تفسير سورة الهمزة

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة الهمزة من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
آياتها تسع
هي مكية، نزلت بعد سورة القيامة.
ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر سبحانه في السورة السابقة أن جميع أفراد الإنسان منغمسون في الضلال إلا من عصم الله، ذكر هنا بعض صفات أهل الضلال.
أسباب نزول هذه السورة :
قال عطاء والكلبي : نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم، وبخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويطعن فيه في وجهه.
وقال محمد بن إسحاق صاحب السيرة : ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف.

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح المفردات : ويل : أي خزي وعذاب، وهو لفظ يستعمل في الذم والتقبيح ؛ والمراد به التنبيه على قبح ما سيذكر بعد من صفاتهم، والهمزة المزة : الذي يطعن في أعراض الناس، ويظهر عيوبهم، ويحقر أعمالهم، تلذذا بالحط منهم، وترفعا عنهم ؛ وأصل الهمز : الكسر، يقال : همز كذا : أي كسره، وأصل اللمز الطعن، يقال : لمزه بالرمح : أي طعنه، ثم شاع استعمالها فيما ذكرنا، قال زياد الأعجم :
إذا لقيتك عن شحط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
وعن مجاهد وعطاء : الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة : الذي يغتاب من خلفه إذا غاب، ومنه قول حسان :
همزتك فاختضعت بذلّ نفس بقافية تأجج كالشواظ.
الإيضاح :﴿ ويل لكل همزة لمزة ﴾ أي سخط وعذاب من الله لكل طعان في الناس، أكال للحومهم، مؤذ لهم في غيبتهم أو في حضورهم.
شرح المفردات : عدده : أي عده مرة بعد أخرى شغفا به.
ثم ذكر سبب عيبه وطعنه في الناس فقال :
﴿ الذي جمع مالا وعدده ﴾ أي إن الذي دعاه إلى الحط من أقدار الناس والزراية بهم هو جمعه للمال وتعديده مرة بعد أخرى شغفا به وتلذذا بإحصائه ؛ لأنه يرى أن لا عز إلا به، ولا شرف بغيره، فهو كلما نظر إلى كثرة ما عنده ظن أنه بذلك قد ارتفعت مكانته، وهزأ بكل ذي فضل ومزية دونه، ثم هو لا يخشى أن تصيبه قارعة بهمزه ولمزه وتمزيقه أعراض الناس ؛ لأن غروره أنساه الموت، وأعمى بصيرته عن النظر في مآله، والتأمل في أحواله.
شرح المفردات : أخلده : أي ضمن له الخلود في الدنيا.
ثم بين خطأه في ظنه فقال :
﴿ يحسب أن ماله أخلده ﴾ أي يظن هذا الهمّاز العيّاب أن ما عنده من المال قد ضمن له الخلود في الدنيا، وأعطاه الأمان من الموت، فهو لذلك يعمل عمل من يظن أنه باق حيا أبد الدهر، ولا يعود إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيء الأعمال.
وبعد أن توعد من هذه صفاته بشديد العقاب، وأردفه ذكر السبب الذي حمله على ارتكاب هذه الخلال الممقوتة، من ظنه أن ماله يضمن له الأمان من الموت، أعقبه بتفصيل ما أعد له من هذا العذاب المحتوم فقال :﴿ كلا لينبذن في الحطمة ﴾
شرح المفردات : النبذ : الطرح مع الإهانة والتحقير، والحطمة : من الحطم، وهو الكسر، يقال : رجل حطمة إذا كان شديدا لا يبقي على شيء. وفي أمثالهم : شر الرِّعاء الحطمة : أي الذي يحطم ماشيته ويكسرها بشدة سوقها، قال :
قد لفها الليل بسواق حُطم ليس براعي إبل ولا غنم
*** ولا بجزار على ظهر وضم
والمراد بها النار ؛ لأنها تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب.
﴿ كلا لينبذن في الحطمة ﴾ أي ازدجر أيها العياب عما خير إليك من أن المال يخلدك ويبقيك، بل الذي ينفع هو العلم وصالح العمل، فإنك والله مطروح في النار لا محالة، لا يؤبه لك ولا ينظر إليك.
وأثر عن علي كرم الله وجهه من عظة له : يا كُميل، هلك خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. يريد أن خزان الأموال ممقوتون مكروهون عند الناس ؛ لأنهم لا ينالون منهم شيئا، أما العلماء فالثناء عليهم مستمر ما بقي على الأرض إنسان ينتفع بعلمهم، ويغترف من بحار فضلهم.
شرح المفردات : الحطمة : من الحطم، وهو الكسر، يقال : رجل حطمة، إذا كان شديدا لا يبقي على شيء. وفي أمثالهم : شر الرِّعاء الحطمة، أي الذي يحطم ماشيته ويكسرها بشدة سوقها، قال :
قد لفها الليل بسواق حُطم ليس براعي إبل ولا غنم
*** ولا بجزار على ظهر وضم
والمراد بها النار ؛ لأنها تحطم العظام، وتأكل اللحوم، حتى تهجم على القلوب.
ثم أخذ يهول أمر هذه النار ويعظم شأنها فقال :
﴿ وما أدراك ما الحطمة ﴾ أي إن هذه الحطمة مما لا تحيط بها معرفتك، ولا يقف على حقيقتها عقلك، فلا يعلم شأنها، ولا يقف على كنهها، إلا من أعدها لمن يستحقها.
ثم فسر هذه الحطمة بعد إبهامها فقال :
﴿ نار الله الموقدة ﴾ أي إنها النار التي لا تنسب إليه سبحانه، إذ هو الذي أنشأها وأعدها لعقاب العصاة والمذنبين، وفي وصفها بالموقدة إيماء إلى أنها لا تخمد أبدا ؛ بل هي ملتهبة التهابا لا يدرك حقيقته إلا من أوجدها.
شرح المفردات :﴿ تطلع على الأفئدة ﴾ : أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها.
ثم وصفها بأوصاف تخالف نيران الدنيا ليؤكد مخالفتها لها فقال :
( ١ ) ﴿ التي تطلع على الأفئدة ﴾ أي إنها تتغلب على الأفئدة وتقهرها، فتدخل في الأجواف حتى تصل إلى الصدور، فتأكل الأفئدة، والقلب أشد أجزاء البدن تألما، فإذا استولت عليه النار فأحرقته، فقد بلغ العذاب بالإنسان غاية لا يقدرها قدرها.
وقد يكون المراد بالاطلاع المعرفة والعلم، وكأن هذه النار تدرك ما في أفئدة الناس يوم البعث، فتميز العاصي عن المطيع، والخبيث عن الطيب، وتفرق بين من اجترحوا السيئات في حياتهم الأولى، ومن أحسنوا أعمالهم، وإنا لنكل أمر ذلك على علام الغيوب.
وفي وصفها بالاطلاع على الأفئدة التي أودعت باطن الإنسان في أخفى مكان منه إشارة إلى أنها إلى غيره أشد وصولا وأكثر تغلبا.
شرح المفردات : مؤصدة : أي مطبقة من أوصدت الباب : أي أغلقته قال :
تحن إلى أجبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء موصدة
( ٢ ) ﴿ إنها عليهم مؤصدة ﴾ أي إنها مطبقة عليهم لا يخرجون منها، ولا يستطيعون الخروج إذا شاؤوا، فهم ﴿ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ﴾ [ الحج : ٢٢ ].
شرح المفردات : العمد : واحدها عمود، وممدة : أي مطولة من أول الباب إلى آخره.
( ٣ ) ﴿ في عمد ممددة ﴾ قال مقاتل : إلا الأبواب أطبقت عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح اه.
والمراد بذلك تصوير شدة إطباق النار على هؤلاء وإحكامها عليهم، والمبالغة في ذلك ليودع في قلوبهم اليأس من الخلاص منها.
وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كون العمد من نار أو حديد، ولا في أنها تمتد طولا أو عرضا، ولا في أنها مشبهة لعمد الدنيا ؛ بل نكل أمر ذلك إلى الله ؛ لأن شأن الآخرة غير شأن الدنيا، ولم يأتنا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك، فالكلام فيه قول بلا علم، وافتراء على الله الكذب.
نسأل الله أن يحفظنا من غضبه، ويقينا شر النار الموصدة، بمنّه وكرمه.
Icon