تفسير سورة العصر

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة العصر من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
آياتها ثلاث
هي مكية، نزلت بعد سورة الشرح.
ومناسبتها لما قبلها : أنه ذكر في السورة السابقة أنهم اشتغلوا بالتفاخر والتكاثر، وبكل ما من شأنه أن يلهي عن طاعة الله، وذكر هنا أن طبيعة الإنسان داعية له إلى البوار، وموقعة له في الدمار، إلا من عصم الله، وأزال عنه شرر نفسه، فكأن هذا تعليل لما سلف، إلى أنه ذكر في السالفة صفة من اتبع نفسه وهواه، وجرى مع شيطانه حتى وقع في التهلكة، وهنا ذكر من تجمل بأجمل الطباع، فآمن بالله، وعمل الصالحات، وتواصى مع إخوانه على الاستمساك بعرى الحق، والاصطبار على مكارهه.

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح المفردات : العصر : الدهر.
الإيضاح :﴿ والعصر ﴾ أقسم ربنا سبحانه بالدهر لما فيه من أحداث وعبر يستدل به على قدرته وبالغ حكمته وواسع علمه، انظر إلى ما فيه من تعاقب الليل والنهار، وهما آيتان من آيات الله كما قال :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ﴾ [ فصلت : ٣٧ ] وإلى ما فيه من سراء وضراء، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وراحة وتعب، وحزن وفرح، إلى نحو ذلك مما يسترشد به حصيف الرأي إلى أن للكون خالقا ومدبرا، وهو الذي ينبغي أن يوجه إليه بالعبادة، ويدعي لكشف الضر وجلب الخير، إلا أن الكفار كانوا يضيفون أحداث السوء إلى الدهر، فيقولون : هذه نائبة من نوائب الدهر، وهذا زمان بلاء، فأرشدهم سبحانه إلى أن الدهر خلق من خلقه، وأنه ظرف تقع فيه الحوادث خيرها وشرها، فإن وقعت للمرء مصيبة فبما كسبت يداه، وليس للدهر فيها من سبب.
شرح المفردات : والإنسان : هو هذا النوع من المخلوقات، والخسر والخسران : النقصان وذهاب رأس المال، والمراد به ما ينغمس فيه الإنسان من الآفات المهلكة.
﴿ إن الإنسان لفي خسر ﴾ أي إن هذا الجنس من المخلوقات لخاسر في أعماله ضربا من الخسران إلا من استثناهم الله، فأعمال الإنسان هي مصدر شقائه، لا الزمان ولا المكان، وهي التي توقعه في الهلاك، فذنب المرء في حق بارئه، ومن يمنّ عليه بنعمه الجليلة وآلائه الجسيمة، جريمة لا تعدلها جريمة أخرى.
شرح المفردات : والحق : هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أرشد إليها دليل قاطع، أو عيان ومشاهدة، أو شريعة صحيحة جاء بها نبي معصوم. والصبر : قوة للنفس تدعوها إلى احتمال المشقة في العمل الطيب، وتهون عليها احتمال المكروه في سبيل الوصول إلى الأغراض الشريفة. والتواصي بالحق : أن يوصي بعضهم بما لا سبيل إلى إنكاره وهو كل فضيلة وخير، والتواصي بالصبر : أن يوصي بعضهم بعضا به ويحثه عليه، ولا يكون ذلك نافعا مقبولا إلا إذا كمل المرء نفسه به، وإلا صدق عليه قول أبي الأسود الدؤلي :
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ فاعتقدوا اعتقادا صحيحا أن للعالم كله إلها خالقا قادرا يرضى عن المطيع ويغضب على المعاصي، وأن هناك فرقا بين الفضيلة والرذيلة، فدفعهم ذلك إلى عمل البر والخير، وجماع ذلك نفع المرء نفسه، ونفعه للناس أجمعين.
وخلاصة أمرهم : أنهم باعوا الفاني الخسيس واشتروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات، فيا لها من صفقة ما أربحها، ومنقبة جامعة للخير ما أوضحها.
﴿ وتواصوا بالحق ﴾ أي وأوصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره، ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره، وهو الخير كله : من إيمان بالله عز وجل، واتباع لكتبه ورسله في كل عقد وعمل.
﴿ وتواصوا بالصبر ﴾ أي وأوصى بعضهم بعضا بالصبر عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية، وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها، وعلى ما يبتلي الله تعالى به عباده من المصايب، ويتلقاها بالرضا ظاهرا وباطنا، فلابد للنجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم، ويمكنوه من قلوبهم، ثم يحمل بعضهم بعضا على سلوك طريقه، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات التي لا قرار للنفوس عليها، ولا دليل يهدي إليها.
وخلاصة ما سلف : إن الناس جميعا في خسران إلا من اتصفوا بأربعة أشياء : الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فيعملون الخير ويدعون إلى العمل به، ولا يزحزحهم عن الدعوة إليه ما يلاقونه من مشقة وبلاء.
والإنسان جميعه خسر مساعيه وضلّ مناهجه، وصرف عمره في غير مطالبه، فهو قد جاء إلى الأرض ليخلص نفسه من الرذائل ويتحلى بالفضائل، حتى إذا رجع إلى عالم الأرواح كان أقوى جناحا، وأمضى سلاحا، لكنه حين رجع إلى مقره في عالم السماوات بالموت لم يجد إلا نقصا يحيط به، وجهلا يُرديه، فندم، إلا طائفة منه عاشوا في الدنيا مفكرين، فآمنوا بأنبيائهم، وصدقوا برسلهم، وأحبّوا بني جنسهم، وأحسنوا إلى إخوانهم فساعدوهم بأنفسهم وأموالهم، وصاروا معهم متعاضدين متعاونين، وصبروا على ما نزل بهم من الحدثان ورموا به من البهتان، فهؤلاء في الدنيا يفوزون بما يريدون، وفي الآخرة بالنعيم يفرحون.
جعلنا الله في زمرة أولئك العاملين الذين تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
Icon