن أبي سليمان وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الباقر رضي الله تعالى عنه أيضا نحو ذلك، وهذه الرواية أوفق بصيغ الجمع في الآية، وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت في شأن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والثالث أنا لا نسلم أن المراد بالولي المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها تصرفا عاما، بل المراد به الناصر لأن الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليها وإزالة الخوف عنها من المرتدين وهو أقوى قرينة على ما ذكره، ولا يأباه الضم كما لا يخفى على من فتح الله تعالى عين بصيرته، ومن أنصف نفسه علم أن قوله تعالى فيما بعد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ آب عن حمل الولي على ما يساوي الإمام الأعظم لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار أئمة لنفسه وهم أيضا لم يتخذ بعضهم بعضا إماما، وإنما اتخذوا أنصارا وأحبابا، وكلما إِنَّما المفيدة للحصر تقتضي ذلك المعنى أيضا لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف بل كان في النصرة والمحبة، والرابع أنه لو سلّم أن المراد ما ذكروه فلفظ الجمع عام، أو مساو له- كما ذكره المرتضى في الذريعة، وابن المطهر في النهاية- والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما اتفق عليه الفريقان، فمفاد الآية حينئذ حصر الولاية العامة لرجال متعددين يدخل فيهم الأمير كرم الله تعالى وجهه، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل لا يصح ارتكابه بغير ضرورة ولا ضرورة.
«فإن قالوا» : الضرورة متحققة هاهنا إذ التصدق على السائل في حال الركوع لم يقع من أحد غير الأمير كرم الله تعالى وجهه «قلنا» ليست الآية نصا في كون التصدق واقعا في حال ركوع الصلاة لجواز أن يكون الركوع بمعنى التخشع والتذلل لا بالمعنى المعروف في عرف أهل الشرع كما في قوله:
لا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قدر رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن أيضا كما قيل في قوله سبحانه: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: ٤٣] إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع، وكذا في قوله تعالى: وَخَرَّ راكِعاً [ص: ٢٤] وقوله عزّ وجلّ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات: ٤٨] على ما بينه بعض الفضلاء، وليس
335
حمل الركوع في الآية على غير معناه الشرعي بأبعد من حمل الزكاة المقرونة بالصلاة على مثل ذلك التصدق، وهو لازم على مدعى الإمامية قطعا.
وقال بعض منا أهل السنة: إن حمل الركوع على معناه الشرعي وجعل الجملة حالا من فاعل يُؤْتُونَ يوجب قصورا بينا في مفهوم يُقِيمُونَ الصَّلاةَ إذ المدح والفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات سواء كانت كثيرة أو قليلة، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ولكن تؤثر قصورا في معنى إقامة الصلاة البتة، فلا ينبغي حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك انتهى.
وبلغني أنه قيل لابن الجوزي رحمه الله تعالى: كيف تصدّق علي كرم الله تعالى وجهه بالخاتم وهو في الصلاة والظن فيه- بل العلم الجازم- أن له كرم الله تعالى وجهه شغلا شاغلا فيها عن الالتفات إلى ما لا يتعلق بها، وقد حكي مما يؤيد ذلك كثير، فأنشأ يقول:
يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته عن النديم ولا يلهو عن الناس
أطاعه سكره حتى تمكن من فعل الصحاة فهذا واحد الناس
وأجاب الشيخ إبراهيم الكردي قدس سره عن أصل الاستدلال بأن الدليل قائم في غير محل النزاع، وهو كون علي كرم الله تعالى وجهه إماما بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غير فصل لأن ولاية الذين آمنوا على زعم الإمامية غير مرادة في زمان الخطاب، لأن ذلك عهد النبوة، والإمامة نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذا لم يكن زمان الخطاب مرادا تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حدّ للتأخير فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد مضي زمان الأئمة الثلاثة فلم يحصل مدعى الإمامية، ومن العجائب أن صاحب إظهار الحق قد بلغ سعيه الغاية القصوى في تصحيح الاستدلال بزعمه، ولم يأت بأكثر مما يضحك الثكلى وتفزع من سماعه الموتى، فقال: إن الأمر بصحبة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم يكون بطريق الوجوب لا محالة، فالأمر بمحبة المؤمنين المتصفين بما ذكر من الصفات وولايتهم أيضا كذلك إذ الحكم في كلام واحد يكون موضعه متحدا أو متعددا أو متعاطفا لا يمكن أن يكون بعضه واجبا وبعضه مندوبا وإلا لزم استعمال اللفظ بمعنيين، فإذا كانت محبة أولئك المؤمنين وولايتهم واجبة وجوب محبة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم امتنع أن يراد منهم كافة المسلمين وكل الأمة باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لأن معرفة كل منهم ليحب ويوالي مما لا يمكن لأحد من المكلفين بوجه من الوجوه، وأيضا قد تكون معاداة المؤمنين لسبب من الأسباب مباحة بل واجبة فتعين أن يراد منهم البعض، وهو على المرتضى كرم الله تعالى وجهه انتهى.
ويرد عليه أنه مع تسليم المقدمات أين اللزوم بين الدليل والمدعى وكيف استنتاج المتعين من المطلق، وأيضا لا يخفى على من له أدنى تأمل أن موالاة المؤمنين من جهة الإيمان أمر عام بلا قيد ولا جهة، وترجع إلى موالاة إيمانهم في الحقيقة، والبغض لسبب غير ضار فيها، وأيضا ماذا يقول في قوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١] الآية، وأيضا ماذا يجاب عن معاداة الكفار وكيف الأمر فيها وهم أضعاف المؤمنين؟؟ ومتى كفت الملاحظة الإجمالية هناك فلتكف هنا. وأنت تعلم أن ملاحظة الكثرة بعنوان الوحدة مما لا شك في وقوعها فضلا عن إمكانها، والرجوع إلى علم الوضع يهدي لذلك، والمحذور كون الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة وليس فليس إذ الأولى أصل، والثانية تبع والثالثة تبع التبع، فالمحمول مختلف، ومثله الموضوع إذ الموالاة من الأمور العامة وكالعوارض المشككة، والعطف موجب للتشريك في الحكم لا في جهته، فالموجود في الخارج
336
الواجب والجوهر، والعرض مع أن نسبة الوجود إلى كل غير نسبته إلى الآخر، والجهة مختلفة بلا ريب، وهذا قوله سبحانه: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يونس: ١٠٨] مع أن الدعوة واجبة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم مندوبة في غيره، ولهذا قال الأصوليون: القرآن في النظم لا يوجب القرآن في الحكم، وعدوا هذا النوع من الاستدلال من المسالك المردودة، ثم انه أجاب عن حديث عدم وقوع التردد مع اقتضاء إِنَّما له بأنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم التمسوا من حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم الاستخلاف،
فقد روى الترمذي عن حذيفة «أنهم قالوا: يا رسول الله لو استخلفت؟ قال: لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه وما أقرأكم عبد الله فاقرؤوه»
وأيضا استفسروا منه عليه الصلاة والسلام عمن يكون إماما بعده صلّى الله عليه وسلّم،
فقد أخرج أحمد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر رضي الله تعالى عنه تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر رضي الله تعالى عنه تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا- ولا أراكم فاعلين- تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم»
وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضوره صلّى الله عليه وسلّم عند نزول الآية، فلم يبطل مدلول إِنَّما انتهى، وفيه أن محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد، نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر ونازع بعضهم بعضا بعد ما سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم جواب ما سألوه لتحقق المدلول، وليس فليس، ومجرد السؤال والاستفسار غير مقتض- لإنما- ولا من مقاماته بل هو من مقامات- إن- والفرق مثل الصبح ظاهر، وأيضا لو سلمنا التردد، ولكن كيف العلم بأنه بعد الآية أو قبلها منفصلا أو متصلا سببا للنزول أو اتفاقيا، ولا بد من إثبات القبيلة والاتصال والسببية، وأين ذلك؟ والاحتمال غير مسموع ولا كاف في الاستدلال.
وبعد هذا كله الحديث الثاني ينافي الحصر صريحا لأنه صلّى الله عليه وسلّم في مقام السؤال عن المستحق للخلافة ذكر الشيخين، فإن كانت الآية متقدمة لزم مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم القرآن أو بالعكس لزم التكذيب، والنسخ لا يعقل في الأخبار على ما قرر، ومع ذا تقدم كل على الآخر مجهول فسقط العمل.
فإن قالوا: الحديث خبر الواحد وهو غير مقبول في باب الإمامة «قلنا» وكذلك لا يقبل في إثبات التردد والنزاع الموقوف عليه التمسك بالآية، والحديث الأول يفيد أن ترك الاستخلاف أصلح فتركه- كما تفهمه الآية بزعمهم- تركه، وهم لا يجوزونه فتأمل، وذكر الطبرسي في مجمع البيان وجها آخر غير ما ذكره صاحب إظهار الحق في أن الولاية مختصة، وهو أنه سبحانه قال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ فخاطب جميع المؤمنين، ودخل في الخطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ثم قال تعالى: وَرَسُولُهُ فأخرج نبيه عليه الصلاة والسلام من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، ثم قال جل وعلا: وَالَّذِينَ آمَنُوا فوجب أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية، وإلا لزم أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، وأن يكون كل واحد من المؤمنين ولي نفسه وذلك محال انتهى.
وأنت تعلم أن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضا لا أن يكون كل واحد منهم ولي نفسه، وكيف يتوهم من قولك مثلا: أيها الناس لا تغتابوا الناس أنه نهي لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه،
وفي الخبر أيضا «صوموا يوم يصوم الناس»
ولا يختلج في القلب أنه أمر لكل أحد أن يصوم يوم يصوم الناس، ومثل ذلك كثير في كلامهم، وما قدمناه في سبب النزول ظاهر في أن المخاطب بذلك ابن سلام وأصحابه، وعليه لا إشكال إلا أن ذلك لا يعتبر مخصصا كما لا يخفى، فالآية على كل حال لا تدل على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الوجه الذي تزعمه الإمامية، وهو ظاهر لمن تولى الله تعالى حفظ ذهنه عن غبار العصبية.
337
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ومن يتخذهم أولياء، وأوثر الإظهار على الإضمار رعاية لما مر من نكتة بيان أصالته تعالى في الولاية كما ينبئ عنه قوله تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ حيث أضيف الحزب- أي الطائفة والجماعة مطلقا، أو الجماعة التي فيها شدة- إليه تعالى خاصة وفي هذا- على رأي وضع الظاهر موضع الضمير أيضا العائد إلى مَنْ أي فإنهم الغالبون لكنهم جعلوا حزب الله تعالى- تعظيما لهم وإثباتا لغلبتهم بالطريق البرهاني كأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله تعالى وحزب الله تعالى هم الغالبون.
والجملة دليل الجواب عند كثير من المعربين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما فأنزل الله تعالى هذه الآية، ورتب سبحانه النهي على وصف يعمهما وغيرهما تعميما للحكم وتنبيها على العلة وإيذانا بأن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة، والهزؤ- كما في الصحاح- السخرية، تقول: هزئت منه، وهزئت به- عن الأخفش- واستهزأت به وتهزأت، وهزأت به أيضا هزؤا ومهزأة- عن أبي زيد- ورجل هزأة بالتسكين أي يهزأ به، وهزأة بالتحريك يهزأ بالناس، وذكر الزجاج أنه يجوز في هُزُواً أربعة أوجه: الأول- «هزؤ» - بضم الزاي مع الهمزة وهو الأصل والأجود، والثاني- «هزو» - بضم الزاي مع إبدال الهمزة واوا لانضمام ما قبلها، والثالث- «هزأ» - بإسكان الزاي مع الهمزة، والرابع- هزى- كهدى، ويجوز القراءة بما عدا الأخير، واللعب- بفتح أوله وكسر ثانيه كاللعب، واللعب بفتح اللام وكسرها مع سكون العين، والتلعاب مصدر لعب كسمع، وهو ضد الجد كما في القاموس، وفي مجمع البيان: هو الأخذ على غير طريق الجد، ومثله العبث، وأصله من لعاب الصبي يقال: لعب كسمع، ومنع إذا سال لعابه وخرج إلى غير جهة، والمصدران: إما بمعنى اسم المفعول، أو الكلام على حذف مضاف أو قصد المبالغة، وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ في موضع الحال من الَّذِينَ قبله، أو من فاعل- اتخذوا- والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان كمال شناعتهم وغاية ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن اتخاذ دين المؤمنين المصدقين بكتابهم هُزُواً وَلَعِباً وَالْكُفَّارَ أي المشركين، وقد ورد بهذا المعنى في مواضع من القرآن وخصوا به لتضاعف كفرهم، وهو عطف على الموصول الأول، وعليه لا تصريح باستهزائهم هنا، وإن أثبت لهم في آية إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: ٩٥] إذ المراد بهم مشركو العرب، ولا يكون النهي حينئذ بالنظر إليهم معللا بالاستهزاء بل نهوا عن موالاتهم ابتداء، وقرأ الكسائي وأهل البصرة وَالْكُفَّارَ بالجر عطفا على الموصول الأخير، ويعضد ذلك قراءة أبيّ- ومن الكفار- وقراءة عبد الله «ومن الذين أشركوا» فهم أيضا من جملة المستهزئين صريحا، وقوله تعالى: أَوْلِياءَ مفعول ثاني- للاتتخذوا- والمراد جانبوهم كل المجانبة وَاتَّقُوا اللَّهَ في ذلك بترك موالاتهم، أو بترك المناهي على الإطلاق فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة وَإِذا نادَيْتُمْ أي دعا بعضكم بعضا إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها أي الصلاة، أو المناداة إليها هُزُواً وَلَعِباً.
أخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم ركعا وسجدا استهزؤوا بهم وضحكوا منهم، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي- أشهد أن محمدا رسول الله- قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت وأحرق هو وأهله، والكلام مسوق لبيان استهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد
338
بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهارا لكمال شقاوتهم ذلِكَ أي الاتخاذ المذكور بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به، ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة، قيل: وفي الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده، واعترض بأن قوله سبحانه:
وَإِذا نادَيْتُمْ لا يدل على الأذان اللهم إلا أن يقال: حيث ورد بعد ثبوته كان إشارة إليه فيكون تقريرا له، قال في الكشف: أقول فيه: إن اتخاذ المناداة هُزُواً منكر من المناكير لأنها من معروفات الشرع، فمن هذه الحيثية دل على أن المناداة التي كانوا عليها حق مشروع منه تعالى، وهو المراد بثبوته بالنص بعد أن ثبت ابتداء بالسنة، ومنام عبد الله بن زيد الأنصاري الحديث بطوله، ولا ينافيه أن ذلك كان أول ما قدموا المدينة، والمائدة من آخر القرآن نزولا، وقوله: لا بالمنام وحده ليس فيه ما يدل على أن السنة غير مستقلة في الدلالة لأن الأدلة الشرعية معرفات وأمارات لا مؤثرات وموجبات وترادف المعرفات لا ينكر انتهى، ولأبي حيان في هذا المقام كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه لما فيه من المكابرة الظاهرة، وسمي الأذان مناداة لقول المؤذن فيه: حي على الصلاة حي على الفلاح.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطريق تلوين الخطاب بعد نهي المؤمنين عن قول المستهزئين بأن يخاطبهم ويبين أن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر منهم من الاستهزاء ويظهر لهم سبب ما ارتكبوه ويلقمهم الحجر، ووصفوا بأهلية الكتاب تمهيدا لما سيذكر سبحانه من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم أي قل يا محمد لأولئك الفجرة هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أي هل تنكرون وتعيبون منا، وهو من نقم منه كذا إذا أنكره وكرهه من حد ضرب، وقرأ الحسن تَنْقِمُونَ بفتح القاف من حدّ علم، وهي لغة قليلة، وقال الزجاج: يقال: نقم بالفتح والكسر، ومعناه
339
بالغ في كراهة الشيء، وأنشد لعبد الله بن قيس:
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وفي النهاية يقال: نقم ينقم إذا بلغت به الكراهة حد السخط، ويقال: نقم من فلان الإحسان إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة، ومنه حديث الزكاة
«ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله تعالى»
أي ما ينقم شيئا من منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة، فكأن غناه أداه إلى كفر نعمة الله تعالى، وعن الراغب إن تفسير نقم بأنكر وأعاب لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة لأنه لا يعاقب إلا على ما ينكر فيكون على حد قوله: ونشتم بالأفعال لا بالتكلم.
وهو كما قال الشهاب: مما يعدى- بمن، وعلى- وقال أبو حيان: أصله أن يتعدى بعلى، ثم افتعل المبني منه يعدى بمن لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه، وهنا فعل بمعنى افتعل ولم يذكر له مستندا في ذلك إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن المجيد. وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ أي متمردون خارجون عن دائرة الإيمان بما ذكر، فإن الكفر بالقرآن العظيم مستلزم للكفر بسائر الكتب كما لا يخفى، والواو للعطف وما بعدها عطف على أَنْ آمَنَّا.
واختار بعض أجلة المحققين أنه مفعول له- لتنتقمون- والمفعول به الدين وحذف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه دلالة واضحة، فإن اتخاذ الدين هزوا ولعبا عين نقمه وإنكاره، والإيمان بما فصل عين الدين الذي نقموه، خلا أنه في معرض علة نقمهم له تسجيلا عليهم بكمال المكابرة والتعكيس حيث جعلوه موجبا لنقمه مع كونه في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه، فالاستثناء على هذا من أعم العلل أي ما تنقمون منا ديننا لعلة من العلل إلا لإيماننا بالله تعالى وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل من كتبكم ولأن أكثركم متمردون غير مؤمنين بشيء مما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به، وقدر بعضهم المفعول المحذوف شيئا ولا أرى فيه بأسا، وقيل: العطف على أَنْ آمَنَّا باعتبار كونه المفعول به لكن لا على أن المستثنى مجموع المعطوفين إذ لا يعترفون أن أكثرهم فاسقون حتى ينكروه بل هو ما يلزمهما من المخالفة، فكأنه قيل: هل تنكرون منا إلا أنا على حال يخالف حالكم حيث دخلنا في الإسلام وخرجتم منه بما خرجتم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي واعتقاد أن أكثركم فاسقون، وقيل: العطف على المؤمن به أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وبأن أكثركم كافرون، وهذا في المعنى كالوجه الذي قبله.
وقيل: العطف على علة محذوفة، وقد حذف الجار في جانب المعطوف، ومحله إما جر أو نصب على الخلاف المشهور أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون، وقيل: هو منصوب بفعل مقدر منفي دل عليه المذكور أي ولا تنقمون إن أكثركم فاسقون، وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، ويقدر مقدما عند بعض لأن أَنْ المفتوحة لا يقع ما معها مبتدأ إلا إذا تقدم الخبر.
وقال أبو حيان: إن أَنْ لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط، وخالف الكثير من النحاة في هذا الشرط على أنه يغتفر في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في غيرها، والجملة على التقديرين حالية، أو معترضة أي وفسقكم ثابت أو معلوم، وقيل: الواو بمعنى مع أي هل تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم إلخ.
وتعقبه العلامة التفتازاني بأن هذا لا يتم على ظاهر كلام النحاة من أنه لا بد في المفعول معه من المصاحبة في معمولية الفعل، وحينئذ يعود المحذور وهو أنهم نقموا كون أكثرهم فاسقين، نعم يصح على مذهب الأخفش حيث اكتفى في المفعول معه بالمقارنة في الوجود مستدلا بقولهم: سرت والنيل وجئتك وطلوع الشمس، وبحث فيه بأن
340
ذلك الاشتراط في المفعول معه لا يوجب الاشتراط في كل واو بمعنى مع، فليكن الواو بمعنى مع من غير أن يكون مفعولا معه لانتفاء شرطه وهو مصاحبته معمول الفعل بل يكون للعطف.
وقيل: الواو زائدة «وأن أكثركم» إلخ في موضع التعليل أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لأن أكثركم فاسقون.
وقرأ نعيم بن ميسرة «وإن أكثركم» بكسر الهمزة، والجملة حينئذ مستأنفة مبينة لكون أكثرهم متمردين، والمراد بالأكثر من لم يؤمن وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: ٤٠] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ تبكيت لأولئك الفجرة أيضا ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ما هم عليه من الدين المحرف، وفيه نعي عليهم على سبيل التعريض بجناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها، ولم يصرح سبحانه لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد، وخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبين، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به، والتنبئة المشعرة بكونه أمرا خطرا لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر، والإشارة إلى الدين المتقوم لهم، واعتبرت الشرّية بالنسبة إليه- مع أنه خير محض منزه عن شائبة الشرّية بالكلية- مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شرّيته، وحاشاه ليثبت أن دينهم شر، من كل شر، ولم يقل سبحانه بأنقم تنصيصا على مناط الشرية لأن مجرد النقم لا يفيدها البتة لجواز كون العيب من جهة العائب:
فكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
وفي ذلك تحقيق لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها، وقيل: إنما قال: بِشَرٍّ لوقوعه في عبارة المخاطبين،
فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ونافع بن أبي نافع وغازي بن عمرو وزيد وخالد وإزار بن أبي إزار فسألوه عليه الصلاة والسلام عمن يؤمن به من الرسل قال: أومن بالله تعالى وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فلما ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، ثم قالوا- كما في رواية الطبراني- لا نعلم دينا شرا من دينكم، فأنزل الله تعالى الآية،
وبهذا الخبر انتصر من ذهب إلى أن المخاطبين- بأنبئكم- هم أهل الكتاب.
وقال بعضهم: المخاطب هم الكفار مطلقا، وقيل: هم المؤمنون، وكما اختلف في الخطاب اختلف في المشار إليه بذلك، فالجمهور على ما قدمناه، وقيل: الإشارة إلى الأكثر الفاسقين، ووحد الاسم إما لأنه يشار به إلى الواحد وغيره، وليس كالضمير، أو لتأويله بالمذكور ونحوه.
وقيل: الإشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب، والمراد أن السلف شر من الخلف مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أي جزاء ثابتا عنده تعالى، وهو مصدر ميمي بمعنى الثواب، ويقال في الخير والشر لأنه ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه كما يشير إليه قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: ٧، ٨] حيث لم يقل سبحانه- ير جزاءه- إلا أن الأكثر المتعارف استعماله في الخير، ومثله في ذلك المثوبة واستعمالها هنا في الشر على طريقة التحكم كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع. ونصبها على التمييز من بِشَرٍّ، وقيل: يجوز أن تجعل مفعولا له- لأنبئكم- أي هل أنبئكم لطلب مثوبة عند الله تعالى في هذا الإنباء، ويحتمل أن يصير سبب مخافتكم ويفضي إلى هدايتكم، وعليه فالمثوبة في المتعارف من استعمالها، وهو وإن كان له وجه لكنه خلاف الظاهر، وقرىء «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، ومثلها مشورة. ومشورة خلافا للحريري في إيجابه مشورة كمعونة، وقوله سبحانه: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله
341
مناسب لما أشير إليه بذلك أي دين من لعنه الله إلخ، أو بتقدير مضاف قبل اسم الإشارة مناسب لمن أي بشر من أهل ذلك، والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ من الجملة الاستفهامية- كما قال الزجاج- إما على حالها- أو باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل: ما الذي هو شر من ذلك؟ فقيل: هو دين من لعنه إلخ، أو من الذي هو شر من أهل ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله إلخ.
وجوز- ولا ينبغي أن يجوز عند التأمل- أن يكون بدلا من شر، ولا بد من تقدير مضاف أيضا على نحو ما سبق آنفا، والاحتياج إليه هاهنا- ليخرج من كونه بدل- غلط، وهو لا يقع في فصيح الكلام، وأما في الوجه الأول فأظهر من أن يخفى، وإذا جعل ذلك إشارة إلى الأشخاص لم يحتج الكلام إلى ذلك التقدير كما هو ظاهر، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وما تبعه، والموصول عبارة عن أهل الكتاب حيث أبعدهم الله تعالى عن رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسطوع البينات وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أي مسخ بعضهم قردة- وهم أصحاب السبت- وبعضهم خنازير- وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المسخين كانا في أصحاب السبت، مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير، وضمير مِنْهُمُ راجع إلى- من- باعتبار معناه كما أن الضميرين الأولين له باعتبار لفظه، وكذا الضمير في قوله سبحانه: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فإنه عطف على صلة- من- كما قال الزجاج، وزعم الفراء أن في الكلام موصولا محذوفا أي ومن عبد، وهو معطوف على منصوب جَعَلَ أي وجعل منهم من عبد إلخ، ولا يخفى أنه لا يصلح إلا عند الكوفيين، والمراد بالطاغوت- عند الجبائي- العجل الذي عبده اليهود، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن أنه الشيطان، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى، والعبادة فيما عدا القول الأول مجاز عن الإطاعة، قال شيخ الإسلام: وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين دينهم البين البطلان، ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد، والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشريته وفظاعته ولا باتصافهم به، وإما للإيذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية. ولو روعي ترتيب الوجود، وقيل: من عبد الطاغوت ولعنه الله وغضب عليه إلخ لربما فهم أن علية الشرية هو المجموع انتهى.
وأنت تعلم أن كون هذا الوصف أصلا غير ظاهر على ما ذهب إليه الجبائي، وأن كون الاتصاف- باللعن والغضب مما لا سبيل لهم إلى الجحود به- في حيز المنع، كيف وهم يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:
١٨] إلا أن يقال: إن الآثار المترتبة على ذلك الدالة عليه في غاية الظهور بحيث يكون إنكار مدلولها مكابرة، وقيل:
قدم وصفي اللعن والغضب لأنهما صريحان في أن القوم منقومون، ومشيران إلى أن ذلك الأمر عظيم وعقبهما بالجعل المذكور ليكون كالاستدلال على ذلك، وأردفه بعبادة الطاغوت الدالة على شرية دينهم أتم دلالة ليتمكن في الذهن أتم تمكن لتقدم ما يشير إليها إجمالا، وهذا أيضا غير ظاهر على مذهب الجبائي، ولعل رعايته غير لازمة لانحطاط درجته في هذا المقام، والظاهر من عبارة شيخ الإسلام أنه بنى كلامه على هذا المذهب حيث قال بعد ما قال: والمراد من الطاغوت العجل، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى، فيعم الحكم دين النصارى أيضا، ويتضح وجه تأخير عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لزم اشتراك الفريقين في تلك العقوبات انتهى، فتدبر حقه.
وفي الآية كما قال جمع: عدة قراءات اثنتان من السبعة وما عداهما شاذ، فقرأ الجمهور غير حمزة «عبد» على
342
صيغة الماضي المعلوم، والطاغوت بالنصب وهي القراءة التي بني التفسير عليها، وقرأ حمزة «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال، وخفض الطاغوت على أن عَبَدَ واحد مراد به الجنس وليس بجمع لأنه لم يسمع مثله في أبنيته بل هو صيغة مبالغة، ولذا قال الزمخشري: معناه الغلو في العبودية، وأنشد عليه قول طرفة:
أبني لبني إن أمكم... أمة وإن أباكم عبد
أراد عبدا، وقد ذكر مثله ابن الأنباري والزجاج فقالا: ضمت الباء للمبالغة، كقولهم، للفطن والحذر: فطن وحذر، بضم العين، فطعن أبي عبيدة والفراء في هذه القراءة، ونسبة قارئها إلى الوهم وهم، والنصب بالعطف على الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وقرىء وَعَبَدَ بفتح العين وضم الباء. وكسر الدال وجر الطاغوت بالإضافة، والعطف على- من- بناء على أنه مجرور بتقدير المضاف، أو بالبدلية على ما قيل، ولم يرتض.
وقرأ أبيّ «عبدوا» بضمير الجمع العائد على من باعتبار معناها، والعطف مثله في قراءة الجمهور، وقرأ الحسن «عباد» جمع عبد «وعبد» بالإفراد بجر «الطاغوت» ونصبه، والجر بالإضافة، والنصب إما على أن الأصل «عبد» بفتح الباء، أو عبد بالتنوين فحذف كقوله. ولا ذاكر الله إلا قليلا. بنصب الاسم الجليل والعطف ظاهر، وقرأ الأعمش والنخعي وأبان «عبد» على صيغة الماضي المجهول مع رفع «الطاغوت» على أنه نائب الفاعل، والعطف على صلة- من- وعائد الموصول محذوف أي عَبَدَ فيهم أو بينهم وقرأ بعض كذلك إلا أنه أنث، فقرأ «عبدت» بتاء التأنيث الساكنة، والطاغوت: يذكر ويؤنث كما مر وأمر العطف والعائد على طرز القراءة قبل.
وقرأ ابن مسعود «عبد» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال مع رفع الطاغوت على الفاعلية- لعبد- وهو كشرف كأن العبادة صارت سجية له، أو أنه بمعنى صار معبودا كأمر أي صار أميرا، والعائد على الموصول على هذا أيضا محذوف، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «عبد» بضم العين والباء وفتح الدال، وجر «الطاغوت» فعن الأخفش أنه جمع عبيد جمع عبد فهو جمع الجمع. أو جمع عابد- كشارف وشرف- أو جمع عبد كسقف وسقف. أو جمع عباد- ككتاب وكتب- فهو جمع الجمع أيضا مثل ثمار وثمر.
وقرأ الأعمش أيضا «عبّد» بضم العين وتشديد الباء المفتوحة وفتح الدال وجر «الطاغوت» جمع عابد وعبد- كحطم وزفر- منصوبا مضافا للطاغوت مفردا وقرأ ابن مسعود أيضا «عبّد» بضم العين وفتح الباء المشددة وفتح الدال، ونصب «الطاغوت» على حد:
ولا ذاكر الله إلا قليلا بنصب الاسم الجليل، وقرىء «وعابد الشيطان» بنصب عابد، وجر الشيطان بدل الطاغوت، وهو تفسير عند بعض لا قراءة. وقرىء- «عباد» - كجهال- «وعباد» - كرجال جمع عابد أو عبد، وفيه إضافة العباد لغير الله تعالى وقد منعه بعضهم، وقرىء «عابد» بالرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر، وجر «الطاغوت» وقرىء «عابدوا» بالجمع والإضافة، وقرىء «عابد» منصوبا، وقرىء «عبد الطاغوت» بفتحات مضافا على أن أصله عبدة ككفرة فحذفت تاؤه للإضافة كقوله:
وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا أي عدته كإقام الصلاة، أو هو جمع أو اسم جمع لعابد- كخادم وخدم- وقرىء «أعبد» كأكلب، وعبيد جمع أو اسم جمع، «وعابدي» جمع بالياء، وقرأ ابن مسعود أيضا «ومن عبدوا» أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك القبائح
343
والفضائح وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: شَرٌّ خبره، وقوله تعالى: مَكاناً تمييز محول عن الفاعل، وإثبات الشرارة لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، فقد صرحوا أن إثبات الشرارة لمكان الشيء كناية عن إثباتها له كقولهم: سلام على المجلس العالي والمجد بين برديه، فكأن شرهم أثر في مكانهم، أو عظم حتى صار مجسما.
وجوّز أن يكون الإسناد مجازيا كجري النهر، وقيل: يجوز أن يكون المكان بمعنى محل الكون والقرار الذي يكون أمرهم إلى التمكن فيه أي شر منصرفا، والمراد به جهنم وبئس المصير، والجملة مستأنفة مسوقة منه تعالى شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال، وداخلة تحت الأمر تأكيدا للإلزام، وتشديدا للتبكيت، وجعلها- جوابا للسؤال الناشئ من الجملة الاستفهامية ليستقيم احتمال البدلية السابق- مما لا يكاد يستقيم.
وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي أكثر ضلالا عن طريق الحق المعتدل، وهو دين الإسلام والحنيفية، وهو عطف على شَرٌّ مقرر له، وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لأن ما يسلكونه من الطريق دينهم، فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالا مبينا لا غاية وراءه، والمقصود من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غير في ذلك، وقيل: للتفضيل على زعمهم وقيل: إنه بالنسبة إلى غيرهم من الكفار.
وقال بعضهم: لا مانع أن يقال: إن مكانهم في الآخرة شر من مكان المؤمنين في الدنيا لما لحقهم فيه من مكاره الدهر وسماع الأذى والهضم من جانب أعدائهم وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت- كما قال قتادة والسدي- في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به نفاقا، فالخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم، والجمع للتعظيم، أو له عليه الصلاة وللسلام مع من عنده من أصحابه رضي الله تعالى عنهم أي إذا جاؤوكم أظهروا لكم الإسلام.
وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم ينتفعوا بحضورهم بين يديك ولم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، والجملتان في موضع الحال من ضمير قالُوا على الأظهر.
وجوّز أبو البقاء أن يكونا حالين من الضمير في آمنا، وباء بالكفر، وبِهِ للملابسة، والجار والمجرور حالان من فاعل دَخَلُوا وخَرَجُوا والواو الداخلة على الجملة الاسمية الحالية للحال، ومن منع تعدد الجملة الحالية من غير عطف يقول: إنها عاطفة والمعطوف على الحال حال أيضا، ودخول قَدْ في الجملة الحالية الماضوية- كما قال العلامة الثاني- لتقرب الماضي إلى الحال فتكسر سورة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة، وإلا- فقد- إنما تقرب إلى حال التكلم، وهذا إشارة إلى ما أوضحه السيد السند في حاشية المتوسط من أنه قيل: إن الماضي إنما يدل على انقضاء زمان قبل زمان التكلم، والحال الذي يبين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله، فإن كان العامل ماضيا كان الحال أيضا ماضيا بحسب المعنى، وإن كان حالا كان حالا، وإن كان مستقبلا كان مستقبلا، فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر- وهو الذي يقابل الماضي- وبين ما يبين الحالة المذكورة، ثم قال: ويمكن أن يقال: إن الفعل إذا وقع قيدا لشيء يعتبر كونه ماضيا أو حالا أو مستقبلا بالنظر إلى ذلك المقيد، فإذا قيل: جاءني زيد ركب يفهم منه أن الركوب كان متقدما على المجيء فلا بد من قد حتى يقربه إلى زمان المجيء فيقارنه، وذكر نحو ذلك العلامة الكافيجي في شرح القواعد، ثم قال: وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة قَدْ لمجرد استحسان لفظي فإنما هو تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولا مرضي انتهى.
ولذلك زيادة تفصيل في محله، وقد ذكر لها معنى آخر في الآية غير التقريب وهو التوقع فتفيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتوقع دخول أولئك الفجرة وخروجهم من خضيلة حضرته- أفرغ من يد تفت البر- مع لم يعلق بهم شيء
344
مما سمعوا من تذكيره عليه الصلاة والسلام بآيات الله عز وجل لظنه بما يرى من الأمارات اللائحة عليهم نفاقهم الراسخ، ولذلك قال سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ وفيه من الوعيد ما لا يخفى، وفي الكشاف إن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوقعا لإظهار الله تعالى ما كتموه، فدخل حرف التوقع لذلك، واعترضه الطيبي بأن قَدْ موضوعة لتوقع مدخولها، وهو هاهنا عين النفاق، فكيف يقال لإظهار الله تعالى ما كتموه؟ وأجاب بأنه لا شك أن المتوقع ينبغي أن لا يكون حاصلا، وكونهم منافقين كان معلوما عنده صلوات الله تعالى وسلامه عليه بدليل
قوله: «إن أمارات النفاق» إلخ
فيجب المصير إلى المجاز، والقول بإظهار الله تعالى ما كتموه، وقال في الكشف معرضا به: إن الدخول في الكفر والخروج به إظهار له، فلذلك أدخل عليه حرف التوقع لا أنه عين النفاق ليحتاج إلى تجوز في رجوع التوقع إلى إظهاره، وإن ظهور أماراته غير إظهار الله تعالى إياه بإخباره سبحانه عنهم وأنهم متلبسون بالكفر متقلبون فيه خروجا ودخولا انتهى فليتأمل، وإنما لم يقل سبحانه وقَدْ خَرَجُوا على طرز الجملة الأولى إفادة لتأكيد الكفر حال الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد تنور أبصارهم برؤية مطلع شمس الرسالة وتشنف أسماعهم بلآلئ كلمات بحر البسالة عليه الصلاة والسلام أن يرجعوا عما هم عليه من الغواية ويحلوا جياد قلوبهم العاطلة عن حلي الهداية، وأيضا أنهم إذا سمعوا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنكروه ازداد كفرهم وتضاعف ضلالهم وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من أولئك اليهود- كما روي عن ابن زيد- والخطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يصلح للخطاب، والرؤية بصرية، وقيل: قلبية، وقوله تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ في موضع الحال من كَثِيراً الموصوف بالجار والمجرور، وقيل: مفعول ثان- لترى- والمسارعة مبادرة الشيء بسرعة، وإيثار فِي على إلى للإشارة إلى تمكنهم فيما يسارعون إليه تمكن المظروف في ظرفه، وإحاطته بأعمالهم، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
والمراد بالإثم الحرام، وقيل: الكذب مطلقا، وقيل: الكذب بقولهم آمَنَّا لأنه إما إخبار أو إنشاء متضمن الإخبار بحصول صفة الإيمان لهم، واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتي: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ، وأنت تعلم أنه لا يقتضيه، وقيل: المراد به الكفر، وروي ذلك عن السدي، ولعل الداعي لتخصيصه به كونه الفرد الكامل، والمراد من العدوان الظلم، أو مجاوزة الحد في المعاصي، وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم، والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء الاعتقاد وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام مطلقا، وقال الحسن:
الرشوة في الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه في المتقدم للمبالغة في التقبيح لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لبئس شيئا يعملونه هذه الأمور- فما- نكرة موصوفة وقعت تمييزا لضمير الفاعل المستتر في- بئس- والمخصوص بالذم محذوف كما أشرنا إليه، وجوز جعل ما موصولة فاعل- بئس- والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ قال الحسن: الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة، وقال غيره: كلهم في اليهود لأنه يتصل بذكرهم، ولَوْلا الداخلة على المضارع- كما قرره ابن الحاجب وغيره- للتحضيض، والداخلة على الماضي للتوبيخ، والمراد هنا تحضيض الذين يقتدي بهم أفناؤهم، ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم.
عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ مع علمهم بقبحها واطلاعهم على مباشرتهم لهما، وفي البحر إن هذا التحضيض يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهي لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ الكلام فيه كالكلام السابق في نظيره خلا أن هذا أبلغ مما تقدم في حق العامة لما تقرر في اللغة والاستعمال أن الفعل ما صدر عن الحيوان مطلقا، فإن
345
كان عن قصد سمي عملا ثم إن حصل بمزاولة وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمي صنعا وصنعة وصناعة، فلذا كان الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ، ولذا يقال للحاذق، صانع، وللثوب الجيد النسج: صنيع- كما قاله الراغب- ففي الآية إشارة إلى أن ترك النهي أقبح من الارتكاب، ووجه بأن المرتكب له في المعصية لذة وقضاء وطر بخلاف المقر له، ولذا ورد أن جرم الديوث أعظم من الزانيين.
واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهي عن الزنا والقتل أشد إثما منهما وهو بعيد، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون إثم ترك النهي ممن يؤثر نهيه كف المنهي عن فعل المنهي عنه أشد من إثم المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلا أو زنا، أو غيرهما، وقال الشهاب: إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار، فكونه أشد باعتبار ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثما منه فتأمل، وفي الآية- مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات- ما لا يخفى، ومن هنا قال الضحاك: ما أخوفني من هذه الآية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية، وقرىء- لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم العدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون وَقالَتِ الْيَهُودُ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعكرمة والضحاك قالوا: إن الله تعالى قد بسط لليهود الرزق فلما عصوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كف عنهم ما كان بسط لهم، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء رأس يهود قينقاع، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما النباش بن قيس يَدُ اللَّهِ عز وجل مَغْلُولَةٌ وحيث لم ينكر على القائل الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل، ولذلك نظائر تقدم كثير منها، وأرادوا بذلك- لعنهم الله تعالى- أنه سبحانه ممسك ما عنده بخيل به تعالى عما يقولون علوا كبيرا فإن كلّا من غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، أو كناية عن ذلك، وقد استعمل حيث لا تصح يد كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل... شكرت نداه تلاعه ووهاده
ولقد جعلوا للشمال يدا كما في قوله:
أضل صواره وتضيفته... نطوف أمرها بيد الشمال
«وقول لبيد» :
وغداة ريح قد كشفت وقرة... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
ويقال: بسط اليأس كفيه في صدر فلان، فيجعل لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان، قال الشاعر:
وقد رابني وهن المنى وانقباضها... وبسط جديد اليأس كفيه في صدري
وقيل: معناه أنه سبحانه فقير، كقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: ١٨١]، وقيل: اليد هنا بمعنى النعمة أي إن نعمته مقبوضة عنا، وعن الحسن أن المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل، وكأنه حمل اليد على القدرة، والغل على عدم التعلق.
وقيل: لا يبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فإنهم مجسمة، وقد حكي عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسي، وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة مما عراه من النصب في خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون علوا كبيرا، والأقوال كلها كما ترى، وكل العجب من الحسن رضي الله تعالى عنه من قول ذلك وليته لم يقل غير
346
الحسن، ولعل نسبته إليه غير صحيحة، والذي تقتضيه البلاغة ويشهد له مساق الكلام القول الأول، ولا يبعد من قوم قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] وعبدوا العجل- أن يعتقدوا اتصاف الله عز وجل بالبخل ويقولوا ما قالوا، وقال أبو القاسم البلخي: يجوز أن يكون اليهود قالوا قولا واعتقدوا مذهبا يؤدي معناه إلى أن الله تعالى عز شأنه يبخل في حال ويجود في حال آخر، فحكي عنهم على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم.
وقال آخر: إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء حيث لم يوسع سبحانه على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه ولا يخفى أن ما روي في سبب النزول لا يساعد ذلك، وقيل: إنهم قالوا ذلك على سبيل الاستفهام والاستغراب، والمراد يد الله سبحانه مغلولة عنا حيث قتر المعيشة علينا، ولا يخفى بعده غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بالبخل المذموم- كما قال الزجاج- ودعاؤه بذلك عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، ولا استحالة في ذلك على مذهب أهل الحق، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بالفقر والمسكنة، وقيل: تغل الأيدي حقيقة، يغلون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسا، وقيل: هي من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول: سبني سب الله تعالى دابره، أي قطعه لأن السبب أصله القطع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، واستطيبه الطيبي، وقال: إن هذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله:
قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
واختار أبو علي الجبائي أن ذلك إخبار عن حالهم يوم القيامة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم في جهنم جزاء هذه الكلمة العظيمة، وحكاه الطبرسي عن الحسن، ثم قال: فعلى هذا يكون الكلام بتقدير الفاء أو الواو، فقد تم كلامهم واستؤنف بعده كلام آخر، ومن عادتهم أن يحذفوا فيما يجري هذا المجرى، ومن ذلك قوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [البقرة: ٦٧]، وأنت تعلم أن مثل هذا على الاستئناف البياني، ولا حاجة فيه إلى تجشم مؤونة التقدير، على أن كلام الحسن- فيما نرى- ليس نصا في كون الجملة إخبارية إذ قصارى ما قال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ في جهنم وهو محتمل لأن يكون دعاء عليهم بذلك وَلُعِنُوا أي أبعدوا عن رحمة الله تعالى وثوابه بِما قالُوا أي بسبب قولهم، أو بالذي قالوه من ذلك القول الشنيع، وهذا دعاء ثان معطوف على الدعاء الأول، والقائل بخبريته قائل بخيريته، وقرىء وَلُعِنُوا بسكون العين.
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس الشأن كما زعموا بل في غاية ما يكون من الجود، وإليه- كما قيل- أشير بتثنية اليد، فإن أقصى ما تنتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا بكلتا يديهم، وقيل:
اليد هنا أيضا بمعنى النعمة، وأريد بالتثنية نعم الدنيا ونعم الآخرة، أو النعم الظاهرة والنعم الباطنة أو ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام، وقيل: وروي عن الحسن أنها بمعنى القدرة كاليد الأولى، وتثنيتها باعتبار تعلقها بالثواب وتعلقها بالعقاب، وقيل: المراد من التثنية التكثير كما في ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: ٤] والمراد من التكثير مجرد المبالغة في كمال القدرة وسعتها لا أنها متعددة، ونظير ذلك قول الشاعر:
فسرت أسرة طرتيه فغورت في الخصر منه وأنجدت في نجده
فإنه لم يرد أن لذلك الرشا طرتين إذ ليس للإنسان إلا طرة واحدة وإنما أراد المبالغة.
وقال سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم: إن هذا من المتشابه، وتفويض تأويله إلى الله تعالى هو الأسلم، وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أثبت لله عز وجل يدين،
وقال: «وكلتا يديه يمين»
ولم يرو عن أحد من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أنه
347
أول ذلك بالنعمة، أو بالقدرة بل أبقوها كما وردت وسكتوا، ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لا سيما في مثل هذه المواطن، وفي مصحف عبد الله- بل يداه بسطان- يقال: يد بسط بالمعروف، ونحوه مشية سجح وناقة سرح يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من كَيْفَ وفيها تنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم الدقيقة التي عليها تدور أفلاك المعاش والمعاد، وقد اقتضت الحكمة- إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم- أن يضيق عليهم، وكَيْفَ ظرف- ليشاء- والجملة في موضع نصب على الحالية من ضمير يُنْفِقُ أن ينفق كائنا على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدا، وقيل: إن جملة يُنْفِقُ في موضع الحال من الضمير المجرور في يَداهُ واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه، والحال لا يجيء منه، ورد بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما في قوله تعالى حكاية: هذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢] إذ قيل: إن «شيخا» حال من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه، وأن الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزأ أو كجزء أو عاملا، وهاهنا المضاف جزء من المضاف إليه، أو كجزء فليس بممتنع، وجوّز أن تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما، ورد بأنه لا ضمير لهما فيها، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أي ينفق بهما، ومن هنا قيل: بجواز كونها خبرا ثانيا للمبتدأ، نعم التقدير خلاف الأصل، والظاهر، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا الامتناع، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ وهم علماؤهم ورؤساؤهم، أو المقيمون على الكفر منهم مطلقا ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن المشتمل على هذه الآيات، وتقديم المفعول للاعتناء به مِنْ رَبِّكَ متعلق- بأنزل- كما أن إِلَيْكَ كذلك، وتأخيره عنه مع أن حق المبتدأ أن يقدم على المنتهى لاقتضاء المقام- كما قال شيخ الإسلام- الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه صلّى الله عليه وسلّم، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف، والموصول فاعل- ليزيدن- والإسناد مجازي، وكَثِيراً مفعوله الأول، ومِنْهُمْ
صفته، وقوله تعالى: طُغْياناً وَكُفْراً مفعوله الثاني أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين، لأن الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها، وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار، وهذا كما أن الطعام للأصحاء يزيد المرضى مرضا، ويحتمل أن يراد- بما أنزل- النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي إنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم ما بسط لهم، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظا وحنقا على ربهم سبحانه، فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانا وإلى كفرهم كفرا وحينئذ تلائم الآية ما قبلها أشد ملاءمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد، ولم أر من ذكره.
وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ أي اليهود.
وقال في البحر: الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في قوله سبحانه: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ولشمول قوله عز وجل: يا أَهْلَ الْكِتابِ للفريقين، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد.
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد كلمتهم، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة، والْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية
348
والنسطورية، وحالهم حالهم في ذلك، وحال اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى، ورجح عود الضمير إلى اليهود بأن الكلام فيهم، وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ما عسى أن يتوهم من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين، وقال أبو حيان بعد أن أرجع الضمير للطائفتين: إن المعنى لا يزال اليهود والنصارى متباغضين متعادين قلما توافق إحدى الطائفتين الأخرى، ولا تجتمعان على قتالك وحربك، وفي ذلك إخبار بالغيب فإنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الإسلام.
وفرق السمين بين الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بأن العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق- بألقينا- وجوز أن يتعلق بالبغضاء أي إن التباغض بينهم مستمر ما داموا، وليست حقيقة الغاية مرادة، ولم يجوز أن يتعلق- بالعداوة- لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين، والمراد كلما أرادوا محاربة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورتبوا مباديها ردهم الله تعالى وقهرهم بتفرق آرائهم وحل عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب، وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة، ويسمونها نار الحرب، وهي إحدى نيران مشهورة عندهم، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم، وحكي في البحر قولين في الآية: فعن قوم أن الإيقاد حقيقة، وكذا الإطفاء أي إنهم كلما أوقدوا نارا للمحاربة ألقى عليهم الرعب فتقاعدوا وأطفؤوها، وإضافة الإطفاء إليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب الأصلي.
وعن الجمهور أن الكلام مخرّج مخرج الاستعارة، والمراد من إيقاد النار إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار، ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين، ولعل القول بالكناية ألطف منهما، وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو المروي عن الحسن ومجاهد، وقيل: هو أعم من ذلك أي كلما أرادوا حرب أحد غلبوا، فإن اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط جل شأنه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام، فأباد خضراءهم واستأصل شأفتهم. وفرق جمعهم وأذلهم فأجلى بني النضير وبني قينقاع، وقتل بني قريظة وأسر أهل خيبر، وغلب على فدك، ودان له أهل وادي القرى، وضرب على أهل الذمة الجزية وأبقاهم الله تعالى في ذل لا يعزون بعده أبدا، وإطفاء النار- على هذا- عبارة عن الغلبة عليهم قاتلهم الله تعالى، ولِلْحَرْبِ متعلق- بأوقدوا- واللام للتعليل، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنار، وهو الأوفق بالتسمية وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله، وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب كتغيير صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإدخال الشبه على ضعفاء المسلمين والمشي بالنميمة مع الافتراء ونحو ذلك، وفَساداً إما مفعول له وعليه اقتصر أبو البقاء، أو في موضع المصدر، أو حال من ضمير يَسْعَوْنَ أي يسعون للفساد، أو سعي فساد، أو مفسدين.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ بل يبغضهم، ولذلك أطفأ نائرة فسادهم، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا، وإما للعهد، ووضع المظهر موضع ضميرهم للتعليل وبيان كونهم راسخين في الإفساد.
والجملة ابتدائية مسوقة لإزاحة ما عسى أن يتوهم من تأثير اجتهادهم شيئا من الضرر، وجعلها بعضهم في موضع الحال، وفائدتها مزيد تقبيح حالهم وتفظيع شأنهم وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس الشامل للتوراة والإنجيل، ويمكن أن يراد بهم اليهود فقط، وذكر الإنجيل ليس نصا في اقتضاء العموم إلا أن الذي عليه عامة المفسرين العموم، وذكروا بذلك العنوان تأكيدا للتشنيع عليهم، والمراد بهم معاصر و
349
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي ولو أنهم مع صدور ما صدر منهم من فنون الجنايات قولا وفعلا آمَنُوا بما نفي عنهم الإيمان، فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحذف المتعلق ثقة بظهوره مما سبق من قوله تعالى: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: ٥٩] إلخ، وما لحق من قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ إلخ.
وتخصيص المفعول بالإيمان به عليه الصلاة والسلام يأباه- كما قال شيخ الإسلام- المقام لأن ما ذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم به عليه الصلاة والسلام إنما ذكر مشفوعا بكفرهم بكتابهم أيضا قصدا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلّى الله عليه وسلّم مستلزم للكفر بكتابهم، فحمل الإيمان هاهنا على الإيمان به عليه الصلاة والسلام مخل بتجاوب النظم الكريم، وقدر قتادة فيما أخرجه عنه ابن حميد وغيره، المتعلق بما أنزل الله، وهو ميل إلى التعميم، وكذا عمم في قوله تعالى: وَاتَّقَوْا فقال: أي ما حرم الله تعالى.
وقال شيخ الإسلام: ما عددنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفة كتابهم لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي اقترفوها وسارعوا فيها وإن كانت في غاية العظمة، ولم نؤاخذهم بها، وجمعها جمع قلة إما باعتبار الأنواع وإما باعتبار أنها وإن كثرت قليلة بالنسبة إلى كرم الله تعالى، وقد أشرنا فيما تقدم أن جمع القلة قد يقوم مقام جمع الكثرة إذا اقتضاه المقام وَلَأَدْخَلْناهُمْ مع ذلك جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وجعل أبو حيان تكفير السيئات في مقابلة الإيمان، وإدخال جنات النعيم في مقابلة التقوى، وفسرها بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالآية من باب التوزيع، والظاهر عدمه، وتكرير اللام لتأكيد الوعد، وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم، وأن الإسلام يجب ما قبله وإن جل وجاوز الحد، وفي إضافة الجنات إلى النعيم تنبيه على ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مالك بن دينار أنه قال: جَنَّاتِ النَّعِيمِ بين جنات الفردوس وجنات عدن، وفيها جوار خلقن من ورد الجنة، قيل: فمن يسكنها؟ قال: الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمة الله تعالى شأنه راقبوه، ولا يخفى أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، والذي يقتضيه الظاهر أن يقال لسائر الجنات: جَنَّاتِ النَّعِيمِ وإن اختلفت مراتب النعيم فيها وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي وفوا حقهما بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته صلّى الله عليه وسلّم ومبشرات بعثته، وليس المراد مراعاة جميع ما فيها من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها، فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من القرآن المجيد المصدق لما بين يديه- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- واختاره الجبائي وغيره، وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل- ككتاب شعيا وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق وكتاب دانيال- فإنها مملوءة بالبشائر بمبعثه صلّى الله عليه وسلّم، واختاره أبو حيان، ويجوز أن يراد به ما يعم ذلك والقرآن العظيم، وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلا عليه، والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل، وتقديم إِلَيْهِمْ لما مر آنفا، وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة.
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها: كما قال سبحانه: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ٩٦] قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد، وقيل:
المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزروع، وقيل: بما يهدل من الثمار من رؤوس الأشجار وما يتساقط منها على الأرض، وقيل: بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم وما يعطيه لهم سفلتهم وعوامهم، وقيل: المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة، وجعله الطبرسي نظير قولك: فلان في الخير من
350
قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها، ومفعول- أكلوا- محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك: فلان يعطي ويمنع، ومِنْ في الموضعين لابتداء الغاية.
وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذا به النجاة السرمدية والنعيم المقيم، وخولف بين العبارتين، فقيل: أولا: آمَنُوا وَاتَّقَوْا وثانيا أَقامُوا ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة قيل: ويشبه أن يكون ما في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم، فكأنه قيل في حقهم: لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا لأقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا، وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كفّر الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ولا كذلك الشرطية الثانية فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيرا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام، ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل ولا يتغير حاله، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش فوقع في حيص بيص، وجعلها كالشرطية الأولى، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية الباطنية- كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا- لا أظنه يأخذ محلا من فؤادك ولا أحسبه حاسما لما يقال، والقول- بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو أنهم كلهم أقاموا التوراة إلخ لأكلوا كلهم من فوقهم إلخ لا لو أقام بعضهم- لا أراه إلا منكرا من القول وزورا.
وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه: لَأَكَلُوا إلخ بقوله: لوسع عليهم الرزق، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها، ولم يجعله شاملا لرزق الدارين، ولو حمل على الترقي، وتفصيل ما أجمل في الأول شرطا وجزاء لكان وجها انتهى، وبهذا الوجه أقول وإليه أتوجه، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء، والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة- كما روي عن الربيع- وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم- كما قال مجاهد والسدي وابن زيد- واختاره الجبائي، وأولئك- كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود- وثمانية وأربعون من النصارى، وقيل: المراد بهم النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء والإقامة المذكورات كأنه قيل: هل كلهم مصروف على عدم الإيمان وأخويه؟ فقيل: مِنْهُمْ إلخ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة بعيد، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ وهم الأجلاف المتعصبون- ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم..
ساءَ ما يَعْمَلُونَ من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه.
351
وقيل: من الإفراط في العداوة وَكَثِيرٌ مبتدأ، ومِنْهُمْ صفته، وساءَ كبئس للذم.
وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب- كقضو زيد- أي ما أقضاه، فالمعنى هنا ما أسوأ عملهم، وبعضهم يقول: هي لمجرد الذم والتعجب مأخوذ من المقام، وتمييزها محذوف، وما موصولة فاعل لها أي ساء عملا الذي يعملونه، ويجوز أن تكون ما نكرة في موضع التمييز، والجملة الإنشائية خبر للمبتدأ، والكلام في ذلك شهير.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي صلاة الشهود والحضور الذاتي وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي زكاة وجودهم وَهُمْ راكِعُونَ أي خاضعون في البقاء بالله.
والآية عند معظم المحدثين نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه، والإمامية- كما علمت- يستدلون بها على خلافته بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا فصل، وقد علمت منا ردهم- والحمد لله سبحانه- رد كلام وكثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يشير إلى القول بخلافته كرم الله تعالى وجهه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بلا فصل أيضا إلا أن تلك الخلافة عندهم هي الخلافة الباطنة التي هي خلافة الإرشاد والتربية والإمداد والتصرف الروحاني لا الخلافة الصورية التي هي عبارة عن إقامة الحدود الظاهرة وتجهيز الجيوش والذب عن بيضة الإسلام ومحاربة أعدائه بالسيف والسنان، فإن تلك عندهم على الترتيب الذي وقع كما هو مذهب أهل السنة، والفرق عندهم بين الخلافتين كالفرق بين القشر واللب، فالخلافة الباطنة لب الخلافة الظاهرة، وبها يذب عن حقيقة الإسلام، وبالظاهرة يذب عن صورته، وهي مرتبة القطب في كل عصر، وقد تجتمع مع الخلافة الظاهرة كما اجتمعت في علي كرم الله تعالى وجهه أيام إمارته، وكما تجتمع في المهدي أيام ظهوره، وهي والنبوة رضيعا ثدي، وإلى ذلك الإشارة بما
يروونه عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: «خلقت أنا وعلي من نور واحد»
وكانت هذه الخلافة فيه كرم الله تعالى وجهه على الوجه الأتم.
ومن هنا كانت سلاسل أهل الله عز وجل منتهية إليه إلا ما هو أعز من بيض الأنوق، فإنه ينتهي إلى الصديق رضي الله تعالى عنه كسلسلة ساداتنا النقشبندية نفعنا الله تعالى بعلومهم، ومع هذا ترد عليه كرم الله تعالى وجهه أيضا، وبتقسيم الخلافة إلى هذين القسمين جمع بعض العارفين بين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأئمة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الترتيب المعلوم، وبين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعده عليه الصلاة والسلام بلا فصل، فحمل الأحاديث الواردة في خلافة الخلفاء الثلاثة على الخلافة الظاهرة، والأحاديث الواردة في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلافة الباطنة ولم يعطل شيئا من الأخبار، وقال بحقيقة خلافة الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وأنت تعلم أن هذا مشعر بأفضلية الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلفاء الثلاثة، وبعضهم يصرح بذلك، ويقول: بجواز خلافة المفضول خلافة صورية مع وجود الفاضل لكن قد قدمنا عن الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره أنه قال: ليس بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رجل، وليس مقصوده سوى بيان المرتبة في الفضل فافهم وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فإنه من حزب الله تعالى أي أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ على أعدائهم الأنفسية والأفاقية،
وقد صح «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله سبحانه لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك»
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ أي حالكم الذي أنتم عليه في السير والسلوك هُزُواً وَلَعِباً فطعنوا فيه مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وهم المقتصرون على الظاهر فقط- كاليهود- أو على الباطن فقط- كالنصارى- وَالْكُفَّارَ
352
الذين حجبوا بأنفسهم عن الحق أَوْلِياءَ للمباينة في الأحوال وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به عز شأنه وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي الحضور في حضرة الرب اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ الأسرار ولم يفهموا ما في الصلاة من بلوغ الأوطار،
فقد صح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة»
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ وتنكرون مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ فجمعنا بين الظاهر والباطن وطرنا بهذين الجناحين إلى الحضرة القدسية وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أي بدلنا صفاتهم بصفات هاتيك الحيوانات من الحيل والحرص والشهوة وقلة الغيرة وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ وهو كل ما يطغى مما سوى الله تعالى أي إنهم انقادوا إليه وخضعوا له، ومن أولئك من هو عابد الدرهم والدينار أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري وضلوا ضلالا بعيدا وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي يقدمون بسرعة على جميع الرذائل لاعتيادهم لها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم، فالإثم رذيلة القوة النطقية والعدوان رذيلة القوى الغضبية، وأكل السحت رذيلة القوى الشهوية وَقالَتِ الْيَهُودُ لحرمانهم من الأسرار التي لا يطلع عليها أهل الظاهر يَدُ اللَّهِ تعالى عما يقولون مَغْلُولَةٌ فلا يفيض غير ما نحن فيه من العلوم الظاهرة غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وحرموا إلى يوم القيامة عن تناول ثمار أشجار الأسرار وَلُعِنُوا أي أبعدوا عن الحضرة الإلهية بِما قالُوا من تلك الكلمة العظيمة بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ بهما كَيْفَ يَشاءُ فيفيض حسب الحكمة من أنواع العلوم الظاهرة والباطنة على من وجده أهلا لذلك، وإلى الظاهر والباطن أشار صلّى الله عليه وسلّم «بالليل والنهار» فيما
أخرجه البخاري وغيره «يد الله تعالى ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار»
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا الإيمان الحقيقي وَاتَّقَوْا شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم، ولو أنهم آمنوا بالعلوم الظاهرة وَاتَّقَوْا الإنكار والاعتراض على من روى من العلوم الباطنة وسلموا لهم أحوالهم كما قيل:
وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار
لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي ارتكبوها وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ في مقابلة إيمانهم واتقائهم وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ بتحقق علوم الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات وَالْإِنْجِيلَ بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها في المكاشفات وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ أي لرزقوا من العالم الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي من العالم السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والإدراكات الحسية، وبالأول يهتدون إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الملك والجبروت، وبالثاني يهتدون إلى معرفة عالم الملك، فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمران باسمه الباطن والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات، وللطيبي هنا كلام طيب يصلح لهذا الباب، فإنه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال في لَأَكَلُوا إلخ: أي لوسع عليهم خير الدارين، وقلت: هذا في حق من عدد سيئاتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والإنجيل، فما ظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من هذا العالم إلى معالم القدس معتصما بحبل الله تعالى وسنة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم فإنه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله وسحائب بركاته، فكمن فيه كمون الأمطار في الأرض، فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر، واختصاص مِنْ الابتدائية ما يلوح إلى معنى
قوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم»
لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله
353
سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات، فإذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عز وجل بركات هي أزكى من الأولى، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم، وفي اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام، ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشادا له إلى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى.
وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا زال باقيا ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه: مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الأمور السفلية الحاصلة بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِمْ الأمور الحاصلة بمجرد الفيض، وحينئذ يقوى الطباق بين المتعاطفين.
ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضا مشرب أهل الظاهر، فتدبر مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، قيل: عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
354
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلى الثقلين كافة وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته الكبرى، وفي هذا العنوان إيذان أيضا بما يوجب الإتيان بما أمر به صلّى الله عليه وسلّم من تبليغ ما أوحي إليه. بَلِّغْ أي أوصل الخلق ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي جميع ما أنزل كائنا ما كان مِنْ رَبِّكَ أي مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك، وفيه عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة والسلام وكلاءته أي بلغه غير مراقب في ذلك أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه أبدا وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أي ما أمرت به من تبليغ الجميع.
فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي فما أديت شيئا من رسالته لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها لذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به، ولأن كتمان بعضها يضيع ما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض به، واعترض القول بنفي أولوية بعضها من بعض بالأداء بأن الأولوية ثابتة باعتبار الوجوب قطعا وظنا وجلاء وخفاء أصلا وفرعا، وأجاب في الكشف بأنه نفى الأولوية نظرا إلى أصل الوجوب، وأيضا أن ذلك راجع إلى المبلغ، والكلام في التبليغ وهو غير مختلف الوجوب لأنه شيء واحد نظرا إلى ذاته، ثم كتمان البعض يدل على أنه لم ينظر إلى أنه مأمور بالتبليغ بل إلى ما في المبلغ من المصلحة، فكأنه لم يتمثل هذا الأمر أصلا فلم يبلغ، وإن أعلم الناس لم ينفعه لأنه مخبر إذ ذاك لا مبلغ، ونوقش في التعليل الثاني بأن الصلاة اعتبرها الشارع أمرا واحدا بخلاف التبليغ، وهي مناقشة غير واردة لأنه تعالى ألزمه عليه الصلاة والسلام تبليغ الجميع، فقد جعلها كالصلاة بلا ريب.
ومما ذكرنا في تفسير الشرطية يعلم أن لا اتحاد بين الشرط والجزاء، ومن ادّعاه بناء على أن المآل إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة- جعله نظير: أنا أبو النجم وشعري شعري. حيث جعل فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ، وأراد- وشعري شعري- المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين لاشتهاره بها، وأنه غني عن ذكرها لشهرتها وذياعها، وكذلك كما قال ابن المنير: أريد في الآية- لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام- أنه عظيم شنيع ينعي على مرتكبه، ألا ترى أن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع؟ فكيف كتمان الرسالة من الرسول؟! فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام، وأن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما حيث قال سبحانه: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم يقل: وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ليتغايرا لفظا وإن اتحدا معنى، وهذا أحسن رونقا وأظهر
355
طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز، فلا معاب عليه في ذلك، وقيل: إن المراد فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله، فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه أبو الشيخ وابن حبان في تفسيره من مرسل الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثني الله تعالى بالرسالة فضقت بها ذرعا، فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت».
وقيل: إن المراد إن تركت تبليغ ما أنزل إليك حكم عليك بأنك لم تبلغ أصلا، وقيل- وليته ما قيل- المراد بما أنزل القرآن، وبما في الجواب بقية المعجزات، وقيل: غير ذلك، واستدل بالآية على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكتم شيئا من الوحي، ونسب إلى الشيعة أنهم يزعمون أنه عليه الصلاة والسلام كتم البعض تقية.
وعن بعض الصوفية أن المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد من الأحكام، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه، وأمّا ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه،
وروى السلمي عن جعفر رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: ١٠] قال: أوحى بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه، ولا يعلم به أحد سواه إلا في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته،
وقال الواسطي- ألقى إلى عبده ما ألقى- ولم يظهر ما الذي أوحى لأنه خصه سبحانه به صلّى الله عليه وسلّم، وما كان مخصوصا به عليه الصلاة والسلام كان مستورا، وما بعثه الله تعالى به إلى الخلق كان ظاهرا، قال الطيبي: وإلى هذا ينظر معنى ما روينا في صحيح البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم- أراد عنقه- وأصل معناه مجرى الطعام، وبذلك فسره البخاري، ويسمون ذلك علم الأسرار الإلهية وعلم الحقيقة، وإلى ذلك أشار رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال:
إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين، وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
ومن ذلك علم وحدة الوجود، وقد نصوا على أنه طور ما وراء طور العقل، وقالوا: إنه مما تعلمه الروح بدون واسطة العقل، ومن هنا قالوا بالعلم الباطن على معنى أنه باطن بالنسبة إلى أرباب الأفكار، وذوي العقول المنغمسين في أوحال العوائق والعلائق لا المتجردين العارجين إلى حضائر القدس ورياض الأنوار.
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني روح الله تعالى روحه في كتابه الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما نصه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة، فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده، لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام، حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق على فهمي، فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى، وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق، فاعلم ذلك انتهى.
356
وقد فهم بعضهم كون المراد تبليغ الأحكام وما يتعلق بها من المصالح دون ما يشمل علم الأسرار من قوله سبحانه: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ دون ما تعرفنا به إليك، وذكر أن علم الأسرار لم يكن منزلا بالوحي بل بطريق الإلهام والمكاشفة، وقيل: يفهم ذلك من لفظ الرسالة، فإن الرسالة ما يرسل إلى الغير، وقد أطال بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم الكلام في هذا المقام، والتحقيق عندي أن جميع ما عند النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأسرار الإلهية وغيرها من الأحكام الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزل. فقد قال سبحانه: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩] وقال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨]،
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي وغيره: «ستكون فتن، قيل:
وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما فيكم»
،
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: جميع ما حكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو مما فهمه من القرآن، ويؤيد ذلك ما
رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لا أحل إلا ما أحل الله تعالى في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله تعالى في كتابه»،
وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.
وقال بعضهم: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى حتى أن البعض استنبط عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثا وستين سنة من قوله سبحانه في سورة المنافقين: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [المنافقون:
١١] فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها- بالتغابن- ليظهر التغابن في فقده بنفس ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان، فإذا ثبت أن جميع ذلك في القرآن كان تبليغ القرآن تبليغا له، غاية ما في الباب أن التوقيف على تفصيل ذلك سرا سرا وحكما حكما لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد، وكم من سر وحكم نبهت عليهما الإشارة ولم تبينهما العبارة، ومن زعم أن هناك أسرارا خارجة عن كتاب الله تعالى تلقاها الصوفية من ربهم بأي وجه كان، فقد أعظم الفرية وجاء بالضلال ابن السبهلل بلا مرية.
وقول بعضهم: أخذتم علمكم ميتا عن ميت ونحن أخذناه عن الحي الذي لا يموت، لا يدل على ذلك الزعم لجواز أن يكون ذلك الأخذ من القرآن بواسطة فهم قدسي أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ، ويؤيد هذا ما
صح عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي كرم الله تعالى وجهه: هل عندكم كتاب خصكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا إلا كتاب الله تعالى أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة- وكانت متعلقة بقبضة سيفه- قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر.
ويفهم منه- كما قال القسطلاني- جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة، وما عند الصوفية- على ما أقول- كله من هذا القبيل إلا أن بعض كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء، لكنها مبنية على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار، وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات
لقول علي كرم الله تعالى وجهه كما في صحيح البخاري- حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون
357
أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم-
أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على ما يقتضيه حسن الظن بهم بحث آخر لسنا بصدده.
وقريب من خبر أبي جحيفة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عنترة، قال: كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فجاءه رجل، فقال: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس، فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ؟ والله ما ورّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوداء في بيضاء، وحمل- وعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي لم يبثه على علم الأسرار- غير متعين لجواز أن يكون المراد منه أخبار الفتن.
وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت، أو المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وذمهم، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكني عن بعض ذلك ولا يصرح خوفا على نفسه منهم بقوله: أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمات قبلها بسنة، وأيضا قال القسطلاني: لو كان كذلك لما وسع أبي هريرة كتمانه مع ما أخرج عنه البخاري أنه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله تعالى: الرَّحِيمِ [البقرة: ١٥٩، ١٦٠] إلى آخر ما قال، فإن ما تلاه دال على ذم كتمان العلم لا سيما العلم الذي يسمونه علم الأسرار فإن الكثير منهم يدعي أنه لب ثمرة العلم، وأيضا إن أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك، وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم؟ فمن أين علم أن الذي علمه هو هذا؟! ومن ادعى فعليه البيان، ودونه قطع الأعناق.
فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه ما فيه، ومثله ما
روي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه، نعم للقوم متمسك غير هذا مبين في موضعه
لكن لا يسلم لأحد كائنا من كان أن ما هم عليه مما خلا عنه كتاب الله تعالى الجليل، أو أنه أمر وراء الشريعة، ومن برهن على ذلك بزعمه فقد ضل ضلالا بعيدا، فقد قال الشعراني قدس سره في الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية: سمعت سيدي عليا المرصفي يقول: لا يكمل الرجل في مقام المعرفة والعلم حتى يري الحقيقة مؤيدة للشريعة، وإن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية، وإنما هو عينها.
وسمعت سيدي عليا الخواص يقول مرارا: من ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أو عكسه فقد جهل لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف حقيقة أبدا، حتى قالوا: شريعة بلا حقيقة عاطلة وحقيقة بلا شريعة باطلة، خلاف ما عليه القاصرون من الفقهاء والفقراء، وقد يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على وجه لا يستطيع المخالف معه على فتح شفة.
ومما نقلنا عن القسطلاني في خبر أبي جحيفة يعلم الجواب عما قيل في الاعتراض على الصوفية: من أن ما عندهم إن كان موافقا للكتاب والسنة فهما بين أيدينا، وإن كان مخالفا لهما فهو ردّ عليهم، وما بعد الحق إلا الضلال، والجواب باختيار الشق الأول وكون الكتاب والسنة بين أيدينا لا يستدعي عدم إمكان استنباط شيء منهما بعد، ولا يقتضي انحصار ما فيهما فيما علمه العلماء قبل، فيجوز أن يعطي الله تعالى لبعض خواص عباده فهما يدرك به منهما ما لم يقف عليه أحد من المفسرين والفقهاء المجتهدين في الدين، وكم ترك الأول للآخر، وحيث سلم للأئمة الأربعة مثلا اجتهادهم واستنباطهم من الآيات والأحاديث، مع مخالفة بعضهم بعضا فما المانع من أن يسلم للقوم ما فتح لهم
358
من معاني كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وإن خالف ما عليه بعض الأئمة، لكن لم يخالف ما انعقد عليه الإجماع الصريح من الأمة المعصومة، وأرى التفرقة بين الفريقين مع ثبوت علم كل في القبول والرد تحكما بحتا كما لا يخفى على المنصف، وزعمت الشيعة أن المراد «بما أنزل إليك» خلافة علي كرم الله تعالى وجهه،
فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستخلف عليا كرم الله تعالى وجهه، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نزلت هذه الآية في علي كرم الله تعالى وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته فتخوّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم، وأخذ بيده فقال عليه الصلاة والسلام: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه،
وأخرج الجلال السيوطي في الدر المنثور عن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر راوين عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه،
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أن عليا ولي المؤمنين وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وخبر الغدير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقد زادوا فيه إتماما لغرضهم زيادات منكرة ووضعوا في خلاله كلمات مزورة ونظموا في ذلك الأشعار وطعنوا على الصحابة رضي الله تعالى عنهم بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم، فقال إسماعيل بن محمد الحميري- عامله الله تعالى بعدله- من قصيدة طويلة:
عجبت من قوم أتوا أحمدا... بخطة ليس لها موضع
قالوا له: لو شئت أعلمتنا... إلى من الغاية والمفزع
إذا توفيت وفارقتنا... وفيهم في الملك من يطمع؟
فقال: لو أعلمتكم مفزعا... كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا
كصنع أهل العجل إذ فارقوا... هارون فالترك له أورع
ثم أتته بعده عزمة... من ربه ليس لها مدفع
أبلغ وإلا لم تكن مبلغا... والله منهم عاصم يمنع
فعندها قام النبي الذي... كان بما يأمره يصدع
يخطب مأمورا وفي كفه... كف على نورها يلمع
رافعها، أكرم بكف الذي... يرفع، والكف التي ترفع
من كنت مولاه فهذا له... مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا
وظل قوم غاظهم قوله... كأنما آنافهم تجدع
حتى إذا واروه في لحده... وانصرفوا عن دفنه ضيعوا
ما قال بالأمس وأوصى به... واشتروا الضر بما ينفع
359
وقطعوا أرحامهم بعده فسوف يجزون بما قطعوا
وأزمعوا مكرا بمولاهم تبا لما كانوا به أزمعوا
لا هم عليه يردوا حوضه غدا، ولا هو لهم يشفع
إلى آخر ما قال لا غفر الله تعالى له عثرته ولا أقال، وأنت تعلم أن أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلا، ولنبين ما وقع هناك أتم تبيين ولنوضح الغث منه والسمين، ثم نعود على استدلال الشيعة بالإبطال ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه الاتكال، فنقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له: غدير خم، فبين فيها فضل علي كرم الله تعالى وجهه وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا، والحق مع علي كرم الله تعالى وجهه في ذلك، وكانت يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة تحت شجرة هناك.
فروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله عن يزيد بن طلحة قال: لما أقبل علي كرم الله تعالى وجهه من اليمن ليلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة تعجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل حلة من البز الذي كان مع علي كرم الله تعالى وجهه، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك انتزع قبل أن ننتهي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز، وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
وأخرج عن زينب بنت كعب- وكانت عند أبي سعيد الخدري- عن أبي سعيد قال: اشتكى الناس عليا كرم الله تعالى وجهه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا خطيبا فسمعته يقول: أيها الناس لا تشكوا عليا فو الله إنه لأخشن في ذات الله تعالى- أو في سبيل الله تعالى. ورواه الإمام أحمد،
وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن بريدة الأسلمي قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت عليا كرم الله تعالى وجهه، فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تغير، فقال بريدة: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: من كنت مولاه فعلي مولاه،
وكذا رواه النسائي بإسناد جيد قوى رجاله كلهم ثقات، وروي بإسناد آخر تفرد به،
وقال الذهبي: إنه صحيح عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فغممن، ثم قال: كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض، الله تعالى مولاي وأنا ولي كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه، فقال: من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه.
وروى ابن جرير عن علي بن زيد وأبي هارون العبيدي وموسى بن عثمان عن البراء قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فلما أتينا على غدير خم كسح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت شجرتين ونودي في الناس الصلاة جامعة، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا كرم الله تعالى وجهه وأخذ بيده وأقامه عن يمينه، فقال: ألست أولى بكل امرئ من نفسه؟ قالوا:
بلى، قال: فإن هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فلقيه عمر بن الخطاب فقال رضي الله تعالى عنه: هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة
- وهذا ضعيف- فقد نصوا أن علي بن زيد وأبا هارون وموسى ضعفاء لا يعتمد على روايتهم، وفي السند أيضا- أبو إسحاق- وهو شيعي مردود الرواية.
360
وروى ضمرة بإسناده عن أبي هريرة قال: لما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد علي كرم الله تعالى وجهه قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: ٣] ثم قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، ومن صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا،
وهو حديث منكر جدا، ونص في البداية والنهاية على أنه موضوع، وقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر بن جرير الطبري فجمع فيه مجلدين أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه، وساق الغث والسمين والصحيح والسقيم على ما جرت به عادة كثير من المحدثين، فإنهم يوردون ما وقع لهم في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة، والمعول عليه فيها ما أشرنا إليه، ونحوه مما ليس فيه خبر الاستخلاف كما يزعمه الشيعة، وعن الذهبي أن
من كنت مولاه فعلي مولاه
متواتر يتيقن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله، وأما
اللهم وال من والاه،
فزيادة قوية الإسناد، وأما صيام ثماني عشرة ذي الحجة فليس بصحيح- ولا والله نزلت تلك الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم بأيام.
والشيخان لم يرويا خبر الغدير في صحيحهما لعدم وجدانهما له على شرطهما، وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما وحاشاهما من ذلك، ووجه استدلال الشيعة بخبر- من كنت مولاه فعلي مولاه- أن المولى بمعنى الأولى بالتصرف، وأولوية التصرف عين الإمامة، ولا يخفى أن أول الغلط في هذا الاستدلال جعلهم المولى بمعنى الأولى، وقد أنكر ذلك أهل العربية قاطبة بل قالوا: لم يجىء مفعل بمعنى أفعل أصلا، ولم يجوز ذلك إلا أبو زيد اللغوي متمسكا بقول أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: هِيَ مَوْلاكُمْ [الحديد: ١٥] أي أولى بكم.
وردّ بأنه يلزم عليه صحة فلان مولى من فلان كما يصح فلان أولى من فلان، واللازم باطل إجماعا فالملزوم مثله، وتفسير أبي عبيدة بيان لحاصل المعنى، يعني النار مقركم ومصيركم. والموضع اللائق بكم، وليس نصا في أن لفظ المولى ثمة بمعنى الأولى، والثاني أنا لو سلمنا أن المولى بمعنى الأولى لا يلزم أن يكون صلته بالتصرف، بل يحتمل أن يكون المراد أولى بالمحبة وأولى بالتعظيم ونحو ذلك، وكم قد جاء الأولى في كلام لا يصح معه تقدير التصرف كقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: ٦٨] على أن لنا قرينتين على أن المراد من الولاية من لفظ المولى أو الأولى: المحبة، إحداهما ما رويناه عن محمد بن إسحاق في شكوى الذين كانوا مع الأمير كرم الله تعالى وجهه في اليمن- كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما- ولم يمنع صلّى الله عليه وسلّم الشاكين بخصوصهم مبالغة في طلب موالاته وتلطفا في الدعوة إليها كما هو الغالب في شأنه صلّى الله عليه وسلّم في مثل ذلك، وللتلطف المذكور افتتح الخطبة صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
وثانيهما
قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه،
فإنه لو كان المراد من المولى المتصرف في الأمور أو الأولى بالتصرف لقال عليه الصلاة والسلام: اللهم وال من كان في تصرفه وعاد من لم يكن كذلك، فحيث ذكر صلّى الله عليه وسلّم المحبة والعداوة فقد نبه على أن المقصود إيجاب محبته كرم الله تعالى وجهه والتحذير عن عداوته وبغضه لا التصرف وعدمه، ولو كان المراد الخلافة لصرح صلّى الله عليه وسلّم بها.
ويدل لذلك ما رواه أبو نعيم عن الحسن المثنى بن الحسن السبط رضي الله تعالى عنهما أنهم سألوه عن هذا الخبر، هل هو نص على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه؟ فقال: لو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أراد خلافته لقال: أيها الناس هذا ولي أمري والقائم عليكم بعدي فاسمعوا وأطيعوا، ثم قال الحسن: أقسم بالله سبحانه أن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لو آثر عليا لأجل هذا الأمر- ولم يقدم علي كرم الله تعالى وجهه عليه- لكان أعظم الناس خطأ، وأيضا ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدي، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد، ولا يتصور
361
الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة، وتمسك الشيعة في إثبات أن المراد بالمولى الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الخبر على إحدى الروايات، وهو
قوله صلّى الله عليه وسلّم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
ونحن نقول: المراد من هذا أيضا الأولى بالمحبة يعني ألست أولى: بالمؤمنين من أنفسهم بالمحبة، بل قد يقال: الأولى هاهنا مشتق من الولاية بمعنى المحبة، والمعنى ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم؟
ليحصل تلاؤم أجزاء الكلام ويحسن الانتظام، ويكون حاصل المعنى هكذا: يا معشر المؤمنين إنكم تحبوني أكثر من أنفسكم، فمن يحبني يحب عليا اللهم أحب من أحبه وعاد من عاداه، ويرشد إلى أنه ليس المراد بالأولى- في تلك الجملة- الأولى بالتصرف أنها مأخوذة من قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأحزاب: ٦] وهو مسوق لنفي نسب الأدعياء ممن يتبنونهم، وبيانه أن زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال: إنه ابن محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن نسبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جميع المؤمنين كالأب الشفيق بل أزيد، وأزواجه عليه والسلام أمهاتهم، والأقرباء في النسب أحق وأولى من غيرهم، وإن كانت الشفقة والتعظيم للأجانب أزيد لكن مدار النسب على القرابة وهي مفقودة في الأدعياء لا على الشفقة والتعظيم، وهذا ما «في كتاب الله» تعالى أي في حكمه، ولا دخل لمعنى الأولى بالتصرف في المقصود أصلا، فالمراد فيما نحن فيه هو المعنى الذي أريد في المأخوذ منه، ولو فرضنا كون الأولى في صدر الخبر بمعنى الأولى بالتصرف فيحتمل أن يكون ذلك لتنبيه المخاطبين بذلك الخطاب ليتوجهوا إلى سماع كلامه صلّى الله عليه وسلّم كمال التوجه ويلتفتوا إليه غاية الالتفات، فيقرر ما فيه من الإرشاد أتم تقرر، وذلك كما يقول الرجل لأبنائه في مقام الوعظ والنصيحة: ألست أباكم؟ وإذا اعترفوا بذلك يأمرهم بما قصده منهم ليقبلوا بحكم الأبوة والبنوة ويعملوا على طبقهما، فقوله عليه الصلاة والسلام في هذا المقام: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ مثل «ألست رسول الله تعالى إليكم؟» أو لست نبيكم، ولا يمكن إجراء مثل ذلك فيما بعده تحصيلا للمناسبة، ومن الشيعة من أورد دليلا على نفي معنى المحبة، وهو أن محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه أمر ثابت في ضمن آية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١] فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى أيضا كان لغوا ولا يخفى فساده، ومنشؤه أن المستدل لم يفهم أن إيجاب محبة أحد في ضمن العموم شيء، وإيجاب محبته بالخصوص شيء آخر، والفرق بينهما مثل الشمس ظاهر، ومما يزيد ذلك ظهورا أنه لو آمن شخص بجميع أنبياء الله تعالى، ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولم يتعرض لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم بخصوصه بالذكر لم يكن إيمانه معتبرا، وأيضا لو فرضنا اتحاد مضمون الآية والخبر لا يلزم اللغو، بل غاية ما يلزم التقرير والتأكيد، وذلك وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يؤكد مضامين القرآن ويقررها، بل القرآن نفسه قد تكررت فيه المضامين لذلك، ولم يقل أحد إن ذلك من اللغو- والعياذ بالله تعالى- وأيضا التنصيص على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه تكرر مرارا عند الشيعة، فيلزم على تقدير صحة ذلك القول اللغوي، ويجل كلام الشارع عنه، ثم إن ما أشار إليه الحميري في قصيدته التي أسرف فيها من أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الهيئة الاجتماعية جاؤوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وطلبوا منه تعيين الإمام بعده مما لم يذكره المؤرخون وأهل السير من الفريقين فيما أعلم، بل هو محض زور وبهتان نعوذ بالله تعالى منه.
ومن وقف على تلك القصيدة الشنيعة بأسرها وما يرويه الشيعة فيها، وكان له أدنى خبرة رأى العجب العجاب وتحقق أن قعاقع القوم كصرير باب أو كطنين ذباب، ثم إن الأخبار الواردة من طريق أهل السنة الدالة على أن هذه الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه- على تقدير صحتها وكونها بمرتبة يستدل بها- ليس فيها أكثر من الدلالة
362
على فضله كرم الله تعالى وجهه وأنه ولي المؤمنين بالمعنى الذي قررناه، ونحن لا ننكر ذلك وملعون من ينكره، وكذا ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من ذلك، والتنصيص عليه كرم الله تعالى وجهه بالذكر لما قدمنا، وقال بعض أصحابنا على سبيل التنزل: إن الآية على خبر ابن مسعود وكذا خبر الغدير- على الرواية المشهورة- على تقدير دلالتهما على أن المراد الأولى بالتصرف لا بد أن يقيدا بما يدل على ذلك في المآل، وحينئذ فمرحبا بالوفاق لأن أهل السنة قائلون بذلك حين إمامته، ووجهه تخصيص الأمير كرم الله تعالى وجهه حينئذ بالذكر ما علمه عليه الصلاة والسلام بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته، وإنكار بعض الناس لإمامته الحقة، وكون ذلك بعد الوفاة من غير فصل مما لا دليل عليه، والخبر المصدر- بكأني قد دعيت فأجبت- ليس نصا في المقصود كما لا يخفى، ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة علي كرّم الله تعالى وجهه، وأن الموصول فيها خاص قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فإن الناس فيه وإن كان عاما إلا أن المراد بهم الكفار، ويهديك إليه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فإنه في موضع التعليل لعصمته عليه الصلاة والسلام، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك، ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة، بل لو قيل: لم تصح لم يبعد لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صلّى الله عليه وسلّم- وحاشاه في تبليغ أمر الخلافة- إنما هو من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حيث إن فيهم- معاذ الله تعالى- من يطمع فيها لنفسه، ومتى رأى حرمانه منها لم يبعد منه قصد الإضرار برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتزام القول- والعياذ بالله عزّ وجلّ- بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله تعالى وجهه وهو هو، أو نسبة الجبن إليه- وهو أسد الله تعالى الغالب- أو الحكم عليه بالتقية- وهو الذي لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم ولا يخشى إلا الله سبحانه- أو نسبة فعل الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل الأمر الإلهي إلى العبث والكل كما ترى، لا يقال: إن عندنا أمرين يدلان على أن المراد بالموصول الخلافة، أحدهما أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مأمورا بأبلغ عبارة بتبليغ الأحكام الشرعية التي يؤمر بها حيث قال سبحانه مخاطبا له عليه الصلاة والسلام: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: ٩٤] فلو لم يكن المراد هنا فرد هو أهم الأفراد وأعظمها شأنا- وليس ذلك إلا الخلافة إذ بها ينتظم أمر الدين والدنيا- لخلا الكلام عن الفائدة، وثانيهما
أن ابن إسحاق ذكر في سيرته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس في حجة الوداع خطبته التي بين فيها ما بين، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألنكم عن أعمالكم، وقد بلغت، ثم أوصى صلّى الله عليه وسلّم بالنساء، ثم قال عليه الصلاة والسلام:
فاعقلوا قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم- إلى أن قال: بأبي هو وأمي صلّى الله عليه وسلّم- اللهم هل بلغت؟ قال ابن إسحاق: فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اشهد»

انتهى.
فإن هذه الرواية ظاهرة في أن الخطبة كانت يوم عرفة يوم الحج الأكبر- كما في رواية يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير- ويوم الغدير كان اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بعد أن فرغ صلّى الله عليه وسلّم من شأن المناسك وتوجه إلى المدينة المنوّرة، وحينئذ يكون المأمور بتبليغه أمرا آخر غير ما بلغه صلّى الله عليه وسلّم قبل، وشهد الناس على تبليغه، وأشهد الله تعالى على ذلك، وليس هذا إلا الخلافة الكبرى والإمامة العظمى، فكأنه سبحانه يقول: يا أيها الرسول بلغ كون علي كرم الله تعالى وجهه خليفتك وقائما مقامك بعدك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وإن قال لك الناس حين قلت: اللهم هل
363
بلغت؟ اللهم نعم، لأنا نقول: إن الشرطية في الأمر الأول- بعد غمض العين عما فيه- ممنوعة لجواز أن يراد بالموصول في الآيتين الأحكام الشرعية المتعلقة بمصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ولا يلزم الخلو عن الفائدة إذ كم آية تكررت في القرآن، وأمر ونهي ذكر مرارا للتأكيد والتقرير، على أن بعضهم ذكر أن فائدة الأمر هنا إزالة توهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ترك ويترك تبليغ شيء من الوحي تقية، ويرد على الأمر الثاني أمران: الأول أن كون يوم الغدير بعد يوم عرفة مسلم، لكن لا نسلم أن الآية نزلت فيه ليكون المأمور بتبليغه أمرا آخر، بل الذي يقتضيه ظاهر الخطبة
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها- اللهم هل بلغت-
أن الآية نزلت قبل يومي الغدير وعرفة، وما ورد في غير ما أثر- من أن سورة المائدة نزلت بين مكة والمدينة في حجة الوداع لا يصلح دليلا للبعدية ولا للقبلية إذ ليس فيه ذكر الإياب ولا الذهاب، وظاهر حاله صلّى الله عليه وسلّم في تلك الحجة- من إراءة المناسك ووضع الربا ودماء الجاهلية، وغير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكره أهل السير- يرشد إلى أن النزول كان في الذهاب، والثاني أنا لو سلمنا كون النزول يوم الغدير، فلا نسلم أن المأمور بتبليغه أمر آخر لكنا لا نسلم أنه ليس إلا الخلافة، وكم قد بلغ صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك غير ذلك من الآيات المنزلة عليه عليه الصلاة والسلام، والذي يفهم من بعض الروايات أن هذه الآية قبل حجة الوداع،
فقد أخرج ابن مردويه والضياء في مختاره عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال: «كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم فأنزل علي جبريل عليه السلام فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الآية، قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة، أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: فما بقي رجل ولا امرأة ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويقولون: كذاب صابىء، فعرض علي عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه».
قال الأعمش: فبذلك تفتخر بنو العباس، ويقولون: فيهم نزلت إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: ٥٦] هوى النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا طالب، وشاء الله تعالى عباس بن عبد المطلب، وأصرح من هذا ما
أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم إن الله عز وجل قد عصمني»
فإن أبا طالب مات قبل الهجرة، وحجة الوداع بعدها بكثير، والظاهر اتصال الآية، وعن بعضهم أن الآية نزلت ليلا بناء على ما
أخرج عبد بن حميد والترمذي والبيهقي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أخرج رأسه من القبة فقال: «أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى»
ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، والذي أميل إليه جمعا بين الأخبار أن هذه الآية مما تكرر نزوله، والله تعالى أعلم، والمراد بالعصمة من الناس حفظ روحه عليه الصلاة والسلام من القتل والإهلاك، فلا يرد أنه صلّى الله عليه وسلّم شج وجهه الشريف وكسرت رباعيته يوم أحد، ومنهم من ذهب إلى العموم وادعى أن الآية إنما نزلت بعد أحد، واستشكل الأمران بأن اليهود سموه عليه الصلاة والسلام حتى
قال: «لا زالت أكلة خيبر تعاودني
وهذا أوان قطعت أبهري وأجيب بأنه سبحانه وتعالى ضمن له العصمة من القتل ونحوه بسبب تبليغ الوحي، وأما ما فعل به صلّى الله عليه وسلّم وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال والبلاد والأنفس، ولا يخفى بعده.
364
وقال الراغب: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حفظهم بما خصوا به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الأخلاق والفضائل، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق، وقيل: المراد بالعصمة الحفظ من صدور الذنب، والمعنى بلغ والله تعالى يمنحك الحفظ من صدور الذنب من بين الناس، أي يعصمك بسبب ذلك دونهم، ولا يخفى أن هذا توجيه لم يصدر إلا ممن لم يعصمه الله تعالى من الخطأ، ومثله ما نقل عن علي بن عيسى في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
حيث قال: لا يهديهم بالمعونة والتوفيق والألطاف إلى الكفر بل إنما يهديهم إلى الإيمان، وزعم أن الذي دعاه إلى هذا التفسير أن الله تعالى هدى الكفار إلى الإيمان بأن دلهم عليه ورغبهم فيه وحذرهم من خلافه، وأنت قد علمت المراد بالآية على أن في كلامه ما لا يخفى من النظر، وقال الجبائي: المراد لا يهديهم إلى الجنة والثواب، وفيه غفلة عن كون الجملة في موضع التعليل، وزعم بعضهم أن المراد أن عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والوفاة عليه لا يهتدي أبدا- وهو كما ترى- فليفهم جميع ما ذكرناه في هذه الآية وليحفظ فإني لا أظن أنك تجده في كتاب.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «رسالاته» على الجمع، وإيراد الآية في تضاعيف الآية الواردة في أهل الكتاب لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على الرسول صلّى الله عليه وسلّم مشافهتهم بها، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالهم، ولذلك أعيد الأمر فقال سبحانه: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ، والمراد بهم اليهود والنصارى- كما قال بعض المفسرين- وقال آخرون: المراد بهم اليهود،
فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: جاء رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة «فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله تعالى حق؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم. قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك»
فأنزل الله تعالى فيهم قال يا أهل الكتاب
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئا لظهور بطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير ما لا يخفى من التحقير، ومن أمثالهم أقل من لا شيء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وشواهد نبوته، فإن إقامتهما وتوفية حقوقهما إنما تكون بذلك لا بالعمل بجميع ما فيهما منسوخا كان أو غيره، فإن مراعاة المنسوخ تعطيل لهما وردّ لشهادتهما وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي القرآن المجيد، وإقامته بالإيمان به، وقدمت إقامة الكتابين على إقامته- مع أنها المقصودة بالذات- رعاية لحق الشهادة واستنزالا لهم عن رتبة الشقاق.
وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: الكتب الإلهية، فإنها كلها ناطقة بوجوب الإيمان بمن ادعى النبوة وأظهر المعجزة ووجوب طاعة من بعث إليهم له، وقد مر تمام الكلام على مثل هذا النظم الكريم وكذا على قوله تعالى:
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً والجملة مستأنفة- كما قال شيخ الإسلام مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعا، وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيقه ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- مع نسبته فيما مر إليهم- للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة، وإذا أريد بالموصول النعم التي أعطيها صلّى الله عليه وسلّم فأمر النسبة ظاهر جدا.
365
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي لا تأسف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن غائلة ذلك موصولة بهم وتبعته عائدة إليهم، وفي المؤمنين غنى لك عنهم، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر، وقيل: المراد لا تحزن على هلاكهم وعذابهم، ووضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على العلة الموجبة لعدم الأسى، ولا يخلو عن بعد إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف مسوق للترغيب في الإيمان والعمل الصالح.
وقد تقدم في آية البقرة الاختلاف في المراد- من الذين آمنوا- والمروي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم- وهم المنافقون- وهو الذي اختاره الزجاج، واختار القاضي أن المراد بهم المتدينون بدين محمد صلّى الله عليه وسلّم مخلصين كانوا أو منافقين، وقيل: غير ذلك وَالَّذِينَ هادُوا أي دخلوا في اليهودية وَالصَّابِئُونَ، وهم كما قال حسن جلبي وغيره: قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة وقد تقدم الكلام على ذلك، وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة للجلال السيوطي ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث- وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين- وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى بايلون فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش واستخلف أنوش ابنه قونان، واستخلف قونان ابنه مهلائيل، واستخلف مهلائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه وعلمه جميع العلوم وأخبره بما يحدث في العالم، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة والسلام، وولد ليرد أخنوخ- وهو إدريس عليه الصلاة والسلام- ويقال له: هرمس، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة، وأراد به الملك سوءا فعصمه الله تعالى وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده وكان قد ولد بمصر وخرج منها، وطاف الأرض كلها ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى فأجابوه حتى عمت ملته الأرض، وكانت ملته الصابئة، وهي توحيد الله تعالى والطهارة والصوم، وغير ذلك من رسوم التعبدات، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن به- إلى آخر ما قاله- ونقله عن التيفاشي، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة وفي شذرات الذهب لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحاق الصابئي ما نصه:
والصابئي بهمز آخره، قيل: نسبة إلى صابئي بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة والسلام، وكان على الحنيفية الأولى، وقيل: الصابئي بن ماوي، وكان في عصر الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل: الصابئ عند العرب من خرج عن دين قومه انتهى وَالنَّصارى جمع نصران، وقد مر تفصيله، ورفع الصَّابِئُونَ على الابتداء وخبره محذوف لدلالة خبر- إن- عليه، والنية فيه التأخير عما في خبر إِنَّ والتقدير إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى حكمهم كيت وكيت وَالصَّابِئُونَ كذلك بناء على أن المحذوف في إن زيدا، وعمرو قائم خبر الثاني لا الأول كما هو مذهب بعض النحاة، واستدل عليه بقول: صابئ بن الحارث البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني، وقيار بها لغريب
فإن قوله: «لغريب» خبر إن، ولذا دخلت عليه اللام لأنها تدخل على خبر «إن» لا على خبر المبتدأ إلا شذوذا، وقيل: إن «غريب» فيه خبر عن الاسمين جميعا لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره نحو وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: ٤]، ورده الخلخالي بأنه لم يرد للاثنين، وإن ورد للجمع، وأجاب عنه ابن هشام بأنهم قالوا في قوله تعالى:
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: ١٧] : إن المراد قعيدان، وهذا يدل على إطلاقه على الاثنين أيضا، فالصواب
366
منع هذا الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين على معمول واحد، ومثله لا يصح على الأصح خلافا للكوفيين، وبقول بشر بن أبي حازم:
إذا جزت نواصي آل بدر فأدوها وأسرى في الوثاق
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
فإن قوله: «بغاة ما بقينا» خبر إن ولو كان خبر- أنتم- لقال: ما بقيتم، وبغاة- جمع باغ بمعنى طالب، وقيل: إنه جمع باغي من البغي والتعدي- وأنتم بغاة- جملة معترضة لأنه لا يقول في قومه إنهم بغاة. وما بقينا في شقاق- خبر إن، وحينئذ لا يصلح البيت شاهدا لما ذكر لأن ضمير المتكلم مع الغير في محله، وإنما وسطت الجملة هنا بين إن وخبرها مع اعتبار نية التأخير ليسلم الكلام عن الفصل بين الاسم والخبر، وليعلم أن الخبر ماذا دلالة- كما قيل- على أن الصابئين- مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم- إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك، ومن هنا قيل: إن الجملة كاعتراض دل به على ما ذكر، وإنما لم تجعل اعتراضا حقيقة لأنها معطوفة على جملة إِنَّ الَّذِينَ وخبرها، وأورد عليه ما قاله ابن هشام: من أن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوفة عليها، وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر، فكذا ينبغي أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى منه بالمنع، وأما ما أجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التي تدخل على الجمل المعترضة، كقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [البقرة: ٢٤] إلخ، وهذه الجملة معترضة لا معطوفة، فلا يتمشى فيما نحن فيه لأنه يفوت نكتة التقديم من تأخير التي أشير إليها لأنها إذا كانت معترضة لا تكون مقدمة من تأخير، وبعض المحققين صرف الخبر المذكور إلى قوله تعالى: وَالصَّابِئُونَ وجعل خبر إن محذوفا، وهو القول الآخر للنحاة في مثل هذا التركيب، وهو موافق للاستعمال أيضا كما في قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
فإن قوله- راض- خبر- أنت- وخبر- نحن- محذوف، ورجح بأن الإلحاق بالأقرب أقرب، وبأنه خال عما يلزم على التوجيه الأول، نعم غاية ما يرد عليه أن الأكثر الحذف من الثاني لدلالة الأول، وعكسه قليل لكنه جائز، وعورض بأن الكلام فيما نحن فيه مسوق لبيان حال أهل الكتاب، فصرف الخبر إليهم أولى، وفي توسيط بيان حال الصابئين ما علمت من التأكيد، وأيضا في صرف الخبر إلى الثاني فصل للنصارى عن اليهود وتفرقة بين أهل الكتاب لأنه حينئذ عطف على قوله سبحانه: وَالصَّابِئُونَ قطعا، نعم لو صح أن المنافقين واليهود أوغل المعدودين في الضلال، والصابئين والنصارى أسهل حسن تعاطفهما وجعل المذكور خبرا عنهما، وترك كلمة التحقيق المذكورة في الأولين دليلا على هذا المعنى، وقيل: إن الصَّابِئُونَ عطف على محل إِنَّ واسمها، وقد أجازه بعضهم مطلقا، وبعضهم منعه مطلقا، وفصل آخرون فقالوا: يمتنع قبل مضي الخبر ويجوز بعده.
وذهب الفراء إلى أنه إن خفي إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة اللفظية نحو: إنك وزيد ذاهبان، وإلا امتنع، والمانع عند الجمهور لزوم توارد عاملين، وهما إِنَّ والابتداء أو المبتدأ على معمول واحد وهو الخبر، ولهذا ضعفوا هذا القول في الآي وبنوا على مذهب الكوفيين، وكون خبر المعطوف فيها محذوفا- وحينئذ لا يلزم التوارد- ليس بشيء لأن الجملة حينئذ تكون معطوفة على الجملة، ولم يكن ذلك من العطف على المحل في شيء، ومن قال: إن خبر إِنَّ مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها لم يلزم عليه حديث التوارد.
ونقل عن الكسائي إن العطف على الضمير في هادُوا وخطأه الزجاج بأنه لا يعطف على الضمير المرفوع
367
المتصل من غير فصل، وبأنه لو عطف على الفاعل لكان التقدير- وهاد الصابئون- فيقتضي أنهم هود- وليس كذلك- ولعل الكسائي يرى صحة العطف من غير فاصل فلا يرد عليه الاعتراض الأول، وقيل: إِنَّ بمعنى نعم الجوابية ولا عمل لها حينئذ، فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف عليه، وضعفه أبو حيان بأن ثبوت إِنَّ بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين.
وعلى تقدير ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها تكون تصديقا له ولا يجيء أول الكلام، والجواب بأن ثمة سؤالا مقدرا بعيد ركيك، وقيل: إن- الصابئين- عطف على الصلة بحذف الصدر أي الذين هم الصابئون، ولا يخفى بعده، وإن عدّ أحسن الوجوه، وقيل: إنه منصوب بفتحة مقدرة على الواو والعطف حينئذ مما لا خفاء فيه، واعترض بأن لغة- بلحارث وغيرهم- الذين جعلوا المثنى دائما بالألف نحو- رأيت الزيدان. ومررت بالزيدان- وأعربوه بحركات مقدرة، إنما هي في المثنى خاصة، ولم ينقل نحو ذلك عنهم في الجمع خلافا لما تقتضيه عبارة أبي البقاء، والمسألة مما لا يجري فيها القياس فلا ينبغي تخريج القرآن العظيم على ذلك، وقرأ أبي وكذا ابن كثير «والصابئين» وهو الظاهر «والصابيون» بقلب الهمزة ياء على خلاف القياس «والصابون» بحذفها من صبا بإبدال الهمزة ألفا فهو كرامون من رمى، وقرأ عبد الله «يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون» وقوله سبحانه وتعالى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً إما في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما في صلته باعتبار لفظه، والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ، وعلى كل لا بد من تقدير العائد أي من آمن منهم، وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم إِنَّ وما عطف عليه، أو ما عطف عليه فقط، وهو بدل بعض، ولا بد فيه من الضمير كما تقرر في العربية فيقدر أيضا، وقوله تعالى: فَلا خَوْفٌ إلخ خبر، والفاء كما في قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: ١٠] الآية، والمعنى- كما قال غير واحد- على تقدير كون المراد- بالذين آمنوا- المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون من أحدث من هؤلاء الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإنه بمعزل عن ذلك، وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الكفار العقاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب، والمراد بيان انتفاء الأمرين لا انتفاء دوامهما على ما مرت الإشارة إليه غير مرة وأما على تقدير كون المراد- بالذين آمنوا- المتدينين بدين النبي صلّى الله عليه وسلّم مخلصين كانوا أو منافقين، فالمراد بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بما ذكر على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام- كما في المخلصين- أو بطريق الإحداث والإنشاء- كما هو حال من عداهم من المنافقين. وسائر الطوائف- وليس هناك الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى لأن الثبات على الإيمان والإحداث فردان من مطلق الإيمان إلا أن في هذا الوجه ضم المخلصين إلى الكفرة، وفيه إخلال بتكريمهم، وربما يقال: إن فائدة ذلك المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام وتمام الكلام قد مر في آية البقرة فليراجع لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم، وجعله بعضهم متعلقا بما افتتح الله تعالى به السورة، وهو قوله سبحانه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: ١] ولا يخفى بعده.
والمراد بالميثاق المأخوذ العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم عليهم في الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وابتاعه فيما يأتي ويذر، أو في التوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة.
368
وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ذوي عدد كثير، وأولي شأن خطير، يعرفونهم ذلك ويتعهدونهم بالعظة والتذكير ويطلعونهم على ما يأتون ويذرون في دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ أي بما لا تميل إليه من الشرائع ومشاق التكاليف، والتعبير بذلك دون بما تكرهه أنفسهم للمبالغة في ذمهم، وكلمة كُلَّما كما قال أبو حيان: منصوبة على الظرفية لإضافتها إلى ما المصدرية الظرفية وليست كلمة شرط، وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول، ووجه ذلك السفاقسي بأن تسميتها شرطا لاقتضائها جوابا كالشرط الغير الجازم فهي مثل- إذا- ولا بعد فيه، وجوابها- كما قيل- قوله تعالى: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ.
وقيل: الجواب محذوف دل عليه المذكور، وقدره ابن المنير استكبروا لظهور ذلك في قوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً [البقرة: ٨٧] إلخ، والبعض ناصبوه لأنه أدخل في التوبيخ على ما قابلوا به مجيء الرسول الهادي لهم، وأنسب بما وقع في التفصيل مستقبحا غاية الاستقباح، وهو القتل على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، فإن الاستكبار إنما يفضى إليه بواسطة المناصبة، وأما في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار نظرا إليه في نفسه لاقتضاء المقام، وادعى بعضهم أن في الإتيان بالفاء في آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة كأنه قيل: استكبرتم فناصبتم فَفَرِيقاً إلخ، وفيه نظر، والجملة حينئذ استئناف لبيان الجواب، وجعل الزمخشري هذا القول متعينا لأن الكلام تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل، أي- كلما جاءهم رسول من الرسل- والمذكور بقوله سبحانه: فَرِيقاً كَذَّبُوا إلخ يقتضي أن الجائي في كل مرة فريقان فبينهما تدافع، وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لا يحسن في مثل هذا المقام تقديم المفعول مثل- إن أكرمت أخي، أخاك أكرمت- لأنه يشعر بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع في المفعول، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل، ولأن تقديم المفعول على ما قيل: يوجب الفاء إما لجعله الفعل بعيدا عن المؤثر فيحوجه إلى رابط، وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفتقرة إلى الفاء، وقيل: فيه مانع آخر لأن المعنى على أنهم كلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لا كلاهما، فلو كان جوابا لكان الظاهر أو بدل الواو، ومن جعل الجملة جوابا لم ينظر إلى هذه الموانع، قال بعض المحققين: أما الأول فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق، وقيل: المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير ويؤيده كُلَّما الدالة على الكثرة، وأما الثاني فلأنه لا يقتضي قواعد العربية مثله، وما ذكر من الوجوه أوهام لا يلتفت إليها ولا يوجد مثله في كتب النحو، ومنه يعلم دفع الأخير، وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر الغفلة عن مثل هذا، وقد قال في شرح التسهيل: ويجوز أن ينطلق خيرا يصب- خلافا للفراء- فقال شراحه: أجاز سيبويه، والكسائي تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه، وأنشد الكسائي:
وللخير أيام فمن يصطبر لها ويعرف لها أيامها الخير يعقب
تقديره يعقب الخير، ومنع ذلك الفراء مع بقاء الجزم، وقال: بل يجب الرفع على التقديم والتأخير أو على إضمار الفاء، وتأول البيت بأن الخير صفة للأيام، كأنه قال: أيامها الصالحة.
واختار ابن مالك هذا المذهب في بعض كتبه، ولما رأى الزمخشري اشتراك المانع بين الشرط الجازم وما في معناه مال إليه خصوصا، وقوة المعنى تقتضيه فهو الحق انتهى.
والجملة الشرطية صفة رُسُلًا والرابط محذوف أي رسول منهم، وإلى هذا ذهب جمهور المعربين.
واختار مولانا شيخ الإسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل كأنه قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟ فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم
369
المنهمكة في الغي والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه، واعترض رحمه الله تعالى على ما ذهب إليه الجمهور من القول بالوصفية بأنه لا يساعده المقام لأن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم، ويجعل عنوانا للموصوف وتتمة له، ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب له، ومن هنا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها إخبار والإخبار بعد العلم بها أوصاف، ولا ريب في أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسل عرضة للقتل والتكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه أرسل إليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة انتهى.
وتعقبه الشهاب بأنه تخيل لا طائل تحته، فإن قوله سبحانه: ولَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلخ مسوق لبيان جناياتهم والنعي عليهم بذلك كما اعترف به المعترض وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة التي هي مرمى النظر كما في سائر القيود، وأما كونها معلومة فلا ضير فيه فإنك إذا وبخت شخصا، وقلت له: فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل لا يضر ذلك في تقريعه وتعييره بل هو أقوى- كما لا يخفى- على الخبير بأساليب الكلام، فلا تلتفت إلى مثل هذه الأوهام انتهى، ولا يخفى ما في قوله، وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة إلخ من المنع الظاهر، وكذا جعل ما نحن فيه نظير قولك لشخص تريد توبيخه: فعلت كيت وكيت- وهو أعلم بما فعل- فيه خفاء، والذي يحكم به الإنصاف بعد التأمل جواز الأمرين، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى فتأمل وأنصف.
والتعبير- بيقتلون- مع أن الظاهر قتلوا ككذبوا لاستحضار الحال الماضية من أسلافهم للتعجيب منها ولم يقصد ذلك في التكذيب لمزيد الاهتمام بالقتل، وفي ذلك أيضا رعاية الفواصل، وعلل بعضهم التعبير بصيغة المضارع فيه، بالتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر فهم بعد يحومون حول قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واقتصر البعض على قصد حكاية الحال لقرينة ضمائر الغيبة، وتقديم فَرِيقاً في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي ظن بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى مما فعلوا بلاء وعذاب لزعمهم- كما قال الزجاج- أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه أو لإمهال الله تعالى لهم أو لنحو ذلك، وعن مقاتل تفسير الفتنة بالشدة والقحط، والأولى حملها على العموم، وعلى التقديرين ليس المراد منها معناها المعروف.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «أن لا تكون» بالرفع على أن «أن» هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فخفف «أن» وحذف ضمير الشأن- وهو اسمها- وتعليق فعل الحسبان بها، وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته، و «أن» بما في حيزها سادّ مسد مفعوليه، وقيل: إن «حسب» هنا بمعنى علم، و «أن» لا تخفف إلا بعد ما يفيد اليقين، وقيل: إن المفعول الثاني محذوف أي وحسبوا عدم الفتنة كائنا، ونقل ذلك عن الأخفش، وتَكُونَ على كل تقدير تامة، وقوله تعالى: فَعَمُوا عطف على حَسِبُوا والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد. وعموا عن الدين بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه وبينوا لهم مناهجه وَصَمُّوا عن استماع الحق الذي ألقوه إليهم، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيا، وقيل: حبسوا أرميا عليهما السلام ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بختنصر أسارى في غاية الذل والمهانة، فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم وتراجع من تفرق منهم في الأكناف فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه، وقيل:
لما ورث بهمن بن أسفنديار الملك من جده كاسف ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام، وملك
370
عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء: ٦] ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى، وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام، وجعل الزمخشري العمى والصمم أولا إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل، وثانيا إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية، وفيه أن عبادة العجل وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى عليه السلام، ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار، وكذا القول- على زعمه- في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى عليه السلام حين توجه للمناجاة، وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها وحمل ثُمَّ للتراخي الرتبي دون الزماني مما لا ضرورة إليه، وقيل: إن العمى والصمم أولا إشارة إلى ما كان في زمن زكريا ويحيى عليهما السلام، وثانيا إشارة إلى ما كان في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم من الكفر والعصيان، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع فلا يبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولا يلتفت إلى معجزاته، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى، وقرىء عَمُوا وَصَمُّوا بالضم على تقدير عماهم الله تعالى وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك، وقوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير في الفعلين، وقيل: هو فاعل والواو علامة الجمع لا ضمير، وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة- بأكلوني البراغيث- أو هو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصم كثير منهم.
وقيل: أي العمى والصمم كثير منهم أي صادر ذلك منهم كثيرا وهو خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره، وضعف بأن الخبر الفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل، ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميرا مستترا إذ لا التباس فيما إذا كان بارزا، والتباسه بالفاعل في لغة- أكلوني البراغيث- لم يعتبروه مانعا لأن تلك اللغة ضعيفة لا يلتفت إليها، ومن هنا صرح النحاة بجواز التقديم في مثل الزيدان قاما لكن صرحوا بعدم جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدا للفاعل، نحو- أنا قمت- فإن أنا لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل، وما نحن فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر أعني البدل فتدبر، وإنما قال سبحانه: كَثِيرٌ مِنْهُمْ لأن بعضا منهم لم يكونوا كذلك وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بما عملوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة مع ما في ذلك من رعاية الفواصل، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفي بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل، ولا يخفى موقع بَصِيرٌ هنا مع قوله سبحانه: عَمُوا. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ شروع في تفصيل قبائح النصارى، وإبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود، وقائل ذلك: طائفة منهم كما روي عن مجاهد، وقد أشبعنا الكلام على تفصيل أقوالهم وطوائفهم فيما تقدم فتذكر وَقالَ الْمَسِيحُ حال من فاعل قالُوا بتقدير قد مفيدة لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به، أي قالوا ذلك، «و- قد- قال المسيح» عليه السلام مخاطبا لهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فإني مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي شيئا في عبادته سبحانه، أو فيما
371
يختص به من الصفات والأفعال- كنسبة علم الغيب وإحياء الموتى بالذات- إلى عيسى عليه السلام فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ لأنها دار الموحدين، والمراد يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم، فالتحريم مجاز مرسل، أو استعارة تبعية للمنع إذ لا تكليف ثمة، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتهويل الآمر وتربية المهابة وَمَأْواهُ النَّارُ فإنها المعدة للمشركين، وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب إثر بيان حرمانهم الثواب، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضي لإدخاله النار وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار: وإدخالهم الجنة، إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة، والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين.
وقيل: ليعلم نفي الناصر من باب أولى لأنه إذا لم ينصرهم الجم الغفير، فكيف ينصرهم الواحد منهم؟!.
وقيل: إن ذلك جار على زعمهم أن لهم أنصارا كثيرة، فنفي ذلك تهكما بهم، واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى من كما أن إفراد الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، وإما للجنس وهم يدخلون فيه دخولا أوليا، ووضعه على الأول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك، وعدلوا عن طريق الحق، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام، وإما وارد من جهته تعالى تأكيدا لمقالته عليه السلام وتقريرا لمضمونها لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ شروع في بيان كفر طائفة أخرى منهم، وقد تقدم لك من هم، وثالِثُ ثَلاثَةٍ لا يكون إلا مضافا كما قال الفراء، وكذا- رابع أربعة- ونحوه، ومعنى ذلك أحد تلك الأعداد لا الثالث والرابع خاصة، ولو قلت: ثالث اثنين ورابع ثلاثة مثلا جاز الأمران: الإضافة والنصب.
وقد نص على ذلك الزجاج أيضا، وعنوا بالثلاثة- على ما روي عن السدي- الباري عز اسمه، وعيسى وأمه عليهما السلام فكل من الثلاثة إله بزعمهم، والإلهية مشتركة بينهم، ويؤكده قوله تعالى للمسيح عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: ١١٦]، وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أي والحال أنه ليس في الموجودات ذات واجب مستحق للعبادة- لأنه مبدأ جميع الموجودات- إِلَّا إِلهٌ موصوف بالوحدة متعال عن قبول الشركة بوجه، إذ التعدد يستلزم انتفاء الألوهية- كما يدل عليه برهان التمانع- فإذا نافت الألوهية مطلق التعدد، فما ظنك بالتثليث؟ ومِنْ مزيدة للاستغراق كما نص على ذلك النحاة، وقالوا في وجهه: لأنها في الأصل مِنْ الابتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهي، فأصل لا رجل: لا مِنْ رجل إلى ما لا نهاية له.
وهذا حاصل ما ذكره صاحب الإقليد في ذلك، وقيل: إنهم يقولون، الله سبحانه جوهر واحد، ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، ويعنون بالأول الذات، وقيل: الوجود وبالثاني العلم، وبالثالث الحياة، وإن منهم من قال بتجسمها، فمعنى قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ لا إله بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه التي يزعمونها، وقد مرّ تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه، فارجع إن أردت ذلك إليه وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ أي إن لم يرجعوا عما هم عليه إلى خلافه، وهو التوحيد والإيمان لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب قسم محذوف سادّ مسد جواب الشرط- على ما قاله أبو البقاء- والمراد من الذين كفروا إما الثابتون على الكفر- كما اختاره الجبائي والزجاج- وإما النصارى كما قيل، ووضع الموصول موضع ضميرهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر، و «من» على هذا بيانية، وعلى الأول تبعيضية، وإنما جيء بالفعل المنبئ عن الحدوث تنبيها على أن الاستمرار عليه- بعد ورود ما ورد مما يقتضى القلع عنه- كفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر، والاستفهام في قوله تعالى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ للإنكار، وفيه تعجيب من إصرارهم أو عدم مبادرتهم
372
إلى التوبة، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقوال الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى الحق ويستغفروه بتنزيهه تعالى عما نسبوه إليه عز وجل، أو يسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا، والجملة في موضع الحال، وهي مؤكدة للإنكار والتعجيب، والإظهار في موضع الإضمار لما مر غير مرة.
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ استئناف مسوق لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه، وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه بالإشارة أولا إلى ما امتازوا به من نعوت الكمال حتى صارا من أكمل أفراد الجنس، وآخرا إلى الوصف المشترك بينهما وبين أفراد البشر، بل أفراد الحيوانات، وفي ذلك استنزال لهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار، وإرشاد إلى التوبة والاستغفار أي هو عليه السلام مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها إلى ما يزعم النصارى فيه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله سبحانه: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
صفة رسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية، فإن خلو الرسل قبله منذر بخلوه، وذلك مقتض لاستحالة الألوهية أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية قبله خصه الله تعالى ببعض الآيات كما خص كلا منهم ببعض آخر منها، ولعل ما خص به غيره أعجب وأغرب مما خصه به، فإنه عليه الصلاة والسلام إن أحيا من مات من الأجسام التي من شأنها الحياة، فقد أحيا موسى عليه الصلاة والسلام الجماد، وإن كان قد خلق من غير أب، فآدم عليه الصلاة والسلام قد خلق من غير أب وأم، فمن أين لكم وصفه بالألوهية؟! وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي وما أمه أيضا إلا كسائر النساء اللواتي يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به، فمن أين لكم وصفها بما عرى عنه أمثالها؟! والمراد بالصدق هنا صدق حالها مع الله تعالى، وقيل: صدقها في براءتها مما رمتها به اليهود، والمراد بالتصديق تصديقها بما حكى الله تعالى عنها بقوله سبحانه: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ [التحريم: ١٢].
وروي هذا عن الحسن، واختاره الجبائي، وقيل: تصديقها بالأنبياء، والصيغة كيفما كانت للمبالغة- كشريب ورجح كونها من الصدق بأن القياس في صيغ المبالغة الأخذ من الثلاثي لكن ما حكي ربما يؤيد أنها من المضاعف، والحصر الذي أشير إليه مستفاد من المقام والعطف- كما قال العلامة الثاني- وتوقف في ذلك بعضهم، وليس في محله، واستدل بالآية من ذهب إلى عدم نبوة مريم عليها السلام، وذلك أنه تعالى شأنه إنما ذكر في معرض الإشارة إلى بيان أشرف ما لها الصديقية، كما ذكر الرسالة لعيسى عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك المعرض، فلو كان لها عليها السلام مرتبة النبوة لذكرها سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك، نعم الأكثرون على أنه ليس بين النبوة والصديقية مقام، وهذا أمر آخر لا ضرر له فيما نحن بصدده كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ استئناف لا موضع له من الإعراب مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر، بل أفراد الحيوان في الاحتياج إلى ما يقوم به البدن من الغذاء، فالمراد من- أكل الطعام- حقيقته، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقيل: هو كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض، وهذا أمرّ ذوقا في أفواه مدعي ألوهيتهما لما في ذلك مع الدلالة على الاحتياج المنافي للألوهية بشاعة عرفية، وليس المقصود سوى الرد على النصارى في زعمهم المنتن واعتقادهم الكريه، قيل: والآية في تقديم ما لهما من صفات الكمال، وتأخير ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية على منوال قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] حيث قدم سبحانه العفو على المعاتبة له صلّى الله عليه وسلّم لئلا توحشه مفاجأته بذلك، وقوله تعالى:
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ تعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بين
373
لهم حقيقة الحال بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب، والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، أو لكل من له أهلية ذلك، وكَيْفَ معمول- لنبين- والجملة في موضع النصب معلقة للفعل قبلها، والمراد من الْآياتِ الدلائل أي- انظر كيف نبين لهم الدلائل- القطعية الصادعة ببطلان ما يقولون.
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء استعدادهم وخباثة نفوسهم، والكلام فيه كما مر فيما قبله، وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، وثُمَّ لإظهار ما بين العجبين من التفاوت، أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغ لأقصى الغايات من التحقيق والإيضاح، وإعراضهم عنها- مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب قبولها- أعجب وأبدع، ويجوز أن تكون على حقيقتها، والمراد منها بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده، أي إنهم مع طول زمان ذلك لا يتأثرون، ويُؤْفَكُونَ.
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أمر بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم، والمراد بما لا يملك عيسى، أو هو وأمه عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أتعبدون شيئا لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله تعالى من البلايا والمصائب والصحة والسعة، أو أتعبدون شيئا لا استطاعة له أصلا، فإن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله تعالى وإقداره عليه لا بالذات، وإنما قال سبحانه: مَا نظرا إلى ما عليه المحدث عنه في ذاته، وأول أمره وأطواره توطئة لنفي القدرة عنه رأسا، وتنبيها على أنه من هذا الجنس، ومن كان بينه وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلها، وقيل: إن المراد بما كل ما عبد من دون الله تعالى- كالأصنام وغيرها- فغلب ما لا يعقل على من يعقل تحقيرا، وقيل: أريد بها النوع كما في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣].
وقيل: يمكن أن يكون المراد الترقي من توبيخ النصارى على عبادة عيسى عليه الصلاة والسلام إلى توبيخهم على عبادة الصليب- فما- على بابها، ولا يخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الخير، وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح لما مرّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله سبحانه وتعالى:
وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ في موضع الحال من فاعل أَتَعْبُدُونَ مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد، والواو هو الواو، أي أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه ما لا يقدر على شيء ولا تخشونه، والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة، وقد يقال: المعنى أَتَعْبُدُونَ العاجز وَاللَّهُ هُوَ الذي يصح أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر على كل شيء، ومنه الضر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وفرق بين الوجهين بأن ما على هذا الوجه للتحقير، والوصفية على هذا الوجه على معنى أن العدول إلى المبهم استحقار إلا أن ما للوصف والحال مقررة لذلك، وعلى الأول للتحقير المجرد، والحال كما علمت فافهم قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقي أهل الكتاب بإرادة الجنس من المحلى بأل على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم.
واختار الطبرسي كونه خطابا للنصارى خاصة لأن الكلام معهم لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تجاوزوا الحدّ، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما تقولوا في حقه من العظيمة، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ما انتحلوه لها عليها السلام، ونهي لليهود على تقدير دخولهم في الخطاب عن وضعهم له عليه السلام، وكذا لأمه عن الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الشنيع، وذكرهم بعنوان أهل الكتاب
374
للإيماء إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن الغلو في دينهم غَيْرَ الْحَقِّ نصب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق- أي باطلا- وتوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون إلا غير الحق على ما قاله الراغب، وقال بعض المحققين: إنه للتقييد، وما ذكره الراغب غير مسلم، فإن الغلو قد يكون غير حق، وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية.
وفي الكشاف الغلو في الدين غلوان: حق- وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعله المتكلمون من أهل العدل والتوحيد- وغلو باطل- وهو أن يجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل الأهواء والبدع- انتهى، وقد يناقش فيه على ما فيه من الغلو في التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد، ولا مجاوزة عنه ما لم يخرج عن الدين، وما ذكر ليس خروجا عنه حتى يكون غلوا، وجوز أن يكون غَيْرَ حالا من ضمير الفاعل أي لا تَغْلُوا مجاوزين الحق، أو من دينكم أي لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ حال كونه باطلا منسوخا ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هو نصب على الاستثناء المتصل أو المنقطع وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وهم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في شريعتهم،- والأهواء- جمع هوى وهو الباطل الموافق للنفس، والمراد لا توافقوهم في مذاهبهم الباطلة التي لم يدع إليها سوى الشهوة ولم تقم عليها حجة وَأَضَلُّوا كَثِيراً أي أناسا كثيرا ممن تابعهم ووافقهم فيما دعوا إليه من البدعة والضلالة، أو إضلالا كثيرا، والمفعول به حينئذ محذوف وَضَلُّوا عند بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووضوح محجة الحق وتبين مناهج الإسلام عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي قصد السبيل الذي هو الإسلام، وذلك حين حسدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذبوا وبغوا عليه، فلا تكرار بين ضَلُّوا هنا وضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، والظاهر أن عَنْ متعلقة بالأخير، وجوز أن تكون متعلقة بالأفعال الثلاثة، ويراد- بسواء السبيل- الطريق الحق، وهو بالنظر إلى الأخير دين الإسلام، وقيل: في الإخراج عن التكرار أن الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، والثاني إلى ضلالهم عما جاء به الشرع، وقيل: إن ضمير ضَلُّوا الأخير عائد على- الكثير- لا على قَوْمٍ والفعل مطاوع للإضلال، أي- إن أولئك القوم أضلوا كثيرا من الناس، وأن أولئك الكثير قد ضلوا بإضلال أولئك لهم- فلا تكرار، وقيل: أيضا قد يراد- بالضلال- الأول الضلال بالغلو في الرفع والوضع مثلا وكذا بالإضلال، ويراد- بالضلال عن سواء السبيل- الضلال عن واضحات دينهم وخروجهم عنه بالكلية، وقال الزجاج: المراد بالضلال الأخير ضلالهم في الإضلال أي- إن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم لغيرهم- كقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: ٢٥]، ونقل هذا- كالقيل الأول- عن الراغب، وجوز أيضا أن يكون قوله سبحانه وتعالى: عَنْ سَواءِ متعلقا ب قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ إلا أنه لما فصل بينه وبين ما يتعلق به أعيد ذكره، كقوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمران: ١٨٨] ولعل ذم القوم على ما ذهب إليه الجمهور أشنع من ذمهم على ما ذهب إليه غيرهم، والله تعالى أعلم بمراده لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي لعنهم الله تعالى، وبناء الفعل لما لم يسم فاعله للجري على سنن الكبرياء، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من فاعل كَفَرُوا، وقوله سبحانه وتعالى: عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ متعلق- بلعن- أي لعنهم جل وعلا في الإنجيل والزبور على لسان هذين النبيين عليهما السلام بأن أنزل سبحانه وتعالى فيهما- ملعون من يكفر من بني إسرائيل بالله تعالى أو أحد من رسله عليهم السلام، وعن الزجاج أن المراد أن داود وعيسى عليهما الصلاة والسلام أعلما بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبشرا به وأمرا باتباعه ولعنا من كفر به من بني
375
إسرائيل، والأول أولى، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل:
إن أهل إيلة لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين، فمسخهم الله تعالى قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا قال عيسى عليه الصلاة والسلام: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي، وروي هذا القول عن الحسن ومجاهد وقتادة، وروي مثله عن الباقر رضي الله تعالى عنه،
واختاره غير واحد، والمراد باللسان الجارحة، وإفراده أحد الاستعمالات الثلاث المشهورة في مثل ذلك، وقيل: المراد به اللغة ذلِكَ أي اللعن المذكور، وإيثار الإشارة على الضمير للإشارة إلى كمال ظهوره وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما في ذلك من البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول بِما عَصَوْا أي بسبب عصيانهم، والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا عن المبتدأ قبله، والجملة استئناف واقع موقع الجواب عما نشأ من الكلام، كأنه قيل: بأي سبب وقع ذلك؟ فقيل: ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب عصيانهم، وقوله تعالى: وَكانُوا يَعْتَدُونَ يحتمل أن يكون معطوفا على عَصَوْا فيكون داخلا في حيز السبب، أي وبسبب اعتدائهم المستمر، وينبئ عن إرادة الاستمرار الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل.
وادعى الزمخشري إفادة الكلام حصر السبب فيما ذكر، أي بسبب ذلك لا غير، ولعله- كما قيل- استفيد من العدول عن الظاهر، وهو تعلق بِما عَصَوْا بلعن دون ذكر اسم الإشارة، فلما جيء به استحقارا لذلك اللعن وجوابا عن سؤال الموجب دل على أن مجموعه بهذا السبب لا بسبب آخر، وقيل: استفيد من السببية لأن المتبادر منها ما في ضمن السبب التام وهو يفيد ذلك، ولا يرد على الحصر أن كفرهم سبب أيضا- كما يشعر به أخذه في حيز الصلة- لأن ما ذكر في حيز السببية هنا مشتمل على كفرهم أيضا، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء، وتجاوز الحد في العصيان، وقوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ مؤذن باستمرار الاعتداء فإنه استئناف مفيد لاستمرار عدم التناهي عن المنكر، ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطي المنكرات، وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل منهم الآخر عما يفعله من المنكر- كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل- بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير أن يكون كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا، كما في تراؤوا الهلال، وقيل: التناهي بمعنى الانتهاء من قولهم: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع، فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء، ومفيدة لاستمرارهما صريحا، وعلى الأول إنما تفيد استمرار انتفاء النهي عن المنكر ومن ضرورته استمرار فعله، وعلى التقديرين لا تقوى هذه الجملة احتمال الاستئناف فيما سبق خلافا لأبي حيان.
والمراد بالمنكر قيل: صيد السمك يوم السبت، وقيل: أخذ الرشوة في الحكم، وقيل: أكل الربا وأثمان الشحوم، والأولى أن يراد به نوع المنكر مطلقا، وما يفيده التنوين وحدة نوعية لا شخصية، وحينئذ لا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي، أو الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أنه لو جعل المضي في فَعَلُوهُ بالنسبة إلى زمن الخطاب لا زمان النهي لم يبق في الآية إشكال، ولما غفل بعضهم عن ذلك قال: إن الآية مشكلة لما فيها من ذم القوم بعدم النهي عما وقع مع أن النهي لا يتصور فيه أصلا، وإنما يكون عن الشيء قبل وقوعه، فلا بد من تأويلها بأن المراد النهي عن العود إليه، وهذا إما بتقدير مضاف قبل مُنكَرٍ أي معاودة منكر، أو بفهم من السياق، أو بأن المراد فعلوا مثله، أو بحمل فَعَلُوهُ على أرادوا فعله، كما في قوله سبحانه: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النحل: ٩٨].
376
واعترض الأول بأن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول، فلا بد من المصير إلى أحد الأمرين الأخيرين، وفيهما من التعسف ما لا يخفى، وقيل: إن الإشكال إنما يتوجه لو لم يكن الكلام على حد قولنا: كانوا لا ينهون يوم الخميس عن منكر فعلوه يوم الجمعة مثلا، فإنه لا خفاء في صحته، وليس في الكلام ما يأباه، فليحمل على نحو ذلك، وقوله سبحانه: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تقبيح لسوء فعلهم وتعجيب منه، والقسم لتأكيد التعجيب، أو للفعل المتعجب منه، وفي هذه الآية زجر شديد لمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله تعالى أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم»،
وأخرج أحمد عن عدي بن عميرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى الخاصة والعامة»،
وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «والذي نفس محمد صلّى الله عليه وسلّم بيده ليخرجن من أمتي أناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون»
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها ترهيب عظيم، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبئهم به تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من تصح منه الرؤية، وهي هنا بصرية، والجملة الفعلية بعدها في موضع الحال من مفعولها لكونه موصوفا، وضمير مِنْهُمْ لأهل الكتاب أو لبني إسرائيل، واستظهره في البحر، والمراد من الكثير- كعب بن الأشرف وأصحابه- ومن الَّذِينَ كَفَرُوا مشركو مكة وقد روي أن جماعة من اليهود خرجوا إلى مكة ليتفقوا مع مشركيها على محاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فلم يتم لهم ذلك.
وروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن المراد من الَّذِينَ كَفَرُوا الملوك الجبارون
أي ترى كثيرا منهم- وهم علماؤهم- يوالون الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم، وهذا في غاية البعد، ولعل نسبته إلى الباقر رضي الله تعالى عنه غير صحيحة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والحسن ومجاهد أن المراد من- الكثير- منافقو اليهود، ومن الَّذِينَ كَفَرُوا مجاهروهم، وقيل: المشركون لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي لبئس شيئا فعلوه في الدنيا ليردوا على جزائه في العقبى أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هو المخصوص بالذم على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد، ومبالغة في الذم أي بئس ما قدموا لمعادهم موجب سخط الله تعالى عليهم، وإنما اعتبروا المضاف لأن نفس سخط الله تعالى شأنه باعتبار إضافته إليه سبحانه ليس مذموما بل المذموم ما أوجبه من الأسباب على أن نفس السخط مما لم يعمل في الدنيا ليرى جزاؤه في العقبى كما لا يخفى، وفي إعراب المخصوص بالذم، أو المدح أقوال شهيرة للمعربين، واختار أبو البقاء كون المخصوص هنا خبر مبتدأ محذوف تنبئ عنه الجملة المتقدمة، كأنه قيل: ما هو، أو أي شيء هو؟
فقيل هو أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ونقل عن سيبويه أنّ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ مرفوع على البدل من المخصوص بالذم، وهو محذوف، وجملة قَدَّمَتْ صفته، وما اسم تام معرفة في محل رفع بالفاعلية لفعل الذم، والتقدير لبئس الشيء شيء قدمته لهم أنفسهم سخط الله تعالى، وقيل: إنه في محل رفع بدل من ما إن قلنا: إنها معرفة فاعل لفعل الذم، أو في محل نصب منها إن كانت تمييزا، واعترض بأن فيه إبدال المعرفة من النكرة، وقيل: إنه على تقدير الجار، والمخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لأن سخط الله تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ أي عذاب جهنم هُمْ خالِدُونَ أبد الآبدين، والجملة في موضع الحال وهي متسببة عما قبلها، وليست داخلة في حيز الحرف
377
المصدري إعرابا كما توهمه عبارة البعض، وتعسف لها عصام الملة بجعل- أن- مخففة عاملة في ضمير الشأن بتقدير أنه سخط الله تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ، وجوز أيضا أن تكون هذه الجملة معطوفة على ثاني مفعولي تَرى بجعلها علمية أي تعلم كثيرا منهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ويخلدون في النار، وكل ذلك مما لا حاجة إليه، وَلَوْ كانُوا أي الذين يتولون المشركين يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ أي نبيهم موسى عليه السلام وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التوراة، وقيل: المراد- بالنبي- نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وبما أُنْزِلَ القرآن، أي لو كان المنافقون يؤمنون بالله تعالى ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم إيمانا صحيحا مَا اتَّخَذُوهُمْ أي المشركين أو اليهود المجاهرين أَوْلِياءَ، فإن الإيمان المذكور وازع عن توليهم قطعا وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون عن الدين، أو متمردون في النفاق مفرطون فيه.
378

بسم الله الرحمن الرحيم

3
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود، وأكدت بالقسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم وإما لكل أحد يصلح له إيذانا بأن حالهم مما لا تخفى على أحد من الناس. والوجدان متعد لاثنين أولهما أَشَدَّ وثانيهما اليهود وما عطف عليه كما قال أبو البقاء، واختار السمين العكس لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر ومحط الفائدة هو الخبر ولا ضير في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وهو هنا واضح إذ المقصود بيان كون الطائفتين أشد الناس عداوة للمؤمنين لا كون أشدهم عداوة لهم الطائفتين المذكورتين فليفهم. وعَداوَةً تمييز، واللام الداخلة على الموصول متعلقة بها مقوية لعملها. ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء لأنها مبنية عليه كرهبة عقابك، وجوز أبو البقاء والسمين تعلقها بمحذوف وقع صفة لها أي عداوة كائنة للذين آمنوا، والظاهر أن المراد من اليهود العموم لمن كان بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من يهود المدينة وغيرهم. ويؤيده ما
أخرجه أبو الشيخ. وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله» وفي لفظ «إلا حدث نفسه بقتله»
وقيل: المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد.
وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم الذين أشركوا، والمراد من الناس كما قال أبو حيان الكفار أي لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء ووصفهم سبحانه بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء عليهم السلام والاجتراء على تكذيبهم ومناصبتهم. وقد قيل: إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى كان، وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة: ٩٦] إيذانا بتقدمهم عليهم في الحرص.
وقيل: التقديم لكون الكلام في تعديد قبائحهم، ولعل التعبير بالذين أشركوا دون المشركين مع أنه أخصر للمبالغة في الذم. وقيل: ليكون على نمط لِلَّذِينَ آمَنُوا والتعبير به دون المؤمنين لأنه أظهر في علية ما في حيز الصلة، وأعيد الموصول مع صلته في قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا روما لزيادة التوضيح والبيان، والتعبير بقوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى دون النصارى إشعارا بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله تعالى وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام.
وقال ابن المنير: لم يقل سبحانه النصارى كما قال جل شأنه اليهود تعريضا بصلابة الأولين في الكفر والامتناع عن الانقياد لأن اليهود لما قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: ٢٤] والنصارى لما قيل لهم من أنصاري إلى الله؟ قالوا: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: ٥٢، الصف: ١٤] وكذلك أيضا ورد في أول السورة في قوله عز وجل وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: ١٤] لكن ذكر هاهنا تنبيها على انقيادهم وأنهم لم يكافحوا الأمر بالرد مكافحة اليهود. وذكر هناك تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق والله تعالى أعلم بأسرار كلامه والعدول كما قال شيخ الإسلام عن جعل ما فيه التفاوت بين الفريقين شيئا واحدا قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخرا: ولتجدن أضعفهم مودة إلخ، أو بأن يقال أولا: لتجدن أبعد الناس مودة للإيذان بكمال تباين ما بين الفريقين من التفاوت ببيان أن أحدهما في أقصى مراتب أحد النقيضين والآخر في أقرب مراتب النقيض الآخر والكام في مفعولي لَتَجِدَنَّ وتعلق اللام كالذي سبق، والمراد من النصارى على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: وابن جبير، وعطاء، والسدي النجاشي، وأصحابه.
4
وعن مجاهد أنهم الذين جاؤوا مع جعفر رضي الله تعالى عنه مسلمين وهم سبعون رجلا اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرى الراهب، وأبرهة، وإدريس، وأشرف، وتمام، وقثم، ودريد، وأيمن، والظاهر العموم على طرز ما تقدم ذلِكَ أي كونهم أقرب مودة للذين آمنوا بِأَنَّ مِنْهُمْ أي بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم. والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب، وقيل: القس مثلث الفاء تتبع الشيء وطلبه ومنه سمي عالم النصارى قسا بالفتح وقسيسا لتتبعه العلم. وقيل: قص الأثر وقسه بمعنى. وقال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم وقد تكلمت به العرب وأجروه مجرى سائر كلماتهم وقالوا في المصدر قسوسة (١) وقسيسة وفي الجمع قسوس وقسيسون وقساوسة كمهالبة، وكان الأصل قساسسة إلا أنه كثرت السينات فأبدلوا إحداهن واوا. وفي مجمع البيان نقلا عن بعضهم أن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ما ليس منه وبقي من علمائهم واحدا على الحق والاستقامة يقال له قسيسا فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس وَرُهْباناً جمع راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان ومصدره الرهبة والرهبانية، وقيل: إنه يطلق على الواحد والجمع، وأنشد فيه قول من قال:
لو عاينت (٢) رهبان دير في قلل لأقبل الرهبان يعدو ونزل
وجمع الرهبان واحدا كما في القاموس رهابين ورهابنة ورهبانون، والترهب التعبد في صومعة، وأصله من الرهبة المخافة، وأطلق الفيروزابادي. والجوهري التعبد ولم يقيداه بالصومعة،
وفي الحديث «لا رهبانية في الإسلام»
والمراد بها كما قال الراغب الغلو في تحمل التعبد في فرط الخوف. وفي النهاية هي من رهبنة النصارى وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب فنفاها النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإسلام ونهى المسلمين عنها، وهي منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف والرهبنة فعلنة أو فعللة على تقدير أصالة النون وزيادتها، والتنكير في رُهْباناً لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضا إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها وإلا فمن اليهود أيضا قوم مهتدون لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود.
وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود، وهذه الخصلة على ما قيل شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيتها لأقربيتهم مودة للمؤمنين واضحة. وفي الآية دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كان وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ عطف على لا يَسْتَكْبِرُونَ وإِذا في موضع نصب بتري، وجملة تَفِيضُ في موضع الحال والرؤية بصرية أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأنهم إذا سمعوا القرآن رأيت أعينهم فائضة من الدمع، وجوز السمين وغيره الاستئناف، وأيّا ما كان فهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه. والظاهر عود ضمير سَمِعُوا للذين قالوا إنا نصارى.
وقد تقدم أن الظاهر فيه العموم، وقيل: يتعين هنا إرادة البعض، وهو من جار من الحبشة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن كل
(١) قوله وقسيسة كذا بخط مؤلفه تبعا للقاموس والذي في شرحه ان الصواب قسيسية كما نص عليه الليث.
(٢) قوله لو عاينت كذا بخط مؤلفه والمعروف من كتب اللغة لو كلمت.
5
النصارى ليسوا كذلك، والفيض انصباب عن امتلاء، ووضع هنا موضع الامتلاء بإقامة المسبب مقام السبب أي تمتلىء من الدمع أو قصد المبالغة فجعلت أعينهم بأنفسها تفيض من أجل الدمع قاله في الكشاف. وأراد على ما في الكشف أن الدمع على الأول هو الماء المخصوص وعلى الثاني الحدث، وهو على الأول مبدأ مادي وعلى الثاني سببي. وفي الانتصاف أن هذه العبارة أبلغ العبارات وهي ثلاث مراتب فالأولى فاض دمع عينه وهذا هو الأصل والثانية محولة من هذه وهي فاضت عينه دمعا فإنه قد حول فيها الفعل إلى العين مجازا ومبالغة ثم نبه على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز، والثالثة ما في النظم الكريم وفيها التحويل المذكور إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح التنبيه على الأصل وعدم نصب التمييز وإبرازه في صورة التعليل، وجوز الزمخشري أن تكون- من- هذه هي الداخلة على التمييز وهو مردود وإن كان الكوفيون ذهبوا إلى جواز تعريف التمييز وأنه لا يشترط تنكيره كما هو مذهب الجمهور لأن التمييز المنقول عن الفاعل يمتنع دخول من عليه وإن كانت مقدرة معه فلا يجوز تفقا زيد من شحم فليفهم مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ مِنَ الأولى لابتداء الغاية متعلقة بمحذوف وقع حالا من الدَّمْعِ أي حال كونه ناشئا من معرفة الحق. وجوز أن تكون تعليلية متعلقة بتفيض أي أن فيض دمعهم بسبب عرفانهم.
وجوز على تقدير كونها للابتداء أن تتعلق بذلك أيضا لكن لا يجوز على تقدير اتحاد متعلق مِنَ هذه ومن في مِنَ الدَّمْعِ القول باتحاد معناهما فإنه لا يتعلق حرفا جر بمعنى بعامل واحد، ومِنَ الثانية للتبعيض متعلقة بعرفوا على معنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوه كله وقرؤوا القرآن وأحاطوا بالسنة، أو لبيان ما بناء على أنها موصولة، ونص أبو البقاء على أنها متعلقة بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف ولم يذكر الاحتمال الأول. وقرىء «ترى أعينهم» على صيغة المبني للمفعول يَقُولُونَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل: ماذا يقولون؟ فأجيب يقولون: رَبَّنا آمَنَّا بما أنزل أو بمن أنزل عليه أو بهما.
وقال أبو البقاء: إنه حال من الضمير في عَرَفُوا، وقال السمين: يجوز الأمران. وكونه حالا من الضمير المجرور في أَعْيُنَهُمْ لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر: ٤٧].
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اجعلنا عندك مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته الذين يشهدون يوم القيامة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلّى الله عليه وسلّم وكتابك كما نقل عن الجبائي وروي ما بمعناه عن الحسن وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ جعله جماعة ومنهم شيخ الإسلام كلاما مستأنفا تحقيقا لإيمانهم وتقريرا له بإنكار سبب انتفائه ونفيه بالكلية على أن لا نُؤْمِنُ حال من الضمير في لَنا والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين والإنكار متوجه إلى السبب والمسبب جميعا كما في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: ٢٢] ونظائره لا إلى السبب فقط مع تحقيق المسبب كما في قوله تعالى فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق: ٢٠] وأمثاله، وقيل: هو معطوف على الجملة الأولى مندرج معها في حيز القول أي يقولون ربنا آمنا إلخ. ويقولون ما لنا لا نؤمن إلخ، وقيل: هو عطف على جملة محذوفة والتقدير ما لكم لا تؤمنون بالله وما لنا لا نؤمن نحن بالله إلخ. وقال بعضهم: إنه جواب سائل قال: لم آمنتم؟ واختاره الزجاج.
واعترض بأن علماء العربية صرحوا بأن الجملة المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر لا تقترن بالواو وذكر علماء المعاني أنه لا بد فيها من الفصل إذ الجواب لا يعطف على السؤال، وأجيب بأن الواو زائدة وقد نقل الأخفش أنها تزاد في الجمل المستأنفة، ولا يخفى أنه لا بد لذلك من ثبت، والحال المذكورة على ما نص عليه الشهاب لازمة لا يتم
6
المعنى بدونها قال: ولذا لا يصح اقترانها بالواو في مالنا وما بالنا لا نفعل كذا لأنها خبر في المعنى وهي المستفهم عنها.
وأنت تعلم أن الاستفهام في نحو هذا التركيب في الغالب غير حقيقي وإنّما هو للإنكار ويختلف المراد منه على ما أشرنا إليه، ومعنى الإيمان بالله تعالى الإيمان بوحدانيته سبحانه على الوجه الذي جاءت به الشريعة المحمدية فإن القوم لم يكونوا موحدين كذلك، وقيل: بكتابه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن الإيمان بهما إيمان به سبحانه والظاهر هو الأول، والإيمان بالكتاب والرسول صلّى الله عليه وسلّم يفهمه العطف فإن الموصول المعطوف على الاسم الجليل يشمل ذلك قطعا. ومِنَ الْحَقِّ على ما ذكره أبو البقاء حال من ضمير الفاعل، وجوز أن تكون من لا بتاء الغاية أي وبما جاءنا من عند الله وأن يكون الموصول مبتدأ ومِنَ الْحَقِّ خبره والجملة في موضع الحال أيضا، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد، وقوله تعالى: وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ حال أخرى عند الجماعة من الضمير المتقدم بتقدير مبتدأ لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيد بها فيتعدد معنى كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ [البقرة: ٢٥] أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين. وهي حال مترادفة ولزوم الأولى لا يخرجها عن الترادف أو حال من الضمير في لا نُؤْمِنُ على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين، وجوز فيه أن يكون معطوفا على نؤمن أو على لا نُؤْمِنُ على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان والطمع في صحبة الصالحين أو على معنى ما لنا لا نجمع بين الإيمان والطمع المذكور بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في تلك الصحبة، وموضع المنسبك من أن وما بعدها إما نصب أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه، والمراد في أن يدخلنا، واختار غير واحد من المعربين أن- نا- مفعول أول ليدخل والمفعول الثاني محذوف أي الجنة، قيل: ولولا إرادة ذلك لقال سبحانه في القوم بدل مع القوم فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أي بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد فإن القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له كما إذا قيل هذا قول فلان لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لإفادة الاعتقاد.
وقيل: إن القول هنا مجاز عن الرأي والاعتقاد والمذهب كما يقال: هذا قول الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مثلا أي هذا مذهبه واعتقاده. وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم: «وما لنا لا نؤمن» إلخ.
واستظهر أبو حيان أنه عنى به قولهم: «ربنا آمنا» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وعطاء أن المراد به «فاكتبنا مع الشاهدين» وقولهم «ونطمع أن يدخلنا ربنا» إلخ، قال الطبرسي: فالقول على هذا بمعنى المسألة وفيه نظر، والإثابة المجازاة، وفي البحر أنها أبلغ من الإعطاء لأنها ما تكون عن عمل بخلاف الإعطاء فإنه لا يلزم فيه ذلك. وقرأ الحسن «فآتاهم الله» جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين وهو حال مقدرة وَذلِكَ المذكور من الأمر الجليل الشأن جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي جزاؤهم، وأقيم الظاهر مقام ضميرهم مدحا لهم وتشريفا بهذا الوصف الكريم، ويحتمل أن يراد الجنس ويندرجون فيه اندراجا أوليا أي جزاء الذين اعتادوا الإحسان في الأمور وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ عطف التكذيب بآيات الله تعالى على الكفر مع أنه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم بمقابلة المصدقين بها ليقترن الوعيد بالوعد وبضدها تتبين الأشياء.
هذا «ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات» يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. ذهب كثير من ساداتنا الصوفية إلى أن هذا أمر منه عز شأنه أن يبلغ رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما أنزله إليه
7
مما يتعلق بأحكام العبودية ولم يأمره جل جلاله بأن يعرف الناس أسرار ما بينه وبينه فإن ذرة من أسراره سبحانه لا تتحملها السماوات والأرض، وهذه الأسرار هي المشار إليها بقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم:
١٠]. ولهذا قال سبحانه ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ولم يقل ما خصصناك به أو ما تعرفنا به إليك.
وقال بعضهم وهو المنصور: إن الموصول عام ويندرج فيه الوحي والإلهامات والمنامات والمشاهدات وسائر المواهب، والرسول صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ كل ذلك إلا أن مراتب التبليغ مختلفة حسب اختلاف الاستعدادات فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالهمة وتبليغ بالجذبة إلى غير ذلك «فسبحان من أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها «والله يعصمك من الناس» بما أودع فيك من أسرار الألوهية فلا يقدرون أن يوصلوا إليك ما يقطعك عن الله تعالى، وقريب من ذلك ما قيل: يعصمك منهم أن يكون لك بهم اشتغال، وقيل: يعصمك من أن ترى لنفسك فيهم شيئا بل ترى الكل منه سبحانه وبه قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ يعتد به حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ فتعطوا الظاهر حقه وتعملوا بالشريعة على الوجه الأكمل مع توحيد الأفعال وَالْإِنْجِيلَ فتعطوا الباطن حقه وتعملوا بالطريقة على الوجه الأتم مع توحيد الصفات «وما أنزل إليكم» فتعطوا الحقيقة حقها وتشاهدوا الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة ولا تحجبكم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة «وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا» لجهلهم به وقلة استعدادهم لمعرفة أسراره.
وعن بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن القرآن المنزل على النبي المرسل صلّى الله عليه وسلّم ذو صفتين: صفة قهر وصفة لطف فمن تجلى له القرآن بصفة اللطف يزيد نور بصيرته بلطائف حكمته وحقائق أسراره ودقائق بيانه ويزيد ذلك نور إيمانه وتوحيده ويعرف بذلك ظاهر الخطاب وباطنه، ومن يتجلى له بصفة القهر تزيد ظلمة طغيانه وينسد عليه باب عرفانه بحيث لا يدرك سر الخطاب فتكثر عليه الشكوك والأوهام، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] وقوله سبحانه يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: ٢٦] وشبه بعضهم ذلك بنور الشمس فإنه ينتفع به من ينتفع ويتضرر به الخفاش ونحوه.
ومن ذلك كتب كثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنه قد هدى بها أرباب القلوب الصافية وضل بها الكثير حتى تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات وعطلوا الشرائع واستحلوا المحرمات وزعموا والعياذ بالله تعالى أن ذلك هو الذي يقتضيه القول بوحدة الوجود التي هي معتقد القوم نفعنا الله تعالى بفتوحاتهم، وقد نقل لي عن بعض من أضله الله تعالى بالاشتغال بكتب القوم ممن لم يقف على حقيقة الحال أنه لا فرق بين أن يدخل الرجل أصبعه في فمه وبين أن يدخل ذكره في فرج محرم لأن الكل واحد، وكذا لا فرق بين أن يتزوج أجنبية وبين أن يتزوج أمه أو بنته أو أخته وهذا كفر صريح عافانا الله تعالى والمسلمين منه، ومنشأ ذلك النظر في كتب القوم من دون فهم لمرادهم وما درى هذا المسكين أن مراعاة المراتب أمر واجب عندهم وإن ترك ذلك زندقة وأنهم قد صرحوا بأن الشريعة مظهر أعظم لأنها مظهر اسم الله تعالى الظاهر وأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى الله تعالى بإهمالها، فقد جاء عن غير واحد من العارفين إن الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإذا رأيتم الرجل يطير في الهواء وقد أخل بحكم واحد من الشريعة فقولوا: إنه زنديق ولله در من قال خطابا للحضرة المحمدية:
وأنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل
ولَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي الْيَهُودَ وذلك لقوة المباينة لأنهم محجوبون عن توحيد الصفات وتوحيد الذات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
كذلك بل هم أشد مباينة منهم
8
للمؤمنين وأقوى لأنهم محجوبون مطلقا، وإنما قدم اليهود عليهم لأن البحث فيهم، وهذا خلاف ما عليه أهل العبارة وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى لأنهم برزوا من حجاب الصفات ولم يبق لهم إلا حجاب الذات، وإلى هذا الإشارة بقوله سبحانه وتعالى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ حيث مدحوا بالعلم والعمل وعدم الاستكبار، وذلك يقتضي أنهم وصلوا إلى توحيد الأفعال والصفات وأنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفة العلم والعمل ولا نسبوا عملهم وعلمهم إليها بل إلى الله تعالى وإلا لاستكبروا وأظهروا العجب وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ من أنواع التوحيد التي من جملتها توحيد الذات تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مما عرفوا بالدليل وبواسطة الرياضة مِنَ الْحَقِّ الذي أنزل إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بذلك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ المعاينين لذلك وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ جمعا وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ تفصيلا وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ الذين استقاموا بالبقاء بعد الفناء «فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار» من التجليات الثلاث مع علومها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله عز وجل «والذين كفروا» أي حجبوا عن الذات «وكذبوا بآياتنا» الدالة على التوحيد «أولئك أصحاب الجحيم» لحرمانهم الكلي واحتجابهم بنفوسهم وصفاتها والله تعالى الموفق.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي لذائذ ذلك وما تميل إليه القلوب منه كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الرهبانية ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقب سبحانه ذلك بالنهي عن الإفراط في هذا الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، وقيل: لا تلتزموا تحريمها بنحو يمين، وقيل: لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم، وكون المعنى لا تحرموها على غيركم بالفتوى والحكم مما لا يلتفت إليه.
فقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس يوما فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم علي كرم الله تعالى وجهه، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن مسعود، وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، وصاحب البيت واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض وهم بعضهم أن يجب مذاكيره. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تنكر إذ سألها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما دخل عثمان فأخبرته بذلك أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه فقال عليه الصلاة والسلام لهم: انبئت أنكم اتفقتم على كذا وكذا قال: نعم يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني لم أؤمر بذلك ثم قال عليه الصلاة والسلام: «إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثم جمع الناس وخطبهم فقال: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع» فأنزل الله تعالى هذه الآية.
9
وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه، وبلال، وعثمان بن مظعون فأما علي كرم الله تعالى وجهه فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلا ما شاء الله تعالى، وأمّا بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبدا. وأما عثمان فإنه حلف أن لا ينكح أبدا.
وروي أيضا غير ذلك ولم نقف على رواية فيها ما يدل على أن هذا التحريم كان على الغير بالفتوى والحكم كما ذهب إليه هذا القائل. ومع هذا يبعده ما يأتي بعد من الأمر بالأكل. لا ينافي هذا النهي أن الله تعالى مدح النصارى بالرهبانية فرب ممدوح بالنسبة إلى قوم مذموم بالنسبة إلى آخرين.
وقوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا تأكيد للنهي السابق أي لا تتعدوا حدود ما أحل سبحانه لكم إلى ما حرم جل شأنه عليكم أو نهي عن تحليل الحرام بعد النهي عن تحريم الحلال فيكون تأسيسا. ويحتمل أن يكون نهيا عن الإسراف في الحلال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، ومجاهد، وقتادة أن المراد لا تجبوا أنفسكم ولا يخفى أن الجب فرد من أفراد الاعتداء وتجاوز الحدود والحمل على الأعم أعم فائدة.
وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في موضع التعليل لما قبله. وقد تقدمت الإشارة إلى أن نفي محبة الله سبحانه لشيء مستلزم لبغضه له لعدم الواسطة في حقه تعالى.
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي كلوا ما أحل لكم وطاب مما رزقكم الله تعالى. فحلالا مفعول به لكلوا ومِمَّا رَزَقَكُمُ إما حال منه وقد كان في الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالا أو متعلق بكلوا ومن ابتدائية. ويحتمل أن يكون في موضع المفعول لكلوا على معنى أنه صفة مفعول له قائمة مقامه أي شيئا مما رزقكم أو بجعله نفسه مفعولا بتأويل بعض إلا أن في هذا تكلفا. وحَلالًا حال من الموصول أو من عائدة المحذوف أو صفة لمصدر محذوف أي أكلا حلالا. وعلى الوجوه كلها الآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التأكيد وهو خلاف الظاهر في مثل ذلك وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن. والآية ظاهرة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى، وقد أكل صلّى الله عليه وسلّم ثريد اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى. وقد فصلت الأخبار ما كان يأكله عليه الصلاة والسلام وأواني الكتب ملأى من ذلك.
وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السنجي فقال: يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال: لا آكله ولا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال: لعاب النحل بلعاب البرمع سمن البقر هل يعيبه مسلم،
وذكر الطبرسي أن فيها دلالة على النهي عن الترهب وترك النكاح.
وقد جاء في غير ما خبر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى لم يبعثني بالرهبانية»
وقال عليه الصلاة والسلام في خبر طويل: «شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم»
وعن أنس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرنا بالباءة وينهانا عن التبتل نهيا شديدا».
وعن أبي نجيح قال: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم وهو عندنا أن يحلف على أمر مضى يظنه كذلك فإن علمه على خلافه فاليمين غموس، وروي ذلك عن مجاهد.
وعند الشافعي رحمه الله تعالى
ما يسبق إليه اللسان من غير نية اليمين وهو المروي عن أبي جعفر.
وأبي عبد الله. وعائشة رضي الله تعالى عنهم، والأدلة على المذهبين مبسوطة في الفروع والأصول وقد تقدم شطر من الكلام على ذلك، وفِي أَيْمانِكُمْ إما متعلق باللغو فإنه يقال لغا في يمينه لغوا وإما بمحذوف وقع حالا منه أي كائنا أو واقعا في أيمانكم وجوز أن يكون متعلقا بيؤاخذكم، وقيل عليه: إنه لا يظهر ربطه بالمؤاخذة إلا أن يجعل في للعلة كما في
10
«إن امرأة دخلت النار في هرة» وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية فما مصدرية، وقيل: إنها موصولة والعائد محذوف أي بما عقدتم الإيمان عليه. ورجح الأول بأن الكلام في مقابلة اللغو وبأنه خال عن مؤنة التقدير، وقال بعضهم: إن ذلك التقدير في غير محله لأن شرط حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا وما هنا ليس كذلك فليتدبر والمعنى ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم أو لكن يؤاخذكم بما عقدتموها إذا حنثتم وحذف ذلك للعلم به، والمراد بالمؤاخذة المؤاخذة في الدنيا وهي الإثم والكفارة فلا إشكال في تقدير الظرف، وتعقيد الأيمان شامل للغموس عند الشافعية وفيه كفارة عندهم وأما عندنا فلا كفارة ولا حنث.
وقرأ حمزة. والكسائي. وابن عياش عن عاصم «عقدتم» بالتخفيف، وابن عامر برواية ابن ذكوان «عاقدتم» والمفاعلة فيها لأصل الفعل وكذا قراءة التشديد لأن القراءات يفسر بعضها بعضا، وقيل: إن ذلك فيها للمبالغة باعتبار أن العقد باللسان والقلب لا أن ذلك للتكرار اللساني كما توهم. والآية كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت حين نهى القوم عما صنعوا فقالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟
وروي عن ابن زيد أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كان عنده ضيف فأخرت زوجته عشاءه فحلف لا يأكل من الطعام وحلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل وحلف الضيف لا يأكل إن لم يأكلا فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال عليه الصلاة والسلام له: أحسنت ونزلت.
فَكَفَّارَتُهُ الضمير عائد إما على الحنث المفهوم من السياق أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف أي فكفارة نكثه أو على ما الموصولة بذلك التقدير، وأما عوده على الأيمان لأنه مفرد كالأنعام عند سيبويه أو مؤول بمفرد فكما ترى، والمراد بالكفارة المعنى المصدري وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة وتسترها، والمراد بالستر المحو لأن الممحو لا يرى كالمستور وبهذا وجه تأنيثها، وذكر عصام الدين أن فعالا يستوي فيه المذكر والمؤنث إلا أن ما يستوي فيه ذلك كفعيل إذا حذف موصوفة يؤنث للمؤنث كمررت بقتيلة بني فلان ولا يقال بقتيل للالتباس، وذكر أن التاء يحتمل أن تكون للنقل وأن تكون للمبالغة انتهى.
ويدل على أنها بالمعنى المصدري الإخبار عنها بقوله تعالى: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ واستدل الشافعية بظاهر الآية على جواز التكفير بالمال قبل الحنث سواء كان الحنث معصية أم لا، وتقييد ذلك كما فعل الرافعي بما إذا لم يكن معصية غير معول عليه عندهم، ووجه الاستدلال بذلك على ما ذكر أنه سبحانه جعل الكفارة عقب اليمين من غير ذكر الحنث وقال عز شأنه: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وقيدوا ذلك بالمال ليخرج التكفير بالصوم فأنه لا يكون إلا بعد الحنث عندهم لأنه عند العجز عن غيره والعجز لا يتحقق بدون حنث، وقد قاسوا ذلك أيضا على تقديم الزكاة على الحول، واستدلوا أيضا بما
أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير».
ونحن نقول: إن الآية تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وهي غير واجبة قبله فثبت أن المراد بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها، وقد اتفقوا على أن معنى قوله سبحانه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: ١٨٤] فأفطر فعدة من أيام أخر فكذا هذا. والحديث الذي استدلوا به لا يصلح للاستدلال لأنه بعد تسليم دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ يقال: إن الواقع في حيزها مجموع التكفير والإيتاء ولا دلالة على الترتيب بينهما ألا ترى أن قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
11
[الجمعة: ٩] لا يقتضي تقديم السعي على ترك البيع بالاتفاق، وأيضا
جاء في رواية «فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه».
ونقل بعضهم عن الشافعية أنهم يجمعون بين الروايتين بأن إحداهما لبيان الجواز والأخرى لبيان الوجوب، وقال عصام الدين: إن تقديم الكفارة تارة وتأخيرها أخرى يدل على أن التقديم والتأخير سيان اه.
وأنت تعلم أن الشافعية كالحنفية في أنهم يقدرون في الآية ما أشرنا إليه قبل في تفسيرها إلا أن ذلك عندهم قيد للوجوب وإلا فالاستدلال بالآية في غاية الخفاء كما لا يخفى فتدبر. وإِطْعامُ مصدر مضاف لمفعوله وهو مقدر بحرف وفعل مبني للفاعل وفاعل المصدر يحذف كثيرا، ولا ضرورة تدعو إلى تقدير الفعل مبنيا للمفعول لأنه مع كونه خلاف الأصل في تقديره خلاف ذكره السمين فالتقدير هنا فكفارته أن يطعم الحانث أو الحالف عشرة مساكين مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أي من أقصده في النوع أو المقدار، وهو عند الشافعية مد لكل مسكين وعندنا نصف صاع من بر أو صاع من شعير.
وأخرج ابن حميد وغيره عن ابن عمر أن الأوسط الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن، والأفضل نحو الخبز واللحم. وعن ابن سيرين قال: كانوا يقولون الأفضل الخبز واللحم والأوسط الخبز والسمن والأخس الخبز والتمر. ومحل الجار والمجرور النصب لأنه صفة مفعول ثان للإطعام لأنه ينصب مفعولين وأولهما هنا ما أضيف إليه، والتقدير طعاما أو قوتا كائنا من أوسط، وقيل: إنه صفة مصدر محذوف أي إطعاما كائنا من ذلك وجوز أن يكون محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي طعامهم من أوسط أو على أنه صفة لإطعام أو على أنه بدل من إطعام.
واعترض هذا بأن أقسام البدل لا تتصور هنا. وأجيب بأنه بدل اشتمال بتقدير موصوف وذلك على مذهب ابن الحاجب. وصاحب اللباب. ومتابعيهما ظاهر لأنهم يكتفون بملابسة بين البدل والمبدل منه بغير الجزئية والكلية، وأما على مذهب الجمهور فلأنهم يشترطون اشتمال التابع على المتبوع لا كاشتمال الظرف على المظروف بل من حيث كونه دالا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى ذكر الثاني فيجاء بالثاني ملخصا لما أجمله الأول ومبينا له، ويعدون من هذا القبيل قولهم: نظرت إلى القمر فلكه كما صرح به ركن الدين في شرح اللباب. ولا يخفى أن إطعام عشرة مساكين دال على الطعام إجمالا ومتقاض له بوجه. واختار بعض المحققين أنه بدل كل من كل بتقدير إطعام من أوسط نحو أعجبني قرى الأضياف قراهم من أحسن ما وجد، وما إما مصدرية وإما موصولة اسمية والعائد محذوف أي من أوسط الذي تطعمونه.
وجوز أبو البقاء تقديره مجرورا بمن أي تطعمون منه، ونظر فيه السمين بأن من شرط العائد المحذوف المجرور بالحرف أن يكون مجرورا بمثل ما جرا به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا والحرفان هنا وإن اتفقا من وجه إلا أن المتعلق مختلف لأن من الثانية متعلقة بتطعمون والأولى ليست متعلقة بذلك. ثم قال: فإن قلت الموصول غير مجرور بمن وإنما هو مجرور بالإضافة. فالجواب أن المضاف إلى الموصول كالموصول في ذلك اه. وقد قدمنا آنفا نحو هذا النظر، وأجاب بعضهم عن ذلك بأن الحذف تدريجي ولا يخفى أن فيه تطويلا للمسافة. والأهلون جمع أهل على خلاف القياس كأرض وأرضون إذ شرط هذا الجمع أن يكون علما أو صفة وأهل اسم جامد، قيل: والذي سوغه أنه استعمل كثيرا بمعنى مستحق فأشبه الصفة.
وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قرأ «أهاليكم»
بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهو أيضا جمع أهل على خلاف القياس كليال في جمع ليلة.
وقال ابن جني: وأحدهما ليلاة وأهلاة وهو محتمل كما قيل لأن يكون مراده أن لهما مفردا مقدرا هو ما ذكر ولأن يكون مراده أن لهما مفردا محققا مسموعا من العرب هو ذاك، وقيل: إن أهالي جمع أهلون وليس بشيء أَوْ
12
كِسْوَتُهُمْ
عطف كما قال أبو البقاء على إطعام واستظهره غير واحد، واختار الزمخشري أنه عطفت على محل مِنْ أَوْسَطِ ووجهه فيما نسب إليه بأن مِنْ أَوْسَطِ بدل من الإطعام والبدل هو المقصود ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحي فكأنه قيل: فكفارته من أوسط ما تطعمون. ووجه صاحب التقريب عدوله عن الظاهر بأن الكسوة اسم لنحو الثوب لا مصدرا، فقد قال الراغب: الكساء والكسوة اللباس فلا يليق عطفه على المصدر السابق مع أن كليهما فيما يتعلق بالمساكين، وبأنه يؤدي إلى ترك ذكر كيفية الكسوة وهو كونها أوسط، ثم قال: ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الكسوة إما مصدر كما يشعر به كلام الزجاج أو يضمر مصدر كالإلباس، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط ما تكسون وحذف ذلك لقرينة ذكره في المعطوف عليه أو بان تترك على إطلاقها إما بإرادة إطلاقها أو بإحالة بيانها على الغير، وأيضا العطف على محل مِنْ أَوْسَطِ لا يفيد هذا المقصود وهو تقدير الأوسط في الكسوة فالإلزام مشترك ويؤدي إلى صحة إقامته مقام المعطوف عليه وهو غير سديد اه.
واعترض بعض المحققين على ما نسب إلى الزمخشري أيضا بأن العطف على البدل يستدعي كون المعطوف بدلا أيضا وإبدال الكسوة من إِطْعامُ لا يكون إلا غلطا لعدم المناسبة بينهما أصلا وبدل الغلط لا يقع في الفصيح فضلا عن أفصح الأفصح. ومنع عدم الوقوع مما لا يلتفت إليه، وجعل غير واحد هذا العطف من باب. علفتها تبنا وماء باردا. كأنه قيل إطعام هو أوسط ما تطعمون أو إلباس هو كسوتهم على معنى إطعام هو إطعام الأوسط وإلباس هو إلباس الكسوة وفيه إبهام وتفسير في الموضعين.
واعترض بأن العطف على هذا يكون على المبدل منه لا البدل، وأجيب بأن المراد أنه بالنظر إلى ظاهر اللفظ عطف على البدل وهو كما ترى، واعترض الشهاب على دعوى أن الداعي الزمخشري عن العدول إلى الظاهر إلى اختيار العطف على محل مِنْ أَوْسَطِ تحصيل التناسب بين نوعي الكفارة المتعلقة بالمساكين بأنه كيف يتأتى ذلك وقد جعل العطف على «من أوسط» على تقدير بدليته وهو على ذلك التقدير صفة إطعام مقدر انتهى.
وقد علمت أن هذا رأي لبعضهم. وبالجملة فيما ذهب إليه الزمخشري دغدغة حتى قال العلم العراقي: إنه غلط والصواب العطف على «إطعام»، وقال الحلبي: ما ذكره الزمخشري إنما يتمشى على وجه وهو أن يكون مِنْ أَوْسَطِ خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط فالكلام تام على هذا عند قوله سبحانه:
عَشَرَةِ مَساكِينَ ثم ابتدأ أخبارا آخر بأن الطعام يكون أوسط كذا. وأما إذا قلنا إن مِنْ أَوْسَطِ هو المفعول الثاني فيستحيل عطف كِسْوَتُهُمْ عليه لتخالفهما إعرابا انتهى. ثم المراد بالكسوة ما يستر عامة البدن على ما روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه. وأبي يوسف فلا يجزي عندهما السراويل لأن لابسه يسمى عريانا في العرف لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الإطعام باعتبار القيمة، وفي اشتراط النية حينئذ روايتان. وظاهر الرواية الإجزاء نوى أو لم ينو. وروي أيضا أنه إن أعطى السراويل المرأة لا يجوز وإن أعطى الرجل يجوز لأن المعتبر رد العرى بقدر ما تجوز به الصلاة وذلك ما به يحصل ستر العورة والزائد تفضل للتجمل أو نحوه فلا يجب في الكسوة كالأدام في الطعام والمروي عن محمد أن ما تجوز فيه الصلاة يجزىء مطلقا. والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول، ويشترط أن يكون ذلك ما يصلح فيه الصلاة يجزىء مطلقا. والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول، ويشترط أن يكون ذلك مما يصلح للأوساط وينتفع به فوق ثلاثة أشهر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت العباءة تجزىء يومئذ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يجزىء قميص أو رداء أو كساء، وعن الحسن أنهما ثوبان أبيضان.
وروى الإمامية عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنها ثوبان لكل مسكين ويجزىء ثوب واحد عند الضرورة
واشترط
13
أصحابنا في المسكين أن يكون مراهقا فما فوقه فلا يجزىء غير المراهق على ما ذكره الحصكفي نقلا عن البدائع في كفارة الظهار، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آية كفارة الظهار أن المراد من الإطعام التمكين من الطعم وتحقيق الكلام في ذلك على أتم وجه. وقرىء «أو كسوتهم» بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وأسوة في أسوة. وقرأ سعيد بن المسيب واليماني «أو كاسوتهم» بكاف الجر الداخلة على أسوة وهي كما قال الراغب الحال التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسنا وإن قبيحا. والهمزة كما قال غير واحد: بدل من واو لأنه من المواساة. والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف والتقدير أو طعامهم كأسوة أهليكم، وقال السعد: الكاف زائدة أي أو طعامهم أسوة أهليكم، وقيل:
الأولى أن يكون التقدير طعام كاسوتهم على الوصف فهو عطف أيضا على مِنْ أَوْسَطِ وعلى هذه القراءة يكون التخيير بين الإطعام والتحرير في قوله تعالى: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فقط وتكون الكسوة ثابتة بالسنة. وزعم أبو حيان أن الآية تنفي الكسوة وليس بشيء، وقال أبو البقاء: المعنى مثل أسوة أهليكم في الكسوة فلا تكون الآية عارية عن الكسوة وفيه نظر إذ ليس في الكلام ما يدل على ذلك التقدير.
والمراد بتحرير رقبة إعتاق إنسان كيف ما كان. وشرط الشافعي عليه الرحمة فيه الإيمان حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل. وعندنا لا يحمل لاختلاف السبب. واستدل بعض الشافعية على ذلك بأن الكفارة حق الله تعالى وحق الله سبحانه لا يجوز صرفه إلى عدو الله عز اسمه كالزكاة. ونحن نقول: المنصوص عليه تحرير رقبة وقد تحقق. والقصد بالإعتاق أن يتمكن المعتق من الطاعة بخلوصه عن خدمة المولى ثم مقارفته المعصية وبقاؤه على الكفر يحال به إلى سوء اختياره. واعترض بأن لقائل أن يقول: نعم مقارفته المعصية يحال به إلى ما ذكر لكن لم لا يكون تصور ذلك منه مانعا عن الصرف إليه كما في الزكاة. وأجيب بأن القياس جواز صرف الزكاة إليه أيضا لأن فيه مواساة عبيد الله تعالى أيضا لكن
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خذها من أغنيائهم وردها إلى فقرائهم»
أخرجهم عن المصرف.
وقد ذكر بعض أصحابنا ضابطا لما يجوز إعتاقه في الكفارة وما لا يجوز فقال: متى أعتق رقبة كاملة الرق في ملكه مقرونا بنية الكفارة وجنس ما يبتغي من المنافع فيها قائم بلا بدل جاز وإن لم يكن كذلك فإنه لا يجوز وهل يجوز عتق الأصم أم لا؟ قولان. وفي الهداية، ويجوز الأصم والقياس أن لا يجوز وهو رواية النوادر لأن الفائت جنس المنفعة إلا أنا استحسنا الجواز لأن أصل المنفعة باق فإنه إذا صيح عليه يسمع حتى لو كان بحال لا يسمع أصلا بأن ولد أصم وهو الأخرس لا يجزئه انتهى.
ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكلف في التعيين ونسب إلى بعض المعتزلة أن الواجب الجمع ويسقط واحدا. وقيل الواجب متعين عند الله تعالى وهو ما يفعله المكلف فيختلف بالنسبة إلى المكلفين. وقيل: إن الواجب واحد معين لا يختلف لكن يسقط به وبالآخر. وتفاوتها قدرا وثوابا لا ينافي التخيير المفوض تفاوته إلى الهمم وقصد زيادة الثواب فإن الكسوة أعظم من الإطعام والتحرير أعظم منهما. وبدأ سبحانه بالإطعام تسهيلا على العباد. وذكر غير واحد من أصحابنا أن المكلف لو أدى الكل جملة أو مرتبا ولم ينو إلا بعد تمامها وقع عنها واحد هو أعلاها قيمة ولو ترك الكل عوقب بواحد هو أدناها قيمة لسقوط الفرض بالأدنى. وتحقيق ذلك في الأصول فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي شيئا من الأمور المذكورة فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أي فكفارته ذلك. ويشترط الولاء عندنا ويبطل بالحيض بخلاف كفارة الفطر. وإلى اشتراط الولاء ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة والنخعي.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة: يا رسول الله
14
نحن بالخيار فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت وإن شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن حميد، وابن جرير، وابن أبي داود في المصاحف، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ «فصيام ثلاثة أيام متتابعات». وأخرج غالب هؤلاء عن ابن مسعود أنه كان يقرأ أيضا كذلك، وقال سفيان: نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه «فمن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وبمجموع ذلك يثبت اشتراط التتابع على أتم وجه، وجوز الشافعي رحمه الله تعالى التفريق ولا يرى الشواذ حجة، ولعل غير ذلك لم يثبت عنده واعتبر عدم الوجدان والعجز عما ذكر عندنا وقت الأداء حتى لو وهب ماله وسلمه ثم صام ثم رجع بهبته أجزأه الصوم كما في المجتبى، ونسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه اعتبار العجز عند الحنث. ويشترط استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم فلو صام المعسر يومين ثم قبل فراغه ولو بساعة أيسر ولو بموت. مورثه موسرا لا يجوز له الصوم ويستأنف بالمال. ولو صام ناسيا له لم يجز على الصحيح، واختلف في الواجد فأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: إذا كان عنده خمسون درهما فهو ممن يجد ويجب عليه الإطعام وإن كان عنده أقل فهو ممن لا يجد ويصوم.
وأخرج عن النخعي قال: إذا كان عنده عشرون درهما فعليه أن يطعم في الكفارة، ونقل أبو حيان عن الشافعي.
وأحمد. ومالك أن من عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واجد، وعن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد.
ذلِكَ أي الذي مضى ذكره كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي وحنثتم وقد مر تفصيل ذلك. وإِذا على ما قال السمين لمجرد الظرفية وليس فيها معنى الشرط، وجوز أن تكون شرطية ويكون جوابها محذوفا عند البصريين، والتقدير إذا حلفتم وحنثتم فذلك كفارة أيمانكم. ويدل على ذلك ما تقدم أو هو ما تقدم عند الكوفيين والخلاف بين الفريقين مشهور وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي راعوها لكي تؤدوا الكفارة عنها إذا حنثتم أو احفظوا أنفسكم من الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية أو لا تبذلوها وأقلوا منها كما يشعر به قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: ٢٢٤] وعليه قول الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه إذا بدرت منه الألية برت
أو احفظوها ولا تنسوا كيف حلفتم تهاونا بها وصحح الشهاب الأول. واعترض الثاني بأنه لا معنى له لأنه غير منهي عن الحنث إذا لم يكن الفعل معصية،
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «فليأت الذي هو خير وليكفر»
وقال سبحانه. فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: ٢] فثبت أن الحنث غير منهي عنه إذا لم يكن معصية فلا يجوز أن يكون احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ نهيا عن الحنث، والثالث بأنه ساقط واه لأنه كيف يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين وهل هو إلا كقولك: احفظ المال بمعنى لا تكسبه، وأما البيت فلا شاهد فيه لأن معنى حافظ ليمينه أنه مراع لها بأداء الكفارة ولو كان معناه ما ذكر لكان مكررا مع ما قبله أعني قليل الألايا-. واعترض الرابع بأنه بعيد فتدير كَذلِكَ أي ذلك البيان البديع يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أعلام شريعته وأحكامه لا بيانا أدنى منه، وتقديم لَكُمْ على المفعول الصريح لما مر مرارا.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وهو المسكر المتخذ من عصير العنب أو كل ما يخامر العقل ويغطيه من الأشربة.
وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالْمَيْسِرُ وهو القمار وعدوا منه اللعب بالجوز والكعاب
15
والْأَنْصابُ وهي الأصنام المنصوبة للعبادة، وفرق بعضهم بين الأنصاب والأصنام بأن الأنصاب حجارة لم تصور كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها، والأصنام ما صور وعبد من دون الله عز وجل وَالْأَزْلامُ وهي القداح وقد تقدم الكلام في ذلك على أتم وجه رِجْسٌ أي قذر تعاف عنه العقول، وعن الزجاج الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح. وأصل معناه الصوت الشديد ولذا يقال للغمام رجاس لرعده والرجز بمعناه عند بعضهم.
وفرق ابن دريد بين الرجس والرجز والركس فجعل الرجس الشر والرجز العذاب والركس العذرة والنتن، وأفراد الرجس مع أنه خبر عن متعدد لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير، ومثل ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: ٢٨] وقيل: لأنه خبر عن الخمر وخبر المعطوفات محذوف ثقة بالمذكور.
وقيل: لأن في الكلام مضافا إلى تلك الأشياء وهو خبر عنه أي إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس. وقوله سبحانه: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ في موضع الرفع على أنه صفة رِجْسٌ أي كائن من عمله لأنه مسبب من تزيينه وتسويله، وقيل: إن من للابتداء أي ناشىء من عمله. وعلى التقديرين لا ضير في جعل ذلك من العمل وإن كان ما ذكر من الأعيان. ودعوى أنه إذا قدر المضاف لم يحتج إلى ملاحظة علاقة السببية ولا إلى القول بأن من ابتدائية لا يخلو عن نظر فَاجْتَنِبُوهُ أي الرجس أو جميع ما مر بتأويل ما مر أو التعاطي المقدر أو الشيطان لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي راجين فلا حكم أو لكي تفلحوا بالاجتناب عنه. وقد مر الكلام في ذلك، ولقد أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بفنون التأكيد حيث صدرت الجملة بإنما وقرنا بالأصنام والأزلام وسميا رجسا من عمل الشيطان تنبيها على غاية قبحهما وأمر بالاجتناب عن عينهما بناء على بعض الوجوه وجعله سببا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خيبة. ثم قرر ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية فقال سبحانه: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي بسبب تعاطيهما لأن السكران يقدم على كثير من القبائح التي توجب ذلك ولا يبالي وإذا صحا ندم على ما فعل، والرجل قد يقامر حتى لا يبقى له شيء وتنتهي به المقامرة إلى أن يقامر بولده وأهله فيؤدي به ذلك إلى أن يصير أعدى الأعداء لمن قمره وغلبه وهذه إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية. وقوله تعالى:
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ إشارة إلى مفاسدهما الدينية. ووجه صد الشيطان لهم بذلك عما ذكر أن الخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.
وأن الميسر إن كان اللاعب به غالبا انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك. وقد شاهدنا كثيرا ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويصوح من سمومه الرخ بل يتساقط ريشه ويحار لشناعته بيذق الفهم ويضطرب رزين العقل ويموت شاه القلب وتسود رقعة الأعمال، وتخصيص الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة كما يشعر بذلك ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والسلف الصالح من الأخبار الصادحة بمزيد ذمهما والحط على مرتكبهما.
وخص الصلاة من الذكر بالأفراد بالذكر مع أن الذي يصد عنه يصد عنها لأنه من أركانها تعظيما لها كما في ذكر الخاص بعد العام وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان لما أنها عماده والفارق بينه وبين الكفر إذ التصديق القلبي لا يطلع عليه وهي أعظم شعائره المشاهدة في كل وقت ولذا طلبت فيها الجماعة ليشاهدوا الإيمان ويشهدوا به، ففي الكلام إشارة إلى أن مراد اللعين ومنتهى آماله من تزيين تعاطي شرب الخمر واللعب بالميسر الإيقاع في الكفر
16
الموجب للخلود معه في النار وبئس القرار. ثم إنه سبحانه أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام الإنكاري مع الجملة الاسمية مرتبا على ما تقدم من أصناف الصوارف فقال جل شأنه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ إيذانا بأن الأمر في الردع والمنع قد بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت بالكلية حتى أن العاقل إذا خلي ونفسه بعد ذلك لا ينبغي أن يتوقف في الانتهاء. ووجه تلك التأكيدات أن القوم رضي الله تعالى عنهم كما قيل كانوا مترددين في التحريم بعد نزول آية البقرة ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: «اللهم بين لنا في ذلك بيانا شافيا» فنزلت هذه الآية، ولما سمع عمر رضي الله تعالى عنه فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: «انتهينا يا رب»، وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: أول ما نزل في تحريم الخمر يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: ٢١٩] الآية، فقال بعض الناس: نشربها لمنافعها التي فيها، وقال آخرون: لا خير في شيء فيه إثم ثم نزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣] الآية فقال بعض الناس: نشربها ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية فانتهوا.
وأخرج عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله سبحانه قد حرم الخمر فمن كان عنده شيء فلا يطعمه ولا تبيعوها»
فلبث المسلمون زمانا يجدون ريحها من طرق المدينة مما أهراقوا منها.
وأخرج عن الربيع أنه قال لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر»
ثم نزلت آية بالمائدة فحرمت الخمر عند ذلك. وقد تقدم في آية البقرة شيء من الكلام في هذا المقام فتذكر.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ عطف على «اجتنبوه» أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه ويدخل فيه أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولا أوليا وَاحْذَرُوا أي مخالفتهما في ذلك وهذا مؤكد للأمر الأول، وجوز أن يكون المراد أطيعوا فيما أمرا واحذروا عما نهيا فلا تأكيد. وجوز أيضا أن لا يقدر متعلق للحذر أي وكونوا حاذرين خاشين وأمروا بذلك لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ولم يأل جهدا في ذلك فقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل ولم يبق بعد ذلك إلا العقاب.
وفي هذا كما قال الطبرسي وغيره من التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى، وقيل: إن المعنى فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليتكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه وليس بشيء إذ لا يتوهم منهم ادعاء الضرر بتوليتهم حتى يرد عليهم. ومثل ذلك ما قيل: إن المعنى فإن توليتم فلا تطمعوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يهملكم لأن ما على الرسول إلا البلاغ المبين فلا يجوز له ترك البلاغ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي إثم وحرج فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قيل: لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله عنهم: كيف بمن شربها من إخواننا الذين ماتوا وهم قد شربوا الخمر وأكلوا الميسر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: إنها نزلت في القوم الذين حرموا على نفوسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأنس بن مالك، والبراء بن عازب. ومجاهد. وقتادة. والضحاك. وخلق آخرين.
17
وللمفسرين في معنى الآية كلام طويل الذيل فنقل الطبرسي والعهدة عليه عن تفسير أهل البيت أن ما عبارة عن المباحات، واختاره غير واحد من المتأخرين. وتعقب بأنه يلزم عليه تقييد إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله سبحانه: «إذا ما اتقوا» واللازم منتف بالضرورة فهي سواء كانت موصولة أو موصوفة على عمومها وإنما تخصصت بذلك القيد الطارئ عليها، والطعم كالطعام يستعمل في الأكل والشرب كما تقدمت إليه الإشارة والمعنى ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائنا ما كان إذا اتقوا أن يكون في ذلك شيء من المحرم واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة وإلا لم يكن نفي الجناح في كل ما طعموه بل في بعضه، ولا محذور في هذا إذ اللازم منه تقييد إباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقييد إباحة بعضه باتقاء الآخر منه كما هو اللازم مما عليه الجماعة. واتَّقَوْا الثاني عطف على نظيره المتقدم داخل معه في حيز الشرط. والمراد اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحا فيما سبق، والمراد بالإيمان المعطوف عليه أما الإيمان بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه أما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمن به، وأما الاستمرار على الإيمان بما يجب الإيمان به ومتعلق الاتقاء ثالثا ما حرم عليهم أيضا بعد ذلك مما كان مباحا من قبل على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة إباحة ما طعموه في ذلك الوقت لا إباحة ما طعموه قبله لانتساخ إباحة بعضه حينئذ وأريد بالإحسان فعل الأعمال الحسنة الجميلة المنتظمة بجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية.
وليس تخصيص هذه المراتب بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرار بالغا ما بلغ، والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمال الصالحة وكانوا في طاعة الله تعالى ومراعاة أوامره ونواهيه بحيث كلما حرم عليهم شيء من المباحات اتقوه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المآكل والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طعمه قاله مولانا شيخ الإسلام، ثم قال: وأنت خبير بأن ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخل لها في انتفاء الجناح وإنما ذكرت في حيز إذا شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ومدحا لهم بذلك وحمدا لأحوالهم، وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعا للاتقاء في كل مرة تميزا بينها وبين ما له دخل في الحكم فإن مساق النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من النعوت فيما سيأتي من الزمان بقضية «إذا ما» لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم في حقهم ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل: ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال، وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذلك ولو حرما في عصرهم لا تقوهما بالمرة انتهى.
ومما يدل على أن الآية للتشريع الكلي ما
أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود قال: لما نزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الآية قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لي أنت منهم»
وقيل: إن ما في حيز الشرط من الاتقاء وغيره إنما ذكر على سبيل المدح والثناء للدلالة على أن القوم بتلك الصفة لأن المراد بما المباحات، ونفي الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يتقيد بشرط، وقال علي بن الحسين النقيب المرتضى: إن المفسرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الذي تضمنته هذه الآية وظنوا أنه المشكل فيها وتركوا ما هو أشد إشكالا من ذلك وهو أنه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتقاء والإيمان والعمل الصالح مع أن المباح لو وقع من الكافر لا إثم عليه ولا وزر. ولنا في حل هذه الشبهة طريقان، أحدهما أن يضم إلى المشروط
18
المصرح بذكره غيره حتى يظهر تأثير ما شرط فيكون تقدير الآية ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا إلخ لأن الشرط في نفي الجناح لا بد من أن يكون له تأثير حتى يكون متى انتفي ثبت الجناح، وقد علمنا أن باتقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشرط الذي لا زيادة عليه، ولما ولى ذكر الاتقاء الإيمان والعمل الصالح ولا تأثير لهما في نفي الجناح علمنا أنه أضمر ما تقدم ذكره ليصح الشرط ويطابق المشروط لأن من اتقى الحرام فيما يطعم لا جناح عليه فيما يطعم ولكنه قد يصح أن يثبت عليه الجناح فيما أخل به من واجب وضيعه من فرض فإذا شرطنا الإيمان والعمل الصالح ارتفع عنه الجناح من كل وجه، وليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى ويكون قوة الدلالة عليه مغنية عن النطق به، ومنه قول الشاعر:
تراه كأن الله يجدع أنفه وعينيه إن مولاه بات له وفر
فإنه لما كان الجدع لا يليق بالعين وكانت معطوفة على الأنف الذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص وما يجري مجراه. الطريق الثاني أن يجعل الإيمان والعمل الصالح ليس شرطا حقيقيا وإن كان معطوفا على الشرط فكأنه تعالى لما أراد أن يبين وجوب الإيمان وما عطف عليه عطفه على ما هو واجب من اتقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب وإن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيما يطعم وهذا توسع في البلاغة يحار فيه العقل استحسانا واستغرابا انتهى. ولا يخفى ما في الطريق الثاني من البعد وأن الطريق الأول حزن فإن مثل هذا الحذف مع ما زعمه من القرينة لا يكاد يوجد في الفصيح في أمثال هذه المقامات، وليس ذلك كالبيت الذي ذكره فإنه من باب.
علفتها تبنا وماء باردا وهو مما لا كلام لنا فيه وأين البيض من الباذنجان. وقيل في الجواب أيضا عن ذلك: إن المؤمن يصح أن يطلق عليه بأنه لا جناح عليه والكافر مستحق للعقاب مغمور به يوم الحساب فلا يطلق عليه ذلك، وأيضا أن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحليل والتحريم فلذلك يخص المؤمن بالذكر ولا يخفى ما فيه.
وقال عصام الملة: الأظهر أن المراد أنه لا جناح فيما طعموا مما سوى هذه المحرمات إذا ما اتقوا ولم يأكلوا فوق الشبع ولم يأكلوا من مال الغير، وذكر الإيمان والعمل الصالح للإيذان بأن الاتقاء لا بد له منهما فإن من لا إيمان له لا يتقي وكذا من لا عمل صالح له فضمهما إلى الإيمان لأنهما ملاك الاتقاء، وتكرير التقوى والثبات على الإيمان للإشارة إلى أن ثبات نفي الجناح فيما يطعم على ثبات التقوى، وترك ذكر العمل الصالح ثانيا للإشارة إلى أن الإيمان بعد التمرن على العمل لا يدع أن يترك العمل. وذكر الإحسان بعد للإشارة إلى أن كثرة مزاولة التقوى والعمل الصالح ينتهي إلى الإحسان وهو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه إلى آخر ما في الخبر انتهى. وفيه الغث والسمين.
وكلامهم الذي أشار إليه المرتضى في إيضاح وجه التكرير كثير فقال أبو علي الجبائي: إن الشرط الأول يتعلق بالزمان الماضي. والثاني يتعلق بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله. والثالث يختص بمظالم العباد وبما يتعدى إلى الغير من الظلم والفساد. واستدل على اختصاص الثالث بذلك بقوله تعالى: وَأَحْسَنُوا فإن الإحسان إذا كان متعديا وجب أن تكون المعاصي التي أمروا باتقائها قبله أيضا متعدية وهو في غاية الضعف إذ لا تصريح في الآية بأن المراد بالإحسان الإحسان المتعدي ولا يمتنع أن يراد به فعل الحسن والمبالغة فيه وإن خص الفاعل ولم يتعد إلى غيره كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن أحسنت وأجملت، ثم لو سلّم أن المراد به الإحسان المتعدي فلم لا يجوز أن
19
يعطف فعل متعد على فعل لا يتعدى. ولو صرح سبحانه فقال: اتقوا القبائح كلها وأحسنوا إلى الناس لم يمتنع وذلك ظاهر، وقيل: إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي تخص المكلف ولا تتعداه. والإيمان الأول الإيمان بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به والإيمان بقبح هذه المعاصي ووجوب تجنبها. والاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية والإيمان الثاني هو الإيمان بقبحها ووجوب تجنبها. والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وهو كما ترى، وقيل: المراد بالأول اتقاء ما حرم عليهم أولا مع الثبات على الإيمان والأعمال الصالحة إذ لا ينفع الاتقاء بدون ذلك. وبالثاني اتقاء ما حرم عليهم بعد ذلك من الخمر ونحوه والإيمان التصديق بتحريم ذلك. وبالثالث الثبات على اتقاء جميع ذلك من السابق والحادث مع تحري الأعمال الجميلة. وهذا مراد من قال: إن التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، وقيل: إنه باعتبار المراتب الثلاث للتقوى المبدأ والوسط والمنتهى وقد مر تفصيلها، وقيل: باعتبار الحالات الثلاث بأن يتقي الله تعالى ويؤمن به في السر ويجتنب ما يضر نفسه من عمل واعتقاد ويتقي الله تعالى ويؤمن به علانية ويجتنب ما يضر الناس ويتقي الله تعالى ويؤمن به بينه وبين الله تعالى بحيث يرفع الوسائط وينتهي إلى أقصى المراتب. ولما في هذه الحالة من الزلفى منه تعالى ذكر الإحسان فيها بناء على أنه كما فسره صلّى الله عليه وسلّم
في الخبر الصحيح «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه».
وقيل: باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقاب. والشبهات توقيا من الوقوع في الحرام.
وبعض المباحات حفظا للنفس عن الخسة وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة، وقيل: المراد بالأول اتقاء الكفر وبالثاني اتقاء الكبائر وبالثالث اتقاء الصغائر، وقيل: إن التكرير لمجرد التأكيد ويجوز فيه العطف بثم كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: ٤٥٣] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال غير مناسبة للمقام، وذكر العلامة الطيبي أن معنى الآية أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك وعلى الإيمان بما يجب الإيمان وعلى الأعمال الصالحة لتحصل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج أن تعبد الله تعالى كأنك تراه وهو المعنى بقوله تعالى: «وَأَحْسَنُوا» إلخ وبها يمنح الزلفى عند الله تعالى ومحبته سبحانه المشار إليها بقوله عز وجل: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ». وفي هذا النظم نتيجة مما
رواه الترمذي. وابن ماجة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما بيد الله تعالى أوثق منك بما في يدك انتهى».
وهو ظاهر جدا على تقدير أن تكون الآية في القوم الذين سلكوا طريق الترهب وهو قول مرجوح فتدبر.
وجملة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ على سائر التقادير تذييل مقرر لمضمون ما قبله أبلغ تقرير، وذكر بعضهم أنه كان الظاهر والله يحب هؤلاء فوضع المحسنين موضعه إشارة إلى أنهم متصفون بذلك.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ جواب قسم محذوف أي والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف حالكم بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي مصيد البر كما قال الكلبي مأكولا كان أو غير مأكول ما عدا المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى فاللام للعهد. والآية كما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وذلك قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ فهموا بأخذها فنزلت.
وعن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الذي تناله الأيدي فراخ الطير وصغار الوحش والبيض والذي تناله الرماح الكبار
20
من الصيد.
واختار الجبائي أن المراد بما تناله الأيدي والرماح صيد الحرم مطلقا لأنه كيفما كان يأنس بالناس ولا ينفر منهم كما ينفر في الحل، وقيل: ما تناله الأيدي ما يتأتى ذبحه وما تناله الرماح ما لا يتأتى ذبحه، وقيل: المراد بذلك ما قرب وما بعد، وذكر ابن عطية أن الظاهر أنه سبحانه خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفا في الاصطياد وفيها يدخل الجوارح والحبالات وما عمل بالأيدي من فخاخ وأشباك. وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد ويدخل فيها السهم ونحوه. وتنكير «شيء» كما قال غير واحد للتحقير المؤذن بأن ذلك من الفتن الهائلة التي تزل فيها أقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلاف الأموال وإنما هو من قبيل ما ابتلي به أهل أيلة من صيد البحر. وفائدته التنبيه على أن من لم يثبت في مثل هذا كيف يثبت عند شدائد المحن. فمن بيانية أي بشيء حقير وهو الصيد.
واعترضه ابن المنير بأنه قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة كما في قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٥] فالظاهر والله تعالى أعلم أن من للتبعيض، والمراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتبعيض التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور الله تعالى وأنه تعالى قادر على أن يجعل ما يبتليهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول وأنه مهما اندفع عنهم ما هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل لطفا بهم ورحمة ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر وحاملا على الاحتمال. والذي يرشد إلى هذا سبق الإخبار بذلك قبل حلوله لتوطين النفوس عليه فإن المفاجأة بالشدائد شديدة الألم والإنذار بها قبل وقوعها مما يسهل موقعها. وإذا فكر العاقل فيما يبتلي به من أنواع البلايا وجد المندفع منها عنه أكثر مما وقع فيه بإضعاف لا تقف عنده غاية فسبحان اللطيف بعباده انتهى.
وتعقبه مولانا شهاب الدين بأن ما ذكر بعينه أشار إليه الشيخ في دلائل الإعجاز لأن شيئا إنما يذكر لقصد التعميم نحو قوله سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤] أو الإبهام وعدم التعيين أو التحقير لادعاء أنه لحقارته لا يعرف. وهنا لو قيل: ليبلونكم بصيد تم المعنى فإقحامها لا بد له من نكتة وهي ما ذكر، وأما ما أورده من الآية الأخرى فشاهد له عليه لأن المقصود فيه أيضا التحقير بالنسبة إلى ما دفعه الله تعالى عنهم كما صرح به المعترض نفسه مع أنه لا يتم الاعتراض به إلا إذا كان «ونقص» معطوفا على مجرور من ولو عطف على- شيء- لكان مثل هذه الآية بلا فرق انتهى.
وقال عصام الملة: يمكن أن يقال: التعبير بالشيء للإبهام المكنى به عن العظمة والتنوين للتعظيم أي بشيء عظيم في مقام المؤاخذة بهتكه إذا آخذ الله تعالى المبتلى به في الأمم السابقة بالمسخ والجعل قردة وخنازير ثم استظهر أن التعبير بذلك لإفادة البعضية، ومما قدمنا يعلم ما فيه. وقرأ إبراهيم «يناله أيديكم» بالياء لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي ليتعلق عمله سبحانه بمن يخافه بالفعل فلا يتعرض للصيد فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقا به لكن تعلقه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمر الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل، وإلى هذا يشير كلام البلخي. والغيب مصدر في موضع اسم الفاعل أي يخافه في الموضع الغائب عن الخلق، فالجار متعلق بما قبله.
وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من من أو من ضمير الفاعل في «يخافه» أي يخافه غائبا عن الخلق.
وقال غير واحد: العلم مجاز عن وقوع المعلوم وظهوره. ومحصل المعنى ليتميز الخائف من عقابه الأخروي وهو غائب مترقب لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد من لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه، وقيل: إن هناك مضافا محذوفا، والتقدير ليعلم أولياء الله تعالى ومن على كل تقدير موصولة، واحتمال كونها استفهامية أي ليعلم جواب من
21
يخافه أي هذا الاستفهام بعيد. وقرىء ليعلم من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليعلم الله عباده إلخ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة فَمَنِ اعْتَدى أي تجاوز حد الله تعالى وتعرض للصيد بَعْدَ ذلِكَ الإعلام وبيان أن ما وقع ابتلاء من جهته سبحانه لما ذكر من الحكمة. وقيل: بعد التحريم والنهي، ورد بأن النهي والتحريم ليس أمرا حادثا ترتب عليه الشرطية بالفاء، وقيل: بعد الابتلاء ورد بأن الابتلاء نفسه لا يصلح مدارا لتشديد العذاب بل ربما يتوهم كونه عذرا مسوغا لتحقيقه.
وفسر بعضهم الابتلاء بقدرة المحرم على المصيد فيما يستقبل، وقال: ليس المراد به غشيان الصيود إياهم فإنه قد مضى، وأنت تعلم إن إرادة ذلك المعنى ليست في حيز القبول والمعول عليه ما أشرنا إليه أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤد إلى تعلق العلم بالخائف بالفعل أو تميز المطيع من العاصي فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ لأن التعرض والاعتداء حينئذ مكابرة محضة وعدم مبالاة بتدبير الله تعالى وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية، ومن لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهينة لا يكاد يراعيه في عظائم المداحض. والمتبادر على ما قيل: إن هذا العذاب الأليم في الآخرة، وقيل: هو في الدنيا.
فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق قيس بن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: هو أن يوسع ظهره وبطنه جلدا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك في الجاهلية أيضا، وقيل: المراد بذلك عذاب الدارين وإليه ذهب شيخ الإسلام. ومناسبة الآية لما قبلها على ما ذكره الأجهوري أنه سبحانه لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات. وأخرج من ذلك الخمر والميسر وجعلهما حرامين، وإنما أخرج بعد من الطيبات ما يحرم في حال دون حال وهو الصيد، ثم إنه عز اسمه شرع في بيان ما يتدارك به الاعتداء من الأحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب فقال عز من قائل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ والتصريح بالنهي مع كونه معلوما لا سيما من قوله تعالى:
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: ١] لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه، واللام في الصَّيْدَ للعهد حسبما سلف، وإطلاقه على غير المأكول شائع، وإلى التعميم ذهبت الإمامية، وأنشدوا لعلي كرم الله تعالى وجهه:
صيد الملوك ثعالب وأرانب وإذا ركبت فصيدي الأبطال
وخصه الشافعية بالمأكول قالوا: لأنه الغالب فيه عرفا، وأيد ذلك بما
رواه الشيخان «خمس يقتلن في الحل والحرم الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور».
وفي رواية لمسلم والحية بدل العقرب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة البحث. والحرم جمع حرام كردح جمع رداح والحرام والمحرم بمعنى والمراد به من أحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل وفي حكمه من كان في الحرم وإن كان حلالا، وقيل: المراد به من كان في الحرم وإن لم يكن محرما بنسك وفي حكمه المحرم وإن كان في الحل، وقال أبو علي الجبائي: الآية تدل على تحريم قتل الصيد على المحرم بنسك أينما كان وعلى من في الحرم كيفما كان معا، وقال علي بن عيسى: لا تدل إلا على تحريم ذلك على الأول خاصة، ولعل الحق مع علي لا مع أبيه، وذكر القتل دون الذبح ونحوه للإيذان بأن الصيد وإن ذبح في حكم الميتة، وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم. وأحمد. ومالك رضي الله تعالى عنهم، وهو القول الجديد للشافعي رضي الله تعالى عنه، وفي القديم لا يكون في حكم الميتة ويحل أكله للغير ويحرم على المحرم وَمَنْ قَتَلَهُ كائنا مِنْكُمْ حال كونه مُتَعَمِّداً أي ذاكرا لإحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله ومثله من قتله خطأ للسنة.
فقد أخرج ابن جرير عن الزهري قال: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ. وأخرج الشافعي وابن المنذر
22
عن عمرو بن دينار قال: رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ، وقال بعضهم: التقييد به بالعمد لأنه الأصل والخطأ ملحق به قياسا. واعترض بأن القياس في الكفارات مختلف فيه، والحنفية لا تراه، وقيل: التقييد به لأنه المورد،
فقد روي أنه عن لهم حمار وحشي فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له: قتلته وأنت محرم فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية.
واعترض بأن الخبر على تقدير ثبوته إنما يدل على أن القتل من أبي اليسر كان عن قصد وهو غير العمد بالمعنى السابق إذ قد أخذ فيه العلم بالتحريم، وفعل أبي اليسر خال عن ذلك بشهادة الخبر إذ يدل أيضا على أن حرمة قتل المحرم الصيد علمت بعد نزول الآية. وأجيب بأنا لا نسلم أن أبا اليسر لم يكن عالما بالحرمة إذ ذاك.
فقد روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الصيد كان حراما في الجاهلية حيث كانوا يضربون من قتل صيدا ضربا شديدا والمعلوم من الآية كون ذلك من شرعنا، وقيل: إن العلم بالحرمة جاء من قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ولعله أولى. وعن داود أنه لا شيء في الخطأ أخذا بظاهر الآية. وروى ابن المنذر ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جبير وطاوس وأخرج أبو الشيخ عن ابن سيرين قال: من قتله ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء ومن قتله متعمدا لقتله غير ناس لإحرامه فذاك إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وأخرج ابن جرير عن الحسن. ومجاهد نحو ذلك، ومَنْ يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر ويجوز أن تكون موصولة، والفاء في قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ جزائية على الأول وزائدة لشبه المبتدأ بالشرط على الثاني. وفَجَزاءٌ بالرفع والتنوين مبتدأ ومِثْلُ مرفوع على أنه صفته والخبر محذوف أي فعليه، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي فواجبه أو فالواجب عليه جزاء مماثل لما قتله.
وجوز أبو البقاء أن يكون مِثْلُ بدلا والزجاج أن يكون جزاء مبتدأ ومِثْلُ خبره إذ التقدير جزاء ذلك الفعل أو المقتول مماثل لما قتله وبهذا قرأ الكوفيون ويعقوب، وقرأ باقي السبعة برفع «جزاء» مضافا إلى «مثل».
واستشكل ذلك الواحدي بل قال: ينبغي أن لا يجوز لأن الجزاء الواجب للمقتول لا لمثله. ولا يخفى أن هذا طعن في المنقول المتواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك غاية في الشناعة، وما ذكر مجاب عنه، أما أولا فبأن جزاء كما قيل مصدر مضاف لمفعوله الثاني أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ومفعوله الأول محذوف والتقدير فعليه أن يجزي المقتول من الصيد مثله ثم حذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه وأضيف المصدر إلى الثاني، وقد يقال لا حاجة إلى ارتكاب هذه المئونة بأن يجعل مصدرا مضافا إلى مفعوله من غير تقدير مفعول آخر على أن معنى أن يجزىء مثل أن يعطي المثل جزاء، وأما ثانيا فبأن تجعل الإضافة بيانية أي جزاء هو مثل ما قتل، وأما ثالثا فبأن يكون مِثْلُ مقحما كما في قولهم: مثلك لا يفعل كذا.
واعترض هذا بأنه يفوت عليه اشتراط المماثلة بين الجزاء والمقتول وكون جزائه المحكوم به ما يقاومه ويعادله وهو يقتضي المماثلة مما لا يكاد يسلم انفهامه من هذه الجملة كما لا يخفى.
وقرأ محمد بن مقاتل بتنوين جزاء ونصبه ونصب مِثْلُ أي فليجز جزاء أو فعليه أن يجزي جزاء مثل ما قتل، وقرأ السلمي برفع جزاء منونا ونصب مِثْلُ أما رفع جزاء فظاهر وأما نصب مثل فبجزاء أو بفعل محذوف دل جزاء عليه أي يخرج أو يؤدي مثل. وقرأ عبد الله «فجزاؤه» برفع جزاء مضافا إلى الضمير ورفع مثل على الابتداء والخبرية. والمراد عند الإمام الأعظم وأبي يوسف المثل باعتبار القيمة يقوم الصيد من حيث أنه صيد لا من حيث ما زاد عليه بالصنع في المكان الذي أصابه المحرم فيه أو في أقرب الأماكن إليه مما يباع فيه ويشري
23
وكذا يعتبر الزمان الذي أصابه فيه لاختلاف القيم باختلاف الأمكنة والأزمنة فإن بلغت قيمته قيمة هدى يخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، ولا يجوز أن يطعم مسكينا أقل من نصف صاع ولا يمنع أن يعطيه أكثر ولو كان كل الطعام غير أنه إن فعل أجزأ عن إطعام مسكين نصف صاع وعليه أن يكمل بحسابه ويقع الباقي تطوعا وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يوما كاملا لأن الصوم أقل من يوم لم يعهد في الشرع وإن لم تبلغ قيمته قيمة هدي فإن بلغت ما يشتري به طعام مسكين يخير بين الإطعام والصوم وإن لم تبلغ إلا ما يشتري به مدا من الحنطة مثلا يخير بين أن يطعم ذلك المقدار وبين أن يصوم يوما كاملا لما قلنا فيكون قوله تعالى:
مِنَ النَّعَمِ تفسيرا للهدي المشتري بالقيمة على أحد وجوه التخيير فإن من فعل ذلك يصدق عليه أنه جزى بمثل ما قتل من النعم. ونظر فيه صاحب التقريب لأن قراءة رفع «جزاء ومثل» تقتضي أن يكون الجزاء مماثلا من النعم للصيد فإن كان الجزاء القيمة فليس مماثلا له منها بل الجزاء قيمة يشتري بها مماثل. وأجاب في الكشف بأن ما يشتري بالجزاء جزاء أيضا فإن طعام المساكين جزاء بالإجماع وهو مشترى بالقيمة. والحاصل أنه يصدق عليه أنه جزاء وأنه اشترى بالجزاء ولا تنافي بينهما، وادعى صاحب الهداية أن مِنَ النَّعَمِ بيان لما قتل وأن معنى الآية فجزاء هو قيمة ما قتل من النعم بجعل المثل بمعنى القيمة وحمل النعم على النعم الوحشي لأن الجزاء إنما يجب بقتله لا بقتل الحيوان الأهلي، وقد ثبت كما قال أبو عبيدة. والأصمعي أن النعم كما تطلق على الأهلي في اللغة تطلق على الوحشي، وكان كلام أبي البقاء حيث قال: يجوز أن يكون مِنَ النَّعَمِ حالا من الضمير في قَتَلَ لأن المقتول يكون من النعم مبنيا على هذا، وهو مع بعد إرادته من النظم الكريم خلاف المتبادر في نفسه، فإن المشهور أن النعم في اللغة الإبل والبقر والغنم دون ما ذكر، وقد نص على ذلك الزجاج وذكر أنه إذا أفردت الإبل قيل لها نعم أيضا وإن أفردت البقر والغنم لا تسمى نعما.
وقال محمد ونسب إلى الشافعي. ومالك. والإمامية أيضا: المراد بالمثل والنظير في المنظر فيما له نظير في ذلك لا في القيمة ففي الظبي شاة. وفي الضبع شاة. وفي الأرنب عناق. وفي اليربوع جفرة. وفي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة لأن الله تعالى أوجب مثل المقتول مقيدا بالنعم فمن اعتبر القيمة فقد خالف النص لأنها ليست بنعم ولأن الصحابة كعلي كرم الله تعالى وجه وعمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين أوجبوا في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة إلى غير ذلك،
وجاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما رواه أبو داود «الضبع صيد وفيه شاة»
وما ليس له نظير من حيث الخلقة مثل العصفور، والحمام تجب فيه القيمة عند محمد كما هو عند الإمام الأعظم وصاحبه، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يعتبر المماثلة من حيث الصفات فأوجب في الحمام شاة لمشابهة بينهما من حيث إن كل واحد منهما يعب ويهدر. وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر ومقاتل رضي الله تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: أول من فدى طير الحرم بشاة عثمان رضي الله تعالى عنه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أطلق المثل والمثل المطلق هو المثل صورة ومعنى وهو المشارك في النوع وهو غير مراد هنا بالإجماع فبقي أن يراد المثل معنى وهو القيمة وهذا لأن المعهود في الشرع في إطلاق لفظ المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة فقد قال تعالى في ضمان العدوان: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: ١٩٤] والمراد الأعم منها أعني المماثل في النوع إذا كان المتلف مثليا والقيمة إذا كان قيميا بناء على أنه مشترك معنوي، والحيوانات من القيميات شرعا إهدارا للماثلة الكائنة في تمام الصورة فيها تغليبا للاختلاف
24
الباطني في أبناء نوع واحد فما ظنك إذا انتفى المشاركة في النوع أيضا فلم يبق إلا مشاكلة في بعض الصورة كطول العنق والرجلين في النعامة مع البدنة ونحو ذلك في غيره فإذا حكم الشرع بانتفاء اعتبار المماثلة مع المشاكلة في تمام الصورة ولم يضمن المتلف بما شاركه في تمام نوعه بل بالمثل المعنوي فعند عدمها وكون المشاكلة في بعض الهيئة انتفاء الاعتبار أظهر إلا أن لا يمكن وذلك بأن يكون للفظ محمل يمكن سواه فالواجب إذا عهد المراد بلفظ في الشرع وتردد فيه في موضع يصح حمله على ذلك المعهود وغيره أن يحمل على المعهود وما نحن فيه كذلك فوجب المصير إليه وأن يحمل ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم من الحكم بالنظير على أنه كان باعتبار التقدير بالقيمة إلا أن الناس إذ ذاك لما كانوا أرباب مواش كان الأداء عليهم منها أيسر لا على معنى أنه لا يجزىء غير ذلك، وحديث التقييد بالنعم قد علمت الجواب عنه، وذكر مولانا شيخ الإسلام أن الموجب الأصلي للجناية والجزاء المماثل للمقتول إنما هو قيمته لكن لا باعتبار أن الجاني يعمد إليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء بل باعتبار أن يجعلها معيارا فيقدر بها إحدى الخصال الثلاث فيقيمها مقامها فقوله تعالى: مِثْلُ ما قَتَلَ وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال. وأما قوله سبحانه مِنَ النَّعَمِ فوصف له معتبر في ثاني الحال بناء على وصفه الأول الذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلا عن العطف على الموصوف كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومما يرشد إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل:
يَحْكُمُ بِهِ أي بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي حكمان عدلان من المسلمين لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوفي في معرفتها كل أحد من الناس. وهذا ظاهر الورود على ظاهر قول محمد.
وقد يقال: إن هذه الجملة مرشدة إلى ما قلنا أيضا على رأي من يجعل مدار المماثلة بين الصيد والنعم المشاكلة والمضاهاة في بعض الأوصاف والهيآت مع تحقق التباين بينهما في بقية الأحوال فإن ذلك مما لا يهتدي إليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية. ألا يرى أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن أسلفنا ذكره أوجبوا في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة في العب والهدير مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون بل السمك والسماك فكيف يفوض معرفة هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلا.
وقرأ محمد بن جعفر «ذو عدل»
وخرجها ابن جني على إرادة الإمام، وقيل: إن «ذو» تستعمل استعمال من للتقليل والتكثير، وليس المراد بها هنا الوحدة بل التعدد ويراد منه اثنان لأنه أقل مراتبه، وفي الهداية قالوا: والعدل الواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد من الغلط، وعلى هذا لا حاجة إلى حمل «ذو» على المتعدد ولا على الإمام بل المراد منها الواحد إماما كان أو غيره، ومن اشترط الاثنين حمل العدد في الآية على القراءة المتواترة على الأولوية، والجملة صفة لجزاء أو حال من الضمير المستتر في خبره المقدر، وقيل: حال منه لتخصيصه بالصفة، وجوز ابن الهمام على قراءة رفع جزاء وإضافته أن تكون صفة لمثل كما أن تكون صفة لجزاء لأن مثلا لا تتعرف بالإضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة.
وقوله تعالى: هَدْياً حال مقدرة من الضمير في بِهِ كما قال الفارسي أو من جزاء بناء على أنه
25
خبر أو منه على تقدير كونه مبتدأ في رأي أو بدل من مِثْلُ فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أي يهديه هديا والجملة صفة أخرى لجزاء بالِغَ الْكَعْبَةِ صفة لهديا لأن إضافته لفظية أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على محل من النعم على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لجزاء على ما اختاره شيخ الإسلام. وقوله تعالى: طَعامُ مَساكِينَ عطف بيان لكفارة عند من يراه كالفارسي في النكرات أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين.
وقوله سبحانه: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً عطف على طَعامُ وذلك إشارة إليه وصِياماً تمييز.
وخلاصة الآية كأنه قيل: فعليه جزاء أو فالواجب جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام. أما الأولان فبلا واسطة، وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلا منها بدلا عن الآخرين، وكون الاختيار للجاني هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله تعالى عنهما فعندهما إذا ظهر قيمة الصيد بحكم الحكمين وهي تبلغ هديا فله الخيار في أن يجعله هديا أو طعاما أو صوما لأن التخيير شرع رفقا بمن عليه فيكون الخيار إليه ليرتفق بما يختار كما في كفارة اليمين. وقال محمد- وحكاه أصحابنا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا-: إن الخيار إلى الحكمين في تعيين أحد الأشياء فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما مر وإن حكما بالطعام أو الصيام فعلى ما قاله الإمام وصاحبه من اعتبار القيمة من حيث المعنى.
واستدل كما قيل على ذلك بالآية، ووجهه أنه ذكر الهدى منصوبا على أنه تفسير للضمير المبهم العائد على مِثْلُ في قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ سواء كان حالا منه كما قدمنا أو تمييزا على ما قيل فيثبت أن المثل إنما يصير هديا باختيارهما وحكمهما أو هو مفعول لحكم الحاكم على أن يكون بدلا عن الضمير محمولا على محله كما في قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الأنعام: ١٦١] وفي ذلك تنصيص على أن التعيين إلى الحكمين. ثم لما ثبت ذلك في الهدي ثبت في الطعام والصيام لعدم القائل بالفصل لأنه سبحانه عطفهما عليه بكلمة أو وهي عند غير الشعبي. والسدي. وابن عباس رضي الله تعالى عنهم في رواية للتخيير فيكون الخيار إليهما وأجاب عن ذلك غير واحد من أصحابنا بأن الاستدلال إنما يصح لو كان كفارة معطوفة على هديا وليس كذلك لاختلاف إعرابهما وإنما هي معطوفة على قوله تعالى: فَجَزاءٌ بدليل أنه مرفوع وكذا قوله: أَوْ عَدْلُ إلخ فلم يكن في الآية دلالة على اختيار للحكمين في الطعام والصيام وإذا لم يثبت الخيار فيهما للحكمين لم يثبت في الهدي لعدم القائل بالفصل وإنما يرجع إليهما في تقديم المتلف لا غير، ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه رفقا به على أن في توجيه الاستدلال على ما قاله أكمل الدين في العناية إشكالا لأن ذكر الطعام والصيام بكلمة أو لا يفيد المطلوب إلا إذا كان كفارة منصوبا على ما هو قراءة عيسى بن عمر النحوي وهي شاذة، والشافعي لا يرى الاستدلال بالقراءة الشاذة لا من حيث إنها كتاب ولا من حيث إنها خبر كما عرف في الأصول.
واعترض مولانا شيخ الإسلام على عطف كَفَّارَةٌ على جزاء وقد ذهب إليه أجلة المفسرين والفقهاء بأنه لا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام، والالتجاء إلى القياس على الهدي تعسف لا يخفى وقد علمت ما اختاره. والآية عليه أيضا لا تصلح دليلا على مدعي الخصم كما هو ظاهر على أن الظاهر منها كما قاله ابن الهمام أن الاختيار لمن عليه فإن مرجع ضمير المحذوف من الخبر أو متعلق المبتدأ إليه بناء على أن التقدير من الضأن أو الثني من غيره عند أبي حنيفة لأن مطلق اسم الهدي ينصرف إليه كما في هدي المتعة والقران. واعترض عليه بأن اسم الهدي قد ينصرف إلى غيره كما إذا قال: إذا فعلت كذا فثوبي هذا هدي فليكن في محل النزاع كذلك. وأجيب بأن
26
الكلام في مطلق الهدي وما ذكر ليس كذلك لأن الإشارة إلى الثوب قيدته، وعند محمد يجزىء صغار النعم لأن الصحابة كما تقدم أوجبوا عناقا وجفرة فدل على جواز ذلك في باب الهدي، وعن أبي يوسف روايتان رواية كقول الإمام، وأخرى كقول محمد وهي التي في المبسوط. والأسرار. وغيرهما، وعند أبي حنيفة يجوز الصغار على وجه الإطعام فيجوز أن يكون حكم الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان على هذا الاعتبار فمجرد فعلهم حينئذ لا ينافي ما ذهب إليه الإمام فلا ينتهض حجة عليه.
وإذا اختار الهدي وبلغ ما يضحي به فلا يذبح إلا بالحرم وهو المراد بقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ إلا أن ذكر الكعبة للتعظيم. ولو ذبحه في الحل لا يجزيه عن الهدي بل عن الإطعام فيشترط أن يعطي كل مسكين قيمة نصف صاع حنطة أو صاع من غيرها، ويجوز أن يتصدق بالشاة الواقعة هديا على مسكين واحد كما في هدي المتعة. ولا يتصدق بشيء من الجزاء على من لا تقبل شهادته له، ويجوز على أهل الذمة والمسلم أحب. ولو أكل من الجزاء غرم قيمة ما أكل، ولا يشترط في الإطعام أن يكون في الحرم.
ونقلوا عن الشافعي أنه يشترط ذلك اعتبارا له بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم، ونحن نقول: الهدي قربة غير معقولة فيختص بمكان أو زمان أما الصدقة فقربة معقولة في كل زمان ومكان كالصوم فإنه يجوز في غير الحرم بالإجماع فإن ذبح في الكوفة مثلا أجزأه عن الطعام إذا تصدق باللحم، وفيه وفاء بقيمة الطعام لأن الإراقة لا تنوب عنه، ولو سرق هذا المذبوح أو ضاع قبل التصدق به بقي الواجب عليه كما كان. وهذا بخلاف ما لو كان الذبح في الحرم حيث يخرج عن العهدة. وإن سرق المذبوح أو ضاع قبل التصدق به وإذا وقع الاختيار على الطعام يقوم المتلف بالقيمة ثم يشتري بالقيمة طعام ويتصدق به على ما أشرنا إليه أولا. وفي الهداية يقوم المتلف بالطعام عندنا لأنه المضمون فتعتبر قيمته.
ونقل حميد الدين الضرير عن محمد أنه يقوم النظير لأنه الواجب عينا إذا كان للمقتول نظير، وأنت تعلم أنه لو سلّم أن النظير هو الواجب عينا عند اختيار الهدي لم يلزم منه وجوب تقديمه عند اختيار خصلة أخرى فكيف وهو ممنوع، وإن اختار الصيام فعلى ما في الهداية يقوم المقتول طعاما ثم يصوم عن طعام كل مسكين يوما على ما مر لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام، والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في الفدية. وتمام البحث في الفروع. والكفارة والطعام في الآية على ما يشعر به كلام بعض المفسرين بالمعنى المصدري ولو أبقيا على الظاهر لصح هذا، وما ذكرنا من عطف «كفارة» إنما هو على قراءة جزاء بالرفع. وعلى سائر القراءات يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة مِنَ النَّعَمِ.
وذكر الشهاب أنه يجوز في «كفارة» على قراءة جزاء بالنصب أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي الواجب عليه كفارة وأن يقدر هناك فعل أي أن يجزىء جزاء فيكون «أو كفارة» عطفا على أن يجزىء وهو مبتدأ مقدم عليه خبره.
وقرىء أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ على الإضافة لتبيين نوع الكفارة بناء على أنها بمعنى المكفر به وهي عامة تشمل الطعام وغيره، وكذا الطعام يكون كفارة وغيرها فبين المتضايفين عموم وخصوص من وجه كخاتم جديد. وقال أبو حيان: إن الطعام ليس جنسا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدا فالإضافة إنما هي إضافة الملابسة وليس بشيء.
وقرأ الأعرج «أو كفارة طعام مسكين» على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس. وقرىء «أو عدل» بكسر العين، والفرق بينهما إن عدل الشيء كما قال الفراء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعدله ما عدل به
27
في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول، وقال البصريون: العدل والعدل كلاهما بمعنى المثل سواء كان من الجنس أو من غيره. وقال الراغب: العدل والعدل متقاربان لكنه بالفتح فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام وبالكسر فيما يدرك بالحواس كالعديل فالعدل بالفتح هو التقسيط على سواء. وعلى هذا
روي بالعدل قامت السماوات
تنبيها على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدا على الآخر أو ناقصا عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظما.
لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ متعلق بالاستقرار الذي تعلق به المقدر، وقيل: بجزاء، وقيل: بصيام أو بطعام، وقيل:
بفعل مقدر وهو جوزي أو شرعنا ذلك ونحوه، والوبال في الأصل الثقل ومنه الوابل للمطر الكثير والوبيل للطعام الثقيل الذي لا يسرع هضمه والمرعى الوخيم ولخشبة القصار وضمير «أمره» إما لله تعالى أو لمن قتل الصيد أي ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتك حرمة ما هو فيه أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى القوي، وعلى هذا لا بد من تقدير مضاف كما أشرنا إليه لأن أمر الله تعالى لا وبال فيه وإنما الوبال في مخالفته.
عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ لكم من الصيد وأنتم محرمون فلم يجعل فيه إثما ولم يوجب فيه جزاء أو لم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك مع أنه ذنب عظيم أيضا حيث كنتم على شريعة إسماعيل عليه السلام والصيد محرم فيها، وقد مر رواية التحريم جاهلية والمؤاخذة على قتل الصيد بالضرب الوجيع وَمَنْ عادَ إلى مثل ذلك فقتل الصيد متعمدا وهو محرم فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي فهو ينتقم الله تعالى منه لأن الجزاء إذا وقع مضارعا مثبتا لم تدخله الفاء ما لم يقدر المبتدأ على المشهور، وكذا المنفي بلا، وجوز السمين أن تكون من موصولة ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط وهي زائدة والجملة بعدها خبر ولا حاجة حينئذ إلى إضمار المبتدأ. والمراد بالانتقام التعذيب في الآخرة، وأما الكفارة فعن عطاء. وإبراهيم. وابن جبير. والحسن. والجمهور أنها واجبة على العائد فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة حتى أنهم كانوا يسألون المستفتي هل أصبت شيئا قبله؟ فإن قال: نعم لم يحكم عليه وإن قال لا حكم عليه تعلقا بظاهر الآية.
وأنت تعلم أن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى، وقيل: معنى الآية ومن عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله وليس بالبعيد، وأما حمل الانتقام على الانتقام في الدنيا بالكفارة وإن كان محتملا لكنه خلاف الظاهر. وكذا كون المراد ينتقم منه إذا لم يكفر. وقد اختلفوا فيما إذا اضطر محرم إلى أكل الميتة أو الصيد فقال زفر: يأكل الميتة لا الصيد لتعدد جهات حرمته عليه، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يتناول الصيد ويؤدي الجزاء لأن حرمة الميتة أغلظ ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام فهي مؤقتة بخلاف حرمة الميتة فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما. والصيد وإن كان محظور الإحرام لكن عند الضرورة يرتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء كما في المبسوط.
وفي الخانية المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى في قول أبي حنيفة. ومحمد.
وقال أبو يوسف. والحسن: يذبح الصيد. ولو كان الصيد مذبوحا فالصيد أولى عند الكل. ولو وجد لحم صيد ولحم آدمي كان لحم الصيد أولى ولو وجد صيدا وكلبا فالكلب أولى لأن في الصيد ارتكاب محظورين.
وعن محمد الصيد أولى من لحم الخنزير انتهى. وفي هذا خلاف ما ذكر في المبسوط وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب
28
لا يغالب ذُو انْتِقامٍ شديد فينتقم ممن يتعدى حدوده ويخالف أوامره ويصر على معاصيه أُحِلَّ لَكُمْ أيها المحرمون صَيْدُ الْبَحْرِ أي ما يصاد في الماء بحرا كان أو نهرا أو غديرا وهو ما يكون توالده ومثواه في الماء مأكولا كان أو غيره كما في البدائع. وفي مناسك الكرماني الذي رخص من صيد البحر المحرم هو السمك خاصة وأما نحو طيره فلا رخصة فيه له والأول هو الأصح وَطَعامُهُ أي ما يطعم من صيده. وهو عطف على «صيد» من عطف الخاص على العام. والمعنى أحل لكم التعرض لجميع ما يصاد في المياه والانتفاع به وأكل ما يؤكل منه وهو السمك عندنا. وعند ابن أبي ليلى الصيد والطعام على معناهما المصدري وقدر مضافا في صيد البحر وجعل ضمير «طعامه» راجعا إليه لا إلى البحر أي أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه وتأكلوه فيحل عنده أكل جميع حيوانات البحر من حيث أنها حيواناته، وقيل: المراد بصيد البحر ما صيد ثم مات وبطعامه ما قذفه البحر ميتا، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وابن عمر. وقتادة.
وقيل: المراد بالأول الطري وبالثاني المملوح. وسمي طعاما لأنه يدخر ليطعم فصار كالمقتات به من الأغذية وروي ذلك عن ابن المسيب وابن جرير ومجاهد وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه بعد.
وأبعد منه كون المراد بطعامه ما ينبت بمائة من الزروع والثمار. وقرىء «وطعمه» مَتاعاً لَكُمْ نصب على أنه مفعول له لأحل أي تمتيعا. وجعله في الكشاف مختصا بالطعام كما أن «نافلة» في باب الحال من قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء: ٧٢] مختص بيعقوب عليه السلام، والذي حمله على ذلك كما قال الشهاب مذهبه وهو مذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه من أن صيد البحر ينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل وأن طعامه هو المأكول منه إلا أنه أورد عليه أنه يؤدي إلى أن الفعل الواحد المسند إلى فاعلين متعاطفين يكون المفعول له المذكور بعدهما لأحدهما دون الآخر كقام زيد وعمرو إجلالا لك على أن الإجلال مختص بقيام أحدهما وفيه إلباس.
وأما الحال في الآية المذكورة فليست نظيرة لهذا لأن فيه قرينة عقلية ظاهرة لأن النافلة ولد الولد فلا تعلق لها بإسحاق لأنه ولد صلب لإبراهيم عليهما السلام. وعلى غير مذهب الإمام لا اختصاص للمفعول له بأحدهما وهو ظاهر جلي.
وقيل: نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر أي متعكم به متاعا، وقيل: مؤكد لمعنى «أحل» فإنه في قوة متعكم به تمتيعا كقوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤] وقيل وليس بشيء: إنه حال مقدرة من طعام أي مستمتعا به للمقيمين منكم يأكلونه طريا وَلِلسَّيَّارَةِ منكم يتزودونه قديدا وهو مؤنث سيار باعتبار الجماعة كما قال الراغب.
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ وهو ما توالده ومثواه في البر مما هو ممتنع لتوحشه الكائن في أصل الخلقة فيدخل الظبي المستأنس ويخرج البعير والشاة المتوحشان لعروض الوصف لهما، وكون زكاة الظبي المستأنس بالذبح والأهلي المتوحش بالعقر لا ينافيه لأن الذكاة بالذبح والعقر دائران مع الإمكان وعدمه لا مع الصيدية وعدمها.
واستثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسا.
ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس من الدواب. ليس على المحرم في قتلهن جناح العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحدأة»
وقد تقدم ما في رواية لمسلم وجاء تسميتهن فواسق، وفي فتح القدير ويستثنى من صيد البر بعضه كالذئب والغراب والحدأة وأما باقي الفواسق فليست بصيود. وأما باقي السباع فالمنصوص عليه في ظاهر الرواية عدم الاستثناء وأنه يجب بقتلها الجزاء ولا يجاوز شاة إن ابتدأها المحرم وإن ابتدأته فلا شيء عليه وذلك كالأسد، والفهد، والنمر، والصقر، والبازي، وأما صاحب البدائع فيقسم البري إلى مأكول وغيره، والثاني إلى ما يبتدىء بالأذى غالبا كالأسد.
والذئب. والنمر وإلى ما ليس كذلك كالضبع، والفهد. والثعلب فلا يحل قتل الأول والأخير إلا أن يصول ويحل قتل
29
الثاني ولا شيء فيه وإن لم يصل، وجعل ورود النص في الفواسق ورودا فيها دلالة ولم يحك خلافا لكن في الخانية، وعن أبي يوسف الأسد بمنزلة الذئب. وفي ظاهر الرواية السباع كلها صيد إلا الكلب والذئب ولعل استثناء الذئب لذكره في المستثنيات على ما أخرجه أبو شيبة. والدارقطني. والطحاوي.
وقيل: لأنه المراد بالكلب العقور في الخبر السابق، وقيل: وأما الكلب فقد جاء استثناؤه في الحديث إلا أنه وصف منه بالعقورية ولعل الإمام إنما يعتبر الجنس.
ونظر فيه بأنه يفضي إلى إبطال الوصف المنصوص عليه. وأجيب بأنه ليس للقيد بل لإظهار نوع إذائه فإن ذلك طبع فيه، وقال سعدي جلبي: لو صح هذا النظر يلزم اعتبار مفهوم الصفة بل سائر المفاهيم وهو خلاف ما في أصولنا، وأما كون السباع كلها صيدا إلا ما استثني ففيه خلاف للشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا فعنده هي داخلة في الفواسق المستثنيات قياسا أو ملحقة بها دلالة أو لأن الكلب العقور يتناولها لغة.
وأجاب بعض الأصحاب بأن القياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد وكذلك الإلحاق بها دلالة لأن الفواسق مما تعدو علينا للقرب منا والسبع ليس كذلك لبعده عنا فلا يكون في معنى الفواسق ليلحق بها، واسم الكلب وإن تناوله لغة لم يتناوله عرفا والعرف أقوى وأرجح في هذا الموضع كما في الإيمان لبنائه على الاحتياط، وفيه بحث طويل الذيل فتأمل.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «حرم عليكم صيد» ببناء حرم للفاعل ونصب صيد أي وحرم الله عليكم صيد البر ما دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين.
وقرىء «دمتم» بكسر الدال كخفتم من دام يدام وذلك لغة فيها. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «حرما» بفتحتين أي ذوي حرم بمعنى إحرام أو على المبالغة،
وظاهر الآية يوجب حرمة ما صاده الحلال على المحرم وإن لم يكن له مدخل فيه وهو قول ابن عباس، وابن عمر، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه،
وجماعة من السلف، واحتج له أيضا بما
أخرجه مسلم عن الصعب بن حثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمارا وحشيا، وفي رواية حمار وحش، وفي رواية من لحم حمار وحش، وفي رواية من رجل حمار وحش، وفي رواية عجز حمار وحش يقطر دما، وفي رواية شق حمار وحش، وفي أخرى عضوا من لحم صيد وهو عليه الصلاة والسلام بالأبواء أو بودان فرده عليه صلّى الله عليه وسلّم قال: فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما في وجهي قال: «إنا لم نرده عليك إلّا أنا حرم».
وعن أبي هريرة، وعطاء، ومجاهد وابن جبير ورواه الطحاوي عن عمر وطلحة، وعائشة رضي الله تعالى عنهم أنه يحل له أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يدل عليه ولم يشر إليه ولا أمره بصيده. وكذا ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على ما اختاره الطحاوي لأن الخطاب للمحرمين فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر فيخرج منه مصيد غيرهم، أو يقال: إن المراد صيدهم حقيقة أو حكما وصورة الدلالة أو الأمر من الشق الثاني، وعن مالك، والشافعي، وأحمد، وداود رحمهم الله تعالى لا يباح ما صيد له لما
رواه أبو داود.
والترمذي والنسائي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحم الصيد حلال لكم وأنتم محرمون ما لم تصيدوه أو يصاد لكم»
وأجيب: بأنه
قد روى محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه «تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم والنبي صلّى الله عليه وسلّم نائم فارتفعت أصواتنا فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
فيم تتنازعون؟ فقلنا: في لحم الصيد يأكله المحرم فأمرنا بأكله»
،
وروى الحافظ أبو عبد الله الحسين عن أبي حنيفة
30
عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده الزبير بن العوام قال: «كنا نحمل لحم الصيد صفيفا (١) وكنا نتزوده وكنا نأكله ونحن محرمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».
وأخرج مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجا وخرجنا معه فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني قال: فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلوا فأكلوا من لحمها قال فقالوا: أكلنا لحما ونحن محرمون قال: فحملوا ما بقي من لحم الأتان فلما أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها فقلنا: نأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقي من لحمها فقال عليه الصلاة والسلام:
هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا قال: فكلوا ما بقي من لحمها»
.
وفي رواية لمسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل عندكم منه؟ شيء قالوا: معنا رجله فأخذها عليه الصلاة والسلام فأكلها».
وحديث جابر مؤول بوجهين الأول كون اللام للملك، والمعنى أن يصاد ويجعل له فيكون مفاده تمليك عين الصيد من المحرم وهو ممتنع أن يتملكه فيأكل من لحمه، والثاني الحمل على أن المراد أن يصاد بأمره وهذا لأن الغالب في عمل الإنسان لغيره أن يكون بطلب منه، والتزام التأويل دفعا للتعارض كما قال غير واحد. وقال ابن الهمام وقد يقال: القواعد تقتضي أن لا يحكم بالتعارض بين حديث جابر وبين الخبرين الأولين من هذه الأخبار الثلاثة لأن قول طلحة: فأمرنا بأكله مقيد عندنا بما إذا لم يدله المحرم على الصحيح خلافا لأبي عبد الله الجرجاني ولا أمره بقتله على ما يدل عليه حديث أبي قتادة فيجب تخصيصه بما إذا لم يصد للمحرم بالحديث الآخر.
وحديث الزبير حاصله نقل وقائع أخبار وهي لا عموم لها فيجوز كون ما كانوا يحملونه من لحوم الصيد للتزود ما لم يصد لأجل المحرمين بل هو الظاهر لأنهم يتزودونه من الحضر ظاهرا والإحرام بعد الخروج إلى الميقات، فالأولى الاستدلال على أصل المطلوب بحديث أبي قتادة المذكور على وجه المعارضة فإنه أفاد أنه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت. موجودة أم لا فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه صلّى الله عليه وسلّم في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحل عند خلوه عنها.
وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد مانعا فيعارض حديث جابر ويقدم عليه لقوة ثبوته إذ هو في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستة بخلاف ذلك بل قيل في حديث جابر انقطاع لأن المطلب في سنده لم يسمع من جابر عند غير واحد، وكذا في رجاله من فيه لين، وبعد ثبوت ما ذهبنا إليه بما ذكرنا يقوم دليل على ما ذكر من التأويل انتهى. وأنت تعلم أن في حديث جابر أيضا شيئا من جهة العربية ولعل الأمر فيه سهل.
بقي أن حديث الصعب بظاهره يعارض ما استدل به أهل المذهبين الأخيرين، واختار بعض الحنفية في الجواب بأن فيه اضطرابا ليس مثله في حديث قتادة حتى
روى عمرو بن أمية الضمري عن أبيه أن الصعب أهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عجز حمار وحش بالجحفة فأكل منه عليه الصلاة والسلام وأكل القوم
فكان حديث قتادة أولى وقد وقع ما وقع فيه في الحج كما تحكيه الرواية التي ذكرناها، ومعلوم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجواب: يحتمل أن يكون صلّى الله عليه وسلّم علم أنه صيد له فرده عليه فلا يعارض حديث جابر،
(١) اي قديدا اه منه. [.....]
31
وتعليله عليه الصلاة والسلام الرد بأنه محرم لا يمنع من كونه صيد له لأنه إنما يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له بشرط أن يكون محرما، فبين صلّى الله عليه وسلّم الشرط الذي يحرم به،
وقيل: إن جابرا إنما أهدى حمارا فرده صلّى الله عليه وسلّم لامتناع تملك المحرم الصيد،
ولا يخفى أن الروايات الدالة على البعضية أكثر ولا تعارض بينها فتحمل رواية أنه أهدى حمارا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض ويمتنع هنا العكس إذ إطلاق الرجل مثلا على كل الحيوان غير معهود، وقد صرحوا أنه لا يجوز أن يطلق على زيد أصبع ونحوه لأن شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم كالرقبة والرأس على الإنسان فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر، وأما إطلاق العين على الرؤية فليس من حيث هو إنسان بل من حيث هو رقيب وهو من هذه الحيثية لا يتحقق بلا عين أو هو أحد معاني المشترك اللفظي كما عده كثير منها فليتيقظ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه من الصيد أو في جميع المعاصي التي من جملتها ذلك الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إلى ذلك الغير.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا علميا لا تُحَرِّمُوا بتقصيركم في السلوك طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ من مكاشفات الأحوال وتجليات الصفات وَلا تَعْتَدُوا بظهور النفس بصفاتها وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي اجعلوا ما من الله تعالى به عليكم من علوم التجليات ومواهب الأحوال والمقامات غذاء قلوبكم حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ في حصول ذلك لكم بأن تردوها منه وله، وجعل غير واحد هذا خطابا للواصلين من أرباب السلوك حيث أرادوا الرجوع إلى حال أهل البدايات من المجاهدات فنهوا عن ذلك وأمروا بأكل الحلال الطيب، وفسروا الحلال بما وصل إلى المعارف من خزائن الغيب بلا كلفة، والطيب ما يقوي القلب في شوق الله تعالى وذكر جلاله، وقيل: الحلال الطيب ما يأكل على شهود وإلا فعلى ذكر، فإن الأكل على الغفلة حرام في شرع السلوك، وقال آخرون: الحلال الطيب هو الذي يراه العارف في خزانة القدر فيأخذه منها بوصف الرضا والتسليم، والحرام ما قدر لغيره وهو يجتهد في طلبه لنفسه لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وهو الحلف لملالة النفس وكلالة القوى وغلبة سلطان الهوى، وعدوا من اللغو في اليمين الإقسام على الله تعالى بجماله وجلاله سبحانه عند غلبة الشوق ووجدان الذوق أن يرزقه شيئا من إقباله عز وجل ووصاله فإن ذلك لغو في شريعة الرضا ومذهب التسليم. والذي يقتضيه ذلك ما أشير إليه بقوله:
أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد
لكن لا يؤاخذ الله تعالى عليه الحالف لعلمه بضعف حاله. وعدوا من ذلك أيضا ما يجري على لسان السالكين في غلبة الوجد من تجديد العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم:
وحقك لا نظرت إلى سواكا بعين مودة حتى أراكا
فإن ذلك ينافي التوحيد وهل في الدار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وذلك إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان عن صميم الفؤاد فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ وهي على ما قال البعض الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وهم القلب والسر والروح والخفي، وطعامهم الشوق، والمحبة، والصدق، والإخلاص، والتفويض، والتسليم، والرضا، والإنس، والهيبة، والشهود، والكشوف، والأوسط الذكر، والفكر، والشوق، والتوكل، والتعبد، والخوف، والرجاء، وإطعام الحواس ذلك أن يشغلها به أَوْ كِسْوَتُهُمْ لباس التقوى أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وهي رقبة النفس فيحررها من عبودية الحرص والهوى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ولم يستطع فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فيمسك في اليوم الأول عما عزم عليه وفي اليوم الثاني
32
عما لا يعنيه وفي اليوم الثالث عن العود إليه، وقيل كنى سبحانه بصيام ثلاثة أيام عن التوبة والاستقامة عليها ما دامت الدنيا، فقد قيل: الدنيا ثلاثة أيام، يوم مضى، ويوم أنت فيه، ويوم لا تدري ما الله سبحانه قاض فيه وَأَطِيعُوا اللَّهَ بالفناء فيه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بالبقاء بعد الفناء وَاحْذَرُوا ظهور ذلك بالنظر إلى نفوسكم فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ ولم يقصر فيه فالقصور منكم لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بالتقليد وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال البدنية الشرعية جُناحٌ فِيما طَعِمُوا من المباحات إِذا مَا اتَّقَوْا الشبهة والإسراف وَآمَنُوا بالتحقيق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال القلبية الحقيقية من تخلية القلب عما سواه سبحانه ومن تحليته بالأحوال المضادة لهواه من الصدق، والإخلاص، والتوكل، والتسليم ونحو ذلك ثُمَّ اتَّقَوْا شرك الأنانية وَآمَنُوا بالهوية ثُمَّ اتَّقَوْا هذا الشرك وهو الفناء وَأَحْسَنُوا بالبقاء به جل شأنه قاله النيسابوري.
وقال غيره: ليس على الذين آمنوا الإيمان العيني بتوحيد الأفعال وعملوا بمقتضى إيمانهم أعمالا تخرجهم عن حجب الأفعال وتصلحهم لرؤية أفعال الحق جناح وضيق فيما تمتعوا به من أنواع الحظوظ إذا ما اجتنبوا بقايا أفعالهم واتخذوا الله تعالى وقاية في صدور الأفعال منهم وآمنوا بتوحيد الصفات وعملوا ما يخرجهم عن حجبها ويصلحهم لمشاهدة الصفات الإلهية بالمحو فيها ثم اتقوا بقايا صفاتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في ظهور صفاته عليهم وآمنوا بتوحيد الذات ثم اتقوا بقية ذواتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في وجودهم بالفناء المحض والاستهلاك في عين الذات وأحسنوا بشهود التفصيل في عين الجمع والاستقامة في البقاء بعد الفناء وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الباقين بعد فنائهم أو المشاهدين للوحدة في عين الكثرة المراعين لحقوق التفاصيل في عين الجمع بالوجود الحقاني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالغيب لَيَبْلُوَنَّكُمُ في أثناء السير والإحرام لزيارة كعبة الوصول بشيء من الصيد أي الحظوظ والمقاصد النفسانية تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ أي يتيسر لكم ويتهيأ ما يتوصل به إليه.
وقيل: ما تناله الأيدي اللذات البدنية وما تناله الرماح اللذات الخيالية لِيَعْلَمَ اللَّهُ العلم الذي ترتب عليه الجزاء «من يخافه» بالغيب أي في حال الغيبة ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين بالغيب لتعلقه بالعقاب الذي هو من باب الأفعال، وأما في الحضور فالخشية والهيبة دون الخوف، والأولى بتجلي صفات الربوبية والعظمة، والثانية بتجلي الذات، فالخوف كما قيل من صفات النفس والخشية من صفات القلب، والهيبة من صفات الروح «فمن اعتدى بعد ذلك» بتناول شيء من الحظوظ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب الاحتجاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي في حال الإحرام الحقيقي وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً بأن ارتكب شيئا من الحظوظ النفسانية قصدا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ بأن يقهر تلك القوة التي ارتكب بها من قوى النفس البهيمية بأمر يماثل ذلك الحظ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ وهما القوتان النظرية والعملية هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ الحقيقية وذلك بإفنائها في الله عز وجل أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أي أو يستر تلك القوة بصدقة أو صيام أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وهو ما في العالم الروحاني من المعارف وَطَعامُهُ وهو العلم النافع من علم المعاملات والأخلاق مَتاعاً أي تمتيعا لكم أيها السالكون بطريق الحق وَلِلسَّيَّارَةِ المسافرين سفر الآخرة، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ وهو في العالم الجسماني من المحسوسات والحظوظ النفسانية وَاتَّقُوا اللَّهَ في سيركم وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بالفناء فاجتهدوا في السلوك ولا تقفوا مع الموانع وهو الله تعالى الميسر للرشاد وإليه المرجع والمعاد.
33
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ أي صيرها، وسميت كعبة على ما روي عن عكرمة. ومجاهد لأنها مربعة والتكعيب التربيع، وتطلق لغة على كل بيت مربع، وقد يقال: التكعب للارتفاع، قيل: ومنه سميت الكعبة كعبة لكونها مرتفعة، ومن ذلك كعب الإنسان لارتفاعه ونتوه، وكعبت المرأة إذا نتأ ثديها، وقيل: سميت كعبة لانفرادها من البناء ورده الكرماني إلى ما قبله لأن المنفرد من البناء نات من الأرض.
وقوله تعالى: الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح لأنه عرف بالتعظيم عندهم فصار في معنى المعظم أو لأنه وصف بالحرام المشعر بحرمته وعظمته، وذكر البيت كالتوطئة له فالاعتراض بالجمود من الجمود دون التوضيح، وقيل: جيء به للتبيين لأنه كان لخثعم بيت يسمونه بالكعبة اليمانية.
وجوز أن يكون بدلا وأن يكون مفعولا ثانيا لجعل، وقوله سبحانه: قِياماً لِلنَّاسِ نصب على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى بل هذا هو المفعول الثاني.
وقيل: جَعَلَ بمعنى خلق فتعدى لواحد وهذا حال، ومعنى كونه قياما لهم أنه سبب إصلاح أمورهم وجبرها دينا ودنيا حيث كان مأمنا لهم وملجأ ومجمعا لتجارتهم يأتون إليه من كل فج عميق. ولهذا قال سعيد بن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه، ومن ذلك أخذ بعضهم
أن التجارة في الحج ليست مكروهة. وروي هذا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ولم يكن
35
في العرب ملوك كذلك فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع به بعضهم عن بعض فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله، فالمراد من الناس على هذا العرب خاصة، وقيل: معنى كونه قياما للناس كونه أمنا لهم من الهلاك فما دام البيت يحج إليه الناس لم يهلكوا فإن هدم وترك الحج هلكوا وروي ذلك عن عطاء. وقرأ ابن عامر «قيما» على أنه مصدر كشيع. وكان القياس أن لا تقلب واوه ياء لكنها لما قلبت في فعله ألفا تبعه المصدر في إعلال عينه وَالشَّهْرَ الْحَرامَ أي الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة فالتعريف للعهد بقرينة قرنائه واختار غير واحد إرادة الجنس على ما هو الأصل والقرينة المعهودة لا تعين العهد، والمراد الأشهر الحرم وهي أربعة واحد فرد وثلاثة سرد فالفرد رجب والسرد ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وهو وما بعده عطف على الْكَعْبَةَ فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر أي وجعل الشهر الحرام وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ أيضا قياما لهم، والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر والحج بها أظهر وقيل: الكلام على ظاهره، فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي مجلز أن أهل الجاهلية كان الرجل منهم إذا أحرم تقلد قلادة من شعر فلا يتعرض له أحد فإذا حج وقضى حجه تقلد قلادة من إذخر، وقيل: كان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد ولا يتعرض له أحد بسوء، وكانوا لا يغيرون في الأشهر الحرم وينصلون فيها الأسنة ويهرع الناس فيها إلى معايشهم ولا يخشون أحدا، وقد توارثوا- على ما قيل- ذلك من دين إسماعيل عليه السلام ذلِكَ أي الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره. ومحل اسم الإشارة النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وبه تتعلق اللام فيما بعد. وقيل: محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الحكم الذي قررناه ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الحكم هو الحق والحكم الأول هو الأقرب، والتقدير شرع ذلك لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل الوقوع وجلب المنافع الأولية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وإحاطة علمه سبحانه وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ واجبا كان أو ممتنعا أو ممكنا عَلِيمٌ كامل العلم، وهذا تعميم إثر تخصيص، وقدم الخاص لأنه كالدليل على ما بعد.
وجوز أن يراد بما في السماوات والأرض الأعيان الموجودة فيهما وبكل شيء الأمور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني. والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك والعقاب كما قيل هو الضرر الذي يقارنه استخفاف وإهانة. وسمي عقابا لأنه يستحق عقيب الذنب وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى وأقلع عن الانتهاك. ووجه تقديم الوعيد ظاهر ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ولم يأل جهدا في تبليغكم ما أمرتم به فأي عذر لكم بعد. وهذا تشديد في إيجاب القيام بما أمر به سبحانه. والبلاغ اسم أقيم مقام المصدر كما أشير إليه وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ فيعاملكم بما تستحقونه في ذلك قُلْ يا محمد لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ أي الرديء والجيد من كل شيء. فهو حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين والتحذير عن رديها وإن كان سبب النزول ان المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهوا عن ذلك على ما مر ذكره،
وقيل: نزلت في رجل سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي وإني جمعت من بيعها مالا فهل ينفعني من ذلك إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أنفقته في حج أو جهاد لم يعدل جناج بعوضة إن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب.
وعن الحسن واختاره الجبائي الخبيث الحرام والطيب الحلال، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون وتقديم
36
الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء فيه لا في مقابله، وقد تقدمت الإشارة إلى تحقيقه، وَلَوْ أَعْجَبَكَ أي وإن سرك أيها الناظر بعين الاعتبار كَثْرَةُ الْخَبِيثِ.
وقيل الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر. وقيل للحال أي لو لم يعجبك ولو أعجبك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل «لا يستوي» أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض. وقد حذفت الأولى في مثل هذا التركيب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى. وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلها عليه فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ في تحري الخبيث وإن كثر وآثروا عليه الطيب وإن قل فإن مدار الاعتبار هو الخيرية والرداءة لا الكثرة والقلة وفي الأكثر أحسن كل شيء أقله. ولله در من قال:
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا
وفي الآية كما قيل إشارة إلى غلبة أهل الإسلام وإن قلوا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين أن تنالوا الفلاح والفوز بالثواب العظيم والنعيم المقيم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ظاهر اللفظ كما قال ابن يعيش يقضي بكونها جمع شيء لأن فعلا إذا كان معتل العين يجمع في القلة على أفعال نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ إلا أنهم رأوها غير مصروفة في حال التنكير كما هنا فتشعبت آراء الجماعة فيها. فذهب سيبويه. والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث وأن الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو الحلفاء والطرفاء فأشياء في الأصل شيئا بهمزتين بينهما ألف فقدمت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة على الفاء لاستثقال همزتين بينهما ألف قبلهما حرف علة وهو الياء والهمزة الثانية زائدة للتأنيث ولذلك لا تنصرف ووزنها لفعاء، وقصارى ما في هذا المذهب القلب وهو كثير في كلامهم ارتكبوه مع عدم الثقل كما في أينق وقسى ونحوهما فارتكابه مع الثقل أولى فلا يضر الاعتراض بأنه خلاف الأصل. وذهب الفراء إلى أنها جمع شيء بياء مشددة وهمزة بوزن هين ولين إلا أنهم خففوه فقالوا شيء كميت في ميت وبعد التخفيف جمعوه على أشآء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء بزنة افعلاء فاجتمعت همزتان إحداهما لام الكلمة والأخرى للتأنيث فخففوا ذلك بقلب الهمزة الأولى ياء ثم حذفوا الياء الأولى التي هي عين الكلمة فصار وزنه أفلاء، وقيل: في تصريف هذا المذهب أنهم حذفوا الهمزة التي هي لام الكلمة لأن الثقل حصل بها فوزنها أفعاء ومنع الصرف لهمزة التأنيث.
واستحسن هذا المذهب لو كان على أن أصل شيء بالتخفيف شيء بالتشديد دليل، وذهب الأخفش إلى أنها جمع شيء بوزن فلس وأصلها أشيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ثم عمل فيه ما مر. ورده الزجاج بأن فعلا لا يجمع على أفعلاء، وناظر أبو عثمان المازني الأخفش في هذه المسألة كما قاله أبو علي في التكملة فقال: كيف تصغر أشياء قال أقول أشياءاء فقال المازني: هلا رددتها إلى الواحد فقلت شييئات لأن أفعلاء لا تصغر فلم يأت بمقنع انتهى. وأراد أن أفعلاء من أمثلة الكثرة وجموع الكثرة لا تصغر على ألفاظها وتصغر بآحادها ثم يجمع الواحد بالألف والتاء كقولك في تصغير درهم: دريهمات، والجواب كما قال أبو علي عن ذلك بأن أفعلاء هنا جاز تصغيرها على لفظها لأنها قد صارت بدلا من أفعال بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها كما أضيف إلى أفعال، ويدل على كونها بدلا أيضا تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم: ثلاثة أشياء فكما صارت بمنزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة المذكورة كذلك يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو أنها صارت بمنزلة أفعال وإن كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة التقليل والتكثير في شيء واحد انتهى، ومراده كما قال ابن الشجري بأن فعلاء في هذا الموضع
37
صارت بدلا من أفعال أنه كان القياس في جمع شيء أشياء مصروفا كقولك في جمع فيء أفياء على أن تكون همزة الجمع هي همزة الواحد ولكنهم أقاموا أشياء التي همزتها للتأنيث مقام أشياء التي وزنها أفعال، واستدلاله في تجويز تصغير أشياء على لفظها بأنها صارت بدلا من أفعال بدلالة أنهم أضافوا العدد إليها وألحقوه الهاء فقالوا ثلاثة أشياء مما لا يقوم به دلالة لأن أمثلة القلة وأمثلة الكثرة يشتركن في ذلك، ألا ترى أنهم يضيفون العدد إلى أبنية الكثرة إذا عدم بناء القلة فيقولون: ثلاثة شسوع وخمسة دراهم، وأما إلحاق الهاء في قولنا: ثلاثة أشياء وإن كان أشياء مؤنثا لأن الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول ثلاثة: أنبياء وخمسة أصدقاء وسبعة شعراء فتلحق الهاء وإن كان لفظ الجمع مؤنثا وذلك لأن الواحد نبي وصديق وشاعر كما أن واحد أشياء شيء فأي دلالة في قوله: ويدل على كونها بدلا تذكيرهم العدد المضاف إليها إلخ ثم قال: والذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال: إنما جاز تصغير أفعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأن وزنه نقص بحذف لامه فصار أفعاء فشبهوه بأفعال فصغروه، وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كضيف وأضياف.
وأورد عليه منع الصرف من غير علة ويلزمه صرف أبناء (١) وأسماء، وقد استشعر الكسائي هذا الإيراد وأشار إلى دفعه بأنه على أفعال ولكن كثرت في الكلام فأشبهت فعلاء فلم يصرف كما لم يصرف حمراء، وقد جمعوها على أشاوى كعذارء وعذارى وأشياوات كحمراء وحمراوات فعاملوا أشياء وإن كانت على أفعال معاملة حمراء وعذراء في جمعي التكسير والتصحيح. ورد بأن الكثرة تقتضي تخفيفه وصرفه. وأيده بعضهم بأن العرب قد اعتبروا في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظي كما قيل في سراويل إنه منع من الصرف لشبهه بمصابيح وأجروا ألف الإلحاق مجرى ألف التأنيث المقصورة ولكن مع العلمية فاعتبروا مجرد الصورة فليكن هذا من ذلك القبيل، وقيل: إنها جمع شيء ووزنها أفعلاء جمع فعيل كنصيب وأنصباء وصديق وأصدقاء وحذفت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة وفتحت الياء لتسلم الألف فصارت أشياء بزنة أفعاء، وجعل مكي تصريفه كمذهب الأخفش إذا بدل الهمزة ياء ثم حذفت إحدى الياءين وحسن حذفها من الجمع حذفها من المفرد لكثرة الاستعمال وعدم الصرف لهمزة التأنيث الممدودة، وهو حسن إلا أنه يرد عليه كما ورد على الأخفش مع إيرادات أخر، وقيل غير ذلك، وللشهاب عليه الرحمة:
أشياء لفعاء في وزن وقد قلبوا لاما لها وهي قبل القلب شيئاء
وقيل أفعال لم تصرف بلا سبب منهم وهذا لوجه الرد إيماء
أو أشيّاء وحذف اللام من ثقل وشيء أصل شيء وهي آراء
وأصل أسماء اسما أو كمثل كسا فاصرفه حتما ولا تغررك أسماء
واحفظ وقل للذي ينسى العلا سفها حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
وظاهر صنيعه كغيره يشير إلى اختيار مذهب الخليل وسيبويه، وقال غير واحد: إنه الأظهر لقولهم في جمعها أشاوى فجمعوها كما جمعوا صحراء على صحارى، وأصله كما قال ابن الشجري أشايا بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوها واوا على غير قياس كإبدالها واوا في قولهم جبيت الخراج جباوة، وأيضا يدل على أنها مفرد قولهم في تحقيرها أشيئاء كصحيراء ولو كانت جمعا لقالوا شياءات على ما تقدمت الإشارة، وتمام البحث في أمالي ابن الشجري إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها، وعطف عليها قوله سبحانه: وَإِنْ تَسْئَلُوا
(١) قوله ويلزمه صرف أبناء إلخ كذا بخطه، ولعل الأصل ويلزمه منع صرف إلخ تأمل.
38
عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أي بالوحي كما ينبىء عنه تقييد السؤال بحين نزول القرآن لأن المساءة في الشرطية الأولى معلقة بإبداء تلك الأشياء لا بالسؤال عنها فعقبها جل شأنه بما هو ناطق باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور، فضمير عَنْها راجع إلى تلك الأشياء وليس على حد عندي درهم ونصفه كما وهم، والمراد بها ما لا خير لهم فيه من نحو التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب وتركهم ما هو الأولى بهم من الاستسلام لأمر الله تعالى من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أيها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجوا»
فقال رجل- وهو كما قال ابن الهمام الأقرع بن حابس،
وصرح به أحمد والدارقطني والحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين «أكل عام يا رسول الله فسكت عليه الصلاة والسلام حتى قالها ثلاثا فقال صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت: نعم لو جبت ولما استطعتم ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»
وذكر كما قال ابن حبان أن الآية نزلت لذلك.
وأخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر وقال: «لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله تعالى عنه: فجعلت أنظر يمينا وشمالا فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله تعالى عنه فقال: رضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم نبيا نعوذ بالله تعالى من الفتن ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط»،
وذكر ابن شهاب أن أم ابن حذافة واسمه عبد الله قالت له لما رجع إليها: ما سمعت قط أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابن حذافة: لو ألحقني بعبد أسود للحقته. وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذه الآية نزلت يومئذ. ووجه اتصالها بما قبلها على الرواية الأولى ظاهر جدا لما أن الكلام فيما يتعلق بالحج.
وذكر الطبرسي في ذلك ثلاثة أوجه، الأول أنها متصلة بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لأن من الفلاح ترك السؤال بما لا خير فيه، والثاني أنها متصلة بقوله سبحانه: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ أي فإنه بلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم، والثالث أنها متصلة بقوله جل وعلا: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أي فلا تسألوا عن تلك الأشياء فتظهر سرائركم عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عن المسألة المدلول عليها بلا تسألوا.
والجملة استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا سبحانه عنها، وفيه من حثهم على الجد، في الانتهاء عنها ما لا يخفى أي عفا الله تعالى عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء لمسألتكم أو المراد تجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسبب ذلك فلا تعودوا لمثله، وقد يحمل العفو عنها على معنى شامل للتجاوز عن العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية واختاره بعض المحققين، وجوز غير واحد كون الجملة صفة أخرى لأشياء والضمير المجرور عائد إليها وهو الرابط على معنى لا تسألوا عن أشياء لم يكلفكم الله تعالى بها. واعترض بأن هذا يقتضي أن يكون الحج قد فرض أولا ثم نسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوما للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند
39
المخاطب قبل جعله وصفا له وكلاهما ضروري الانتفاء قطعا على أنه يستدعي اختصاص النهي بمسألة الحج ونحوها مع أن النظم الكريم صريح في أنه مسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوءهم إبداؤها سواء كانت من قبيل الأحكام والتكاليف الموجبة لمساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبة وتشديدا كمسألة الحج لولا عفوه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعة قبل السؤال الموجبة للمساءة بالإخبار بها كما في سبب النزول على ما
أخرج ابن جرير.
وغيره عن أبي هريرة قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النار»،
وفسر بعضهم العفو عنها بالكف عن بيانها والتعرض لشأنها وحينئذ يوشك أن لا يتوجه هذا الاعتراض أصلا، وإلى التفسير الأول يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج مجاهد عنه أنه كان إذا سئل عن الشيء لم يجىء فيه أثر يقول: هو من العفو ثم يقرأ هذه الآية. والذي ذهب إليه شيخ الإسلام عليه الرحمة هو الاستئناف لا غير لما علمت، واستبعاد بعض الفضلاء ليس في محله. ثم قال: إن قلت تلك الأشياء غير موجبة للمساءة البتة بل هي محتملة لإيجاب المسرة أيضا لأن إيجابها للأولى وإن كان من حيث وجودها فهي من حيث عدمها موجبة للأخرى قطعا وليست إحدى الحيثيتين محققة عند السائل وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت بل ظهورها بحيثية إيجابها للمسرة فلما عبر عنها بحيثية إيجابها للمساءة قلت: لتحقيق المنهي عنه كما ستعرفه مع ما فيه من تأكيد النهي وتشديده لأن تلك الحيثية من الموجبة للانتهاء لا الحيثية الثانية ولا حيثية التردد بين الإيجابين، فإن قيل: الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزم لإبدائها فلم تخلف الإبداء في مسألة الحج ولم يفرض كل عام؟ قلنا: لوقوع السؤال قبل النهي وما في الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعده إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد لا تخلف فيه.
فإن قيل: ما ذكر إنما يتمشي فيما إذا كان السؤال عن الأمور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر في التكاليف الشاقة وأما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتسنى لأن ما يتعلق به الإبداء هو الذي وقع في نفس الأمر ولا مرد له سواء كان السؤال قبل أو بعد وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسألة ابن حذافة فيكون هو متعلق الإبداء لا غيره فيتعين التخلف حتما. قلنا: لا احتمال له فضلا عن تعينه فإن المنهي عنه في الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الموجبة للمساءة الواقعة في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال: أين أبي؟ لا ما يعمها وغيرها مما ليس بواقع لكنه محتمل الوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف في صورة عدم الوقوع.
وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهي عن السؤال عن الأشياء التي يوجب إبداؤها المساءة البتة إما بأن تكون تلك الأشياء بعرضية الوقوع فتبدى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبة وتشديدا كما في صورة كونها من قبيل التكاليف الشاقة، وإما بأن تكون واقعة في نفس الأمر قبل السؤال فتبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلف ممتنع في الصورتين معا، ومنشأ توهمه عدم الفرق بين المنهي عنه وغيره بناء على عدم امتياز ما هو موجود أو بعرضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم، وفائدة هذا الإبهام الانتهاء عن تلك الأشياء على الإطلاق حذار إبداء المكروه انتهى وهو تحرير لم يسبق إليه وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي مبالغ في مغفرة الذنوب والإغضاء عن المعاصي ولذلك عفا سبحانه عنكم ولم يعاقبكم بما فرط منكم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق من عفوه تعالى.
قَدْ سَأَلَها أي المسألة فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به، والمراد سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال قَوْمٌ وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير، وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير
40
المضاف أيضا فالضمير في موقع المفعول به وذلك من باب الحذف والإيصال والمراد سأل عنها، وقيل: لا حاجة إلى جعله من ذلك الباب لأن السؤال هنا استعطاء وهو يتعدى بنفسه كقولك: سألته درهما بمعنى طلبته منه لا استخبار كما في صدر الآية، واختلف في تعيين القوم. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هم قوم عيسى عليه الصلاة والسلام سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها، وقيل: هم قوم صالح عليه السلام سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل: هم قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى جهرة أو سألوه بيان البقرة.
وعن مقاتل هم بنو إسرائيل مطلقا كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم. وعن السدي هم قريش سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحول الصفا ذهبا، وقال الجبائي: كانوا يسألونه صلّى الله عليه وسلّم عن أنسابهم فإذا أخبرهم عليه الصلاة والسلام لم يصدقوا ويقولوا: ليس الأمر كذلك، ولا يخفى عليك الغث والسمين من هذه الأقوال وأن بعضها يؤيد حمل السؤال على الاستعطاء وبعضها يؤيد حمله على الاستخبار، والحمل على الاستخبار أولى، وإلى تعينه ذهب بعض العلماء مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق بسألها، وجوز كونه متعلقا بمحذوف وقع صفة لقوم، واعترض بأن ظرف الزمان لا يكون صفة الجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها، وأجيب بأن التحقيق أن هذا مشروط بما إذا عدمت الفائدة أما إذا حصلت فيجوز كما إذا أشبهت الجثة المعنى في تجددها ووجودها وقتا دون وقت نحو الليلة الهلال بخلاف زيد يوم السبت وما نحن فيه مما فيه فائدة لأن القوم لا يعلم هل هم ممن مضى أم لا.
وقال أبو حيان وهو تحقيق بديع غفلوا عنه: هذا المنع إنما هو في الزمان المجرد عن الوصف أما إذا تضمن وصفا فيجوز كقبل وبعد فإنهما وصفان في الأصل فإذا قلت: جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي متقدم عليه ولذا وقع صلة للموصول، ولو لم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرد لم يجز أن يقع صلة ولا صفة. قال تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: ٢١] ولا يجوز والذين اليوم وما نحن فيه من المتضمن لا المجرد وهو ظاهر، وما قيل من أنه ليس من المتنازع فيه في شيء لأن الواقع صفة هو الجار والمجرور لا الظرف نفسه ليس بشيء لأن دخول الجار عليه إذا كان من أو في لا يخرجه عن كونه في الحقيقة هو الصفة أو نحوها فليفهم ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها أي بسببها، وهو متعلق بقوله سبحانه وتعالى: كافِرِينَ قدم عليه رعاية للفواصل.
وقرأ أبي «قد سألها قوم بينت لهم فأصبحوا بها كافرين» ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ هي فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق والتاء للنقل إلى الاسمية أو لحذف الموصوف، قال الزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمس أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وشقوها وامتنعوا من نحرها وركوبها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى وهي البحيرة، وعن قتادة أنها إذا نتجت خمسة أبطن نظر في الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى ولا يستعملها أحد في حلب وركوب ونحو ذلك، وقيل: البحيرة هي الأنثى التي تكون خامس بطن وكانوا لا يحلون لحمها ولبنها للنساء فإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها، وعن محمد بن إسحاق. ومجاهد أنها بنت السائبة، وستأتي إن شاء الله تعالى قريبا وكانت تهمل أيضا.
وقيل: هي التي ولدت خمسا أو سبعا، وقيل: عشرة أبطن وتترك هملا وإذا ماتت حل لحمها للرجال خاصة.
وعن ابن المسيب أنها التي منع لبنها للطواغيت فلا تحلب، وقيل: هي التي ولدت خمس إناث فشقوا أذنها وتركوها هملا، وجعلها في القاموس على هذا القول من الشاء خاصة، وكما تسمى بالبحيرة تسمى بالغزيرة أيضا.
وقيل: هي السقب الذي إذا ولد شقوا أذنه وقالوا: اللهم إن عاش فعبى وإن مات فذكى فإذا مات أكلوه، وقيل:
هي التي تترك في المرعى بلا راع وَلا سائِبَةٍ هي فاعلة من سيبته أي تركته وأهملته فهو سائب وهي سائبة أو بمعنى
41
مفعول كعيشة راضية. واختلف فيها فقيل هي الناقة تبطن عشرة أبطن إناث فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ونسب إلى محمد بن إسحاق، وقيل: هي التي تسيب للأصنام فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم وروي ذلك عن ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقيل: هي البعير يدرك نتاج نتاجه فيترك ولا يركب، وقيل: كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال: هي سائبة أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلأ ولا تركب، وقيل: هي ما ترك ليحج عليه، وقيل: هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث وَلا وَصِيلَةٍ هي فعيلة بمعنى فاعلة وقيل: مفعولة والأول أظهر كما ينبىء عن ذلك بيان المراد بها. واختلف فيه. فقال الفراء: هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين وإذا لدت في آخرها عناقا وجديا قيل: وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء وتجري مجرى السائبة، وقال الزجاج: هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل: هي الشاة تلد ذكرا ثم أنثى فتصل أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وإذا ولدت ذكرا قالوا: هذا قربان لآلهتنا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فتأكلها الرجال والنساء وكذا إن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك معه ولا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء فإن ماتت اشتركوا فيها. وقال ابن قتيبة: إن كان السابع ذكرا ذبح وأكلوا منه دون النساء وقالوا: خالصة لذكورنا محرمة على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى فكقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقال محمد بن إسحاق: وهي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمس أبطن فما ولدت بعده للذكور دون الإناث فإذا ولدت ذكرا وأنثى معا قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوها لمكانها، وقيل: هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة فإن كان جديا ذبحوه وإن كان أنثى أبقوها وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، وقال بعضهم: الوصيلة من الإبل وهي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثني بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون: قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر. وقيل: هي الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن لا ذكر بينها.
وَلا حامٍ هو فاعل من الحمى بمعنى المنع. واختلف فيه أيضا فقال الفراء: هو الفحل إذا لقح ولد ولده فيقولون: قد حمى ظهره فيهمل ولا يطرد عن ماء ولا مرعى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وابن مسعود وهو قول أبي عبيدة. والزجاج أنه الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون: حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى. وعن الشافعي أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقيل: هو الفحل ينتج له سبع أناث متواليات فيحمي ظهره، وجمع بين الأقوال المتقدمة في كل من تلك الأنواع بأن العرب كانت تختلف أفعالهم فيها. والمراد من هذه الجملة رد وإبطال لما ابتدعه أهل الجاهلية. ومعنى ما جَعَلَ ما شرع ولذلك عدى إلى مفعول واحد وهو بَحِيرَةٍ وما عطف عليها. ومِنْ سيف خطيب أتى بها لتأكيد النفي. وأنكر بعضهم مجيء جعل بمعنى شرع عن أحد من أهل اللغة وجعلها هنا للتصيير والمفعول الثاني محذوف أي ما جعل البحيرة ولا ولا مشروعة (١) وليس كما قال فإن الراغب نقل ذلك عن أهل اللغة وهو ثقة لا يفتري عليهم.
وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون: الله سبحانه وتعالى أمرنا بهذا وأمامهم عمرو بن لحي فإنه في المشهور أول من فعل تلك الأفاعيل الشنيعة.
أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة
(١) هكذا الأصل بتكرار ولا فتدبر.
42
قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: يا أكثم عرضت على النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال: أكثم أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا إنك مؤمن وهو كافر أنه أول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي، وجاء في خبر آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- ووصل الوصيلة-.
وأخرج عبد الرزاق وغيره عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأعرف أول من سبب السوائب ونصب النصب وأول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام:
عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه وأني لأعرف أول من بحر البحائر قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال: هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما فلقد رأيته في النار وهما تقضمانه بأفواههما وتطآنه بإخفافهما
واستدل بالآية على تحريم هذه الأمور وهو ظاهر واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع.
واستدل ابن الماجشون بها على منع أن يقول الرجل لعبده: أنت سائبة وقال: لا يعتق بذلك.
وجعل بعض العلماء من صور السائبة إرسال الطير ونحوه، وصرح بعض علمائنا بأنه لا ثواب في ذلك ولعل الجاعل لا يكتفي بهذا القدر ويدعي الإثم فيه والناس عن ذلك غافلون وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أن ذلك افتراء باطل فما تقدم فعل الرؤساء وهذا شأن الأتباع وهم المراد بالأكثر كما روي عن قتادة. والشعبي، وظاهر سياق النظم الكريم إنهم المقلدون لأسلافهم المفترين من معاصري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي للذين عبر عنهم بأكثرهم على سبيل الهداية والإرشاد إلى الحق: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب المبين للحلال والحرام والإيمان به وَإِلَى الرَّسُولِ الذي أنزل عليه ذلك لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا في هذا الشأن فلا نلتفت لغيره بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادي إلى الحق وانقيادهم للداعي إلى الضلال، وما موصولة اسمية، وجوز أن تكون نكرة موصوفة والوجدان المصادفة وعَلَيْهِ متعلق به أو حال من مفعوله، وجوز أن يكون بمعنى العلم و «عليه»
عليه في موضع المفعول الثاني أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ذهب الراغب إلى أن الواو للعطف، وصرح غير واحد أنه على شرطية أخرى مقدرة قبلها والهمزة للتعجيب وهي داخلة على مقدر في الحقيقة أي أيكفيهم ذلك لو لم يكن آباؤهم جهلة ضالين ولو كانوا كذلك وكلتا الجملتين في موقع الحال أي أيكفيهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حال مفروض، وعلى هذا لا يلزم كون الجملة الاستفهامية الإنشائية حالا ليحتاج توجيه ذلك إلى نظر دقيق، وحذفت الجملة الأولى للدلالة عليها دلالة واضحة وهو حذف مطرد في هذا الباب لذلك كما في قولك: أحسن إلى زيد ولو أساء إليك فإن الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى.
وجواب- لو- كما قال أبو البقاء- محذوف لظهور انفهامه مما سبق وقدره يتبعونهم. ويجوز أن يقدر حسبهم ذلك أو يقولون، وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا في نفس الأمر، وفائدة ذلك المبالغة في الإنكار والتعجيب، وقيل: الواو للحال والهمزة لإنكار الفعل على هذه الحال والمراد نفي صحة الاقتداء بالجاهل الضال، والحال ما يفهم من الجملة أي كائنين على هذا الحال المفروض فما قيل: إنهم جعلوا الواو للحال وليس ما دخلته الواو حالا من جهة المعنى بل ما دخلته لو أي ولو كان الحال أن آباءهم لا يعلمون فيفعلون ما يقتضيه
43
علمهم ولا يهتدون بمن له علم ناشىء من قلة التأمل وذلك غريب من حال ذلك القائل، وأغرب من ذلك ما قيل: إن المعنى أنهم هل يكفيهم ما عليه آباؤهم ولو كان آباؤهم جهلة ضالين أي هل يكفيهم الجهل والضلال اللذان كان عليهما آباؤهم. ويوشك أن يكون هذا من الجهل والضلال فما يليق بالتنزيل.
واستدل بالآية على أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد من غير أن يعلم أن لمن قلده حجة صحيحة على ما قلده فيه حتى قالوا: إن للمقلد دليلا إجماليا وهو دليل من قلده فتدبر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي ألزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب، فعليكم اسم فعل أمر نقل إلى ذلك مجموع الجار والمجرور لا الجار وحده كما قيل. وهو متعد إلى المفعول به بعده وقد يكون لازما، والمراد به الأمر بالتمسك كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «عليك بذات الدين»
وذكر أبو البقاء أن الكاف والميم في موضع جر لأن اسم الفعل هو المجموع وعلى وحدها لم تستعمل اسما للفعل بخلاف رويدكم فإن الكاف والميم هناك للخطاب فقط ولا موضع لها لأن رويدا قد استعمل اسما لأمر المواجه من غير كاف الخطاب وإلى ذلك ذهب سيبويه وهو الصحيح، ونقل الطبرسي أن استعمال على من الضمير اسم فعل خاص فيما إذا كان الضمير للخطاب فلو قلت عليه زيدا لم يجز وفيه خلاف.
وقرأ نافع في الشواذ أَنْفُسَكُمْ بالرفع، والكلام حينئذ مبتدأ وخبر أي لازمة عليكم أنفسكم أو حفظ أنفسكم لازم عليكم بتقدير مضاف في المبتدأ، وقوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ يحتمل الرفع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله وينصره قراءة أبي حيوة «لا يضيركم»، ويحتمل أن يكون مجزوما جوابا للأمر، والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا يضركم. وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضرركم، ويجوز أن يكون نهيا مؤكدا للأمر السابق والكلام على حد لا أريتك هاهنا.
وينصر احتمال الجزم قراءة من قرأ «لا يضركم» بالفتح «ولا يضركم» بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره بمعنى ضره كذمه وذامه، وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأجيب عن ذلك بوجوه. الأول أن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال.
فقد أخرج ابن جرير عن قيس بن أبي حازم قاف: «صعد أبو بكر رضي الله تعالى عنه منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله سبحانه وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله تعالى في كتابه أشد منها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب- وفي رواية- يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها
وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب»
.
وفي رواية ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد قال: خطب أبو بكر الصديق الناس فكان في خطبته «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أيها الناس لا تتكلوا على هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ إلخ إن الداعر ليكون في الحي فلا يمنعونه فيعمهم الله تعالى بعقاب».
ومن الناس من فسر الاهتداء هنا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وروي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب، والثاني أن الآية تسلية لمن يأمر وينهى ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي، فقد أخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سأله رجل عن هذه الآية فقال: أيها الناس إنه ليس بزمانها ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال: فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
44
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فقال: إنها ليست لي ولا لأصحابي
لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب»
فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل امرئ برأيه فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم فإن من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر فللعامل منهم يومئذ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم قلت: يا رسول الله خمسين منهم قال: بل خمسين منكم أنتم».
والثالث أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفا على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم فنزلت.
والرابع أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة. والخامس أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه، فقد قيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت أباك فنزلت، وقيل: معنى الآية يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم لا يضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك، والتعبير عن أهل الدين بالأنفس على حد قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] ونحوه، والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه ولا يخفى ما فيه إِلَى اللَّهِ لا إلى أحد سواه مَرْجِعُكُمْ رجوعكم يوم القيامة جَمِيعاً بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم فَيُنَبِّئُكُمْ بالثواب والعقاب بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فالكلام وعد ووعيد للفريقين، وفيه كما قيل دليل على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لا يثاب بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم، وفيه من إظهار كمال العناية بمضمونه ما لا يخفى شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ للشهادة معان الإحضار، والقضاء، والحكم، والحلف، والعلم، والإيصاء، والمراد بها هنا الأخير كما نص عليه جماعة من المفسرين، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقرأها الجمهور بالرفع على أنها مبتدأ واثْنانِ خبرها، والكلام على حذف مضاف من الأول أي ذو شهادة بينكم اثنان أو من الثاني أي شهادة بينكم شهادة اثنين، والتزم ذلك ليتصادق المبتدأ والخبر، وقيل: الشهادة بمعنى الشهود كرجل عدل فلا حاجة إلى التزام الحذف، وقيل:
الخبر محذوف واثْنانِ مرفوع بالمصدر الذي هو شَهادَةُ والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان وإلى هذا ذهب الزجاج والشهادة فيه على معناها المتبادر منها لا بمعنى الإشهاد، وكلام البعض يوهم ذلك وهو في الحقيقة بيان لحاصل معنى الكلام.
وزعم بعضهم أنها بمعنى الإشهاد الذي هو مصدر المجهول واثْنانِ قائم مقام فاعله، وفيه أن الإتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل وهو اسم ظاهر، وإن جوزه البصريون كما في شرح التسهيل للمرادي فقد منعه الكوفيون وقالوا: إنه هو الصحيح لأن حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح. وإِذا ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الميت والمراد مشارفته وظهور أماراته، وحِينَ الْوَصِيَّةِ إما بدل من إِذا وفيه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها.
وجوز أن يتعلق بنفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو يحضر، وأن يكون شَهادَةُ مبتدأ
45
خبره إذا حضر أي وقوع الشهادة في وقت حضور الموت وحِينَ الْوَصِيَّةِ على الأوجه السابقة، ولا يجوز فيه أن يكون ظرفا للشهادة لئلا يخبر عن الموصول قبل تمام صلته أو خبره حِينَ الْوَصِيَّةِ. وإِذا منصوب بالشهادة ولا يجوز نصبه بالوصية وإن كان المعنى عليه لأن معمول المصدر لا يتقدمه على الصحيح مع ما يلزم من تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو لا يجوز في غير- غير- لأنها بمنزلة لا. واثْنانِ على هذين الوجهين إما فاعل يشهد مقدرا أو خبرا لشاهدان كذلك.
وعن الفراء أن شَهادَةُ مبتدأ واثْنانِ فاعله سد مسد الخبر وجعل المصدر بمعنى الأمر أي ليشهد، وفيه نيابة المصدر عن فعل الطلب وهو ضعيف عند غيره لأن الاكتفاء بالفاعل مخصوص بالوصف المعتمد. وإِذا وحِينَ عليه منصوبان على الظرفية كما مر، وإضافة شَهادَةُ إلى الظرف على التوسع لأنه متصرف ولذا قرىء تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: ٩٤] بالرفع، وقيل: إن الأصل ما بينكم وهو كناية عن التخاصم والتنازع، وحذف «ما» جائز نحو وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ [الإنسان: ٢٠] أي ما ثم، وأورد عليه أن ما الموصولة لا يجوز حذفها ومنهم من جوزه.
وقرأ الشعبي «شهادة بينكم» بالرفع والتنوين فبينكم حينئذ منصوب على الظرفية. وقرأ الحسن «شهادة» بالنصب والتنوين، وخرج ذلك ابن جني على أنها منصوبة بفعل مضمر اثْنانِ فاعله أي ليقم شهادة بينكم اثنان.
وأورد عليه أن حذف الفعل وإبقاء فاعله لم يجزه النحاة إلا إذا تقدم ما يشعر به كقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [النور: ٣٦] في قراءة من قرأ «يسبّح» بالبناء للمفعول، وقول الشاعر: ليبك يزيد ضارع لخصومة.
أو أجيب به نفي أو استفهام وذلك ظاهر، والآية ليست واحدا من هذه الثلاثة.
وأجيب بأن ما ذكر من الاشتراط غير مسلم بل هو شرط الأكثرية، واختار في البحر وجهين للتخريج، الأول أن تكون شَهادَةُ منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر واثْنانِ مرتفع به، والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب ضربا زيدا إلا أن الفاعل في ضربا يستند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب، وهذا يستند إلى الظاهر لأن معناه ما علمت، والثاني أن تكون مصدرا لا بمعنى الأمر بل خبرا ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلا كقوله: وقوفا بها صحبي على مطيهم. فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفا فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر، والتقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي
من المسلمين كما روي عن ابن عباس وابن مسعود والباقر رضي الله تعالى عنهم
وابن المسيب عليه الرحمة أو من أقاربكم وقبيلتكم كما روي عن الحسن وعكرمة، وهو الذي يقتضيه كلام الزهري وهما صفتان لاثنان أَوْ آخَرانِ عطف على اثْنانِ في سائر احتمالاته.
وقوله سبحانه: مِنْ غَيْرِكُمْ صفة له أي كائنان من غيركم، والمراد بهم غير المسلمين من أهل الكتاب عند الأولين وغير الأقربين من الأجانب عند الآخرين. واختار الأول جماعة من المتأخرين حتى قال الجصاص: إن التفسير الثاني لا وجه له لأن الخطاب توجه أولا إلى أهل الإيمان فالمغايرة تعتبر فيه ولم يجر للقرابة ذكر، ويدل لذلك أيضا سبب النزول وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم، وارتفاع أَنْتُمْ بفعل مضمر ويفسره ما بعده، والتقدير إن ضربتم فلما حذف الفعل وجب أن يفصل الضمير ليقوم بنفسه، وهذا رأي جمهور البصريين، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناء على جواز وقوع المبتدأ بعد إن الشرطية كجواز وقوعه بعد إذا فجملة ضَرَبْتُمْ لا موضع لها على الأول للتفسير وموضعها الرفع على الخبرية على الثاني.
46
وقوله تعالى: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي قاربتم الأجل عطف على الشرط وجوابه محذوف، فإن كان الشرط قيدا في أصل الشهادة فالتقدير إن ضربتم في الأرض إلخ فليشهد اثنان منكم أو من غيركم، وإن كان شرطا في العدول إلى آخرين بالمعنى الذي نقل عن الأولين فالتقدير فاشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم، وحينئذ تفيد الآية أنه لا يعدل في الشهادة إلى غير المسلمين إلا بشرط الضرب في الأرض، وروي ذلك عن شريح رضي الله تعالى عنه. وقوله سبحانه: تَحْبِسُونَهُما أي تلزمونهما وتصبرونهما استئناف كأنه قيل كيف نعمل إذا ارتبنا بالشاهدين فقال سبحانه: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي صلاة العصر كما روي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وقتادة، وابن جبير وغيرهم، والتقييد بذلك لأنه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون الحلف الكاذب فيه ولأنه وقت تصادم ملائكة الليل والنهار وتلاقيهم، وفي ذلك تكثير للشهود منهم على صدق الحالف وكذبه فيكون أخوف، وعد ذلك بعضهم من باب التغليظ على المستحلف بالزمان.
وعندنا لا يلزم التغليظ به ولا بالمكان بل يجوز للحاكم فعله.
وعن الحسن أن المراد بها صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما، وجوز أن تكون اللام للجنس أي بعد أي صلاة كانت. والتقييد بذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ناهية عن التفوه بالكذب والزور وارتكاب الفحشاء والمنكر. وجعل الحسن التقييد بذلك دليلا على ما تقدم من تفسيره. وجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لآخران وجملة الشرط معترضة فلا يضر الفصل بها. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وتعقب بأنه يقتضي اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضا قطعا على أن اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر بإشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قيد الارتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتي. ولا يخفى ما فيه.
والخطاب للموصى لهم. وقيل: للورثة. وقيل: للحكام والقضاة.
وقوله عز وجل: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عطف على تَحْبِسُونَهُما إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في صدقهما وعدم استبدادهما بشيء من التركة. والجملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما سبق من الحبس والاقسام عليه، والشرط مع جوابه المحذوف معترض بين القسم وجوابه أعني قوله تعالى: لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وقد سيق من جهته تعالى للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قسم وشرط فاكتفى بذكر جواب سابقهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالبا لأن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما في قولك: والله إن أتيتني لأكرمنك، ولا ريب في استحالته هاهنا لأن القسم وجوابه كلام الشاهدين والشرطية كما علمت من جهته سبحانه وتعالى، ولا يتوهم أن إن هنا وصلية لأنها مع أن الواو لازمة لها ليس المعنى عليها كما لا يخفى.
وزعم بعضهم جواز كونها شرطية ولا نَشْتَرِي دليل الجواب، والمعنى إن ارتبتم فلا ينبغي ذلك أو فقد أخطأتم لأنا لسنا ممن يشتري به ثمنا قليلا وهو بعيد جدا وتخلو الآية عليه ظاهرا من شرط التحليف، وضمير بِهِ عائد إلى الله تعالى، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله سبحانه أي من حرمته تعالى عرضا من الدنيا بأن نزيلها بالحلف الكاذب وحاصله لا نحلف بالله تعالى حلفا كاذبا لأجل المال، وقيل: إنه عائد إلى القسم على تقدير مضاف أي لا نستبدل بصحة القسم بالله تعالى عرضا من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب، وقيل: إلى الشهادة باعتبار أنها قول ولا بد من تقدير مضاف أيضا، وتقدير مضاف في ثَمَناً أي ذا ثمن مما لم يدع إليه إلا
47
قلة التأمل وَلَوْ كانَ المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام ذا قُرْبى أي قريبا منا. وهذا تأكيد لتبريهما من الحلف الكاذب ومبالغة في التنزه عنه كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلا من ذلك مالا ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك، وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية جانب الأقرباء لكنها- كما قال شيخ الإسلام- ليست ضميمة المال بل هي راجعة إليه، وقيل: الضمير للمشهود له على معنى لا نحابي أحدا بشهادتنا ولو كان قريبا منا، وجواب لو محذوف اعتمادا على ما سبق عليه أي لا نشتري به ثمنا، والجملة معطوفة على جملة أخرى محذوفة أي لو لم يكن ذا قربى ولو كان إلخ، وجعل السمين الواو للحال، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا.
وجوز بعضهم إرجاع الضمير للشاهد وقدر جوابا للو غير ما قدرنا أي ولو كان الشاهد قريبا يقسمان، وجعل فائدة ذلك دفع توهم اختصاص الاقسام بالأجنبي، ولا يخفى ما في التركيب حينئذ من الركاكة التي لا ينبغي أن تكون في كلام هذا البعض فضلا عن كلام رب الكل، ونشهد بالله سبحانه وتعالى أن حمل كلامه عز وجل على مثل ذلك مما لا يليق وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي أمرنا سبحانه وتعالى بإقامتها وألزمنا أداءها فالإضافة للاختصاص أو لأدنى ملابسة، والجملة معطوفة على لا نَشْتَرِي بِهِ داخل معه في حيز القسم. وروي عن الشعبي أنه وقف على «شهادة» بالهاء ثم ابتدأ آلله بالمد والجر على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وليس هذا من حذف حرف الجر وإبقاء عمله وهو شاذ كقوله: أشارت كليب بالأكف الأصابع. لأن ذلك حيث لا تعويض، وفي الجلالة الكريمة تعويض همزة الاستفهام عن المحذوف، وهل الجر به أو بالعوض قولان. وروي عنه وكذا عن الحسن رضي الله تعالى عنه ويحيى بن عمر، وابن جرير، وآخرين «الله» بدون مد. وفي ذلك احتمالان.
الأول أن الحذف من غير عوض فيكون على خلاف القياس، الثاني أن الهمزة المذكورة همزة الاستفهام وهي همزة قطع عوضت عن الحرف ولكنها لم تمد وهذا أولى من دعوى الشذوذ. ولذا اختاره في الدر المصون، وقرىء بتنوين الشهادة ووصل الهمزة ونصب اسم الله تعالى من غير مد. وخرجه أبو البقاء على أنه منصوب بفعل القسم محذوفا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي إذا فعلنا ذلك وكتمنا، والعدول عن آثمون إلى ما ذكر للمبالغة. وقرىء «لملاثمين» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها فَإِنْ عُثِرَ أي اطلع يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا اطلع عليه.
وقال الغوري: تقول عثرت إذا اطلعت على ما كان خفيا وهو مجاز بحسب الأصل من قولهم: عثر إذا كبا.
وذلك أن العاثر ينظر إلى موضع عثاره فيعرفه ويطلع عليه، وقال الليث: إن مصدر عثر بمعنى اطلع العثور وبمعنى كبا العثار وحينئذ يخفى القول بالمجاز لأن اختلاف المصدر ينافيه فلا تتأتى تلك الدعوى إلا على ما قاله الراغب من اتحاد المصدرين، وفي القاموس عثر كضرب، ونصر، وعلم وكرم عثر أو عثير أو عثارا كبا. والعثور الاطلاع كالعثر.
وظاهر هذا أن لا مجاز. ويفهم منه أيضا الاتحاد في بعض المصادر فافهم، والمراد فإن عثر بعد التحليف عَلى أَنَّهُمَا أي الشاهدين الحالفين اسْتَحَقَّا إِثْماً أي فعلا ما يوجبه من تحريف وكتم بأن ظهر بأيديهما شيء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه، وقال الجبائي: الكلام على حذف مضاف أي استحقا عقوبة إثم فَآخَرانِ أي فرجلان آخران. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: يَقُومانِ مَقامَهُما والفاء جزائية وهي إحدى مصوغات الابتداء بالنكرة. ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته وهو قوله سبحانه: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران، وجملة يَقُومانِ صفته والجار والمجرور صفة أخرى وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من ضمير يَقُومانِ، وقيل: هو فاعل فعل محذوف أي
48
فليشهد آخران وما بعده صفة له، وقيل: مبتدأ خبره الجار والمجرور، والجملة الفعلية صفته وضمير مَقامَهُما في جميع هذه الأوجه مستحق للذين استحقا. وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس. والتحليف واسْتَحَقَّ بالبناء للفاعل على قراءة عاصم في رواية حفص عنه وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي رضي الله تعالى عنهم وفاعله الْأَوْلَيانِ، والمراد من الموصول أهل الميت ومن الأوليين الأقربان إليه الوارثان له الأحقان بالشهادة لقربهما واطلاعهما وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثما إلا أنه أقيم المظهر مقام ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف.
ومفعول اسْتَحَقَّ محذوف واختلفوا في تقديره فقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة ليظهروا بهما كذب الكاذبين، وقدره أبو البقاء وصيتهما، وقدره ابن عطية ما لهم وتركتهم.
وقال الإمام: إن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما. وسبب أولويتهما أن الميت عينهما للوصية فمعنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ خان في مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما. وعلى هذا لا ضرورة إلى القول بحذف المفعول، وقرأ الجمهور «استحقّ عليهم الأوليان» ببناء استحق للمفعول. واختلفوا في مرجع ضميره والأكثرون أنه الإثم، والمراد من الموصول الورثة لأن استحقاق الإثم عليهم كناية عن الجناية عليهم ولا شك أن الذين جنى عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة، وقيل: إنه الإيصاء، وقيل: الوصية لتأويلها بما ذكر، وقيل: المال، وقيل: إن الفعل مسند إلى الجار والمجرور. وكذا اختلفوا في توجيه رفع الْأَوْلَيانِ فقيل: إنه مبتدأ خبره آخران أي الأوليان بأمر الميت آخران، وقيل: بالعكس، واعترض بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو مما اتفق على منعه في مثله، وقيل: خبر مبتدأ مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني، وقيل: بدل من آخران، وقيل.
عطف بيان عليه، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهم شرطوه فيه حتى من جوز تنكيره، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط، وقيل: هو بدل من فاعل يَقُومانِ.
وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه حتى يلزم خلو تلك الجملة الواقعة خبرا أو صفة عن الضمير، على أنه لو طرح وقام هذا مقامه كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطا. وقيل: هو صفة آخران، وفيه وصف النكرة بالمعرفة. والأخفش أجازه هنا لأن النكرة بالوصف قربت من المعرفة قيل وهذا على عكس:
ولقد أمر على اللئيم يسبني فإنه يؤول فيه المعرفة بالنكرة وهذا أول فيه النكرة بالمعرفة أو جعلت في حكمها للوصف، ويمكن- كما قال بعض المحققين- أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة.
وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل اسْتَحَقَّ والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة كما قال الزمخشري أو إثم الأولين كما قيل. وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها، وفي- على- في عَلَيْهِمُ أوجه الأول أنها على بابها. والثاني أنها بمعنى في. والثالث أنها بمعنى من. وفسر اسْتَحَقَّ بطلب الحق وبحق وغلب. وقرأ يعقوب، وخلفت، وحمزة، وعاصم في رواية أبي بكر عنه «استحقّ عليهم الأولين» ببناء استحق للمفعول، والأولين جمع أول المقابل للآخر وهو مجرور على أنه صفة الَّذِينَ أو بدل منه أو من ضمير عَلَيْهِمُ أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة. وقيل: التقدم في الذكر لدخولهم في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
49
وقرأ الحسن «الأولان» بالرفع وهو كما قدمنا في الأوليان وقرىء «الأولين» بالتثنية والنصب، وقرأ ابن سيرين «الأوليين» بباءين تثنية أولى منصوبا، وقرىء «الأولين» بسكون الواو وفتح اللام جمع أولى كأعلين وإعراب ذلك ظاهر.
فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عطف على يَقُومانِ والسببية ظاهرة. وقوله سبحانه لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما جواب القسم. والمراد بالشهادة عند الكثير ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اليمين كما في قوله عز وجل فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ [النور: ٦] وسميت اليمين شهادة على ما قال الطبرسي لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك أي ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها أولى بالقبول من يمينها مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة وصيغة التفضيل إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما، وقيل: إن الشهادة على معناها المتبادر عند الإطلاق، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن بعض المحققين غير ذلك.
وقوله عز شأنه وَمَا اعْتَدَيْنا عطف على الجواب أي ما تجاوزنا في شهادتنا الحق وما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما. وقوله تعالى: إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ استئناف مقرر لما قبله أي أنا إذا اعتدينا فيما ذكر لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه، ومعنى الآيتين عند غير واحد من المفسرين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي دينه أو نسبه فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم، ثم إن وقع ارتياب في صدقهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فإن اطلع على كذبهما بأمارة حلف آخران من أهل الميت. وادعى أن الحكم منسوخ إذا كان الاثنان شاهدين فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث، وقيل: إن التحليف لم ينسخ لكنه مشروط بالريبة.
وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما،
وفي بعض كتب الحنفية أن الشاهد إن لم يجد من يزكيه يجوز تحليفه احتياطا وهذا خلاف المفتى به كما بسط في محله. وكذا ادعى البعض النسخ أيضا على تقدير أن يكون المراد بالشاهدين في السفر غير مسلمين لأن شهادة الكافر على المسلم لا تقبل مطلقا، وروى حديث النسخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعضهم: لا نسخ وأجاز شهادة الذمي على المسلم في هذه الصورة.
وروي عن أبي موسى الأشعري أنه حكم لما كان واليا على الكوفة بمحضر من الصحابة بشهادة ذميين بعد تحليفهما في وصية مسلم في السفر وإلى ذلك ذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقال آخرون: الاثنان وصيان وحكم تحليفهما إذا ارتاب الورثة غير منسوخ، وما أفادته الآية من رد اليمين على الورثة ليس من حيث إنهم مدعون وقد ظهرت خيانة الوصيين فردت اليمين عليهما خلافا للشافعي بل من حيث إنهم صاروا مدعى عليهم لانقلاب الدعوى فإن الوصي المدعى عليه أولا صار مدعيا للملك والورثة ينكرون ذلك، ويدل عليه ما
أخرجه البخاري في التاريخ، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وخلق آخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بداء، وقيل: نداء بالنون فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالله تعالى ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجدا لجام بمكة
50
فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله سبحانه لشهادتهما أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ،
هذا وادعى بعض المحققين أن الشهادة هاهنا لا يمكن أن تكون بمعناها المتبادر بوجه ولا تتصور لأن شهادتهما إما على الميت ولا وجه لها بعد موته وانتقال الحق إلى الورثة وحضورهم أو على الوارث المخاصم وكيف يشهد الخصم على خصمه فلا بد من التأويل، وذكر أن الظاهر أن تحمل في قوله سبحانه شَهادَةُ بَيْنِكُمْ على الحضور أو الإحضار أي إذا حضر الموت المسافر فليحضر من يوصي إليه بإيصال ماله لوارثه مسلما فإن لم يجد فكافرا، والاحتياط أن يكونا اثنين فإذا جاءا بما عندهما وحصل ريبة في كتم بعضه فليحلفا لأنهما مودعان مصدقان بيمينهما فإن وجد ما خانا فيه وادعيا أنهما تملكاه منه بشراء ونحوه ولا بينة لهما على ذلك يحلف المدعى عليه على عدم العلم بما ادعياه من التملك وأنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه، والشهادة الثانية بمعنى العلم المشاهد أو ما هو بمنزلته لأن الشهادة المعاينة فالتجوز بها عن العلم صحيح قريب، والشهادة الثالثة إما بهذا المعنى أو بمعنى اليمين، وعلى هذا وهو مما أفاضه الله تعالى علي ببركة كلامه سبحانه فلا نسخ في الآية ولا إشكال، وما ذكروه كله تكلف لم يصف من الكدر لذوق ذائق، وسبب النزول وفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم مبين لما ذكر انتهى.
ولعل تخصيص الاثنين اللذين يحلفان بأحقية شهادتهما على ما قبل لخصوص الواقعة وإلا فإن كان الوارث واحدا حلف وإن تعدد حلف المتعدد كما بين في الكتب الفقهية، وما ذكر من أن سبب النزول إلخ مبين لما قرره فيه بعض خفاء إذ ليس في الخبر أن الوارثين حلفا على عدم العلم، وفي غيره ما هو نص في الحلف على الثبات، فقد روي في خبر أطول مما تقدم أن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميين قاما فحلفا بالله سبحانه بعد العصر أنهما أي تميما وعديا كذبا وخانا، نعم قال الترمذي في الجامع بعد روايته لذلك الخبر: إنه حديث غريب. وليس إسناده بصحيح، وأيضا في حمل الشهادة على شيء مما ذكره في قوله سبحانه وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ خفاء، وادعى هو نفسه أن حمل الشهادة على اليمين بعيد لأنها إذا أطلقت فهي المتعارفة فتأمل، فقد قال الزجاج: إن هذه الآية من أشكل ما في القرآن، وقال الواحدي: روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، وقال الإمام: اتفق المفسرون على أن هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما. وقال المحقق التفتازاني: اتفقوا على أن هذه الآية أصعب ما في القرآن حكما وإعرابا ونظما.
وقال الشهاب: اعلم أنهم قالوا: ليس في القرآن أعظم إشكالا وحكما وإعرابا وتفسيرا من هذه الآية والتي بعدها يعني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ وقوله تعالى فَإِنْ عُثِرَ إلخ حتى صنفوا فيها تصانيف مفردة قالوا: ومع ذلك لم يخرج أحد من عهدتها. وذكر الطبرسي أن الآيتين من أعوص القرآن حكما ومعنى وإعرابا وافتخر بما أتى فيهما ولم يأت بشيء إلى غير ذلك من أقوالهم وسبحان الخبير بحقائق كلامه ذلِكَ كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذكر مستتبع للمنافع وارد على مقتضى الحكمة والإشارة إلى الحكم السابق تفصيله، وقيل: إلى تحليف الشاهدين، وقيل: إلى الحبس بعد الصلاة أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على حقيقتها من غير تغيير لها خوفا من العذاب الأخروي، وهذه حكمة التحليف الذي تقدم أولا، والجار الأول متعلق بيأتوا والثاني بمحذوف وقع حالا من الشهادة، وقوله تعالى: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ أي إلى الورثة فيحلفوا بَعْدَ أَيْمانِهِمْ التي حلفوها عطف على مقدر ينبىء عنه المقام كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة محققة ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة المحرمة في سائر الأديان أو يخافوا أن ترد الايمان إلى الورثة فيحلفوا ويأخذوا ما في أيديهم
51
فيخجلوا من ذلك على رؤوس الاشهاد فينزجروا عن الخيانة، وهو بيان لحكمة شرعية قيام الآخرين فأي هذين الخوفين وقع حصل المقصد الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها، وقيل: إنه عطف على يَأْتُوا أي ذلك الحكم الذي ذكرناه أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها مما كنتم تفعلونه وأقرب إلى خوف الفضيحة، وجعل الشهاب هذا العطف على حد قوله: علفتها تبنا وماء باردا. وجوز السمين كون أو بمعنى الواو كما جوز جعلها لأحد الشيئين على ما هو الأصل فيها فتدبر وجمع ضمير «يأتوا ويخافوا» على ما قيل لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس، والظرف بعد متعلق بترد كما هو الظاهر. وجوز السمين- وهو ضعيف- أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لأيمان.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أحكامه التي من جملتها ما ذكر، والجملة على ما قيل عطف على مقدر أي احفظوا أحكام الله سبحانه واتقوا وَاسْمَعُوا سمع إجابة وقبول جميع ما تؤمرون به وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تذييل لما تقدم، والمراد فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين خارجين عن الطاعة والله تعالى لا يهدي القوم الخارجين عن طاعته إلى ما ينفعهم أو إلى طريق الجنة، وقوله سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قيل ظرف لقوله عز وجل: لا يَهْدِي، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه سبحانه لا يهديهم مطلقا لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا وهذا احتمال ذكره الزمخشري، ونقل عن المغربي أيضا وهو ظاهر على تقدير أن يكون المراد لا يهديهم إلى طريق الجنة، وفيه مراعاة لمذهب الاعتزال من أن نفي الهداية المطلقة لا يجوز على الله جل وعلا ولذلك خصص المهدى إليه، وقيل: إنه بدل من مفعول وَاتَّقُوا فهو حينئذ مفعول لا ظرف.
وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا لطول الفصل بالجملتين، وقال الحلبي: لا بعد فإن هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى وهو عند القائلين بالبدلية بدل اشتمال. وتعقب ذلك العلم العراقي بأن الإنصاف أن بدل الاشتمال هاهنا ممتنع لأنه لا بد فيه من اشتمال البدل على المبدل منه أو بالعكس وهنا يستحيل ذلك ولهذا قال الحلبي: لا بد في هذا الوجه من تقدير مضاف ليصح، والمراد اتقوا عقاب الله يوم وحينئذ يصح انتصاب اليوم على الظرفية، وقال المحقق التفتازاني: وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف بل بمعنى أن ينتقل الذهن إليه في الجملة ويقتضيه بوجه إجمالي مثلا إذا قيل اتقوا الله يتبادر الذهن منه إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم من أيام أفعاله يجب الاتقاء أيوم جمعه سبحانه للرسل أم غير ذلك، واعترض بأنه اشترط في ذلك أن لا يكون ظرفية وهذا ظرف زمان لو أبدل منه لأوهم ذلك، وقيل: إنه منصوب بمضمر معطوف على «اتقوا» إلخ أي واحذروا أو واذكروا يوم إلخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يضطرهم إلى تقوى الله تعالى وتلقي أمره بسمع الإجابة، وقيل: منصوب بقوله سبحانه وَاسْمَعُوا بحذف مضاف أي واسمعوا خبر ذلك اليوم.
وقيل: منصوب بفعل مؤخر قد حذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعة ما يقع فيه كأنه قيل: يوم يجمع الله الرسل إلخ يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه نطاق المقال، وتخصيص الرسل بالذكر مع أن ذلك يوم مجموع له الناس لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناء على ظهور كونهم أتباعا لهم. وقيل ولا يخفى لطفه على بعض الاحتمالات الآتية في الآية: لأن المقام مقام ذكر الشهداء والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الشهداء على أممهم كما يدل على ذلك قوله تعالى: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [القصص: ٧٥] ففي بيان حالهم وما يقع لهم يوم القيامة وهم من وعظ الشهداء الذين البحث فيهم ما لا يخفى،
52
وبهذا تتصل الآية بما قبلها أتم اتصال، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل فَيَقُولُ لهم ماذا أُجِبْتُمْ أي في الدنيا حين بلغتم الرسالة وخرجتم عن العهدة كما ينبىء عن ذلك العدول عن تصدير الخطاب بهل بلغتم، وفي العدول عن ماذا أجاب أممكم ما لا يخفى من الأنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة السخط والغيظ عليهم، والسؤال لتوبيخ أولئك أيضا وإلا فهو سبحانه علام الغيوب. وماذا متعلق بأجبتم على أنه مفعول مطلق له أي أي إجابة أجبتم من قبل أممكم إجابة قبول أو إجابة رد. وقيل: التقدير بماذا أجبتم أي بأي شيء أجبتم على أن يكون السؤال عن الجواب لا الإجابة فحذف حرف الجر وانتصب المجرور. وضعف بأن حذف حرف الجر وانتصاب مجروره لا يجوز إلا في الضرورة كقوله: تمرون الديار ولم تعوجوا. وكذا تقديره مجرورا. وقال العوفي:
إن ما اسم استفهام مبتدأ وذا بمعنى الذي خبره وأُجِبْتُمْ صلته والعائد محذوف أي ما الذي أجبتم به.
واعترض بأنه لا يجوز حذف العائد المجرور إلا إذا جر الموصول بمثل ذلك الحرف الجار واتحد متعلقاهما، وغاية ما أجابوا به عن ذلك أن الحذف وقع على التدريج وهو كما ترى قالُوا استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل: فماذا يقول الرسل عليهم الصلاة والسلام حينئذ؟ فقيل: يقولون لا عِلْمَ لَنا والتعبير بالماضي للدلالة على التقرر والتحقق كنفخ في الصور وغيره، ونفي العلم عن أنفسهم مع علمهم بماذا أجيبوا كما تدل عليه شهادتهم عليهم الصلاة والسلام على أممهم هنالك حسبما نطقت به بعض الآيات ليس على حقيقته بل هو كناية عن إظهار التشكي والالتجاء إلى الله تعالى بتفويض الأمر كله إليه عز شأنه.
وقال ابن الأنباري: إنه على حقيقته لكنه ليس لنفي العلم بماذا أجيبوا عند التبليغ ومدة حياتهم عليهم الصلاة والسلام بل بما كان في عاقبة الأمر وآخره الذي به الاعتبار. واعترض بأنهم يرون آثار سوء الخاتمة عليهم فلا يصح أيضا نفي العلم بحالهم وبما كان منهم بعد مفارقتهم لهم. وأجيب بأن ذلك إنما يدل على سوء الخاتمة وظهور الشقاوة في العاقبة لا على حقيقة الجواب بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلعلهم أجابوا إجابة قبول ثم غلبت عليهم الشقوة.
وتعقب بأنه من المعلوم أن ليس المراد بماذا أجبتم نفس الجواب الذي يقولونه أو الإجابة التي تحدث منهم بل ما كانوا عليه في أمر الشريعة من الامتثال والانقياد أو عكس ذلك. وفي رواية عن الحسن أن المراد لا علم لنا كعلمك لأنك تعلم باطنهم ولسنا نعلم ذلك وعليه مدار فلك الجزاء، وقيل: المراد من ذلك النفي تحقيق فضيحة أممهم أي أنت أعلم بحالهم منا ولا يحتاج إلى شهادتنا.
وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد نفي العلم نظرا إلى خصوص الزمان وهو أول الأمر حين تزفر جهنم فتجثو الخلائق على الركب وتنهمل الدموع وتبلغ القلوب الحناجر وتطيش الأحلام وتذهل العقول ثم إنهم يجيبون في ثاني الحال وبعد سكون الروع واجتماع الحواس وذلك وقت شهادتهم على الأمم، وبهذا أجاب رضي الله تعالى عنه نافع بن الأزرق حين سأله عن المنافاة بين هذه الآية وما أثبت الله تعالى لهم من الشهادة على أممهم في آية أخرى. وروي أيضا عن السدي، والكلبي، ومجاهد وهو اختيار الفراء وأنكره الجبائي، وقال: كيف يجوز القول بذهولهم من هول يوم القيامة مع قوله سبحانه: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ١٠٣] وقوله عز وجل: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: ٣٨، الأنعام: ٤٨، الأعراف: ٣٥، الأحقاف: ١٣] وقد نقل ذلك عنه الطبرسي ثم قال: ويمكن أن يجاب عنه بأن الفزع الأكبر دخول النار. وقوله سبحانه: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إنما هو كالبشارة بالنجاة من أهوال ذلك اليوم مثل ما يقال للمريض لا بأس عليك ولا خوف.
وقيل: إن ذلك الذهول لم يكن لخوف ولا حزن وإنما هو من باب العوم في بحار الإجلال لظهور آثار تجلي
53
الجلال. واعترض شيخ الإسلام على ما تقدم بأن قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ في موضع التعليل ولا يلائم ما ذكر. وعَلَّامُ صيغة مبالغة والمراد الكامل في العلم. والْغُيُوبِ جمع غيب وجمع وإن كان مصدرا على ما قال السمين لاختلاف أنواعه وإن أريد به الشيء الغائب أو قلنا: إنه مخفف غيب فالأمر واضح. وقرىء «علام» بالنصب على أن الكلام قد تم عند إِنَّكَ أَنْتَ ونصب الوصف على المدح أو النداء أو على أنه بدل من اسم إن، ومعنى إِنَّكَ أَنْتَ إنك الموصوف بصفاتك المعروفة، والكلام على طريقه: أنا أبو النجم. وشعري شعري.
وقرأ أبو بكر وحمزة «الغيوب» بكسر الغين حيث وقع وقد سمع في كل جمع على وزن فعول كبيوت كسر أوله لئلا يتوالى ضمتان وواو إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بدل من يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وقد نصب بإضمار اذكر، وقيل: في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء، وصيغة الماضي لما مر آنفا من الدلالة على تحقق الوقوع، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عز وجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص عيسى عليه السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم، وإظهار الاسم الجليل لما مر. وعِيسَى مبني عند الفراء ومتابعيه إما على ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادي وفتحه عند الجمهور، وهذا إذا أعرب ابن صفة لعيسى، أما إذا أعرب بدلا أو بيانا فلا يجوز تقدير الفتحة إجماعا كما بين في كتب النحو، و «على» في قوله تعالى:
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ متعلقة بنعمتي جعل مصدرا أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالا من نعمة أن جعل اسما أي اذكر نعمتي كائنة عليك إلخ، وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه السلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتدادا بها وتلذذا بذكرها على رؤوس الأشهاد وليكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخا للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطا وتفريطا وإبطالا لقولهما جميعا إِذْ أَيَّدْتُكَ ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت ذلك، وقيل: بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها.
وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به على السعة، وقرىء «آيدتك» بالمد ووزنه عند الزمخشري أفعلتك وعند ابن عطية فاعلتك، قال أبو حيان: ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل ومعناه ومعنى أيد واحد، وقيل: معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما- كما قيل- متقاربان لأن النصر قوة بِرُوحِ الْقُدُسِ أي جبريل عليه السلام أو الكلام الذي يحيى به الدين ويكون سببا للطهر عن أوضار الآثام أو تحيي بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليه السلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحا مقدسة طاهرة مشرقة نورانية علوية، وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة والسلام مما لا خفاء فيه، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك.
تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي طفلا صغيرا، وما في النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلا إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه، والظرف في موضع الحال من ضمير «تكلم».
54
وجوز أن يكون ظرفا للفعل. والجملة إما استئناف مبين لتأييده عليه الصلاة والسلام أو في موضع الحال من الضمير المنصوب في «أيدتك» كما قال أبو البقاء. والمهد معروف. وعن الحسن أن المراد به حجر أمه عليهما السلام، وأنكر النصارى كلامه عليه الصلاة والسلام في المهد وقالوا إنما تكلم عليه السلام أو أن ما يتكلم الصبيان وقد تقدم مع جوابه.
وقوله تعالى: وَكَهْلًا للإيذان على ما قيل بعدم تفاوت كلامه عليه الصلاة والسلام طفولية وكهولة لا لأن كلّا منهما آية فإن التكلم في الكهولة معهود من كل أحد. وقال الإمام: إن الثاني أيضا معجزة مستقلة لأن المراد تكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه عليه الصلاة والسلام حين رفع لم يكن كهلا. وهذا مبني على تفسير الكهل بمن وخطه الشيب ورأيت له بحالة أو من جاوز أربعا وثلاثين سنة إلى إحدى وخمسين وعيسى عليه الصلاة والسلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام.
وقيل: رفع وهو ابن أربع وثلاثين وما صح أنه عليه الصلاة والسلام وخطه الشيب، وأما لو فسر بمن جاوز الثلاثين فلا يتأتى هذا القول كما لا يخفى.
وقال بعض: الأولى أن يجعل «وكهلا» تشبيها بليغا أي تكلمهم كائنا في المهد وكائنا كالكهل. وأنت تعلم أن أخذ التشبيه من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف وَإِذْ عَلَّمْتُكَ عطف على «إذ أيدتك» أي واذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك من غير معلم الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي جنسهما، وقيل: الكتاب الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ خصا بالذكر إظهارا لشرفهما على الأول.
وَإِذْ تَخْلُقُ أي تصور مِنَ الطِّينِ أي جنسه كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي هيئة مثل هيئته بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها أي في تلك الهيئة المشبهة فَتَكُونُ بعد نفخك من غير تراخ طَيْراً بِإِذْنِي أي حيوانا يطير كسائر الطيور وقرأ نافع ويعقوب «طائرا» وهو إما اسم مفرد وإما اسم جمع كباقر وسامر.
وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي عطف على «تخلق» وقوله سبحانه: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي عطف على إِذْ تَخْلُقُ أعيدت فيه إِذْ كما قيل لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صاروا رميما معجزة باهرة حرية بتذكير وقتها صريحا. وما في النظم الكريم أبلغ من تحيي الموتى فلذا عدل عنه إليه. وقد تقدم الكلام في بيان من أحياهم عليه الصلاة والسلام مع بيان ما ينفعك في هذه الآية في سورة آل عمران.
وذكر بِإِذْنِي هنا أربع مرات وثمة مرتين قالوا: لأنه هنا للامتنان وهناك للأخبار فناسب هذا التكرار هنا وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني اليهود حين هموا بقتله ولم يتمكنوا منه.
إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر وهو ظرف لكففت مع اعتبار قوله تعالى: فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وهو مما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه الصلاة والسلام المحوج إلى الكف أي كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات، ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة. فكلمة من بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، وجعل الإشارة إليه على القراءة الأولى وتأويل السحر بساحر لتتوافق القراءتان لا حاجة إليه وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي أمرتهم في الإنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي.
وجاء استعمال الوحي بمعنى الأمر في كلام العرب كما قال الزجاج وأنشد:
55
الحمد لله الذي استقلت بإذنه السماء واطمأنت
أوحى لها القرار فاستقرت أي أمرها أن تقر فامتثلت، وقيل: المراد بالوحي إليهم إلهامه تعالى إياهم كما في قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى وروي ذلك عن السدي وقتادة وإنما لم يترك الوحي على ظاهره لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والحواريون ليسوا كذلك، وقد تقدم المراد بالحواريين.
وأن قوله تعالى: أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي مفسرة لما في الإيحاء من معنى القول، وقيل: مصدرية أي بأن آمنوا إلخ. وتقدم الكلام في دخولها على الأمر. والتعرض لعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه الصلاة والسلام والرمز إلى عدم إخراجه عليه الصلاة والسلام عن حده حطا ورفعا قالُوا آمَنَّا طبق ما أمرنا به وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ مخلصون في إيماننا أو منقادون لما أمرنا به.
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ منصوب باذكر على أنه ابتداء كلام لبيان ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه منقطع عما قبله كما يشير إليه الإظهار في مقام الإضمار.
وجوز أن يكون ظرفا لقالوا وفيه- على ما قيل حينئذ- تنبيه على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ لم يكن عن تحقيق منهم ولا عن معرفة بالله تعالى وقدرته سبحانه لأنهم لو حققوا وعرفوا لم يقولوا ذلك إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله عز وجل. وتعقب هذا القول الحلبي بأنه خارق للإجماع. وقال ابن عطية: لا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين. وأيد ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله عز من قائل: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ [الصف: ١٤] الآية. وبأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدح الزبير
«إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير»
والتزام القول بأن الحواريين فرقتان مؤمنون وهم خالصة عيسى عليه الصلاة والسلام والمأمور بالتشبه بهم وكافرون وهم أصحاب المائدة، وسؤال عيسى عليه الصلاة والسلام نزول المائدة وإنزالها ليلزمهم الحجة يحتاج إلى نقل ولم يوجد. ومن ذلك أجيب عن الآية بأجوبة فقيل: إن معنى «هل يستطيع» هل يفعل كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم مبالغة في التقاضي. ونقل هذا القول عن الحسن.
والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الإيجاد. وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل تسمية للسبب الذي هو الإرادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: ٦] إلخ. وقيل: إن المعنى هل يطيع ربك فيستطيع بمعنى يطيع ويطيع بمعنى يجيب مجازا ونقل ذلك عن السدي
وذكر أبو شامة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عاد أبا طالب في مرض فقال له: يا ابن أخي ادع ربك أن يعافيني فقال: اللهم اشف عمي فقام كأنما نشط من عقال فقال: يا ابن أخي إن ربك الذي تعبده يطيعك فقال: يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك
أي يجيبك لمقصودك وحسن استعماله صلّى الله عليه وسلّم لذلك المشاكلة.
وقيل: هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة فكأنهم قالوا: هل إرادة الله تعالى وحكمته تعلقت بذلك أولا؟ لأنه لا يقع شيء بدون تعلقهما به.
واعترض بأن قوله تعالى الآتي: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه. وقيل: إن سؤالهم للاطمئنان والتثبت كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: ٢٦٠] ومعنى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن كنتم كاملين في الإيمان والإخلاص. ومعنى «نعلم أن قد
56
صدقتنا» نعلم علم مشاهدة وعيان بعد ما علمناه علم إيمان وإيقان. ومن هذا يعلم ما يندفع به الاعتراض.
وقرأ الكسائي وعلي كرم الله تعالى وجهه، وعائشة، وابن عباس، ومعاذ، وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم «هل» تستطيع ربك بالتاء خطابا لعيسى عليه الصلاة والسلام ونصب «ربك» على المفعولية. والأكثرون على أن هناك مضافا محذوفا أي سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف. وعن الفارسي أنه لا حاجة إلى تقدير والمعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك. وأنت تعلم أن اللفظ لا يؤدي ذلك فلا بد من التقدير، والمائدة في المشهور الخوان الذي عليه الطعام من ماد يميد إذا تحرك أو من ماده بمعنى أعطاه فهي فاعلة إما بمعنى مفعولة كعيشة راضية، واختاره الأزهري في تهذيب اللغة أو بجعلها للتمكن مما عليها كأنها بنفسها معطية كقولهم للشجرة المثمرة:
مطعمة. وأجاز بعضهم أن يقال فيها ميدة واستشهد عليه بقول الراجز:
وميدة كثيرة الألوان تصنع للجيران والإخوان
واختار المناوي أن المائدة كل ما يمد ويبسط، والمراد بها السفرة، وأصلها طعام يتخذه المسافر ثم سمى بها الجلد المستدير الذي تحمل به غالبا كما سميت المزادة راوية. وجوز أن تكون تسمية الجلد المذكور سفرة لأن له معاليق متى حلت عنه انفرج فأسفر عما فيه. وهذا غير الخوان بضم الخاء وكسرها وهو أفصح ويقال له: إخوان بهمزة مكسورة لأنه اسم لشيء مرتفع يهيأ ليؤكل عليه الطعام، والأكل عليه بدعة لكنه جائز إن خلا عن قصد التكبر. وتطلق المائدة على نفس الطعام أيضا كما نص عليه بعض المحققين، ومِنَ السَّماءِ يجوز أن يتعلق بالفعل قبله وأن يتعلق بمحذوف وقع صفة لمائدة أي مائدة كائنة من السماء قالَ أي عيسى عليه الصلاة والسلام لهم حين قالوا ذلك: اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات كما قال الزجاج. وعن الفارسي أنه أمر لهم بالتقوى مطلقا.
ولعل ذلك لتصير ذريعة لحصول المأمول فقد قال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: ٢] وقال جل شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة: ٣٥] إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوتي أو كاملين في الإيمان والإخلاص أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإسلام قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أكل تبرك. وقيل: أكل تمتع وحاجة. والإرادة إما بمعناها الظاهر أو بمعنى المحبة أي نحب ذلك والكلام كما قيل تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد من السؤال إزاحة شبهتنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الإيمان والتقوى ولكن نريد إلخ أو ليس مرادنا اقتراح الآيات لكن مرادنا ما ذكر.
وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بازدياد اليقين كما قال عطاء وَنَعْلَمَ علم مشاهدة وعيان على ما قدمناه أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا أي أنه قد صدقتنا في ادعاء النبوة، وقيل: في أن الله تعالى يجيب دعوتنا، وقيل: فيما ادعيت مطلقا.
وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ عند من لم يحضرها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر، وقيل: من الشاهدين لله تعالى بالوحدانية ولك بالنبوة.
وعَلَيْها متعلق بالشاهدين إن جعل اللام للتعريف أو بمحذوف يفسره من الشاهدين إن جعلت موصولة.
وجوزنا تفسير ما لا يعمل للعامل، وقيل: متعلق به وفيه تقديم ما في حيز الصلة وحرف الجر وكلاهما ممنوع.
ونقل عن بعض النحاة جواز التقديم في الظرف، وعن بعضهم جوازه مطلقا، وجوز أن يكون حالا من اسم كان أي عاكفين عليها. وقرىء «يعلم» بالبناء للمفعول و «تعلم». «وتكون» بالتاء والضمير للقلوب.
57
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك،
وأخرج الترمذي في نوادر الأصول وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله تعالى فلما قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالأصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعا ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه فلما رأى ذلك دعا الله تعالى فقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا
ناداه سبحانه وتعالى مرتين على ما قيل مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات وأخرى بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهارا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء وإنما لم يجعل نداء واحدا بأن يعرب رَبَّنا بدلا أو صفة لأنهم قالوا: إن لفظ اللَّهُمَّ لا يتبع وفيه خلاف لبعض النحاة.
وحذف حرف النداء في الأول وعوض عنه الميم وكذا في الثاني إلا أن التعويض من خواص الاسم الجليل أي يا الله يا ربنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً أي خوانا عليه طعام أو سفرة كذلك، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وقوله سبحانه وتعالى مِنَ السَّماءِ متعلق إما بإنزال أو بمحذوف وقع صفة لمائدة أي كائنة من السماء، والمراد بها إما المحل المعهود وهو المتبادر من اللفظ وإما جهة العلو، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن حميد وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر أن المائدة التي نزلت كان عليها من ثمر الجنة وكذا روي عن وهب بن منبه.
ويؤيد الثاني ما
روي عن سلمان الفارسي من خبر طويل أن المائدة لما نزلت قال شمعون رأس الحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام: يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية فقال شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوءا يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا إنما هو شيء ابتدعه الله تعالى في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان في أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر،
وقوله تعالى تَكُونُ لَنا عِيداً صفة مائِدَةً ولَنا خبر كان وعِيداً حال من الضمير في الظرف أو في تَكُونُ على رأي من يجز إعمالها في الحال، وجوز أن يكون عِيداً الخبر ولَنا حينئذ إما حال من الضمير في «تكون» أو حال من عِيداً لأنه صفة له قدمت عليه، والعيد العائد مشتق من العود ويطلق على الزمان المعهود لعوده في كل عام بالفرح والسرور، وعليه فلا بد من تقدير مضاف، والمعنى يكون نزولها لنا عيدا، ويطلق على نفس السرور العائد وحينئذ لا يحتاج إلى التقدير، وفي الكلام لطافة لا تخفى، وذكر غير واحد أن العيد يقال لكل ما عاد عليك في وقت، ومنه قول الأعشى:
فواكبدي من لاعج الحب والهوى إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها
وهو واوي كما ينبىء عنه الاشتقاق ولكنهم قالوا في جمعه: أعياد وكان القياس أعواد لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها كراهة الاشتباه- كما قال ابن هشام- بجمع عود، ونظر ذلك الحريري بقولهم. هو أليط بقلبي منك أي ألصق حبابه فإن أصله الواو لكن قالوا ذلك ليفرق بينه وبين قولهم. هو ألوط من فلان، ولا يخفى أن هذا مخالف لما ذكره محققو أهل اللغة، وعن الكسائي يقال لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط وهو ألوط وأليط، ثم إنهم إنما لم يعكسوا
58
الأمر في جمع عود وعيد فيقولوا في جمع الأول أعياد وفي جمع الثاني أعواد مع حصول التفرقة أيضا اعتبارا على ما قيل للأخف في الأكثر استعمالا مع رعاية ظاهر المفرد، وقرأ عبد الله «تكن» بالجزم على جواب الأمر لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا.
روي أنه نزلت يوم الأحد
فلذلك اتخذه النصارى عيدا، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن المعنى يأكل منها أول الناس وآخرهم والجار والمجرور عند بعض بدل من الجار والمجرور أعني لَنا
، وقال أبو البقاء إذا جعل لَنا خبرا أو حالا فهو صفة لعيدا وإن جعل صفة له كان هو بدلا من الضمير المجرور بإعادة الجار، وظاهره أن المبدل منه الضمير لكن أعيد الجار لأن البدل في قوة تكرار العامل، وهو تحكم لأن الظاهر كما أشير إليه إبدال المجموع من المجموع، ثم إن ضمير الغائب يبدل منه وأما ضمير الحاضر فأجازه بعضهم مطلقا وأجازه آخرون كذلك، وفصل قوم فقالوا إن أفاد توكيدا وإحاطة وشمولا جاز وإلا امتنع.
واستظهر بعضهم على قول الحبر أن يكون لَنا خبرا أي قوتا أو نافعة لنا. وقرأ زيد، وابن محيصن، والجحدري «لأولانا وأخرانا» بتأنيث الأول والآخر باعتبار الأمة والطائفة، وكون المراد بالأولى والأخرى الدار الأولى أي الدنيا والدار الأخرى أي الآخرة مما لا يكاد يصح وَآيَةً عطف على عِيداً وقوله سبحانه وتعالى:
مِنْكَ متعلق بمحذوف وقع صفة له أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي وَارْزُقْنا أي الشكر عليها على ما حكي عن الجبائي أو المائدة على ما نقل عن غير واحد، والمراد بها حينئذ- كما قيل- ما على الخوان من الطعام أو الأعم من ذلك وهذه ولعله الأولى وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييل جار مجرى التعليل أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا ملاحظة عوض.
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ مرات عديدة كما ينبىء عن ذلك صيغة التفعيل، وورود الإجابة منه تعالى كذلك مع كون الدعاء منه عليه الصلاة والسلام بصيغة الافعال لإظهار كمال اللطف والإحسان مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسما تحقيق للوعد وإيذان بأنه سبحانه وتعالى منجز له لا محالة وإشعار بالاستمرار، وهذه القراءة لأهل المدينة، والشام، وعاصم.
وقرأ الباقون كما قال الطبرسي مُنَزِّلُها بالتخفيف، وجعل الإنزال والتنزيل بمعنى واحد فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ أي بعد تنزيلها حال كونه كائنا مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ بسبب كفره ذلك عَذاباً هو اسم مصدر بمعنى التعذيب كالمتاع بمعنى التمتيع، وقيل: مصدر محذوف الزوائد وانتصابه على المصدرية في التقديرين، وقيل: منصوب على التوسع، والتشبيه بالمفعول به مبالغة كما ينصب الظرف ومعمول الصفة المشبهة كذلك، وجوز أبو البقاء أن يكون نصبه على الحذف والإيصال، والمراد بعذاب وهو حينئذ اسم ما يعذب به، ولا يخفى أن حذف الجار لا يطرف في غير أن وإن عند عدم اللبس، والتنوين للتعظيم أي عذابا عظيما.
وقوله سبحانه وتعالى: لا أُعَذِّبُهُ في موضع النصب على أنه صفة له. والهاء في موضع المفعول المطلق كما في ظننته زيدا قائما. ويقوم مقام العائد إلى الموصوف كما قيل. ووجه بأنه حينئذ يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل فيكون في معنى النكرة الواقعة بعد النفي من حيث العموم فيشمل العذاب المتقدم، ويحصل الربط بالعموم ولو رد عليه أن الربط بالعموم إنما ذكره النحاة في الجملة الواقعة خبرا فلا يقاس عليه الصفة وجوز أن يكون من قبيل ضربته ضرب زيد أي عذابا لا أعذب تعذيبا مثله، وعلى هذا التقدير يكون الضمير راجعا على العذاب المقدم فالربط به.
وقيل: الضمير راجع إلى مِنَ بتقدير مضافين أي لا أعذب مثل عذابه أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم أو العالمين مطلقا، وهذا العذاب إما في الدنيا، وقد عذب من كفر منهم بمسخهم قردة وخنازير. وروي ذلك عن
59
قتادة وإما في الآخرة. وإليه يشير ما أخرجه أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون، وآل عمران، ويدل هذا على أن المائدة نزلت وكفر البعض بعد.
وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن ومجاهد أن القوم لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ إلخ قالوا: لا حاجة لنا بها فلم تنزل. والجمهور على الأول وعليه المعول.
فقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر موقوفا ومرفوعا. والوقف أصح قال: أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير وكان الخبز من أرز على ما روي عن عكرمة.
وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سأله قومه ذلك فدعا أنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء تهوي إليهم وعيسى عليه الصلاة والسلام يبكي خوفا من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا رائحة مثلها قط وخر عيسى عليه الصلاة والسلام والحواريون سجدا شكرا لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم فرأوا ما يغمهم ثم انصرفوا فأقبل عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه ينظرونها. فإذا هي مغطاة بمنديل فقال عليه الصلاة والسلام: من أجرؤنا على كشفه وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه حتى نراها ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته أنت أولى بذلك فقام واستأنف وضوءا جديدا ثم دخل مصلاه فصلى ركعات ثم بكى طويلا ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل وقلنا: بسم الله خير الرازقين وكشف عنها فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات وفي رواية على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فسأله شمعون عنها وأجابه بما تقدمت روايته.
ثم قالوا له عليه الصلاة والسلام: إنما نحب أن ترينا آية في هذه الآية فقال عليه السلام: سبحان الله تعالى أما اكتفيتم ثم قال: يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حية كما كنت فأحياها الله تعالى بقدرته فاضطربت وعادت حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسير ففزع القوم منها وانحاشوا فقال عليه الصلاة والسلام لهم: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ما أخوفني عليكم بما تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشوية ثم دعاهم إلى الأكل فقالوا: يا روح الله أنت الذي تبدأ بذلك فقال: معاذ الله تعالى يبدأ من طلبها فلما رأوا امتناع نبيهم عليه الصلاة والسلام خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها فدعا عليه الصلاة والسلام لها الفقراء والزمنى، وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم ليكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا كلكم باسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة وصدروا منها وكل واحد منهم شبعان يتجشى ونظر عيسى عليه السلام والحواريون ما عليها فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهو ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرىء كل زمن منهم أكل منها فلم يزالوا أغنياء صحاحا حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم، وكانت العائدة إذا نزلت
60
بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون فزاحم بعضهم بعضا الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضا فلما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما فلبثوا في ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم بإذن الله تعالى إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل رزقي لليتامى والمساكين والزمنى دون الأغنياء من الناس فلما فعل الله تعالى ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب المرتابين فلما علم عيسى عليه السلام ذلك منهم قال:
هلكتم وإله المسيح سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فابشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام إني آخذ المكذبين بشرطي وإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فلما أمسى المرتابون وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين وكان آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ إلى قوله تعالى: أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.
وجاء عنه أن المائدة كانت تنزل عليهم حيث نزلوا، وعن وهب بن منبه أن المائدة كان يقعد عليها أربعة آلاف فإذا أكلوا شيئا أبدل الله تعالى مكانه مثله فلبثوا بذلك ما شاء الله عز وجل.
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عطف على إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ منصوب بما نصبه من الفعل المضمر أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك. وصيغة الماضي لما مضى. والمراد يقول له عليه الصلاة والسلام: أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ يوم القيامة توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم بإقراره عليه الصلاة والسلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية وأمرهم بعبادته عز وجل.
وقيل: قاله سبحانه عليه الصلاة والسلام في الدنيا وكان ذلك بعد الغروب فصلى عليه الصلاة والسلام المغرب ثلاث ركعات شكرا لله تعالى حين خاطبه بذلك، وكان الأولى لنفي الألوهية عن نفسه. والثانية لنفيها عن أمه. والثالثة لإثباتها لله عز وجل. فهو عليه الصلاة والسلام أول من صلى المغرب ولا يخفى أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيات يأبى ذلك ولا يصح أيضا خبر فيه. ثم إنه ليس مدار أصل الكلام عند بعض المحققين أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال المشهور وعليه قوله تعالى: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا [الأنبياء: ٦٢] ونحوه بل على أن المتيقن هو الاتخاذ. والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه الصلاة والسلام أو أمر من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى. أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان:
١٧] وقال بعض: لما كان القول قد وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقررا كالاتخاذ فالاستفهام لتعيين من صدر منه فلذا قدم المسند إليه، وقيل: التقديم لتقوية النسبة لأنها بعيدة عن القبول بحيث لا تتوجه نفس السامع إلى أن
61
المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها، وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه، وفي قوله اتَّخِذُونِي وَأُمِّي دون واتخذوني ومريم توبيخ على توبيخ كأنه قيل: أأنت قلت ما قلت مع كونك مولودا وأمك والدة والإله لا يلد ولا يولد.
وأنت تعلم أن في ندائه عليه الصلاة والسلام على الكيفية المذكورة إشارة إلى إبطال ذلك الاتخاذ. ولام لِلنَّاسِ للتبليغ، والاتخاذ إما متعد لاثنين فالياء مفعوله الأول وإِلهَيْنِ مفعوله الثاني وإما متعد لواحد فإلهين حال من المفعول ومِنْ دُونِ اللَّهِ حال من فاعل الاتخاذ أي متجاوزين الله تعالى أو صفة لإلهين أي كائنين من دون الله تعالى أي غيره منضما إليه سبحانه. فالله تعالى إله وهما بزعم الكفرة إلهان فالمراد اتخاذهما بطريق اشتراكهما معه عز وجل. وهذا كما في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ إلى قوله سبحانه: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: ١٨] وأيد ذلك بأن التوبيخ والتبكيت إنما يتأتى بذلك.
وقال الراغب: إن ظاهر ذلك القول استقلالهما عليهما الصلاة والسلام بالألوهية وعدم اتخاذ الله سبحانه وتعالى معهما إلها ولا بد من تأويل ذلك لأن القوم ثلثوا والعياذ بالله تعالى فأما أن يقال: إن من أشرك مع الله سبحانه غيره فقد نفاه معنى لأنه جل شأنه وحده لا شريك له ويكون إقراره بالله تعالى كلا إقرار. وحينئذ يكون مِنْ دُونِ اللَّهِ مجازا عن مع الله تعالى أو يقال: إن المراد بمن دون الله التوسط بينهما وبينه عز شأنه فيكون الدون إشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته جل جلاله لأنهم قالوا: هو عز اسمه كالشمس وهما كشعاعها.
وزعم بعضهم أن المراد اتخاذهما بطريق الاستقلال. ووجهه أن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يدي عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه إلها في حق ذلك البعض، ولا يخفى أن الأول كالمتعين وإليه أشار العلامة ونص على اختياره شيخ الإسلام.
واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم عليها السلام إلها وأجيب عنه بأجوبة الأول أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر إِلهَيْنِ على طريق الإلزام لهم. والثاني أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: ٣١] لما أنهم عظموهم تعظيم الرب. والتثنية حينئذ على حد- القلم أحد اللسانين- والثالث أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك.
ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم: المريمية يعتقدون في مريم أنها إله. وهذا كما كان في اليهود قوم يعتقدون أن عزيرا ابن الله عن اسمه وهو أولى الأوجه عندي. وما قرره الزاعم من أن النصارى يعتقدون إلخ غير مسلم في نصارى زماننا ولم ينقله أحد ممن يوثق به عنهم أصلا. وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.
قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام وهو ظاهر.
وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام حين يقول له الرب عز وجل ما يقول ترتعد مفاصله وينفجر من أصل كل شعرة من جسده عين من دم خيفة من ربه جلت عظمته، وفي بعضها أنه عليه الصلاة والسلام يرتعد خوفا ولا يفتح له باب الجواب خمسمائة عام ثم يلهمه الله تعالى الجواب بعد فيقول: سُبْحانَكَ
أي تنزيها لك من أن أقول ذلك أو يقال في حقك كما قدره ابن عطية،
62
وقدره بعضهم من أن يكون لك شريك فضلا من أن يتخذ إلهان دونك، وآخرون من أن تبعث رسولا يدعي ألوهية غيرك ويدعو إليها ويكفر بنعمتك، والأول أوفق بسياق النظم الكريم. وسبحان على سائر التقادير- على أحد الأقوال فيه وقد تقدمت- علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه. وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح وهو الإبعاد في الأرض والذهاب، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل والعدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وإقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى.
وقوله سبحانه: ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه عنه. وما الثانية سواء كانت موصولة أو نكرة موصوفة مفعول أَقُولَ والمراد بها على التقديرين القول المذكور أو ما يعمه وغيره ويدخل فيه القول المذكور دخولا أوليا، ونصب القول للمفردات نحو الجملة والكلام والشعر مما لا شك في صحته كنصبه الجمل الصريحة فلا حاجة إلى تفسير أقول بأذكر كما يتوهم. واسم ليس ضمير عائد إلى ما وبِحَقٍّ خبره، والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك. وإيثار ليس على الفعل المنفي على ما يحق لي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقية وإفادة التأكيد بما في خبره من الباء المطرد زيادتها في خبر ليس.
ومعنى ما يَكُونُ لِي أي لا ينبغي ولا يليق وهو أبلغ من لم أقله فلذا أوثر عليه: والمراد لا ينبغي أن أقول قولا لا يحق لي قوله أصلا في وقت من الأوقات، وجوز أبو البقاء أن يكون لِي خبر ليس وبِحَقٍّ في موضع الحال من الضمير في الجار والعامل فيه ما فيه من معنى الاستقرار. وأن يكون متعلقا بفعل محذوف على أنه مفعول له والباء للسببية أي ما ليس يثبت لي بسبب حق. وأن يكون خبر ليس ولِي صفة حق قدم عليه فصار حالا، وهذا مخرج على رأي من أجاز تقديم المجرور عليه، وقيل: إن لِي متعلق بحق وهو الخبر. وهو أيضا مبني على قول بعض النحاة المجوز تقديم صلة المجرور على الجار. والجمهور على عدم الجواز ولا فرق عندهم في المنع بين أن يكون الجار زائدا أو غيره، وقوله عز وجل: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ استدلال على براءته من صدور القول المذكور عنه فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه به تعالى قطعا والعلم به منتف فينتفي الصدور ضرورة أن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم. واستشكلت هذه الجملة بأن المعنى على المضي هنا وأن تقلب الماضي مستقبلا. وأجاب عن ذلك المبرد بأن كان قوية الدلالة على المضي حتى قيل إنها موضوعة له فقط دون الحدث وجعلوه وجها لكونها ناقصة فلا تقدر إن على تحويلها إلى الاستقبال.
وأجاب ابن السراج بأن التقدير إن أقل كنت قلته إلخ وكذا يقال فيما كان من أمثال ذلك، وقد نقل ذلك عثمان ابن يعيش وضعفه ابن هشام في تذكرته، والجمهور على أن المعنى إن صح قولي ودعواي ذلك فقد تبين علمك به تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فقوله جل شأنه: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ بيان للواقع وإظهار لقصوره عليه السلام، وللنفس في كلامهم إطلاقات فتطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وعلى القلب وعلى الدم وعلى الإرادة، قيل: وعلى العين التي تصيب وعلى الغيب وعلى العقوبة. ويفهم من كلام البعض أنها حقيقة في الإطلاق الأولى مجاز فيما عداه، وفسر غير واحد النفس هنا بالقلب، والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي فكيف بما أعلنه ولا أعلم معلومك الذي تخفيه وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
إلا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد وما في البيت ليس كذلك. وفي الدر المصون أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكاه عنه أيضا في مجمع البيان. وفسرها بعضهم بالذات
63
وادعى أن نسبتها بهذا المعنى إلى الله تعالى لا تحتاج إلى القول بالمشاكلة، ومن ذلك قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: ٥٤] وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: ٤١] وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران ٢٨، ٣٠]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمرا ولم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه من طينة الخبال»
وقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ولأجل ذلك مدح نفسه»
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه»
إلى غير ذلك من الأخبار.
وقال المحقق الشريف في شرح المفتاح وغيره: إن لفظ النفس لا يطلق عليه تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وليس بشيء لما علمت من الآيات والأحاديث، وادعاء أن ما فيها مشاكلة تقديرية كما قيل ذلك في قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة: ١٣٨] لا يخفى أنه من سقط المتاع فالصحيح المعول عليه جواز إطلاقها بمعنى الذات على الله تعالى من غير مشاكلة، نعم قيل: إن لفظ النفس في هذه الآية وإن كان بمعنى الذات لا بد معه من اعتبار المشاكلة لأن لا أعلم ما في ذاتك ليس بكلام مرضي فيحتاج إلى حمله على المشاكلة بأن يكون المراد لا أعلم معلوماتك فعبر عنه بلا أعلم ما في نفسك لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي.
وعلى ذلك حمل العلامة الثاني كلام صاحب الكشاف ولا يخفى ما فيه، والتحقيق أن الآية من المشاكلة إلا أنها ليست في إطلاق النفس بل في لفظ فِي فإن مفادها بالنظر إلى ما في نفس عيسى عليه السلام والارتسام والانتقاش ولا يمكن ذلك نظرا إلى الله تعالى. وإلى هذا يشير كلام بعض المحققين ومنه يعلم ما في كتب الأصول من الخبط في هذا المقام، وقال الراغب: يجوز أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه تعالى فكأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا نفس لك فاعلم ما فيها كقول الشاعر:
ولا ترى الضب بها ينجحر
وهو على بعده مما لا يحتاج إليه. ومثله ما ذكره بعض الفضلاء من أن النفس الثانية هي نفس عيسى عليه السلام أيضا، وإنما أضافها إلى ضمير الله تعالى باعتبار كونها مخلوقة له سبحانه كأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما فيها إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تقرير لمضمون الجملتين منطوقا ومفهوما لما فيه من الحصر ومدلوله الإثبات فيقرر تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ويلزمه النفي فيقرر لا أعلم ما في نفسك لأنه غيب أيضا، ومدلول النفي أنه لا يعلم الغيب غيره تعالى شأنه.
وقوله تعالى: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ استئناف- كما قال شيخ الإسلام- مسوق لبيان ما صدر عنه عليه السلام قد أدرج فيه عدم صدور القول المذكور عنه على أبلغ وجه وآكده حيث حكم بانتفاء صدور جميع الأقوال المغايرة للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القول المذكور دخولا أوليا. والمراد عند البعض ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا أنه قيل: ما قُلْتُ لَهُمْ نزولا على قضية حسن الأدب لئلا يجعل ربه سبحانه ونفسه معا آمرين ومراعاة لما ورد في الاستفهام. ودل على ذلك بإقحام أن المفسرة في قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
ولا يرد أن الأمر لا يتعدى بنفسه إلى المأمور به إلا قليلا كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فكذا ما أول به لأنه- كما قال ابن هشام- لا يلزم من تأويل شيء بشيء أن يتعدى تعديته كما صرحوا به لأن التعدية تنظر إلى اللفظ. نعم قيل في جعل أن مفسرة بفعل الأمر المذكور صلته نحو أمرتك بهذا أن قم نظر أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغن عن الآخر. وأما في الاستعمال فلأنه لم يوجد. ونظر فيما ذكر في طريق القياس لأن
64
الأول لا يغني عن الثاني والثاني لا يغني عن الأول وللتفسير بعد الإبهام شأن ظاهر. وادعى ابن المنير أن تأويل هذا القول بالأمر كلفة لا طائل وراءها وفيه نظر.
وجوز إبقاء القول على معناه وأَنِ اعْبُدُوا إما خبر لمضمر أي هو أن اعبدوا أو منصوب بأعني مقدرا، قيل:
عطف بيان للضمير في بِهِ، واعترض بأنه صرح في المغني بأن عطف البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أن الضمير لا ينعت لا يعطف عليه عطف بيان، وأجيب بأن ذلك من المختلف فيه وكثير من النحاة جوزوه. وما في المغني قد أشار شراحه إلى رده، وقيل: بدل من الضمير بدل كل من كل. ورده الزمخشري في الكشاف بأن المبدل منه في حكم التنحية والطرح فيلزم خلو الصلة من العائد بطرحه، وأجيب عنه بأن المذهب المنصور أن المبدل منه ليس في حكم الطرح مطلقا بل قد يعتبر طرحه في بعض الأحكام كما إذا وقع مبتدأ فإن الخبر للبدل نحو زيد عينه حسنة ولا يقال حسن. وقد يقال أيضا: إنه ليس كل مبدل منه كذلك بل ذلك مخصوص فيما إذا كان البدل بدل غلط، وأجاب بعضهم بأنه وإن لزم خلو الصلة من العائد بالطرح لكن لا ضير فيه لأن الاسم الظاهر يقوم مقامه كما في قوله: وأنت الذي في رحمة الله أطمع. ولا يخفى أن في صحة قيام الظاهر هنا مقام الضمير خلافا لهم، وجوز أن يكون بدلا من ما أَمَرْتَنِي بِهِ، واعترض بأن ما مفعول القول ولا بد فيه أن يكون جملة محكية أو ما يؤدي مؤداها أو ما أريد لفظه وإذا كان العبادة بدلا كانت مفعول القول مع أنها ليست واحدا من هذه الأمور فلا يقال: ما قلت لهم إلا العبادة، وفي الانتصاف أن العبادة وإن لم تقل فالأمر بها يقال وأن الموصولة بفعل الأمر يقدر معها الأمر فيقال هنا ما قلت لهم: إلا الأمر بالعبادة ولا ريب في صحته لأن الأمر مقول بل قول على أن جعل العبادة مقولة غير بعيد على طريقة ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [المجادلة: ٣] أي الوطن الذي قالوا قولا يتعلق به وقوله تعالى:
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ [مريم: ٨٠] ونحو ذلك، وفي الفوائد أن المراد ما قلت لهم إلا عبادته أي الزموا عبادته فيكون هو المراد من ما أَمَرْتَنِي بِهِ ويصح كون هذه الجملة بدلا من ما أمرتني به من حيث إنها في حكم المراد لأنها مقولة وما أَمَرْتَنِي بِهِ مفرد لفظا وجملة معنى ولا يخلو عن تعسف، وجوز إبقاء القول على معناه وأن مفسرة إما لفعل القول أو لفعل الأمر، واعترض بأن فعل القول لا يفسر بل يحكى به ما بعده من الجمل ونحوها وبأن فعل الأمر مسند إلى الله تعالى وهو لا يصح تفسيره باعبدوا الله ربي وربكم بل باعبدوني أو اعبدوا الله ونحوه، وأجيب عن هذا بأنه يجوز أن يكون حكاية بالمعنى كأنه عليه السلام حكى معنى قول الله عز وجل بعبارة أخرى وكأن الله تعالى قال له عليه السلام: مرهم بعبادتي أو قال لهم على لسان عيسى عليه السلام: اعبدوا الله رب عيسى وربكم فلما حكاه عيسى عليه السلام قال: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فكنى عن اسمه الظاهر بضميره كما قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: ٥٢، ٥٣] فإن موسى عليه السلام لا يقول فأخرجنا بل فأخرج الله تعالى لكن لما حكاه الله تعالى عنه عليه السلام رد الكلام إليه عز شأنه وأضاف الإخراج إلى ذاته عز وجل على طريقة المتكلم لا الحاكي وإن كان أول الكلام حكاية. ومثله قوله تعالى: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: ٩] إلى قوله سبحانه: فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [الزخرف: ١١] إلى غير ذلك.
وقال أبو حيان: يجوز أن يكون المفسر اعْبُدُوا اللَّهَ ويكون رَبِّي وَرَبَّكُمْ من كلام عيسى عليه السلام على إضمار أعني لا على الصفة لله عز اسمه واعتمده ابن الصائغ وجعله نظير قوله تعالى: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء: ١٥٧] على رأي. وفي أمالي ابن الحاجب إذا حكى حاك كلاما فله أن يصف م ٥- روح المعاني مجلد ٤
65
المخبر عنه بما ليس في كلام المحكي عنه، واستبعد ذلك الحلبي والسفاقسي وهو الذي يقتضيه الإنصاف.
وقيل على الأول: إن بعضهم أجاز وقوع أن المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما في معناه فيقع حينئذ مفسرا له لكن أنت تعلم أنه لا ينبغي الاختلاف في أنه لا يقترن المقول المحكي بحرف التفسير لأن مقول القول في محل نصب على المفعولية والجملة المفسرة لا محل لها فلعل مراد البعض مجرد الوقوع والتزام أن المقول محذوف وهو المحكي وهذا تفسير له أي ما قلت لهم مقولا فتدبر فقد انتشرت كلمات العلماء هنا.
وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي رقيبا أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك من غير واسطة ومشاهدا لأحوالهم من إيمان وكفر، وعَلَيْهِمْ كما قال أبو البقاء متعلق بشهيدا، ولعل التقديم لما مر غير مرة ما دُمْتُ فِيهِمْ أي مدة دوامي فيما بينهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي قبضتني بالرفع إلى السماء كما يقال توفيت المال إذا قبضته. وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور.
وعن الجبائي أن المعنى أمتني وادعى أن رفعه عليه السلام إلى السماء كان بعد موته وإليه ذهب النصارى وقد مر الكلام في ذلك كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي الحفيظ المراقب فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسول وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا، وقيل:
المراد بالرقيب المطلع المشاهد، ومعنى الجملتين إني ما دمت فيهم كنت مشاهدا لأحوالهم فيمكن لي بيانها فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لذلك لا غيرك فلا أعلم حالهم ولا يمكنني بيانها، ولا يخفى أن الأول أوفق بالمقام، وقد نص بعض المحققين أن الرقيب والشهيد هنا بمعنى واحد وهو ما فسر به الشهيد أولا ولكن تفنن في العبارة ليميز بين الشهيدين والرقيبين لأن كونه عليه الصلاة والسلام رقيبا ليس كالرقيب الذي يمنع ويلزم به كالشاهد على المشهود عليه ومنعه بمجرد القول وأنه تعالى شأنه هو الذي يمنع منع إلزام بالأدلة والبينات، وأَنْتَ ضمير فصل أو تأكيد والرَّقِيبَ خبر كان. وقرىء «الرقيب» بالرفع على أنه خبر أنت، والجملة خبر كان وعَلَيْهِمْ في القراءتين متعلق بالرقيب.
وقوله سبحانه: وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه- على ما قيل- إيذان بأنه سبحانه كان هو الشهيد في الحقيقة على الكل حين كونه عليه السلام فيما بينهم، وعَلى متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة، وقوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ على معنى أن تعذبهم لم يلحقك بتعذيبهم اعتراض لأنك المالك المطلق لهم ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعله بملكه، وقيل: على معنى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ لم يستطع أحد منهم على دفع ذلك عن نفسه لأنهم عبادك الأرقاء في أسر ملكك وماذا تبلغ قدرة العبد في جنب قدرة مالكه، وقيل: المعنى إن تعذبهم فإنهم يستحقون ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك وخالفوا أمرك وقالوا ما قالوا، ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو بعيد عن النظم، نعم لا يبعد أن يكون في النظم إشارة إليه.
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي فإن تغفر لهم ما كان منهم لا يلحقك عجز بذلك ولا استقباح فإنك القوي القادر على جميع المقدورات التي من جملتها الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمة، والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر، وعدم المغفرة للكافر بحكم النص والإجماع لا للامتناع الذاتي فيه ليمتنع الترديد والتعليق بإن.
66
وقد نقل الإمام أن غفران الشرك عندنا جائز. وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا: لأن العقاب حق الله تعالى على المذنب وليس في إسقاطه على الله سبحانه مضرة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي أن معنى الآية إن تعذبهم فتميتهم بنصرانيتهم فيحق عليهم العذاب فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فإنك أنت العزيز الحكيم، وهذا قول عيسى عليه السلام في الدنيا اه.
ولا يخفى أنه مخالف لما يقتضيه السباق والسياق، وقيل: الترديد بالنسبة إلى فرقتين، والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم وتعف عمن آمن منهم فإنك إلخ وهو بعيد جدا، وظاهر ما قالوه أنه ليس في قوله سبحانه وإن تغفر إلخ تعريض بسؤال المغفرة وإنما هو لإظهار قدرته سبحانه وحكمته، ولذا قال سبحانه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دون الغفور الرحيم مع اقتضاء الظاهر لهما، وما
جاء في الإخبار مما أخرجه أحمد في المصنف والنسائي والبيهقي في سننه عن أبي ذر قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ إلخ فلما أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت قال: إني سألت ربي سبحانه الشفاعة فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله تعالى شيئا»
وما
أخرجه مسلم وابن أبي الدنيا في حسن الظن والبيهقي في الأسماء والصفات. وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم عليه السلام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم: ٣٦] الآية، وقوله عز وجل في عيسى ابن مريم: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ إلخ فرفع يديه فقال: اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله جلت رحمته: يا جبرائيل اذهب إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فقل له: إنا سنقر عينك في أمتك ولا نسوءك»
وما
أخرجه ابن مردويه عن أبي ذر قال: «قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأبي أنت وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية من القرآن يعني بها هذه الآية ومعك قرآن أو فعل هذا بعضنا تال وجدنا عليه قال: دعوت الله سبحانه لأمتي قال: فماذا أجبت؟ قال:
أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه تركوا الصلاة قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى فقال عمر: يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا يتكلوا ويدعوا العبادة فناداه أن ارجع فرجع»

لا يقوم دليلا على أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة للكافر إذ لا يبعد منه صلّى الله عليه وسلّم الدعاء لأمته وطلب الشفاعة لهم بهذا النظم لكن على الوجه الذي قصده عيسى عليه السلام منه، ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم اقتبس ذلك من القرآن مؤديا به مقصوده الذي أراده وليس ذلك أول اقتباس له عليه الصلاة والسلام فقد صرح بعض العلماء أن دعاء التوجه عند الشافعية من ذلك القبيل والصلاة لا تنافي الدعاء، وما أخرجه مسلم ومن معه ليس فيه أكثر من أن ما ذكر آثار كأمن (١) شفقته صلّى الله عليه وسلّم على أمته فدعا لهم بما دعا وذلك لا يتوقف على أن في الآية تعريضا لسؤال المغفرة للكافر، ثم إن للعلماء في بيان سر ذكر ذينك الاسمين الجليلين في الآية كلاما طويلا حيث أشكل وجه مناسبتهما لسياق ما قرنا به حتى حكي عن بعض القراء أنه غيرهما لسخافة عقله فكان يقرأ فإنك أنت الغفور الرحيم إلى أن حبس وضرب سبع درر، ووقع لبعض الطاعنين في القرآن من الملاحدة أن المناسب ما وقع في مصحف ابن مسعود فإنك أنت العزيز الغفور كما نقل ذلك ابن الأنباري، وقد علمت أحد توجيهاتهم لذلك.
وقيل: إن ذكرهما من باب الاحتراس لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة أو لإهمال ينافي الحكمة فدفع توهم ذلك بذكرهما، وفي أمالي العز بن عبد السلام أن الْعَزِيزُ معناه هنا الذي لا نظير له، والمعنى
(١) هكذا في الأصل تأمل.
67
وإن تغفر لهم فإنك أنت الذي لا نظير لك في غفرانك وسعة رحمتك، وأنت أولى من رحم وأجدر من غفر وستر الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا في مستحقه وهم مستحقون ذلك لفضلك وضعفهم، وهذا ظاهر في أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة ولا أظنك تقول به، وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط، وحينئذ وجه مناسبتهما لا سترة عليه فإن من له الفعل والترك عزيز حكيم، وذكر أن هذا أنسب وأدق وأليق بالمقام.
قالَ اللَّهُ كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكي مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله، وصيغة الماضي لما تحقق، والمراد بقول الله تعالى عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيرا إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وبذلك يزول أيضا عنه عليه السلام خوفه من صورة ذلك السؤال لا أن إزالته هي المقصودة من القول على ما قيل.
هذا أي اليوم الحاضر يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ أي المستمرين على الصدق في الأمور المطلوبة منهم التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه السلام ومن الأمم المصدقين لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام المقتدين بهم عقدا وعملا وبه يتحقق ترغيب السامعين المقصود بالحكاية في الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم صِدْقُهُمْ أي فيما ذكر في الدنيا إذ هو المستتبع للنفع والمجازاة يومئذ، وقيل: في الآخرة.
والمراد من الصادقين الأمم ومن صِدْقُهُمْ صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وهو ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله تعالى وهو كما ترى، وقيل: المراد صدقهم المستمر في دنياهم إلى آخرتهم ليتسنى كون ما ذكر شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله جوابا عن السؤال على ما يقتضيه السوق، ويكون النفع باعتبار تحققه في الدنيا والمطابقة لما يقتضيه السوق باعتبار تقرره ووقوع بعض جزئياته في الآخرة، والمستمر هو الأمر الكلي الذي هو الاتصاف بالصدق، ولا يلزم من هذا محذور مدخلية الصدق الأخروي في الجزاء، ولا يحتاج إلى جعل الصدق الأخروي شرطا في نفع الصدق الدنيوي والمجازاة عليه، ولعل فيما تقدم غني عن هذا كما لا يخفى على الناظر، وقيل: المراد من الصادقين النبيون ومن صِدْقُهُمْ صدقهم في الدنيا بالتبليغ ويكون مساق الآية للشهادة بصدقه عليه السلام في قوله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وأنت تعلم أن هذا الغرض حاصل على تقدير التعميم وزيادة.
وقيل: المراد من الصدق الصدق في الدنيا إلا أن المراد من الصادقين الأمم، والكلام مسوق لرد عرض عيسى عليه السلام المغفرة عليه سبحانه وتعالى كأنه قيل: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لا غير فلا مغفرة لهؤلاء، ولا يخفى أن التعميم لا ينافي كون الكلام مسوقا لما ذكر على تقدير تسليم ذلك. واسم الإشارة مبتدأ ويَوْمُ بالرفع وهي قراءة الجمهور خبره. وقرأ نافع وحده «يوم» بالنصب على أنه ظرف لقال و «هذا» مبتدأ خبره محذوف أي كلام عيسى عليه السلام أو حق أو نحو ذلك أو ظرف مستقر وقع خبرا والمعنى هذا الذي مر من جواب عيسى عليه السلام أو السؤال والجواب واقع يوم ينفع، وجوز أن يكون «هذا» مفعولا به للقول لأنه بمعنى الكلام والقصص أو مفعولا مطلقا لأنه بمعنى القول، وقيل: إن «هذا» مبتدأ و «يوم» خبره وهو مبني على الفتح بناء على أن الظرف يبنى عليه إذا أضيف إلى جملة فعلية وإن كانت معربة وهو مذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره والبصريون لا يجيزون البناء إلا إذا صدرت الجملة المضاف إليها بفعل ماض كقوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا. وألحقوا بذلك الفعل المنفي، ويخرجون هذه القراءة على أحد الأوجه السابقة.
وقرأ الأعمش «يوم» بالرفع والتنوين على أنه خبر هذا والجملة بعده صفته بحذف العائد، وقرأ «صدقهم»
68
بالنصب على أن يكون فاعل يَنْفَعُ ضمير الله تعالى، وصِدْقُهُمْ كما قال أبو البقاء إما مفعول له أي لصدقهم أو منصوب بنزع الخافض أي بصدقهم أو مصدر مؤكد أو مفعول به على معنى يصدقون الصدق كقولك: صدقته القتال، والمراد يحققون الصدق.
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً تفسير للنفع ولذا لم يعطف عليه كأنه قيل: ما لهم من النفع؟ فقيل: لهم نعيم دائم وثواب خالد، وقوله سبحانه: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بيان لكونه تعالى أفاض عليهم غير ما ذكر وهو رضوانه عز وجل الذي لا غاية وراءه كما ينبىء عن ذلك قوله سبحانه: وَرَضُوا عَنْهُ إذ لا شيء أعز منه حتى تمد إليه أعناق الآمال ذلِكَ إشارة إلى نيل رضوانه جل شأنه كما اختاره بعض المحققين أو إلى جميع ما تقدم كما اختاره في البحر وإليه يشير ما روي عن الحسن الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه أصلا لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ تحقيق للحق وتنبيه بما فيه من تقديم الظرف المفيد للحصر على كذب النصارى وفساد ما زعموه في حق المسيح وأمه عليهما السلام.
وقيل: استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: من يملك ذلك ليعطيهم إياه؟ فقيل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ [آل عمران: ١٨٩، المائدة: ١٨، النور: ٤٢، الشورى: ٤٩] إلخ فهو المالك والقادر على الإعطاء ولا يخفى بعده. وفي إيثار «ما» على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاة- كما قيل للأصل وإشارة إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسب تساويهما في تحقق المربوبية. وعلى تقدير اختصاصها بغير العقلاء كما يشير إليه خبر ابن الزبعرى رضي الله تعالى عنه تنبيه على كمال قصورهم من رتبة الألوهية، وفي تغليب غير العقلاء على العقلاء على خلاف المعروف ما لا يخفى من حط قدرهم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء قَدِيرٌ أي مبالغ في القدرة. وفسرها الغزالي بالمعنى الذي به يوجد الشيء متقدرا بتقدير الإرادة. والعلم واقعا على وفقهما، وفسر الموصوف بها على الإطلاق بأنه الذي يخترع كل موجود اختراعا ينفرد به ويستغني به عن معاونة غيره وليس ذاك إلا الله تعالى الواحد القهار. والظرف متعلق بقدير. والتقديم لمراعاة الفاصلة، ولا يخفى ما في ذكر كبرياء الله تعالى وعزته وقهره وعلوه في آخر هذه السورة من حسن الاختتام، وأخرج أبو عبيد عن أبي الزاهرية أن عثمان رضي الله تعالى عنه كتب في آخر المائدة «ولله ملك السماوات والأرض والله سميع بصير».
ومن باب الإشارة في الآيات: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ هي عندهم حضرة الجمع المحرمة على الأغيار، وقيل: قلب المؤمن، وقيل: الكعبة المخصوصة لا باعتبار أنها جدران أربعة وسقف بل باعتبار أنها مظهر جلال الله تعالى. وقد ذكروا أنه سبحانه يتجلى منها لعيون العارفين كما يشير إليه قوله عز شأنه على ما في التوراة «جاء الله تعالى من سينا فاستعلن بساعير وظهر من فاران» قِياماً لِلنَّاسِ من موتهم الحقيقي لما يحصل لهم بواسطة ذلك وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وهو زمن الوصول أو مراعاة القلب أو الفوز بذلك التجلي الذي يحرم فيه ظهور صفات النفس أو الالتفات إلى مقتضيات القوى الطبيعية أو نحو ذلك وَالْهَدْيَ وهي النفس المذبوحة بفناء حضرة الجمع أو الواردات الإلهية التي ترد القلب أو ما يحصل للعبد من المنن عند ذلك التجلي وَالْقَلائِدَ وهي النفس الشريفة المنقادة أو هي نوع مما يحصل للعبد من قبل مولاه يقوده قسرا إلى ترك السوي ذلِكَ لِتَعْلَمُوا بما يحصل لكم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي يعلم حقائق الأشياء في عالمي الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شيء قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال وَالطَّيِّبُ من ذلك وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ بسبب ملاءمته للنفس فإن الأول موجب للقربة دون الثاني
69
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان البرهاني لا تَسْئَلُوا من أرباب الإيمان العياني عَنْ أَشْياءَ غيبية وحقائق لا تعلم إلا بالكشف إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ تهلككم لقصوركم عن معرفتها فيكون ذلك سببا لإنكار كم والله سبحانه غيور وإنه ليغضب لأوليائه كما يغضب الليث للحرب. وفي هذا- كما قيل- تحذير لأهل البداية عن كثرة سؤالهم من الكاملين عن أسرار الغيب وإرشاد لهم إلى الصحبة مع التسليم وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ الجامع للظاهر والباطن والمتضمن لما سئلتم عنه تُبْدَ لَكُمْ بواسطته ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وهي النفس التي شقت أذنها لسماع المخالفات وَلا سائِبَةٍ وهي النفس المطلقة العنان السارحة في رياض الشهوات وَلا وَصِيلَةٍ وهي النفس التي وصلت حبال آمالها بعضا ببعض فسوفت التوبة والاستعداد للآخرة وَلا حامٍ وهو من اشتغل حينا بالطاعة ولم يفتح له باب الوصول فوسوس إليه الشيطان، وقال: يكفيك ما فعلت وليس وراء ما أنت فيه شيء فأرح نفسك فحمى نفسه عن تحمل مشاق المجاهدات.
ونقل النيسابوري عن الشيخ نجم الدين المعروف بداية أن البحيرة إشارة إلى الحيدرية والقلندرية يثقبون آذانهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويتركون الشريعة، والسائبة إشارة إلى الذين يضربون في الأرض خالعين العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة، والوصيلة إشارة إلى أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد، والحام إشارة إلى المغرور بالله عز وجل يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفة الشريعة، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام وَإِلَى الرَّسُولِ لمتابعته قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الأفعال التي عاشوا بها وماتوا عليها أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الشريعة والطريقة وَلا يَهْتَدُونَ إلى الحقيقة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فاشتغلوا بتزكيتها لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ عما أنتم فيه فأنكر عليكم إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وزكيتم أنفسكم، وإنما ضرر ذلك على نفسه.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآيتين لم يظهر للعبد فيه شيء يصلح للتحرير، وقد ذكر النيسابوري في تطبيقه على ما في الأنفس ما رأيت الترك له أنفس يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وهو يوم القيامة الكبرى فَيَقُولُ لهم ماذا أُجِبْتُمْ حين دعوتم الخلق قالُوا لا عِلْمَ لَنا بذلك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فتعلم جواب ما سئلنا، وهذا على ما قيل عند تراكم سطوات الجلال وظهور رداء الكبرياء وإزار العظمة ولهذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا ولله سبحانه تجليات على أهل قربه وذوي حبه فيفنيهم تارة بالجلال ويبقيهم ساعة بالجمال ويخاطبهم مرة باللطف ويعاملهم أخرى بالقهر وكل ما فعل المحبوب محبوب.
وقال بعض أهل التأويل: يجمع الله تعالى الرسل في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات فيسألهم هل اطلعتم على مراتب الخلق في كمالاتهم حين دعوتموهم إلي؟ فينفوا العلم عن أنفسهم ويثبتوه لله تعالى لاقتضاء مقام الفناء ذلك إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ للأحباب والمريدين نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ لتزداد رغبتهم في واشكر ذلك لأزيدك مما عندي فخزائني مملوءة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وهو الروح الذي أشرق من صبح الأزل وهي روحه الطاهرة، وقيل: المراد أيدتك بجبرائيل حيث عرفك رسوم العبودية تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي مهد البدن أو في المهد المعلوم. والمعنى نطقت لهم صغيرا بتنزيه الله تعالى وإقرارك له بالعبودية وَكَهْلًا أي في حال كبرك، والمراد أنك لم يختلف حالك صغرا وكبرا بل استمر تنزيهك لربك ولم ترجع القهقرى وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وهو كتاب الحقائق والمعارف وَالْحِكْمَةَ
70
وهي حكمة السلوك في الله عز وجل بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد وَالتَّوْراةَ أي العلوم الظاهرة والأحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها وَالْإِنْجِيلَ العلوم الباطنة ومنها تجليات الصفات والأحكام المتعلقة بأحوال القلب وصفاته وَإِذْ تَخْلُقُ بالتربية أو بالتصوير مِنَ الطِّينِ وهو الاستعداد المحض أو الطين المعلوم كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي كصورة طير القلب الطائر إلى حضرة القدس أو الطير المشهور فَتَنْفُخُ فِيها من الروح الظاهرة فيك فَتَكُونُ طَيْراً نفسا مجردة طائرة بجناح الصفاء والعشق أو طيرا حقيقة بِإِذْنِي حيث صرت مظهرا لي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي المحجوب عن نور الحق وَالْأَبْرَصَ أي الذي أفسد قلبه حب الدنيا وغلبة الهوى بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بداء الجهل من قبور الطبيعة بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ وهي القوى النفسانية أو المحجوبين عن نور تجليات الصفات عَنْكَ فلم ينقصك كيدهم شيئا إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ وهي الحجج الواضحة أو القوى الروحانية الغالبة وَإِذْ أَوْحَيْتُ بطريق الإلهام إِلَى الْحَوارِيِّينَ وهم الذين طهروا نفوسهم بماء العلم النافع ونقوا ثياب قلوبهم عن لوث الطبائع أَنْ آمِنُوا بِي إيمانا حقيقيا بتوحيد الصفات وَبِرَسُولِي برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل.
وذكر بعض السادة أن الوحي يكون خاصا ويكون عاما فالخاص ما كان بغير واسطة والعام ما كان بالواسطة من نحو الملك، والروح، والقلب، والعقل، والسر، وحركة الفطرة وللأولياء نصيب من هذا النوع. ولوحي الخاص مراتب وحي الفعل ووحي الذات. فوحي الذات يكون في مقام التوحيد عند رؤية العظمة والكبرياء. ووحي الفعل يكون في مقام العشق والمحبة وهناك منازل الأنس والانبساط إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أي المربي لك والمفيض عليك ما كملك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً أي شريعة مشتملة على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام مِنَ السَّماءِ أي من جهة سماء الأرواح قالَ اتَّقُوا اللَّهَ أي اجعلوه سبحانه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأفعال والأخلاق إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ولا تسألوا شريعة مجددة قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها بأن نعمل بها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا فإن العلم غذاء وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في الاخبار عن ربك وعن نفسك وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ فنعلم بها الغائبين وندعوهم إليها قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بها منكم ويحتجب عن ذلك الدين بَعْدُ أي بعد الإنزال فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ وذلك بالحجاب عني لوجود الاستعداد ووضوح الطريق وسطوع الحجة والعذاب مع العلم أشد من العذاب مع الجهل.
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ إلخ كلام الشيخ الأكبر قدس سره. وكلام الشيخ عبد الكريم الجيلي فيه شهير منتشر على ألسنة المخلصين والمنكرين فيما بيننا. والله تعالى أعلم بمراده نسأل الله تعالى أن ينزل علينا موائد كرمه ولا يقطع عنا عوائد نعمه ويلطف بنا في كل مبدأ وختام بحرمة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.
71
سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم كما
أخرج أبو عبيد والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وروى ابن مردويه، والطبراني عنه أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة. وروى خبر الجملة أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا ثلاث آيات منها فإنها نزلت بالمدينة قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام: ١٥١] إلى تمام الآيات الثلاث. وأخرج ابن راهويه في مسنده وغيره عن شهر بن حوشب أنها مكية إلا آيتين أتل تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام: ١٥١] والتي بعدها. وأخرج أبو الشيخ أيضا عن الكلبي وسفيان قالا: نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود وهو الذي قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٩١] الآية. وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الأنعام: ١١١] فإنها مدنية، وقال غير واحد: كلها مكية إلا ست آيات وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: ٩١] إلى تمام ثلاث آيات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ إلى آخر الثلاث. وعدة آياتها عند الكوفيين مائة وخمس وستون. وعند البصريين والشاميين ست وستون. وعند الحجازيين سبع وستون. وقد كثرت الأخبار بفضلها
فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والإسماعيلي في معجمه عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال عليه الصلاة والسلام: «لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق»
وخبر تشييع الملائكة لها رواه جمع من المحدثين إلا أن منهم من روى أن المشيعين سبعون ألفا ومنهم من روى أنهم كانوا أقل ومنهم من روى أنهم كانوا أكثر.
وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى الفجر بجماعة وقعد في مصلاه، وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله تعالى به سبعين ملكا يسبحون الله تعالى ويستغفرون له إلى يوم القيامة».
وأخرج أبو الشيخ عن حبيب بن محمد العابد قال: من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام إلى قوله تعالى تَكْسِبُونَ بعث الله تعالى له سبعين ألف ملك يدعون له إلى يوم القيامة وله مثل أعمالهم فإذا كان يوم القيامة أدخله الجنة وسقاه من السلسبيل وغسله من الكوثر وقال: أنا ربك حقا وأنت عبدي
إلى غير ذلك من الأخبار، وغالبها في هذا المطلب ضعيف وبعضها موضوع كما لا يخفى على من نقر عنها. ولعل الأخبار بنزول هذه السورة جملة أيضا كذلك. وحكى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة ثم استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل واحدة من آياتها إن سبب نزولها الأمر الفلاني مع أنهم يقولونه. والقول بأن مراد القائل بذلك عدم تخلل نزول شيء من آيات سورة أخرى بين أوقات نزول آياتها مما لا تساعده الظواهر بل في الأخبار ما هو صريح فيما يأباه. والقول بأنها نزلت مرتين دفعة وتدريجا خلاف الظاهر ولا دليل عليه.
72
ويؤيد ما أشرنا إليه من ضعف الأخبار بالنزول جملة ما قاله ابن الصلاح في فتاويه الحديث الوارد في أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبي بن كعب ولم نر له سندا صحيحا، وقد روي ما يخالفه انتهى. ومن هذا يعلم ما في دعوى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة فتدبر. ووجه مناسبتها لآخر المائدة على- ما قال بعض الفضلاء- إنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان كما قال سبحانه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر: ٧٥].
وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة: إنه تعالى لما ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ [المائدة: ١٢٠] على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السماوات والأرض وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشىء القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ [الأنعام: ١٢] إلخ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال عز من قائل: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام: ١٣] فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان. ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت. ثم أكثر عز وجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن، وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: ٨٧] إلخ، وذكر جل شأنه بعده ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: ١٠٣] إلخ فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا، وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ٢] وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: ٢١] وقوله عز اسمه الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: ٢٩] وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله جل وعلا: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران: ١٤] وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: ١٨٥، الأنبياء: ٣٥، العنكبوت: ٥٧] إلخ وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال: إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الأسفراييني: إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا، ثم إنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول، وفي الكهف إلى
73
﴿ جَعَلَ الله الكعبة ﴾ أي صيرها، وسميت كعبة على ما روي عن عكرمة ومجاهد لأنها مربعة والتكعيب التربيع، وتطلق لغة على كل بيت مربع، وقد يقال : التكعب للارتفاع، قيل : ومنه سميت الكعبة كعبة لكونها مرتفعة، ومن ذلك كعب الإنسان لارتفاعه ونتوه، وكعبت المرأة إذا نتأ ثديها، وقيل : سميت كعبة لانفرادها من البناء ورده الكرماني إلى ما قبله لأن المنفرد من البناء نات من الأرض. وقوله تعالى :﴿ البيت الحرام ﴾ عطف بيان على جهة المدح لأنه عرف بالتعظيم عندهم فصار في معنى المعظم أو لأنه وصف بالحرام المشعر بحرمته وعظمته، وذكر البيت كالتوطئة له فالاعتراض بالجمود من الجمود دون التوضيح، وقيل : جىء به للتبيين لأنه كان لخثعم بيت يسمونه بالكعبة اليمانية. وجوز أن يكون بدلاً وأن يكون مفعولاً ثانياً لجعل.
وقوله سبحانه :﴿ قِيَاماً لّلنَّاسِ ﴾ نصب على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما ستعلم قريباً إن شاء الله تعالى بل هذا هو المفعول الثاني. وقيل :﴿ جَعَلَ ﴾ بمعنى خلق فتعدى لواحد وهذا حال، ومعنى كونه قياماً لهم أنه سبب إصلاح أمورهم وجبرها ديناً ودنيا حيث كان مأمناً لهم وملجأ ومجمعاً لتجارتهم يأتون إليه من كل فج عميق ولهذا قال سعيد بن جبير : من أتى هذا البيت يريد شيئاً للدنيا والآخرة أصابه، ومن ذلك أخذ بعضهم أن التجارة في الحج ليست مكروهة. وروي هذا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ولم يكن في العرب ملوك كذلك فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياماً يدفع به بعضهم عن بعض فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله، فالمراد من الناس على هذا العرب خاصة، وقيل : معنى كونه قياماً للناس كونه أمناً لهم من الهلاك فما دام البيت يحج إليه الناس لم يهلكوا فإن هدم وترك الحج هلكوا وروي ذلك عن عطاء. وقرأ ابن عامر ﴿ قَيِّماً ﴾ على أنه مصدر كشيع وكان القياس أن لا تقلب واوه ياء لكنها لما قلبت في فعله الفاً تبعه المصدر في إعلال عينه.
﴿ والشهر الحرام ﴾ أي الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة فالتعريف للعهد بقرينة قرنائه ؛ واختار غير واحد إرادة الجنس على ما هو الأصل والقرينة المعهودة لا تعين العهد، والمراد الأشهر الحرم وهي أربعة واحد فرد وثلاثة سرد فالفرد رجب والسرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وهو وما بعده عطف على ﴿ الكعبة ﴾ فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر أي وجعل الشهر الحرام ﴿ والهدى والقلائد ﴾ أيضاً قياماً لهم، والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر و ( بهاء ) الحج بها أظهر ؛ وقيل : الكلام على ظاهره، فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي مجلز أن أهل الجاهلية كان الرجل منهم إذا أحرم تقلد قلادة من شعر فلا يتعرض له أحد فإذا حج وقضى حجه تقلد قلادة من إذخر، وقيل : كان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد ولا يتعرض له أحد بسوء، وكانوا لا يغيرون في الأشهر الحرم وينصلون فيها الأسنة ويهرع الناس فيها إلى معايشهم ولا يخشون أحداً، وقد توارثوا على ما قيل ذلك من دين إسماعيل عليه السلام.
﴿ ذلك ﴾ أي الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره. ومحل اسم الإشارة النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وبه تتعلق اللام فيما بعد. وقيل : محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الحكم الذي قررناه ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الحكم هو الحق والحكم الأول هو الأقرب، والتقدير شرع ذلك ﴿ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض ﴾ فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل الوقوع وجلب المنافع الأولية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وإحاطة علمه سبحانه ﴿ وَأَنَّ الله بِكُلّ شَىْء ﴾ واجباً كان أو ممتنعاً أو ممكناً ﴿ عَلِيمٌ ﴾ كامل العلم، وهذا تعميم إثر تخصيص، وقدم الخاص لأنه كالدليل على ما بعد. وجوز أن يراد بما في السموات والأرض الأعيان الموجودة فيهما وبكل شيء الأمور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.
( ومن باب الإشارة ) : في الآيات :﴿ جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام ﴾ هي عندهم حضرة الجمع المحرمة على الأغيار، وقيل : قلب المؤمن، وقيل : الكعبة المخصوصة لا باعتبار أنها جدران أربعة وسقف بل باعتبار أنها مظهر جلال الله تعالى. وقد ذكروا أنه سبحانه يتجلى منها لعيون العارفين كما يشير إليه قوله عز شأنه على ما في التوراة «جاء الله تعالى من سينا فاستعلن بساعير وظهر من فاران » ﴿ قِيَاماً لّلنَّاسِ ﴾ من موتهم الحقيقي لما يحصل لهم بواسطة ذلك ﴿ والشهر الحرام ﴾ وهو زمن الوصول أو مراعاة القلب أو الفوز بذلك التجلي الذي يحرم فيه ظهور صفات النفس أو الالتفات إلى مقتضيات القوى الطبيعية أو نحو ذلك ﴿ والهدى ﴾ وهي النفس المذبوحة بفناء حضرة الجمع أو الواردات الإلهية التي ترد القلب أو ما يحصل للعبد من المنن عند ذلك التجلي ﴿ والقلائد ﴾ وهي النفس الشريفة المنقادة أو هي نوع مما يحصل للعبد من قبل مولاه يقوده قسراً إلى ترك السوي ﴿ ذلك لِتَعْلَمُواْ ﴾ بما يحصل لكم ﴿ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض وَأَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٩٧ ] أي يعلم حقائق الأشياء في عالمي الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شيء الصلاة وأكمل السلام.
﴿ اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب ﴾ وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك. والعقاب كما قيل هو الضرر الذي يقارنه استخفاف وإهانة، وسمي عقاباً لأنه يستحق عقيب الذنب ﴿ وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى وأقلع عن الانتهاك. ووجه تقديم الوعيد ظاهر.
﴿ مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ ﴾ ولم يأل جهداً في تبليغكم ما أمرتم به فأي عذر لكم بعد. وهذا تشديد في إيجاب القيام بما أمر به سبحانه. والبلاغ اسم أقيم مقام المصدر كما أشير إليه ﴿ والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ فيعاملكم بما تستحقونه في ذلك.
﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب ﴾ أي الردىء والجيد من كل شيء، فهو حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين والتحذير عن رديها وإن كان سبب النزول أن المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهوا عن ذلك على ما مر ذكره، وقيل : نزلت في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي وإني جمعت من بيعها مالاً فهل ينفعني من ذلك ( المال ) إن عملت فيه بطاعة الله تعالى ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أنفقته في حج أو جهاد ( أو صدقة ) ( ١ ) لم يعدل جناح بعوضة إن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب. وعن الحسن واختاره الجبائي الخبيث الحرام والطيب الحلال، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال : الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء فيه لا في مقابله، وقد تقدمت الإشارة إلى تحقيقه.
﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ ﴾ أي وإن سرك أيها الناظر بعين الاعتبار ﴿ كَثْرَةُ الخبيث ﴾. وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر. وقيل للحال أي لو لم يعجبك ولو أعجبك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل ﴿ لاَ يَسْتَوِى ﴾ أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض. وقد حذفت الأولى في مثل هذا التركيب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى. وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلها عليه ﴿ فاتقوا الله ياأولى * الالباب ﴾ في تحري الخبيث وإن كثر وآثروا عليه الطيب وإن قل فإن مدار الاعتبار هو الخيرية والرداءة لا الكثرة والقلة وفي الأكثر أحسن كل شيء أقله. ولله در من قال
:
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا
وفي الآية كما قيل إشارة إلى غلبة أهل الإسلام وإن قلوا ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ راجين أن تنالوا الفلاح والفوز بالثواب العظيم والنعيم المقيم.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ] من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال ﴿ والطيب ﴾ من ذلك ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث ﴾ بسبب ملاءمته للنفس فإن الأول موجب للقربة دون الثاني ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ الإيمان البرهاني ﴿ لاَ تَسْأَلُواْ ﴾ من أرباب الإيمان العياني ﴿ عَنْ أَشْيَاء ﴾ غيبية وحقائق لا تعلم إلا بالكشف ﴿ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ تهلككم لقصوركم عن معرفتها فيكون ذلك سبباً لإنكاركم والله سبحانه غيور وإنه ليغضب لأوليائه كما يغضب الليث للحرب. وفي هذا كما قيل تحذير لأهل البداية عن كثرة سؤالهم من الكاملين عن أسرار الغيب وإرشاد لهم إلى الصحبة مع التسليم ﴿ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن ﴾ الجامع للظاهر والباطن المتضمن لما سئلتم عنه ﴿ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠١ ] بواسطته.
﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء ﴾ ظاهر اللفظ كما قال ابن يعيش يقضي بكونها جمع شيء لأن فعلاً إذا كان متعل العين يجمع في القلة على أفعال نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ إلا أنهم رأوها غير مصروفة في حال التنكير كما هنا فتشعبت آراء الجماعة فيها فذهب سيبويه والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث وأن الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو الحلفاء والظرفاء فأشياء في الأصل شيئاء بهمزتين بينهما ألف فقدمت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة على الفاء لاستثقال همزتين بينهما ألف قبلهما حرف علة وهو الياء والهمزة الثانية زائدة للتأنيث ولذلك لا تنصرف ووزنها لفعاء، وقصارى ما في هذا المذهب القلب وهو كثير في كلامهم ارتكبوه مع عدم الثقل كما في أينق وقسي ونحوهما فارتكابه مع الثقل أولى فلا يضر الاعتراض بأنه خلاف الأصل. وذهب الفراء إلى أنها جمع شيء بياء مشددة وهمزة بوزن هين ولين إلا أنهم خففوه فقالوا شيء كميت في ميت وبعد التخفيف جمعوه على أشياء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء بزنة افعلاء فاجتمعت همزتان إحداهما لام الكلمة والأخرى للتأنيث فخففوا ذلك بقلب الهمزة الأولى ياء ثم حذفوا الياء الأولى التي هي عين الكلمة فصار وزنه افعلاء، وقيل : في تصريف هذا المذهب أنهم حذفوا الهمزة التي هي لام الكلمة لأن الثقل حصل بها فوزنها افعاء ومنع الصرف لهمزة التأنيث. واستحسن هذا المذهب لو كان على أن أصل شيء بالتخفيف شيء بالتشديد دليل، وذهب الأخفش إلى أنها جمع شيء بوزن فلس وأصلها أشيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ثم عمل فيه ما مر. ورده الزجاج بأن فعلاً لا يجمع على افعلاء، وناظر أبو عثمان المازني الأخفش في هذه المسألة كما قال أبو علي في «التكملة » فقال : كيف تصغر أشياء قال أقول أشيآء فقال المازني : هلا رددتها إلى الواحد فقلت شييئات لأن أفعلاء لا تصغر فلم يأت بمقنع انتهى. وأراد أن أفعلاء من أمثلة الكثرة وجموع الكثرة لا تصغر على ألفاظها وتصغر بآحادها ثم يجمع الواحد بالألف والتاء كقولك في تصغير درهم : دريهمات، والجواب كما قال أبو علي عن ذلك بأن أفعلاء هنا جاز تصغيرها على لفظها لأنها قد صارت بدلاً من أفعال بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها كما أضيف إلى أفعال، ويدل على كونها بدلاً أيضاً تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم : ثلاثة أشياء فكما صارت بمنزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة المذكورة كذلك يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو أنها صارت بمنزلة أفعال وإن كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة التقليل والتكثير في شيء واحد انتهى، ومراده كما قال ابن الشجري بأن فعلاء في هذا الموضع صارت بدلاً من أفعال أنه كان القياس في جمع شيء أشياء مصروفاً كقولك في جمع فيء أفياء على أن تكون همزة الجمع هي همزة الواحد ولكنهم أقاموا أشياء التي همزتها للتأنيث مقام أشياء التي وزنها أفعال، واستدلاله في تجويز تصغير أشياء على لفظها بأنها صارت بدلاً من أفعال بدلالة أنهم أضافوا العدد إليها وألحقوه الهاء فقالوا ثلاثة أشياء مما لا يقوم به دلالة لأن أمثلة القلة وأمثلة الكثرة يشتركن في ذلك، ألا ترى أنهم يضيفون العدد إلى أبنية الكثرة إذا عدم بناء القلة فيقولون : ثلاثة شسوع وخمسة دراهم، وأما إلحاق الهاء في قولنا : ثلاثة أشياء وإن كان أشياء مؤنثاً لأن الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول ثلاثة : أنبياء وخمسة أصدقاء وسبعة شعراء فتلحق الهاء وإن كان لفظ الجمع مؤنثاً وذلك لأن الواحد نبي وصديق وشاعر كما أن واحد أشياء شيء فأي دلالة في قوله : ويدل على كونها بدلاً تذكيرهم العدد المضاف إليها الخ ثم قال : والذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال : إنما جاز تصغير افعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأن وزنه نقص بحذف لامه فصار افعاء فشبهوه بأفعال فصغروه، وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كضيف وأضياف.
وأورد عليه منع الصرف من غير علة ويلزمه صرف أبناء( ١ ) وأسماء، وقد استشعر الكسائي هذا الإيراد وأشار إلى دفعه بأنه على أفعال ولكن كثرت في الكلام فأشبهت فعلاء فلم يصرف كما لم يصرف حمراء، وقد جمعوها على أشاوى كعذراء وعذارى وأشياوات كحمراء وحمراوات فعاملوا أشياء وإن كانت على أفعال معاملة حمراء وعذراء في جمعي التكسير والتصحيح. ورد بأن الكثرة تقتضي تخفيفه وصرفه. وأيده بعضهم بأن العرب قد اعتبروا في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظي كما قيل في سراويل إنه منع من الصرف لشبهه بمصابيح وأجروا ألف الإلحاق مجرى ألف التأنيث المقصورة ولكن مع العلمية فاعتبروا مجرد الصورة فليكن هذا من ذلك القبيل، وقيل : إنها جمع شيء ووزنها أفعلاء جمع فعيل كنصيب وأنصباء وصديق وأصدقاء وحذفت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة وفتحت الياء لتسلم الألف فصارت أشياء بزنة أفعاء، وجعل مكي تصريفه كمذهب الأخفش إذ أبدل الهمزة ياء ثم حذفت إحدى الياءين وحسن حذفها من الجمع حذفها من المفرد لكثرة الاستعمال وعدم الصرف لهمزة التأنيث الممدودة، وهو حسن إلا أنه يرد عليه كما ورد على الأخفش مع إيرادات أخر، وقيل غير ذلك، وللشهاب عليه الرحمة :
أشياء لفعاء في وزن وقد قلبوا *** لاماً لها وهي قبل القلب شيئاء
وقيل أفعال لم تصرف بلا سبب *** منهم وهذا لوجه الرد إيماء أو أشياء
وحذف اللام من ثقل *** وشيء أصل شيء وهي آراء
وأصل أسماء اسماً وكمثل كسا *** فاصرفه حتماً ولا تغررك أسماء
واحفظ وقل للذي ينسى العلا سفها *** حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
وظاهر صنيعه كغيره يشير إلى اختيار مدهب الخليل وسيبويه، وقال غير واحد : إنه الأظهر لقولهم في جمعها أشاوى فجمعوها كما جمعوا صحراء على صحارى، وأصله كما قال ابن الشجري أشايا بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوها واواً على غير قياس كإبدالها واواً في قولهم جبيت الخراج جباوة، وأيضاً يدل على أنها مفرد قولهم في تحقيرها أشيئاء كصحيراء ولو كانت جمعاً لقالوا شيآت على ما تقدمت الإشارة، وتمام البحث في «أمالي ابن الشجري.
﴿ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها، وعطف عليها قوله سبحانه :﴿ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان تُبْدَ لَكُمْ ﴾ أي بالوحي كما ينبىء عنه تقييد السؤال بحين نزول القرآن لأن المساءة في الشرطية الأولى معلقة بإبداء تلك الأشياء لا بالسؤال عنها فعقبها جل شأنه بما هو ناطق باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور، فضمير ﴿ عَنْهَا ﴾ راجع إلى تلك الأشياء وليس على حد عندي درهم ونصفه كما وهم، والمراد بها ما لا خير لهم فيه من نحو التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب وتركهم ما هو الأولى بهم من الاستسلام لأمر الله تعالى من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته ففي «صحيح مسلم » عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال :" خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجوا " فقال رجل وهو كما قال ابن الهمام الأقرع بن حابس، وصرح به أحمد والدارقطني والحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين " أكل عام يا رسول الله فسكت عليه الصلاة والسلام حتى قالها ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم : لو قلت : نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال صلى الله عليه وسلم : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " وذكر كما قال ابن حبان أن الآية نزلت لذلك.
وأخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر وقال :
" لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله تعالى عنه : فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال : يا رسول الله من أبي ؟ قال : أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله تعالى عنه فقال : رضينا بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً نعوذ بالله تعالى من الفتن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط " وذكر ابن شهاب أن أم ابن حذافة واسمه عبد الله قالت له لما رجع إليها : ما سمعت قط أعق منك أمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابن حذافة : لو ألحقني بعبد أسود للحقته. وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذه الآية نزلت يومئذٍ. ووجه اتصالها بما قبلها على الرواية الأولى ظاهر جداً لما أن الكلام فيما يتعلق بالحج.
وذكر الطبرسي في ذلك ثلاثة أوجه، «الأول : أنها متصلة بقوله تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ] لأن من الفلاح ترك السؤال بما لا خير فيه، والثاني : أنها متصلة بقوله سبحانه :﴿ مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ ﴾ [ المائدة : ٩٩ ] أي فإنه بلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم، والثالث : أنها متصلة بقوله جل وعلا :﴿ والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ [ المائدة : ٩٩ ] أي فلا تسألوا عن تلك الأشياء فتظهر سرائركم٢.
﴿ عَفَا الله عَنْهَا ﴾ أي عن المسألة المدلول عليها بلا تسألوا. والجملة استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا سبحانه عنها، وفيه من حثهم على الجد في الانتهاء عنها ما لا يخفى أي عفا الله تعالى عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء لمسألتكم أو المراد تجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسبب ذلك فلا تعودوا لمثله، وقد يحمل العفو عنها على معنى شامل للتجاوز عن العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية واختاره بعض المحققين، وجوز غير واحد كون الجملة صفة أخرى لأشياء والضمير المجرور عائد إليها وهو الرابط على معنى لا تسألوا عن أشياء لم يكلفكم الله تعالى بها. واعترض بأن هذا يقتضي أن يكون الحج قد فرض أولاً ثم نسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوماً للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعله وصفاً له وكلاهما ضروري الانتفاء قطعاً على أنه يستدعي اختصاص النهي بمسألة الحج ونحوها مع أن النظم الكريم صريح في أنه مسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوءهم إبداؤها سواء كانت من قبيل الأحكام والتكاليف الموجبة لمساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبة وتشديداً كمسألة الحج لولا عفوه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعة قبل السؤال الموجبة للمساءة بالإخبار بها كما في سبب النزول على ما أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة قال :
" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار
١ - قوله ويلزمه صرف أبناء الخ كذا بخطه، ولعل الأصل ويلزمه منع صرف الخ تأمل..
﴿ قَدْ سَأَلَهَا ﴾ أي المسألة فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به، والمراد سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال ﴿ قَوْمٌ ﴾ وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير، وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير المضاف أيضاً فالضمير في موقع المفعول به وذلك من باب الحذف والإيصال والمراد سأل عنها، وقيل : لا حاجة إلى جعله من ذلك الباب لأن السؤال هنا استعطاء وهو يتعدى بنفسه كقولك : سألته درهماً بمعنى طلبته منه لا استخبار كما في صدر الآية، واختلف في تعيين القوم. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هم قوم عيسى عليه الصلاة والسلام سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها، وقيل : هم قوم صالح عليه السلام سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل : هم قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى جهرة أو سألوه بيان البقرة. وعن مقاتل هم بنو إسرائيل مطلقاً كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم. وعن السدي هم قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول الصفا ذهباً، وقال الجبائي : كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أنسابهم فإذا أخبرهم عليه الصلاة والسلام لم يصدقوا ويقولوا : ليس الأمر كذلك، ولا يخفى عليك الغث والسمين من هذه الأقوال وأن بعضها يؤيد حمل السؤال على الاستعطاء وبعضها يؤيد حمله على الاستخبار، والحمل على الاستخبار أولى، وإلى تعينه ذهب بعض العلماء.
﴿ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ متعلق بسألها، وجوز كونه متعلقاً بمحذوف وقع صفة لقوم، واعترض بأن ظرف الزمان لا يكون صفة الجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها، وأجيب بأن التحقيق أن هذا مشروط إذا عدمت الفائدة أما إذا حصلت فيجوز كما إذا أشبهت الجثة المعنى في تجددها ووجودها وقتاً دون وقت نحو الليلة الهلال بخلاف زيد يوم السبت وما نحن فيه مما فيه فائدة لأن القوم لا يعلم هل هم ممن مضى أم لا ؟ وقال أبو حيان وهو تحقيق بديع غفلوا عنه :«هذا المنع إنما هو في الزمان ( ظرف ) المجرد عن الوصف أما إذا تضمن وصفاً فيجوز كقبل وبعد فإنهما وصفان في الأصل فإذا قلت جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي متقدم عليه ولذا وقع صلة للموصول، ولو لم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرد لم يجز أن يقع صلة ولا صفة. قال تعالى :﴿ والذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] ولا يجوز والذين اليوم » وما نحن فيه من المتضمن لا المجرد وهو ظاهر، وما قيل من أنه ليس من المتنازع فيه في شيء لأن الواقع صفة هو الجار والمجرور لا الظرف نفسه ليس بشيء لأن دخول الجار عليه إذا كان من أول في لا يخرجه عن كونه في الحقيقة هو الصفة أو نحوها فليفهم.
﴿ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا ﴾ أي بسببها، وهو متعلق بقوله سبحانه وتعالى :﴿ كافرين ﴾ قدم عليه رعاية للفواصل. وقرأ أبي ( قد سألها قوم بينت لهم فأصبحوا بها كافرين ).
﴿ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ ﴾ هي فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق والتاء للنقل إلى الإسمية أو لحذف الموصوف، قال الزجاج : كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وشقوها وامتنعوا من نحرها وركوبها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى وهي البحيرة، وعن قتادة أنها إذا نتجت خمسة أبطن نظر في الخامس فإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى ولا يستعملها أحد في حلب وركوب ونحو ذلك، وقيل : البحيرة هي الأنثى التي تكون خامس بطن وكانوا لا يحلون لحمها ولبنها للنساء فإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها، وعن محمد بن إسحق ومجاهد أنها بنت السائبة، وستأتي إن شاء الله تعالى قريباً وكانت تهمل أيضاً. وقيل : هي التي ولدت خمساً أو سبعاً، وقيل : عشرة أبطن وتترك هملاً وإذا ماتت حل لحمها للرجال خاصة. وعن ابن المسيب أنها التي منع لبنها للطواغيت فلا تحلب، وقيل : هي التي ولدت خمس إناث فشقوا أذنهاوتركوها هملاً، وجعلها في «القاموس » على هذا القول من الشاء خاصة، وكما تسمى بالبحيرة تسمى بالغزيرة أيضاً. «وقيل : هي السقب الذي إذا ولد شقوا أذنه وقالوا : اللهم إن عاش فَفَتِيّ وإن مات فذكي فإذا مات أكلوه » ( ١ )، وقيل : هي التي تترك في المرعى بلا راع.
﴿ وَلاَ سَآئِبَةٍ ﴾ هي فاعلة من سيبته أي تركته وأهملته فهو سائب وهي سائبة أو بمعنى مفعول ك ﴿ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٢١، القارعة : ٧ ]. واختلف فيها فقيل هي الناقة تبطن عشرة أبطن إناث فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ونسب إلى محمد بن إسحاق، وقيل : هي التي تسيب للأصنام فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقيل : هي البعير يدرك نتاج نتاجه فيترك ولا يركب، وقيل :«كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال : هي سائبة أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظماً وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلأ ولا تركب »، وقيل : هي ما ترك ليحج عليه، وقيل : هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث.
﴿ وَلاَ وَصِيلَةٍ ﴾ هي فعيلة بمعنى فاعلة ؛ وقيل : مفعولة والأول أظهر كما ينبىء عن ذلك بيان المراد بها. واختلف فيه فقال الفراء : هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين وإذا ولدت في آخرها عناقاً وجدياً قيل : وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء وتجرى مجرى السائبة، وقال الزجاج : هي الشاة إذا ولدت ذكراً كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
وقيل : هي الشاة تلد ذكراً ثم أنثى فتصل أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وإذا ولدت ذكراً قالوا : هذا قربان لآلهتنا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فتأكلها الرجال والنساء وكذا إن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك معه ولا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء فإن ماتت اشتركوا فيها. وقال ابن قتيبة : إن كان السابع ذكراً ذبح وأكلوا منه دون النساء وقالوا : خالصة لذكورنا محرمة على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكراً وأنثى فكقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقال محمد بن إسحاق : وهي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمسة أبطن فما ولدت بعده للذكور دون الإناث فإذا ولدت ذكراً وأنثى معاً قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها، وقيل : هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة فإن كان جدياً ذبحوه وإن كان أنثى أبقوها وإن كان ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها، وقال بعضهم : الوصيلة من الإبل وهي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثني بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر. وقيل : هي الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن لا ذكر بينها.
﴿ وَلاَ حَامٍ ﴾ هو فاعل من الحمى بمعنى المنع. واختلف فيه أيضاً فقال الفراء : هو الفحل إذ لقح ولد ولده فيقولون : قد حمى ظهره فيهمل ولا يطرد عن ماء ولا مرعى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وهو قول أبي عبيدة والزجاج أنه الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى. وعن الشافعي أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقيل : هو الفحل ينتج له سبع أإاث متواليات فيحمى ظهره، وجمع بين الأقوال المتقدمة في كل من تلك الأنواع بأن العرب كانت تختلف أفعالهم فيها. والمراد من هذه الجملة رد وإبطال لما ابتدعه أهل الجاهلية. ومعنى ﴿ مَّا جَعَلَ ﴾ ما شرع ولذلك عدي إلى مفعول واحد وهو ﴿ بَحِيرَةٍ ﴾ وما عطف عليها. و ﴿ مِنْ ﴾ سيف خطيب أتى بها لتأكيد النفي. وأنكر بعضهم مجىء جعل بمعنى شرع عن أحد من أهل اللغة وجعلها هنا للتصيير والمفعول الثاني محذوف أي ما جعل البحيرة ولا ولا مشروعة( ١ ) وليس كما قال فإن الراغب نقل ذلك عن أهل اللغة وهو ثقة لا يفتري عليهم.
﴿ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب ﴾ حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون : الله سبحانه وتعالى أمرنا بهذا وإمامهم عمرو بن لحي فإنه في المشهور أول من فعل تلك الأفاعيل الشنيعة.
أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون : يا أكثم عرضت عليَّ النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خِنْدِف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به ولا به منك فقال : أكثم أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا إنك مؤمن وهو كافر أنه أول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي، وجاء في خبر آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ووصل الوصيلة. وأخرج عبد الرزاق وغيره عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إني لأعرف أول من سيب السوائب ونصب النصب وأول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام : عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه وإني لأعرف أول من بحر البحائر قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام : رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال : هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما فلقد رأيته في النار وهما تقضمانه بأفواههما وتطآنه بأخفافهما.
واستدل بالآية على تحريم هذه الأمور وهو ظاهر واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع. واستدل ابن الماجشون بها على منع أن يقول الرجل لعبده : أنت سائبة وقال : لا يعتق بذلك. وجعل بعض العلماء من صور السائبة إرسال الطير ونحوه، وصرح بعض علمائنا بأنه لا ثواب في ذلك ولعل الجاعل لا يكتفي بهذا القدر ويدعي الإثم فيه والناس عن ذلك غافلون.
﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ أن ذلك افتراء باطل فما تقدم فعل الرؤساء وهذا شأن الأتباع وهم المراد بالأكثر كما روي عن قتادة والشعبي، وظاهر سياق النظم الكريم أنهم المقلدون لأسلافهم المفترين من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ ﴾ وهي النفس التي شقت أذنها لسماع المخالفات ﴿ وَلاَ سَآئِبَةٍ ﴾ وهي النفس المطلقة العنان السارحة في رياض الشهوات ﴿ وَلاَ وَصِيلَةٍ ﴾ وهي النفس التي وصلت حبال آمالها بعضاً ببعض فسوفت التوبة والاستعداد للآخرة ﴿ وَلاَ حَامٍ ﴾ [ المائدة : ١٠٣ ] وهو من اشتغل حيناً بالطاعة ولم يفتح له باب الوصول فوسوس إليه الشيطان، وقال : يكفيك ما فعلت وليس وراء ما أنت فيه شيء فارح نفسك فحمى نفسه عن تحمل مشاق المجاهدات. ونقل النيسابوري عن الشيخ نجم الدين المعروف بداية أن البحيرة إشارة إلى الحيدرية والقنلدرية يثقبون آذانهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويتركون الشريعة، والسائبة إشارة إلى الذين يضربون في الأرض خالعين العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة، والوصيلة إشارة إلى أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد، والحام إشارة إلى المغرور بالله عز وجل يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفة الشريعة،
١ - هكذا الأصل بتكرار ولا فتدبر..
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ أي للذين عبر عنهم بأكثرهم على سبيل الهداية والإرشاد إلى الحق ﴿ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله ﴾ من الكتاب المبين للحلال والحرام والإيمان به ﴿ وَإِلَى الرسول ﴾ الذي أنزل عليه ذلك لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال ﴿ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ﴾ في هذا الشأن فلا نلتفت لغيره بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادي إلى الحق وانقيادهم للداعي إلى الضلال، و ( ما ) موصولة إسمية، وجوز أن تكون نكرة موصوفة والوجدان المصادفة و ﴿ عَلَيْهِ ﴾ متعلق به أو حال من مفعوله، وجوز أن يكون بمعنى العلم و ﴿ عَلَيْهِ ﴾ عليه في موضع المفعول الثاني.
﴿ أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ ذهب الراغب إلى أن الواو للعطف، وصرح غير واحد أنه على شرطية أخرى مقدرة قبلها والهمزة للتعجيب وهي داخلة على مقدر في الحقيقة أي أيكفيهم ذلك لو لم يكن آباؤهم جهلة ضالين ولو كانوا كذلك وكلتا الجملتين في موقع الحال أي أيكفيهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حال مفروض، وعلى هذا لا يلزم كون الجملة الاستفهامية الإنشائية حالاً ليحتاج توجيه ذلك إلى نظر دقيق، وحذفت الجملة الأولى للدلالة عليها دلالة واضحة وهو حذف مطرد في هذا الباب لذلك كما في قولك : أحسن إلى زيد ولو أساء إليك فإن الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى. وجواب لو كما قال أبو البقاء محذوف لظهور انفهامه مما سبق وقدره يتبعونهم. ويجوز أن يقدر حسبهم ذلك أو يقولون، وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا في نفس الأمر، وفائدة ذلك المبالغة في الإنكار والتعجيب، وقيل : الواو للحال والهمزة لإنكار الفعل على هذه الحال ؛ والمراد نفي صحة الاقتداء بالجاهل الضال، والحال ما يفهم من الجملة أي كائنين على هذا الحال المفروض فما قيل : إنهم جعلوا الواو للحال وليس ما دخلته الواو حالاً من جهة المعنى بل ما دخلته لو أي ولو كان الحال أن آباءهم لا يعلمون فيفعلون ما يقتضيه علمهم ولا يهتدون بمن له علم ناشىء من قلة التأمل وذلك غريب من حال ذلك القائل، وأغرب من ذلك ما قيل : إن المعنى أنهم هل يكفيهم ما عليه آباؤهم ولو كان آباؤهم جهلة ضالين أي هل يكفيهم الجهل والضلال اللذان كان عليهما آباؤهم. ويوشك أن يكون هذا من الجهل والضلال فيما يليق بالتنزيل. واستدل بالآية على أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد من غير أن يعلم أن لمن قلده حجة صحيحة على ما قلده فيه حتى قالوا : إن للمقلد دليلاً إجمالياً وهو دليل من قلده فتدبر.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله ﴾ من الأحكام ﴿ وَإِلَى الرسول ﴾ لمتابعته ﴿ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ﴾ من الأفعال التي عاشوا بها وماتوا عليها ﴿ أَوْ لَّوْ كَانَ ءاباؤهم لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ من الشريعة والطريقة ﴿ وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ المائدة : ١٠٤ ] إلى الحقيقة.
﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ أي إلزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب، فعليكم اسم فعل أمر نقل إلى ذلك مجموع الجار والمجرور لا الجار وحده كما قيل. وهو متعد إلى المفعول به بعده وقد يكون لازماً، والمراد به الأمر بالتمسك كما في قوله صلى الله عليه وسلم :" عليك بذات الدين " وذكر أبو البقاء أن الكاف والميم في موضع جر لأن اسم الفعل هو المجموع وعلى وحدها لم تستعمل اسماً للفعل بخلاف رويدكم فإن الكاف والميم هناك للخطاب فقط ولا موضع لها لأن رويداً قد استعمل اسماً لأمر المواجه من غير كاف الخطاب وإلى ذلك ذهب سيبويه وهو الصحيح، ونقل الطبرسي أن استعمال على مع الضمير اسم فعل خاص فيما إذا كان الضمير للخطاب فلو قلت عليه زيداً لم يجز وفيه خلاف. وقرأ نافع في الشواذ ﴿ أَنفُسَكُمْ ﴾ بالرفع، والكلام حينئذٍ مبتدأ وخبر أي لازمة عليكم أنفسكم أو حفظ أنفسكم لازم عليكم بتقدير مضاف في المبتدأ.
وقوله تعالى :﴿ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم ﴾ يحتمل الرفع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله وينصره قراءة أبي حيوة ﴿ لا ﴾، ويحتمل أن يكون مجزوماً جواباً للأمر، والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا يضركم. وإنما ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضرركم، ويجوز أن يكون نهياً مؤكداً للأمر السابق والكلام على حد لا أرينك ههنا. وينصر احتمال الجزم قراءة من قرأ ﴿ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ ﴾ بالفتح ﴿ وَلاَ يَضُرُّكُمْ ﴾ بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره بمعنى ضره كذمه وذامه، وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأجيب عن ذلك بوجوه. الأول أن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال. فقد أخرج ابن جرير عن قيس بن أبي حازم قال :«صعد أبو بكر رضي الله تعالى عنه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله سبحانه وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله تعالى في كتابه أشد منها ﴿ يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ الآية والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب وفي رواية يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب ».
وفي رواية ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد قال : خطب أبو بكر الصديق الناس فكان في خطبته «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا أيها الناس لا تتكلوا على هذه الآية ﴿ يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ الخ إن الداعر ليكون في الحي فلا يمنعونه فيعمهم الله تعالى بعقاب ". ومن الناس من فسر الاهتداء هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وروي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب، والثاني : أن الآية تسلية لمن يأمر وينهى ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي، فقد أخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سأله رجل عن هذه الآية فقال : أيها الناس إنه ليس بزمانها ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال : فلا يقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول :﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ فقال : إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ألا فليبلغ الشاهد الغائب " فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال : يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل :﴿ يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم ﴾ فقال صلى الله عليه وسلم : يا معاذ " مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل امرىء برأيه فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم فإن من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر فللعامل منهم يومئذٍ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم قلت : يا رسول الله خمسين منهم قال : بل خمسين منكم أنتم ". والثالث : أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفاً على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم فنزلت. والرابع : أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة. والخامس : أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه، فقد قيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت أباك فنزلت، وقيل : معنى الآية يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم لا يضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك، والتعبير عن أهل الدين بالأنفس على حد قوله تعالى :﴿ لاَ تَقْتُلُواْ * أَنفُسَكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٩ ] ونحوه، والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه ولا يخفى ما فيه.
﴿ إِلَى الله ﴾ لا إلى أحد سواه ﴿ مَرْجِعُكُمْ ﴾ رجوعكم يوم القيامة ﴿ جَمِيعاً ﴾ بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم ﴿ فَيُنَبّئُكُمْ ﴾ بالثواب والعقاب ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فالكلام وعد ووعيد للفريقين، وفيه كما قيل دليل على أن أحداً لا يؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لا يثاب بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ فاشتغلوا بتزكيتها ﴿ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ ﴾ عما أنتم فيه فأنكر عليكم ﴿ إِذَا اهتديتم ﴾ [ المائدة : ١٠٥ ] وزكيتم أنفسكم، وإنما ضرر ذلك على نفسه.
﴿ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ﴾ استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم، وفيه من إظهار كمال العناية بمضمونه ما لا يخفى ﴿ شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ﴾ للشهادة معان : الإحضار والقضاء والحكم والحلف والعلم والإيصاء، والمراد بهاهنا الأخير كما نص عليه جماعة من المفسرين، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقرأها الجمهور بالرفع على أنها مبتدأ و ( اثنان ) خبرها، والكلام على حذف مضاف من الأول أي ذو شهادة بينكم إثنان أو من الثاني أي شهادة بينكم شهادة إثنين، والتزم ذلك ليتصادق المبتدأ والخبر، وقيل : الشهادة بمعنى الشهود كرجل عدل فلا حاجة إلى التزام الحذف، وقيل : الخبر محذوف و ( اثنان ) مرفوع بالمصدر الذي هو ﴿ شَهَادَةً ﴾ والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد إثنان وإلى هذا ذهب الزجاج والشهادة فيه على معناها المتبادر منها لا بمعنى الإشهاد، وكلام البعض يوهم ذلك وهو في الحقيقة بيان لحاصل معنى الكلام. وزعم بعضهم أنها بمعنى الإشهاد الذي هو مصدر المجهول و ( اثنان ) قائم مقام فاعله، وفيه أن الإتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل وهو اسم ظاهر وإن جوزه البصريون كما في «شرح التسهيل » للمرادي فقد منعه الكوفيون وقالوا : إنه هو الصحيح لأن حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح. و ﴿ إِذَا ﴾ ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الميت والمراد مشارفته وظهور أماراته، و ﴿ حِينَ الوصية ﴾ أما بدل من ﴿ إِذَا ﴾ وفيه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها. وجوز أن يتعلق بنفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو يحضر، وأن يكون ﴿ شَهَادَةً ﴾ مبتدأ خبره ﴿ إِذَا حَضَرَ ﴾ أي وقوع الشهادة في وقت حضور الموت و ﴿ حِينَ الوصية ﴾ على الأوجه السابقة، ولا يجوز فيه أن يكون ظرفاً للشهادة لئلا يخبر عن الموصول قبل تمام صلته أو خبره ﴿ حِينَ الوصية ﴾ و ﴿ إِذَا ﴾ منصوب بالشهادة ولا يجوز نصبه بالوصية وإن كان المعنى عليه لأن معمول المصدر لا يتقدمه على الصحيح مع ما يلزم من تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو لا يجوز في غير غير لأنها بمنزلة لا و ﴿ اثنان ﴾ على هذين الوجهين إما فاعل يشهد مقدراً أو خبراً لشاهدان كذلك. وعن الفراء أن ﴿ شَهَادَةً ﴾ مبتدأ و ﴿ اثنان ﴾ فاعله سدَّ مسد الخبر وجعل المصدر بمعنى الأمر أي ليشهد، وفيه نيابة المصدر عن فعل الطلب وهو ضعيف عند غيره لأن الاكتفاء بالفاعل مخصوص بالوصف المعتمد.
و ﴿ إِذَا ﴾ و ﴿ حِينٍ ﴾ عليه منصوبان على الظرفية كما مر، وإضافة ﴿ شَهَادَةً ﴾ إلى الظرف على التوسع لأنه متصرف ولذا قرىء ﴿ تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] بالرفع، وقيل : إن الأصل ما بينكم وهو كناية عن التخاصم والتنازع، وحذف ما جائز نحو ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ ﴾ [ الإنسان : ٢٠ ] أي ما ثم، وأورد عليه أن ما الموصولة لا يجوز حذفها ومنهم من جوزه.
وقرأ الشعبي ﴿ شهادة بَيْنِكُمْ ﴾ بالرفع والتنوين فبينكم حينئذٍ منصوب على الظرفية. وقرأ الحسن ﴿ شَهَادَةً ﴾ بالنصب والتنوين، وخرج ذلك ابن جني على أنها منصوبة بفعل مضمر ﴿ اثنان ﴾ فاعله أي ليقم شهادة بينكم اثنان. وأورد عليه أن حذف الفعل وإبقاء فاعله لم يجزه النحاة إلا إذا تقدم ما يشعر به كقوله تعالى :﴿ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال ﴾ [ النور : ٣٦ ] في قراءة من قرأ ﴿ يُسَبّحُ ﴾ بالبناء للمفعول، وقول الشاعر :
ليبك يزيد ضارع لخصومة *** أو أجيب به نفي أو استفهام وذلك ظاهر، والآية ليست واحداً من هذه الثلاثة. وأجيب بأن ما ذكر من الاشتراط غير مسلم بل هو شرط الأكثرية، واختار في «البحر » وجهين للتخريج، الأول : أن تكون ﴿ شَهَادَةً ﴾ منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر و ﴿ اثنان ﴾ مرتفع به، والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب ضربا زيداً إلا أن الفاعل في ضربا يستند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب، وهذا يستند إلى الظاهر لأن معناه ما علمت، والثاني : أن تكون مصدراً لا بمعنى الأمر بل خبراً ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلاً كقوله :
وقوفاً بها صحبي على مطيهم *** فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفاً فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر، والتقدير وقف صحبي على مطيهم، والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان.
﴿ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ ﴾ أي من المسلمين كما روي عن ابن عباس وابن مسعود والباقر رضي الله تعالى عنهم وابن المسيب عليه الرحمة، أو من أقاربكم وقبيلتكم كما روي عن الحسن وعكرمة، وهو الذي يقتضيه كلام الزهري وهما صفتان لاثنان ﴿ أَوْ ءاخَرَانِ ﴾ عطف على ﴿ اثنان ﴾ في سائر احتمالاته. وقوله سبحانه :﴿ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ صفة له أي كائنان من غيركم، والمراد بهم غير المسلمين من أهل الكتاب عند الأولين وغير الأقربين من الأجانب عند الآخرين. واختار الأول جماعة من المتأخرين حتى قال الجصاص : إن التفسير الثاني لا وجه له لأن الخطاب توجه أولاً إلى أهل الإيمان فالمغايرة تعتبر فيه ولم يجر للقرابة ذكر، ويدل لذلك أيضاً سبب النزول وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الارض ﴾ أي سافرتم، وارتفاع ﴿ أَنتُمْ ﴾ بفعل مضمر يفسره ما بعده، والتقدير إن ضربتم فلما حذف الفعل وجب أن يفصل الضمير ليقوم بنفسه وهذا رأي جمهور البصريين، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناءً على جواز وقوع المبتدأ بعد إن الشرطية كجواز وقوعه بعد ( إذا ) فجملة ﴿ ضَرَبْتُمْ ﴾ لا موضع لها على الأول للتفسير وموضعها الرفع على الخبرية على الثاني.
وقوله تعالى :﴿ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت ﴾ أي قاربتم الأجل عطف على الشرط وجوابه محذوف، فإن كان الشرط قيداً في أصل الشهادة فالتقدير إن ضربتم في الأرض الخ فليشهد اثنان منكم أو من غيركم، وإن كان شرطاً في العدول إلى آخرين بالمعنى الذي نقل عن الأولين فالتقدير فاشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم، وحينئذٍ تفيد الآية أنه لا يعدل في الشهادة إلى غير المسلمين إلا بشرط الضرب في الأرض، وروي ذلك عن شريح رضي الله تعالى عنه.
وقوله سبحانه :﴿ تَحْبِسُونَهُمَا ﴾ أي تلزمونهما وتصبرونهما للتحليف استئناف كأنه قيل كيف نعمل إذا ارتبنا بالشاهدين فقال سبحانه : تحبسونهما ﴿ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ ﴾ أي صلاة العصر كما روي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وقتادة وابن جبير وغيرهم، والتقييد بذلك لأنه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون الحلف الكاذب فيه ولأنه وقت تصادم ملائكة الليل والنهار وتلاقيهم، وفي ذلك تكثير للشهود منهم على صدق الحالف وكذبه فيكون أخوف، وعد ذلك بعضهم من باب التغليظ على المستحلف بالزمان. وعندنا لا يلزم التغليظ به ولا بالمكان بل يجوز للحاكم فعله. وعن الحسن أن المراد بها صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما، وجوز أن تكون اللام للجنس أي بعد أي صلاة كانت. والتقييد بذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ناهية عن التفوه بالكذب والزور وارتكاب الفحشاء والمنكر. وجعل الحسن التقييد بذلك دليلاً على ما تقدم من تفسيره. وجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لآخران ؛ وجملة الشرط معترضة فلا يضر الفصل بها. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وتعقب بأنه يقتضي اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضاً قطعاً على أن اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر بإشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قيد الارتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتي ولا يخفى ما فيه.
والخطاب للموصى لهم وقيل : للورثة وقيل : للحكام والقضاة.
وقوله عز وجل :﴿ فَيُقْسِمَانِ بالله ﴾ عطف على ﴿ تَحْبِسُونَهُمَا ﴾ ﴿ إِنِ ارتبتم ﴾ أي شككتم في صدقهما وعدم استبدادهما بشيء من التركة. والجملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه، والشرط مع جوابه المحذوف معترض بين القسم وجوابه أعني قوله تعالى :﴿ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً ﴾ وقد سيق من جهته تعالى للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قسم وشرط فاكتفى بذكر جواب سابقهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالباً لأن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما في قولك : والله إن أتيتني لأكرمنك، ولا ريب في استحالته ههنا لأن القسم وجوابه كلام الشاهدين والشرطية كما علمت من جهته سبحانه وتعالى، ولا يتوهم أن إن هنا وصلية لأنها مع أن الواو لازمة لها ليس المعنى عليها كما لا يخفى.
وزعم بعضهم جواز كونها شرطية و ﴿ لاَ نَشْتَرِى ﴾ دليل الجواب، والمعنى إن ارتبتم فلا ينبغي ذلك أو فقد أخطأتم لأنا لسنا ممن يشتري به ثمناً قليلاً وهو بعيد جداً وتخلو الآية عليه ظاهراً من شرط التحليف، وضمير ﴿ بِهِ ﴾ عائد إلى الله تعالى، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله سبحانه أي من حرمته تعالى عرضاً من الدنيا بأن نزيلها بالحلف الكاذب وحاصله لا نحلف بالله تعالى حلفاً كاذباً لأجل المال، وقيل : إنه عائد إلى القسم على تقدير مضاف أي لا نستبدل بصحة القسم بالله تعالى عرضاً من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب، وقيل : إلى الشهادة باعتبار أنها قول ولا بد من تقدير مضاف أيضاً، وتقدير مضاف في ﴿ ثَمَناً ﴾ أي ذا ثمن مما لا يدع إليه إلا قلة التأميل.
﴿ وَلَوْ كَانَ ﴾ المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام ﴿ ذَا قربى ﴾ أي قريباً منا. وهذا تأكيد لتبريهما من الحلف الكاذب ومبالغة في التنزه عنه كأنهما قالا : لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من ذلك مالاً ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك، وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية جانب الأقرباء لكنها كما قال شيخ الإسلام ليست ضميمة المال بل هي راجعة إليه، وقيل : الضمير للمشهود له على معنى لا نحابي أحداً بشهادتنا ولو كان قريباً منا، وجواب لو محذوف اعتماداً على ما سبق عليه أي لا نشتري به ثمناً، والجملة معطوفة على جملة أخرى محذوفة أي لو لم يكن ذا قربى ولو كان الخ، وجعل السمين الواو للحال، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا. وجوز بعضهم إرجاع الضمير للشاهد وقدر جواباً للو غير ما قدرناه أي ولو كان الشاهد قريباً يقسمان، وجعل فائدة ذلك دفع توهم اختصاص الأقسام بالأجنبي، ولا يخفى ما في التركيب حينئذ من الركاكة التي لا ينبغي أن تكون في كلام هذا البعض فضلاً عن كلام رب الكل، ونشهد بالله سبحانه وتعالى أن حمل كلامه عز وجل على مثل ذلك مما لا يليق.
﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله ﴾ أي الشهادة التي أمرنا سبحانه وتعالى بإقامتها وألزمنا أداءها فالإضافة للاختصاص أو لأدنى ملابسة، والجملة معطوفة على ﴿ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ﴾ داخل معه في حيز القسم.
وروي عن الشعبي أنه وقف على ﴿ شَهَادَةً ﴾ بالهاء ثم ابتدأ آلله بالمد والجر على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وليس هذا من حذف حرف
﴿ فَإِنْ عُثِرَ ﴾ أي اطلع يقال عثر الرجل على الشيء عثوراً إذا اطلع عليه. وقال الغوري : تقول عثرت إذا اطلعت على ما كان خفياً وهو مجاز بحسب الأصل من قولهم : عثر إذا كبا وذلك أن العاثر ينظر إلى موضع عثاره فيعرفه ويطلع عليه، وقال الليث : إن مصدر عثر بمعنى اطلع العثور وبمعنى كبا العثار وحينئذ يخفى القول بالمجاز لأن اختلاف المصدر ينافيه فلا تتأتى تلك الدعوى إلا على ما قاله الراغب من اتحاد المصدرين، وفي «القاموس » «عثر كضرب ونصر وعِلم وكُرم عَثْراً وعَثِيراً وعِثاراً كبا. والعثور الإطلاع كالعثر » وظاهر هذا أن لا مجاز. ويفهم منه أيضاً الاتحاد في بعض المصادر فافهم، والمراد فإن عثر بعد التحليف.
﴿ على أَنَّهُمَا ﴾ أي الشاهدين الحالفين ﴿ استحقا إِثْماً ﴾ أي فعلاً ما يوجبه من تحريف وكتم بأن ظهر بأيديهما شيء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه، وقال الجبائي : الكلام على حذف مضاف أي استحقا عقوبة إثم ﴿ فَآخَرَانِ ﴾ أي فرجلان آخران. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى :﴿ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا ﴾ والفاء جزائية وهي إحدى مصوغات الابتداء بالنكرة. ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته وهو قوله سبحانه :﴿ مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الاوليان ﴾، وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران، وجملة ﴿ يِقُومَانُ ﴾ صفته والجار والمجرور صفة أخرى ؛ وجوز أبو البقاء أن يكون حالاً من ضمير ﴿ يِقُومَانُ ﴾، وقيل : هو فاعل فعل محذوف أي فليشهد آخران وما بعده صفة له، وقيل : مبتدأ خبره الجار والمجرور، والجملة الفعلية صفته وضمير ﴿ مَقَامَهُمَا ﴾ في جميع هذه الأوجه مستحق للذين استحقا. وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف، و ﴿ استحق ﴾ بالبناء للفاعل قراءة عاصم في رواية حفص عنه وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي رضي الله تعالى عنهم وفاعله ﴿ الاوليان ﴾، والمراد من الموصول أهل الميت ومن الأوليين الأقربان إليه الوارثان له الأحقان بالشهادة لقربهما واطلاعهما وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثماً إلا أنه أقيم المظهر مقام ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف.
ومفعول ﴿ استحق ﴾ محذوف واختلفوا في تقديره فقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة ليظهروا بهما كذب الكاذبين، وقدره أبو البقاء وصيتهما، وقدره ابن عطية ما لهم وتركتهم. وقال الإمام : إن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما. وسبب أولويتهما أن الميت عينهما للوصية فمعنى ﴿ استحق عَلَيْهِمُ الاوليان ﴾ خان في مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما. وعلى هذا لا ضرورة إلى القول بحذف المفعول، وقرأ الجمهور ﴿ استحق عَلَيْهِمُ الاوليان ﴾ ببناء استحق للمفعول.
واختلفوا في مرجع ضميره والأكثرون أنه الإثم، والمراد من الموصول الورثة لأن استحقاق الإثم عليهم كناية عن الجناية عليهم ولا شك أن الذين جنى عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة، وقيل : إنه الإيصاء، وقيل : الوصية لتأويلها بما ذكر، وقيل : المال، وقيل : إن الفعل مسند إلى الجار والمجرور، وكذا اختلفوا في توجيه رفع ﴿ الاوليان ﴾ فقيل : إنه مبتدأ خبره آخران أي الأوليان بأمر بالميت آخران، وقيل : بالعكس، واعترض بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو مما اتفق على منعه في مثله، وقيل : خبر مبتدأ مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني، وقيل : بدل من آخران، وقيل : عطف بيان عليه، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهما شرطوه فيه حتى من جوز تنكيره، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط، وقيل : هو بدل من فاعل ﴿ يِقُومَانُ ﴾. وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه حتى يلزم خلو تلك الجملة الواقعة خبراً أو صفة عن الضمير، على أنه لو طرح وقام هذا مقامه كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطاً. وقيل : هو صفة آخران، وفيه وصف النكرة بالمعرفة. والأخفش أجازه هنا لأن النكرة بالوصف قربت من المعرفة. قيل : وهذا على عكس :
ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فإنه يؤول فيه المعرفة بالنكرة وهذا أول فيه النكرة بالمعرفة أو جعلت في حكمها للوصف، ويمكن كما قال بعض المحققين أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة. وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل ﴿ استحق ﴾ والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة كما قال الزمخشري أو إثم الأوليين كما قيل وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها، وفي على في ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ أوجه الأول : أنها على بابها. والثاني : أنها بمعنى في. والثالث : أنها بمعنى من وفسر ﴿ استحق ﴾ بطلب الحق وبحق وغلب وقرأ يعقوب وخلف وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر عنه ﴿ استحق عَلَيْهِمُ * الاولين ﴾ ببناء استحق للمفعول، والأولين جمع أول المقابل للآخر وهو مجرور على أنه صفة ﴿ الذين ﴾ أو بدل منه أو من ضمير ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة. وقيل : التقدم في الذكر لدخولهم في ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ ﴾. وقرأ الحسن ﴿ *الأولان ﴾ بالرفع وهو كما قدمنا في الأوليان ؛ وقرىء «الأولين » بالتثنية والنصب، وقرأ ابن سيرين ﴿ *الأوليين ﴾ بياءين تثنية أولى منصوباً، وقرىء ﴿ أساطير الاولين ﴾ بسكون الواو وفتح اللام جمع أولى كأعلين وإعراب ذلك ظاهر.
﴿ فَيُقْسِمَانِ بالله ﴾ عطف على ﴿ يِقُومَانُ ﴾ والسببية ظاهرة. وقوله سبحانه ﴿ لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما ﴾ جواب القسم.
والمراد بالشهادة عند الكثير ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اليمين كما في قوله عز وجل :﴿ فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله ﴾ [ النور : ٦ ] وسميت اليمين شهادة على ما قاله الطبرسي «لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك » أي ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها أولى بالقبول من يمينهما مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة وصيغة التفضيل إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما، وقيل : إن الشهادة على معناها المتبادر عند الإطلاق، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن بعض المحققين غير ذلك.
وقوله عز شأنه :﴿ وَمَا اعتدينا ﴾ عطف على الجواب أي ما تجاوزنا في شهادتنا الحق وما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما. وقوله تعالى :﴿ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين ﴾ استئناف مقرر لما قبله أي إنا إذا اعتدينا فيما ذكر لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه، ومعنى الآيتين عند غير واحد من المفسرين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي دينه أو نسبه فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم، ثم إن وقع ارتياب في صدقهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فإن اطلع على كذبهما بأمارة حلف آخران من أهل الميت. وادعى أن الحكم منسوخ إذا كان الإثنان شاهدين فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث، وقيل : إن التحليف لم ينسخ لكنه مشروط بالريبة.
وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما، وفي بعض كتب الحنفية أن الشاهد إن لم يجد من يزكيه يجوز تحليفه احتياطاً وهذا خلاف المفتى به كما بسط في محله. وكذا ادعى البعض النسخ أيضاً على تقدير أن يكون المراد بالشاهدين في السفر غير مسلمين لأن شهادة الكافر على المسلم لا تقبل مطلقاً، وروى حديث النسخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعضهم : لا نسخ وأجاز شهادة الذمي على المسلم في هذه الصورة.
وروي عن أبي موسى الأشعري أنه حكم لما كان والياً على الكوفة بمحضر من الصحابة بشهادة ذميين بعد تحليفهما في وصية مسلم في السفر وإلى ذلك ذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقال آخرون : الإثنان وصيان وحكم تحليفهما إذا ارتاب الورثة غير منسوخ، وما أفادته الآية من رد اليمين على الورثة ليس من حيث إنهم مدعون وقد ظهرت خيانة الوصيين فردت اليمين عليهما خلافاً للشافعي بل من حيث إنهم صاروا مدعى عليهم لانقلاب الدعوى فإن الوصي المدعى عليه أولاً صار مدعياً للملك والورثة ينكرون ذلك، ويدل عليه ما أخرجه البخاري في «التاريخ » والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وخلق آخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال :«خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، وقيل : نداء بالنون فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدموا جاما من فضة مخوصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله تعالى ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجد الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله سبحانه لشهادتهما أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيهم نزلت ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ ﴾ الخ، هذا وادعى بعض المحققين أن الشهادة ههنا لا يمكن أن تكون بمعناها المتبادر بوجه ولا تتصور لأن شهادتهما إما على الميت ولا وجه لها بعد موته وانتقال الحق إلى الورثة وحضورهم أو على الوارث المخاصم وكيف يشهد الخصم على خصمه فلا بد من التأويل، وذكر أن الظاهر أن تحمل في قوله سبحانه ﴿ شهادة بَيْنِكُمْ ﴾ على الحضور أو الإحضار أي إذا حضر الموت المسافر فليحضر من يوصي إليه بإيصال ماله لوارثه مسلماً فإن لم يجد فكافراً، والاحتياط أن يكونا اثنين فإذا جاءا بما عندهما وحصل ريبة في كتم بعضه فليحلفا لأنهما مودعان مصدقان بيمينهما فإن وجد ما خانا فيه وادعيا أنهما تملكاه منه بشراء ونحوه ولا بينة لهما على ذلك يحلف المدعى عليه على عدم العلم بما ادعياه من التملك وأنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه، والشهادة الثانية : بمعنى العلم المشاهد أو ما هو بمنزلته لأن الشهادة المعاينة فالتجوز بها عن العلم صحيح قريب، والشهادة الثالثة : إما بهذا المعنى أو بمعنى اليمين، وعلى هذا وهو مما أفاضه الله تعالى عليَّ ببركة كلامه سبحانه فلا نسخ في الآية ولا إشكال، وما ذكروه كله تكلف لم يصف من الكدر لذوق ذائق، وسبب النزول وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مبين لما ذكر انتهى.
ولعل تخصيص الإثنين اللذين يحلفان بأحقية شهادتهما على ما قيل لخصوص الواقعة وإلا فإن كان الوارث واحداً حلف وإن تعدد حلف المتعدد كما بين في الكتب الفقهية، وما ذكر من أن سبب النزول الخ مبين لما قرره فيه بعض خفاء إذ ليس في الخبر أن الوارثين حلفا على عدم العلم، وفي غيره ما هو نص في الحلف على الثبات، فقد روي في خبر أطول مما تقدم أن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميين قاما فحلفا بالله سبحانه بعد العصر أنهما أي تميماً وعديا كذبا وخانا، نعم قال الترمذي في «الجامع » بعد روايته لذلك الخبر : إنه حديث غريب وليس إسناده بصحيح، وأيضاً في حمل الشهادة على شيء مما ذكره في قوله سبحانه :﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله ﴾ خفاء، وادعى هو نفسه
﴿ ذلك ﴾ كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذكر مستتبع للمنافع وارد على مقتضى الحكمة و ( الإشارة إلى ) الحكم السابق تفصيله. وقيل : إلى تحليف الشاهدين، وقيل : إلى الحبس بعد الصلاة ﴿ أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا ﴾ أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على حقيقتها من غير تغيير لها خوفاً من العذاب الأخروي، وهذه حكمة التحليف الذي تقدم أولاً، والجار الأول متعلق بيأتوا والثاني محذوف وقع حالاً من الشهادة، وقوله تعالى :﴿ أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان ﴾ أي إلى الورثة فيحلفوا ﴿ بَعْدَ إيمانهم ﴾ التي حلفوها عطف على مقدر ينبىء عنه المقام كأنه قيل : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة محققة ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة المحرمة في سائر الأديان أو يخافوا أن ترد الأيمان إلى الورثة فيحلفوا ويأخذوا ما في أيديهم فيخجلوا من ذلك على رؤس الأشهاد فينزجروا عن الخيانة، وهو بيان لحكمة شرعية قيام الآخرين فأي هذين الخوفين وقع حصل المقصد الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها، وقيل : إنه عطف على ﴿ يَأْتُواْ ﴾ أي ذلك الحكم الذي ذكرناه أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها مما كنتم تفعلونه وأقرب إلى خوف الفضيحة، وجعل الشهاب هذا العطف على حد قوله :
علفتها تبناً وماء بارداً *** وجوز السمين كون أو بمعنى الواو كما جوز جعلها لأحد الشيئين على ما هو الأصل فيها فتدبر وجمع ضمير ﴿ يَأْتُواْ ﴾ و ﴿ يخافوا ﴾ على ما قيل لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس، والظرف بعد متعلق بترد كما هو الظاهر. وجوز السمين وهو ضعيف أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع صفة لأيمان.
﴿ واتقوا الله ﴾ في مخالفة أحكامه التي من جملتها ما ذكر. والجملة على ما قيل عطف على مقدر أي احفظوا أحكام الله سبحانه واتقوا ﴿ واسمعوا ﴾ سمع إجابة وقبول جميع ما تؤمرون به ﴿ والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين ﴾ تذييل لما تقدم، والمراد فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين خارجين عن الطاعة والله تعالى لا يهدي القوم الخارجين عن طاعته إلى ما ينفعهم أو إلى طريق الجنة.
وقوله سبحانه :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل ﴾ قيل ظرف لقوله عز وجل :﴿ لاَّ يَهِدِّى ﴾ [ المائدة : ١٠٨ ]، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه سبحانه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا وهذا احتمال ذكره الزمخشري، ونقل عن المغربي أيضاً وهو ظاهر على تقدير أن يكون المراد لا يهديهم إلى طريق الجنة، وفيه مراعاة لمذهب الاعتزال من نفي الهداية المطلقة لا يجوز على الله جل وعلا ولذلك خصص المهدي إليه، وقيل : إنه بدل من مفعول ﴿ واتقوا ﴾ [ المائدة : ١٠٨ ] فهو حينئذ مفعول لا ظرف. وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعداً لطول الفصل بالجملتين، وقال الحلبي : لا بعد فإن هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى وهو عند القائلين بالبدلية بدل اشتمال. وتعقب ذلك العلم العراقي بأن الانصاف أن بدل الاشتمال ههنا ممتنع لأنه لا بد فيه من اشتمال البدل على المبدل منه أو بالعكس وهنا يستحيل ذلك ولهذا قال الحلبي : لا بد في هذا الوجه من تقدير مضاف ليصح. والمراد اتقوا عقاب الله يوم وحينئذ يصح انتصاب اليوم على الظرفية، وقال المحقق التفتازاني : وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف بل بمعنى أن ينتقل الذهن إليه في الجملة ويقتضيه بوجه إجمالي مثلاً إذا قيل اتقوا الله يتبادر الذهن منه إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم من أيام أفعاله يجب الاتقاء أيوم جمعه سبحانه للرسل أم غير ذلك، واعترض بأنه اشترط في ذلك أن لا يكون ظرفية وهذا ظرف زمان لو أبدل منه لأوهم ذلك، وقيل : إنه منصوب بمضمر معطوف على ﴿ اتقوا ﴾ الخ واحذروا أو واذكروا يوم الخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يضطرهم إلى تقوى الله تعالى وتلقي أمره بسمع الإجابة، وقيل : منصوب بقوله سبحانه :﴿ واسمعوا ﴾ [ المائدة : ١٠٨ ] بحذف مضاف أي واسمعوا خبر ذلك اليوم. وقيل : منصوب بفعل مؤخر قد حذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعة ما يقع فيه كأنه قيل : يوم يجمع الله الرسل الخ يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه نطاق المقال، وتخصيص الرسل بالذكر مع أن ذلك يوم مجموع له الناس لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناء على ظهور كونهم أتباعاً لهم. وقيل : ولا يخفى لطفه على بعض الاحتمالات الآتية في الآية لأن المقام مقام ذكر الشهداء والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الشهداء على أممهم كما يدل على ذلك قوله تعالى :﴿ وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ [ القصص : ٧٥ ] ففي بيان حالهم وما يقع لهم يوم القيامة وهم هم من وعظ الشهداء الذين البحث فيهم ما لا يخفى، وبهذا تتصل الآية بما قبلها أتم اتصال، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل.
﴿ فَيَقُولُ ﴾ لهم ﴿ مَاذَا أَجَبْتُمُ ﴾ أي في الدنيا حين بلغتم الرسالة وخرجتم عن العهدة كما ينبىء عن ذلك العدول عن تصدير الخطاب بهل بلغتم، وفي العدول عن ماذا أجاب أممكم ما لا يخفى من الإنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة السخط والغيط عليهم، والسؤال لتوبيخ أولئك أيضاً وإلا فهو سبحانه علام الغيوب. و ﴿ مَاذَا ﴾ متعلق بأجبتم على أنه مفعول مطلق له أي أي إجابة أجبتم من قبل أممكم إجابة قبول أو إجابة رد. وقيل : التقدير بماذا أجبتم أي بأي شيء أجبتم على أن يكون السؤال عن الجواب لا الإجابة فحذف حرف الجر وانتصب المجرور. وضعف بأن حذف حرف الجر وانتصاب مجروره لا يجوز إلا في الضرورة كقوله :
تمرون الديار ولم تعوجوا *** وكذا تقديره مجروراً. وقال العوفي : إن ﴿ مَا ﴾ اسم استفهام مبتدأ و ﴿ ذَا ﴾ بمعنى الذي خبره و ﴿ أَجَبْتُمُ ﴾ صلته والعائد محذوف أي ما الذي أجبتم به. واعترض بأنه لا يجوز حذف العائد المجرور إلا إذا جر الموصول بمثل ذلك الحرف الجار واتحد متعلقاهما، وغاية ما أجابوا به عن ذلك أن الحذف وقع على التدريج وهو كما ترى.
﴿ قَالُواْ ﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل : فماذا يقول الرسل عليهم الصلاة والسلام حينئذ ؟ فقيل : يقولون ﴿ لاَ عِلْمَ لَنَا ﴾ والتعبير بالماضي للدلالة على التقرر والتحقق ك ﴿ نُفِخَ فِى الصور ﴾ [ الحاقة : ١٣ ] وغيره، ونفي العلم عن أنفسهم مع علمهم بماذا أجيبوا كما تدل عليه شهادتهم عليهم الصلاة والسلام على أممهم هنالك حسبما نطقت به بعض الآيات ليس على حقيقته بل هو كناية عن إظهار التشكي والالتجاء إلى الله تعالى بتفويض الأمر كله إليه عز شأنه. وقال ابن الأنباري : إنه على حقيقته لكنه ليس لنفي العلم بماذا أجيبوا عند التبليغ ومدة حياتهم عليهم الصلاة والسلام بل بما كان في عاقبة الأمر وءاخره الذي به الاعتبار. واعترض بأنهم يرون آثار سوء الخاتمة عليهم فلا يصح أيضاً نفي العلم بحالهم وبما كان منهم بعد مفارقتهم لهم. وأجيب بأن ذلك إنما يدل على سوء الخاتمة وظهور الشقاوة في العاقبة على حقيقة الجواب بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلعلهم أجابوا إجابة قبول ثم غلبت عليهم الشقوة. وتعقب بأنه من المعلوم أن ليس المراد بماذا أجبتم نفس الجواب الذي يقولونه أو الإجابة التي تحدث منهم بل ما كانوا عليه في أمر الشريعة من الامتثال والانقياد أو عكس ذلك. وفي رواية عن الحسن أن المراد لا علم لنا كعلمك لأنك تعلم باطنهم ولسنا نعلم ذلك وعليه مدار فلك الجزاء، وقيل : المراد من ذلك النفي تحقيق فضيحة أممهم أي أنت أعلم بحالهم منا ولا يحتاج إلى شهادتنا.
وأخرج الخطيب في «تاريخه » عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد نفي العلم نظراً إلى خصوص الزمان وهو أول الأمر حين تزفر جهنم فتجثوا الخلائق على الركب وتنهمل الدموع وتبلغ القلوب الحناجر وتطيش الأحلام وتذهل العقول ثم إنهم يجيبون في ثاني الحال وبعد سكون الروع واجتماع الحواس وذلك وقت شهادتهم على الأمم، وبهذا أجاب رضي الله تعالى عنه نافع بن الأرزق حين سأله عن المنافاة بين هذه الآية وما أثبت الله تعالى لهم من الشهادة على أممهم في ءاية أخرى. وروي أيضاً عن السدي والكلبي ومجاهد وهو اختيار الفراء وأنكره الجبائي، وقال : كيف يجوز القول بذهولهم من هول يوم القيامة مع قوله سبحانه :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الاكبر ﴾ [ الأنبياء : ١٠٣ ] وقوله عز وجل :﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ يونس : ٦٢ ] وقد نقل ذلك عنه الطبرسي ثم قال : ويمكن أن يجاب عنه بأن الفزع الأكبر دخول النار. وقوله سبحانه :﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ إنما هو كالبشارة بالنجارة من أهوال ذلك اليوم مثل ما يقال للمريض لا بأس عليك ولا خوف. وقيل : إن ذلك الذهول لم يكن لخوف ولا حزن وإنما هو من باب العوم في بحار الإجلال لظهور ءاثار تجلي الجلال.
واعترض شيخ الإسلام على ما تقدم بأن قوله سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب ﴾ في موضع التعليل ولا يلائم ما ذكره. و ﴿ عِلْمَ ﴾ صيغة مبالغة والمراد الكامل في العلم. و الغيوب جمع غيب وجمع وإن كان مصدراً على ما قال السمين لاختلاف أنواعه وإن أريد به الشيء الغائب أو قلنا إنه مخفف غيب فالأمر واضح. وقرىء ﴿ عِلْمَ ﴾ بالنصب على أن الكلام قد تم عند ﴿ إِنَّكَ أَنتَ ﴾ ونصب الوصف على المدح أو النداء أو على أنه بدل من اسم إن، ومعنى ﴿ إِنَّكَ أَنتَ ﴾ إنك الموصوف بصفاتك المعروفة، والكلام على طريقة.
أنا أبو النجم وشعري شعري *** وقرأ أبو بكر وحمزة ﴿ الغيوب ﴾ بكسر الغين حيث وقع وقد سمع في كل جمع على وزن فعول كبيوت كسر أوله لئلا يتوالى ضمتان وواو.
﴿ إِذْ قَالَ الله يا عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ بدل من ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ] وقد نصب بإضمار أذكر، وقيل : في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء، وصيغة الماضي لما مر آنفاً من الدلالة على تحقق الوقوع، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين ( من المفاوضة ) على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عز وجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص عيسى عليه السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم، وإظهار الاسم الجليل ( في مقام الإضمار ) ( ١ ) لما مر ( من المبالغة في التهويل ) ( ١ ). و عيسى مبني عند الفراء ومتابعيه إما على ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادى وفتحه عند الجمهور، وهذا إذا أعرب ابن صفة لعيسى، أما إذا أعرب بدلاً أو بياناً فلا يجوز تقدير الفتحة إجمالاً كما بين في كتب النحو.
و ( على ) في قوله تعالى :﴿ اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك ﴾ متعلقة بنعمتي جعل مصدراً أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالاً من نعمة إن جعل اسماً أي أذكر نعمتى كائنة عليك الخ، وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد، وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه السلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتداداً بها وتلذذاً بذكرها على رؤوس الأشهاد ويكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخاً للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطاً وتفريطاً وإبطالاً لقولهما جميعاً.
﴿ إِذْ أَيَّدتُّكَ ﴾ ظرف لنعمتي أي أذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي أذكرها كائنة وقت ذلك، وقيل : بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها. وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به على السعة، وقرىء «آيدتك » بالمد ووزنه عند الزمخشري أفعلتك وعند ابن عطية فاعلتك، قال أبو حيان : ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل ومعناه ومعنى أيد واحد، وقيل : معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما كما قيل متقاربان لأن النصر قوة.
﴿ بِرُوحِ القدس ﴾ أي جبريل عليه السلام أو الكلام الذي يحيى به الدين ويكون سبباً للطهر عن أوضار الآثام أو تحيى بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليه السلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحاً مقدسة طاهرة مشرقة نورانية علوية، وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة والسلام مما لا خفاء فيه، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك.
﴿ تُكَلّمُ الناس فِى المهد ﴾ أي طفلاً صغيراً، وما في النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلاً إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه، والظرف في موضع الحال من ضمير ﴿ تُكَلّمَ ﴾. وجوز أن يكون ظرفاً للفعل. والجملة إما استئناف مبين لتأييده عليه الصلاة والسلام أو في موضع الحال من الضمير المنصوب في ﴿ أَيَّدتُّكَ ﴾ كما قال أبو البقاء. والمهد معروف. وعن الحسن أن المراد به حجر أمه عليهما السلام، وأنكر النصارى كلامه عليه الصلاة والسلام في المهد وقالوا إنما تكلم عليه السلام أوان ما يتكلم الصبيان وقد تقدم مع جوابه.
وقوله تعالى :﴿ وَكَهْلاً ﴾ للإيذان على ما قيل بعدم تفاوت كلامه عليه الصلاة والسلام طفولية وكهولة لا لأن كلا منهما آية فإن التكلم في الكهولة معهود من كل أحد. وقال الإمام : إن الثاني أيضاً معجزة مستقلة لأن المراد تكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه عليه الصلاة والسلام حين رفع لم يكن كهلاً. وهذا مبني على تفسير الكهل بمن وخطه الشيب ورأيت له بجالة أو من جاوز أربعاً وثلاثين سنة إلى إحدى وخمسين وعيسى عليه الصلاة والسلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وقيل : رفع وهو ابن أربع وثلاثين وما صح أنه عليه الصلاة والسلام وخطه الشيب، وأما لو فسر بمن جاوز الثلاثين فلا يتأتى هذا القول كما لا يخفى. وقال بعض : الأولى أن يجعل ﴿ وَكَهْلاً ﴾ تشبيهاً بليغاً أي تكلمهم كائناً في المهد وكائناً كالكهل. وأنت تعلم أن أخذ التشبيه من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف.
﴿ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ﴾ عطف على ﴿ إِذْ أَيَّدتُّكَ ﴾ أي واذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك من غير معلم ﴿ الكتاب والحكمة ﴾ أي جنسهما، وقيل : الكتاب الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب ﴿ والتوراة والإنجيل ﴾ خصا بالذكر إظهاراً لشرفهما على الأول. ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ ﴾ أي تصور ﴿ مِنَ الطين ﴾ أي جنسه ﴿ كَهَيْئَةِ الطير ﴾ أي هيئة مثل هيئته ﴿ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا ﴾ أي في تلك الهيئة المشبهة ﴿ فَتَكُونُ ﴾ بعد نفخك من غير تراخ ﴿ طَيْراً ﴾ أي حيواناً يطير كسائر الطيور وقرأ نافع ويعقوب ﴿ *طائراً ﴾ وهو إما اسم مفرد وإما اسم جمع كباقر وسامر. ﴿ بِإِذْنِى وَتُبْرِىء الاكمه والابرص بِإِذْنِى ﴾ عطف على ﴿ تَخْلُقُ ﴾ وقوله سبحانه :﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِى ﴾ عطف على ﴿ إِذْ * تَخْلُقُ ﴾ أعيدت فيه «إذ » كما قيل لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صاروا رميماً معجزة باهرة حرية بتذكير وقتها صريحاً.
وما في النظم الكريم أبلغ من تحيي الموتى فلذا عدل عنه إليه. وقد تقدم الكلام في بيان من أحياهم عليه الصلاة والسلام مع بيان ما ينفعك في هذه الآية في سورة آل عمران ( ٩٤ ) وذكر «بإذني » هنا أربع مرات وثمة مرتين قالوا : لأنه هنا للامتنان وهناك للإخبار فناسب هذا التكرار هنا.
﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ ﴾ يعني اليهود حين هموا بقتله ولم يتمكنوا منه. ﴿ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات ﴾ أي المعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر وهو ظرف لكففت مع اعتبار قوله تعالى :﴿ فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ وهو مما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه الصلاة والسلام المحوج إلى الكف أي كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات، ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة. فكلمة من بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر » فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، وجعل الإشارة إليه على القراءة الأولى وتأويل السحر بساحر لتتوافق القراءتان لا حاجة إليه.
﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين ﴾ أي أمرتهم في الإنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي. وجاء استعمال الوحي بمعنى الأمر في كلام العرب كما قال الزجاج وأنشد :
الحمد لله الذي استقلت باذنه السماء واطمأنت أوحى لها القرار فاستقرت
أي أمرها أن تقر فامتثلت، وقيل : المراد بالوحي إليهم إلهامه تعالى إياهم كما في قوله تعالى :﴿ وأوحى رَبُّكَ إلى النحل ﴾ [ النحل : ٦٨ ] ﴿ وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى ﴾ [ القصص : ٧ ] وروي ذلك عن السدي وقتادة وإنما لم يترك الوحي على ظاهره لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والحواريون ليسوا كذلك، وقد تقدم المراد بالحواريين [ في سورة رل عمران : ٢٥ ]. وأن قوله تعالى :﴿ أَنْ ءامِنُواْ * بِى وَبِرَسُولِى ﴾ مفسرة لما في الإيحاء من معنى القول، وقيل : مصدرية أي بأن ءامنوا الخ. وتقدم الكلام في دخولها على الأمر، والتعرض لعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه الصلاة والسلام والرمز إلى عدم إخراجه عليه الصلاة والسلام عن حده حطاً ورفعاً ﴿ قَالُواْ ءامَنَّا ﴾ طبق ما أمرنا به ﴿ واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ مخلصون في إيماننا أو منقادون لما أمرنا به.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ ﴾ بطريق الإلهام ﴿ إِلَى الحواريين ﴾ وهم الذين طهروا نفوسهم بماء العلم النافع ونقوا ثياب قلوبهم عن لوث الطبائع ﴿ أن آمنوا بي ﴾ إيماناً حقيقياً بتوحيد الصفات ﴿ وَبِرَسُولِى ﴾ [ المائدة : ١١١ ] برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل. وذكر بعض السادة أن الوحي يكون خاصاً ويكون عاماً فالخاص ما كان بغير واسطة والعام ما كان بالواسطة من نحو الملك والروح والقلب والعقل والسر وحركة الفطرة وللأولياء نصيب من هذا النوع.
ولوحي الخاص مراتب وحي الفعل ووحي الذات. فوحي الذات يكون في مقام التوحيد عند رؤية العظمة والكبرياء، ووحي الفعل يكون في مقام العشق والمحبة وهناك منازل الأنس والانبساط
﴿ إِذْ قَالَ الحواريون يا عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ منصوب ب ﴿ اذكر ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] على أنه ابتداء كلام لبيان ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه منقطع عما قبله كمال يشير إليه الإظهار في مقام الاضمار. وجوز أن يكون ظرفاً لِ ﴿ قَالُواْ ﴾ [ المائدة : ١١١ ] وفيه على ما قيل حينئذ تنبيه على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء ﴾ لم يكن عن تحقيق منهم ولا عن معرفة بالله تعالى وقدرته سبحانه لأنهم لو حققوا وعرفوا لم يقولوا ذلك إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله عز وجل. وتعقب هذا القول الحلبي بأنه خارق للإجماع. وقال ابن عطية لا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين وأيد ذلك بقوله تعالى :﴿ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ ﴾ [ المائدة : ١١٥ ] وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والإقتداء بسنتهم في قوله عز من قائل :﴿ كُونُواْ أنصار الله ﴾ [ الصف : ١٤ ] الآية وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح الزبير «إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير » والتزم القول بأن الحواريين فرقتان مؤمنون وهم خالصة عيسى عليه الصلاة والسلام والمأمور بالتشبه بهم وكافرون وهم أصحاب المائدة، وسؤال عيسى عليه الصلاة والسلام نزول المائدة وإنزالها ليلزمهم الحجة يحتاج إلى نقل ولم يوجد. ومن ذلك أجيب عن الآية بأجوبة فقيل : إن معنى ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ ﴾ هل يفعل كما تقول للقادر على القيام : هل تستطيع أن تقوم مبالغة في التقاضي. ونقل هذا القول عن الحسن. والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الايجاد. وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل تسمية للسبب الذي هو الإرادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ﴾ [ المائدة : ٦ ] الخ. وقيل : إن المعنى هل يطيع ربك فيستطيع بمعنى يطيع ويطيع بمعنى يجيب مجازاف ونقل ذلك عن السدي. وذكر أبو شامة أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض فقال له : يا ابن أخي أدع ربك أن يعافيني فقال : اللهم اشف عمي فقام كأنما نشط من عقال فقال : يا ابن أخي إن ربك الذي تعبده يطيعك فقال : يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك أي يجيبك لمقصودك وحسن استعماله صلى الله عليه وسلم لذلك المشاكلة. وقيل : هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة فكأنهم قالوا : هل إرادة الله تعالى وحكمته تعلقت بذلك أولا ؟ لأنه لا يقع شيء بقدون تعلقهما به.
واعترض بأن قوله تعالى الآتي :﴿ اتقوا الله إِن كُنتُم ﴾ لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه.
وقيل : إن سؤالهم للاطمئنان والتثبت كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام :﴿ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ * الموتى ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ] ومعنى ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ إن كنتم كاملين في الإيمان والإخلاص ومعنى ﴿ نَعْلَمُ أَنَّكَ * قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ نعلم علم مشاهدة وعيان بعد ما علمناه علم إيمان وإيقان. ومن هذا يعلم ما يندفع به الاعتراض.
وقرأ الكسائي وعلي كرم الله تعالى وجهه وعائشة وابن عباس ومعاذ وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ( هل تستطيع ربك ) بالتاء خطاباً لعيسى عليه الصلاة والسلام ونصب ﴿ رَبَّكَ ﴾ على المفعولية. والأكثرون على أن هناك مضافاً محذوفاً أي سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف. وعن الفارسي أنه لا حاجة إلى تقدير. والمعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك. وأنت تعلم أن اللفظ لا يؤدي ذلك فلا بد من التقدير، والمائدة في المشهور الخوان الذي عليه الطعام من ماد يميد إذا تحرك أو من ماده بمعنى أعطاه فهي فاعلة إما بمعنى مفعولة ك ﴿ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ ( القارعة ؛ ٧ )، واختاره الأزهري في «تهذيب اللغة«أو بجعلها للتمكن مما عليها كأنها بنفيها معطية كقولهم للشجرة المثمرة : مطعمة. وأجاز بعضهم أن يقال فيها ميدة واستشد عليه بقول الراجز :
وميدة كثيرة الألوان تصنع للجيران والأخوان
واختار المناوي أن المائدة كل ما يمد ويبسط، والمراد بها السفرة، وأصلها طعام يتخذه المسافر ثم سمي بها الجلد المستدير الذي تحمل به غالباً كما سميت المزادة راوية. وجوز أن تكون تسمية الجلد المذكور سفرة لأن له معاليق متى حلت عنه انفرج فاسفر عما فيه. وهذا غير الخوان بضم الخاء وكسرها وهو أفصح ويقال له : اخوان بهمزة مكسورة لأنه اسم لشيء مرتفع يهيأ ليؤكل عليه الطعام، والأكل عليه بدعة لكنه جائز إن خلا عن قصد التكبر. وتطلق المائدة على نفس الطعام أيضاً كما نص عليه بعض المحققين، و ﴿ مّنَ السماء ﴾ يجوز أن يتعلق بالفعل قبله وأن يتعلق بمحذوف وقع صفة لمائدة أن مائدة كائنة من السماء.
﴿ قَالَ ﴾ أي عيسى عليه الصلاة والسلام لهم حين قالوا ذلك :﴿ اتقوا الله ﴾ من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات كما قال الزجاج. وعن الفارسي أنه أمر لهم بالتقوى مطلقاً. ولعل ذلك لتصير ذريعة لحصول المأمول فقد قال سبحانه :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ، ٣ ] وقال جل شأنه :﴿ رَّحِيمٌ يََأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة ﴾ [ المائدة : ٣٥ ] ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوتي أو كاملين في الإيمان والإخلاص أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإسلام.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ﴾ أي المربي لك والمفيض عليك ما كملك ﴿ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً ﴾ أي شريعة مشتملة على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام ﴿ مّنَ السماء ﴾ أي من جهة سماء الأرواح ﴿ قَالَ اتقوا الله ﴾ أي اجعلوه سبحانه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأفعال والأخلاق ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ المائدة : ١١٢ ] ولا تسألوا شريعة مجددة
﴿ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ﴾ أكل تبرك وقيل : أكل تمتع وحاجة والإرادة إما مبعناها الظاهر أو بمعنى المحبة أي نحب ذلك والكلام كما قيل تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد من السؤال إزاحة شبهتنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الإيمان والتقوى ولكن نريد إلخ أو ليس مرادنا اقتراح الآيات لكن مرادنا ما ذكره. ﴿ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ﴾ بازدياد اليقين كما قال عطاء ﴿ وَنَعْلَمَ ﴾ علم مشاهدة وعيان على ما قدمناه ﴿ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ أي أنه قد صدقتنا في ادعاء النبوة، وقيل : في أن الله تعالى يجيب دعوتنا، وقيل : فيما ادعيت مطلقاً.
﴿ وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين ﴾ عند من لم يحضرها من بني اسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر، وقيل : من الشاهدين لله تعالى بالوحدانية ولك بالنبوة. و ﴿ عَلَيْهَا ﴾ متعلق بالشاهدين إن جعل اللام للتعريف أو بمحدوف يفسره ﴿ مّنَ الشاهدين ﴾ إن جعلت موصولة. وجوزنا تفسير ما لا يعمل للعامل، وقيل : متعلق به ؛ وفيه تقديم ما في حيز الصلة وحرف الجر وكلاهما ممنوع. ونقل عن بعض النحاة جواز التقديم في الظرف، وعن بعضهم جوازه مطلقاً، وجوز أن يكون حالاً من اسم كان أي عاكفين عليها. وقرىء ﴿ يَعْلَمْ ﴾ بالبناء للمفعول و ﴿ تَعْلَمْ * وَتَكُونُ ﴾ بالتاء والضمير للقلوب.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ﴾ بأن نعمل بها ﴿ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ﴾ فإن العلم غداء ﴿ وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ في الإخبار عن ربك وعن نفسك ﴿ وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين ﴾ [ المائدة : ١١٣ ] فنعلم بها الغائبين وندعوهم إليها
﴿ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ لما رأى أن لهم غرضاً صحيحاً في ذلك، وأخرج الترمذي في «نوادر الأصول » وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله تعالى فلما قضى صلاته قام قائماً مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالأصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعاً ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه فلما رأى ذلك دعا الله تعالى فقال :﴿ اللهم رَبَّنَا ﴾ ناداه سبحانه وتعالى مرتين على ما قيل مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات وأخرى بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهاراً لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء وإنما لم يجعل نداء واحداً بأن يعرب ﴿ رَبَّنَا ﴾ بدلاً أو صفة لأنهم قالوا : إن لفظ اللهم لا يتبع وفيه خلاف لبعض النحاة. وحذف حرف النداء في الأول وعوض عنه الميم وكذا في الثاني إلا أن التعويض من خواص الاسم الجليل أي يا الله يا ربنا.
﴿ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً ﴾ أي خواناً عليه طعام أو سفرة كذلك، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وقوله سبحانه وتعالى :﴿ مّنَ السماء ﴾ متعلق إما بانزل أو بمحذوف وقع صفة لمائدة أي كائنة من السماء، والمراد بها إما المحل المعهود وهو المتبادر من اللفظ وإما جهة العلو، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن حميد وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر أن المائدة التي نزلت كان عليها من ثمر الجنة وكذا روي عن وهب بن منبه. ويؤيد الثاني ما روي عن سلمان الفارسي من خبر طويل أن المائدة لما نزلت قال شمعون رأس الحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية فقال شمعون : لا وإله اسرائيل ما أردت بها سواءاً يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه الصلاة والسلام. ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا إنما هو شيء ابتدعه الله تعالى في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان في أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر.
وقوله تعالى :﴿ تَكُونُ لَنَا عِيداً ﴾ صفة «مائدة » و «لنا » خبر كان و «عيداً » حال من الضمير في الظرف أو في ﴿ تَكُونُ ﴾ على رأي من يجوز إعمالها في الحال، وجوز أن يكون «عيداً » الخبر و «لنا » حينئذ إما حال من الضمير في «تكون » أو حال من ﴿ عِيداً ﴾ لأنه صفة له قدمت عليه، والعيد العائد مشتق من العود ويطلق على الزمان المعهود لعوده في كل عام بالفرح والسرور، وعليه فلا بد من تقدير مضاف، والمعنى يكون نزولها لنا عيداً، ويطلق على نفس السرور العائد وحينئذ لا يحتاج إلى التقدير، وفي الكلام لطافة لا تخفى، وذكر غير واحد أن العيد يقال لكل ما عاد عليك في وقت، ومنه قول الأعشى :
فوا كبدي من لاعج الحب والهوى إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها
وهو واوي كما ينبىء عنه الاشتقاق ولكنهم قالوا في جمعه : أعياد وكان القياش أعواد لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها كراهة الاشتباه كما قال ابن هشام بجمع عود، ونظر ذلك الحريري بقولهم : هو أليط بقلبي منك أي ألصق حبابه فإن أصله الواو لكن قالوا ذلك ليفرق بينه وبين قولهم. هو ألوط من فلان، ولا يخفى أن هذا مخالف لما ذكره محققو أهل اللغة، وعن الكسائي يقال : لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط وهو ألوط وأليط، ثم إنهم إنما لم يعكسوا الأمر في جمع عود وعيد فيقولوا في جمع الأول أعياد وفي جمع الثاني أعواد مع حصول التفرقة أيضاً اعتباراً على ما قيل للأخف في الأكثر استعمالاً مع رعاية ظاهر المفرد، وقرأ عبد الله «تكن » بالجزم على جواب الأمر.
﴿ لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا ﴾ أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا. روي أنه نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن المعنى يأكل منها أول الناس وآخرهم، والجار والمجرور عند بعض بدل من الجار والمجرور أعني «لنا »، وقال أبو البقاء إذا جعل «لنا » خبراً أو حالاً فهو صفة لعيداً وإن جعل صفة له كان هو بدلاً من الضمير والمجرور بإعادة الجار، وظاهره أن المبدل منه الضمير لكن أعيد الجار لأن البدل في قوة تكرار العامل، وهو تحكم لأن الظاهر كما أشير إبدال المجموع من المجموع، ثم إن ضمير الغائب يبدل منه وأما ضمير الحاضر فأجازه بعضهم مطلقاً وأجازه آخرون كذلك، وفصل قوم فقالوا إن أفاد توكيداً واحاطة وشمولاً جاز وإلا امتنع. واستظهر بعضهم على قول الحبر أن يكون «لنا » خبراً أي قوتاً أو نافعة لنا. وقرأ زيد وابن محيصن والجحدري «لأولانا وأخرانا » بتأنيث الأول والآخر باعتبار الأمة والطائفة، وكون المراد بالأولى والأخرى الدار الأولى أي الدنيا والدار الأخرى أي الآخرة مما لا يكاد يصح.
﴿ وَءايَة ﴾ عطف على «عيداً »، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ مِنكَ ﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة له أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي ﴿ وارزقنا ﴾ أي الشكر عليها على ما حكي عن الجبائي أو المائدة على ما نقل عن غير واحد والمراد بها حينئذ كما قيل ما على الخوان من الطعام أو الأعم من ذلك وهذه ولعله الأولى ﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين ﴾ تذييل جار مجرى التعليل أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا ملاحظة عوض.
﴿ قَالَ الله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ ﴾ مرات عديدة كما ينبىء عن ذلك صيغة التفعيل، وورود الإجابة منه تعالى كذلك مع كون الدعاء منه عليه الصلاة والسلام بصيغة الأفعال زظهار كمال اللطف والإحسان مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسماً تحقيق للوعد وإيذان بأنه سبحانه وتعالى منجز له لا محالة وإشعار بالاستمرار، وهذه القراءة لأهل المدينة والشام وعاصم وقرأ الباقون كما قال الطبرسي ﴿ مُنَزّلُهَا ﴾ بالتخفيف، وجعل الإنزال والتنزيل بمعنى واحد.
﴿ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ ﴾ أي بعد تنزيلها حال كونه كائناً ﴿ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ ﴾ بسبب كفره ذلك ﴿ عَذَاباً ﴾ هو اسم مصدر بمعنى التعذيب كالمتاع بمعنى التمتيع، وقيل : مصدر محذوف الزوائد وانتصابه على المصدرية في التقديرين، وقيل : منصوب على التوسع، والتشبيه بالمفعول به مبالغة كما ينصب الظرف ومعمول الصفة المشبهة كذلك، وجوز أبو البقاء أن يكون نصبه على الحذف والإيصال، والمراد بعذاب وهو حينئذ اسم ما يعذب به، ولا يخفى أن حذف الجار لا يطرد في غير أن وإن عند عدم اللبس، والتنوين للتعظيم أي عذاباً عظيماً.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ لاَّ أُعَذّبُهُ ﴾ في موضع النصب على أنه صفة له. والهاء في موضع المفعول المطلق كما في ظننته زيداً قائماً. ويقوم مقام العائد إلى الموصوف كما قيل. ووجه بأنه حينئذ يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل فيكون في معنى النكرة الواقعة بعد النفي من حيث العموم فيشمل العذاب المتقدم، ويحصل الربط بالعموم واورد عليه أن الربط بالعموم إنما ذكره النحاة في الجملة الواقعة خبراً فلا يقاس عليه الصفة وجوز أن يكون من قبيل ضربته ضرب زيد أي عذاباً لا أعذب تعذيباً مثله، وعلى هذا التقدير يكون الضمير راجعاً على العذاب المقدم فالربط به. وقيل : الضمير راجع إلى «من » بتقدير مضافين أي لا أعذب مثل عذابه.
﴿ أَحَداً مّن العالمين ﴾ أي عالمي زمانهم أو العالمين مطلقاً، وهذا العذاب إما في الدنيا، وقد عذب من كفر منهم بمسخهم قردة وخنازير. وروي ذلك عن قتادة وإما في الآخرة وإليه يشير ما أخرجه أبو الشيخ. وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون ويدل هذا على أن المائدة نزلت وكفر البعض بعد. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن ومجاهد أن القوم لما قيل لهم :«فمن يكفر » الخ قالوا : لا حاجة لنا بها فلم تنزل. والجمهور على الأول وعليه المعول. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر موقوفاً ومرفوعاً.
والوقف أصح قال : أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير وكان الخبز من أرز على ما روي عن عكرمة.
وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سأله قومه ذلك فدعا أنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء تهوي إليهم وعيسى عليه الصلاة والسلام يبكي خوفاً من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا رائحة مثلها قط وخر عيسى عليه الصلاة والسلام والحواريون سجدا شكراً لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم فرأوا ما يغمهم ثم انصرفوا فأقبل عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه ينظرونها فإذا هي مغطاة بمنديل فقال عليه الصلاة والسلام : من أجرؤنا على كشفه وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه حتى نراها ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا ؟ فقالوا : يا روح الله وكلمته أنت أولى بذلك فقام واستأنف وضوءاً جديداً ثم دخل مصلاه فصلى ركعات ثم بكى طويلاً ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين وكشف عنها فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات، وفي رواية على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن. وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فسأله سمعون عنها وأجابه بما تقدمت روايته. ثم قالوا له عليه الصلاة والسلام : إنما نحب أن ترينا آية في هذه الآية فقال عليه السلام : سبحان الله تعالى أما اكتفيتم ثم قال : يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حية كما كنت فأحياها الله تعالى بقدرته فاضطربت وعادت حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسير ففزع القوم منها وانحاشوا فقال عليه الصلاة والسلام لهم : ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ما أخوفني عليكم بما تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشوية ثم دعاهم إلى الأكل فقالوا : يا روح الله أنت الذي تبدأ بذلك فقال : معاذ الله تعالى يبدأ من طلبها فلما رأوا امتناع نبيهم عليه الصلاة والسلام خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها فدعا عليه الصلاة والسلام لها الفقراء والزمنى، وقال : كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم وأحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم ليكون مهنئوها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا كلكم باسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة وصدروا منها وكل واحد منهم شبعان يتجشى ونظر عيسى عليه السلام والحواريون ما عليها فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرىء كل زمن منهم أكل منها فلم يزالوا أغنياء صحاحاً حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سألت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم، وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنوا اسرائيل إليها من كل مكان يسعون فزاحم بعضهم بعضاً الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضاً فلما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوماً ولا تنزل يوما فلبثوا في ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم باذن الله تعالى إلى جو السماء وهو ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل رزقي لليتامى والمساكين والزمني دون الأغنياء من الناس فلما فعل الله تعالى ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب المرتابين فلما علم عيسى عليه السلام ذلك منهم قال : هلكتم وإله المسيح سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكن إلى ربكم فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فابشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام إني آخذ المكذبين بشرطي وإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين فلما أمسى المرتابون وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين وكان آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لبني اسرائيل : هل لكم أن تصوموا ثلاثين يوماً ثم تسالوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا ولم نكن نعمل لأحل ثلاثين يوماً إلا أطعمنا ﴿ فَهَلْ * يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ أَحَداً مّن العالمين ﴾ فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وجاء عنه أن المائدة كانت تنزل عليهم حيث نزلوا، وعن وهب بن منبه أن المائدة كان يقعد عليها أربعة آلاف فإذا أكلوا شيئاً أبدل الله تعالى مكانه مثله فلبثوا بذلك ما شاء الله عز وجل :
( ومن باب الإشارة ) :﴿ قَالَ الله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ ﴾ بهامنكم ويحتجب عن ذلك الدين ﴿ بَعْدَ ﴾ أي بعد الإنزال ﴿ فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ العالمين ﴾ [ المائدة : ٥١١ ] وذلك بالحجاب عني لوجود الاستعداد ووضوح الطريق وسطوع الحجة والعذاب مع العلم أشد من العذاب مع الجهل. قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ ﴾ عطف على ﴿ إِذْ قَالَ الحواريون ﴾ [ المائدة : ١١٢ ] منصوب بما نصبه من الفعل المضمر أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك. وصيغة الماضي لما مضى. والمراد يقول له عليه الصلاة والسلام :﴿ ءأَنْتَ * قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله ﴾ يوم القيامة توبيخاً للكفرة وتبكيتاً لهم باقراره عليه الصلاة والسلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية وأمرهم بعبادته عز وجل. وقيل : قاله سبحانه له عليه الصلاة والسلام في الدنيا وكان ذلك بعد الغروب فصلى عليه الصلاة والسلام المغرب ثلاث ركعات شكراً لله تعالى حين خاطبه بذلك، وكان الأولى : لنفي الألوهية عن نفسه. والثانية : لنفيها عن أمه. والثالثة : لإثباتها لله عز وجل. فهو عليه الصلاة والسلام أول من صلى المغرب ولا يخفى أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيات يأبى ذلك ولا يصح أيضاً خبر فيه. ثم إنه ليس مدار أصل الكلام عند بعض المحققين أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال المشهور وعليه قوله تعالى :﴿ قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا ﴾ [ الأنبياء : ٦٢ ] ونحوه بل على أن المتيقن هو الاتخاذ. والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه الصلاة والسلام أو أمر من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى :﴿ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل قَالُواْ ﴾ [ الفرقان : ١٧ ] وقال بعض : لما كان القول قد وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقرراً كالاتخاذ فالاستفهام لتعيين من صدر منه فلذا قدم المسند إليه، وقيل : التقديم لتقوية النسبة لأنها بعيدة عن القبول بحيث لا تتوجه نفس السامع إلى أن المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها، وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه.
وفي قوله :﴿ اتخذونى وَأُمّىَ ﴾ دون واتخذوني ومريم توبيخ على توبيخ كأنه قيل : أأنت قلت ما قلت مع كونك مولوداً وأمك والدة والإله لا يلد ولا يولد.
وأنت تعلم أن في ندائه عليه الصلاة والسلام على الكيفية المذكورة إشارة إلى إبطال ذلك الاتخاذ. ولام ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ للتبليغ، والاتخاذ إما متعد لاثنين فالياء مفعوله الأول و ﴿ إلهين ﴾ مفعوله الثاني وإما متعد لواحد فإلهين حال من المفعول و ﴿ مِن دُونِ الله ﴾ حال من فاعل الاتخاذ أي متجاوزين الله تعالى أو صفة لإلهين أي كائنين من دون الله تعالى أي غيره منضماً إليه سبحانه فالله تعالى إله وهما بزعم الكفرة إلهان فالمراد اتخاذهما بطريق اشتراكهما معه عز وجل. وهذا كما في قوله تعالى :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله ﴾ إلى قوله سبحانه :
﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ يونس : ١٨ ] وأيد ذلك بأن التوبيخ والتبكيت إنما يتأتى بذلك. وقال الراغب : إن ظاهر ذلك القول استقلالهما عليهما الصلاة والسلام بالألوهية وعدم اتخاذ الله سبحانه وتعالى معهما إلهاً ولا بد من تأويل ذلك لأن القوم ثلثوا والعياذ بالله تعالى فإما أن يقال : إن من أشرك مع الله سبحانه غيره فقد نفاه معنى لأنه جل شأنه وحده لا شريك له ويكون إقراره بالله تعالى كلا إقرار. وحينئذٍ يكون ﴿ مِن دُونِ الله ﴾ مجازاً عن مع الله تعالى أو يقال : إن المراد بمن دون الله التوسط بينهما وبينه عز شأنه فيكون الدون إشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته جل جلاله لأنهم قالوا : هو عز اسمه كالشمس وهما كشعاعها. وزعم بعضهم أن المراد اتخاذهما بطريق الاستقلال. ووجهه أن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يدي عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه إلهاً في حق ذلك البعض، ولا يخفى أن الأول كالمتعين وإليه أشار العلامة ونص على اختياره شيخ الإسلام.
واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحداً من النصارى اتخذ مريم عليها السلام إلهاً. وأجيب عنه بأجوبة. الأول : أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلهاً لزمهم أن يجعلوا والدته أيضاً كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر ﴿ إلهين ﴾ على طريق الإلزام لهم. والثاني : أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] لما أنهم عظموهم تعظيم الرب. والتثنية حينئذٍ على حد القلم أحد اللسانين. والثالث : أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك. ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم : المريمية يعتقدون في مريم أنها إله. وهذا كما كان في اليهود قوم يعتقدون أن عزيراً ابن الله عز اسمه وهو أولى الأوجه عندي. وما قرره الزاعم من أن النصارى يعتقدون الخ غير مسلم في نصارى زماننا ولم ينقله أحد ممن يوثق به عنهم أصلاً. وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.
﴿ قَالَ ﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام وهو ظاهر. وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام حين يقول له الرب عز وجل ما يقول ترتعد مفاصله وينفجر من أصل كل شعرة من جسده عين من دم خيفة من ربه جلت عظمته، وفي بعضها أنه عليه الصلاة والسلام يرتعد خوفاً ولا يفتح له باب الجواب خمسمائة عام ثم يلهمه الله تعالى الجواب بعد فيقول :﴿ سبحانك ﴾ أي تنزيهاً لك من أن أقول ذلك أو يقال في حقك كما قدره ابن عطية، وقدره بعضهم من أن يكون لك شريك فضلاً من أن يتخذ إلهان دونك، وآخرون من أن تبعث رسولاً يدعى ألوهية غيرك ويدعو إليها ويكفر بنعمتك، والأول أوفق بسياق النظم الكريم.
وسبحان على سائر التقادير على أحد الأقوال فيه وقد تقدمت علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه. وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح وهو الإبعاد في الأرض والذهاب، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل والعدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وإقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى.
وقوله سبحانه :﴿ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ ﴾ استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه عنه. وما الثانية سواء كانت موصولة أو نكرة موصوفة مفعول ﴿ أَقُولُ ﴾ والمراد بها على التقديرين القول المذكور أو ما يعمه وغيره ويدخل فيه القول المذكور دخولاً أولياً، ونصب القول للمفردات نحو الجملة والكلام والشعر مما لا شك في صحته كنصبه الجمل الصريحة فلا حاجة إلى تفسير أقول بأذكر كما يتوهم. واسم ﴿ لَّيْسَ ﴾ ضمير عائد إلى ما و ﴿ بِحَقّ ﴾ خبره، والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك. وإيثار ليس على الفعل المنفي على ما يحق لي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقيقة وإفادة التأكيد بما في خبره من الباء المطرد زيادتها في خبر ليس. ومعنى ﴿ مَا يَكُونُ لِى ﴾ أي لا ينبغي ولا يليق وهو أبلغ من لم أقله فلذا أوثر عليه : والمراد لا ينبغي أن أقول قولاً لا يحق لي قوله أصلاً في وقت من الأوقات، وجوز أبو البقاء أن يكون ﴿ لِى ﴾ خبر ليس و ﴿ بِحَقّ ﴾ في موضع الحال من الضمير في الجار والعامل فيه ما فيه من معنى الاستقرار. وأن يكون متعلقاً بفعل محذوف على أنه مفعول له والباء للسببية أي ما ليس يثبت لي بسبب حق. وأن يكون خبر ليس و ﴿ لِى ﴾ صفة حق قدم عليه فصار حالاً، وهذا مخرج على رأي من أجاز تقديم حال المجرور عليه، وقيل : إن ﴿ لِى ﴾ متعلق بحق وهو الخبر. وهو أيضاً مبني على قول بعض النحاة المجوز تقديم صلة المجرور على الجار. والجمهور على عدم الجواز ولا فرق عندهم في المنع بين أن يكون الجار زائداً أو غيره.
وقوله عز وجل :﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ استدلال على براءته من صدور القول المذكور عنه فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه به تعالى قطعاً والعلم به منتف فينتفي الصدور ضرورة أن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم.
واستشكلت هذه الجملة بأن المعنى على المضي هنا وأن تقلب الماضي مستقبلاً. وأجاب عن ذلك المبرد بأن كان قوية الدلالة على المضي حتى قيل إنها موضوعة له فقط دون الحدث وجعلوه وجهاً لكونها ناقصة فلا تقدر إن على تحويلها إلى الاستقبال. وأجاب ابن السراج بأن التقدير إن أقل كنت قلته الخ وكذا يقال فيما كان من أمثال ذلك، وقد نقل ذلك عثمان بن يعيش وضعفه ابن هشام في «تذكرته »، والجمهور على أن المعنى إن صح قولي ودعواي ذلك فقد تبين علمك به.
﴿ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى ﴾ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فقوله جل شأنه :﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ﴾ بيان للواقع وإظهار لقصوره عليه السلام، وللنفس في كلامهم إطلاقات فتطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وعلى القلب وعلى الدم وعلى الإرادة، قيل : وعلى العين التي تصيب وعلى الغيب وعلى العقوبة. ويفهم من كلام البعض أنها حقيقة في الإطلاق الأولي مجاز فيما عداه، وفسر غير واحد النفس هنا بالقلب، والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي فكيف بما أعلنه ولا أعلم معلومك الذي تخفيه وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله
:
قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً
إلا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد وما في البيت ليس كذلك. وفي «الدر المصون » أن هذا التفسير مروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكاه عنه أيضاً في «مجمع البيان ». وفسرها بعضهم بالذات وادعى أن نسبتها بهذا المعنى إلى الله تعالى لا تحتاج إلى القول بالمشاكلة، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة ﴾ [ الأنعام : ٤٥ ] ﴿ واصطنعتك لِنَفْسِى ﴾ [ طه : ١٤ ] ﴿ وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ﴾ [ آل عمران : ٨٢ و ٠٣ ] وقوله صلى الله عليه وسلم :" أقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمراً ولم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه من طينة الخبال " وقوله عليه الصلاة والسلام :" ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ولأجل ذلك مدح نفسه " وقوله صلى الله عليه وسلم :" سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه " إلى غير ذلك من الأخبار.
وقال المحقق الشريف في «شرح المفتاح » وغيره : إن لفظ النفس لا يطلق عليه تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وليس بشيء لما علمت من الآيات والأحاديث، وادعاء أن ما فيها مشاكلة تقديرية كما قيل ذلك في قوله تعالى :﴿ صِبْغَةَ الله * مَنْ أَحْسَنَ *مِنَ الله صِبْغَةً ﴾ [ البقرة : ٨٣١ ] لا يخفى أنه من سقط المتاع فالصحيح المعول عليه جواز إطلاقها بمعنى الذات على الله تعالى من غير مشاكلة، نعم قيل : إن لفظ النفس في هذه الآية وإن كان بمعنى الذات لا بد معه من اعتبار المشاكلة لأن لا أعلم ما في ذاتك ليس بكلام مرضي فيحتاج إلى حمله على المشاكلة بأن يكون المراد لا أعلم معلوماتك فعبر عنه بلا أعلم ما في نفسك لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي.
وعلى ذلك حمل العلامة الثاني كلام صاحب «الكشاف » ولا يخفى ما فيه، والتحقيق أن الآي
وقوله تعالى :﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ ﴾ استئناف كما قال شيخ الإسلام مسوق لبيان ما صدر عنه عليه السلام قد أدرج فيه عدم صدور القول المذكور عنه على أبلغ وجه وآكده حيث حكم بانتفاء صدور جميع الأقوال المغايرة للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القول المذكور دخولاً أولياً. والمراد عند البعض ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا أنه قيل :﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ ﴾ نزولاً على قضية حسن الأدب لئلا يجعل ربه سبحانه ونفسه معاً آمرين ومراعاة لما ورد في الاستفهام. ودل على ذلك بإقحام أن المفسرة في قوله تعالى :﴿ أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ ﴾. ولا يرد أن الأمر لا يتعدى بنفسه إلى المأمور به إلا قليلاً كقوله
: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *** فكذا ما أول به لأنه كما قال ابن هشام لا يلزم من تأويل شيء بشيء أن يتعدى تعديته كما صرحوا به لأن التعدية تنظر إلى اللفظ. نعم قيل في جعل أن مفسرة بفعل الأمر المذكور صلته نحو أمرتك بهذا أن قم نظر أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغن عن الآخر. وأما في الاستعمال فلأنه لم يوجد. ونظر فيما ذكر في طريق القياس لأن الأول لا يغني عن الثاني والثاني لا يغني عن الأول وللتفسير بعد الإبهام شأن ظاهر. وادعى ابن المنير أن تأويل هذا القول بالأمر كلفة لا طائل وراءها وفيه نظر. وجوز إبقاء القول على معناه و ﴿ أَنِ اعبدوا ﴾ إما خبر لمضمر أي هو أن اعبدوا أو منصوب بأعني مقدراً، وقيل : عطف بيان للضمير في ﴿ بِهِ ﴾، واعترض بأنه صرح في «المغني » بأن عطف البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أن الضمير لا ينعت لا يعطف عليه عطف بيان، وأجيب بأن ذلك من المختلف فيه وكثير من النحاة جوزوه. وما في «المغني » قد أشار شراحه إلى رده، وقيل : بدل من الضمير بدل كل من كل. ورده الزمخشري في «الكشاف » بأن المبدل منه في حكم التنحية والطرح فيلزم خلو الصلة من العائد بطرحه، وأجيب عنه بأن المذهب المنصور أن المبدل منه ليس في حكم الطرح مطلقاً بل قد يعتبر طرحه في بعض الأحكام كما إذا وقع مبتدأ فإن الخبر للبدل نحو زيد عينه حسنة ولا يقال حسن. وقد يقال أيضاً : إنه ليس كل مبدل منه كذلك بل ذلك مخصوص فيما إذا كان البدل بدل غلط، وأجاب بعضهم بأنه وإن لزم خلو الصلة من العائد بالطرح لكن لا ضير فيه لأن الاسم الظاهر يقوم مقامه كما في قوله
: وأنت الذي في رحمة الله أطمع *** ولا يخفى أن في صحة قيام الظاهر هنا مقام الضمير خلافاً لهم، وجوز أن يكون بدلاً من ﴿ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ ﴾، واعترض بأن ﴿ مَا ﴾ مفعول القول ولا بد فيه أن يكون جملة محكية أو ما يؤدي مؤداها أو ما أريد لفظه وإذا كان العبادة بدلاً كانت مفعول القول مع أنها ليست واحداً من هذه الأمور فلا يقال : ما قلت لهم إلا العبادة، وفي «الانتصاف » «أن العبادة وإن لم تقل فالأمر بها يقال وأن الموصولة بفعل الأمر يقدر معها الأمر فيقال هنا ما قلت لهم إلا الأمر بالعبادة ولا ريب في صحته لأن الأمر مقول بل قول على أن جعل العبادة مقولة غير بعيد على طريقة ﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ﴾ [ المجادلة : ٣ ] أي الوطء الذي قالوا قولاً يتعلق به وقوله تعالى :﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ [ مريم : ٨٠ ] ونحو ذلك »، وفي «الفوائد » أن المراد ما قلت لهم إلا عبادته أي الزموا عبادته فيكون هو المراد من ﴿ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ ﴾ ويصح كون هذه الجملة بدلاً من ما أمرتني به من حيث إنها في حكم المراد لأنها مقولة و ﴿ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ ﴾ مفرد لفظاً وجملة معنى ولا يخلو عن تعسف، وجوز إبقاء القول على معناه وأن مفسرة إما لفعل القول أو لفعل الأمر، واعترض بأن فعل القول لا يفسر بل يحكي به ما بعده من الجمل ونحوها وبأن فعل الأمر مسند إلى الله تعالى وهو لا يصح تفسيره بأعبدوا الله ربي وربكم بل بأعبدوني أو أعبدوا الله ونحوه، وأجيب عن هذا بأنه «يجوز أن يكون حكاية بالمعنى كأنه عليه السلام حكى معنى قول الله عز وجل بعبارة أخرى وكأن الله تعالى قال له عليه السلام : مرهم بعبادتي أو قال لهم على لسان عيسى عليه السلام : أعبدوا الله رب عيسى وربكم فلما حكاه عيسى عليه السلام قال :﴿ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ ﴾ فكنى عن اسمه الظاهر بضميره كما قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام :﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كتاب لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى * الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نبات شتى ﴾ [ طه : ٥٢، ٥٣ ] فإن موسى عليه السلام لا يقول فأخرجنا بل فأخرج الله تعالى لكن لما حكاه الله تعالى عنه عليه السلام رد الكلام إليه عز شأنه وأضاف الإخراج إلى ذاته عز وجل على طريقة المتكلم لا الحاكي وإن كان أول الكلام حكاية. ومثله قوله تعالى :﴿ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم ﴾ إلى قوله سبحانه :﴿ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾ [ الزخرف : ٩ ١١ ] إلى غير ذلك.
وقال أبو حيان :«يجوز أن يكون المفسر ﴿ اعبدوا الله ﴾ ويكون ﴿ رَبّى وَرَبَّكُمْ ﴾ من كلام عيسى عليه السلام على إضمار أعني ( أي أعني ربي وبكم ) لا على الصفة » لله عز اسمه واعتمده ابن الصائغ وجعله نظير قوله تعالى :
﴿ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله ﴾ [ النساء : ٧٥١ ] على رأي. وفي «أمالي ابن الحاجب » إذا حكى حاك كلاماً فله أن يصف المخبر عنه بما ليس في كلام المحكي عنه، واستبعد ذلك الحلبي والسفاقسي وهو الذي يقتضيه الإنصاف. وقيل على الأول : إن بعضهم أجاز وقوع أن المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما في معناه فيقع حينئذٍ مفسراً له لكن أنت تعلم أنه لا ينبغي الاختلاف في أنه لا يقترن المقول المحكي بحرف التفسير لأن مقول القول في محل نصب على المفعولية والجملة المفسرة لا محل لها فلعل مراد البعض مجرد الوقوع والتزام أن المقول محذوف وهو المحكي وهذا تفسير له أي ما قلت لهم مقولاً فتدبر فقد انتشرت كلمات العلماء هنا.
﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ﴾ أي رقيباً أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك من غير واسطة ومشاهداً لأحوالهم من إيمان وكفر، و ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ كما قال أبو البقاء متعلق بشهيداً، لعل التقديم لما مر غير مرة ﴿ مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ﴾ أي مدة دوامي فيما بينهم ﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى ﴾ أي قبضتني بالرفع إلى السماء كما يقال توفيت المال إذا قبضته. وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور. وعن الجبائي أن المعنى أمتني وادعى أن رفعه عليه السلام إلى السماء كان بعد موته وإليه ذهب النصارى وقد مر الكلام في ذلك.
﴿ كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي الحفيظ المراقب فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسول وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا، وقيل : المراد بالرقيب المطلع المشاهد، ومعنى الجملتين إني ما دمت فيهم كنت مشاهداً لأحوالهم فيمكن لي بيانها فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لذلك لا غيرك فلا أعلم حالهم ولا يمكنني بيانها، ولا يخفى أن الأول أوفق بالمقام، وقد نص بعض المحققين أن الرقيب والشهيد هنا بمعنى واحد وهو ما فسر به الشهيد أولاً ولكن تفنن في العبارة ليميز بين الشهيدين والرقيبين لأن كونه عليه الصلاة والسلام رقيباً ليس كالرقيب الذي يمنع ويلزم بل كالشاهد على المشهود عليه ومنعه بمجرد القول وأنه تعالى شأنه هو الذي يمنع منع إلزام بالأدلة والبينات، و ﴿ أَنتَ ﴾ ضمير فصل أو تأكيد و ﴿ الرَّقِيبَ ﴾ خبر كان. وقرىء ﴿ الرَّقِيبَ ﴾ بالرفع على أنه خبر ( أنت )، والجملة خبر كان و ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ في القراءتين متعلق بالرقيب. وقوله سبحانه :﴿ وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ ﴾ تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه على ما قيل إيذان بأنه سبحانه كان هو الشهيد في الحقيقة على الكل حين كونه عليه السلام فيما بينهم، و ﴿ على ﴾ متعلقة بشهيد، والتقديم لمراعاة الفاصلة.
وقوله تعالى :﴿ إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ على معنى إن تعذبهم لم يلحقك بتعذيبهم اعتراض لأنك المالك المطلق لهم ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعله بملكه، وقيل : على معنى : إن تعذبهم لم يستطع أحد منهم على دفع ذلك عن نفسه لأنهم عبادك الأرقاء في أسر ملكك وماذا تبلغ قدرة العبد في جنب قدرة مالكه، وقيل : المعنى إن تعذبهم فإنهم يستحقون ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك وخالفوا أمرك وقالوا ما قالوا، ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو بعيد عن النظم، نعم لا يبعد أن يكون في النظم إشارة إليه.
﴿ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾ أي فإن تغفر لهم ما كان منهم لا يلحقك عجز بذلك ولا استقباح فإنك القوي القادر على جميع المقدورات التي من جملتها الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمة، والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول بل متى كان المجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر، وعدم المغفرة للكافر بحكم النص والإجماع لا للامتناع الذاتي فيه ليمتنع الترديد والتعليق بإن.
وقد نقل الإمام «أن غفران الشرك عندنا جائز. وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا : لأن العقاب حق الله تعالى على المذنب ( وفي إسقاطه منفعة للمذنب ) وليس في إسقاطه على الله سبحانه مضرة ». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي أن معنى الآية إن تعذبهم فتميتهم بنصرانيتهم فيحق عليهم العذاب فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فإنك أنت العزيز الحكيم، وهذا قول عيسى عليه السلام في الدنيا اه.
ولا يخفى أنه مخالف لما يقتضيه السباق والسياق، وقيل : الترديد بالنسبة إلى فرقتين، والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم وتعف عمن آمن منهم فإنك الخ وهو بعيد جداً، وظاهر ما قالوه أنه ليس في قوله سبحانه ﴿ وَإِن تَغْفِرْ ﴾ الخ تعريض بسؤال المغفرة وإنما هو لإظهار قدرته سبحانه وحكمته، ولذا قال سبحانه ﴿ العزيز الحكيم ﴾ دون الغفور الرحيم مع اقتضاء الظاهر لهما، وما جاء في الأخبار مما أخرجه أحمد في «المصنف » والنسائي والبيهقي في «سننه » عن أبي ذر قال :«صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها ﴿ إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ الخ فلما أصبح قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت قال : إني سألت ربي سبحانه الشفاعة فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله تعالى شيئاً » وما أخرجه مسلم وابن أبي الدنيا في حسن الظن والبيهقي في «الأسماء والصفات » وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما :«أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم عليه السلام
﴿ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ] الآية، وقوله عز وجل في عيسى ابن مريم :﴿ إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ الخ فرفع يديه فقال : اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله جلت رحمته : يا جبرائيل اذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال له : إنا سنقر عينك في أمتك ولا نسوءك » وما أخرجه ابن مردويه عن أبي ذر قال :«قلت للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية من القرآن يعني بها هذه الآية ومعك قرآن لو فعل هذا بعضنا تال وجدنا عليه قال : دعوت الله سبحانه لأمتي قال : فماذا أجبت ؟ قال : أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه تركوا الصلاة قلت : أفلا أبشر الناس ؟ قال : بلى فقال عمر : يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا ويتكلوا ويدعوا العبادة فناداه أن ارجع فرجع » لا يقوم دليلاً على أن في الآية تعريضاً بطلب المغفرة للكافر إذ لا يبعد منه صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته وطلب الشفاعة لهم بهذا النظم لكن لا على الوجه الذي قصده عيسى عليه السلام منه، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم اقتبس ذلك من القرآن مؤدياً به مقصوده الذي أراده وليس ذلك أول اقتباس له عليه الصلاة والسلام فقد صرح بعض العلماء أن دعاء التوجه عند الشافعية من ذلك القبيل والصلاة لا تنافي الدعاء، وما أخرجه مسلم ومن معه ليس فيه أكثر من أن ما ذكر آثار كأمن( ١ ) شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته فدعا لهم بما دعا وذلك لا يتوقف على أن في الآية تعريضاً لسؤال المغفرة للكافر، ثم إن للعلماء في بيان سر ذكر ذينك الاسمين الجليلين في الآية كلاماً طويلاً حيث أشكل وجه مناسبتهما لسياق ما قرنا به حتى حكي عن بعض القراء أنه غيرهما لسخافة عقله فكان يقرأ فإنك أنت الغفور الرحيم إلى أن حبس وضرب سبع درر، ووقع لبعض الطاعنين في القرآن من الملاحدة أن المناسب ما وقع في مصحف ابن مسعود فإنك أنت العزيز الغفور كما نقل ذلك ابن الأنباري، وقد علمت أحد توجيهاتهم لذلك.
وقيل : إن ذكرهما من باب الاحتراس لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة أو لإهمال ينافي الحكمة فدفع توهم ذلك بذكرهما، وفي «أمالي العز بن عبد السلام » أن العزيز معناه هنا الذي لا نظير له، والمعنى وإن تغفر لهم فإنك أنت الذي لا نظير لك في غفرانك وسعة رحمتك، وأنت أولى من رحم وأجدر من غفر وستر الحكيم الذي لا يفعل شيئاً إلا في مستحقه وهم مستحقون ذلك لفضلك وضعفهم، وهذا ظاهر في أن في الآية تعريضاً بطلب المغفرة ولا أظنك تقول به، وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط وحينئذٍ وجه مناسبتهما لا سترة عليه فإن من له الفعل والترك عزيز حكيم، وذكر أن هذا أنسب وأدق وأليق بالمقام.
١ - هكذا في الأصل تأمل..
﴿ قَالَ الله ﴾ كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله، وصيغة الماضي لما تحقق، والمراد بقول الله تعالى عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيراً إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وبذلك يزول أيضاً عنه عليه السلام خوفه من صورة ذلك السؤال لا أن إزالته هي المقصودة من القول على ما قيل.
﴿ هذا ﴾ أي اليوم الحاضر ﴿ يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين ﴾ أي المستمرين على الصدق في الأمور المطلوبة منهم التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه السلام ومن الأمم المصدقين لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام المقتدين بهم عقداً وعملاً ( وبه يتحقق المقصود بالحكاية ( من ترغيب السامعين ) في الإيمان ) برسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ صِدْقُهُمْ ﴾ أي فيما ذكر في الدنيا إذ هو المستتبع للنفع والمجازاة يومئذٍ، وقيل : في الآخرة. والمراد من الصادقين الأمم ومن صدقهم صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وهو ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله تعالى وهو كما ترى، وقيل : المراد صدقهم المستمر في دنياهم إلى آخرتهم ليتسنى كون ما ذكر شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله جواباً عن السؤال على ما يقتضيه السوق، ويكون النفع باعتبار تحققه في الدنيا والمطابقة لما يقتضيه السوق باعتبار تقرره ووقوع بعض جزئياته في الآخرة، والمستمر هو الأمر الكلي الذي هو الاتصاف بالصدق، ولا يلزم من هذا محذور مدخلية الصدق الأخروي في الجزاء، ولا يحتاج إلى جعل الصدق الأخروي شرطاً في نفع الصدق الدنيوي والمجازاة عليه، ولعل فيما تقدم غنى عن هذا كما لا يخفى على الناظر، وقيل : المراد من الصادقين النبيون ومن صدقهم صدقهم في الدنيا بالتبليغ ويكون مساق الآية للشهادة بصدقه عليه السلام في قوله :﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ ﴾ [ المائدة : ١١٧ ] وأنت تعلم أن هذا الغرض حاصل على تقدير التعميم وزيادة.
وقيل : المراد من الصدق الصدق في الدنيا إلا أن المراد من الصادقين الأمم، والكلام مسوق لرد عرض عيسى عليه السلام المغفرة عليه سبحانه وتعالى كأنه قيل : هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لا غير فلا مغفرة لهؤلاء، ولا يخفى أن التعميم لا ينافي كون الكلام مسوقاً لما ذكر على تقدير تسليم ذلك. واسم الإشارة مبتدأ و ﴿ يَوْمٍ ﴾ بالرفع وهي قراءة الجمهور خبره. وقرأ نافع وحده ﴿ يَوْمٍ ﴾ بالنصب على أنه ظرف لقال و ﴿ هذا ﴾ مبتدأ خبره محذوف أي كلام عيسى عليه السلام أو حق أو نحو ذلك أو ظرف مستقر وقع خبراً ؛ والمعنى هذا الذي مر من جواب عيسى عليه السلام أو السؤال والجواب واقع يوم ينفع، وجوز أن يكون ﴿ هذا ﴾ مفعولاً به للقول لأنه بمعنى الكلام والقصص أو مفعولاً مطلقاً لأنه بمعنى القول، وقيل : إن ﴿ هذا ﴾ مبتدأ و ﴿ يَوْمٍ ﴾ خبره وهو مبني على الفتح بناءً على أن الظرف يبنى عليه إذا أضيف إلى جملة فعلية وإن كانت معربة وهو مذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره، والبصريون لا يجيزون البناء إلا إذا صدرت الجملة المضاف إليها بفعل ماض كقوله
: على حين عاتبت المشيب على الصبا *** وألحقوا بذلك الفعل المنفي، ويخرجون هذه القراءة على أحد الأوجه السابقة.
وقرأ الأعمش ﴿ يَوْمٍ ﴾ بالرفع والتنوين على أنه خبر ﴿ هذا ﴾ والجملة بعده صفته بحذف العائد، وقرأ ﴿ صِدْقُهُمْ ﴾ بالنصب على أن يكون فاعل ﴿ ينفَعُ ﴾ ضمير الله تعالى، و ﴿ صِدْقُهُمْ ﴾ كما قال أبو البقاء إما مفعول له أي لصدقهم أو منصوب بنزع الخافض أي بصدقهم أو مصدر مؤكد أو مفعول به على معنى يصدقون الصدق كقولك : صدقته القتال، والمراد يحققون الصدق
﴿ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَداً ﴾ تفسير للنفع ولذا لم يعطف عليه كأنه قيل : ما لهم من النفع ؟ فقيل : لهم نعيم دائم وثواب خالد، وقوله سبحانه :﴿ رَّضِىَ الله عَنْهُمْ ﴾ بيان لكونه تعالى أفاض عليهم غير ما ذكر وهو رضوانه عز وجل الذي لا غاية وراءه كما ينبىء عن ذلك قوله سبحانه :﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ إذ لا شيء أعز منه حتى تمد إليه أعناق الآمال ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى نيل رضوانه جل شأنه كما اختاره بعض المحققين أو إلى جميع ما تقدم كما اختاره في «البحر » وإليه يشير ما روي عن الحسن ﴿ الفوز العظيم ﴾ الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه أصلاً.
﴿ للَّهِ مُلْكُ * السموات والارض *وَمَا فِيهِنَّ ﴾ تحقيق للحق وتنبيه بما فيه من تقديم الظرف المفيد للحصر على كذب النصارى وفساد ما زعموه في حق المسيح وأمه عليهما السلام. وقيل : استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : من يملك ذلك ليعطيهم إياه ؟ فقيل :﴿ للَّهِ مُلْكُ * السموات ﴾ الخ فهو المالك والقادر على الإعطاء ولا يخفى بعده وفي إيثار ﴿ مَا ﴾ على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاة كما قيل للأصل وإشارة إلى تساوي الفريقين في استحالته الربوبية حسب تساويهما في تحقق المربوبية. وعلى تقدير اختصاصها بغير العقلاء كما يشير إليه خبر ابن الزبعرى رضي الله تعالى عنه تنبيه على كمال قصورهم من رتبة الألوهية، وفي تغليب غير العقلاء على العقلاء على خلاف المعروف ما لا يخفى من حط قدرهم.
﴿ وَهُوَ على كُلّ شَىْء ﴾ من الأشياء ﴿ قَدِيرٌ ﴾ أي مبالغ في القدرة. وفسرها الغزالي بالمعنى الذي به يوجد الشيء متقدراً بتقدير الإرادة والعلم واقعاً على وفقهما، وفسر الموصوف بها على الإطلاق بأنه الذي يخترع كل موجود اختراعاً ينفرد به ويستغني به عن معاونة غيره وليس ذاك إلا الله تعالى الواحد القهار. والظرف متعلق بقدير والتقديم لمراعاة الفاصلة، ولا يخفى ما في ذكر كبرياء الله تعالى وعزته وقهره وعلوه في آخر هذه السورة من حسن الاختتام، وأخرج أبو عبيد عن أبي الزاهرية أن عثمان رضي الله تعالى عنه كتب في آخر المائدة ( ولله ملك السموات والأرض والله سميع بصير ).
Icon