تفسير سورة سورة المائدة من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المعروف بـنظم الدرر
.
لمؤلفه
برهان الدين البقاعي
.
المتوفي سنة 885 هـ
سورة المائدة١
وتسمى سورة العقود وسورة الأحبار٢.
مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد٣ الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه٤ واستدفاعاً لنقمه٥، وقصة المائدة٦ أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار.
﴿ بسم الله ﴾ أي٧ الذي تمت كلماته فصدقت وعوده٨ وعمت مكرماته ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته ﴿ الرحيم ﴾ الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته.
وتسمى سورة العقود وسورة الأحبار٢.
مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد٣ الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه٤ واستدفاعاً لنقمه٥، وقصة المائدة٦ أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار.
﴿ بسم الله ﴾ أي٧ الذي تمت كلماته فصدقت وعوده٨ وعمت مكرماته ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته ﴿ الرحيم ﴾ الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته.
١ وهي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال أبو جعفر بن بشر والشعبي: إنها مدنية إلا قوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم" فإنه نزل بمكة، وعدة آياتها مائة وعشرون عند الكوفيين، وثلاث وعشرون عند البصريين واثنان وعشرون عند غيرهم- راجع روح المعاني ٢/٢٣٩..
٢ زيد ما بين الحاجزين من ظ..
٣ في ظ: توجيه..
٤ في ظ: للنعمة..
٥ في ظ: للنقمة..
٦ سقط من ظ..
٧ زيد ما بين الحاجزين من ظ..
٨ في ظ: دعوته..
٢ زيد ما بين الحاجزين من ظ..
٣ في ظ: توجيه..
٤ في ظ: للنعمة..
٥ في ظ: للنقمة..
٦ سقط من ظ..
٧ زيد ما بين الحاجزين من ظ..
٨ في ظ: دعوته..
ﰡ
مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمة، وقصة المائدة أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها أن من زاغ عن
1
الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار.
﴿بسم الله﴾ أي الذي تمت كلماته فصدقت وعوده وعمت مكرماته ﴿الرحمن﴾ الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته ﴿الرحيم﴾ الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته.
لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر﴾ [الأنعام: ١٤٦]، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأنه شامل العلم، ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب الذي هو عيب، فقال مشيراً إلى أن الناس الذين خوطبوا أو تلك الأهلوا لأول أسنان الإيمان ووصفوا بما هم محتاجون إليه، وتخصيصهم مشير إلى أن من فوقهم من الأسنان عنده من الرسوخ ما يغنيه عن الحمل بالأمر، وذلك أبعث له على التدبر والأمتثال:
﴿بسم الله﴾ أي الذي تمت كلماته فصدقت وعوده وعمت مكرماته ﴿الرحمن﴾ الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته ﴿الرحيم﴾ الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته.
لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر﴾ [الأنعام: ١٤٦]، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأنه شامل العلم، ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب الذي هو عيب، فقال مشيراً إلى أن الناس الذين خوطبوا أو تلك الأهلوا لأول أسنان الإيمان ووصفوا بما هم محتاجون إليه، وتخصيصهم مشير إلى أن من فوقهم من الأسنان عنده من الرسوخ ما يغنيه عن الحمل بالأمر، وذلك أبعث له على التدبر والأمتثال:
2
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي ادعوا ذلك بألسنتهم ﴿أوفوا﴾ أي صدقوا ذلك بأن توفوا ﴿بالعقود﴾ أي العهود الموثقة المحكمة وهي تعم جميع أحكامه سبحانه فيما أحل أو حرم أو ندب على سبيل الفرض أو غيره، التي من جملتها الفرائض التي افتتحها بلفظ الإيصاء الذي هو من أعظم العهود، وتعم سائر ما بين الناس من ذلك، حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى بر، وأما غير ذلك فليس بعقد، بل حل بيد الشرع القوية، تذكيراً بما أشار إليه قوله تعالى في حق أولئك ﴿اذكروا نعمتي وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠] وإخباراً لهم بأنه أحل لهم ما حرم على أولئك، فقال على سبيل التعليل مشيراً إلى أن المقصود من النعمة كونها، لا بقيد فاعل مخصوص، وإلى أن المخاطبين يعلمون أنه لا منعم غيره سبحانه: ﴿أحلت لكم﴾ والإحلال من أجل العقود ﴿بهيمة﴾ وبينها بقوله: ﴿الأنعام﴾ أي أوفوا لأنه أحلّ لكم بشامل علمه وكامل قدرته لطفاً بكم ورحمة لكم ما حرم على من قبلكم من الإبل والبقر والغنم بإحلال أكلها والانتفاع بجلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من شأنها، فاحذروا أن تنقضوا كما نقضوا، فيحرم عليكم ما حرم عليهم، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم، ولا تعترضوا على نبيكم، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا، فإن ربكم
3
لا يسأل عما يفعل، وسيأتي في قوله:
﴿لا تسئلوا عن أشياء﴾ [المائدة: ١٠١] ما يؤيد هذا.
ولما كانوا ربما فهموا من هذا الإحلال ما ألفوا من الميتات ونحوها قال مستثنياً من نفس البهيمة، وهي في الأصل كل حي لا يميز، مخبراً أن من أعظم العقود ما قدم تحريمه من ذلك في البقرة: ﴿إلا ما يتلى عليكم﴾ أي في بهيمة الأنعام أنه محرم، فإنه لم يحل لكم، ونصب ﴿غير محلي الصيد﴾ على الحال أدل دليل على أن هذا السياق. وإن كان صريحه مذكراً بالنعمة لتشكر - فهو مشار به إلى التهديد إن كُفِرَت، أي أحل لكم ذلك في هذه الحال، فإن تركتموها انتفى الإحلال، وهذه مشيرة إلى تكذيب من حرم من ذلك ما أشير إليه بقوله تعالى في التي قبلها حكاية عن الشيطان ﴿ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله﴾ [النساء: ١١٩] من السائبة وما معها مما كانوا اتخذوه ديناً، وفصّلو فيه تفاصيل - كما سيأتي صريحاً في آخر هذه السورة بقوله تعالى: ﴿ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة﴾ [المائدة: ١٠٣] الآية، وكذا في آخر الأنعام، وفي الأمر بالوفاء بالعقود بعد الإخبار بأنه بكل شيء عليم غاية التحذير من تعمد الإخلال بشيء من ذلك وإن دق، وفي افتتاح هذه المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة عقب سورة النساء - التي من أعظم مقاصدها النكاح والإرث،
﴿لا تسئلوا عن أشياء﴾ [المائدة: ١٠١] ما يؤيد هذا.
ولما كانوا ربما فهموا من هذا الإحلال ما ألفوا من الميتات ونحوها قال مستثنياً من نفس البهيمة، وهي في الأصل كل حي لا يميز، مخبراً أن من أعظم العقود ما قدم تحريمه من ذلك في البقرة: ﴿إلا ما يتلى عليكم﴾ أي في بهيمة الأنعام أنه محرم، فإنه لم يحل لكم، ونصب ﴿غير محلي الصيد﴾ على الحال أدل دليل على أن هذا السياق. وإن كان صريحه مذكراً بالنعمة لتشكر - فهو مشار به إلى التهديد إن كُفِرَت، أي أحل لكم ذلك في هذه الحال، فإن تركتموها انتفى الإحلال، وهذه مشيرة إلى تكذيب من حرم من ذلك ما أشير إليه بقوله تعالى في التي قبلها حكاية عن الشيطان ﴿ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله﴾ [النساء: ١١٩] من السائبة وما معها مما كانوا اتخذوه ديناً، وفصّلو فيه تفاصيل - كما سيأتي صريحاً في آخر هذه السورة بقوله تعالى: ﴿ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة﴾ [المائدة: ١٠٣] الآية، وكذا في آخر الأنعام، وفي الأمر بالوفاء بالعقود بعد الإخبار بأنه بكل شيء عليم غاية التحذير من تعمد الإخلال بشيء من ذلك وإن دق، وفي افتتاح هذه المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة عقب سورة النساء - التي من أعظم مقاصدها النكاح والإرث،
4
المتضمن للموت المشروع فيهما الولائم والمآتم. أتم مناسبة، وقال ابن الزبير: لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم، ومن تنكب عن نهجهم، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذاً وتركاً، وجعل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه في قوله: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم والشهادة سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له» قلت: وهذا الحديث أخرجه البزار عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم» فذكره، وصحح الدارقطني وقفه، ورواه أبو يعلى الموصلي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً والطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قالك «قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» الإسلام عشرة أسهم، وقد خاب من لا سهم له: شهادة أن لا إله إلا الله سهم وهي الملة، والثانية: الصلاة وهي الفطرة، والثالثة: الزكاة وهي الطهور، والرابعة: الصوم وهي الجنة، والخامسة: الحج وهي الشريعة، والسادسة: الجهاد وهي الغزوة، والسابعة: الأمر بالمعروف
5
وهو الوفاء والثامنة: النهي عن المنكر وهي الحجة، والتاسعة: الجماعة وهي الألفة، والعاشرة: الطاعة وهي العصمة «
وفي سنده من ينظر في حاله؛ قال ابن الزبير: وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بني الإسلام على خمس» أي في الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر وغيره واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» قال ابن الزبير: وقد تحصلت - أي الأسهم الثمانية والدعائم الخمس - فيما مضى، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وأن ذلك ببغيهم وعداوتهم ونتقضهم العهود ﴿فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم﴾ [المائدة: ١٣] وكان النقض كل مخالفة، قال الله تعالى لعباده المؤمنين: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ [المائدة: ١] لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود، فحذر المؤمنين - انتهى. والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام وما شابهها من حيوان البر، ولكون الصيد مراد الدخول في بهيمة الأنعام استثنى بعض أحواله فقال: ﴿وأنتم حرم﴾ أي أحلت البهيمة مطلقاً إلا ما يتلى عليكم
وفي سنده من ينظر في حاله؛ قال ابن الزبير: وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بني الإسلام على خمس» أي في الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر وغيره واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» قال ابن الزبير: وقد تحصلت - أي الأسهم الثمانية والدعائم الخمس - فيما مضى، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وأن ذلك ببغيهم وعداوتهم ونتقضهم العهود ﴿فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم﴾ [المائدة: ١٣] وكان النقض كل مخالفة، قال الله تعالى لعباده المؤمنين: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ [المائدة: ١] لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود، فحذر المؤمنين - انتهى. والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام وما شابهها من حيوان البر، ولكون الصيد مراد الدخول في بهيمة الأنعام استثنى بعض أحواله فقال: ﴿وأنتم حرم﴾ أي أحلت البهيمة مطلقاً إلا ما يتلى عليكم
6
من ميتاتها وغيرها في غير حال الدخول في الإحرام بالحج أو العمرة أو دخول الحرم، وأما في حال الإحرام فلا يحل الصيد أكلاً ولا فعلاً.
ولما كان مدار هذه السنة على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد ألفهم لها والتفاتهم إليها، وعظمت فيها رغباتهم من الميتات وما معها، والأزلام والذبح على النصب، وأخذ الإنسان بجريمة الغير، والفساد في الأرض، والسرقة والخمر والسوائب والبحائر - إلى غير ذلك؛ ذكّر في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم ليلة العقبة حين تواثقوا على الإسلام من السمع والطاعة في المنشط والمكر والعسر واليسر فيما أحبوا وكرهوا، وختم الآية بقوله معللاً: ﴿إن الله﴾ أي ملك الملوك ﴿يحكم ما يريد *﴾ أي من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق كالأنعام، وفي حال دون حال كما شابهها من الصيد، فلا يسأل عن تخصيص ولا عن تفضيل ولا غيره، فما فهمتم حكمته فذاك، وما لا فكلوه إليه، وارغبوا في أن يلهمكم حكمته؛ قال الإمام - وهذا هو الذي يقوله أصحابنا -: إن علة حسن التكليف هو الربوبية والعبودية، لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصلحة.
ولما كان مدار هذه السنة على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد ألفهم لها والتفاتهم إليها، وعظمت فيها رغباتهم من الميتات وما معها، والأزلام والذبح على النصب، وأخذ الإنسان بجريمة الغير، والفساد في الأرض، والسرقة والخمر والسوائب والبحائر - إلى غير ذلك؛ ذكّر في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم ليلة العقبة حين تواثقوا على الإسلام من السمع والطاعة في المنشط والمكر والعسر واليسر فيما أحبوا وكرهوا، وختم الآية بقوله معللاً: ﴿إن الله﴾ أي ملك الملوك ﴿يحكم ما يريد *﴾ أي من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق كالأنعام، وفي حال دون حال كما شابهها من الصيد، فلا يسأل عن تخصيص ولا عن تفضيل ولا غيره، فما فهمتم حكمته فذاك، وما لا فكلوه إليه، وارغبوا في أن يلهمكم حكمته؛ قال الإمام - وهذا هو الذي يقوله أصحابنا -: إن علة حسن التكليف هو الربوبية والعبودية، لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصلحة.
7
ولما استثنى بعض ما أحل على سبيل الإبهام شرع في بيانه، ولما كان منه ما نهى عن التعرض له لا مطلقاً، بل ما يبلغ محله، بدأ به
7
لكونه في ذلك كالصيد، وقدم على ذلك عموم النهي عن انتهاك معالم الحج المنبه عليه بالإحرام، أو عن كل محرم في كل مكان وزمان، فقال مكرراً لندائهم تنويهاً بشأنهم وتنبيهاً لعزائمهم وتذكيراً لهم بما ألزموه أنفسهم: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي دخلوا في هذا الدين طائعين ﴿لا تحلو شعائر الله﴾ أي معالم حج بيت الملك الأعظم الحرام، أو حدوده في جميع الدين، وشعائر الحج أدخل في ذلك، والاصطياد أولاها.
ولما ذكر ما عممه في الحرم أو مطلقاً، أتبعه ما عممه في الزمان فقال: ﴿ولا الشهر الحرام﴾ أي فإن ذلك لم يزل معاقداً على احترامه في الجاهلية والإسلام، ولعله وحده والمراد الجمع إشارة إلى أن الأشهر الحرم كلها في الحرمة سواء.
ولما ذكر الحرم والأشهر الحرم ذكر ما يهدى للحرم فقال: ﴿ولا الهدي﴾ وخص منه أشرفه فقال: ﴿ولا القلائد﴾ أي صاحب القلائد من الهدي، وعبر بها مبالغة في تحريمه؛ ولما أكد في احترام ما قصد به الحرم من البهائم رقّى الخطاب إلى من قصده من العقلاء، فإنه مماثل لما تقدمه في أن قصد البيت الحرام حامٍ له وزاجر عنه، مع ما زاد به من شرف العقل فقال: ﴿ولا آمين﴾ أي ولا تحلوا التعرض لناس قاصدين ﴿البيت الحرام﴾ لأن من قصد بيت الملك كان محترماً باحترام ما قصده.
ولما ذكر ما عممه في الحرم أو مطلقاً، أتبعه ما عممه في الزمان فقال: ﴿ولا الشهر الحرام﴾ أي فإن ذلك لم يزل معاقداً على احترامه في الجاهلية والإسلام، ولعله وحده والمراد الجمع إشارة إلى أن الأشهر الحرم كلها في الحرمة سواء.
ولما ذكر الحرم والأشهر الحرم ذكر ما يهدى للحرم فقال: ﴿ولا الهدي﴾ وخص منه أشرفه فقال: ﴿ولا القلائد﴾ أي صاحب القلائد من الهدي، وعبر بها مبالغة في تحريمه؛ ولما أكد في احترام ما قصد به الحرم من البهائم رقّى الخطاب إلى من قصده من العقلاء، فإنه مماثل لما تقدمه في أن قصد البيت الحرام حامٍ له وزاجر عنه، مع ما زاد به من شرف العقل فقال: ﴿ولا آمين﴾ أي ولا تحلوا التعرض لناس قاصدين ﴿البيت الحرام﴾ لأن من قصد بيت الملك كان محترماً باحترام ما قصده.
8
ولما كان المراد القصد بالزيارة بقوله: ﴿يبتغون﴾ أي حال كونهم يطلبون على سبيل الاجتهاد ﴿فضلاً من ربهم﴾ أي المحسن إليهم شكراً لإحسانه، بأن يثيبهم على ذلك، لأن ثوابه لا يكون على وجه الاستحقاق الحقيقي أصلاً؛ ولما كان الثواب قد يكون مع السخط قال: ﴿ورضواناً﴾ وهذا ظاهر في المسلم، ويجوز أن يراد به أيضاً الكافر، لأن قصده البيت الحرام على هذا الوجه يرق قلبه فيهيئه للإسلام، وعلى هذا فهي منسوخة.
ولما كان التقدير: فإن لم يكونوا كذلك. أي في أصل القصد ولا في وصفه - فهم حل لكم وإن لم تكونوا أنتم حرماً، والصيد حلال لكم، عطف عليه التصريح بما أفهمه التقييد فيما سبق بالإحرام فقال: ﴿وإذا حللتم﴾ أي من الإحرام بقضاء المناسك والإحصار ﴿فاصطادوا﴾ وترك الشهر الحرام إذ كان الحرام فيه حراماً في غيره، وإنما صرح به تنويهاً بقدره وتعظيماً لحرمته، ثم أكد تحريم قاصد المسجد الحرام وإن كان كافراً، وإن كان على سبيل المجازاة بقوله: ﴿ولا يجرمنكم﴾ أي يحملنكم ﴿شنئان قوم﴾ أي شدة بغضهم.
ولما ذكر البغض أتبعه سببه فقال: ﴿إن﴾ على سبيل الاشتراط الذي يفهم تعبير الحكم به أنه سيقع، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو،
ولما كان التقدير: فإن لم يكونوا كذلك. أي في أصل القصد ولا في وصفه - فهم حل لكم وإن لم تكونوا أنتم حرماً، والصيد حلال لكم، عطف عليه التصريح بما أفهمه التقييد فيما سبق بالإحرام فقال: ﴿وإذا حللتم﴾ أي من الإحرام بقضاء المناسك والإحصار ﴿فاصطادوا﴾ وترك الشهر الحرام إذ كان الحرام فيه حراماً في غيره، وإنما صرح به تنويهاً بقدره وتعظيماً لحرمته، ثم أكد تحريم قاصد المسجد الحرام وإن كان كافراً، وإن كان على سبيل المجازاة بقوله: ﴿ولا يجرمنكم﴾ أي يحملنكم ﴿شنئان قوم﴾ أي شدة بغضهم.
ولما ذكر البغض أتبعه سببه فقال: ﴿إن﴾ على سبيل الاشتراط الذي يفهم تعبير الحكم به أنه سيقع، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو،
9
والتقدير في قراءة الباقين بالفتح: لأجل أن ﴿صدوكم﴾ أي في عام الحديبية أو غيره ﴿عن المسجد الحرام﴾ أي على ﴿أن تعتدوا﴾ أي يشتد عدوكم عليهم بأن تصدوهم عنه أو بغير ذلك، فإن المسلم من لم يزده تعدي عدوه فيه حدود الشرع إلا وقوفاً عند حدوده، وهذا قبل نزول
﴿إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام﴾ [التوبة: ٢٨] سنة تسع.
ولما نهاهم عن ذلك، وكان الانتهاء عن الحظوظ شديداً على النفوس، وكان لذلك لا بد في الغالب من منتهٍ وآبٍ، أمر بالتعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: ﴿وتعاونوا على البر﴾ وهو ما اتسع وطاب من حلال الخير ﴿والتقوى﴾ وهي كل ما يحمل على الخوف من الله، فإنه الحامل على البر، فإن كان منكم من اعتدى فتعاونوا على رده، وإلا فازدادوا بالمعاونة خيراً.
ولما كان المعين على الخير قد يعين على الشر قال تنبيهاً على الملازمة في المعاونة على الخير، ناهياً أن يغضب الإنسان لغضب أحد من صديق أو قريب إلا إذا كان الغضب له داعياً إلى بر وتقوى: ﴿ولا تعانوا على الإثم﴾ أي الذنب الذي يستلزم الضيق ﴿والعدوان﴾ أي المبالغة في مجاوزة الحدود والانتقام والتشفي وغير ذلك وكرر الأمر بالتقوى إشارة إلى أنها الحاملة على كل خير فقال: ﴿واتقوا﴾ أي الذي له صفات الكمال لذاته فلا تتعدوا شيئاً من حدوده؛ ولما كان
﴿إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام﴾ [التوبة: ٢٨] سنة تسع.
ولما نهاهم عن ذلك، وكان الانتهاء عن الحظوظ شديداً على النفوس، وكان لذلك لا بد في الغالب من منتهٍ وآبٍ، أمر بالتعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: ﴿وتعاونوا على البر﴾ وهو ما اتسع وطاب من حلال الخير ﴿والتقوى﴾ وهي كل ما يحمل على الخوف من الله، فإنه الحامل على البر، فإن كان منكم من اعتدى فتعاونوا على رده، وإلا فازدادوا بالمعاونة خيراً.
ولما كان المعين على الخير قد يعين على الشر قال تنبيهاً على الملازمة في المعاونة على الخير، ناهياً أن يغضب الإنسان لغضب أحد من صديق أو قريب إلا إذا كان الغضب له داعياً إلى بر وتقوى: ﴿ولا تعانوا على الإثم﴾ أي الذنب الذي يستلزم الضيق ﴿والعدوان﴾ أي المبالغة في مجاوزة الحدود والانتقام والتشفي وغير ذلك وكرر الأمر بالتقوى إشارة إلى أنها الحاملة على كل خير فقال: ﴿واتقوا﴾ أي الذي له صفات الكمال لذاته فلا تتعدوا شيئاً من حدوده؛ ولما كان
10
كف النفس عن الانتقام وزجرها عن شفاء داء الغيظ وتبريد غلة الاحن في غاية العسر، ختم الآية بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿شديد العقاب﴾.
11
ولما أتم الكلام على احترام أعظم المكان وأكرم الزمان وما لابسهما، فهذب النفوس بالنهي عن حظوظها، وأمر بعد تخليتها عن كل شر بتحليتها بكل خير عدّد على سبيل الاستئناف ما وعد بتلاوته عليهم مما حرم مطلقاً إلا في حال الضرورة فقا: ﴿حرمت﴾ بانياً الفعل للمفعول لأن الخطاب لمن يعلم أنه لا محرم إلا الله، وإشعاراًَ بأن هذه الأشياء لشدة قذارتها كأنها محرمة بنفسها ﴿عليكم الميتة﴾ وهي ما فقد الروح بغير ذكاة شرعية، فإن دم كل ما مات حتف أنفه يحبس في عروقه ويتعفن ويفسد، فيضر أكله البدن بهذا الضرر الظاهر، والدين بما يعلمه أهل البصائر ﴿والدم﴾ أي المسفوح، وهو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق ﴿ولحم الخنزير﴾ خصة بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارة أكله كالدين ﴿وما أهل﴾ ولما كان القصد في هذه السورة إلى حفظ محكم العهود المذكر بجلاله الباهر، قدم المفعول له فقال: ﴿لغير الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿به﴾ أي ذبح على اسم غيره من صنم أو غيره على وجه التقرب عبادة لذلك الشيء، والإهلاك: رفع الصوت.
ولما كان من الميتات ما لا تعافه النفوس عيافتها لغيره، نص عليه
ولما كان من الميتات ما لا تعافه النفوس عيافتها لغيره، نص عليه
11
فقال: ﴿والمنخنقة﴾ أي بحبل ونحوه، سواء خنقها أو لا ﴿والموقوذة﴾ أي المضروبة بمثقل، من: وقذه - إذا ضربه ﴿والمتردية﴾ أي الساقطة من عال، المضطربة غالباً في سقوطها ﴿والنطيحة﴾ أي التي نطحها فماتت ﴿وما أكل السبع﴾ أي كالذئب والنسر ونحوهما.
ولما كان كل واحدة من هذه قد تدرك حية فتذكى، استثنى فقال: ﴿إلا ما ذكيتم﴾ أي من ذلك كله بأن أدركتموه وفيه حياة مستقرة، بأن اشتد اضطرابه وانفجر منه الدم؛ ولما حرم الميتات وعد في جملتها ما ذكر عليه اسم غير الله عبادة، ذكر ما ذبح على الحجارة التي كانوا ينصبونها للذبح عندها تديناً وإن لم يذكر اسم شيء عليها فقال: ﴿ما ذبح على النصب﴾ وهو واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة تنصب، فيهل عليها ويذبح عندها تقرباً إليها وتعظيماً لها ﴿وأن تستقسموا﴾ أي تطلبوا على ما قسم لكم ﴿بالأزلام﴾ أي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها بوزن قلم وعمر وكانت ثلاثة، على واحد: أمرني ربي، وعلى آخر: نهاني ربي، والآخر غفل، فإن خرج الآمر فعل، أو الناهي ترك، أو الغفل أجيلت ثانية، فهو دخول في علم الغيب وافتراء على الله بادعاء أمره ونهيه، وإن أراد المنسوب إلى الصنم فهو الكفر الصريح وقال
ولما كان كل واحدة من هذه قد تدرك حية فتذكى، استثنى فقال: ﴿إلا ما ذكيتم﴾ أي من ذلك كله بأن أدركتموه وفيه حياة مستقرة، بأن اشتد اضطرابه وانفجر منه الدم؛ ولما حرم الميتات وعد في جملتها ما ذكر عليه اسم غير الله عبادة، ذكر ما ذبح على الحجارة التي كانوا ينصبونها للذبح عندها تديناً وإن لم يذكر اسم شيء عليها فقال: ﴿ما ذبح على النصب﴾ وهو واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة تنصب، فيهل عليها ويذبح عندها تقرباً إليها وتعظيماً لها ﴿وأن تستقسموا﴾ أي تطلبوا على ما قسم لكم ﴿بالأزلام﴾ أي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها بوزن قلم وعمر وكانت ثلاثة، على واحد: أمرني ربي، وعلى آخر: نهاني ربي، والآخر غفل، فإن خرج الآمر فعل، أو الناهي ترك، أو الغفل أجيلت ثانية، فهو دخول في علم الغيب وافتراء على الله بادعاء أمره ونهيه، وإن أراد المنسوب إلى الصنم فهو الكفر الصريح وقال
12
صاحب كتاب الزينة: يقال: إنه كانت عندهم سبعة قداح مستوية من شوحط، وكانت بيد السادن، مكتوب عليها «نعم» «لا» «منكم» «من غيركم» «ملصق» «العقل» «فضل العقل» فكانوا إذا اختلفوا في نسب الرجل جاؤوا إلى السادن بمائة درهم، ثم قالوا للصنم: يا إلهنا! قد تمارينا في نسب فلان، فأخرج علينا الحق فيه، فتجال القداح فإن خرج القدح الذي عليه «منكم» كان أوسطهم نسباً، وإن خرج الذي عليه «من غيركم» كان حليفاً وإن خرج «ملصق» كان على منزلته لا نسب له ولا حلف، وإذا أرادوا سفراً أو حاجة جاؤوا بمائة فقالوا: يا إلهنا! أردنا كذا، فإن خرج «نعم» فعلوا، وإن خرج «لا» لم يفعلوا، وإن جنى أحدهم جناية، فاختلفوا فيمن يحمل العقل جاؤوا بمائة فقالوا: يا إلهنا! فلان جنى عليه، أخرج الحق، فإن خرج القدح الذي عليه «العقل» لزم من ضرب عليه وبرىء الآخرون، وإن خرج غيره كان على الآخرين العقل، وكانوا إذا عقلوا العقل ففضل الشيء منه تداروا فيمن يحمله، فضربوا عليه؛ فإن خرج القدح الذي عليه «فضل العقل» للذي ضرب عليه لزمه، وإلا كان على الآخرين الذين لم يضرب عليهم فهذا الاستقسام الذي حرمه الله لأنه يكون عند الأصنام ويطلبون
13
ذلك منها، ويظنون أن الذي أخرج لهم ذلك هو الصنم، وأما إجالة السهام لا على هذا الوجه فهو جائز، هو وتساهم واقتراع لا استقسام وقال أبو عبيدة: واحد الأزلام زلم - بفتح الزاء، وقال بعضهم بالضم وهو القدح لا ريش له ولا نصل، فإذا كان مريَّشاً فهو السهم - والله أعلم؛ ويجوز أن يراد مع هذا ما كانوا يفعلونه في الميسر - على ما مضى في البقرة، فإنه طلب معرفة ما قسم من الجزور، ويلتحق بالأول كل كهانة وتنجيم، وكل طيرة يتطيرها الناس الآن من التشاؤم ببعض الأيام وبعض الأماكن والأحوال، فإياك أن تعرج على شيء من الطيرة، فتكون على شعبة جاهلية، ثم إياك!.
ولما كانت هذه الأشياء شديدة الخبث أشار إلى تعظيم النهي عنها بأداة البعد وميم الجمع فقال: ﴿ذلكم﴾ أي الذي ذكرت لكم تحريمه ﴿فسق﴾ أي فعله خروج من الدين.
ولما كانت هذه المنهيات معظم دين أهل الجاهلية، وكان سبحانه قد نهاهم قبلها عن إحلال شعائر الله والشهر الحرام وقاصدي المسجد الحرام بعد أن كان أباح لهم ذلك في بعض الأحوال والأوقات بقوله ﴿وأخرجوهم من حيث أخرجوكم - ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه﴾ [البقرة: ١٩١] ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام﴾ [البقرة: ١٩٤] {واقتلوهم حيث
ولما كانت هذه الأشياء شديدة الخبث أشار إلى تعظيم النهي عنها بأداة البعد وميم الجمع فقال: ﴿ذلكم﴾ أي الذي ذكرت لكم تحريمه ﴿فسق﴾ أي فعله خروج من الدين.
ولما كانت هذه المنهيات معظم دين أهل الجاهلية، وكان سبحانه قد نهاهم قبلها عن إحلال شعائر الله والشهر الحرام وقاصدي المسجد الحرام بعد أن كان أباح لهم ذلك في بعض الأحوال والأوقات بقوله ﴿وأخرجوهم من حيث أخرجوكم - ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه﴾ [البقرة: ١٩١] ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام﴾ [البقرة: ١٩٤] {واقتلوهم حيث
14
ثقفتموهم} [البقرة: ١٩١] علم أن الأمر بالكف عن انتهاز الفرص إنما هو للأمن من الفوت، وذلك لا يكون إلا من تمام القدرة، وهو لا يكون إلا بعد كمال الدين وإظهاره على كل دين - كما حصل به الوعد الصادق، وكذا الانتهاء عن جميع هذه المحارم إنما يكون لمن رسخ في الدين قدمه، وتمكنت فيه عزائمه وهممه، فلا التفات له إلى غيره ولا همه إلى سواه، ولا مطمع لمخالفه فيه، فعقب سبحانه النهي عن هذه المناهي كلها بقوله على سبيل النتيجة والتعليل: ﴿اليوم﴾ أي وقت نزول هذه الآية ﴿يئس الذين كفروا﴾ أي لابسوا الكفر سواء كانوا راسخين فهي أو لا ﴿من دينكم﴾ أي لم يبق لكم ولا لأحد منكم عذر في شيء من إظهار الموافقة لهم أو التستر من أحد منهم، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كاتبهم ليحمي بذلك ذوي رحمه، لأن الله تعالى قد كثركم بعد القلة، وأعزكم بعد الذلة، وأحيى بكم منار الشرع، وطمس معالم شرع الجهل، وهدّ منار الضلال، فأنا أخبركم - وأنتم عالمون بسعة علمي - أن الكفار قد اضمحلت قواهم، وماتت هممهم، وذلت نخوتهم، وضعفت عزائمهم، فانقطع رجاؤهم عن أن يغلبوكم أو يستميلوكم إلى دينهم بنوع استمالة، فإنهم رأوا دينكم قد قامت منائره، وعلت في المجامع منابره، وضرب محرابه، وبرّك بقواعده وأركانه، ولهذا سبب
15
عما مضى قوله: ﴿فلا تخشوهم﴾ أي أصلاً ﴿واخشون﴾ أي وامحضوا الخشية لي وحدي، فإن دينكم قد أكمل بدره، وجل عن المحلق محله وقدره، ورضي به الآمر، ومكنه على رغم أنف الأعداء.
وهو قادر على ذلك، وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ أي الذي أرسلت إليكم به أكمل خلقي لتدينوا به وتدانوا، وإكماله بإنزال كل ما يحتاج إليه من أصل وفرع، نصاً على البعض، وبياناً لطريق القياس في الباقي، وذلك بيان لجميع الأحكام، وأما قبل ذلك اليوم فهو وإن كان كاملاً لكنه بغير هذا المعنى، بل إلى حين ثم يزيد فيه سبحانه ما يشاء، فيكون به كاملاً أيضاً وأكمل مما مضى، وهكذا إلى هذه النهاية، وكان هذا هو المراد من قوله: ﴿وأتممت عليكم نعمتي﴾ أي التي قسمتها في القدم من هذا الدين على لسان هذا الرسول، بأن جمعت عليه كلمة العرب الذين قضيت في القدم بإظهارهم على من ناواهم من جميع أهل الملل، ليظهر بهم الدين، وتنكسر شوكة المفسدين من غير حاجة في ذلك إلى غيرهم وإن كانوا بالنسبة إلى المخالفين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ﴿ورضيت لكم الإسلام﴾ أي الذي هو الشهادة لله بما شهد به لنفسه من الوحدانية التي لمن يتبع الإذعان لها الإذعان لكل طاعة ﴿ديناً﴾ تتجازون به فيما بينكم ويجازيكم به ربكم؛
وهو قادر على ذلك، وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ أي الذي أرسلت إليكم به أكمل خلقي لتدينوا به وتدانوا، وإكماله بإنزال كل ما يحتاج إليه من أصل وفرع، نصاً على البعض، وبياناً لطريق القياس في الباقي، وذلك بيان لجميع الأحكام، وأما قبل ذلك اليوم فهو وإن كان كاملاً لكنه بغير هذا المعنى، بل إلى حين ثم يزيد فيه سبحانه ما يشاء، فيكون به كاملاً أيضاً وأكمل مما مضى، وهكذا إلى هذه النهاية، وكان هذا هو المراد من قوله: ﴿وأتممت عليكم نعمتي﴾ أي التي قسمتها في القدم من هذا الدين على لسان هذا الرسول، بأن جمعت عليه كلمة العرب الذين قضيت في القدم بإظهارهم على من ناواهم من جميع أهل الملل، ليظهر بهم الدين، وتنكسر شوكة المفسدين من غير حاجة في ذلك إلى غيرهم وإن كانوا بالنسبة إلى المخالفين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ﴿ورضيت لكم الإسلام﴾ أي الذي هو الشهادة لله بما شهد به لنفسه من الوحدانية التي لمن يتبع الإذعان لها الإذعان لكل طاعة ﴿ديناً﴾ تتجازون به فيما بينكم ويجازيكم به ربكم؛
16
روى البخاري في المغازي وغيره، ومسلم في آخر الكتاب، والترمذي في التفسير، والنسائي في الحج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ فقال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة» وفي التفسير من البخاري عن طارق بن شهاب «قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أنزلت» وقال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذلك اليوم خمسة أعياد: جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده، قلت: ويوم الجمعة هو اليوم الذي أتم الله فيه خلق هذه الموجودات بخلق آدم عليه السلام بعد عصره، وهو حين نزول هذه الآية إن شاء الله تعالى، فكانت تلك الساعة من ذلك اليوم تماماً ابتداء، وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: «لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فإذا كمل
«ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فإذا كمل
17
فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، قال: صدقت!» فكانت هذه الآية نعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً وقد روي أنه كان هجيري النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عرفة من العصر إلى الغروب شهد الله أنه لا إله إلا هو - الآية، وكأن ذلك كان جواباً منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذه الآية، لفهمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن إنزال آية سر الإسلام وأعظمه وأكمله، وهذه الآية من المعجزات، لأنها إخبار بمغيب صدقها فيه الواقع.
ولما تمت هذه الجمل الاعتراضية التي صار ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها بأحكام الرصف واتقان الربط من الامتزاج أشد مما بين الروح والجسد، المشيرة إلى أن هذه المحرمات هي التي تحقق بها أهل الكفر كمال المخالفة، فأيسوا معها من المواصلة والمؤالفة؛ رجع إلى تتمات لتلك المحظورات، فقال مسبباً عن الرضى بالإسلام الذي هو الحنيفة السمحة المحرمة لهذه الخبائث لإضرارها بالبدن والدين: ﴿فمن اضطر﴾ أي ألجىء إلجاء عظيماً - من أي شيء كان - إلى تناول شيء مما مضى أنه حرم، بحيث لا يمكنه معه الكف عنه ﴿في مخمصة﴾ أي مجاعة عظيمة ﴿غير متجانف﴾ أي متعمد ميلاً ﴿لإثم﴾ أي بالأكل على غير سد الرمق، أو بالبغي على مضطر آخر بنوع مكر أو العدو عليه
ولما تمت هذه الجمل الاعتراضية التي صار ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها بأحكام الرصف واتقان الربط من الامتزاج أشد مما بين الروح والجسد، المشيرة إلى أن هذه المحرمات هي التي تحقق بها أهل الكفر كمال المخالفة، فأيسوا معها من المواصلة والمؤالفة؛ رجع إلى تتمات لتلك المحظورات، فقال مسبباً عن الرضى بالإسلام الذي هو الحنيفة السمحة المحرمة لهذه الخبائث لإضرارها بالبدن والدين: ﴿فمن اضطر﴾ أي ألجىء إلجاء عظيماً - من أي شيء كان - إلى تناول شيء مما مضى أنه حرم، بحيث لا يمكنه معه الكف عنه ﴿في مخمصة﴾ أي مجاعة عظيمة ﴿غير متجانف﴾ أي متعمد ميلاً ﴿لإثم﴾ أي بالأكل على غير سد الرمق، أو بالبغي على مضطر آخر بنوع مكر أو العدو عليه
18
بضرب قهر، وزاد بعد هذا التقييد تخويفاً بقوله: ﴿فإن الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿غفور رحيم *﴾ أي يمحو عنه إثم ارتكابه للمنهي ولا يعاقبه عليه ولا يعاتبه ويكرمه، بأن يوسع عليه من فضله، ولا يضطره مرة أخرى - إلى غير ذلك من الإكرام وضروب الأنعام.
19
ولما تقدم إحلال الصيد وتحريم الميتة، وختم ذلك بهذه الرخصة، «وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر بقتل الكلاب» وكان الصيد ربما مات في يد الجارح قبل إدراك ذكاته، سأل بعضهم عما يحل من الكلاب، وبعضهم عما يحل من ميتة الصيد إحلالاً مطلقاً لا بقيد الرخصة، إذ كان الحال يقتضي هذا السؤال؛ روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن أبي رافع رضي الله عنه قال: «أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل الكلاب، فقال الناس: يا رسول الله! ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله تعالى: ﴿يسئلونك﴾ ».
ولما كان هذا إخباراً عن غائب قال: ﴿ماذا أحل لهم﴾ دون «لنا» قال الواحدي: أي من إمساك الكلاب وأكل الصيود وغيرها، أي من المطاعم، ثم قال الواحدي: رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه، وذكر المفسرون شرح هذه القصة، قال: قال أبو رافع رضي الله عنه: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأذن عليه، فأذن له فلم يدخلن فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قد أذنا
ولما كان هذا إخباراً عن غائب قال: ﴿ماذا أحل لهم﴾ دون «لنا» قال الواحدي: أي من إمساك الكلاب وأكل الصيود وغيرها، أي من المطاعم، ثم قال الواحدي: رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه، وذكر المفسرون شرح هذه القصة، قال: قال أبو رافع رضي الله عنه: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأذن عليه، فأذن له فلم يدخلن فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قد أذنا
19
لك! قال: أجل يا رسول الله! ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب، فنظر فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلباً إلا قتلته، حتى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فلما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر الكلاب جاء أناس فقالوا: يا رسول الله! ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله هذه الآية فلما نزلت أذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه، وأمر بقتل الكلاب الكلب والعقور ما يضر ويؤذي، ورفع القتل عما سواها مما لا ضر فيه، وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين رضي الله عنهما، وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد الخير، وذلك أنهما جاءا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: «يا رسول الله! إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله
20
الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت: ﴿يسئلونك﴾ الآية ﴿الطيبات﴾ يعني الذبائح، و ﴿الجوارح﴾ الكواسب من الكلاب وسباع الطير» انتهى.
فإذا أريد كون الكلام على وجه يعم قيل: ﴿قل﴾ لهم في جواب من سأل ﴿أحل﴾ وبناه للمفعول طبق سؤالهم ولأن المقصود لا كونه من معين ﴿لكم الطيبات﴾ أي الكاملة الطيب، فلا خبث فيها بنوع تحريم ولا تقذر، من ذوي الطباع السليمة مما لم يرد به نص ولا صح فيه قياس، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرمونه على أنفسهم من السائبة وما معها، وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم ﴿وما﴾ وهو على حذف مضاف للعلم به، فالمعنى: وصيد ما ﴿علمتم من الجوارح﴾ أي التي من شأنها أن تجرح، أو تكون سبباً للجرح وهو الذبح، أو من الجرح بمعنى الكسب ﴿ويعلم ما جرحتم بالنهار﴾ [الأنعام: ٦٠] وهو كواسب الصيد من السباع والطير، فأحل إمساكها للقنية وصيدها وشرط فيه التعليم، قال الشافعي: والكلب لا يصير معلماً إلا عند أمور: إذا أشلى استشلى، وإذا زجر انزجر وحبس ولم يأكل، وإذا دعي أجاب، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم، ولم يذكر حداً
فإذا أريد كون الكلام على وجه يعم قيل: ﴿قل﴾ لهم في جواب من سأل ﴿أحل﴾ وبناه للمفعول طبق سؤالهم ولأن المقصود لا كونه من معين ﴿لكم الطيبات﴾ أي الكاملة الطيب، فلا خبث فيها بنوع تحريم ولا تقذر، من ذوي الطباع السليمة مما لم يرد به نص ولا صح فيه قياس، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرمونه على أنفسهم من السائبة وما معها، وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم ﴿وما﴾ وهو على حذف مضاف للعلم به، فالمعنى: وصيد ما ﴿علمتم من الجوارح﴾ أي التي من شأنها أن تجرح، أو تكون سبباً للجرح وهو الذبح، أو من الجرح بمعنى الكسب ﴿ويعلم ما جرحتم بالنهار﴾ [الأنعام: ٦٠] وهو كواسب الصيد من السباع والطير، فأحل إمساكها للقنية وصيدها وشرط فيه التعليم، قال الشافعي: والكلب لا يصير معلماً إلا عند أمور: إذا أشلى استشلى، وإذا زجر انزجر وحبس ولم يأكل، وإذا دعي أجاب، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم، ولم يذكر حداً
21
لأن الاسم إذا لم يكن معلوماً من نص ولا إجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف، وبنى الحال من الكلاب وإن كان المراد العموم، لأن التأديب فيها أكثر فقال: ﴿مكلبين﴾ أي حال كونكم متكلفين تعليم هذه الكواسب ومبالغين في ذلك، قالوا: وفائدة هذه الحال أن يكون المعلم نحريراً في علمه موصوفاً به، وأكد ذلك بحال أخرى أو استئناف فقال: ﴿تعلمونهن﴾ وحوشاً كنَّ أو طيوراً ﴿مما علمكم الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال من علم التكليب، فأفاد ذلك أن على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذ من غير متقن قد ضيع أيامه، وعض عند لقاء النجارين إبهامه! ثم سبب عن ذلك قوله: ﴿فكلوا﴾.
ولما كان في الصيد من العظم وغيره ما لا يؤكل قال: ﴿مما أمسكن﴾ أي الجوارح مستقراً إمساكها ﴿عليكم﴾ أي على تعليمكم، لا على جبلتها وطبيتعها دون تعليمكم، وذلك هو الذي لم يأكلن منه وإن مات قبل إدراك ذكاته، وأما ما أمسك الجارح على أي مستقراً على جبلته وطبعه، ناظراً فيه إلى نفاسه نفسه فلا يحل ﴿واذكروا اسم الله﴾ أي الذي له كل شيء ولا كفوء له ﴿عليه﴾ أي على ما أمسكن عند إرسال الجارح أو عند الذبح إن أدركت ذكاته، لتخالفوا سنة الجاهلية
ولما كان في الصيد من العظم وغيره ما لا يؤكل قال: ﴿مما أمسكن﴾ أي الجوارح مستقراً إمساكها ﴿عليكم﴾ أي على تعليمكم، لا على جبلتها وطبيتعها دون تعليمكم، وذلك هو الذي لم يأكلن منه وإن مات قبل إدراك ذكاته، وأما ما أمسك الجارح على أي مستقراً على جبلته وطبعه، ناظراً فيه إلى نفاسه نفسه فلا يحل ﴿واذكروا اسم الله﴾ أي الذي له كل شيء ولا كفوء له ﴿عليه﴾ أي على ما أمسكن عند إرسال الجارح أو عند الذبح إن أدركت ذكاته، لتخالفوا سنة الجاهلية
22
وتأخذوه من مالكه، وقد صارت نسبة هذه الجملة. كما ترى. إلى ﴿حرمت عليكم الميتة﴾ [المائدة: ٣] نسبة المستثنى إلى المستثنى منه، وإلى مفهوم غير محلي الصيد وانتم حرم نسبة الشرح.
ولما كان تعليم الجوارح أمراً خارجاً عن العادة في نفسه وإن كان قد كثر، حتى صار مألوفاً، وكان الصيد بها أمراً تُعجب شرعته وتهز النفوس كيفيتُه، ختم الآية بما هو خارج عن عادة البشر وطرقها من سرعة الحساب ولطف العلم بمقدار الاستحقاق من الثواب والعقاب، فقال محذراً من إهمال شيء مما رسمه: ﴿واتقوا﴾ أي حاسبوا أنفسكم واتقوا ﴿الله﴾ أي عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء فيما أدركتم ذكاته وما لم تدركوها، وما أمسكه الجارح عليكم وما أمسكه على نفسه - إلى غير ذلك من أمور الصيد التي لا يقف عندها إلا من غلبت عليه مهابة الله واستشعر خوفه، فاتقاه فيما أحل وما حرم، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الجامع لمجامع العظمة ﴿سريع الحساب *﴾ أي عالم بكل شيء وقادر عليه في كل وقت، فهو قادر على كل جزاء يريده، لا يشغله أحد عن أحد ولا شأن عن شأن.
ولما كان تعليم الجوارح أمراً خارجاً عن العادة في نفسه وإن كان قد كثر، حتى صار مألوفاً، وكان الصيد بها أمراً تُعجب شرعته وتهز النفوس كيفيتُه، ختم الآية بما هو خارج عن عادة البشر وطرقها من سرعة الحساب ولطف العلم بمقدار الاستحقاق من الثواب والعقاب، فقال محذراً من إهمال شيء مما رسمه: ﴿واتقوا﴾ أي حاسبوا أنفسكم واتقوا ﴿الله﴾ أي عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء فيما أدركتم ذكاته وما لم تدركوها، وما أمسكه الجارح عليكم وما أمسكه على نفسه - إلى غير ذلك من أمور الصيد التي لا يقف عندها إلا من غلبت عليه مهابة الله واستشعر خوفه، فاتقاه فيما أحل وما حرم، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الجامع لمجامع العظمة ﴿سريع الحساب *﴾ أي عالم بكل شيء وقادر عليه في كل وقت، فهو قادر على كل جزاء يريده، لا يشغله أحد عن أحد ولا شأن عن شأن.
23
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ
ﰄ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ
ﰅ
ولما كان قد تقدم النهي عن نكاح المشركات، والمنافرة لجميع أصناف الكفار، وبيان بغضهم وعداوتهم، والحث على طردهم ومنابذتهم ﴿هآ أنتم أولاء تحبونهم﴾ [آل عمران: ١١٩] ونحوها لضعف الأمر إذ ذاك وشدة الحاجة إلى
23
إظهار الفظاظة والغلظة لهم لتعظيم دين الله، حتى كانت خلطتهم من أمارات النفاق. كما سيأتي في كثير من آيات هذه السورة، وكان الدين وصل عند نزولها من العظمة إلى حد لا يحتاج في إلى تعظيم معظم، وكانت مخالطة أهل الكتاب لا بد منها عند فتوح البلاد التي وعد الصادق بهان وسبق في الأزل علمها، فكانت الفتنة في مخالطتهم قد صارت في حد الأمن وسّع الأمر بحل طعامهم ونسائهم، فقال تعالى مكرراً ذكر الوقت الذي أنزل فيه هذه الآيات، تنبيهاً على عظم النعمة فيه بتذكر ما هم فيه من الكثرة والأمن والجمع والألفة، وتذكر ما كانوا فيه قبل ذلك من القلة والخوف والفرقة، فقال معيداً لصدر الآية التي قبلها إعلاماً بعظم النعمة فيه، ومفيداً بذكر وقت الإحلال أنه إحلال مقصود به الثبات، لكونه يوم إتمام النعمة فهو غير الأول: ﴿اليوم﴾.
ولما كان القصد إنما هو الحل، لا كونه من محل معين، مع أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون أنه لا محل إلا الله، بني الفعل للمجهول فقال: ﴿أحل﴾ أي ثبت الإحلال فلا ينسخ أبداً ﴿لكم﴾ أي أيها المؤمنون ﴿الطيبات﴾ أي التي تقدم في البقرة وصفها بالحل لزوال الإثم وملاءمة الطبع، فهي الكاملة في الطيب.
ولما كان القصد إنما هو الحل، لا كونه من محل معين، مع أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون أنه لا محل إلا الله، بني الفعل للمجهول فقال: ﴿أحل﴾ أي ثبت الإحلال فلا ينسخ أبداً ﴿لكم﴾ أي أيها المؤمنون ﴿الطيبات﴾ أي التي تقدم في البقرة وصفها بالحل لزوال الإثم وملاءمة الطبع، فهي الكاملة في الطيب.
24
ولما كانت الطيبات أعم من المآكل قال: ﴿وطعام الذين﴾ ولما كان سبب الحل الكتاب، ولم يتعلق بذكر مؤتيه غرض، بني الفعل للمجهول فقال: ﴿أوتوا الكتاب﴾ أي مما يصنعونه أو يذبحونه، وعبر بالطعام الشامل لما ذبح وغيره وإن كان المقصود المذبوح، لا غيره، ولا يتخلف حاله من كتابي ولا غيره تصريحاً بالمقصود ﴿حل لكم﴾ أي تناوله لحاجتكم، أي مخالطتهم للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية، ولما كان هذا مشعراً بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم زاده تأكيداً بقوله: ﴿وطعامكم حل لهم﴾ أي فلا عليكم في بذله لهم ولا عليهم في تناوله.
ولما كانت الطيبات أعم من المطاعم وغيرها، وكانت الحاجة إلى المناكح بعد الحاجة إلى المطاعم، وكانت المطاعم حلالاً من الجانبين والمناكح من جانب واحد قال: ﴿والمحصنات﴾ أي الحرائر ﴿من المؤمنات﴾ ثم أكد الإشارة إلى إقرار أهل الكتاب فقال: ﴿والمحصنات﴾ أي الحرائر ﴿من الذين أوتوا الكتاب﴾ وبني الفعل للمفعول للعلم بمؤتيه مع أنه لم يتعلق بالتصريح به غرض.
ولما كان إيتاؤهم الكتاب لم يستغرق الزمن الماضي، أثبت الجار فقال: ﴿من قبلكم﴾ أي وهم اليهود والنصارى، وعبر عن العقد بالصداق
ولما كانت الطيبات أعم من المطاعم وغيرها، وكانت الحاجة إلى المناكح بعد الحاجة إلى المطاعم، وكانت المطاعم حلالاً من الجانبين والمناكح من جانب واحد قال: ﴿والمحصنات﴾ أي الحرائر ﴿من المؤمنات﴾ ثم أكد الإشارة إلى إقرار أهل الكتاب فقال: ﴿والمحصنات﴾ أي الحرائر ﴿من الذين أوتوا الكتاب﴾ وبني الفعل للمفعول للعلم بمؤتيه مع أنه لم يتعلق بالتصريح به غرض.
ولما كان إيتاؤهم الكتاب لم يستغرق الزمن الماضي، أثبت الجار فقال: ﴿من قبلكم﴾ أي وهم اليهود والنصارى، وعبر عن العقد بالصداق
25
للملابسة فقال مخرجاً للأمة لأنها لا تعطى الأجر وهو الصداق، لأنها لا تملكه بل يعطاه سيدها: ﴿إذا آتيتموهن أجورهن﴾ أي عقدتم لهن، ودل مساق الشرط على تأكد وجوب الصداق، وأن من تزوج وعزم على عدم الإعطاء، كان في صورة الزاني، وورد فيه حديث، وتسميته بالأجر تدل على أنه لا حد لأقله.
ولما كان المراد بالأجر المهر، وكان في اللغة يطلق على ما يعطاه الزانية أيضاً، بينه بقوله: ﴿محصنين﴾ أي قاصدين الإعفاف والعفاف ﴿غير مسافحين﴾ أي قاصدين صب الماء لمجرد الشهوة جهاراً ﴿ولا متخذي أخذان﴾ أي صدائق لذلك في السر، جمع خدن، وهو يقع على الذكر والأنثى، فكانت هذه الآية مخصصة لقوله تعالى ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن﴾ [البقرة: ٢٢١] فبقي على التحريم مما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهن من جميع المشركات حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام، وصرح هنا بالمؤمنات المقتضي لهن قوله تعالى في النساء ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم﴾ [النساء: ٢٤] وقوله ﴿ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات﴾ [النساء: ٢٥] ولعل
ولما كان المراد بالأجر المهر، وكان في اللغة يطلق على ما يعطاه الزانية أيضاً، بينه بقوله: ﴿محصنين﴾ أي قاصدين الإعفاف والعفاف ﴿غير مسافحين﴾ أي قاصدين صب الماء لمجرد الشهوة جهاراً ﴿ولا متخذي أخذان﴾ أي صدائق لذلك في السر، جمع خدن، وهو يقع على الذكر والأنثى، فكانت هذه الآية مخصصة لقوله تعالى ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن﴾ [البقرة: ٢٢١] فبقي على التحريم مما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهن من جميع المشركات حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام، وصرح هنا بالمؤمنات المقتضي لهن قوله تعالى في النساء ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم﴾ [النساء: ٢٤] وقوله ﴿ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات﴾ [النساء: ٢٥] ولعل
26
ذكر وصف الإحصان الواقع على العفة للتنبيه على أنه لا يقصد المتصفة بغيره لمجرد الشهوة إلا من سلب الصفات البشرية، وأخلد إلى مجرد الحيوانية، فصار في عداد البهائم، بل أدنى، مع أن التعليق بذلك الوصف لا يفهم الحرمة عند فقده، بل الحل من باب الأولى، لأن من حكم مشروعية النكاح الإعفاف، فإذا شرع إعفاف العفائف كان شرع إعفاف غيرهن أولى، لأن زناها إما لشهوة أو حاجة، وكلاهما للنكاح مدخل عظيم في نفيه. والله أعلم.
ولما كان السر في النهي عن نكاح المشركات في الأصل ما يخشى من الفتنة، وكانت الفتنة - وإن علا الدين روسخ الإيمان واليقين. لم تنزل عن درجة الإمكان، وكانت الصلاة تسمى إيماناً لأنها من أعظم شرائعه ﴿وما كان الله ليضيع إيمانكم﴾ [البقرة: ١٤٣] أي صلاتكم، وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» وله في الأوسط أيضاً بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة ينظر في صلاته، فإن صلحت فقد أفلح، وإن فسدت فقد خاب وخسر «وكانت مخالطة الأزواج مظنة للتكاسل عنها، ولهذا أنزلت آية ﴿حافظوا على الصلوات﴾ [البقرة: ٢٣٨]
ولما كان السر في النهي عن نكاح المشركات في الأصل ما يخشى من الفتنة، وكانت الفتنة - وإن علا الدين روسخ الإيمان واليقين. لم تنزل عن درجة الإمكان، وكانت الصلاة تسمى إيماناً لأنها من أعظم شرائعه ﴿وما كان الله ليضيع إيمانكم﴾ [البقرة: ١٤٣] أي صلاتكم، وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» وله في الأوسط أيضاً بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة ينظر في صلاته، فإن صلحت فقد أفلح، وإن فسدت فقد خاب وخسر «وكانت مخالطة الأزواج مظنة للتكاسل عنها، ولهذا أنزلت آية ﴿حافظوا على الصلوات﴾ [البقرة: ٢٣٨]
27
كما مضى بالمحل الذي هي به، لما كان ذلك كذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى منفرداً من نكاحهن بعد إحلاله، إشارة إلى أن الورع ابتعد عنه، امتثالاً للآيات الناهية عن موادة المحاد لئلا يحصل ميل فيدعو إلى المتابعة، أو يحصل ولد، فتستميله لدينها: ﴿ومن﴾ أي أحل لكم ذلك والحال أنه من ﴿يكفر﴾ أي يوجد ويجدد الكفر على وجه طمأنينة القلب به والاستمرار عليه إلى الموت ﴿بالإيمان﴾ أي بسبب التصديق القلبي بكل ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب، الذي منه حل الكتابيات، فيدعوه ذلك إلى نكاحهن، فتحمله الخلطة على اتباع دينهن، فيكفر بسبب ذلك التصديق فيكفر بالصلاة التي يلزم من الكفر بها الكفر به، فإطلاقه عليها تعظيم لها
﴿وما كان الله ليضيع إيمانكم﴾ [البقرة: ١٤٣] أي صلاتكم ﴿فقد حبط﴾ أي فسد ﴿عمله﴾ أي إذا اتصل ذلك بالموت بدليل قوله: ﴿وهو في الآخرة من الخاسرين *﴾ والآية من أدلة إمانا الشافعي على استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، فحيث قصد التحذير من الكفر حقيقة فالإيمان حقيقة وحيث أريد الترهيب من إضاعة الصلاة فهو مجاز، ومما يؤيد ذلك أن في السفر الثاني من التوراة: لا تعاهدن سكان الأرض لكيلا تضلوا
﴿وما كان الله ليضيع إيمانكم﴾ [البقرة: ١٤٣] أي صلاتكم ﴿فقد حبط﴾ أي فسد ﴿عمله﴾ أي إذا اتصل ذلك بالموت بدليل قوله: ﴿وهو في الآخرة من الخاسرين *﴾ والآية من أدلة إمانا الشافعي على استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، فحيث قصد التحذير من الكفر حقيقة فالإيمان حقيقة وحيث أريد الترهيب من إضاعة الصلاة فهو مجاز، ومما يؤيد ذلك أن في السفر الثاني من التوراة: لا تعاهدن سكان الأرض لكيلا تضلوا
28
بأوثانهم، وتذبحوا لآلهتهم، أو يدعوك فتأكل من ذبائحهم، وتزوج بنيك من بناتهم وبناتك من بنيهم، فتضل بناتك خلف آلهتهم ويضل بنوك بآلهتهم، وقال في الخامس منها: وإذا أدخلكم الله ربنا الأرض التي تدخلونها لترثوها، وأهلك شعوباً كثيرة من بين أيديكم: حتانيين وجرجسانيين وأمورانيين وكنعانيين وفرزانيين وحاوانيين ويابسانيين. سبعة شعوب أكثر وأقوى منكم، ويدفعهم الله ربكم في أيديكم فاضربوهم واقتلوهم وانفوهم وحرموهم ولا تعاهدوهم عهداً ولا ترحموهم، وتحاشوهم ولا تزوجوا بناتكم من بنيهم، ولا تزوجوا بنيكم من بناتهم لئلا يغوين بنيكم عن عبادتي، ويخدعنهم فيعبدوا آلهة أخرى، ويشتد غضب الرب عليكم ويهلككم سريعاً، ولكن اصنعوا بهم هذا الصنيع: استأصلوا مذابحهم، وكسروا أنصابهم، وحطموا أصنامهم المصبوغة، وأحرقوا أوثانهم المنحوتة، لأنكم شعب طاهر لله ربكم - انتهى. وإذا تأملت جميع ذلك، وأمعنت فيه النظر لاح لك سرُّ تعقيبها بقوله تعالى في سياق مشير إلى البشارة بأن هذه الأمة تطيع ولا تعصى فتؤمن ولا تكفر، لما خص به كتابها من البيان الأتم في النظم المعجز
29
مع شرف التذكير بما أفاضه من شرف جليل الأيادي، فافتتح هذه السورة بالأمر بالوفاء بحق الربوبية، وأتبعه التذكير بما وفى به سبحانه من حق الربوبية من نوع المنافع في لذة المطعم وتوابعه ولذة المنكح وتوابعه، وقدم المطعم لأن الحاجة إليه فوق الحاجة إلى المنكح، فلما أتم ما ألزمه نفسه الأقدس من عهد الربوبية فضلاً منه، أتبعه الأمر بالوفاء بعهد العبودية، وقدم منه الصلاة لأنها أشرفه بعد الإيمان، وقدم الوضوء لأنه شرطها فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا به! صدقوه بأنكم ﴿إذا﴾ عبر بأداة التحقيق بشارة بأن الأمة مطيعة ﴿قمتم﴾ أي بالقوة، وهي العزم الثابت على القيام الذي هو سبب القيام ﴿إلى الصلاة﴾ أي جنسها محدثين، لما بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجمعه بعده صلوات بوضوء واحد وإن كان التجديد أكمل، وخصت الصلاة ومس المصحف من بين الأعمال بالأمر بالوضوء تشريفاً لهما ويزيد حمل الإيمان على الصلاة حسناً تقدم قوله تعالى
﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ [المائدة: ٣] الثابت أنها نزلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد عصر يوم عرفة والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناقته يخطب، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو في يوم النحر أو في كليهما: «ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة
﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ [المائدة: ٣] الثابت أنها نزلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد عصر يوم عرفة والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناقته يخطب، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو في يوم النحر أو في كليهما: «ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة
30
والترمذي عن جابر رضي الله عنه، فقوله «المصلون» إشارة إلى أن الماحي للشرك هو الصلاة، فما دامت قائمة فهو زائل، ومتى زالت والعياذ بالله - رجع، وإلى ذلك يشير ما رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:» بين العبد والكفر ترك الصلاة «وللأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن بريدة رضي الله عنه» أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» ولأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقى الصلاة «. ولما كان الوضوء في سورة النساء إنما هو على سبيل الإشارة إجمالاً، صرح به هنا على سبيل الأمر وفصله، فقال مجيباً للشرط إعلاماً بأن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، لأن المعلق على الشيء بحرف الشرط يعدم عند عدم الشرط: ﴿فاغسلوا﴾ أي لأجل إرادة الصلاة، ومن هنا يعلم وجوب النية، لأن فعل العاقل لا يكون إلا مقصوداً، وفعل المأمور به لأجل الأمر هو النية ﴿وجوهكم﴾ وحدّ الوجه منابت شعر الرأس ومنتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً، وليس منه داخل العين وإن كان مأخوذاً من المواجهة، لأنه من الحرج،
31
وكذا إيصال الماء إلى البشرة إذا كثفت اللحية خفف للحرج واكتفى عنه بظاهر اللحية، وأما العنفقة ونحوها من الشعر الخفيف فيجب ﴿وأيديكم﴾.
ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب ورؤوس الأصابع، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم: ﴿إلى المرافق﴾ أي آخرها، أخذاً من بيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفعله، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه، وإنما كان الاعتماد على البيان لأن الغاية تارة تدل كقوله تعالى ﴿من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى﴾ [الإسراء: ١] وتارة لا تدخل كقوله تعالى ﴿ثم أتموا الصيام إلى اللّيل﴾
[البقرة: ١٨٧] والمرفق ملتقى العظمين، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً ﴿وامسحوا﴾ ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه، بل أتى بالباء فقال: ﴿برءوسكم﴾ علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف: المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح.
ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً، قرىء: ﴿وأرجلكم﴾ بالجر على المجاورة إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب،
ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب ورؤوس الأصابع، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم: ﴿إلى المرافق﴾ أي آخرها، أخذاً من بيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفعله، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه، وإنما كان الاعتماد على البيان لأن الغاية تارة تدل كقوله تعالى ﴿من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى﴾ [الإسراء: ١] وتارة لا تدخل كقوله تعالى ﴿ثم أتموا الصيام إلى اللّيل﴾
[البقرة: ١٨٧] والمرفق ملتقى العظمين، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً ﴿وامسحوا﴾ ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه، بل أتى بالباء فقال: ﴿برءوسكم﴾ علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف: المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح.
ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً، قرىء: ﴿وأرجلكم﴾ بالجر على المجاورة إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب،
32
قال في القاموس: المسح كالمنع: إمرار اليد على الشيء السائل. فيكون في ذلك إشارة أيضاً إلى استحباب الدلك، والقرينة الدالة على استعمال هذا المشترك في أحد المعنيين قراءة النصب وبيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومر استعماله فيه وفيه الإشارة إلى الرفق بالنصب على الأصل.
ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل - كما مضى في المرافق، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل: ﴿إلى الكعبين﴾ وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين، ولو قيل: إلى الكعاب، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل - كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب، لأن عادة العرب - كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب - أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب: ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة، فوجب تنزيه كلام الله
ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل - كما مضى في المرافق، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل: ﴿إلى الكعبين﴾ وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين، ولو قيل: إلى الكعاب، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل - كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب، لأن عادة العرب - كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب - أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب: ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة، فوجب تنزيه كلام الله
33
عنه أيضاً، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما، وللتذكير بالنعمة في التوسعة بالتيمم، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط في الأرض، لظهور الكفار وغلبتهم، كما كان المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظراً إلى الحاجة وفقدها، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة، فقال تعالى معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع وقد لا يقع وهو نادر على تقدير وقوعه، عاطفاً على ما تقديره: هذا إن كنتم محدثين حدثاً أصغر: ﴿وإن كنتم﴾ أي حال القصد للصلاة ﴿جنباً﴾ أي ممنين باحتلام أو غيره ﴿فاطهروا﴾ أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء.
ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء، وبدأ بالوضوء لعمومه، ذكر الطهارة رخصة بالتراب، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة: ﴿وإن كنتم مرضى﴾ أي
ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء، وبدأ بالوضوء لعمومه، ذكر الطهارة رخصة بالتراب، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة: ﴿وإن كنتم مرضى﴾ أي
34
بجراح أو غيره، فلم تجدوا ماء حساً أو معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب ﴿أو على سفر﴾ طويل أو قصير كذلك، ولما ذكر الأكبر أتبعه الأصغر فقال ﴿أو جاء أحد منكم﴾ وهو غير جنب ﴿من الغائط﴾ أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي مكان التخلي، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لا بد له منها، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة له بشديد عجزه وعظيم ضرورته وفقره ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره. كما ورد أن بعض الأمراء لقي بعض البله في طريق فلم يفسح له، فغضب وقال: كأنك ما تعرفني؟ فقال بلى والله! إني لأعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة.
ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال: ﴿أو لامستم النساء﴾ أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا ﴿فلم تجدوا ماء﴾ أي حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره ﴿فتيمموا﴾ أي اقصدوا قصداً متعمداً ﴿صعيداً﴾ أي تراباً ﴿طيباً﴾ أي طهوراً خالصاً ﴿فامسحوا﴾.
ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال: ﴿أو لامستم النساء﴾ أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا ﴿فلم تجدوا ماء﴾ أي حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره ﴿فتيمموا﴾ أي اقصدوا قصداً متعمداً ﴿صعيداً﴾ أي تراباً ﴿طيباً﴾ أي طهوراً خالصاً ﴿فامسحوا﴾.
35
ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة، وبينت السنة أن المراد جميع العضو، فقال: ﴿بوجوهكم وأيديكم منه﴾ أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفاً: ﴿ما يريد الله﴾ أي الغنى الغنى المطلق ﴿ليجعل عليكم﴾ وأغرق في النفي بقوله: ﴿من حرج﴾ أي ضيق علماً منه بضعفكم، فسهل عليكم ما كان عسره على من كان قبلكم، وإكراماً لكم لأجل نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم ﴿ولكن يريد ليطهركم﴾ أي ظاهراً وباطناً بالماء والتراب وامتثال الأمر على ما شرعه سبحانه، عقلتم معناه أو لا، مع تسهيل الأوامر والنواهي لكيلا يوقعكم التشديد في المعصية التي هي رجس الباطن ﴿وليتم نعمته﴾ أي في التخفيف في العزائم ثم في الرخص، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال ﴿عليكم﴾ لأجل تسهيلها، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعاً به، إلا لمن لج طبعه في العوج، وتمادى في الغواية والجهل والبطر ﴿لعلكم تشكرون *﴾ أي وفعل ذلك كله.
هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل
هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل
36
عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه في طاعته المسهلة له المحببة إليه، روى البخاري في التفسير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. وفي رواية: سقط قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزل، فثنى رأسه في حجري راقداً. فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ فجاء أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلادة، فبي الموت لمكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أوجعني، ثم إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة﴾ [المائدة: ٦]، وفي رواية: فأنزل الله آية التيمم ﴿فتيمموا﴾ فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة لهم، وفي رواية: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي
37
كنت عليه فإذا العقد تحته» وفي رواية له عنها في النكاح أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيراً! فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة «وهذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت قبل آية النساء، فكانت تلك نزلت بعد ذلك لتأكيد هذا الحكيم ومزيد الامتنان به، لما فيه من عظيم اليسر وليحصل في التيمم من الجناية نص خاص، فيكون ذلك أفخم لشأنها وأدل على الاهتمام به.
38
ولما كان في هذه المأمورات والمنهيات خروج عن المألوفات، وكانت الصلاة أوثق عرى الدين، وكان قد عبر عنها بالإيمان الذي هو أصل الدين وأساس الأعمال، عطف عليها قوله تذكيراً بما يوجب القبول والانقياد: ﴿واذكروا﴾ أي ذكر اتعاظ وتأمل واعتبار.
ولما كان المقصود من الإنعام غايته قال: ﴿نعمة الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿عليكم﴾ أي في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، وفي غير ذلك من جميع النعم، وإنما
ولما كان المقصود من الإنعام غايته قال: ﴿نعمة الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿عليكم﴾ أي في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، وفي غير ذلك من جميع النعم، وإنما
38
لم تجمع لئلا يظن أن المقصود تعداد النعم، لا الندب إلى الشكر بتأمل أن هذا الجنس لا يقدر عليه غيره سبحانه وعظَّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يستحقه بجعل فعله سبحانه فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿وميثاقه﴾ أي عقده الوثيق ﴿الذي واثقكم به﴾ أي بواسطة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قلتم سمعنا وأطعنا﴾ وفي ذلك تحذير من مثل ما أراد بهم شاس بن قيس، وتذكير بما أوجب له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم من الشكر بهدايته لهم إلى الإسلام المثمر لالتزام تلك العهود ليلة العقبة الموجبه للوفاء الموعود عليه الجنة، والتفات إلى قوله أول السورة ﴿أوفوا بالعقود﴾ [المائدة: ١] وحديث إسباغ الوضوء على المكاره مبيّن لحسن هذه التناسب.
ولما كان أمر الوفاء بالعهد صعباً، لا يقوم به إلا من صدقت عريقته وصلحت سريرته، وإنما يحمل عليه مخافة الله قال: ﴿واتقوا الله﴾ أي اجعلوا بينكم وبين ما يغضب الملك الأعظم. الذي يفعل ما يشاء. من نقض العهد وقاية من حسن القيام، لتكونوا في أعلى درجات وعيه، ثم علل ذلك مرغباً مرهباً بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم ﴿بذات الصدور *﴾ أي أحوالها من سرائرها
ولما كان أمر الوفاء بالعهد صعباً، لا يقوم به إلا من صدقت عريقته وصلحت سريرته، وإنما يحمل عليه مخافة الله قال: ﴿واتقوا الله﴾ أي اجعلوا بينكم وبين ما يغضب الملك الأعظم. الذي يفعل ما يشاء. من نقض العهد وقاية من حسن القيام، لتكونوا في أعلى درجات وعيه، ثم علل ذلك مرغباً مرهباً بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم ﴿بذات الصدور *﴾ أي أحوالها من سرائرها
39
وإن كان صاحبها لم يعلمها لكونها لم تبرز إلى الوجود، وعلانيتها وإن صاحبها قد نسيها.
ولما تقدم القيام إلى الصلاة، وتقدم ذكر الأزواج المأمور فيهن بالعدل في أول النساء وأثنائها، وكان في الأزواج المذكورات هنا الكافرات، ناسب تعقيب ذلك بعد الأمر بالتقوى بقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان ولما كان العدل في غاية الصعوبة على الإنسان، فكان لذلك يحتاج المتخلق به إلى تدريب كبير ليصير صفة راسخة، عبر بالكون فقال تعالى: ﴿كونوا قوّامين﴾ أي مجتهدين في القيام على النساء اللاتي أخذتموهن بعهد الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وعلى غيرهن في الصلاة وغيرها من جميع الطاعات التي عاهدتم على الوفاء بها.
ولما كان مبنى السورة على الوفاء بالعهد الوثيق، وكان الوفاء بذلك إنما يخف على النفوس، ويصح النشاط فيه، ويعظم العزم عليه بالتذكير بجلالة موثقة وعدم انتهاك حرمته، لأن المعاهد إنما يكون باسمه ولحفظ وحده ورسمه، قدم قوله: ﴿لله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء.
بخلاف ما مضى في النساء.
ولما كان من جملة المعاقد عليه ليلة العقبة «ليلة تواثقوا على الإسلام» أن يقولوا الحق حيث ما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم،
ولما تقدم القيام إلى الصلاة، وتقدم ذكر الأزواج المأمور فيهن بالعدل في أول النساء وأثنائها، وكان في الأزواج المذكورات هنا الكافرات، ناسب تعقيب ذلك بعد الأمر بالتقوى بقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان ولما كان العدل في غاية الصعوبة على الإنسان، فكان لذلك يحتاج المتخلق به إلى تدريب كبير ليصير صفة راسخة، عبر بالكون فقال تعالى: ﴿كونوا قوّامين﴾ أي مجتهدين في القيام على النساء اللاتي أخذتموهن بعهد الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وعلى غيرهن في الصلاة وغيرها من جميع الطاعات التي عاهدتم على الوفاء بها.
ولما كان مبنى السورة على الوفاء بالعهد الوثيق، وكان الوفاء بذلك إنما يخف على النفوس، ويصح النشاط فيه، ويعظم العزم عليه بالتذكير بجلالة موثقة وعدم انتهاك حرمته، لأن المعاهد إنما يكون باسمه ولحفظ وحده ورسمه، قدم قوله: ﴿لله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء.
بخلاف ما مضى في النساء.
ولما كان من جملة المعاقد عليه ليلة العقبة «ليلة تواثقوا على الإسلام» أن يقولوا الحق حيث ما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم،
40
قال: ﴿شهداء﴾ أي متيقظين محضرين أفهامكم غاية الإحضار بحيث لا يسد عنها شيء مما تريدون الشهادة به ﴿بالقسط﴾ أي العدل، وقال الإمام أبو حيان في نهره: إن التي جاءت في سورة النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين، فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والاحن، فبدىء فيها بالقيام لله إذ كان الأمر بالقيام لله أولاً أردع للمؤمنين، ثم أردف بالشهادة بالعدل، فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيها بما هو آكد وهو القسط، والتي في معرض العدواة والشنآن، بدىء فيها بالقيام لله، فناسب كل معرض ما جيء به إليه، وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله ﴿ولن تستطيعوا أن تعدلوا﴾ [النساء: ١٢٩] وقوله ﴿فلا جناح عليهما أن يصلحا﴾ [النساء: ١٢٨] فناسب ذكر تقديم القسط، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط - انتهى.
ولما كان أمر بهذا الخبر، نهى مما يحجب عنه فقال: ﴿ولا يجرمنكم﴾
ولما كان أمر بهذا الخبر، نهى مما يحجب عنه فقال: ﴿ولا يجرمنكم﴾
41
أي يحملنكم ﴿شنئان قوم﴾ أي شدة عداوة من لهم قوة على القيام في الأمور من المشركين، بحيث يخشى من إهمالهم ازدياد قوتهم ﴿على ألا تعدلوا﴾ أي أن تتركوا قصد العدل، وهو يمكن أن يدخل فيه بغض أهل الزوجة الكافرة أو ازدراؤها في شيء من حقوقها لأجل خسة دينها، فأمروا بالعدل حتى بين هذه المرأة الكافرة وضرّاتها المسلمات، وإذا كان هذا شأن الأمر به في الكافر فما الظن به في المسلم؟ ثم استأنف قوله آمراً بعد النهي تأكيداً لأمر العدل: ﴿اعدلوا﴾ أي تحروا العدل واقصدوه في كل شيء حتى في هذه الزوجات وفيمن يجاوز فيكم الحدود، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه فيهم، فإن الذي منعكم من التجاوز وفيمن يجاوز فيكم الحدود، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه فيهم، فإن الذي منعكم من التجاوز خوفه يريكم من النصرة وصلاح الحال ما يسركم.
ولما كان ترك قصد العدل قد يقع لصاحبه العدل اتفاقاً، فيكون قريباً من التقوى، قال مستأنفاً ومعللاً: ﴿هو﴾ أي قصد العدل ﴿أقرب﴾ أي من ترك قصده ﴿للتقوى﴾ والإحسان الذي يتضمنه الصلح أقرب من العدل إليها، وتعدية ﴿أقرب﴾ بالام دون إلى المقتضية لنوع بعد زيادة في الترغيب - كما مر في البقرة؛ ولما كان الشيء لا يكون إلا بمقدماته، وكان قد علم من هذا أن العدل مقدمة التقوى، قال عاطفاً
ولما كان ترك قصد العدل قد يقع لصاحبه العدل اتفاقاً، فيكون قريباً من التقوى، قال مستأنفاً ومعللاً: ﴿هو﴾ أي قصد العدل ﴿أقرب﴾ أي من ترك قصده ﴿للتقوى﴾ والإحسان الذي يتضمنه الصلح أقرب من العدل إليها، وتعدية ﴿أقرب﴾ بالام دون إلى المقتضية لنوع بعد زيادة في الترغيب - كما مر في البقرة؛ ولما كان الشيء لا يكون إلا بمقدماته، وكان قد علم من هذا أن العدل مقدمة التقوى، قال عاطفاً
42
على النهي أو على نحو: فاعدلوا: ﴿واتقوا الله﴾ أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية بالإحسان فضلاً عن العدل، ويؤيد كون الآية ناظرة إلى النكاح مع ما ذكر ختام آية الشقاق التي في أول النساء بقوله
﴿إن الله كان عليماً خبيراً﴾ [النساء: ٣٥]، وختام قوله تعالى في أواخرها وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو اعراضاً بقوله ﴿فإن الله كان بما تعملون خبيراً﴾ وختام هذه بقوله معللاً لما قبله: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿خبير بما تعملون*﴾ لأن ما بين الزوجين ربما دق علمه عن إدراك غير العليم الخبير؛ وقالو أبو حيان: لما كان الشنآن محله القلب، وهو الحامل على ترك العدل، أمر بالتقوى وأتى بصفة ﴿خبير﴾ ومعناها عليم ولكنها مما تختص بما لطف إدراكه انتهى. ﴿وشهداء﴾ يمكن أن يكون من الشهادة التي هي حضور القلب - كما تقدم من قوله ﴿أو ألقى السمع وهو شهيد﴾ [ق: ٣٧] وأن يكون من الشهادة المتعارفة، ويوضح المناسبة فيها مع تأييد إرادتها كونها بعد قوله ﴿إن الله عليم بذات الصدور﴾ [آل عمران: ١١٩] ومع قوله تعالى: {ومن يكتمها
﴿إن الله كان عليماً خبيراً﴾ [النساء: ٣٥]، وختام قوله تعالى في أواخرها وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو اعراضاً بقوله ﴿فإن الله كان بما تعملون خبيراً﴾ وختام هذه بقوله معللاً لما قبله: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿خبير بما تعملون*﴾ لأن ما بين الزوجين ربما دق علمه عن إدراك غير العليم الخبير؛ وقالو أبو حيان: لما كان الشنآن محله القلب، وهو الحامل على ترك العدل، أمر بالتقوى وأتى بصفة ﴿خبير﴾ ومعناها عليم ولكنها مما تختص بما لطف إدراكه انتهى. ﴿وشهداء﴾ يمكن أن يكون من الشهادة التي هي حضور القلب - كما تقدم من قوله ﴿أو ألقى السمع وهو شهيد﴾ [ق: ٣٧] وأن يكون من الشهادة المتعارفة، ويوضح المناسبة فيها مع تأييد إرادتها كونها بعد قوله ﴿إن الله عليم بذات الصدور﴾ [آل عمران: ١١٩] ومع قوله تعالى: {ومن يكتمها
43
فإنه آثم قلبه} [البقرة: ٢٨٣] وختام آية النساء التي في الشهادة بقوله: ﴿وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً﴾ [النساء: ١٣٥] كما ختمت هذه بمثل ذلك.
44
ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ
ﰈ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ
ﰉ
ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ
ﰊ
ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ
ﰋ
ولما أمر سبحانه ونهى، بشر وحذر فقال: ﴿وعد الله﴾ أي الملك الذي له الكمال المطلق فله كل شيء ﴿الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان بألسنتهم ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لهذا الإقرار ﴿الصالحات﴾ وترك المفعول الثاني أقعد في باب البشارة، فإنه يحتمل كل خير، وتذهب النفس في تحريزه كل مذهب.
ولما كان الموعود شيئين: فضلاً وإسقاط حق قدم الإسقاط تأميناً للخوف فقال واضعاً له موضع الموعود في صيغة دالة على الثبات والاختصاص: ﴿لهم مغفرة﴾ أي لما فرط منهم لما طبع الإنسان عليه من النقص نسياناً أو عمداً، بعمل الواجبات إن كان صغيرة، وبالتوبة إن كان كبيرة، وفيه إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره؛ ولما أمنهم بالتجاوز أتبعه الجود بالعطاء فقال ﴿وأجر﴾ أي على قدر درجاتهم من حسن العمل ﴿عظيم *﴾ أي لا يدخل تفاوت درجاته تحت الحصر.
ولما قدم الوعد لأنه في سورة الذين آمنوا أتبعه الوعيد لأضدادهم، وهو أعظم وعد لأحبابه المؤمنين أيضاً فقال: ﴿والذين كفروا﴾ أي غطوا ما اتضح لعقولهم من أدلة الوحدانية ﴿وكذبوا﴾ أي زيادة
ولما كان الموعود شيئين: فضلاً وإسقاط حق قدم الإسقاط تأميناً للخوف فقال واضعاً له موضع الموعود في صيغة دالة على الثبات والاختصاص: ﴿لهم مغفرة﴾ أي لما فرط منهم لما طبع الإنسان عليه من النقص نسياناً أو عمداً، بعمل الواجبات إن كان صغيرة، وبالتوبة إن كان كبيرة، وفيه إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره؛ ولما أمنهم بالتجاوز أتبعه الجود بالعطاء فقال ﴿وأجر﴾ أي على قدر درجاتهم من حسن العمل ﴿عظيم *﴾ أي لا يدخل تفاوت درجاته تحت الحصر.
ولما قدم الوعد لأنه في سورة الذين آمنوا أتبعه الوعيد لأضدادهم، وهو أعظم وعد لأحبابه المؤمنين أيضاً فقال: ﴿والذين كفروا﴾ أي غطوا ما اتضح لعقولهم من أدلة الوحدانية ﴿وكذبوا﴾ أي زيادة
44
على الستر بالعناد: ﴿بآياتنا﴾ على ما لها من العظمة في أنفسها وبإضافتها إلينا ﴿أولئك﴾ أي البغضاء البعداء من الرحمة خاصة ﴿أصحاب الجحيم *﴾ أي النار التي اشتد توقدها فاشتد احمرارها، فلا يراها شيء إلا أحجم عنها، فهم يلقون فيها بما أقدموا على ما هو أهل للإجحام عنه من التكذيب بما لا ينبغي لأحد التكذيب به، ثم يلازمونها فلا ينفكون عنها كما هو شأن الصاحب.
ولما كان من الأجر ما يحصل من أسباب السعادة في الدنيا، قال تعالى ذاكراً لهم بعض ذلك مذكراً ببعض ما خاطبهم به ليقدموا على مباينة الكفرة ويقفوا عند حدوده كائنة ما كانت: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي صدقوا بالله ورسوله وكتابه ﴿اذكروا نعمت الله﴾ أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿عليكم﴾ عظمها بإبهامها، ثم زادها تعظيماً بالتذكير بوقتها فقال: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿همّ قوم﴾ أي لهم قوة ومنعه وقدرة على ما يقومون فيه ﴿أن يبسطوا إليكم أيديهم﴾ أي بالقتال والقتل، وهو شامل - مع ذكر من أسباب نزوله - لما اتفق صبيحة ليلة العقبة من أن قريشاً تنطست الحبر عن البيعة، فلما صح عندهم طلبوا أهل البيعة ففاتوهم إلا أنهم أدركوا سعد بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة، وكلاهما كان نقيباً، فأما المنذر فأعجزهم، وأما سعد فأخذوه فربطوه وأقبلوا يضربونه، حتى خلصه الله منهم بجبير بن مطعم
ولما كان من الأجر ما يحصل من أسباب السعادة في الدنيا، قال تعالى ذاكراً لهم بعض ذلك مذكراً ببعض ما خاطبهم به ليقدموا على مباينة الكفرة ويقفوا عند حدوده كائنة ما كانت: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي صدقوا بالله ورسوله وكتابه ﴿اذكروا نعمت الله﴾ أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿عليكم﴾ عظمها بإبهامها، ثم زادها تعظيماً بالتذكير بوقتها فقال: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿همّ قوم﴾ أي لهم قوة ومنعه وقدرة على ما يقومون فيه ﴿أن يبسطوا إليكم أيديهم﴾ أي بالقتال والقتل، وهو شامل - مع ذكر من أسباب نزوله - لما اتفق صبيحة ليلة العقبة من أن قريشاً تنطست الحبر عن البيعة، فلما صح عندهم طلبوا أهل البيعة ففاتوهم إلا أنهم أدركوا سعد بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة، وكلاهما كان نقيباً، فأما المنذر فأعجزهم، وأما سعد فأخذوه فربطوه وأقبلوا يضربونه، حتى خلصه الله منهم بجبير بن مطعم
45
والحارث بن حرب بن أمية بما كان بينه وبينهما من الجوار، فكان في سوق الآية بعد آية الميثاق الذي أعظمه ما كان ليلة العقبة أعظم مذكر بذلك ﴿فكف أيديهم عنكم﴾ أي مع قلتكم وكثرتهم وضعفكم وقوتهم، ولم يكن لكم ناصر إلا الذي آمنتم به تلك الليلة وتوكلتم عليه وبايعتم رسوله، فكف ببعض الأعداء عنكم أيدي بعض، ولو شاء لسلطهم عليكم كما سلط ابن آدم على أخيه؛ وينبغي أن يعلم أن القصة التي عُزِيت في بعض التفاسير هنا إلى بني قريظة في الاستعانة في دية القتيلين إنما هي لبني النضير، وهي كانت سبب إجلائهم.
ولما أمرهم بذكر النعمة، عطف على ذلك الأمر الأمر بالخوف من المنعم أن يبدل نعمته بنقمة فقال: ﴿واتقوا الله﴾ أي الملك الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له، حذراً من أن يسلط عليكم أعداءكم ومن غير ذلك من سطواته.
ولما كان التقدير: على الله وحده في كل حالة فتوكلوا، فإنه جدير بنصر من انقطع إليه ولم يعتمد إلا عليه، عطف على ذلك قوله تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: ﴿وعلى الله﴾ أي وحده لكونه لا مثل له ﴿فليتوكل المؤمنون *﴾ أي في كل وقت فإنه يمنعهم إذا شاء كهذا المنع وإن اشتد الخطب وتعاظم الأمر، فتوكلوا ولا تنكلوا عن أعدائكم الذين وعدكم الله أرضهم وديارهم وأبناءهم وتهابوا جموعهم كما هاب
ولما أمرهم بذكر النعمة، عطف على ذلك الأمر الأمر بالخوف من المنعم أن يبدل نعمته بنقمة فقال: ﴿واتقوا الله﴾ أي الملك الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له، حذراً من أن يسلط عليكم أعداءكم ومن غير ذلك من سطواته.
ولما كان التقدير: على الله وحده في كل حالة فتوكلوا، فإنه جدير بنصر من انقطع إليه ولم يعتمد إلا عليه، عطف على ذلك قوله تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: ﴿وعلى الله﴾ أي وحده لكونه لا مثل له ﴿فليتوكل المؤمنون *﴾ أي في كل وقت فإنه يمنعهم إذا شاء كهذا المنع وإن اشتد الخطب وتعاظم الأمر، فتوكلوا ولا تنكلوا عن أعدائكم الذين وعدكم الله أرضهم وديارهم وأبناءهم وتهابوا جموعهم كما هاب
46
بنو إسرائيل - كما سيقص عليكم، وقوله هنا ﴿المؤمنون﴾ وفي قصة بني إسرائيل ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ شديد التآخي، معلم بمقامي الفريقين، وحينئذ حسن كل الحسن تعقيبها مع ما تقدم من أمر العقبة وأمر بني النضير في نقضهم عهدهم وغدرهم، بما هموا به من قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلقاء الرحى عليه من سطح البيت الذي أجلسوه إلى جانبه، بقوله إشارة إلى أن اليهود ما زالوا على النقض قديماً، تحذيراً للمؤمنين من أن يكونوا مثلهم في النقض لئلا يحل بهم ما حل بهم من الصغار، وإعلاماً بأن عادته سبحانه في الإلزام بالتكاليف قديمة غير مخصوصة بهم، بل هي عامة لعباده وقد كلف أهل الكتاب، تشريفاً لهم بمثل ما كلفهم به، ورغبهم ورهبهم ليسابقوهم في الطاعة، فإن الأمر إذا عم هان، والإنسان إذا سابق اجتهد في أخذ الرهان، وأكد الخبر بذلك لئلا يظن لشدة انهماكهم في النفس أنه لم يسبق لهم عهد قبل ذلك فقال تعالى: ﴿ولقد أخذ الله﴾ أي بما له من جميع الجلال والعظمة والكمال ﴿ميثاق بني إسرائيل﴾ أي العهد الموثق بما أخذ عليكم من السمع والطاعة ﴿وبعثنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿منهم اثني عشر نقيباً﴾ أي شاهداً، على كل سبط نقيب يكفلهم بالوفاء بما عليهم من الوفاء به - كما بعثنا منكم ليلة العقبة اثني عشر نقيباً وأخذنا منكم الميثاق على
47
ما أحاله الإسلام - كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه في تخلفه عن تبوك: «ولقد شهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام» وأما تفصيله فمذكور في السير، والنقيب: الذي ينقب عن أحوال القوم كما قيل: عريف، لأنه يتعرفها، ومن ذلك المناقب وهي الفضائل، لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها ﴿وقال الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لبني إسرائيل، وأكد لتكرر جزعهم وتقلبهم فقال: ﴿إني معكم﴾ وهو كناية عن الكفاية لأن القادر إذا كان مع أحد كان كذلك إذا لم يغضبه.
ولما أنهى الترغيب بالمعية استأنف بيان شرط ذلك بقوله مؤكداً لمثل ما مضى: ﴿لئن اقمتم﴾ أي أنشأتم ﴿الصلاة﴾ أي التي هي صلة ما بين العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها؛ ولما كان المقصود من الإنفاق المؤاساة بالإيتاء قال: ﴿وآتيتم الزكاة﴾ أي التي هي بين الحق والخلائق.
ولما كان الخطاب مع من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام، وكانوا في كل قليل يتردعون عن اتباعه أو كمال اتباعه، وكان سبحانه عالماً بأن ميلهم بعده يكون أكثر، فرتب في الأزل أنه تواتر إليهم بعده الرسل يحفظونهم عن الزيغ ويقومون منهم الميل قال: ﴿وآمنتم برسلي﴾ أي
ولما أنهى الترغيب بالمعية استأنف بيان شرط ذلك بقوله مؤكداً لمثل ما مضى: ﴿لئن اقمتم﴾ أي أنشأتم ﴿الصلاة﴾ أي التي هي صلة ما بين العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها؛ ولما كان المقصود من الإنفاق المؤاساة بالإيتاء قال: ﴿وآتيتم الزكاة﴾ أي التي هي بين الحق والخلائق.
ولما كان الخطاب مع من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام، وكانوا في كل قليل يتردعون عن اتباعه أو كمال اتباعه، وكان سبحانه عالماً بأن ميلهم بعده يكون أكثر، فرتب في الأزل أنه تواتر إليهم بعده الرسل يحفظونهم عن الزيغ ويقومون منهم الميل قال: ﴿وآمنتم برسلي﴾ أي
48
أدمتم الإيمان بموسى عليه السلام، وجددتم الإيمان بمن يأتي بعده، فصدقتموهم في جميع ما يأمرونكم به ﴿وعزرتموهم﴾ أي ذببتم عنهم ونصرتموهم ومنعتموهم أشد المنع، والتعزير والتأزير من باب واحد.
ولما كان من أعظم المصدق للإيمان ونصر الرسل بذل المال فهو البرهان قال: ﴿وأقرضتم الله﴾ أي الجامع لكل وصف جميل ﴿قرضاً حسناً﴾ أي بالإنفاق في جميع سبل الخير، وأعظمها الجهاد والإعانة فيه للضعفاء.
ولما كان الإنسان محل النقصان، فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صالح العمل، قال سادّاً. بجواب القسم الذي وطّأت له اللام الداخلة على الشرط - مسدّ جواب الشرط: ﴿لأكفرن﴾ أي لأسترن ﴿عنكم سيئاتكم﴾ أي فعلكم لما من شأنه أن يسوء ﴿ولأدخلنكم﴾ أي فضلاً مني ﴿جنات تجري﴾ ولما كان الماء لا يحسن إلا بقربه وانكشافه عن بعض الأرض قال: ﴿من تحتها الأنهار﴾ أي من شدة الريّ ﴿فمن كفر﴾ ولما كان الله سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولاً. وكان المهلك من المعاصي بعد الإرسال ما اتصل بالموت فأحبط ما قبله، نزع الجار فقال: ﴿بعد ذلك﴾ أي الشرط المؤكد بالأمر العظيم الشأن ﴿منكم﴾ أي بعد ما رأى من الآيات واقرّ به من المواثيق ﴿فقد ضل﴾ أي ترك وضيّع، يُستعمل قاصراً بمعنى: حار، ومتعدياً كما هنا ﴿سواء﴾ أي وسط وعدل ﴿السبيل *﴾
ولما كان من أعظم المصدق للإيمان ونصر الرسل بذل المال فهو البرهان قال: ﴿وأقرضتم الله﴾ أي الجامع لكل وصف جميل ﴿قرضاً حسناً﴾ أي بالإنفاق في جميع سبل الخير، وأعظمها الجهاد والإعانة فيه للضعفاء.
ولما كان الإنسان محل النقصان، فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صالح العمل، قال سادّاً. بجواب القسم الذي وطّأت له اللام الداخلة على الشرط - مسدّ جواب الشرط: ﴿لأكفرن﴾ أي لأسترن ﴿عنكم سيئاتكم﴾ أي فعلكم لما من شأنه أن يسوء ﴿ولأدخلنكم﴾ أي فضلاً مني ﴿جنات تجري﴾ ولما كان الماء لا يحسن إلا بقربه وانكشافه عن بعض الأرض قال: ﴿من تحتها الأنهار﴾ أي من شدة الريّ ﴿فمن كفر﴾ ولما كان الله سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولاً. وكان المهلك من المعاصي بعد الإرسال ما اتصل بالموت فأحبط ما قبله، نزع الجار فقال: ﴿بعد ذلك﴾ أي الشرط المؤكد بالأمر العظيم الشأن ﴿منكم﴾ أي بعد ما رأى من الآيات واقرّ به من المواثيق ﴿فقد ضل﴾ أي ترك وضيّع، يُستعمل قاصراً بمعنى: حار، ومتعدياً كما هنا ﴿سواء﴾ أي وسط وعدل ﴿السبيل *﴾
49
أي لأن ذلك كفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره، وفي هذا تحذير شديد لهذه الأمة، لأن المعنى: فإن نقضتم الميثاق - كما نقضوا - بمثل استدراج شاس بن قيس وغيره، صنعنا بكم ما صنعنا بهم حين نقضوا، من إلزامهم الذلة والمسكنة وغير ذلك من آثار الغضب، وإن وفيتم بالعقود آتيناكم أعظم مما آتيناهم من فتح البلاد والظهور على سائر العباد؛ قال ابن الزبير: ولهذا الغرض والله أعلم - أي غرض التحذير من نقض العهد - ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله تعالى
﴿أوفوا بعهدي﴾ [البقرة: ٤٠] فقال تعالى: ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل﴾ إلى قوله ﴿فقد ضل سواء السبيل﴾ [المائدة: ١٢] ثم بين نقضهم وبنى اللعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه فقال ﴿فبما نقضهم ميثاقهم﴾ [النساء: ٥٥ والمائدة: ١٣] وذكر تعالى عهد الآخرين فقال ﴿ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم﴾ [المائدة: ١٤] ثم فصل تعالى للمؤمنين أفعال الفريقين ليتبين لهم ما نقضوا فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، وكفهم عن فتح الأرض المقدسة، وإسرافهم في القتل وغيره، وتغييرهم أحكام التوراة - إلى غير ذلك مما ذكره في هذه السورة، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى: ﴿لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا﴾ [المائدة: ٨٢] انتهى. وينبغي ذكر النقباء من هذه الفرق الثلاث بأسمائهم وما دعي إلى ذلك تحقيقاً
﴿أوفوا بعهدي﴾ [البقرة: ٤٠] فقال تعالى: ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل﴾ إلى قوله ﴿فقد ضل سواء السبيل﴾ [المائدة: ١٢] ثم بين نقضهم وبنى اللعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه فقال ﴿فبما نقضهم ميثاقهم﴾ [النساء: ٥٥ والمائدة: ١٣] وذكر تعالى عهد الآخرين فقال ﴿ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم﴾ [المائدة: ١٤] ثم فصل تعالى للمؤمنين أفعال الفريقين ليتبين لهم ما نقضوا فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، وكفهم عن فتح الأرض المقدسة، وإسرافهم في القتل وغيره، وتغييرهم أحكام التوراة - إلى غير ذلك مما ذكره في هذه السورة، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى: ﴿لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا﴾ [المائدة: ٨٢] انتهى. وينبغي ذكر النقباء من هذه الفرق الثلاث بأسمائهم وما دعي إلى ذلك تحقيقاً
50
للأمر وزيادة تبصرة، أما اليهود فكان فيهم ذلك مرتين: الأولى: قال في السفر الرابع من التوراة: إن الرب تبارك اسمه كلم موسى النبي في جبل سينا وفي قبة الأمد في أول يوم من الشهر الثاني في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر وقال الله: احص عدد جماعة بني إسرائيل كلها في قبائلهم. كل ذكر من أبناء عشرين سنة إلى فوق، كل من يخرج في الحرب، وأحصهم أنت وأخوك هارون، وليكن معكما من كل سبط رجل ويكون الرجل رئيساً في بيته، ثم بين بعد ذلك أن كل رجل منهم يكون قائد جماعته، ينزلون بنزوله حول قبة الزمان ويرحلون برحيله، ويطيعونه فيما يأمر به، ففعل موسى وهارون ما أمرهما الله به وانتدبوا اثني عشررجلاً كما أمر الله، فمن سبط روبيل: إليصور بن شداور، ومن سبط شمعون: سلوميل بن صور يشدي، ومن سبط يهودا: نحسون بن عمينا ذاب، ومن سبط إيشاخار: نتنائيل بن ضوغر، ومن سبط زابلون: أليب بن حيلون، ومن سبط يوسف من آل إفرائيم: إليسمع بن عميهوذ. ومن سبط منشا: جماليال بن فداهصور - قلت: ومنشا هو
51
ابن يوسف وهو أخو إفرائيم - ومن سبط بنيامين: أبيذان بن جدعوني، ومن سبط دان: أخيعزر بن عميشدي، ومن سبط آشير: فجعائيل بن عخرن، ومن سبط جاد: إليساف بن دعوائيل، ومن سبط نفتالي: أخيراع ابن عينان؛ وسبط لاوي هم سبط موسى وهارون عليهما السلام لم يذكروا لأنهم كانوا لحفظ قبة الزمان، فموسى وهارون عليهم كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قومه - كما سيأتي، والمرة الثانية كانت ليجسّوا أمر بيت المقدس، قال في أثناء هذا السفر: وكلم الرب موسى وقال له: أرسل قوماً يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل، وليكون الذين ترسل رجلاً من كل سبط من رؤساء آبائهم، فأرسلهم موسى من برية فاران عن قول الرب، رجالاً من رؤساء بني إسرائيل، وهذه أسماءهم من سبط روبيل: ساموع بن ذكور، ومن سبط شمعون: سافاط بن حوري، ومن سبط يهودا: كالاب بن يوفنا، ومن سبط إيشاخار: إجال بن يوسف، ومن سبط إفرائيم: هو ساع بن نون،
52
ومن سبط بنيامين: فلطي بن رافو، ومن سبط زابلون: جدي إيل بن سودي، ومن سبط يوسف من سبط منشا: جدي بن سوسي، ومن سبط دان: عميال بن جملي، ومن سبط آشير: ساتور بن ميخائيل، ومن سبط نفتالي: نجني بن وفسي، ومن سبط جاد: جوائل بن ماخي؛ هؤلاء الذين أرسلهم وتقدم إليهم بالوصية.
وأما النصارى ففي إنجيل متى ما نصه: ودعا يعني عيسى عليه السلام. تلاميذه الاثني عشر، وأعطاهم سلطاناً على جميع الأرواح النجسة لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض؛ وفي إنجيل مرقس: وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه، ولكي يرسلهم ليكروزا، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين؛ وفي إنجيل لوقا: ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وإشفاء المرضى، وأرسلهم يكرزون مملكوت الله ويشفون الأوجاع، وهذه أسماؤهم: شمعون المسمى بطرس، وأندراوس أخوه، ويعقوب بن زبدي، ويوحنا أخوه - وقال في إنجيل مرقس: وسماهما
وأما النصارى ففي إنجيل متى ما نصه: ودعا يعني عيسى عليه السلام. تلاميذه الاثني عشر، وأعطاهم سلطاناً على جميع الأرواح النجسة لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض؛ وفي إنجيل مرقس: وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه، ولكي يرسلهم ليكروزا، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين؛ وفي إنجيل لوقا: ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وإشفاء المرضى، وأرسلهم يكرزون مملكوت الله ويشفون الأوجاع، وهذه أسماؤهم: شمعون المسمى بطرس، وأندراوس أخوه، ويعقوب بن زبدي، ويوحنا أخوه - وقال في إنجيل مرقس: وسماهما
53
باسم بوانرجس اللذين هما ابنا الرعد - وفيلبس، وبرتولوماوي، وتوما، ومتى العَشّار، ويعقوب بن حلفا، وليا الذي يدعى بداوس وقد اختلفت الأناجيل في هذا، ففي إنجيل مرقس بدله: تدي، وفي إنجيل لوقا: يهودا بن يعقوب، ثم اتفقوا: وشمعون القاناني - وفي إنجيل لوقا: المدعو الغيور - ويهودا الإسخريوطي الذي أسلمه. وأما نقباء الإسلام فكانوا ليلة العقبة الأخيرة حين بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصار رضي الله عنهم على الحرب وأن يمنعوه إذا وصل إلى بلدهم، وقال لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم كما اختار موسى من قومه، وأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال لهم: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي، قالوا: نعم، وهذه اسماؤهم من الخزرج: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، وعبادة بن الصامت، والمنذر بن عمرو؛ ومن الأوس: أسيد بن حضير، وسعد بن خثيمة، ورفاعة بن عبد المنذر، وأبو الهيثم بن التيهان، قال
54
ابن هشام: وقال كعب بن مالك يذكرهم فيما أنشدني أبو زيد الأنصاري وذكر أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة فقال:
أبلغ أبيّاً أنه قال رأيه | وحان غداة الشعب والحين واقع |
أبى الله ما منتك نفسك إنه | بمرصاد أمر الناس راءٍ وسامع |
وأبلغ أبا سفيان أن قد بدا لنا | بأحمد نور من هدى الله ساطع |
فلا ترغبن في حشد أمر تريده | وألب وجمع كل ما أنت جامع |
ودونك فاعلم أن نقض عهودنا | أباه عليك الرهط حين تبايعوا |
أباه البراء وابن عمرو كلاهما | وأسعد يأباه عليك ورافع |
وسعد أباه الساعدي ومنذر | لأنفك إن حاولت ذلك جادع |
وما ابن ربيع إن تناولت عهده | بمسلمه لا يطمعن ثم طامع |
وأيضاً فلا يعطيكه ابن رواحة | وإخفاره من دونه السم ناقع |
وفاء به والقوقلي بن صامت | بمندوحة عما تحاول يافع |
أبو هيثم أيضاً وفى بمثلها | وفاء بما أعطى من العهد خانع |
وما ابن حضير إن أردت بمطمع | فهل أنت عن أحموقة الغي نازع |
وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه | ضروح لما حاولت ملأمر مانع |
اولاك نجوم لا يغبك منهم | عليك بنحس في دجى الليل طالع |
56
ولما ذكر سبحانه ما أخذ على اليهود من الميثاق ووعيده لهم إن كفروا بعد ذلك، ذكر أنهم نقضوا مرة بعد مرة - كما تقدم في سورة البقرة وغيرها كثير منه عن نص ما عندهم من التوراة - فاستحقوا ما هم فيه من الخزي، فقال تعالى مسبباً عما مضى مؤكداً بما النافية لضد ما أثبته الكلام: ﴿فبما نقضهم ميثاقهم﴾ أي بتكذيب الرسل الآتين من بعد موسى عليه السلام، وقتلهم الأنبياء، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم في كتمانهم أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغير ذلك
56
لا بغير ذلك كما نقض بنو النضير فسلطكم الله عليهم بما أشار إليهم في سورة الحشر ﴿لعناهم﴾ أي أبعدناهم بعد أنا وعدناهم القرب بالكون معهم إن وفوا.
ولما كان البعيد قد يكون رقيق القلب، متأسفاً على بعده. ساعياً في أسباب قربه، باقياً على عافية ربه، فيرجى بذلك له الغفران لذنبه. أخبر أنهم على غير ذلك بقوله: ﴿وجعلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿قلوبهم قاسية﴾ أي صلبة عاسية بالغش فهي غير قابلة للنصحية، لأن الذهب الخالص يكون ليناً، والمغشوش يكون فيه يبس وصلابة، وكل لين قابل للصلاح بسهولة، ثم بين قساوتها بما دل على نقضهم بقوله: ﴿يحرّفون الكلم﴾ أي يجددون كل وقت تحريفه ﴿عن مواضعه﴾ فإنهم كلما وجدوا شيئاً من كلام الله يشهد بضلالهم حرفوه إلى شهواتهم، وأولوه التأويل الباطل بأهوائهم، فهم يحرفون الكلم ومعانيها.
ولما كانوا قد تركوا أصلاً ورأساً ما لا يقدرون لصراحته على تحريفه، قال معبراً بالماضي إعلاماً بحرمهم بالبراءة من ذلك: ﴿ونسوا حظاً﴾ أي نصيباً نافعاً معلياً لهم ﴿مما ذكروا به﴾ أي من التوراة على ألسنة أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم السلام، تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته
ولما كان البعيد قد يكون رقيق القلب، متأسفاً على بعده. ساعياً في أسباب قربه، باقياً على عافية ربه، فيرجى بذلك له الغفران لذنبه. أخبر أنهم على غير ذلك بقوله: ﴿وجعلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿قلوبهم قاسية﴾ أي صلبة عاسية بالغش فهي غير قابلة للنصحية، لأن الذهب الخالص يكون ليناً، والمغشوش يكون فيه يبس وصلابة، وكل لين قابل للصلاح بسهولة، ثم بين قساوتها بما دل على نقضهم بقوله: ﴿يحرّفون الكلم﴾ أي يجددون كل وقت تحريفه ﴿عن مواضعه﴾ فإنهم كلما وجدوا شيئاً من كلام الله يشهد بضلالهم حرفوه إلى شهواتهم، وأولوه التأويل الباطل بأهوائهم، فهم يحرفون الكلم ومعانيها.
ولما كانوا قد تركوا أصلاً ورأساً ما لا يقدرون لصراحته على تحريفه، قال معبراً بالماضي إعلاماً بحرمهم بالبراءة من ذلك: ﴿ونسوا حظاً﴾ أي نصيباً نافعاً معلياً لهم ﴿مما ذكروا به﴾ أي من التوراة على ألسنة أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم السلام، تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته
57
به بحيث لم يكن لهم رجوع إليه، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية.
ولما ذكر سبحانه ما يفعلونه في حقه في كلامه الذي هو صفته، أتبعه ما يعم حقه وحق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجه معلم أن الخيانة ديدنهم، تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿ولا تزال﴾ أي بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق! ﴿تطلع﴾ أي تظهر ظهوراً بليغاً ﴿على خائنة﴾ أي خيانة عظيمة تستحق أن تسمي فاعلها الخؤون لشدتها و ﴿منهم﴾ أي في حقك بقصد الأذى، وفي حق الله تعالى بإخفاء بعض ما شرعه لهم ﴿إلا قليلاً منهم﴾ فإنهم يكونون على نهج الاستقامة إما بالإيمان، وإما بالوفاء وهم متمسكون بالكفر، ثم سبب عن هذا الذي في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: ﴿فاعف عنهم﴾ أي امح ذنبهم ذلك الذي اجترحوه، وهو دون النقض والتحريف فلا تعاقبهم عليه.
ولما كان العفو لا يمنع المعاتبة قال: ﴿واصفح﴾ أي وأعرض عن ذلك أصلاً ورأساً، فلا تعاتبهم عليه كما لم تعاقبهم، فإن ذلك إحسان منك، وإذا أحسنت أحبك الله ﴿إن الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿يحب المحسنين *﴾ وذلك - كما روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله سحره رجل من
ولما ذكر سبحانه ما يفعلونه في حقه في كلامه الذي هو صفته، أتبعه ما يعم حقه وحق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجه معلم أن الخيانة ديدنهم، تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿ولا تزال﴾ أي بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق! ﴿تطلع﴾ أي تظهر ظهوراً بليغاً ﴿على خائنة﴾ أي خيانة عظيمة تستحق أن تسمي فاعلها الخؤون لشدتها و ﴿منهم﴾ أي في حقك بقصد الأذى، وفي حق الله تعالى بإخفاء بعض ما شرعه لهم ﴿إلا قليلاً منهم﴾ فإنهم يكونون على نهج الاستقامة إما بالإيمان، وإما بالوفاء وهم متمسكون بالكفر، ثم سبب عن هذا الذي في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: ﴿فاعف عنهم﴾ أي امح ذنبهم ذلك الذي اجترحوه، وهو دون النقض والتحريف فلا تعاقبهم عليه.
ولما كان العفو لا يمنع المعاتبة قال: ﴿واصفح﴾ أي وأعرض عن ذلك أصلاً ورأساً، فلا تعاتبهم عليه كما لم تعاقبهم، فإن ذلك إحسان منك، وإذا أحسنت أحبك الله ﴿إن الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿يحب المحسنين *﴾ وذلك - كما روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله سحره رجل من
58
اليهود يقال له لبيد بن الأعصم وفي رواية للبخاري: إنه رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقاً - حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وذلك أشد السحر، ثم إن الله تعالى شفاه وأعلمه أن السحر في بئر ذروان، فقالت له عائشة رضي الله عنها: أفلا أخرجته؟ فقال: لا، أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شراً، فأمر بها فدفنت، وهو في معجم الطبراني الكبير - وهذا لفظه - ومسند أبي يعلى الموصلي وسنن النسائي الكبرى ومسند عبد بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «كان رجل يدخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعقد له عقداً فجعله في بئر رجل من الأنصار، فأتاه ملكان يعودانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما: أتدري ما وجعه؟ قال: فلان الذي يدخل عليه عقد له عقداً فألقاه في بئر فلان الأنصاري، فلو أرسل إليه رجلاً لوجد الماء أصفر، فبعث رجلاً فأخذ العقد فحلّها فبرأ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يذكر له شيئاً منه ولم يعاتبه» وللشيخين عن أنس رضي الله عنه «أن
59
امرأة يهودية أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك، قال: ما كان الله ليسلطك على ذلك - أو قال: عليّ - قالوا: فلا تقتلها؟ قال: لا، قال: فما زلت أعرفها في لهوات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي رواية: إنها كانت سبب موت النبي صلى الله عيله وسلم بانقطاع أبهره الشريف منها بعد سنين» وفي سنن أبي داود من وجه مرسل أنه قتل اليهودية. والأول هو الصحيح، وسيأتي لهذا الحديث ذكر في هذه السورة عند ﴿والله يعصمك من الناس﴾ [المائدة: ٦٧]، فهذا غاية العفو والإحسان امتثالاً لأمر الله سبحانه.
ولما دخل النصارى فيما مضى لأنهم من بني إسرائيل، خصهم بالذكر لأن كفرهم أشد وأسمج فقال: ﴿ومن الذين قالوا﴾ أي مسمين أنفسهم ملزمين لها النصرة لله، مؤكدين قولهم رداً على من يرتاب فيه: ﴿إنا نصارى﴾ أي مبالغون في نصرة الحق، فالتعبير بذلك دون ومن النصارى تنبيه على أنهم تسموا بما لم يفوا به ﴿أخذنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿ميثاقهم﴾ أي كما أخذ على الذين من قبلهم.
ولما كان كفرهم في غاية الظهور والجلاء، لم ينسبهم إلى غير الترك فقال: ﴿فنسوا﴾ أي تركوا ترك الناسي ﴿حظاً﴾ أي
ولما دخل النصارى فيما مضى لأنهم من بني إسرائيل، خصهم بالذكر لأن كفرهم أشد وأسمج فقال: ﴿ومن الذين قالوا﴾ أي مسمين أنفسهم ملزمين لها النصرة لله، مؤكدين قولهم رداً على من يرتاب فيه: ﴿إنا نصارى﴾ أي مبالغون في نصرة الحق، فالتعبير بذلك دون ومن النصارى تنبيه على أنهم تسموا بما لم يفوا به ﴿أخذنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿ميثاقهم﴾ أي كما أخذ على الذين من قبلهم.
ولما كان كفرهم في غاية الظهور والجلاء، لم ينسبهم إلى غير الترك فقال: ﴿فنسوا﴾ أي تركوا ترك الناسي ﴿حظاً﴾ أي
60
نصيباً عظيماً يتنافس في مثله ﴿مما ذكروا به﴾ أي في الإنجيل مما سبق لهم ذكره في التوراة من أوصاف نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغير ذلك من الحق.
ولما أدى ذلك إلى تشعبهم فرقاً، فأنتج تشاحنهم وتقاطعهم وتدابرهم، سبب عنه قوله: ﴿فأغرينا﴾ أي ألصقنا بعظمتنا إلصاق ما هو بالغراء لا ينفك بل يصير كجزء الشيء ﴿بينهم﴾ أي النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً متباينين بتفريق الدين، وكذا بينهم وبين اليهود ﴿العداوة﴾ ولما كان العداوة قد تكون عن بغي ونحوه إذا زال زالت أو خفت، قال معلماً أنها لأمر باطني نشأ من تزيين الهوى، فهو ثابت غير منفك: ﴿والبغضاء﴾ بالأهواء المختلفة ﴿إلى يوم القيامة﴾.
ولما أخبر بنكدهم في الدنيا، أعقبه ما لهم في الأخرى فقال: ﴿وسوف ينبئهم﴾ أي يخبرهم ﴿الله﴾ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً إخباراً بعظيم الشأن بما فيه من عظم التقريع والتوبيخ في الآخرة بوعيد لا خلف فيه؛ ولما كانت خيانتهم قد صارت لهم فيها ملكات بما لازموا منها حتى ضربوا بها وتدربوا عليها، حتى
ولما أدى ذلك إلى تشعبهم فرقاً، فأنتج تشاحنهم وتقاطعهم وتدابرهم، سبب عنه قوله: ﴿فأغرينا﴾ أي ألصقنا بعظمتنا إلصاق ما هو بالغراء لا ينفك بل يصير كجزء الشيء ﴿بينهم﴾ أي النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً متباينين بتفريق الدين، وكذا بينهم وبين اليهود ﴿العداوة﴾ ولما كان العداوة قد تكون عن بغي ونحوه إذا زال زالت أو خفت، قال معلماً أنها لأمر باطني نشأ من تزيين الهوى، فهو ثابت غير منفك: ﴿والبغضاء﴾ بالأهواء المختلفة ﴿إلى يوم القيامة﴾.
ولما أخبر بنكدهم في الدنيا، أعقبه ما لهم في الأخرى فقال: ﴿وسوف ينبئهم﴾ أي يخبرهم ﴿الله﴾ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً إخباراً بعظيم الشأن بما فيه من عظم التقريع والتوبيخ في الآخرة بوعيد لا خلف فيه؛ ولما كانت خيانتهم قد صارت لهم فيها ملكات بما لازموا منها حتى ضربوا بها وتدربوا عليها، حتى
61
صارت لهم أحوالاً لأنفسهم وأخلاقاً لقلوبهم، سماها صنائع فقال: ﴿بما كانوا يصنعون *﴾ أي دربوا أنفسهم عليه حتى صار كالصنعة، فيجازيهم عليه بما يقيم عليهم من الحجة.
62
ولما علم بذلك كله أحوال الفريقين، أقبل عليهم واعظاً منادياً متلطفاً مستعطفاً مرغباً مرهباً فقال: ﴿يا أهل الكتاب﴾ أي عامة ﴿قد جاءكم رسولنا﴾ أي الذي أرسلناه مما لنا من العظمة فليظهرن بذلك على من ناواه ﴿يبين لكم﴾ أي يوضح إيضاحاً شافياً ﴿كثيراً مما كنتم﴾ أي بما لكم من جبلة الشر والخيانة ﴿تخفون من الكتاب﴾ أي العظيم المنزل عليكم، من صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكم الزنا وغيرهما، لإحياء سنة وإماتة بدعة - كما مضى منه ما شاء الله في سورة البقرة، وذلك دال بلا شبهة على صحة رسالته ﴿ويعفوا عن كثيراً *﴾ أي فلا يفضحكم بإظهاره امتثالاً لأمرنا له بذلك - كما تقدم أنه إحسان منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليكم، لأنه لا فائدة في إظهاره إلا فضيحتكم.
ولما أخبر عن فصله للخفايا، وكان التفصيل لا يكون إلا بالنور، اقتضى الحال توقع الإخبار بأنه نور، فقال مفتتحاً بحرف التوقيع والتحقيق:
ولما أخبر عن فصله للخفايا، وكان التفصيل لا يكون إلا بالنور، اقتضى الحال توقع الإخبار بأنه نور، فقال مفتتحاً بحرف التوقيع والتحقيق:
62
﴿قد جاءكم﴾ وعظمه بقوله معبراً بالاسم الأعظم: ﴿من الله﴾ أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿نور﴾ أي واضح النورية، وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كشف ظلمات الشك والشرك، ودل على جمعه مع فرقه بقوله: ﴿وكتاب﴾ أي جامع ﴿مبين﴾ أي بين في نفسه، مبين لما كان خافياً على الناس من الحق.
ولما كانت هدايته مشروطة بشرط صلاح الجبلة، بين ذلك بقوله واصفاً له: ﴿يهدي به﴾ أي الكتاب ﴿الله﴾ أي الملك الأعظم القادر على التصرف في البواطن والظواهر ﴿من اتبع﴾ أي كلف نفسه وأجهدها في الخلاص من أسر الهوى بأن تبع ﴿رضوانه﴾ أي غاية ما يرضيه من الإيمان والعمل الصالح، ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا بتوفيقه، ثم ذكر مفعول ﴿يهدي﴾ فقال: ﴿سبل﴾ أي طرق ﴿السلام﴾ أي الله، باتباع شرائع دينه والعافية والسلامة من كل مكروه ﴿وخرجهم من الظلمات﴾ أي كدورات النفوس والأهواء والوساس الشيطانية ﴿إلى النور﴾ أي الذي دعا إليه العقل فيصيروا عاملين بأحسن الأعمال كما يقتضيه اختيار من هو في النور ﴿بإذنه﴾ أي بتمكينه.
ولما كان من في النور قد يغيب عنه غرضه الأعظم فلا ينظره لغيبته عنه ببعده منه، وتكثر عليه الأسباب فلا يدري أيها الوصف أو يقرب إيصاله ويسهل أمره، قال كافلاً لهم بالنور مريحاً من تعب
ولما كانت هدايته مشروطة بشرط صلاح الجبلة، بين ذلك بقوله واصفاً له: ﴿يهدي به﴾ أي الكتاب ﴿الله﴾ أي الملك الأعظم القادر على التصرف في البواطن والظواهر ﴿من اتبع﴾ أي كلف نفسه وأجهدها في الخلاص من أسر الهوى بأن تبع ﴿رضوانه﴾ أي غاية ما يرضيه من الإيمان والعمل الصالح، ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا بتوفيقه، ثم ذكر مفعول ﴿يهدي﴾ فقال: ﴿سبل﴾ أي طرق ﴿السلام﴾ أي الله، باتباع شرائع دينه والعافية والسلامة من كل مكروه ﴿وخرجهم من الظلمات﴾ أي كدورات النفوس والأهواء والوساس الشيطانية ﴿إلى النور﴾ أي الذي دعا إليه العقل فيصيروا عاملين بأحسن الأعمال كما يقتضيه اختيار من هو في النور ﴿بإذنه﴾ أي بتمكينه.
ولما كان من في النور قد يغيب عنه غرضه الأعظم فلا ينظره لغيبته عنه ببعده منه، وتكثر عليه الأسباب فلا يدري أيها الوصف أو يقرب إيصاله ويسهل أمره، قال كافلاً لهم بالنور مريحاً من تعب
63
السير: ﴿ويهديهم﴾ أي بما له من إحاطة العلم والقدرة ﴿إلى صراط مستقيم *﴾ أي طريق موصل إلى الغرض من غير عوج أصلاً، وهو الدين الحق، وذلك مقتض للتقرب المستلزم لسرعة الوصول.
64
ولما تم ذلك موضحاً لأن من لم يتبع الكتاب الموصوف كان كافراً وعن الطريق الأمم جائراً حائراً، وكان محصل حال اليهود كما رأيت فيما تقدم ويأتي من نصوص التوراة - أنهم لا يعتقدون على كثرة ما يرون من الآيات أن الله مع نبيهم دائماً، وكان أنسب الأشياء بعد الوعظ أن يذكر حال النصارى في نبيهم، فإنه مباين لحال اليهود من كل وجه، فأولئك على شك في أنه معه، وهؤلاء اعتقدوا أنه هو، فقال تعالى مبيناً أنهم في أظلم الظلام وأعمى العمى: ﴿لقد﴾ أو يقال: إن اليهود لما فرطوا فكفروا، أفهم ذلك أن النصارى لما أفرطوا كفروا، فصار حالهم كالنتيجة لما مضى فقال: لقد ﴿كفر الذين قالوا﴾ مؤكدين لبعد ما قالوه من العقل فهو في غاية الإنكار ﴿إن الله﴾ أي على ما له من جميع صفات الكمال التي لا يجهلها من له أدنى تأمل إذا ترجى الهدى وانخلع من أسر الهوى ﴿هو المسيح﴾ أي عينه، وهو أقطع الكفر وأبينه بطلاناً، ووصفه بما هو في غاية الوضوح في بطلان قولهم لبعده عن رتبة الألوهية في الحاجة إلى امرأة فقال: ﴿ابن مريم﴾ فهو محتاج إلى كفالتها بما لها من الأمومة.
ولما بطل مدعاهم على أتقن منهاج وأخصره، وكان بما دق
ولما بطل مدعاهم على أتقن منهاج وأخصره، وكان بما دق
64
على بعض الأفهام، أوضحه بقوله: ﴿قل﴾ دالاً على أن المسيح عليه السلام عبد مملوك لله، مسبباً عن كفرهم ﴿فمن يملك من الله﴾ أي الملك الذي له الأمر كله ﴿شيئاً﴾ أي من الأشياء التي يتوهم أنها قد تمنعه مما يريد، بحيث يصير ذلك المملوك أحق به منه ولا ينفذ له فيه تصرف ﴿إن أراد﴾ أي الله سبحانه ﴿أن يهلك المسيح﴾ وكرر وصفه بالنوبة إيضاحاً للمراد فقال: ﴿ابن مريم﴾ وأزال الشبهة جداً بقوله: ﴿وأمه﴾ ولما خصهما دليلاً على ضعفهما المستلزم للمراد، عم دلالة على عموم القدرة المستلزم لتمام القهر لكل من يماثلهما المستلزم لعجز الكل المبعد من رتبة الإلهية، فقال موضحاً للدليل بتسويتهما ببقية المخلوقات: ﴿ومن في الأرض جميعاً﴾ أي فمن يملك منعه من ذلك.
ولما كان التقدير: فإن ذلك كله لله، يهلكه كيف شاء متى شاء، عطف عليه ما هو أعم منه، فقال معلماً بأنه - مع كونه مالكاً مَلِكاً - له تمام التصرف: ﴿ولله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا شريك له ﴿ملك السماوات﴾ أي التي بها قيام الأرض ﴿والأرض وما بينهما﴾ أي ما بين النوعين وبين أفرادهما، بما به تمام أمرهما؛ ثم استأنف قوله دليلاً على ما قبله ونتيجة له: ﴿يخلق ما يشاء﴾ على أي كيفية أراد -
ولما كان التقدير: فإن ذلك كله لله، يهلكه كيف شاء متى شاء، عطف عليه ما هو أعم منه، فقال معلماً بأنه - مع كونه مالكاً مَلِكاً - له تمام التصرف: ﴿ولله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا شريك له ﴿ملك السماوات﴾ أي التي بها قيام الأرض ﴿والأرض وما بينهما﴾ أي ما بين النوعين وبين أفرادهما، بما به تمام أمرهما؛ ثم استأنف قوله دليلاً على ما قبله ونتيجة له: ﴿يخلق ما يشاء﴾ على أي كيفية أراد -
65
كما تقدم أن له أن يعدم ما يشاء كذلك، فلا عجب في خلقه بشراً من أنثى فقط، لا بواسطة ذكر، حتى يكون سبباً في ضلال من ضل به، ولما دل ذلك على تمام القدرة على المذكور عم فقال: ﴿والله﴾ أي ذو الجلال والإكرام ﴿على كل شيء﴾ أي من ذلك وغيره ﴿قدير *﴾.
ولما عم سبحانه في ذكر فضائح بني إسرائيل تارة، وخص أخرى، عم بذكر طامة من طوامهم، حملهم عليها العجب والبطر بما أنعم الله به عليهم، فقال: ﴿وقالت اليهود والنصارى﴾ أي كل طائفة قالت ذلك على حدتها خاصة لنفسها دون الخلق أجمعين ﴿نحن أبناؤا الله﴾ أي بما هو ناظر إلينا به من جميع صفات الكمال ﴿وأحباؤه﴾ أي غريقون في كل من الوصفين - كما يدل عليه العطف بالواو، ثم شرع ينقض هذه الدعوى نقضاً بعد نقض على تقدير كون البنوة على حقيقتها أو مجازها، والذي أورثهم هذه الشبهة - إن لم يكونوا قالوا ذلك عناداً - أن في موضع من التوراة عن قول الله تعالى لموسى عليه السلام: شعبي بكري، وقال في أول نبوة موسى عليه السلام - كما ذكرته في الأعراف: وقل لفرعون: هكذا يقول الرب: ابني بكري إسرائيل أرسل ليعبدني، فإن أبيت أن ترسل ابني فإني أقتل ابنك بكرك - ونحو هذا؛ وفي كثير مما بين أيديهم من الإنجيل عن قول عيسى عليه السلام:
ولما عم سبحانه في ذكر فضائح بني إسرائيل تارة، وخص أخرى، عم بذكر طامة من طوامهم، حملهم عليها العجب والبطر بما أنعم الله به عليهم، فقال: ﴿وقالت اليهود والنصارى﴾ أي كل طائفة قالت ذلك على حدتها خاصة لنفسها دون الخلق أجمعين ﴿نحن أبناؤا الله﴾ أي بما هو ناظر إلينا به من جميع صفات الكمال ﴿وأحباؤه﴾ أي غريقون في كل من الوصفين - كما يدل عليه العطف بالواو، ثم شرع ينقض هذه الدعوى نقضاً بعد نقض على تقدير كون البنوة على حقيقتها أو مجازها، والذي أورثهم هذه الشبهة - إن لم يكونوا قالوا ذلك عناداً - أن في موضع من التوراة عن قول الله تعالى لموسى عليه السلام: شعبي بكري، وقال في أول نبوة موسى عليه السلام - كما ذكرته في الأعراف: وقل لفرعون: هكذا يقول الرب: ابني بكري إسرائيل أرسل ليعبدني، فإن أبيت أن ترسل ابني فإني أقتل ابنك بكرك - ونحو هذا؛ وفي كثير مما بين أيديهم من الإنجيل عن قول عيسى عليه السلام:
66
افعلوا كذا لتكونوا بني أبيكم الذي في السماء - ونحو ذلك، وقد بينت معناه على تقدير صحته بما يوجب رده إلى المحكم بلا شبهة في أول سورة آل عمران؛ قال البيضاوي في أول سورة الكهف: إنهم كانوا يطلقون الأب والابن في تلك الأديان بمعنى المؤثر والأثر، وقال في البقرة في تفسير ﴿بديع السماوات﴾ [البقرة: ١١٧] : أنهم كانوا يطلقون الأب على الله باعتبار أنه السبب الأصلي، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة، فلذاك كفر قائله ومنع منه منعاً مطلقاً انتهى. فأول نقض نقض به سبحانه وتعالى هذه الدعوى بيان أنه يعذبهم فقال: ﴿قل فلم يعذبكم﴾ أي إن كنتم جامعين بين كونكم أبناء وأحباء بين عطف النبوة وحنو المحبة ﴿بذنوبكم﴾ وعذابهم مذكور في نص توراتهم في غير موطن ومشهور في تواريخهم بجعلهم قردة وخنازير وغير ذلك، أي فإن كان المراد بالبنوة الحقيقة فابن الإله لا يكون له ذنب فضلاً عن أن يعذب به، لأن الابن لا يكون إلا من جنس الأب - تعالى الله عن النوعية والجنسية والصاحبة والولد علواً كبيراً! وإن كان المراد المجاز، أي بكونه يكرمكم إكرام الولد والحبيب، كان ذلك مانعاً من التعذيب.
ولما كان معنى ذلك أن يعذذبكم لأنكم لستم أبناء ولا أحباء،
ولما كان معنى ذلك أن يعذذبكم لأنكم لستم أبناء ولا أحباء،
67
عطف عليه نقضاً آخر أوضح من الأول فقال: ﴿بل أنتم بشر ممن خلق﴾ وذلك أمر مشاهد، والمشاهدات من أوضح الدلائل، فأنتم مساوون لغيركم في البشرية والحدوث، لا مزية لأحد منكم على غيره في الخلق والبشرية، وهما يمنعان البنوة، فإن القديم لا يلد بشراً، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوصفين البنوة، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله؛ فبطل الوصفان اللذان ادعوهما.
ولما كان التقدير: يفعل بكم ما يفعل بسائر خلقه، وصل به قوله جواباً لمن يقول: وما هو فاعل بمن خلق؟ :﴿يغفر لمن يشاء﴾ أي من خلقه منكم ومن غيركم فضلاً منه تعالى ﴿ويعذب من يشاء﴾ عدلاً كما تشاهدونه يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين.
ولما كان التقدير: لأنه مالك خلقه وملكهم لا اعتراض عليه في شيء من أمره، عطف عليه قوله نقضاً ثالثاً بما هو أعم مما قبله فقال: ﴿ولله﴾ أي الذي له الأمر كله، فلا كفوء له ﴿ملك السماوات﴾ وقدمها لشرفها دلالة على ملك غيرها من باب أولى، وصرح بقوله: ﴿والأرض وما بينهما﴾ أي وأنتم مما بينهما، وقد اجتمع بذلك مع المُلكِ والإبداعِ المِلكُ والتصريف والتصرف التام، وذلك هو الغنى المطلق، ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء من ولد ولا غيره، ولا يكون لأحد عليه حق، ولا يسوغ عليه اعتراض.
ولما كان التقدير: فمنه وحده الابتداء، عطف عليه قوله:
ولما كان التقدير: يفعل بكم ما يفعل بسائر خلقه، وصل به قوله جواباً لمن يقول: وما هو فاعل بمن خلق؟ :﴿يغفر لمن يشاء﴾ أي من خلقه منكم ومن غيركم فضلاً منه تعالى ﴿ويعذب من يشاء﴾ عدلاً كما تشاهدونه يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين.
ولما كان التقدير: لأنه مالك خلقه وملكهم لا اعتراض عليه في شيء من أمره، عطف عليه قوله نقضاً ثالثاً بما هو أعم مما قبله فقال: ﴿ولله﴾ أي الذي له الأمر كله، فلا كفوء له ﴿ملك السماوات﴾ وقدمها لشرفها دلالة على ملك غيرها من باب أولى، وصرح بقوله: ﴿والأرض وما بينهما﴾ أي وأنتم مما بينهما، وقد اجتمع بذلك مع المُلكِ والإبداعِ المِلكُ والتصريف والتصرف التام، وذلك هو الغنى المطلق، ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء من ولد ولا غيره، ولا يكون لأحد عليه حق، ولا يسوغ عليه اعتراض.
ولما كان التقدير: فمنه وحده الابتداء، عطف عليه قوله:
68
﴿وإليه﴾ أي وحده ﴿المصير *﴾ أي الصيرورة والرجوع وزمان ذلك ومكانه معنى في الدنيا بأنه لا يخرج شيء عن مراده، وحساً في الآخرة، فيحكم بين مصنوعاته على غاية العدل - كما هو مقتضى الحكمة وشأن كل ملك في إقامة ملكه بإنصاف بعض عبيده من بعض، لا يجوز عنده في موجب السياسة إطلاق قويهم على ضعيفهم، فإن ذلك يؤدي إلى خراب الملك وضعف الملك، فإذا كان هذا شأن الملوك في العبيد الناقصين فما ظنك بأحكم الحاكمين! فإذا عاملهم كلهم بالعدل أسبغ على من يريد ملابس الفضل.
69
ولما دحضت حجتهم، ووضحت أكذوبتهم، اقتضى ذلك الالتفات إلى وعظهم على وجه الامتنان عليهم وإبطال ما عساهم يظنونه حجة، فقال تعالى: ﴿يا أهل الكتاب﴾ أي من الفريقين؛ ولما كان ما حصل لهم من الضلال بتضييع ما عندهم من البينات وتغييرها ما لا يتوقع معه الإرسال، قال معبراً بحرف التوقع: ﴿قد جاءكم رسولنا﴾ أي الذي عظمته من عظمتنا، فإعظامه وإجلاله واجب لذلك، ثم بين حاله مقدماً له على متعلق جاء بياناً لأنه أهم ما إلى الرسل إليهم إرشاداً إلى قبول كل ما جاء به بقوله: ﴿يبين لكم﴾ أي يوقع لكم البيان في كل ما ينفعكم بياناً شافياً لما تقدم وغيره.
69
ولما كان مجيئه ملتبساً ببيانه وظرفاً له غير منفك عنه، وكان بياناً مستعلياً على وقت مجيئه وما مضى قبله وما يأتي بعده ببقاء كتابه، محفوظاً لعموم دعوته وختامه وتفرده، فلا نبي بعده، قال معلقاً بجاء: ﴿على فترة﴾ أي طويلة بالنسبة إلى ما كان يكون بين النبيِّين من بني إسرائيل، مبتدئة تلك الفترة ﴿من الرسل﴾ أي انقطاع من مجيئهم، شُبِّه فقدهم وبُعْد العهد بهم ونسيان أخبارهم، وبلاء رسومهم وآثارهم، وانطماس معالمهم وأنوارهم بشيء كان يفنى ففتر، لم يبق من وصفه المقصود منه إلا أثر خاف ورسم دارس، يقال: فتر الشيء - إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه وذلك لأنه كان بين عيسى وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستمائة سنة فسد فيها أمر الناس، ولعله عبر بالمضارع في يبين إشارة إلى أن دينه وبيانه لا ينقطع أصلاً بحفظ كتابه، فكلما درست سنة منح الله بعالم يرد الناس إليها بالكتاب المعجز القائم أبداً، فلذلك لا يحتاج الأمر إلى نبي مجدد إلا عند الفتنة التي لا يطيقها العلماء، وهي فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج، ثم علل ذلك بقوله: ﴿أن﴾ أي كراهة أن ﴿تقولوا﴾ أي إذا حشرتم وسئلتم عن
70
أعمالكم ﴿ما جاءنا﴾ ولتأكيد النفي قيل: ﴿من بشير﴾ أي يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز ﴿ولا نذير﴾ أي يحذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم، لأن الإنسان موزَّع النقصان بين الرغبة والرهبة، وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل فالتبس الأمر وجهل الحال، لكنه لم يجهل جهلاً يحصل به عذر في الشرك، وسأبينه في أول ص.
ولما كان المعنى: فلا تقولوا ذلك، سبب عنه قوله: ﴿فقد جاءكم﴾ أي من هو متصف بالوصفين معاً فهو ﴿بشير ونذير﴾ أي كامل في كل من الوصفين وإن تباينا؛ ولما كان ربما كان توهم أحد من ترك الإرسال زمن الفترة، ومن ترك التعذيب بغير حجة الإرسال، وبالعدول عن بني إسرائيل إلى بني إسماعيل شيئاً في القدرة، قال كاشفاً لتلك الغمة: ﴿والله﴾ أي جاءكم والحال أن الملك الذي له الكمال كله ﴿على كل شيء﴾ أي من أن يرسل في كل وقت وأن يترك ذلك، وأن يهدي بالبيان وأن يضل، ومن أن يعذب ولا يقبل عذراً وأن يغفر كل شيء وغير ذلك ﴿قدير *﴾ وفي الختم بوصف القدرة واتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوة والملك بعدما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل إشارة إلى أن إنكارهم
ولما كان المعنى: فلا تقولوا ذلك، سبب عنه قوله: ﴿فقد جاءكم﴾ أي من هو متصف بالوصفين معاً فهو ﴿بشير ونذير﴾ أي كامل في كل من الوصفين وإن تباينا؛ ولما كان ربما كان توهم أحد من ترك الإرسال زمن الفترة، ومن ترك التعذيب بغير حجة الإرسال، وبالعدول عن بني إسرائيل إلى بني إسماعيل شيئاً في القدرة، قال كاشفاً لتلك الغمة: ﴿والله﴾ أي جاءكم والحال أن الملك الذي له الكمال كله ﴿على كل شيء﴾ أي من أن يرسل في كل وقت وأن يترك ذلك، وأن يهدي بالبيان وأن يضل، ومن أن يعذب ولا يقبل عذراً وأن يغفر كل شيء وغير ذلك ﴿قدير *﴾ وفي الختم بوصف القدرة واتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوة والملك بعدما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل إشارة إلى أن إنكارهم
71
لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبي يلزم منه إنكارهم للقدرة.
72
ولما ذكر سعة مملكته وتمام علمه وشمول قدرته أتبع ذلك الدلالة عليه بقصة بني إسرائيل في استنقاذهم من أسر العبودية والرق وإعلاء شأنهم وإيراثهم أرض الجبارين بعد إهلاك فرعون وجنوده وغير ذلك مما تضمنته القصة، إظهاراً - بعدم ردهم إلى مصر التي باد أهلها - لتمام القدرة وسعة الملك ونفوذ الأمر وهي مع ذلك دالة على نقضهم الميثاق وقساوتهم ونقض ما ادعوه من بنوتهم ومحبتهم، وذلك أنها ناطقة بتعذيبهم وتفسيقهم وتبرئهم من الله، ولا شيء من ذلك فعل حبيب ولا ولد، فقال عاطفاً على نعمة في ﴿واذكروا نعمة الله عليكم﴾ [المائدة: ٧] تذكيراً لهذه الأمة بنعمة التوثيق للسمع والطاعة التي أباها بنو إسرائيل بعدما رأوا من الآيات، وبما كف عنهم على ضعفهم وشجع به قلوبهم، وألزمهم الطاعة وكره إليهم المعصية بضد ما فعل ببني إسرائيل - وغير ذلك مما يرشد إليه إنعام النظر في القصة: ﴿وإذ﴾ أي واذكروا حين ﴿قال موسى لقومه﴾ أي من اليهود ﴿يا قوم اذكروا﴾ أي بالقلب واللسان، أي ذكر اعتبار واتعاظ بما لكم من قوة القيام بما تحاولونه ليقع منكم الشكر ﴿نعمة الله﴾ أي إنعام الملك الأعظم الذي له الإحاطة بالجلال والإكرام، وعبر عن
72
الإنعام بالغاية لأنها المقصود ﴿عليكم﴾ وعظم ذلك التذكير بالاسم الأعظم، ونبه بذكر ظرفها على أجل النعم، وهي النبوة المنقذة لهم من النار فقال: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿جعل فيكم﴾ وبشرهم بمن يأتي بعده من الأنبياء من بني إسرائيل فجمع جمع الكثرة في قوله: ﴿أنبياء﴾ أي يحفظونكم من المهالك الدائمة، ففعل معكم - بذلك وغيره من النعم التي فضلكم بها على العالمين في تلك الأزمان - فعل المحب مع حبيبه والوالد مع ولده، ومع ذلك عاقبكم حين عصيتم، وغضب عليكم إذ أبيتم، فعلم أن الإكرام والإهانة دائران بعد مشيئته على الطاعة والمعصية.
ولما نقلهم من الحيثية التي كانوا فيها عبيداً لفرعون، لا يصلحون معها لملك، ولا تحدثهم أنفسهم به، إلى حيثية الحرية القابلة لأن يكون كل منهم معها ملكاً بعد أن أرسل فيهم رسولاً وبشر بأنه يتبعه من الأنبياء ما لم يكن في أمة من الأمم غيرهم، قال: ﴿وجعلكم ملوكاً﴾ أي فكما جعلكم كذلك بعد ما كنتم غير طامعين في شيء منه، فقد نقله منكم وجعله في غيركم بتلك القدرة التي أنعم عليكم بها، وذلك لكفركم بالنعم وإيثاركم الجهل على العلم، فإنكاركم لذلك وتخصيص النعم بكم تحكم وترجيح بلا مرجح، ويوضح ذلك أن كفر النعمة سبب لزوالها، وقد كانوا يهددون في التوراة وغيرها بما هم فيه الآن من ضرب الذلة
ولما نقلهم من الحيثية التي كانوا فيها عبيداً لفرعون، لا يصلحون معها لملك، ولا تحدثهم أنفسهم به، إلى حيثية الحرية القابلة لأن يكون كل منهم معها ملكاً بعد أن أرسل فيهم رسولاً وبشر بأنه يتبعه من الأنبياء ما لم يكن في أمة من الأمم غيرهم، قال: ﴿وجعلكم ملوكاً﴾ أي فكما جعلكم كذلك بعد ما كنتم غير طامعين في شيء منه، فقد نقله منكم وجعله في غيركم بتلك القدرة التي أنعم عليكم بها، وذلك لكفركم بالنعم وإيثاركم الجهل على العلم، فإنكاركم لذلك وتخصيص النعم بكم تحكم وترجيح بلا مرجح، ويوضح ذلك أن كفر النعمة سبب لزوالها، وقد كانوا يهددون في التوراة وغيرها بما هم فيه الآن من ضرب الذلة
73
والمسكنة التي لا يصلحون معها لملك إن هم كفروا - كما سيأتي بعض ذلك في هذه السورة.
ولما ذكرهم تعالى بما ذكرهم به من النعم العامة، أتبعه التذكير بنعمة خاصة فقال: ﴿وآتاكم ما لم يؤت﴾ أي في زمانكم ولا فيما قبله من سالف الزمان - كما اقتضاه التعبير بلم ﴿أحداً من العالمين *﴾ من الآيات التي أظهرها على يد موسى عليه السلام، فأخرجكم بها من الظلمات إلى النور، والكتاب الذي جعله تبياناً لكل شيء؛ ثم أتبعه ما يقيد به هذه النعم من الشكر بامتثال الأمر في جهاد الأعداء في سياق مؤذن بالنصر معلم بأنه نعمة أخرى يجب شكرها، فلذلك وصله بما قبله وصل المعلول بالعلة فقال: ﴿يا قوم ادخلوا﴾ عن أمر الله الذي أعلمكم بما صنع من الآيات أنه غالب على جميع أمره ﴿الأرض المقدسة﴾ أي المطهرة المباركة التي حكم الله أن يطهرها بأنبيائه ورسله من نجس الشرك وضر المعاصي والإفك، ويبارك فيها، ثم وصفها بما يوجب للمؤمن الإقدام لتحققه النصر فقال: ﴿التي كتب الله﴾ أي الذي له الأمر كله فلا مانع لما أعطى ﴿لكم﴾ أي بأن تجاهدوا أعداءه فترثوا أرضهم التي لا مثل لها، فتحوزوا سعادة الدارين، وهي بيت المقدس والتي وعد
ولما ذكرهم تعالى بما ذكرهم به من النعم العامة، أتبعه التذكير بنعمة خاصة فقال: ﴿وآتاكم ما لم يؤت﴾ أي في زمانكم ولا فيما قبله من سالف الزمان - كما اقتضاه التعبير بلم ﴿أحداً من العالمين *﴾ من الآيات التي أظهرها على يد موسى عليه السلام، فأخرجكم بها من الظلمات إلى النور، والكتاب الذي جعله تبياناً لكل شيء؛ ثم أتبعه ما يقيد به هذه النعم من الشكر بامتثال الأمر في جهاد الأعداء في سياق مؤذن بالنصر معلم بأنه نعمة أخرى يجب شكرها، فلذلك وصله بما قبله وصل المعلول بالعلة فقال: ﴿يا قوم ادخلوا﴾ عن أمر الله الذي أعلمكم بما صنع من الآيات أنه غالب على جميع أمره ﴿الأرض المقدسة﴾ أي المطهرة المباركة التي حكم الله أن يطهرها بأنبيائه ورسله من نجس الشرك وضر المعاصي والإفك، ويبارك فيها، ثم وصفها بما يوجب للمؤمن الإقدام لتحققه النصر فقال: ﴿التي كتب الله﴾ أي الذي له الأمر كله فلا مانع لما أعطى ﴿لكم﴾ أي بأن تجاهدوا أعداءه فترثوا أرضهم التي لا مثل لها، فتحوزوا سعادة الدارين، وهي بيت المقدس والتي وعد
74
أباكم إبراهيم عليه السلام أن تكون ميراثاً لولده بعد أن جعلها مهاجرة.
ولما أمرهم بذلك نهاهم عن التقاعد عنه، فقال مشيراً إلى أن مخالفة أمر الله لا تكون إلا بمعالجة للفطرة الأولى: ﴿ولا ترتدوا﴾ أي تكلفوا أنفسكم الرجوع عن أخذها، وصوَّر لهم الفتور عن أخذها بما يستحيي من له همة من ذكره فقال: ﴿على أدباركم﴾ ولما جمع بين الأمر والنهي، خوفهم عواقب العصيان معلماً بأن ارتدادهم سبب لهلاكهم بغير شك، فقال معبراً بصيغة الانفعال: ﴿فتنقلبوا﴾ أي من عند أنفسكم من غير قالب يسلط عليكم ﴿خاسرين *﴾ أي بخزي المعصية عند الله وعار الجبن عن الناس وخيبة السعي من خيري الدارين.
ولما أمرهم بذلك نهاهم عن التقاعد عنه، فقال مشيراً إلى أن مخالفة أمر الله لا تكون إلا بمعالجة للفطرة الأولى: ﴿ولا ترتدوا﴾ أي تكلفوا أنفسكم الرجوع عن أخذها، وصوَّر لهم الفتور عن أخذها بما يستحيي من له همة من ذكره فقال: ﴿على أدباركم﴾ ولما جمع بين الأمر والنهي، خوفهم عواقب العصيان معلماً بأن ارتدادهم سبب لهلاكهم بغير شك، فقال معبراً بصيغة الانفعال: ﴿فتنقلبوا﴾ أي من عند أنفسكم من غير قالب يسلط عليكم ﴿خاسرين *﴾ أي بخزي المعصية عند الله وعار الجبن عن الناس وخيبة السعي من خيري الدارين.
75
ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ
ﰕ
ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ
ﰖ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ
ﰗ
ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ
ﰘ
ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ
ﰙ
ولما كان هذا السياق محركاً للنفس إلى معرفة جوابهم عنه، أورده على تقدير سؤال من كأنه قال: إن هذا لترغيب مشوق وترهيب مقلق، فما قالوا في جوابه؟ فقال: ﴿قالوا﴾ معرضين عن ذلك كله بهمم سافلة وأحوال نازلة، مخاطبين له باسمه جفاء وجلافة وقلة أدب ﴿يا موسى﴾ وأكدوا قولهم تأكيد من هو محيط العلم، فقالوا مخاطبين بجرأة وقلة حياء لأعلم أهل زمانه: ﴿إن فيها﴾ أي دون غيرها ﴿قوماً جبارين﴾ أي عتاة قاهرين لغيرهم مكرهين له على ما يريدون ﴿وإنا لن ندخلها﴾ خوفاً منهم ﴿حتى يخرجوا منها﴾ ثم صرحوا بالإتيان بالجملة الاسمية المؤكدة
75
بتهالكهم على الدخول وأنه لا مانع لهم إلا الجبن فقالوا: ﴿فإن يخرجوا منها﴾ أي بأي وجه كان، وعبروا بأداة الشك مع إعلام الله لهم بإهلاكهم على أيديهم جلافة منهم وعراقة طبع في التكذيب ﴿فإنا داخلون *﴾ فكأنه قيل: إن هذه لسقطة ما مثلها، فما اتفق لهم بعدها؟ فقيل: ﴿قال رجلان﴾ وأشار إلى كونهما من بني إسرائيل بقوله ذماً لمن تقاعس عن الأمر منهم: ﴿من الذين يخافون﴾ أي يوجد منهم الخوف من الجبارين، ومع ذلك فلم يخافا وثوقاً منهما بوعد الله، ولما كان بنو إسرائيل أهلاً لأن يخافهم من يقصدونهم بالحرب لأن الله معهم بعونه ونصره، قرىء: يخافون - مبيناً للمفعول ﴿أنعم الله﴾ أي بما له من صفات الكمال ﴿عليهما﴾ أي بالثبيت على العمل بحق النقابة، وهما يوشع بن نون وكالاب بن يوفنا - كما أنعم عليكم أيها العرب وخصوصاً النقباء بالثبات في كل موطن ﴿ادخلوا عليهم الباب﴾ أي باب قريتهم امتثالاً لأمر الله وإيقاناً بوعده.
ولما كانا يعلمان أنه لا بد من دخولهم عليهم وإن تقاعسوا وإن طال المدى، لأن الله وعد بنصرهم عليهم ووعده حق عبرا بأداة التحقيق خلاف ما مضى لجماهيرهم فقالا: ﴿فإذا دخلتموه﴾ ثم أكد خبرهما إيقاناً بوعد الله فقالا: ﴿فإنكم غالبون﴾ أي لأن الملك معكم دونهم ﴿وعلى الله﴾ أي الملك الأعظم الذي وعدكم بإرثها وحده ﴿فتوكلوا﴾ أي لا على عُدة منكم ولا عِدة ولا حول ولا قوة.
ولما كانا يعلمان أنه لا بد من دخولهم عليهم وإن تقاعسوا وإن طال المدى، لأن الله وعد بنصرهم عليهم ووعده حق عبرا بأداة التحقيق خلاف ما مضى لجماهيرهم فقالا: ﴿فإذا دخلتموه﴾ ثم أكد خبرهما إيقاناً بوعد الله فقالا: ﴿فإنكم غالبون﴾ أي لأن الملك معكم دونهم ﴿وعلى الله﴾ أي الملك الأعظم الذي وعدكم بإرثها وحده ﴿فتوكلوا﴾ أي لا على عُدة منكم ولا عِدة ولا حول ولا قوة.
76
ولما كان الإخلاص يلزمه التوكل وعدم الخوف من غير الله، ألهمهم بقوله؛ ﴿إن كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿مؤمنين *﴾ أي عريقين في الإيمان بنبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتصديق بجميع ما أتى به، فكأنه قيل: لقد نصحا لهم وبرّا، واجتهدا في إصلاح الدين والدنيا فما خدعا ولا غرّا، فما قالوا؟ فقيل: لم يزدهم ذلك إلا نفاراً واستضعافاً لأنفسهم لإعراضهم عن الله واستصغاراً لأنهم ﴿قالوا﴾ معرضين عمن خاطباهم غيرعادين لهما ﴿يا موسى﴾ وأكدوا نفيهم للإقدام عليهم بقولهم: ﴿إنا﴾ وعظموا تأكيدهم بقولهم: ﴿لن ندخلها﴾ وزادوه تأكيداً بقولهم: ﴿أبداً﴾ وقيدوا ذلك بقولهم: ﴿ما داموا﴾ أي الجبابرة ﴿فيها﴾ أي لهم اليد عليها، ثم اتبعوه بما يدل على أنهم في غاية الجهل بالله الفعال لما يريد.
الغني عن جميع العبيد، فقالوا مسببين عن نفيهم ذلك قولهم: ﴿فاذهب أنت وربك﴾ أي المحسن إليك، فلم يذكروا أنه أحسن إليهم كثافة طباع وغلظ أكباد، بل خصوه بالإحسان، وهذا القول إن لم يكن قائلوه يعتقدون التجسيم فهم مشارفون له، وكذلك أمثاله، وكان اليهود الآن عريقين في التجسيم، ثم سببوا عن الذهاب قولهم: ﴿فقاتلا﴾ ثم استأنفوا قولهم مؤكدين لأن من له طبع سليم وعقل مستقيم لا يصدق أن أحداً يتخلف عن
الغني عن جميع العبيد، فقالوا مسببين عن نفيهم ذلك قولهم: ﴿فاذهب أنت وربك﴾ أي المحسن إليك، فلم يذكروا أنه أحسن إليهم كثافة طباع وغلظ أكباد، بل خصوه بالإحسان، وهذا القول إن لم يكن قائلوه يعتقدون التجسيم فهم مشارفون له، وكذلك أمثاله، وكان اليهود الآن عريقين في التجسيم، ثم سببوا عن الذهاب قولهم: ﴿فقاتلا﴾ ثم استأنفوا قولهم مؤكدين لأن من له طبع سليم وعقل مستقيم لا يصدق أن أحداً يتخلف عن
77
أمر الله لا سيما إن كان بمشافهة الرسول: ﴿إنا هاهنا﴾ أي خاصة ﴿قاعدون﴾ أي لا نذهب معكما، فكان فعلهم فعل من يريد السعادة بمجرد ادعاء الإيمان من غير تصديق له بامتحان بفعل ما يدل على الإيقان؛ روى البخاري في المغازي والتفسير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال المقداد بن عمرو يوم بدر: يا رسول الله! لا نقول كما قال قوم موسى: ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون﴾ ولكن امض ونحن معك، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشرق وجهه وسرَّه» فكأنه قيل: فما قال موسى عليه السلام؟ فقيل: ﴿قال﴾ لما أيس منهم معرضاً عنهم شاكياً إلى الله تعالى ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ.
ولما كان من حق الرسول أن يقيه كل أحد بنفسه وولده فكيف بما دون ذلك، فكان لا يصدق أحد أن أتباعه لا يطيعونه، جرى على طبع البشر وإن كان يخاطب علام الغيوب قال مؤكداً: ﴿إني﴾ ولما فهم من أمر الرجلين لهم بالدخول أنهما قيّدا دخولهما بدخول الجماعة، خص في قوله: ﴿لا أملك إلا نفسي وأخي﴾ أي ونحن مطيعان لما تأمر به ﴿فافرق بيننا﴾ أي أنا وأخي ﴿وبين القوم الفاسقين *﴾ أي الخارجين
ولما كان من حق الرسول أن يقيه كل أحد بنفسه وولده فكيف بما دون ذلك، فكان لا يصدق أحد أن أتباعه لا يطيعونه، جرى على طبع البشر وإن كان يخاطب علام الغيوب قال مؤكداً: ﴿إني﴾ ولما فهم من أمر الرجلين لهم بالدخول أنهما قيّدا دخولهما بدخول الجماعة، خص في قوله: ﴿لا أملك إلا نفسي وأخي﴾ أي ونحن مطيعان لما تأمر به ﴿فافرق بيننا﴾ أي أنا وأخي ﴿وبين القوم الفاسقين *﴾ أي الخارجين
78
عن الطاعة قولاً وفعلاً، ولا تجمعنا معهم في بين واحد، في فعل ولا جزاء ﴿قال فإنها﴾ أي الأرض المقدسة ﴿محرمة عليهم﴾ أي بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم، لا يدخلها ممن قاله هذه المقالة أو رضهيا أحد، بل يمكثون ﴿أربعين سنة﴾ ثم استأنف جواباً لمن تشعب فكره في تعرف حالهم في هذه الأربعين ومحلهم من الأرض قوله: ﴿يتيهون﴾ أي يسيرون متحيرين ﴿في الأرض﴾ حتى يهلكوا كلهم، والتيه: المفازة التي يحير سالكها فيضل عن وجه مقصده، روي أنهم أقاموا هذه المدة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين، ثم يمشون في الموضع الذي ساروا منه، ثم سبب عن إخباره بعقوبتهم قوله: ﴿فلا تأس﴾ أي تحزن حزناً مؤيساً ﴿على القوم﴾ أي الأقوياء الأبدان الضعفاء القلوب ﴿الفاسقين *﴾ أي الخارجين من قيد الطاعات، ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين نشأوا في التيه لسلامتهم من اعوجاج طباعهم التي ألبستهم إياها بلاد الفراعنة، فإني كتبتها لبني إسرائيل، ولم أخبر بتعيينهم - وإن كانوا معينين في علمي - كما اقتضت ذلك حكمتي؛ وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها وافتتحت بها، وصرح بأخذها عليهم في قوله:
﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل﴾ [المائدة: ١٢]
﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل﴾ [المائدة: ١٢]
79
إلى أن قال: ﴿وآمنتم برسلي وعزرتموهم﴾ [المائدة: ١٢] وفي ذلك تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يفعلونه معه، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق، وترغيب لمن أطاع منهم وترهيب لمن عصى، ومات في تلك الأربعين كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة، وكان الغمام يظلهم من حر الشمس، ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء هاهنا عليهم - وغير هذا من النعم، لأن المنع بالتيه كان تأديباً لهم لا غضباً فإنهم تابوا.
شرحُ هذه القصة ما بين أيديهم من التوراة وذكرُ بعض ما عذبهم فيه بذنوبهم، قال في السفر الرابع منها: وكلم الرب موسى وقال له: أرسل قوماً يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل، فأرسلهم موسى من برية فاران رجالاً من رؤساء بني إسرائيل - اثني عشر رجلاً - فيهم كالاب بن يوفنا وهو ساع بن نون، ودعا موسى هوساع بن نون يوشع، وأرسلهم ليستخبروا أرض كنعان وقال لهم: اعرفوا خبر الشعب الذي بها، أقوي هو أم ضعيف؟ أكثير هو أم قليل؟ وما خبر الأرض التي هم فيها، أمخصبة أم لا؟ أفيها شجر أم لا؟ وفي نسخة: وما المدن التي يسكنونها؟ وإن كانت محوَّطاً عليها أم لا؟ وتقووا وخذوا من ثمار الأرض؛ فصعدوا فاستخبروا الأرض، وأخذوا من برية صين حتى
شرحُ هذه القصة ما بين أيديهم من التوراة وذكرُ بعض ما عذبهم فيه بذنوبهم، قال في السفر الرابع منها: وكلم الرب موسى وقال له: أرسل قوماً يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل، فأرسلهم موسى من برية فاران رجالاً من رؤساء بني إسرائيل - اثني عشر رجلاً - فيهم كالاب بن يوفنا وهو ساع بن نون، ودعا موسى هوساع بن نون يوشع، وأرسلهم ليستخبروا أرض كنعان وقال لهم: اعرفوا خبر الشعب الذي بها، أقوي هو أم ضعيف؟ أكثير هو أم قليل؟ وما خبر الأرض التي هم فيها، أمخصبة أم لا؟ أفيها شجر أم لا؟ وفي نسخة: وما المدن التي يسكنونها؟ وإن كانت محوَّطاً عليها أم لا؟ وتقووا وخذوا من ثمار الأرض؛ فصعدوا فاستخبروا الأرض، وأخذوا من برية صين حتى
80
انتهوا إلى راحوب التي في مدخل حمات، وصعدوا إلى التيمن فأتوا حبران - وفي نسخة: حبرون - وكان بها بنو الجبابرة، ثم أتوا وادي العنقود وقطعوا قضيباً من الكرم فيه عنقود عنب، فحمله رجلان بأسطار، ودعوا اسم ذلك الموضع وادي العنقود من أجل ذلك، وأخذوا من الرمان والتين أيضاً، ورجعوا إلى موسى بعد أربعين ليلة إلى برية فاران إلى رقيم، وأخبروا موسى والجماعة كلها خبر الأرض وقالوا: انطلقنا فإذا الأرض تغل اللبن والعسل وهذه ثمارها، ولكن الشعب الذي في الأرض عزيز قوي، وقراهم كبار مشيدة، ورأينا ثَمّ بني الجبابرة، ثم ذكر أن الكنعانيين على ساحل البحر إلى نهر الأردن، قالوا: وكنا عندهم مثل الجراد، كذلك رأينا أنفسنا، فضجت الجماعة كلها ورفعوا أصواتهم بالبكاء، وبكوا في تلك الليلة بكاء شديداً، وتذمر جميع بني إسرائيل على موسى وهارون في ذلك اليوم وضجوا عليهما، وقال لهما محافل بني إسرائيل كلها: يا ليتنا! متنا بأرض مصر على يدي الرب، وليتنا متنا في هذه البرية ولا يدخلنا الرب إلى الإرض التي نصرع فيها قتلاً! وتنتهب مواشينا وأهلونا! كان المنون بأرض مصر خيراً لنا، وقال كل امرىء منهم لأخيه: اجتمعوا حتى نصيّر علينا رئيساً، ونرجع إلى أرض مصر،
81
فخر موسى وهارون على وجوههما ساجدين بين يدي جماعة بني إسرائيل كلها، فأما يشوع ابن نون وكالاب بن يوفنا اللذان كانا من الجواسيس فقالا: الأرض مخصبة جداً، فإن شاء الرب دفعها إلينا، فهي أرض تغل السمن والعسل، فلا تعصوا الرب ولا تفتتنوا ولا تخافوا شعب هذه الأرض لأن أهلها مبذولون لنا مثل الطعام للأكل، واعلموا أن قويهم سيضعف وتزول عنهم شدتهم، ونحن الغالبون لأن الرب معنا، فلا تفرقوا منهم، وظهر مجد الرب بالسحابة في قبة الزمان تجاه بني إسرائيل، وقال الرب لموسى: إلى متى يسخطني هذا الشعب؟ وكم إلى كم لا يصدقونني؟ ألم يروا جميع الآيات التي أتيتهم بها؟ سأضربهم بالموت وأهلكهم، وأصيرك الشعب أعظم من هذا وأعزّ منهم، فقال موسى أمام الرب: يسمع أهل مصر الذين أخرجت هذا الشعب من بينهم بقوتك، ويقول لسكان هذه الأرض أيضاً الذين سمعوا أنك رب هذا الشعب، فإن أنت قتلت هذا الشعب جميعاً كرجل واحد تقول الشعوب التي بلغها خبرك: إن الرب لم يقدر أن يدخل هذا الشعب الأر ض التي كان وعد إياهم، فلذلك قتلهم في البرية، فلتعظم قوتك الآن يا رب كما وعدت وقلت! يا رب
82
أنت ذو المودة والنعمة، تغفر الإثم والخطايا، وتزكي من ليس بمزكي، اغفر يا رب كما غفرت لهم مذ خرجوا من أرض مصر إلى الآن! فقال الرب لموسى: قد غفرت لهم لقولك ولكني حي قيوم، أقسم بذلك وبمجدي الذي امتلأت الأرض كلها منه أن جميع الرجال الذين عاينوا مجدي والآيات التي أظهرت لهم بمصر والفضاء، وجربوني عشر مرات، ولم يطيعوني ولم يقبلوا قولي، لا يعاينون الأرض التي أقسمت لآبائهم أني أعطيهم، ولا يدخلها أحد من الذين أغضبوني، فأقبلوا غداً وارتحلوا إلى طريق بحر سوف؛ وقال الرب: إلى متى تغفرُ هذه الجماعة الرديئة بين يدي؟ فبي أقسم أنكم تصيرون إلى ما قلتم، وكما فكرتم ذلك يصيبكم في هذه البرية، فتسقط جثثكم فيها وتبلى أجسادكم ويهلك كل عددكم وحسابكم من ابن عشرين سنة إلى فوق، لأنكم تشوشتم وتذمرتم عليّ، لا تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأنزلكم فيها، لوا يدخلها إلا كالاب بن يوفنا ويوشع بن نون، وأما مواشيكم التي قلتم: إنها تنتهب، وبنوكم الذين لا يعلمون الخير من الشر فهم يدخلون الأرض وأصيّرهم إليها وأورثهم الأرض، فأما جيفكم فتسقط وتبلى في هذه البرية.
وتمكث بنوكم يترددون في هذه المفازة أربعين سنة، يعاقبون حتى تهلك جثثكم في هذه البرية على عدد الأيام التي اجتس الجواسيس الأرض فيها، لكل يوم سنة،
وتمكث بنوكم يترددون في هذه المفازة أربعين سنة، يعاقبون حتى تهلك جثثكم في هذه البرية على عدد الأيام التي اجتس الجواسيس الأرض فيها، لكل يوم سنة،
83
وتعاقبون بإثمكم، لكل يوم سنة، أربعين سنة لأربعين يوماً، فتعلمون أني إنما فعلت ذلك لتذمركم بين يدي، أنا الرب قلت: كذلك أصنع بهذه الجماعة الرديئة التي اجتمعت بين يدي، تهلك في هذه البرية، يموتون كلهم، والقوم الذين أرسلهم موسى أن يجتسوا الأرض له فانقلبوا وشغبوا عليه وأفسدوا الجماعة كلها، وذلك أنهم أخبروا الشعب في أمر الأرض خبراً رديئاً، ومات القوم الذين أخبروا الخبر السوء موت الفجاءة أمام الرب، فأما يشوع وكالاب فنجوا من الموت، ولم يهلكا مع الذين استخبروا الأرض، فأخبر موسى بني إسرائيل هذه الأقوال، وجلسوا في حزن شديد وقالوا: نحن صاعدون إلى الموضع الذي أمر الرب ونقر بخطايانا، قال لهم موسى: اعلموا أنكم لا تنجحون ولا يتم أمركم، لا تصعدوا لأن الرب ليس معكم لئلا يهزمكم أعداؤكم، فإن صعدتم هزمتم وقتلتم، لأنكم أغضبتم الرب ورجعتم عن قوله، فلذلك لا يكون الرب معكم، فصعد القوم إلى رأس الجبل، فأما تابوت عهد الرب وموسى النبي فلم يبرحا من العسكر، ونزل العملقانيون الذين يسكنون ذلك الجبل وحاربوهم وهزموهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وطردوهم إلى حرما؛ وكان ذكر قبل ذلك في السفر الثاني وقبل معصيتهم في أمر الجواسيس قتالهم في رفيدين ورقيم لعماليق فقال ما نصه: وإن عماليق جاء ليقاتل بني إسرائيل برفيدين فقال موسى ليشوع:
84
اختر رجلاً من أهل الجلد والشدة واخراج بنا نقاتل عماليق غداً وأنا واقف على رأس الأكمة، وقضيب الله في يدي، فصنع يشوع كما قال له موسى فخرج إلى حرب عماليق، وصعد موسى وهارون وحور إلى رأس الجبل، وكان موسى إذا رفع يده قوى بنو إسرائيل، وإذا خفض يده قوى عماليق، فأعيت يدُ موسى فأخذ حجارة فوضعها تحته، ثم استوى عليها جالساً، وكان هارون وحور يدعمان يديه، أحدهما يميناً والآخر شمالاً حتى غربت الشمس، فهزم يشوع عماليق ومن معه وقتلوهم بحد السيف، فقال الرب لموسى: اكتب هذا الأمر في سفر الكتاب وضعه أما يشوع بن نون، لأني أمحق وأبيد ذكر عماليق من تحت السماء، فبنى للرب مذبحاً، ودعا اسمه الله علمي، ثم قال: وأرسل رسلاً من رقيم إلى ملك أدوم بأنهم نازلون في رقيم - القرية التي في حد بلاده - واستأذنه في الجواز في بلاده، فهددهم بالمقاتلة فقالوا: لا نشرب لك ماء إلا بثمن، فقال: لا تجوزوا في حدي، وخرج إليهم بجيش عظيم وسلاح شاك فصغا بنو إسرائيل عنه وظعنوا
85
من رقيم، وأتى جميع بني إسرائيل إلى هور الجبل حيث توفي هارون، ثم قال: ونزل موسى وإليعازر من الجبل، فرأت محافل بني إسرائيل كلها أن هارون قد توفي، وبكى على هارون جميع بني إسرائيل ثلاثين يوماً، وسمع الكنعاني ملك عراد الذي كان يسكن التيمن أن بني إسرائيل قد نزلوا في طريق الجواسيس فحاربهم وسبى منهم قوماً، فنذر بنو إسرائيل نذراًَ للرب وقالوا: إن أنت دفعت إلينا هذا الشعب يا رب وقويتنا عليه جعلنا قراهم حريمة للرب، فسمع الرب أصوات بني إسرائيل ودفع إليهم الكنعانيين وقوّاهم عليهم، وهزموهم وقتلوهم وجعلوا قراهم حريمة للرب ودعوا اسم تلك البلاد حريمة، فظعن الشعب من هور الجبل في طريق بحر سوف ليدوروا حول أرض أدوم، ففزعت أنفس الشعب من شدة الطريق وكلّت، وتذمر الشعب على الله وعلى موسى وقالوا: لِمَ أصعدتنا من مصر؟ لتميتنا في موضع ليس فيه خبز ولا ماء، قد ضاقت أنفسنا من قلة الطعام، فسلط الله عليهم حيات فنهشت قوماً من الشعب ومات منهم كثير، فاجتمعوا إلى موسى وقالوا: قد أخطأنا إذ تذمرنا على الله وعليك، صل أمام الرب لتنصرف عنا الحيات، فصلى موسى فقال الرب له: اتخذ حية من نحاس مثال الحية وارفعها على خشبة علامة، ومن نهشته حية ينظر إلى الحية المعلقة
86
فيبرأ، ففعل ذلك، فطعن بنو إسرائيل فنزلوا أبوت، ثم ارتحلوا من أبوت ونزلوا على عين العبرانيين التي في البرية أمام أرض موآب في الجانب الشرقي وحيث مشارق الشمس، ثم ظعنوا من هناك ونزلوا وادي زرود، وارتحلوا من هناك ونزلوا عبر أرنون في البرية أمام أرض موآب في الجانبين التي تخرج من حد الأمورانيين وهي في حد الموآبيين، ولذلك يقال في كتاب حروب الرب: واهب في سوفة ووادي أرنون ومصب الأودية المائلة إلى سكان عار التي تنتهي إلى حد الموآبيين؛ ثم أرسل بنو إسرائيل رسلاً إلى سيحون ملك الأمورانيين وقالوا له: نجوز في أرضك من غير أن نطأ لك حقلاً ولا كرماً، ولا نشرب من ماء جناتك، ولكن نلزم الطريق الأعظم حتى نجوز أرضك، فأبى سيحون وجمع جميع أجناده وخرج إلى البرية وحارب بني إسرائيل، فقتل بنو إسرائيل سيحون وأصحابه وورثوا أرضه، وصعدوا إلى أرض متنين، وخرج عوج ملك متنين
87
إليهم هو وأجناده ليحاربهم في أدرعى، وقال الرب لموسى: لا تخفه لأني دافعة في يدك وأصيّر جميع شعبه وأرضه في يدك، فاصنع به كما صنعت بسيحون ملك الأمورانيين، فلما حاربوه قتل هو وبنوه وجميع شعبه ولم يبق منهم أحد، فظعن بنو إسرائيل ونزلوا عربات موآب التي عند أردن إريحا؛ ثم ذكر قصة بلعام بن باعور وغيرها وقال: ثم قال الرب لموسى: اصعد إلى هذا الجبل جبل العبرانيين، وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل، فإذا نظرت إليها اجتمع معك شعبك، وصر إلى ما صار إليه آباؤك كما صار [إليه] هارون أخوك، فتكلم موسى أمام الرب وقال: يأمر الله رجلاً يريد الجماعة ويدخل ويخرج أمامهم، ويدخلهم ويخرجهم لكيلا تكون جماعة الرب كالغنم التي ليس لها راعٍ، فقال الرب لموسى: اعمد إلى يشوع بن نون - رجل عليه من الروح نعمة - فضع يدك عليه، وأقمه بين يدي إليعازر الحبر أمام الجماعة كلها ومن تجاههم قبلاً، وأعطه من المجد الذي عليك، فتطيعه جماعة بني إسرائيل كلها، ويقوم بين يدي إليعازر الحبر ليكون يسأل الرب عن حوائجه وسننه، ويحفظ بنو إسرائيل قوله،
88
وعن قوله يخرجون وعن قوله يدخلون، وفعل موسى كالذي أمره الله في يوشع وغيره - ثم ذكره أشياء من القرابين والأعياد وفتح مدين وبقية قصة بلعام وغير ذلك ثم قال: وكثرت مواشي بني روبيل وبني جاد جداً، ونظروا إلى يعزير وأرض جلعاد أنه موضع يصلح للمواشي فقالوا لموسى: إن نحن ظفرنا منك برحمة ورأفة تعطي هذه الأرض لعبيدك ميراثاً ولا تجزنا نهر الأردن، فقال موسى: إخوتكم يخرجون إلى الحرب وأنتم تستقرون هاهنا؟ لِمَ تكسرون قلوب إخوتكم أن لا يجوزوا إلى الأرض التي يعطيهم الرب ميراثاً! هكذا صنع أيضاً آباؤكم فاشتد غضب الرب عليهم، وأقسم أنه لا يعاين أحد منهم الأرض التي وعدت بها آباءهم، لأنهم لم يتموا قولي ولم يتبعوا وصيتي ما خلا كالاب بن يوفنا القنزابي ويشوع بن نون، إنهما أتما قول الرب فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل وتَوَّههُمْ في البرية أربعين سنة حتى هلك حقب الرجال الذين أسخطوا الرب، وأنتم اليوم أيضاً تريدون أن ينزل غضب الرب ببني إسرائيل، وإن أنتم انقلبتم عن أمر الرب أيضاً يعود أن يُتَوِّهَكم في التيه، فتفسدون على جميع هذا الشعب،
89
فدنا منه القوم وقالوا: نبني هاهنا قرى لعيالاتنا وحظائر لأنعامنا، ونحن نتسلح أمام بني إسرائيل حتى ندخلهم إلى مواضعهم ولا نرجع إلى بيوتنا حتى يرث بنو إسرائيل كل إنسان ميراثه، ولا نرث معهم من عبر الأردن وما خلف ذلك، لأنا قد قبضنا ميراثنا في مجاز الأردن في مشارق الشمس، فقال لهم موسى: إذا أنتم فعلتم هذا الفعل وتسلحتم أمام ربكم، حينئذ ترجعون وتستجلبون أرضكم ويرضى بنو إسرائيل عنكم، وتصير هذه الأرض لكم ميراثاً، وإن لم تفعلوا هذا تصيروا أمام الرب خطأة، واعلموا أن خطاياكم تدرككم، ثم قال: وهذه خطأ عن بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر - فذكر ما تقدم في البقرة، ثم قال: وارتحلوا من مقبرة الشهوة ونزلوا حضروت، وظعنوا من حضروت ونزلوا رثما، وارتحلوا من رثما ونزلوا رمّون فرص، وظعنوا من رمّون فرص ونزلوا لبنا - وفي نسخة: لبونا -
90
وارتحلوا من لبنا ونزلوا أراسيا - وفي نسخة: رسا - وظعنوا من أراسيا أو رسا ونزلوا قهاث - وفي نسخة: بقهالاث - وارتحلوا من قهاث ونزلوا جبل شافار - وفي نسخة: شافر - وارتحلوا من جبل شافار ونزلوا حرادة - وفي نسخة: حرذا - وارتحلوا من حرادة - وفي نسخة: حارذا - ونزلوا مقهلوث - وفي نسخة: مهقلوث - وظعنوا من مقهلوث نزلوا تحاث - وارتحلوا من تحاث ونزلوا ترح، وارتحلوا من ترح ونزلوا مثقا، وارتحلوا من مثقا ونزلوا حشمونا، وظعنوا من حشمونا ونزلوا مسروت، وارتحلوا من مسروت ونزلوا بحيّ بني يعقان، وظعنوا من حيّ بني يعقان ونزلوا جبل جدجاد، وارتحلوا من جدجاد ونزلوا يطبث - وفي نسخة: يطباثا - وظعنوا من يطبث ونزلوا عجرونا - وفي نسخة: عبرونا - وارتحلوا من عجرونا ونزلوا عصيون جابر وهي قلزم، ورحلوا من عصيون جابر ونزلوا بَرَّصين - وفي نسخة: برية صين المعروفة بقداش - وهي رقيم، وظعنوا من قداش ونزلوا هور الجبل الذي في أقاصي
91
أرض أدوم - وفي نسخة: وظعنوا من برية صين فنزلوا في قفر فاران وهي القدس، وارتحلوا من القدس فنزلوا في جبل هور بحذاء أرض أدوم وهي الروم - وصعد هارون الحبر عن قول الله إلى هور الجبل، وتوفي هناك في سنة أربعين بخروج بني إسرائيل من أرض مصر في الشهر الأول أول يوم منه، وقد كان أتى على هارون يوم توفي مائة وثلاث وعشرون سنة، وبلغ الكنعاني ملك حديا الساكن بالتيمن في أرض كنعان - وفي نسخة: عراد الساكن في الداروم في بلد ماءب - أن بني إسرائيل أتوا حده، فينون من هور الجبل ونزلوا صلمونا، وارتحلوا من صلمونا ونزلوا فينون وظعنوا من فينون ونزلوا أبوث - وفي نسخة: أباث - وارتحلوا من أبوث ونزلوا العين المعروفة بالعبرانيين على حد موآب - وفي نسخة: ونزلوا عايا في العين على تخوم موآب - وارتحلوا من عايا فنزلوا جاد - وفي نسخة: ورحلوا من عين العبرانيين ونزلوا ديبون قرية جاد - وارتحلوا من قرية جاد ونزلوا علمون التي دبلثيم - وفي نسخة: دبلاثيم - وظعنوا من
92
علمون التي دبلثيم - وفي نسخة: دبلاثيم - فنزلوا جبل العبرانيين الذي أمام نابو، وارتحلوا من جبل العبرانيين ونزلوا عربة موآب التي بأردن يريحا - وفي نسخة: ونزلوا مغارب موآب على الأردن قبالة يريحا - ونزلوا على شاطىء الأردن من عند أشيموت إلى آبل شاطيم التي عند عربة موآب - وفي نسخة: قبالة مغارب موآب.
وكلم الرب موسى على مغارب موآب عند الأردن قبالة يريحا فقال: كلم بني إسرائيل وقل لهم: أنتم جائزون الأردن إلى أرض كنعان لتهلكوا جميع سكان الأرض، وتحرقوا بيوت أصنامهم المسبوكة، وتقلعوا مذابحهم كلها، وتصير الأرض إليكم وترثونها، فاقسموها لعشائركم سهاماً، وصيروا الكثير على قدر كثرتهم، والقليل على قدر قلتهم، وكل قبيلة على ما يرتفع السهم بها وتصيبها القرعة، وإن لم تهلكوا سكان الأرض من بين أيديكم فالذين يبقون منهم يكونون أسنة في أعينكم وسهاماً في أصداغكم، ويضيّقون عليكم في الأرض التي تسكنونها، وكما رأيت أن أصنع بهم كذلك أصنع بكم، فهكذا اقسموا الأرض في مواريثكم: أرض كنعان بحدودها،
وكلم الرب موسى على مغارب موآب عند الأردن قبالة يريحا فقال: كلم بني إسرائيل وقل لهم: أنتم جائزون الأردن إلى أرض كنعان لتهلكوا جميع سكان الأرض، وتحرقوا بيوت أصنامهم المسبوكة، وتقلعوا مذابحهم كلها، وتصير الأرض إليكم وترثونها، فاقسموها لعشائركم سهاماً، وصيروا الكثير على قدر كثرتهم، والقليل على قدر قلتهم، وكل قبيلة على ما يرتفع السهم بها وتصيبها القرعة، وإن لم تهلكوا سكان الأرض من بين أيديكم فالذين يبقون منهم يكونون أسنة في أعينكم وسهاماً في أصداغكم، ويضيّقون عليكم في الأرض التي تسكنونها، وكما رأيت أن أصنع بهم كذلك أصنع بكم، فهكذا اقسموا الأرض في مواريثكم: أرض كنعان بحدودها،
93
فأما حد التيمن فيكون لكم من ساحل البحر الملح من ناحية المشرق، ويدور حدكم من التيمن إلى عقبة عقربيم ويجوز إلى صين، وتكون مخارجه من التيمن إلى رقيم الجائي، ويخرج من هناك إلى حصر إدار - وفي نسخة: إلى رفح - ويجوز إلى عصمون إلى وادي مصر، وتكون مخارجه إلى ناحية البحر ويكون حد البحر حدكم والبحر الأعظم بحدوده، هذا حدكم من ناحية البحر وأما حدكم مما يلي الجربيا - وفي نسخة: الشمال - فيكون من البحر الأعظم إلى هور الجبل، وحدود ذلك من الجبل إلى مدخل حماة، وتكون مخارج الجبل إلى صدد، ويخرج الحد إلى زفرون، وتكون مخارجه إلى حصر عينن، هذه حدودكم من ناحية الجربيا، وأما حدودكم من ناحية المشرق فحدوده من حصر عينن إلى شافم، وينزل الحد نم شافمم إلى ربلة إلى مشارق غاب، حتى ينتهي إلى بحر كنرت - وفي نسخة: البحيرة الميتة - من مشارقه، ويدور حتى ينزل إلى حد الأردن، وتكون مخارجه إلى بحر الملح، هذه حدود الأرض التي ترثونها كما تدور ثم ذكر القسمة وشيئاً من الأحكام، ثم قال في أول السفر الخامس: هذه الآيات والأقوال التي قال موسى لبني إسرائيل عند مجاز الأردن في البرية في عرابا - وفي نسخة: البيداء وهو الجانب الغربي -
94
حيال سوف بين فاران وبين تفال ولبان وحضروت وذي ذهب - وفي نسخة: ودار الذهب وهو إشارة إلى الموضع الذي عبدوا فيه العجل - مسير أحد عشر يوماً من حوريب إلى ساعير وإلى رقام الجائي.
لما كان في سنة أربعين من خروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الحادي عشر في أول يوم منه كلم موسى بني إسرائيل وأمرهم بعد قتلهم سيحون ملك الأمورانيين وعوج ملك متنين في مجاز الأردن في أرض موآب، قال: إن الله قال لنا في حوريب: قد طال مكثكم في هذا الجبل، انهضوا فارتحلوا من هاهنا وادخلوا جبل الأمورانيين وكل ما حوله إلى القرى والجبل وإلى ساحل البحر أسفل الجبال، والتيمن أرض الكنعانيين، ولبنان إلى النهر الكبير الذي هو الفرات، ادخلوا ورثوا الأرض التي وعد الله آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم، ويورثها نسلهم من بعدهم، ثم قال: وأمرتكم في ذلك الزمان بما ينبغي أن تصنعوا، وارتحلنا من حوريب وسرنا في البرية العظيمة المرهوبة كما أمرنا الله ربنا، وانتهينا إلى رقيم الجائي، وقلت لكم:
لما كان في سنة أربعين من خروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الحادي عشر في أول يوم منه كلم موسى بني إسرائيل وأمرهم بعد قتلهم سيحون ملك الأمورانيين وعوج ملك متنين في مجاز الأردن في أرض موآب، قال: إن الله قال لنا في حوريب: قد طال مكثكم في هذا الجبل، انهضوا فارتحلوا من هاهنا وادخلوا جبل الأمورانيين وكل ما حوله إلى القرى والجبل وإلى ساحل البحر أسفل الجبال، والتيمن أرض الكنعانيين، ولبنان إلى النهر الكبير الذي هو الفرات، ادخلوا ورثوا الأرض التي وعد الله آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم، ويورثها نسلهم من بعدهم، ثم قال: وأمرتكم في ذلك الزمان بما ينبغي أن تصنعوا، وارتحلنا من حوريب وسرنا في البرية العظيمة المرهوبة كما أمرنا الله ربنا، وانتهينا إلى رقيم الجائي، وقلت لكم:
95
قد انتهيتم إلى جبل الأمورانيين الذي أعطانا الله ربنا، اصعدوا ورثوا الأرض كما قال لكم الله رب آبائكم، لا تخافوا ولا تفزعوا، وتقدمتم إليّ بأجمعكم وقلتم: نرسل بين أيدينا رجالاً يتجسسون لنا الأرض ويخبرونا بخبرها ويدلّونا على الطريق الذي نسير فيه والقرى التي ندخلها؛ فكان قولكم عندي حسناً، وعمدت إلى اثني عشر رجلاً منكم، من كل سبط منكم رجل، وأرسلتهم، وصعدوا إلى الجبل حتى انتهوا إلى وادي العنقود، واستخبروا الأرض وأخذوا من ثمار الأرض وأتوا به وأخبرونا وقالوا لنا: ما أخصب الأرض التي يعطينا الله ربناَ! ولم يعجبكم أن تصعدوا، ولكن اجتنبتم قول الله ربكم وأغضبتموه وتوشوشتم في خيمتكم وقلتم: لبغض الرب أخرجنا من أرض مصر ليدفعنا في أيدي الأمورانيين ليهلكونا، إلى أين نصعد! إخوتنا كسروا قلوبنا وقالوا: الشعب أعظم وأعزّ منا وأقوى، وقراهم عظيمة مشيدة إلى السماء، ورأينا هناك أبناء جبابرة، وقلت لكم: لا تخافوا ولا تفزعوا منهم، من أجل أن الله ربكم هو يسير أمامكم، وهو يجاهد عنكم كما صنع بكم في أرض مصر وفي البرية.
كما رأيتم أنه فداكم كما يفدي الوالد ولده في كل الأرض التي سلكتموها حتى انتهيتم إلى هذه البلاد،
كما رأيتم أنه فداكم كما يفدي الوالد ولده في كل الأرض التي سلكتموها حتى انتهيتم إلى هذه البلاد،
96
وبهذا القول لم تصدقوا أن الله ربكم يكمل لديكم أنه يسير أمامكم في الطريق ليهيىء لكم موضعاً تسكنون فيه، أليس هو الذي أراكم طريقاً تسلكون فيه بالليل بالنار، وستركم بالنهار من حر الشمس بالغمام، وسمع الرب كلامكم وأصواتكم وغضب وأقسم وقال: لا يعاين أحد من هؤلاء القوم - أهل هذا الحقب الرديء - الأرض المخصبة التي أقسمت أن أعطي آباءهم غير كالاب بن يوفنا، إني أدفع إليه الأرض التي مشى فيها وأورثها ولده، لأنه أتم قول الرب وأكمل سنته، وقال لي: وأنت أيضاً لا تدخلها، ولكن يشوع بن نون الذي يخدمك هو يدخل هناك، إياه قوِّ وأيد، لأنه هو الذي يورث بني إسرائيل الأرض المخصبة التي وعدت بها آباءهم أن أعطيهم، وأما مواشيكم التي قلتم: إنها تنتهب، وبنوكم الذين لا يعلمون الخير من الشر، فهم يدخلون هناك، وإليهم أدفعها وهم يرثونها، فأما أنتم فاقبلوا وارتحلوا إلى البرية في طريق بحر سوف، فرددتم عليّ وقلتم: أسأنا وأجرمنا بين يدي الله ربنا، نحن صاعدون ومجاهدون كما قال لنا، وتسلح كل امرىء منكم بسلاحه، وتهيأتم للصعود إلى الجبل، وقال الرب لي: أنذرهم وقل لهم: لا تصعدوا ولا تجاهدوا، لأني لست بينكم، لئلا يهزمكم أعداؤكم، وقلت ولم تقبلوا، اجتنبتم قول الرب وأغضبتموه وجسرتم وطلعتم إلى الجبل، فخرج الأموريون الساكنون
97
في ذلك الجبل للقائكم وطردوكم كما تطرد الزنابير بالدخان، ودفعوكم من ساعير إلى حرما، وجلستم وبكيتم ولم يسمع الرب أصواتكم، فبكيتم أمام الرب في رقام أياماً كثيرة ما مكثتم فيها، فأقبلنا فارتحلنا في البرية في طريق بحر سوف كما قال الرب، وترددنا حول جبل ساعير أياماً كثيرة، وقال لي الرب: قد طال ترددكم حول هذا الجبل اقبلوا إلى الجانب الجربي، فتقدم إلى الشعب وقل لهم: أنتم تجوزون في حد إخوتكم بني عاسو - وفي نسخة: عيصو - الذين يسكنون ساعير، فاحفظوا أن لا تولعوا بهم.
لأني لست أعطيكم من أرضهم ميراثاً ولا موضع قدم، ابتاعوا منهم طعاماً لمأكلكم وامتاروا منهم ماء بفضة لمشربكم، وليبارك الله ربكم عليكم ويبارك لكم في كل ما عملت أيديكم، كما علم أن يسوسكم في هذه البرية أربعين سنة، الله ربكم ما دام معكم لا يعوز بكم شيء، وجزنا طريق العربة - وفي نسخة: البيداء - وأيلة، وأقبلنا وجزنا في البرية إلى طريق موآب، وقال لي الرب: لا تضيق على الموآبيين ولا تحاربهم، لأني لست أعطيك من أرضهم ميراثاً، بل قد جعلت هذه
لأني لست أعطيكم من أرضهم ميراثاً ولا موضع قدم، ابتاعوا منهم طعاماً لمأكلكم وامتاروا منهم ماء بفضة لمشربكم، وليبارك الله ربكم عليكم ويبارك لكم في كل ما عملت أيديكم، كما علم أن يسوسكم في هذه البرية أربعين سنة، الله ربكم ما دام معكم لا يعوز بكم شيء، وجزنا طريق العربة - وفي نسخة: البيداء - وأيلة، وأقبلنا وجزنا في البرية إلى طريق موآب، وقال لي الرب: لا تضيق على الموآبيين ولا تحاربهم، لأني لست أعطيك من أرضهم ميراثاً، بل قد جعلت هذه
98
الأرض ميراثاً لبني لوط هذه التي سكنها إمتى أولاً، شعباً كان عظيماً، كان الموآبيون يسمونهم إمتى، فأما ساعير فكان سكانها الحورانيين أولاً وورثها بنو عاسو، فقوموا الآن فجوزوا وادي زرد، فجزنا وادي زرد حينئذ، وكان عدد الأيام التي سرنا من رقيم إلى أن جزنا وادي زرد ثماني وثلاثين سنة، حتى هلك جميع الرجال الأبطال أهل ذلك الحقب من عسكر بني إسرائيل كما أقسم عليهم الرب، لأن يد الرب كانت عليهم حتى هلكوا، فلما ماتوا من الشعب كلمني الرب وقال لي: أنت جائز اليوم إلى حد موآب، وتدنو من حد بني عمون فلا تتعرض لهم، لست أعطيك ميراثاً من أرض بني عمون، لأني قد جعلتها ميراثاً لبني لوط، فقم وارتحل وجز وادي أرنون، إني قد دفعت إليك سيحون ملك الأمورانيين فحاربه وأهلك أصحابه، فإني أبدأ فألقي خوفك وفزعك على الناس منذ يومك هذا، وعلى جميع الشعوب التي تحت السماء، حتى إذا سمعوا بخبرك فرقوا وفزعوا منك، وأرسلت رسلاً من برية قدموت إلى سيحون ملك حجبون بكلام طيب وبالسلام، وقلت له: نجوز في أرضك ونسير في الطريق الأعظم، لا نميل يمنة ولا يسرة نمتار منكم طعاماً بفضة لمأكلنا، وكذلك نبتاع ماء لمشربنا بثمن، فدعونا نجز
99
سائرين في الطريق كما صنع بنا بنو عاسو الذين في ساعير، والموآبيون الذي في عار، حتى يجوز في الأردن إلى الأرض التي يعطينا الله ربنا، لوم يسرَّ سيحون ملك حجبون أن نجوز في حده، لأن الله ربكم قسّى قلبه وعظم روحه ليدفعه في أيديكم، وخرج إلينا هو وجميع أجناده ليحاربونا في ياهاص، فدفعه الرب إلينا وقتلناه هو وجميع أجناده وفتحنا قراه وأهلكنا كل من كان في قراه، ولم يبق منهم أحد، وأهلكنا نساءهم وعيالاتهم، ولم يبق منهم أحد من حد عروعير التي على حد وادي أرنون، والقرية التي في الوادي وإلى جلعاد لم تفتنا قرية، بل دفعها الله ربنا في أيدينا جميعاً، فأما أرض بني عمون فلم نقربها، وكل ما كان على وادي يبوق وقرى الجبال أيضاً، وكل ما أمرنا الله ربنا به، ثم أقبلنا وصعدنا إلى أرض متنين، وخرج إلينا عوج ملك متنين هو وكل شيعته ليحاربنا في أدرعى، وقال لي الرب: لا تفرق فإني قد دفعته في يديك، وأسلمت إليك كل أجناده وأرضه، وقتلناهم ولم يبق منهم أحد، وظفرنا بكل قراه في ذلك الزمان، ولم تفتنا قرية إلا أخذناها منهم ستين قرية، كل جبل أرجوب، كل القرى التي كانت أسوارها
100
مشيدة محصنة بالأبواب الشديدة الموثقة، وأحرمناهن كما صنعنا بسيحون وأخذنا الأرض في ذلك الزمان من ملكي الأمورانيين اللذين كانا عند مجاز الأردن من وادي أرنون إلى جبل حرمون، فأما الصيدانيون فكانوا يدعون حرمون سريون، وأما الأمورانيون فكانوا يسمونها سنير، وأخذنا كل القرى التي كانت في الصحراء وكل جلعاد وكل متنين إلى سلكة وأدرعى، جميع قرى ملك عوج، لأن عوجاً كان الجبار الذي بقي وحده من الجبابرة، وكان سريره من حديد، وفي مدينة بني عمون التي تسمى ربة، طوله تسع أذرع وعرضه أربع أذرع بذراع الجبابرة، وورثنا هذه الأرض في ذلك الزمان؛ ثم قال: أمرت يشوع في ذلك الزمان وقلت: قد رأيت بعينيك ما صنع الله ربكم بملكي الأمورانيين، كذلك يصنع الرب بجميع المملكات التي تجوز إليها، لأن الله ربكم هو يجاهد عنكم، وتضرعت إلى الرب في ذلك الزمان وقلت: أطلب إليك يا ربي وإلهي أن تظهر لعبدك عظمتك بيدك المنيعة وبذراعك العظيمة، أيّ إله في السماء أو في الأرض يعمل مثل أعمالك وجرائحك! أتأذن
101
لي الآن فأعبر وأعاين الأرض المخصبة التي في مجاز الأردن، هذا الجبل المخصب ولبنان، ولم يتسجب لي وقال لي الرب: حسبك! لا تعد أن تقول هذا القول بين يدي، اصعد رأس الأكمة وارفع عينيك إلى المغرب والمشرق وإلى الجربي والتيمن، وانظر إليها نظراً ولا تجز هذا الأردن، ومر يشوع وتقدم إليه وقوِّه وأيده، لأنه هو الذي يجوز أمام هذا الشعب وهو الذي يورثهم الأرض التي تراها، ونزلنا الوادي حيال بيت فغور: ثم قال: وأقسم - أي الرب -أني لا أجوز هذا الأردن ولا أدخل إلى الأرض التي أعطاكم الله ربكم ميراثاً، فأنا الآن متوفٍ في هذه الأرض، ولا أجوز هذا الأردن، فأما أنتم فتجوزون وترثون هذه الأرض المخصبة، احفظوا لا تنسوا عهد ربكم الذي عاهدكم، ولا تفسدوا وتتخذوا أصناماً وأشباهاً، من أجل أن الله ربكم هو نار محرقة وهو إله غيور، وإذا ولد لكم بنون وبنو بنين وعتقتم في الأرض.
واتخذتم أصناماً وأشباهاً وارتكبتم الشر أمام الله ربكم وأغضبتموه قد أشهد عليكم السماء والأرض أنكم تهلكون سريعاً من الأرض التي تجوزون لترثوها، ولا تكثر أيامكم فيها، ويبددكم الرب من بين الشعوب ويبقي منكم عدد قليل بين الشعوب
واتخذتم أصناماً وأشباهاً وارتكبتم الشر أمام الله ربكم وأغضبتموه قد أشهد عليكم السماء والأرض أنكم تهلكون سريعاً من الأرض التي تجوزون لترثوها، ولا تكثر أيامكم فيها، ويبددكم الرب من بين الشعوب ويبقي منكم عدد قليل بين الشعوب
102
التي يفرقكم الرب فيها، سلوا عن الأيام الأولى التي مضت قبلكم منذ يوم خلق الله الناس على الأرض من أقصى السماء إلى أقطارها، هل كان مثل هذا الأمر العظيم أو سمع بمثله قط؟ هل سمع شعب آخر صوت الله يكلمه من النار كما سمعتم أنتم، وجربوا الله الذي اتخذهم شعباً من الشعوب بالبلايا والآيات والأعاجيب والحروب واليد المنيعة والذراع العظيمة وبالمناظر العظيمة، كما صنع الله بأهل مصر تجاهكم أنتم وعاينتم وعلمتم أن الله هو رب كل شيء وليس إله غيره، أسمعكم صوته من السماء ليعلمكم وأراكم ناره العظيمة، وسمعتم أقاويله من النار، ولحبه لآبائكم اختار نسلهم من بعدهم، وأخرجكم بوجهه من مصر بقوته العظيمة، ليهلك من بين أيديكم شعوباً أعظم وأعزّ منكم ليدخلكم ويعطيكم أرضهم ميراثاً، لتعلموا يومكم هذا وتقبلوا بقلوبكم لأن الرب هو إله في السماء فوق وفي الأرض أسفل، وليس إله سواه، احفظوا سننه ووصاياه التي أمركم بها يومكم هذا لينعم عليكم وعلى أبنائكم من بعدكم ويطول مكثكم في الأرض التي يعطيكم الله ربكم طول الأيام.
هذه الشهادات والأحكام التي قص موسى على بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر، فانتهوا إلى مجاز الأردن في الوادي في مشارق الشمس، وإلى بحر العربة إلى سدود الفسجة، ثم قال بعد ذلك في أواخر هذا السفر بعد أن قص عليهم
هذه الشهادات والأحكام التي قص موسى على بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر، فانتهوا إلى مجاز الأردن في الوادي في مشارق الشمس، وإلى بحر العربة إلى سدود الفسجة، ثم قال بعد ذلك في أواخر هذا السفر بعد أن قص عليهم
103
أحكاماً كثيرة وحِكَما عزيزة: الرب يقبل بكم إلى الخير ويفرحكم كما فرح آباؤكم، وذلك إن أنتم سمعتم قول الله ربكم وحفظتم سننه ووصاياه المكتوبة في هذا الكتاب من كل قلوبكم وأنفسكم، من أجل أن هذه الوصية لم تخف عليكم ولم تغب، وليس هو بمستور في السماء فتقولوا: من يصعد لنا إلى السماء ويأتينا به فنسمعه ونعمل به! وليس بغائب عنكم في أقصى البحر فتقولوا: من ينزل لنا إلى البحر ويأتينا به فنسمعه ونعمل به! ولكن القول قريب من فمك وقلبك فاعمل به، وانظر أني قد صيّرت بين يديك اليوم الحياة والخير، فأخبرتك بالموت والشر، وأنا آمرك اليوم أن تحب الله ربك وتسلك في طرقه وتحفظ سننه ووصاياه وأحكامه، لتحيى وتكثر جداً، ويبارك الله ربك عليك، وينميك في الأرض التي تدخلها لترثها، وإن مال قلبك وزاغ ولم تسمع وضللت وتبعت الآلهة الأخرى وسجدت لها فقد بينت لكم اليوم أنكم تهلكون هلاكاً، ولا يطول مكثكم في الأرض التي تجوزون الأردن لترثوها، وأوعزت إليكم وناشدتكم السماء والأرض والحياة والموت - وفي نسخة: وأشهدت عليكم السماء والأرض وجعلت بين يديكم الحياة والموت - وتلوت
104
عليكم اللعن والدعاء، فاختر الحياة لتحيى أنت ونسلك إذا أحببت الله ربك وسمعت قوله ولحقت بعبادته، لأنه حياتك وطول عمرك، وتسكن في الأرض التي أقسم الرب لآبائك ووعد إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك؛ ثم انطلق موسى وكلم بني إسرائيل وقص عليهم هذه الأقوال كلها وقال لهم: اليوم مائة وعشرون سنة، ولست أقدر على الدخول والخروج أيضاً، والرب قال: إنك لا تجوز هذا الأردن، فالله ربكم هو يجوز أمامكم، وهو يهلك هذه الشعوب من بين أيديكم وترثونهم، ويشوع هو يجوز أمامكم كما قال الرب، وسيصنع بهم الرب كما صنع بسيحون وعوج ملكي الأمورانيين اللذين أهلكهما، ويهزمهم الله ربكم من بين أيديكم، فاصنعوا بهم حينئذ ما أمرتكم به، فتقوّوا واعتزوا ولا تخافوا ولا تفزعوا، ولا ترعب قلوبكم منهم، لأن الله ربكم سائر أمامكم، لا يخذلكم ولا يرفضكم؛ ودعا موسى يشوع بن نون وقال له بين يدي جماعة بني إسرائيل: تقّو واعتز، لأنك أنت الذي تدخل هذا الشعب الأرض التي أقسم الله لآبائهم أن يعطيهم، وأنت تورثها أبناءهم، والرب هو يسير أمامكم وهو يكون معك ولا يخذلك ولا يرفضك، فلا تخف ولا تفزع ولا يرعب قلبك؛ وكتب موسى هذه التوراة وسننها ودفعها إلى الأحبار بني لاوي الذين يحملون
105
تابوت عهد الرب وإلى جميع أشياخ بني إسرائيل؛ ثم قال: وكلم الرب موسى في ذلك اليوم وقال له: اصعد إلى جبل العبرانيين هذا جبل نابو الذي في أرض موآب حيال يريحا وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ميراثاً، ولتتوفّ هناك في الجبل الذي تصعد إليه واجتمع إلى آبائك، كما توفي أخوك هارون في الجبل وصار إلى قومه، ثم قال في آخر هذا السفر وهو آخر التوراة: فطلع موسى من عربوب - وفي نسخة: من بيداء موآب - إلى جبل نبو إلى رأس الأكمة التي قبالة وجه إريحا، وأراه الله جميع جلعد إلى دان وجميع أرض نفتالي وجميع أرض إفرائيم ومنشا، وجميع أرض يهودا إلى آخر البحر والبرية وما حول بقعة بلد إريحا مدينة النخل إلى صاغر، فقال الرب لموسى: إن هذه هي في الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وقلت: إني لنسلكم أعطيها، قد أريتكها بعينيك، فأما أنت فما تدخلها، وقضى عبد الله موسى بأرض موآب بأمر الرب، فدفن - يعني في أرض موآب - حذاء بيت فاغور، ولم يعرف
106
أحد أين قضى إلى يومنا هذا، وكان موسى وقت قضى ابن مائة وعشرين سنة، لم يضعف بصره ولم يشخ جداً؛ فناح بنو إسرائيل على موسى بعربوب - وفي نسخه: في بيداء موآب - ثلاثين يوماً، وتمت أيام بكاء مأتم موسى؛ وامتلأ يشوع بن نون روَح الحكمة، لأن موسى وضع عليه يده، وأطاع له بنو إسرائيل وامتثلوا ما أمر الرب به موسى - انتهى ما أردته من أخبار التيه وما يتصل بذلك من مساواتهم لجميع الناس في العذاب بالمعاصي والإلطاف بالطاعات، الهادم لكونهم أبناء وأحباء.
وفيه مما يحتاج إلى تفسير: الجربي، وهو نسبة إلى الجربياء - بكسر الجيم والموحدة، بينهما مهملة ساكنة ثم تحتانية ممدودة، وهي جهة الشمال، والتيمنُ - بفتح الفوقانية وإسكان التحتانية وضم الميم، وهو أفق اليمن الذي يقابل الشمال فالمراد الجنوب، وفيه قاصمة لهم من إنكار النسخ في أمرهم بنص التوراة بالدخول إلى يبت المقدس ثم نهيهم عن ذلك لما عصوا، فإنه قال: اصعدوا ورثوا الأرض كما قال لكم الله رب آبائكم، لا تخافوا ولا تفزغوا، ولما عصوا هذا الأمر وأعلمهم موسى عليه السلام عليه السلام بغضب الله عليهم وعقوبته بالتيه أرادوا امتثال الأمر في الصعود توبة، فقال لهم موسى عليه السلام: وقال لي الرب: أنذرهم وقل لهم: لا تصعدوا
وفيه مما يحتاج إلى تفسير: الجربي، وهو نسبة إلى الجربياء - بكسر الجيم والموحدة، بينهما مهملة ساكنة ثم تحتانية ممدودة، وهي جهة الشمال، والتيمنُ - بفتح الفوقانية وإسكان التحتانية وضم الميم، وهو أفق اليمن الذي يقابل الشمال فالمراد الجنوب، وفيه قاصمة لهم من إنكار النسخ في أمرهم بنص التوراة بالدخول إلى يبت المقدس ثم نهيهم عن ذلك لما عصوا، فإنه قال: اصعدوا ورثوا الأرض كما قال لكم الله رب آبائكم، لا تخافوا ولا تفزغوا، ولما عصوا هذا الأمر وأعلمهم موسى عليه السلام عليه السلام بغضب الله عليهم وعقوبته بالتيه أرادوا امتثال الأمر في الصعود توبة، فقال لهم موسى عليه السلام: وقال لي الرب: أنذرهم وقل لهم: لا تصعدوا
107
ولا تجاهدوا لأني لست بينكم، لئلا يهزمكم أعداؤكم - هذا نصه فراجعه. وأما دخول أبنائهم إلى بلاد القدس وغلبتهم على أهلها وتبسطهم في أرضها تصديقاً لمواعد الله على يد يشوع بن نون عليه السلام فسيذكر إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى في سورة يونس عليه السلام: ﴿ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق﴾ [يونس: ٩٣]، ولكن أقدم هنا من أمر يوشع بعد موسى عليهما السلام - والمعونة بالله - ما يبنى عليه بعض مناسبات الآية التي بعدها، قال البغوي: فتوجه - يعني يوشع - ببني إسرائيل إلى إريحا ومعه تابوت الميثاق، فأحاط بها ستة أشهر، ثم نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة ودخلوا، فقاتلوا الجبارين فقتلوهم، وكان القتال في يوم الجمعة، فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال: اللهم أردد الشمس عليّ! فردت عليه وزيد في النهار ساعة، ثم قتلهم أجمعين، وتبع ملوك الشام واستباح منهم واحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام وفرق عماله في نواحيها، وجمع الغنائم فلم تنزل النار، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك، فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلمّ ما عندك! فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر، فجعله في القربان وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان - انتهى. ورأيت أنا في تاريخ نبوة يوشع بعد موت موسى عليهما السلام ما ربما يخالف هذا في الأشهر والبلد، أما الأشهر فجعلها سبعة أيام، وأما البلدة التي وقفت عندها الشمس فجبعون لا إريحا، فإنه قال ما نصه: قال الرب ليشوع: انظر، إني قد دفعت في يدك إريحا وملكها وكل أجنادها، فليُحِطْ بالمدينة جميع الرجال المقاتلة، ودوروا حول المدينة في اليوم مرة، وافعلوا ذلك في ستة أيام، ويحمل سبعة من الكهنة سبعة أبواق ويهتفون أمام التابوت، حتى إذا كان اليوم السابع دوروا حول المدينة سبع مرات، ويهتف الكهنة بالقرون، وإذا هتفت الأبواق وسمعتم أصواتها يهتف جميع الشعب بأعلى أصواتهم صوتاً شديداً، فيقع سور المدينة مكانه، ويصعد الشعب كل إنسان حياله - انتهى.
108
ثم ذكر امتثالهم لأمر الله وفتحهم لإريحا على ما قال الله، وأما البلدة التي ردَّت فيها الشمس فهي جبعون، وذلك أنه ذكر بعد فتح إريحا هذه أن سكون جعبون وهم الحاوانيون صالحوا يوشع بحيلة فعلوها، ثم قال: وهذه أسماء قراهم: جبعون والكفيرة وبيروت ويعاريم، فلما سمع بذلك أدونصداق ملك أورشليم فرق فرقاً شديداً، لأن جبعون كانت مدينة عظيمة كمثل مدن الملك، وكان أهلها رجالاً جبابرة، فأرسل إلى هوهم ملك حبران -
109
وفي موضع آخر: حبرون - وإلى فرآم ملك يرموث، وإلى يافع ملك لخيس، وإلى دابير ملك عقلون - وقال لي بعض اليهود: إن المراد بهذه عجلون - وقال لهم: اصعدوا لتعينوني على محاربة أهل جبعون، لأنهم قد صالحوا يشوع، فاجتمع الخمسة من ملوك الأمورانيين وجميع عساكرهم فنزلوا على جبعون، فأرسل أهل جبعون إلى يشوع فصعد يشوع من الجلجال هو وجميع أبطال الشعب، فأوحى الرب إلى يشوع: لا تخف ولا تفزع منهم، لأني قد أسلمتهم في يدك، فأتاهم بغتة، لأنه صعد من الجلجال الليل أجمع، فهزمهم الرب بين يدي آل إسرائيل وجرحوا منهم جرحى كثيرة في جبعون التي بحوران، وهربوا في طريق عقبة حوران ولم يزالوا يقتلون منهم إلى عزيقة ومقيدة، فلما هرب الذين بقوا منهم ونزلوا عقبة حوران أمطر الرب عليهم حجارة برد كبار من السماء إلى عزيقة وماتوا كلهم، فكان الذين ماتوا بحجارة البرد أكثر من الذين قتلوا، ثم قام يشوع أمام الرب مصلياً في اليوم الذي دفع الرب الأمورانيين في يدي بني إسرائيل وقال: أيتها الشمس! امكثي في جبعون ولا تسيري، وأنت أيها القمر! لا تبرح قاعَ أيلون،
110
فثبتت الشمس وقام القمر حتى انتقم الشعب من أعدائهم؛ فكتبت هذه الأعجوبة في سفر التسابيح، لأن الشمس وقفت في وسط السماء ولم تزل إلى الغروب، وصار النهار يوماً تاماً، ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده - انتهى. وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه القصة، روى الشيخان: البخاري في الخمس والنكاح، ومسلم في المغازي عن أبي هريرة رضي الله عنه قالك «قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولمّا يبن بها، ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزا فدنا من القرية صلاةَ العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا! فحبست حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم، فجاءت - يعني النار - لتأكلها فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولاً، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى بعض ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا «
وفي
وفي
111
رواية المسند للحافظ نور الدين الهيثمي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشمس لم يحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس»، قال: وهو في الصحيح ولم أر فيه حصراً كما هنا؛ وفي سيرة ابن إسحاق ما ينقضه، قال: حدثنا يونس عن الأسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال: لما أسري برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبر قومه بالرفعة والعلامة عما في العير قالوا: فمتى تجيء؟ قال: يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون وقد ولى النهار ولم تجىء، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس، ولم ترد الشمس على أحد إلا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى يوشع بن نون حين قاتل الجبارين يوم الجمعة.
112
ولما كانت قصتهم هذه - في أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدسة لما فيها من نقض العهود والتبرؤ من الله والحكم عليهم بالفسق والتعذيب - ناقضة لما ادعاه اليهود من البنوة، كان ذلك كافياً في إبطال مدعى النصارى لذلك، لأنهم أبناء اليهود، وإذا بطل كون أبيك ابانً لأحد بطل أن تكون أنت ابنه، لما كان ذلك كذلك ناسب أن تعقب بقصة ابني آدم لما يذكر، فقال تعالى عاطفاً على قوله: ﴿وإذ قال موسى﴾ [المائدة: ٢٠] ﴿واتل عليهم﴾
112
أي على المدعوّين الذين من جملتهم اليهود تلاوة، وهي من أعظم الأدلة على نبوتك، لأن ذلك لا علم لك ولا لقومك به إلا من جهة الوحي ﴿نبأ ابني آدم﴾ أي خبرهما الجليل العظيم، تلاوة ملتبسة ﴿بالحق﴾ أي الخبر الذي يطابقه الواقع إذا تُعُرَّفَ من كتب الأولين وأخبار الماضين كائناً ذلك النبأ ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قربا﴾ أي ابنا آدم؛ ولما لم يتعلق الغرض في هذا المقام ببيان أيّ نوع قربا منه، قال: ﴿قرباناً﴾ أي بأن قرب كل واحد منهما شيئاً من شأنه أن يقرِّبَ إلى المطلوب مقاربتُه غاية القرب.
ولما كان المؤثر للحسد إنما هو عدم التقبل، لا بالنسبة إلى متقبل خاص، بناه للمفعول فقال: ﴿فتُقبِّل﴾ أي قبل قبولاً عظيماً ظاهراً لكل أحد ﴿من أحدهما﴾ أبهمه أيضاً لعدم الاحتياج في هذا السياق إلى تعيينه ﴿ولم يتقبل من الآخر﴾ عَلِمَا ذلك بعلامة كانت لهم في ذلك، إما أكل النار للمقبول كما قالوه أو غير ذلك؛ ومناسبتها لما قبلها من حيث إنها أيضاً ناقضة لدعواهم البنوة، لأن قابيل ممن ولد في الجنة على ما قيل، ومع ذلك فقد عذب لما نقض العهد، فانتفى أن يكون ابناً وكان هو وغيره شرعاً واحداً دائراً أمرهم في
ولما كان المؤثر للحسد إنما هو عدم التقبل، لا بالنسبة إلى متقبل خاص، بناه للمفعول فقال: ﴿فتُقبِّل﴾ أي قبل قبولاً عظيماً ظاهراً لكل أحد ﴿من أحدهما﴾ أبهمه أيضاً لعدم الاحتياج في هذا السياق إلى تعيينه ﴿ولم يتقبل من الآخر﴾ عَلِمَا ذلك بعلامة كانت لهم في ذلك، إما أكل النار للمقبول كما قالوه أو غير ذلك؛ ومناسبتها لما قبلها من حيث إنها أيضاً ناقضة لدعواهم البنوة، لأن قابيل ممن ولد في الجنة على ما قيل، ومع ذلك فقد عذب لما نقض العهد، فانتفى أن يكون ابناً وكان هو وغيره شرعاً واحداً دائراً أمرهم في
113
العذاب والثواب على الوفاء والنقض، من وفى كان حبيباً ولياً، ومن نقض كان بغيضاً عدواً، وإذا انتفت البنوة عن ولد لآدم صفي الله مع كونه لصلبه لا واسطة بينهما ومع كونه وُلِدَ في الجنة دار الكرامة، فانتفاؤها عمن هو أسفل منه من باب الأولى، وكذا المحبة؛ ومن المناسبات أيضاً أن كفر بني إسرائيل بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو للحسد، فنبهوا بقضة ابني آدم على أن الحسد يجر إلى ما لا يرضي الله وإلى ما لا يرضاه عاقل ويكب في النار؛ ومنها أن في قصة بني إسرائيل إحجامهم عن قتال أعداء الله البعداء منهم المأمورين بقتالهم الموعودين عليه بخيري الدارين، وأن الله معهم فيه، وفي قصة ابني آدم إقبال قابيل على قتل أخيه حبيب الله المنهي عن قتله المتوعد بأن الله يتبرأ منه إن قتله، ففي ذلك تأديب لهذه الأمة عند كل إقدام وإحجام، وتذكير بالنعمة في حفظهم من مثل ذلك، وأن فيها أن موسى وهارون عليهما السلام أخوان في غاية الطواعية في أنفسهما، ورحمة كل منهما للآخر والطاعة لله، وقصة ابني آدم بخلاف ذلك، وفي ذلك تحذير مما جر إليه وهو الحسد، وأن في قصة بني إسرائيل أنهم لما قدموا الغنائم للنار فلم تأكلها، عَلِمَ نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها لم تقبل لغلول غَلّوه، فاستخرجه ووضعه فيها فأكلتها، ففي ذلك الاستدلال بعدم أكل النار على عدم القبول - كما
114
في قصة ابني آدم، وأن بني إسرائيل عذبوا بالمنع من بيت المقدس بالتيه.
وقابيل نفي من الأرض التي كان فيها مقتل أخيه، وأن بني إسرائيل تاهوا أربعين سنة على عدد الأيام التي غاب فيها نقباؤهم في جسّ أخبار الجبابرة، وأن قابيل حمل هابيل بعد أن قتله أربعين يوماً - ذكره البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقصده السباع فحمله على ظهره أربعين يوماً، وكل هذه محسنات والعمدة هو الوجه الأول وأحسن منه أن يكون الأمر لموسى عليه السلام عطفاً على النهي في لاتاس، والمعنى أن الأرض المقدسة مكتوبة لهم كما قَدمته أنت أول القصة في قولك: ﴿التي كتب الله لكم﴾ [المائدة: ٢١] فأنا مورثها لا محالة لأبنائهم وأنت متوفٍ قبل دخولها، وقد أجريت سنتي في ابني آدم بأنهم إذا توطنوا واستراحوا تحاسدوا، وإذا تحاسدوا تدابروا فقتل بعضهم بعضاً، فاتل عليهم هذه القصة لتكون زاجرة لهم من أن يفعلوا ذلك إذا فرغوا من الجبابرة وأبادوهم وصفت لهم البلاد فتوطنوها، وأخرجت لهم بركاتها فأبطرتهم النعم، ونسوا غوائل النقم؛ ويكون ذلك وعظاً لهذه الأمة ومانعاً من فعل مثل ذلك بعد إكمال دينهم ووفاة نبيهم وإظهارهم على الدين كله، كما تقدم به الوعد لهم فقهروا العباد وفتحوا البلاد وانتثلوا كنوزها
وقابيل نفي من الأرض التي كان فيها مقتل أخيه، وأن بني إسرائيل تاهوا أربعين سنة على عدد الأيام التي غاب فيها نقباؤهم في جسّ أخبار الجبابرة، وأن قابيل حمل هابيل بعد أن قتله أربعين يوماً - ذكره البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقصده السباع فحمله على ظهره أربعين يوماً، وكل هذه محسنات والعمدة هو الوجه الأول وأحسن منه أن يكون الأمر لموسى عليه السلام عطفاً على النهي في لاتاس، والمعنى أن الأرض المقدسة مكتوبة لهم كما قَدمته أنت أول القصة في قولك: ﴿التي كتب الله لكم﴾ [المائدة: ٢١] فأنا مورثها لا محالة لأبنائهم وأنت متوفٍ قبل دخولها، وقد أجريت سنتي في ابني آدم بأنهم إذا توطنوا واستراحوا تحاسدوا، وإذا تحاسدوا تدابروا فقتل بعضهم بعضاً، فاتل عليهم هذه القصة لتكون زاجرة لهم من أن يفعلوا ذلك إذا فرغوا من الجبابرة وأبادوهم وصفت لهم البلاد فتوطنوها، وأخرجت لهم بركاتها فأبطرتهم النعم، ونسوا غوائل النقم؛ ويكون ذلك وعظاً لهذه الأمة ومانعاً من فعل مثل ذلك بعد إكمال دينهم ووفاة نبيهم وإظهارهم على الدين كله، كما تقدم به الوعد لهم فقهروا العباد وفتحوا البلاد وانتثلوا كنوزها
115
وتحكموا في أموالها، فنسوا ما كانوا فيه من القلة والحاجة والذلة فأبطرتهم النعم، وارتكبوا أفعال الأمم، وأعرضوا عن غوائل النقم - كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، الا والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» أخرجه الترمذي والإمام أحمد وأبو داود الطيالسي في مسنديهما والبزار - قال المندري: بإسناد جيد - والبيهقي وقال: «لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا» رواه الطبراني ورواته ثقات، وذكر الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في القسم الثاني من سيرته في فتح جلولاء من بلاد فارس أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أرسل الغنيمة إلى عمر رضي الله عنه أقسم عمر رضي الله عنه: لا يخبأها سقف بيت حتى تقسم! فوضعت في صحن المسجد، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم رضي الله عنهما يحرسانه، فلما جاء الناس كشف عنه فنظر عمر رضي الله عنه إلى ياقوتة وزبرجدة وجوهرة فبكى، فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا إلا موطن شكر! فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم.
شرحُ قصة ابني آدم من التوراة، قال المترجم في أولها بعد قصة أكل آدم
شرحُ قصة ابني آدم من التوراة، قال المترجم في أولها بعد قصة أكل آدم
116
عليه السلام من الشجرة ما نصه: فدعا آدم اسم امرأته حواء من أجل أنها كانت أم كل حيّ، وصنع الرب لآدم وامرأته سرابيل من الجلود وألبسهما، فأرسله الله من جنة عدن ليحرث الأرض التي منها أخذ، فأخرجه الله ربنا، فجامع آدم امرأته حواء فحبلت وولدت قايين وقالت: لقد استفدت لله رجلاً، وعادت فولدت أخاه هابيل، فكان هابيل راعي غنم، وكان قايين يحرث الأرض، فلما كان بعد أيام جاء قايين من ثمر أرضه بقربان لله، وجاء هابيل أيضاً من أبكار غنمه بقربان، فسر الله بهابيل وقربانه ولم يسر بقايين وقربانه، فساء ذلك قايين جداً وهمَّ أن يسوءه وعبس وجهه، فقال الرب لقايين: ما ساءك؟ ولِمَ كسف وجهك؟ إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة على الباب وأنت تقبل إليها وهي تتسلط عليك، فقال قايين لهابيل أخيه: تتمشى بنا في البقعة، فبينما هما يتمشيان في الحرث وثب قايين على أخيه هابيل فقتله، فقال الله لقايين: أين هابيل أخوك؟ فقال: لا أدري، أرقيب أنا على أخي؟ قال الله: ماذا فعلت! فإن دم أخيك ينادي لي من الأرض، من الآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها
117
فقبلت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حراثها، وتكون فزعاً تائهاً في الأرض، فقال قايين للرب: عظمت خطيئتي من أن تغفرها، وقد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض، وأتوارى من قدامك وأكون فزعاً تائها في الأرض، وكل من وجدني يقتلني، فقال الله ربنا: كلا! ولكن كذلك كل قاتل، وأما قايين فإنه يجزى بدل الواحد سبعة، فخرج قايين من قدام الله فجلس في الأرض نود شرقي عدن - انتهى. قال البغوي عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت فيها بقابيل وتوأمته - فذكر قصته في النكاح وقتله لأخيه وشرب الأرض لدمه قولو قابيل لله - حين قال له: إنه قتله -: إن كنت قتلته فأين دمه؟ فحرم الله على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعده أبداً - انتهى.
ولما أخبر الله تعالى بأن أحدهما فعل معه من عدم القبول ما غاظه، كان كأنه قيل: فما فعل حين غضب؟ فقيل: ﴿قال﴾ أي لأخيه الذي قبل قربانه حسداً له ﴿لأقتلنك﴾ فكأنه قيل: بما أجابه؟
ولما أخبر الله تعالى بأن أحدهما فعل معه من عدم القبول ما غاظه، كان كأنه قيل: فما فعل حين غضب؟ فقيل: ﴿قال﴾ أي لأخيه الذي قبل قربانه حسداً له ﴿لأقتلنك﴾ فكأنه قيل: بما أجابه؟
118
فقيل: نبهه أولاً على ما يصل به إلى رتبته ليزول حسده بأن ﴿قال إنما يتقبل الله﴾ أي يقبل قبولاً عظيماً المحيط لكل شيء قدرة وعلماً الملك الذي له الكمال كله، فليس هو محتاجاً إلى شيء، وكل شيء محتاج إليه ﴿من المتقين *﴾ أي العريقين في وصف التقوى، فلا معصية لهم يصرون عليها بشرك ولا غيره، فعدمُ تقبل قربانك من نفسك لا مني، فلم تقتلني؟ فقتلك لي مبعد لك عما حسدتني عليه.
ولما وعظه بما يمنعه من قتله ويقبل به على خلاص نفسه، أعلمه ثانياً أن الخوف من الله مَنَعَه من أن يمانعه عن نفسه مليناً لقلبه بما هو جدير أن يرده عنه خشية أن تجره الممانعة إلى تعدي الحد المأذون فيه، لأن أخاه كان عاصياً لا مشركاً، فقال مؤكداً بالقسم لأن مثل ما يخبر به عظيم لا يكاد يصدق: ﴿لئن بسطت إليّ﴾ أي خاصة ﴿يدك لتقتلني﴾ أي لتوجد ذلك بأيّ وجه كان، ثم بالغ في إعلامه بامتناعه من الممانعة فقال: ﴿ما أنا﴾ وأغرق في النفي فقال: ﴿بباسط﴾ أي أصلاً، وقدم المفعول به تعميماً، ثم خص المتعلق لمناسبة الحال فقال: ﴿يدي إليك لأقتلك﴾ أي في أيّ وقت من الأوقات، ولعله أتى بالجملة الاسمية المفيدة لنفي الثبات والدوام أدباً مع الله في عدم الحكم على
ولما وعظه بما يمنعه من قتله ويقبل به على خلاص نفسه، أعلمه ثانياً أن الخوف من الله مَنَعَه من أن يمانعه عن نفسه مليناً لقلبه بما هو جدير أن يرده عنه خشية أن تجره الممانعة إلى تعدي الحد المأذون فيه، لأن أخاه كان عاصياً لا مشركاً، فقال مؤكداً بالقسم لأن مثل ما يخبر به عظيم لا يكاد يصدق: ﴿لئن بسطت إليّ﴾ أي خاصة ﴿يدك لتقتلني﴾ أي لتوجد ذلك بأيّ وجه كان، ثم بالغ في إعلامه بامتناعه من الممانعة فقال: ﴿ما أنا﴾ وأغرق في النفي فقال: ﴿بباسط﴾ أي أصلاً، وقدم المفعول به تعميماً، ثم خص المتعلق لمناسبة الحال فقال: ﴿يدي إليك لأقتلك﴾ أي في أيّ وقت من الأوقات، ولعله أتى بالجملة الاسمية المفيدة لنفي الثبات والدوام أدباً مع الله في عدم الحكم على
119
المستقبل، ثم علله بقوله: ﴿إني أخاف الله﴾ أي أستحضر جميع ما أقدر على استحضاره من كماله، ثم وصفه بالإحسان إلى خلقه ليكون ذلك مانعاً له من الإساءة إلى أحد منهم فقال: ﴿رب العالمين *﴾ أي الذي أنعم عليهم بنعمة الإيجاد ثم التربية، فأنا لا أريد أن أخرب ما بنى، وهذا كما فعل عثمان رضي الله عنه.
ولما كان من النهايات للواصلين إلى حضرات القدس ومواطن الأنس بالله، المتمكنين في درجة الغناء عن غير الفاعل المختار أن لا يراد إلا ما يريد سبحانه، فإن كان طاعة أراده العبد ورضيه، وإن كان معصية أراده من حيث إنه مراد الله ولم يرضه لكونه معصية، فيرضى بالقضاء دون المقضي، وكأنه من الممكن القريب أن يكون هابيل قد كشف له عن أنه سبق في علم الله أن أخاه يقتله، قال مرهباً له معللاً بتعليل آخر صاد له أيضاً عن الإقدام على القتل: ﴿إني أريد﴾ أي بعدم الممانعة لك ﴿أن تبوأ﴾ أي ترجع من قتلي إن قتلتني ﴿بإثمي﴾ أي الإثم الذي ينالك من أجل قتلك لي، وبعقوبته الذي من جملته أنه يطرح عليك من سيئاتي بمقدار ما عليك من حقي إذا لم تجد ما ترضيني به من الحسنات ﴿وإثمك﴾ أي الذي لا سبب لي فيه، وهو الذي كان سبباً لرد قربانك واجترائك عليّ وعدوانك، وأفوز أنا بأجري وأجرك، أي
ولما كان من النهايات للواصلين إلى حضرات القدس ومواطن الأنس بالله، المتمكنين في درجة الغناء عن غير الفاعل المختار أن لا يراد إلا ما يريد سبحانه، فإن كان طاعة أراده العبد ورضيه، وإن كان معصية أراده من حيث إنه مراد الله ولم يرضه لكونه معصية، فيرضى بالقضاء دون المقضي، وكأنه من الممكن القريب أن يكون هابيل قد كشف له عن أنه سبق في علم الله أن أخاه يقتله، قال مرهباً له معللاً بتعليل آخر صاد له أيضاً عن الإقدام على القتل: ﴿إني أريد﴾ أي بعدم الممانعة لك ﴿أن تبوأ﴾ أي ترجع من قتلي إن قتلتني ﴿بإثمي﴾ أي الإثم الذي ينالك من أجل قتلك لي، وبعقوبته الذي من جملته أنه يطرح عليك من سيئاتي بمقدار ما عليك من حقي إذا لم تجد ما ترضيني به من الحسنات ﴿وإثمك﴾ أي الذي لا سبب لي فيه، وهو الذي كان سبباً لرد قربانك واجترائك عليّ وعدوانك، وأفوز أنا بأجري وأجرك، أي
120
أجري الذي لا سبب لك فيه والأجر الذي أثمره استسلامي لك وكفُّ يدي عنك ﴿فتكون﴾ أي أنت بسبب ذلك ﴿من أصحاب النار﴾ أي الخالدين فيها جزاءً لك لظلمك بوضعك القتل في غير موضعه، ثم بين أن هذا يعم كل من فعل هذا الفعل فقال: ﴿وذلك جزاء الظالمين *﴾ أي الراسخين في وصف الظلم كلهم، وأكون أنا من أصحاب الجنة جزاءً لي بإحساني في إيثار حياتك لإرادة المعصية من حيث كونها معصية بإرادة ظهور الكفار، لما علم من أن النصر بيد الله، فهو قادر على نصر الباقي بعد استشهاد الشهيد.
121
ولما كان هذا الوعظ جديراً بأن يكون سبباً لطاعته وزاجراً له عن معصيته، بين تعالى أنه قسا قلبه فجعله سبباً لإقدامه، فقال - مبيناً بصيغة التفعيل، إذ القتل لما جعل الله له من الحرمة وكساه من الهيبة لا يقدم عليه إلا بمعالجة كبيرة من النفس -: ﴿فطوعت له﴾ أي الذي لم يتقبل منه ﴿نفسه قتل أخيه﴾ أي فعالجته معالجة كبيرة وشجعته، وسهلت له بما عندها من النفاسة على زعمها حتى غلبت على عقله فانطاع لها وانقاد فأقدم عليه؛ وتحقيق المعنى أن من تصور النهي عن الذنب والعقاب عليه امتنع منه فكان فعله كالعاصي عليه، ومن استولت عليه نفسه بأنواع الشبه في تزيينه صار فعله له وإقدامه عليه كالمطيع له
121
الممكن من نفسه بعد أن كان عاصياً عليه نافراً عنه، ثم سبب عن هذا التطويع قوله: ﴿فقتله﴾ وسبب عن القتل قوله: ﴿فأصبح﴾ أي فكان في كل زمن ﴿من الخاسرين *﴾ أي العريقين في صفة الخسران بغضب الله عليه لاجترائه على إفساده مصنوعَه، وغضب أبناء جنسه عليه لاجترائه على أحدهم، وعبر بالإصباح والمراد جميع الأوقات، لأن الصباح محل توقع الارتياح، قيل: إنه لم يدر كيف يقتله، فتصور له إبليس في يده طائر فشدخ رأسه بحجر فقتله، فاقتدى به قابيل، فأتى هابيل وهو نائمٌ فشدخ رأسه بحجر.
ولما كان التقدير: ثم إنه لم يدر ما يصنع به، إذ كان أول ميت فلم يكن الدفن معروفاً، سبب عنه قولَه: ﴿فبعث الله﴾ أي الذي له كمال القدرة والعظمة والحكمة؛ ولما كان المعنى يحصل بالغراب الباحث فقط قال: ﴿غراباً يبحث﴾ أي يوجد البحث وهو التفتيش في التراب بتليين ما تراصّ منه وإزاحته من مكانه ليبقى مكانه حوزة خالية.
ولما كان التقدير: ثم إنه لم يدر ما يصنع به، إذ كان أول ميت فلم يكن الدفن معروفاً، سبب عنه قولَه: ﴿فبعث الله﴾ أي الذي له كمال القدرة والعظمة والحكمة؛ ولما كان المعنى يحصل بالغراب الباحث فقط قال: ﴿غراباً يبحث﴾ أي يوجد البحث وهو التفتيش في التراب بتليين ما تراصّ منه وإزاحته من مكانه ليبقى مكانه حوزة خالية.
122
ولما كان البحث مطلق التفتيش، دل على ما ذكرته بقوله: ﴿في الأرض﴾ ليواري غراباً آخر مات؛ ولما كان الغراب سبب علم ابن آدم القاتل للدفن، كان كأنه بحث لأجل تعليمه فقال تعالى: ﴿ليريه﴾ أي الغراب يُرى ابن آدم، ويجوز أن يكون الضمير المستتر لله تعالى، والأول أولى لتوقيفه على عجزه وجهله بأن الغراب أعلم منه وأقرب إلى الخير ﴿كيف يواري﴾.
ولما كانت السوءة واجبة الستر، وكان الميت يصير بعد موته كله سوءة، قال منبهاً على ذلك وعلى أنها السبب في الدفن بالقصد الأول: ﴿سوءة﴾ أي فضيحة ﴿أخيه﴾ أي أخي قابيل وهو هابيل المقتول، وصيغة المفاعلة تفيد أن الجثة تريد أن يكو القاتل وراءها، والقاتل يريد كون الجثة وراءه، فيكونان بحيث لا يرى واحد منهما الآخر، ولعل بعث الغراب إشارة إلى غربة القاتل باستيحاش الناس منه وجعله ما ينفر عنه ويقتله كل من يقدر عليه، ومن ثَمَّ سمى الغراب البين، وتشاءم به من يراه.
ولما كان كأنه قيل: إن هذا لعجب، فما قال؟ قيل: ﴿قال﴾ الكلمة التي تستعمل عند الداهية العظيمة لما نبهه ذلك، متعجباً متحيراً متلهفاً عالماً أن الغراب أعلم منه وأشفق، منكراً على نفسه ﴿يا ويلتي﴾
ولما كانت السوءة واجبة الستر، وكان الميت يصير بعد موته كله سوءة، قال منبهاً على ذلك وعلى أنها السبب في الدفن بالقصد الأول: ﴿سوءة﴾ أي فضيحة ﴿أخيه﴾ أي أخي قابيل وهو هابيل المقتول، وصيغة المفاعلة تفيد أن الجثة تريد أن يكو القاتل وراءها، والقاتل يريد كون الجثة وراءه، فيكونان بحيث لا يرى واحد منهما الآخر، ولعل بعث الغراب إشارة إلى غربة القاتل باستيحاش الناس منه وجعله ما ينفر عنه ويقتله كل من يقدر عليه، ومن ثَمَّ سمى الغراب البين، وتشاءم به من يراه.
ولما كان كأنه قيل: إن هذا لعجب، فما قال؟ قيل: ﴿قال﴾ الكلمة التي تستعمل عند الداهية العظيمة لما نبهه ذلك، متعجباً متحيراً متلهفاً عالماً أن الغراب أعلم منه وأشفق، منكراً على نفسه ﴿يا ويلتي﴾
123
أي احضُرْني يا ويل! هذا أوانك أن لا يكون لي نديم غيرك؛ ولما تفجع غاية الفجيعة وتأسف كل الأسف، أنكر على نفسه فقال: ﴿أعجزت﴾ أي مع ما جعل لي من القوة القاطعة ﴿أن أكون﴾ مع ما لي من الجوارح الصالحة لأعظم من ذلك ﴿مثل هذا الغراب﴾ وقوله مسبباً عن ذلك: ﴿فأواري سوءة﴾ أي عورة وفضيحة ﴿أخي﴾ نصِبَ عطفاً على أكون لا على جواب الاستفهام، لأنه إنكاري فمعناه النفي، لأنه لم تكن وقعت منه مواراة لينكر على نفسه ويوبخها بسببها، ولو كانت وقعت لم يصح إنكارها على تقدير عدم العجز الذي أفادته الهمزة ﴿فأصبح﴾ بسبب قتله ﴿من النادمين *﴾ أي على ما فعل، لأنه فقد أخاه وأغضب ربه وأباه، ولم يفده ذلك ما كان سبب غيظه، بل زاده بعداً، وذكر أن آدم عليه السلام لما علم قتله رثاه بشعر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ردُّ ذلك، وأن الأنبياء عليهم السلام كلهم في النهي عن الشعر سواء، وقال صاحب الكشاف: وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر، «ولا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم هذا كفل من دمها بما سن» رواه مسلم وغيره عن عبد الله، وكذا «كل من سن سنة سيئة» ولهذا قال عليه السلام «إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون»، وهذا لأن الآدمي
124
لنقصانه أسرع شيء إلى الاقتداء في النقائص، وهذا ما لم يتب الفاعل، فإذا تاب أو كان غير متعمد للفعل كآدم عليه السلام لم يكن ساناً لذلك فلا شيء عليه ممن عمل بذلك.
ولما علم بهذا أن الإنسان موضع العجلة الإقدام على الموبقات من غير تأمل، فكان أحوج شيء إلى نصب الزواجر، أتبعه تعالى قوله: ﴿من أجل ذلك﴾ أي من غاية الأمر الفاحش جداً ومدته وعظم الأمر وشدة قبحه في نفسه وعند الله وصغره عند القاتل وحبسه ومنعه وجنايته وإثارته وتهييجه وجرأة الإنسان على العظائم بغير تأمل ﴿كتبنا﴾ أي بما لنا من العظمة ليفيد ذلك عظمة المكتوب والتنبيه على ما فيه من العجز ليفيد الانزجار ﴿على بني إسرائيل﴾ أي أعلمناهم بما لنا من العناية بهم في التوراة التي كتبناها لهم، ويفهم ذلك أيضاً أنهم أشد الناس جرأة على القتل، ولذلك كانوا يقتلون الأنيباء، فأعلمهم الله بما فيهم من التشديد، ولِمَا علم من الأدميين - لا سيما هم - من الجرأة عليه، ليقيم عليهم بذلك الحجة على ما يتعارفونه بينهم، ويكف عن القتل من سبقت له منه العناية بما يتصور من فظاعة القتل، وقبح صورته وفحش أمره، وعبر بأداة الاستعلاء التي هي للحتم من الوجوب والحرمة، لأن السياق للزجر، فهي تفهم المنع عن الإقدام على القتل في هذا المقام
ولما علم بهذا أن الإنسان موضع العجلة الإقدام على الموبقات من غير تأمل، فكان أحوج شيء إلى نصب الزواجر، أتبعه تعالى قوله: ﴿من أجل ذلك﴾ أي من غاية الأمر الفاحش جداً ومدته وعظم الأمر وشدة قبحه في نفسه وعند الله وصغره عند القاتل وحبسه ومنعه وجنايته وإثارته وتهييجه وجرأة الإنسان على العظائم بغير تأمل ﴿كتبنا﴾ أي بما لنا من العظمة ليفيد ذلك عظمة المكتوب والتنبيه على ما فيه من العجز ليفيد الانزجار ﴿على بني إسرائيل﴾ أي أعلمناهم بما لنا من العناية بهم في التوراة التي كتبناها لهم، ويفهم ذلك أيضاً أنهم أشد الناس جرأة على القتل، ولذلك كانوا يقتلون الأنيباء، فأعلمهم الله بما فيهم من التشديد، ولِمَا علم من الأدميين - لا سيما هم - من الجرأة عليه، ليقيم عليهم بذلك الحجة على ما يتعارفونه بينهم، ويكف عن القتل من سبقت له منه العناية بما يتصور من فظاعة القتل، وقبح صورته وفحش أمره، وعبر بأداة الاستعلاء التي هي للحتم من الوجوب والحرمة، لأن السياق للزجر، فهي تفهم المنع عن الإقدام على القتل في هذا المقام
125
﴿أنه من قتل نفساً﴾ أي من ابني آدم، وكأنه أطلق تعظيماً لهم إشارة إلى أن غيرهم جماد ﴿بغير نفس﴾ أي بغير أن تكون قتلت نفساً تستحق أن تقاد بها فاستباح قتلها لتلك النفس التي قتلتها ﴿أو﴾ قتلها بغير ﴿فساد﴾ وقع منها.
ولما كانت الأرض - مع أنها فراشنا فهي محل التوليد والتربية والتنمية - دار الكدر، وكان فساد من أفسد فراشه الموصوف - لا سيما وهو في كدر - دالاً على سوء جبلته، وكان سوء الجبلة موجباً للقتل، قال: ﴿في الأرض﴾ أي يبيح ذلك الفساد دمها كالشرك والزنا بعد الإحصان وكل ما يبيح إراقة الدم، وقد علم بهذا أن قصة ابني آدم مع شدة التحامها بما قبل توطئة لما بعد، وتغليظُ أمر القتل تقدم عن التوراة في سورة البقرة، وقوله: ﴿فكأنما قتل الناس جميعاً﴾ من جملة الأدلة المبطلة لما ادعوا من البنوة، إذ معناه أن الناس شرع واحد من جهة نفوسهم متساوون فيها. كلهم أولاد آدم، لا فضل لأحد منهم على آخر في أصل تحريم القتل بغير ما ذكر من الموجب من قصاص أو فساد لا من بني إسرائيل ولا من غيرهم، وذلك كما قال تعالى في ثاني النقوض ﴿بل أنتم بشر ممن خلق﴾ [المائدة: ١٨] فصار من قتل نفساً واحدة بغير ما ذكر
ولما كانت الأرض - مع أنها فراشنا فهي محل التوليد والتربية والتنمية - دار الكدر، وكان فساد من أفسد فراشه الموصوف - لا سيما وهو في كدر - دالاً على سوء جبلته، وكان سوء الجبلة موجباً للقتل، قال: ﴿في الأرض﴾ أي يبيح ذلك الفساد دمها كالشرك والزنا بعد الإحصان وكل ما يبيح إراقة الدم، وقد علم بهذا أن قصة ابني آدم مع شدة التحامها بما قبل توطئة لما بعد، وتغليظُ أمر القتل تقدم عن التوراة في سورة البقرة، وقوله: ﴿فكأنما قتل الناس جميعاً﴾ من جملة الأدلة المبطلة لما ادعوا من البنوة، إذ معناه أن الناس شرع واحد من جهة نفوسهم متساوون فيها. كلهم أولاد آدم، لا فضل لأحد منهم على آخر في أصل تحريم القتل بغير ما ذكر من الموجب من قصاص أو فساد لا من بني إسرائيل ولا من غيرهم، وذلك كما قال تعالى في ثاني النقوض ﴿بل أنتم بشر ممن خلق﴾ [المائدة: ١٨] فصار من قتل نفساً واحدة بغير ما ذكر
126
فكأنما حمل إثم من قتل الناس جميعاً، لأن اجتراءه على ذلك أوجب اجتراء غيره، ومن سن سنة كان كفاعلها ﴿ومن أحياها﴾ أي بسبب من الأسباب كعفو، أو إنقاذ من هلكة كغرق، أو مدافعة لمن يريد أن يقتلها ظلماً ﴿فكأنما أحيا﴾ أي بذلك الفعل الذي كان سبباً للأحياء ﴿الناس جميعاً﴾ أي بمثل ما تقدم في القتل، والآية دالة على تعليمه سبحانه لعباده الحكمة، لما يعلم من طباعهم التي خلقهم عليها ومن عواقب الأمور - لا على أنه يجب عليه - رعاية المصلحة، ومما يحسن إيراده هاهنا ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورأيت من ينسبه للشافعي رحمه الله تعالى:
الناس من جهة التمثال أكفاء | أبوهمُ آدم والأم حواء |
نفس كنفس وأرواح مشاكلة | وأعظمُ خلقت فيهم وأعضاء |
فإن يكن لهمُ في أصلهم حسب | يفاخرون به فالطين والماء |
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم | على الهدى لمن استهدى أدلاء |
وقدر كل امرىء ما كان يحسنه | وللرجال علىلأفعال أسماء |
وضد كل امرىء ما كان يجهله | والجاهلون لأهل العلم أعداء |
ففز بعلم تعش حياً به أبداً | فالناس موتى وأهل العلم أحياء |