تفسير سورة الشرح

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الشرح من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)﴾.
المناسبة
قد تقدم بيان مناسبة هذه السورة لما قبلها آنفًا، وأما قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥)﴾ إلى آخر السورة، مناسبته لما قبله: أن الله سبحانه وتعالى لما أبان بعض نعمه على رسوله من شرح الصدر ووضع الوزر، ورفع الذكر بعد استحكام الكرب وضيق الأمر.. ذكر أن ذلك قد وقع على ما جرت به سنته في خلقه من إحداث اليسر بعد العسر، وأكد هذا بإعادة القضية نفسها مؤكدة؛ لقصد تقريرها في النفوس، وتمكينها في القلوب.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ ونوسع ﴿لَكَ﴾ يا محمد ﴿صَدْرَكَ﴾ وقلبك لحمل أعباء النبوة وحفظ الوحي؛ أي: قد شرحنا صدرك يا محمد لحفظ الوحي وتبليغ الرسالة، فالهمزة للاستفهام التقريري؛ لأن (١) نفي النفي إثبات؛ أي: عدم شرحنا لك صدرك منفي، بل قد شرحنا لك صدرك ووسَّعناه لأعباء الرسالة حتى اتصف بمَلَكَتَيْ الاستفادة والإفادة، فما صَدَّك الملابسةُ بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية، وما عاقك التعلق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق؛ أي: لم تحتجب، لا بالحق عن الخلق، ولا بالخلق عن الحق، قال الراغب: الشرح بسط اللحم ونحوه، يقال: شرحت اللحم إذا بسطته، وفصلت بعضه عن بعض، ومنه شرح الصدر بنور إلهي وسكينة من جهة الله تعالى، ورَوْح منه، وشرح المشكل من الكلام بسطه وإظهار ما يخفى من معانيه. انتهى.
(١) روح البيان.
107
وفي الحديث: "إذا دخل النور في القلب انشرح"؛ أي: انفسح واحتمل البلاء، وحفظ سر الربوبية، كما قال موسى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾؛ أي: وسع قلبي حتى لا يضيق بسفاهة المعاندين ولجاجهم، بل يحتمل أذاهم، والصدر: ما بين النحر والبطن، والمراد هنا القلب، من إطلاق المحل وإرادة الحال، والحكمة في زيادة ﴿لَكَ﴾ الإيذان بأن الشرح من منافعه ومصالحه عليه السلام، كأنه تعالى قال: إنما شرحنا صدرك لأجلك، لا لأجلي، وإنما خص (١) الصدر؛ لأنه محل أحوال النفس من العلوم والإدراكات.
والمراد من الآية: الامتنان عليه - ﷺ - بفتح صدره، وتوسيعه حتى قام بما قام به من الدعوة، وقدر على ما قدر عليه من حمل أعباء النبوة وحفظ الوحي.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى انفساح قلبه بنور النبوة، وحمل همومها بواسطة دعوة الثقلين، وانشراح صدر سره بضياء الرسالة، واحتمال مكاره الكفار وأهل النفاق، وانبساط صدر نوره بأشعة الولاية، وتحققه بالعلوم اللدنية، والحكم الإلهية، والمعارف الربانية، والحقائق الرحمانية.
وأما شرح الصدر الصوري، فقد وقع مرارًا: مرة وهو ابن خمس، أو ست لإخراج مغمز الشيطان؛ وهو الدم الأسود الذي به يميل القلب إلى المعاصي، ويعرض عن الطاعة، ومرة عند ابتداء الوحي، ومرة ليلة المعراج.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿نَشْرَحْ﴾ بجزم الحاء لدخول الجازم، وقرأ أبو جعفر: بفتحها وخرجه ابن عطية في كتابه على أنه: ألم نشرحن، فأبدل من النون ألفًا، ثم حذفها تخفيفًا، ولهذه القراءة تخريج أحسن من هذا كله، وهو أنه لغة لبعض العرب حكاها اللحياني في "نوادره" وهي الجزم بلن، والنصسب بلم، عكس الاستعمال المعروف عند الناس، وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد، وهو القائم بثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما:
قَدْ كَانَ سَمْكُ الْهُدَى يَنْهَدُّ قَائِمُهُ حَتَّى أُتِيْحَ لَهُ الْمُخْتَارُ فَانْعَمَدَا
فِيْ كُلِّ مَا هَمَّ أَمْضَى رَأْيَهُ قُدُمًا وَلَمْ يُشَاوِرَ فِيْ إِقْدَامِهِ أَحَدَا
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
108
بنصب يشاور، وهذا محتمل للتخريجين، وهو أحسن مما تقدم اهـ من "البحر" بتصرف.
وعلى كل حال، فقراءة هذا الرجل مع شدة جوره ومزيد ظلمه، وكثرة جبروته، وقلة علمه ليست بحقيقة بالاشتغال بها.
ومعنى الآية: أي إنا (١) شرحنا لك صدرك، فأخرجناك من الحَيرة التي كنت تضيق بها ذرعًا بما كنت تلاقي من عناد قومك، واستكبارهم عن اتباع الحق، وكنت تتلمس الطريق لهدايتهم، فهُديت إلى الوسيلة التي تنقذهم بها من التهلكة، وتجنبهم الردى الذي كانوا مشرفين عليه.
وقصارى ذلك: أنا أذهبنا عن نفسك جميع الهموم حتى لا تقلق ولا تضجر، وجعلناك راضي النفس مطمئن الخاطر واثقًا من تأييد الله ونصره، عالمًا كل العلم أن الذي أرسلك لا يخذلك ولا يعين عليك عدوًا،
٢ - وقوله: ﴿وَوَضَعْنَا﴾؛ أي: حططنا وأسقطنا ﴿عَنْكَ﴾ يا محمد ﴿وِزْرَكَ﴾؛ أي: حملك الثقيل، معطوف على ما تقدم، لا على لفظه؛ أي: شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك، نظير قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِيْنَ بُطُوْنَ رَاحِ
أي: أنتم خير من ركب المطايا وأندى الخ، والوزر (٢): الذنب؛ أي: وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية، قال الحسن وقتادة والضحاك ومقاتل: المعنى: حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية، وهذا كقوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾.
وقوله: ﴿عَنْكَ﴾ متعلق بـ ﴿وضعنا﴾، وتقديمه على المفعول الصريح؛ للقصد إلى تعجيل المسرة، والتشويق إلى المتأخر، وقد يُجعل قوله: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢)﴾ كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك، فيكون كقول القائل: رفعنا عنك مشفة الزيارة لمن لم يصدر عنه زيارة قط، على سبيل المبالغة في انتفاء الزيارة منه له،
٣ - ثم وصف هذا
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
الوزر، فقال: ﴿الَّذِي أَنْقَضَ﴾ وأثقل ﴿ظَهْرَكَ﴾، قال الزجاج: أثقله حتى سمع له نقيض؛ أي: صوت، وهذا مثل معناه: أنه لو كان حملًا يحمل لسمع نقيض ظهره؛ أي: صوته، وأهل اللغة يقولون: أنقَضَ الحِمْلُ ظهر الناقة إذا سُمع له صرير؛ أي: صوت، قال قتادة: كان للنبي - ﷺ - ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له، وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوة التي تُثقل الظهر من القيام بأمرها، سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت له، وكذا قال أبو عبيدة وغيره.
وعبارة "الروح" هنا: مُثِّل (١) به حاله - ﷺ - مما كان يثقل عليه، ويغمه من فرطاته قبل النبوة، من من عدم إحاطته بتفاصيل الأحكام والشرائع، ومن تهالكه على إسلام المعاندين من قومه وتلهفه، ووضعه عنه مغفرته، كما قال: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ وتعليم الشرائع، وتمهيد عذره بعد أن بلَّغ وبالغ اهـ.
وقرأ ابن مسعود (٢): ﴿وحللنا عنك وقرك﴾ ومعنى (٣) الآية؛ أي: حططنا عنك ما أثقل ظهرك من أعباء الرسالة حتى تبلِّغها، فجعلنا التبليغ عليك سهلًا، ونفسك به مطمئنة راضية، ولو قوبلت بالإساءة ممن أرسلت إليهم، كما يرضى الرجل بالعمل لأبنائه ويهتم بهم، فالعبء مهما ثقل عليه يخففه ما يجيش بقلبه من العطف عليهم والحدب على راحتهم، ويتحمل الشدائد وهو راض بما يقاسي في سبيل حياطتهم وتنشئتهم.
٤ - ثم ذكر سبحانه منته عليه وكرامته عنده، فقال: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)﴾ بعنوان النبوة والرسالة وأحكامها، روى (٤) البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ -: أنه سأل جبريل عن هذه الآية ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)﴾ قال: قال الله عن وجل: "إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي"، قال ابن عباس يريد الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر، فلو أن عبدًا عَبَدَ الله وصدَّقه في كل شيء، ولم يشهد أن محمدًا - ﷺ - رسول الله.. لم ينتفع من ذلك بشيء وكان كافرًا، وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) الخازن.
وقال الضحاك: لا تُقبل صلاة إلا به، ولا تجوز خطبة إلا به، وقال مجاهد: يريد التأذين، وقيل: المعنى: ذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وعند المؤمنين في الأرض، والظاهر (١) أن هذا الرفع، لذكره الذي امتن الله به عليه يتناول جميع هذه الأمور، فكل واحد منها من أسباب رفع الذكر، وكذلك أمره بالصلاة والسلام عليه، وإخباره - ﷺ - عن الله عَزَّ وَجَلَّ أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرًا، وأمر الله بطاعته، كقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ وقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ وغير ذلك، وبالجملة فقد ملأ ذكره الجليل السموات والأرضين، وجعل الله له من لسان الصدق والذكر الحسن والثناء الصالح ما لم يجعله لأحد من عباده ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ وفيه يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُبُوَّةِ خَاتَمٌ مِنَ اللهِ مَشْهُوْرٌ يَلُوْحُ وَيَشْهَدُ
وَضَمَّ الإِلهُ اسْمَ النَّبِيِّ مَعَ اسْمِهِ إِذَا قَالَ فِيْ الْخَمْسِ الْمُؤَذَّنُ أَشْهَدُ
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذُوْ الْعَرْشِ مَحْمُوْدٌ وَهَذَا محَمَّدُ
وقيل: رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به، والإقرار بفضله، وقيل: رفع ذكره بأن قرن اسمه باسمه في قوله: محمد رسول الله، وقيل غير ذلك مما جاء في القرآن وغيره من كتب الأنبياء،
٥ - ثم وعده باليسر والرخاء بعد الشدة والعناء، وذلك أنه - ﷺ - كان في شدة بمكة، فقال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ﴾ والضيق والشدة التي فيها من جهاد المشركين وإيذائهم ﴿يُسْرًا﴾ ورخاء بأن يظهرك عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به؛ أي: إن مع الضيقة سعةً ومع الشدة رخاء، ومع الكرب فرحًا، وفي هذا وعد منه سبحانه وتعالى له - ﷺ - وللمؤمنين بأن كل عسير عليكم يتيسر، وكل شديد يهون، وكل صعب يلين، فاللام فيه للاستغراق، وتقرير لما قبله.
(١) الشوكاني.
قال في "الكشاف": فإن قلت: كيف تعلق قوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥)﴾ بما قبله؟
قلت: كان المشركون يعيرون رسول الله - ﷺ - والمؤمنين بالفقر والضيقة، حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإِسلام؛ لافتقار أهله واحتقارهم، فذكَّره ما أنعم الله به من جلائل النعم، ثم قال: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ...﴾ إلخ، كأنه قيل: خولناك من جلائل النعم، فكن على ثقة بفضل الله ولطفه، فإن مع العسر يسرا كثيرًا. انتهى.
وفي كلمة ﴿مَعَ﴾ إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر، وإلا فالظاهر ذكر كلمة المعاقبة لا أداة المصاحبة؛ لأن الضدين لا يجتمعان، بل يتعاقبان، وقال بعضهم هي: معية امتزاج لا معية مقارنة ولا تعاقب، ولذلك كررها، فلولا وجود اليسر في العسر.. لم يبق عسر لعموم الهلاك، ولولا وجود العسر في اليسر. لم يبق يسر:
وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأَشْيَاءُ
ثم إن العسر يؤول كله إلى اليسر، فقد سبقت الرحمة الغضب، وذلك عناية من الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك قد يكون مصقلة وجلاء لقلوب الأكابر، وتوسعة لاستعدادهم، فتتسع لتجلي الأنوار والمعارف، وكما أن حظهم من الملائم أوفر، فكذلك غير الملائم، قال النبي - ﷺ -: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل".
ولذلك قال الله تعالى: ﴿أدعوني أستجب لكم﴾، وقال - ﷺ -: "إن الله يحب الملحين في الدعاء"، وفي تعريف العسر وتنكير اليسر إشارة لطيفة إلى أن الدنيا دار العسر، فالعسر عند السامع معلوم معهود، واليسر مجهول مبهم.
٦ - ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريرًا وتأكيدًا، فقال مكررًا له بلفظه: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)﴾: إن (١) مع ذلك العسر المذكور سابقًا يسرًا آخر، لما تقرر من أنه إذا أُعيد المعرَّف يكون الثاني غير الأول، سواء كان المراد به الجنس أو العهد، بخلاف المُنكّر إذا أعيد، فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأول في
(١) الشوكاني.
112
الغالب، كقولك: كسبت درهمًا، فأنفقت درهمًا، فالثاني غير الأول، وإذا قلت: كسبت درهمًا فأنفقت الدرهم، فالثاني هو الأول، كما قال السيوطي في "عقود الجمان":
ثُمّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهَرَهْ إِذَا أَتَتْ نَكِرَةً مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَتْ وَإنْ يُعَرَّفْ ثَانِيْ تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ
فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف، فكان عسرًا واحدًا، واليسر مكرر بلفظ التنكير، فكانا يسرين، فكأنه سبحانه قال: فإن مع العسر يسرًا إن مع ذلك العسر يسرًا آخر، قال الحسن: لما نزلت هذه الآية.. قال رسول الله - ﷺ -: "أبشروا فقد جاءكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين"، وقال ابن مسعود: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه إنه لن يغلب عسر يسرين. وزيف أبو (١) علي الحسن بن يحيى الجرجاني هذا القول، وقال: قد تكلم الناس في قوله: لن يغلب عسر يسرين، فلم يحصل منه غير قولهم: إن العسر معرفة، واليسر نكرة، فواجب أن يكون عسر واحد ويسران، وهذا قول مدخول فيه معترض، فإنه إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفًا إن مع الفارس سيفًا، فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحدًا، والسيف اثنين، فمجاز قوله - ﷺ -: "لن يغلب عسر يسرين" أن الله عز وجل بعث نبيه - ﷺ - وهو مقل مخف، فكانت قريش تعيَّره بذلك حتى قالوا: إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالًا حتى تكون كأيسر أهل مكة، فاغتم النبي - ﷺ - لذلك، وظن أن قومه إنما كذبوه لفقره، فعددَّ الله سبحانه نعمه عليه في هذه السورة، ووعده الغنى؛ ليسلَّيه بذلك عما خامره من الغم، فقال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥)﴾؛ أي: لا يحزنك الذي يقولون، فإن مع العسر الذي في الدنيا يسرًا عاجلًا، ثم أنجز ما وعده، وفتح عليه القرى القريبة، ووسَّع ذات يده حتى كان يُعطي المئين من الإبل، ويهب الهبة السنية، ثم ابتدأ فضلًا آخر من أمور الآخرة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)﴾، والدليل (٢) على ابتدائه تعنيه من الفاء والواو، وهذا وعد لجميع المؤمنين.
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
113
والمعنى: أن مع العسر الذي في الدنيا للمؤمن يسرًا في الآخرة، وربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا؛ وهو ما ذكره في الآية الأولى، ويسر الآخرة؛ وهو ما ذكره في الآية الثانية، فقوله: "لن يغلب عسر يسرين". أي: إن عسر الدنيا لن يغلب اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة، إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا، فأما يُسر الآخرة فدائم أبدًا غير زائل؛ أي: لا يجتمعان في الغلبة، فهو كقوله - ﷺ -: "شهرا عيد لا ينقصان"؛ أي: لا يجتمعان في النقص، قال القشيري: كنت يومًا في البادية بحالة من الغم، فألقي في روعي بيت شعر، فقلت:
أَرَى الْمَوْتَ لِمَن أَصْبَحَ مَغْمُوْمًا لَهُ أَرْوَحْ
فلما جن الليل سمعت هاتفًا يهتف في الهواء:
أَلَا يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ الْـ لَذِيْ الْهَمُّ بِهِ بَرَّحْ
وَقَدْ أَنْشَدْتَ بَيْتًا لَمْ يَزَلْ في فِكْرِهِ يَسْبَحْ
إِذَا اشْتَدَّ بِكَ الْعُسْرُ فَفَكّرْ فِيْ أَلَمْ نَشْرَحْ
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ إِذَا أَبْصَرْتَهُ فَافْرَحْ
قال: فحفظت الأبيات ففرَّج الله عني، وقال إسحاق بن بهلول القاضي:
فَلَا تَيْأَسْ إِذَا أَعْسَرْتَ يَوْمًا فَقَدْ أَيْسَرْتَ فِيْ دَهْرِ طَوِيْلِ
وَلَا تَظْنُنْ بِرَبَّكَ ظَنَّ سُوْءٍ فَإِنَّ الله أَوْلَى بِالْجَمِيْلِ
فَإِنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ يَسَارٌ وَقَوْلُ الله أَصْدَقُ كُلِّ قِيْلِ
وقال أحمد بن سليمان في المعنى:
تَوَقَّعْ لِعُسْرٍ دَهَاكَ سُرُوْرَا تَرَى الْعُسْرَ عَنْكَ بِيُسْرٍ تَسَرَّى
فَمَا الله يُخْلِفُ مِيْعَادَهُ وَقَدْ قَالَ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَا
وقال غيره:
وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ يَكُوْنُ وَرَاءَهَا فَرَجٌ قَرِيْبُ
وقرأ الجمهور: بسكون السين في العسر واليسر في الموضعين، وقرأ يحيى بن
114
وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمها في الجميع.
وعبارة "المراغي" هنا: قوله: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)﴾؛ أي: وجعلناك على الشأن رفيع المنزلة عظيم القدر، وأي منزلة أرفع من النبوة التي منحكها الله سبحانه، وأي ذكر أنبه من أن يكون لك في كل طرف من أطراف المعمورة أتباع يمتثلون أوامرك، ويجتنبون نواهيك، ويرون طاعتك مغنمًا، ومعصيتك مغرمًا؟ وهل من فخار بعد ذكرك في كلمة الإيمان مع العلي الرحمن، وأي ذكر أرفع من ذكر من فرض الله على الناس الإقرار بنبوته، وجعل الاعتراف برسالته بعد بلوغ دعوته شرطًا في دخول جنته؟ هذا إلى أنه - ﷺ - أنقذ أممًا كثيرة من رق الأوهام، وفساد الأحلام، ورجع بهم إلى الفطرة الأولى من حرية العقل، والإرادة والإصابة في معرفة الحق، ومعرفة من يُقصَد بالعبادة، فاتحدت كلمتهم في الاعتقاد بإله واحد، بعد أن كانوا متفرقين طرائق قددًا، عُبَّاد أصنام وأوثان وشموس وأقمار، لا يجدون إلى الهدى سبيلًا، ولا للوصول إلى الحق طريقًا، فازاح عنهم تلك الغمة، وأنار لهم طريق الهدى والرشاد.
وقوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥)﴾؛ أي: فإن مع الضيق فرجًا، ومع قلة الوسائل إلى إدراك المطلوب مخرجًا إذا تدرع المرء بالصبر، وتوكل على ربه، ولقد كان هذا حال النبي - ﷺ -، فإنه قد ضاق به الأمر في بادىء أمره قبل النبوة وبعدها؛ إذ تألب عليه قومه، لكن لم يثنه ذلك عن عزمه، ولم يفلل من حده، بل صبر على مكروههم، وألقى بنفسه في غمرات الدعوة متوكلًا على ربه محتسبًا نفسه عنده، راضيًا بكل ما يجد في هذا السبيل من أذى، ولم تزل هذه حاله حتى قيَّض الله له أنصارًا أُشرِبت قلوبهم حُبَّه، ومُلئت نفوسهم بالرغبة الصادقة في الدفاع عنه وعن دينه، ورأوا أن لا حياة لهم إلا بهدم أركان الشرك والوثنية، فاشتروا ما عند الله تعالى من جزيل الثواب بأرواحهم وأموالهم وأزواجهم، ثم كان منهم من قوَّض دعائم الأكاسرة، وأباد جيوش الأباطرة والقياصرة.
وقصارى ذلك: أنه مهما اشتد العسر وكانت النفس حريصة على الخروج منه، طالبة كشف شدته، مستعملة أجمل وسائل الفكر والنظر في الخلاص منه، معتصمة بالتوكل على ربها، فإنها ولا ريب ستخرج ظافرة مهما أقيم أمامها من عقبات، واعترضها من بلايا ومحن.
115
وفي هذا: عبرة لرسوله - ﷺ - بأنه سيبدل حاله من الفقر إلى الغنى، ومن قلة الأعوان إلى كثرة الإخوان، ومن عداوة قومه إلى محبتهم إلى أشباه ذلك،
٧ - ولما (١) عدد الله سبحانه على نبيه - ﷺ - نعمه السالفة.. بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة، والنصب فيها، وأن لا يخفي وقتًا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى، فقال: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ﴾ من عبادة، أي عبادة كالصلاة والصوم والدعوة ﴿فَانْصَبْ﴾؛ أي: فأتعب نفسك بأخرى؛ أي: فأتبعها بعبادة أخرى، واجتهد فيها كالنوافل مما ذكر، والنَصَب - محركًا - التعب، قال ابن عباس: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في المسألة يعطك، وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، وقيل: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، وقيل: إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك، وقيل: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب في الاستغفار لك وللمؤمنين، قال الرازي: وبالجملة فالمراد: أن يواصل بين بعض العبادة وبعض آخر، وأن لا يخلِّي وقتًا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى اهـ.
وقال عمر بن الخطاب: إني لأكره أن أرى أحدكم فارغًا سبهللًا، لا في عمل دنياه، ولا في عمل آخرته، والسبهلل: الذي لا شيء معه، وقيل السبهلل: الباطل، وقال الحسن: إذا كنت صحيحًا فاجعل فراغك في العبادة، كما روي أن شريحًا مر برجلين يتصارعان، وآخر فارغ، فقال: ما أمر بهذا إنما قال: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧)﴾، وقعود الرجل فارغًا من غير شغل، من اشتغاله بما لا يعنيه في دينه من دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة.
٨ - ﴿وَإِلَى رَبِّكَ﴾ ومالك أمرك وحده ﴿فَارْغَبْ﴾؛ أي: فتضرع وتذلل إليه راغبًا في الجنة راهبًا من النار، وقيل: اجعل رغبتك إلى الله تعالى في جميع أحوالك، لا إلى أحد سواه.
والمعنى: أنه يرغب إليه تعالى لا إلى غيره كائنًا من كان، فلا يطلب حاجاته إلا منه، ولا يعوِّل في جميع أموره إلا إليه.
(١) الخازن.
116
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَرَغْتَ﴾ بفتح الراء، وأبو السمال بكسرها، وهي لغة، قال الزمخشري: ليست بفصيحة، وقرأ الجمهور: ﴿فَانْصَبْ﴾ بسكون الباء خفيفة، وقرأ قوم: بشدها مفتوحة، أمر من الانصباب، وقرأ آخرون من الإمامية: ﴿فانصب﴾ بكسر الصاد، بمعنى: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب خليفة، قال في "الكشاف": ومن البدع ما روي عن بعض الرافضة: أنه قرأ: ﴿فانصب﴾ بكسر الصاد؛ أي: فانصب عليًا للإمامة، ولو صح هذا للرافضة.. لصح للناصبي أن يقرأ هكذا، ويجعله أمرًا بالنصب الذي هو بغض علي وعداوته اهـ.
وقال ابن عطية: وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم. انتهى. وقرأ الجمهور: ﴿فَارْغَبْ﴾ أمرًا من رغب ثلاثيًا؛ أي: اصرف وجه الرغبات إليه تعالى، لا إلى سواه، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: ﴿فرَغِّب﴾ أمر من: رغَّب المضعّف بشد الغين؛ أي: فرغِّب الناس إلى الله سبحانه، وشوِّقهم إلى ما عنده من الخير.
والمعنى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧)﴾؛ أي: فإذا فرغت من عمل فاتعب في مزاولة عمل آخر، فإنك ستجد في المثابرة لذة تقر بها عينك ويثلج لها صدرك، وفي هذا حث له - ﷺ - على المواظبة على العمل واستدامته. ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)﴾؛ أي: ولا ترغب في ثواب أعمالك وتثميرها إلا إلى ربك وحده، فإنه هو الحقيق بالتوجه إليه والضراعة له.
الإعراب
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف جزم. ﴿نَشْرَحْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ ﴿لم﴾، والجملة مستأنفة. ﴿لَكَ﴾ متعلق بـ ﴿نَشْرَحْ﴾. ﴿صَدْرَكَ﴾: مفعول به. ﴿وَوَضَعْنَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿وضعنا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَنْكَ﴾: متعلق به. ﴿وِزْرَكَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على
(١) البحر المحيط.
117
جملة ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ باعتبار المعنى؛ أي: شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك، كما مر ﴿الَّذِي﴾: صفة للوزر. ﴿أَنْقَضَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول. ﴿ظَهْرَكَ﴾: مفعول به. لـ ﴿أَنْقَضَ﴾، وجملة ﴿أَنْقَضَ﴾ صلة الموصول. ﴿وَرَفَعْنَا﴾: ﴿رفعنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ما قبله. ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿رفعنا﴾. ﴿ذِكْرَكَ﴾: مفعول به.
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)﴾.
﴿فَإِنَّ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: خوّلناك ما خوّلناك، فلا يخامرك البأس، فإن مع العسر يسرًا، ﴿إن﴾: حرف نصب. ﴿مَعَ﴾: ظرف بمعنى: بعد متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ ﴿إن﴾، وفي التعبير بـ ﴿مَعَ﴾ إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر. ﴿مَعَ﴾: مضاف. ﴿الْعُسْرِ﴾: مضاف إليه. ﴿يُسْرًا﴾: اسم ﴿إنَّ﴾ مؤخر، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على تلك الجملة المحذوفة عطف علة على معلول. ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿مَعَ الْعُسْرِ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾ مقدم. ﴿يُسْرًا﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة، لتقرير أن العسر متبوع بيسر، أو مكررة لتأكيد ما قبلها.
﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)﴾.
﴿فَإِذَا﴾ الفاء: استئنافية، أو فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما خولناك من النعم الجسام، وأردت بيان ما هو اللازم لك في الشكر.. فأقول لك: إذا فرغت إلخ ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط متعلق بالجواب. ﴿فَرَغْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿فَانْصَبْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾، ﴿انصب﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب. ﴿وَإِلَى رَبِّكَ﴾: متعلق بـ ﴿ارغب﴾، ولا تمنع الفاء من تعلقه به؛ لأنها فاء الربط، فهي كالزائدة. ﴿فَارْغَبْ﴾: ﴿الفاء﴾: زائدة، لتأكيد ربط الجواب، ﴿ارغب﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة معطوفة على جملة الجواب لا محل لها.
118
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ قال الراغب: الشرح بسط اللحم ونحوه، يقال: شرحت اللحم وشرحته إذا بسطته، ومنه شرح الصدر بنور إلهي وسكينة من جهة الله تعالى وروح منه، والشرح أيضًا التوسعة، والعرب تطلق الصدر وتريد به القوة وعظيم المنة والمسرة وانبساط النفس، ويفخرون بذلك في مدائحهم من قبل أن سعة الصدر تُعطي الأحشاء فسحة للنمو والراحة، وإذا تم ذلك للمرء كان ذهنه حاضرًا لا يضيق ذرعًا بأمر.
﴿وِزْرَكَ﴾ والوزر: الحمل الثقيل أو الذنب.
﴿الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣)﴾؛ أي: أثقله، والظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أي: صوت خفي، وفي "القاموس": أنقض ظهرك أثقله حتى جعله نقضًا؛ أي: مهزولًا، من أثقله حتى سُمع نقيضه؛ أي: صوته، وفي "المختار": وأصل الإنقاض: صوت مثل النقر، وقال أبو حيان: وقال أهل اللغة: أنقض الحِمْلُ ظهر الناقة إذا سمعتَ له صريرًا من شدة الحمل، وسمعت نقيض المرجل؛ أي: صريره، قال عباس بن مرداس:
وَأَنْقَضَ ظَهْرِيْ مَا تَطَوَّيْتُ مِنْهُمُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ مُشْفِقًا مُتَحَنِّنَا
وقال ابن خالويه: يقال أنقض ينقض إنقاضًا فهو منقض، ومعناه: أثقل ظهره اهـ، والنقض: الجمل المهزول، وجمعه: أنقاض.
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ﴾ العسر: الفقر والضعف، وجهالة الصديق، وقوة العدو، وإنكار الجميل.
﴿فَانْصَبْ﴾؛ أي: فاتعب نفسك في العبادة، واجتهد في الدعاء شكرًا؛ لما أوليناك من النعم السالفة، ووعدناك من الآلاء الآتية، وبه ارتبطت الآية بما قبلها، ويجوز أن يقال: فإذا فرغت من تلقي الوحي، فانصب واتعب في تبليغه، وفي "المختار": ونَصِب بمعنى: تعب، وبابه طرب، وفيه أيضًا فرغ من الشغل من باب دخل، وفراغًا أيضًا، وفيه أيضًا رغب فيه، أراده، وبابه: طرب، ورغبة أيضًا، وارتغب فيه مثله، ورغب عنه لم يرده، ويقال: رَغَّبه فيه ترغيبًا، وأرغبه فيه أيضًا.
119
﴿فَارْغَبْ﴾ أصل الرغبة: السعة في الشيء، يراد بها السعة في الإرادة، فإن قيل: رغب فيه وإليه يقتضي الحرص عليه، وإذا قيل: رغب عنه اقتضى صرف الرغبة عنه، والزهد فيه، وفي "القاموس": رغب فيه - كسمع - رغبًا، ويضم، رغبة أراده، وعنه لم يرده، وإليه رَغَبًا - محركة - ابتهل، من هو الضراعة والمسألة. والمعنى: فارغب بالسؤال، ولا تسأل غيره، فإنه القادر على إسعافك لا غيره.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام التقريري للامتنان والتذكير بنعم الرحمن في قوله: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١)﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣)﴾ شبّه الذنوب يحمل ثقيل يرهق كأهل الإنسان، ويعجز عن حمله بطريق الاستعارة التمثيلية، ونقول في تقرير هذه الاستعارة: شبه حاله بحال من آده الحمل، وكلله العرق، وبرح به الجهد، حتى إذا انحط عنه الحمل تنفس الصعداء، وانزاحت عنه الكروب والأهوال بجامع أن كلًا منهما مجهود مكروب مما يحمل يتبرم به ويتذمر منه، ويربو أن ينحط عن كاهله، ثم استعير التركيب الدال على حال المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية والقرينة حالية.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿صَدْرَكَ﴾، أي: قلبك فإنه من إطلاق المحل وإرادة الحال، والعلاقة المحلية.
ومنها: زيادة ﴿لَكَ﴾، للإيذان بأن الشرح من منافعه ومصالحه - ﷺ -؛ لأن بالشرح يحصل له الاستفادة والإفادة بالوحي.
ومنها: تقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح في قوله: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢)﴾ قصدًا إلى تعجيل المسرة له، وتشويقًا إلى المؤخر، وكذا يقال في قوله: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)﴾.
ومنها: التنكير للتفخيم والتعظيم في قوله: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)﴾ نكر اليسر
120
للتعظيم، كأنه قال: يسرًا عظيمًا.
ومنها: الجناس الناقص بين لفظ ﴿اليسر﴾ و ﴿الْعُسْرِ﴾.
ومنها: تكرير الجملة في قوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)﴾؛ لتقرير معناها في النفوس، وتمكينها في القلوب، ويسمى هذا أيضًا الإطناب.
تتمة: وفي "زاده": قوله: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)﴾ زاد لفظة ﴿لَكَ﴾ في ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ﴾، وفي: ﴿رفعنا لك﴾، وزاد لفظة: ﴿عَنْكَ﴾ في: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ﴾، فأي فائدة في تقديم الزيادة على المفاعيل الثلاثة؟ والجواب: أن زيادتها مقدمة عليها تفيد إبهام المشروح والموضوع والمرفوع، ثم توضيحه والإيضاح بعد الإبهام أوقع في الذهن.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
121
خلاصة ما تضمنته هذه السورة من المقاصد
اشتملت هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد:
١ - تعداد ما أنعم به على رسوله من النعم.
٢ - وعده له بإزالة ما نزل به من الشدائد والمحن.
٣ - أمره بالمداومة على الأعمال الصالحة.
٤ - التوكل عليه وحده، والرغبة فيما عنده (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) تمت سورة الانشراح بتوفيق الملك الفتاح أوائل ليلة السبت الليلة الثامنة عشرة من شهر ذي القعدة، من شهور سنة: ١٤١٦ هـ: ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
122
سورة التين
سورة التين مكية في قول الأكثرين، نزلت بعد سورة البروج، وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية، ويخالف هذه الرواية ما أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة التين بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآياتها: ثمان، وكلماتها: أربع وثلاثون، وحروفها: مئة وخمسة أحرف.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى ذكر في السورة السابقة حال أكمل خلق الله تعالى - ﷺ -، وذكر هنا حال النوع الإنساني وما ينتهي إليه أمره من ضعف بعد قوة، وشيخوخة بعد شباب وفتوة، وما أعده الله سبحانه وتعالى من تمام نعمته لمن آمن بالله ورسوله، ودوامها واستمرارها، وعدم انقطاعها، وأجر المؤمنين موصول، وكرامتهم عند الله تعال محفوظة، وهم بإذن الله تعالى لا يخرفون ولا يهرمون، ولا يذهب عقل من كان عالمًا عاملًا منهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ومن فضائلها: ما أخرجه البخاري ومسلم، وأهل "السنن" وغيرهم عن البراء بن عازب قال: كان النبي - ﷺ - في سفر، فصلى العشاء، فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، فما سمت أحدًا أحسنَ صوتًا ولا قراءة منه - ﷺ -.
وأخرج الخطيب عنه قال: صليت مع رسول الله - ﷺ - المغرب، فقرأ بالتين والزيتون.
ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وعبد بن حميد في "مسنده"، والطبراني عن عبد الله بن زيد أن النبي - ﷺ - قرأ في المغرب: والتين والزيتون.
ومنها: ما أخرجه ابن قانع وابن السكين والشيرازي في "الألقاب" عن زرعة بن خليفة قال: أتيت النبي - ﷺ - من اليمامة، فعرض علينا الإِسلام فأسلمنا، فلما صلينا
123
الغداة قرأ بالتين والزيتون، وإنا أنزلناه في ليلة القدر، وسميت سورة التين؛ لبدايتها بلفظ التين.
الناسخ والمنسوخ: قال ابن حزم رحمه الله: سورة التين كلها محكمة إلا آية واحدة، وهو قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)﴾ نُسخ معناها بآية السيف.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
124
Icon