ﰡ
[تفسير سورة المنافقين]
سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المنافقون (٦٣): آيَةً ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَمِّي فسمعت عبد الله بن أبي بن سَلُولَ يَقُولُ:" لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا". وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي. فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ، فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ" فَأَرْسَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَعَنَا أُنَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فَكُنَّا نبد الْمَاءَ، وَكَانَ الْأَعْرَابُ يَسْبِقُونَا إِلَيْهِ فَيَسْبِقُ الْأَعْرَابِيُّ أَصْحَابَهُ فَيَمْلَأُ الْحَوْضَ وَيَجْعَلُ حَوْلَهُ حِجَارَةً، وَيَجْعَلُ النطع «١» عليه حتى تجئ أَصْحَابُهُ. قَالَ: فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْرَابِيًّا فَأَرْخَى زِمَامَ نَاقَتِهِ لِتَشْرَبَ فَأَبَى أَنْ يَدَعَهُ، فَانْتَزَعَ حَجَرًا «٢» فَغَاضَ الْمَاءُ، فَرَفَعَ الْأَعْرَابِيُّ خَشَبَةً فَضَرَبَ بِهَا رَأْسَ الْأَنْصَارِيِّ فَشَجَّهُ، فَأَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ فَأَخْبَرَهُ- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ- فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ثُمَّ قَالَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ- يَعْنِي الْأَعْرَابَ- وَكَانُوا يَحْضُرُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الطَّعَامِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِذَا انْفَضُّوا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ فَأْتُوا مُحَمَّدًا بِالطَّعَامِ، فَلْيَأْكُلْ هُوَ وَمَنْ عِنْدَهُ. ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَئِنْ رَجَعْتُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. قَالَ زَيْدٌ: وَأَنَا رِدْفُ «٣» عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَأَخْبَرْتُ عَمِّي، فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَفَ وَجَحَدَ. قَالَ: فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي. قَالَ: فَجَاءَ عَمِّي إِلَيَّ فَقَالَ: مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ مَقَتَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَكَ وَالْمُنَافِقُونَ «٤». قَالَ: فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنْ جُرْأَتِهِمْ مَا لَمْ يَقَعْ «٥» عَلَى أَحَدٍ. قَالَ: فبينما أنا أسير مع رسول
(٢). في الترمذي:" فانتزع قباض الماء".
(٣). في الترمذي:" وأنا رِدْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
(٤). في الترمذي:" والمسلمون".
(٥). في الترمذي:" فوقع على من الهم ما لم...... ".
وَأَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أُحِبُّهَا | فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدَهَا لِيَا |
(٢). في أ:" لأمر معين".
[سورة المنافقون (٦٣): آية ٢]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٢)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أَيْ سُتْرَةً. وَلَيْسَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى سَبَبِ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ، حَسْبَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ أُبَيٍّ أَنَّهُ حَلَفَ مَا قَالَ وَقَدْ قَالَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي حَلِفَهُمْ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَقِيلَ: يَعْنِي بِأَيْمَانِهِمْ ما أخبر الرب عنهم في سورة" براءة" إذ قال: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا «٣» [التوبة: ٧٤]. الثَّانِيَةُ- مَنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ بِاللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ بِاللَّهِ، أَوْ أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ أَوْ أَشْهَدْتُ بِاللَّهِ أَوْ أَعْزَمْتُ بِاللَّهِ أَوْ أَحْلَفْتُ بِاللَّهِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (بِاللَّهِ) فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا يَمِينٌ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ إِنْ قَالَ: أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ أَوْ أَحْلِفُ، وَلَمْ يَقُلْ (بِاللَّهِ)، إِذَا أَرَادَ (بِاللَّهِ). وَإِنْ لَمْ يُرِدْ (بِاللَّهِ) فَلَيْسَ بِيَمِينٍ. وَحَكَاهُ الْكِيَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ وَنَوَى الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وأصحابه: لو قال
(٢). راجع ج ٨ ص ١٦٤ وص ٢٠٦ [..... ]
(٣). راجع ج ٨ ص ١٦٤ وص ٢٠٦
[سورة المنافقون (٦٣): آية ٣]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٣)
هَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ. أَيْ أَقَرُّوا بِاللِّسَانِ ثُمَّ كَفَرُوا بِالْقَلْبِ. وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أَيْ خُتِمَ عَلَيْهَا بِالْكُفْرِ (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) الْإِيمَانَ وَلَا الْخَيْرَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ علي فطبع الله على قلوبهم.
[سورة المنافقون (٦٣): آية ٤]
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أَيْ هَيْئَاتِهِمْ وَمَنَاظِرَهُمْ. (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَسِيمًا
قوله تعالى :" يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو " أي كل أهل صيحة عليهم هم العدو. ف " هم العدو " في موضع المفعول الثاني على أن الكلام لا ضمير فيه. يصفهم بالجبن والخور. قال مقاتل والسدي : أي إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون ؛ لما في قلوبهم من الرعب. كما قال الشاعر وهو الأخطل :
مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شي بَعْدَهُمْ | خَيْلًا تَكُرُّ عَلَيْهِمُ وَرِجَالَا |
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم | خيلا تَكُرُّ عليهم ورجالا |
فلو أنها عصفورةٌ لحسبتُها | مُسَوَّمَةً تدعو عبيداً وأزْنَمَا |
قوله تعالى :" قاتلهم الله " أي لعنهم الله قال ابن عباس وأبو مالك. وهي كلمة ذم وتوبيخ. وقد تقول العرب : قاتله الله ما أشعره ! يضعونه موضع التعجب. وقيل : معنى " قاتلهم الله " أي أحلهم محل من قاتله عدو قاهر ؛ لأن الله تعالى قاهر لكل معاند. حكاه ابن عيسى. " أنى يؤفكون " أي يكذبون، قاله ابن عباس. قتادة : معناه يعدلون عن الحق. الحسن : معناه يصرفون عن الرشد. وقيل : معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل ؛ وهو من الإفك وهو الصرف. و " أن " بمعنى كيف، وقد تقدم١.
فَلَوْ أَنَّهَا عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتُهَا | مُسَوَّمَةً تَدْعُو عُبَيْدًا وَأَزْنَمَا |
أَيْ يَكْذِبُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ. الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ يُصْرَفُونَ عَنِ الرُّشْدِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَيْفَ تَضِلُّ عُقُولُهُمْ عَنْ هَذَا مَعَ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ، وهو من الافك وهو الصرف. و (أن) بمعنى كيف، وقد تقدم «١».
[سورة المنافقون (٦٣): آية ٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ) لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِصِفَتِهِمْ مَشَى إِلَيْهِمْ عَشَائِرُهُمْ وَقَالُوا: افْتَضَحْتُمْ بِالنِّفَاقِ فَتُوبُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنَ النِّفَاقِ، وَاطْلُبُوا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكُمْ. فَلَوَّوْا رؤوسهم، أَيْ حَرَّكُوهَا اسْتِهْزَاءً وَإِبَاءً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وعنه أنه كان
ظَنَنْتُمْ بِأَنْ يَخْفَى الَّذِي قَدْ صَنَعْتُمُ | وَفِينَا رَسُولٌ عِنْدَهُ الْوَحْيُ وَاضِعُهْ |
[سورة المنافقون (٦٣): آية ٦]
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يَعْنِي كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، لَا يَنْفَعُ اسْتِغْفَارُكَ شَيْئًا، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ. نَظِيرُهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»
[البقرة ٦]، سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ «٢» [الشعراء: ١٣٦]. وَقَدْ تَقَدَّمَ. (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أَيْ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أنه يموت فاسقا.
[سورة المنافقون (٦٣): آية ٧]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (٧)
ذَكَرْنَا سَبَبَ النُّزُولِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَابْنُ أُبَيٍّ قَالَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَتَّى يَنْفَضُّوا، حَتَّى يَتَفَرَّقُوا عَنْهُ. فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ خَزَائِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَهُ، يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ. قَالَ رَجُلٌ لِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ: مِنْ أَيْنَ تأكل فقال: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ الْغُيُوبُ، وَخَزَائِنُ الْأَرْضِ الْقُلُوبُ، فَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَمُقَلِّبُ الْقُلُوبِ. وكان الشبلي يقول: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) أنه إذا أراد أمرا يسره.
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٢٥
ذكرنا سبب النزول فيما تقدم. وابن أبي قال : لا تنفقوا على من عند محمد حتى ينفضوا، حتى يتفرقوا عنه. فأعلمهم الله سبحانه أن خزائن السموات والأرض له، ينفق كيف يشاء. قال رجل لحاتم الأصم : من أين تأكل ؟ فقال :" ولله خزائن السموات والأرض ". وقال الجنيد : خزائن السموات الغيوب، وخزائن الأرض القلوب ؛ فهو علام الغيوب ومقلب القلوب. وكان الشبلي يقول :" ولله خزائن السموات والأرض " فأين تذهبون. " ولكن المنافقين لا يفقهون " أنه إذا أراد أمرا يسره.
[سورة المنافقون (٦٣): آية ٨]
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨)الْقَائِلُ ابْنُ أُبَيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً حَتَّى مَاتَ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وقد مضى بيانه هذا كله في سورة" براءة" «١» مُسْتَوْفًى. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الله بن أبي بن سَلُولَ قَالَ لِأَبِيهِ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا تَدْخُلُ الْمَدِينَةَ حَتَّى تَقُولَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَعَزُّ وَأَنَا الْأَذَلُّ، فَقَالَهُ. تَوَهَّمُوا أَنَّ الْعِزَّةَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَتْبَاعِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الْعِزَّةَ والمنعة والقوة لله.
[سورة المنافقون (٦٣): آية ٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩)
حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْلَاقَ الْمُنَافِقِينَ، أَيْ لَا تَشْتَغِلُوا بِأَمْوَالِكُمْ كَمَا فَعَلَ الْمُنَافِقُونَ إِذْ قَالُوا- لِلشُّحِّ بِأَمْوَالِهِمْ-: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ. عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَيْ عَنِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ. وَقِيلَ: عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: عَنْ إِدَامَةِ الذِّكْرِ. وَقِيلَ: عَنِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: جَمِيعُ الْفَرَائِضِ، كَأَنَّهُ قَالَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ، أَيْ آمَنْتُمْ بِالْقَوْلِ فَآمَنُوا بِالْقَلْبِ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أَيْ مَنْ يَشْتَغِلْ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
[سورة المنافقون (٦٣): الآيات ١٠ الى ١١]
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)
(٢). راجع ج ٤ ص ١٥٣
[تفسير سورة التغابن]
سُورَةُ التَّغَابُنِ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ مَكِّيَّةٌ وَمَدَنِيَّةٌ. وَهِيَ ثَمَانِي عَشْرَةَ آيَةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ" سُورَةَ التَّغَابُنِ" نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، إِلَّا آيَاتٌ مِنْ آخِرِهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَفَاءَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: ١٤] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَفِي تَشَابِيكِ رَأْسِهِ مَكْتُوبٌ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ فَاتِحَةِ" سورة التغابن".
(٢). ما بين المربعين ساقط من ز، ب.