تفسير سورة المائدة

نظم الدرر
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة المائدة١
وتسمى سورة العقود وسورة الأحبار٢.
مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد٣ الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه٤ واستدفاعاً لنقمه٥، وقصة المائدة٦ أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار.
﴿ بسم الله ﴾ أي٧ الذي تمت كلماته فصدقت وعوده٨ وعمت مكرماته ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته ﴿ الرحيم ﴾ الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته.
١ وهي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال أبو جعفر بن بشر والشعبي: إنها مدنية إلا قوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم" فإنه نزل بمكة، وعدة آياتها مائة وعشرون عند الكوفيين، وثلاث وعشرون عند البصريين واثنان وعشرون عند غيرهم- راجع روح المعاني ٢/٢٣٩..
٢ زيد ما بين الحاجزين من ظ..
٣ في ظ: توجيه..
٤ في ظ: للنعمة..
٥ في ظ: للنقمة..
٦ سقط من ظ..
٧ زيد ما بين الحاجزين من ظ..
٨ في ظ: دعوته..

مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمة، وقصة المائدة أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها أن من زاغ عن
1
الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار.
﴿بسم الله﴾ أي الذي تمت كلماته فصدقت وعوده وعمت مكرماته ﴿الرحمن﴾ الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته ﴿الرحيم﴾ الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته.
لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر﴾ [الأنعام: ١٤٦]، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأنه شامل العلم، ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب الذي هو عيب، فقال مشيراً إلى أن الناس الذين خوطبوا أو تلك الأهلوا لأول أسنان الإيمان ووصفوا بما هم محتاجون إليه، وتخصيصهم مشير إلى أن من فوقهم من الأسنان عنده من الرسوخ ما يغنيه عن الحمل بالأمر، وذلك أبعث له على التدبر والأمتثال:
2
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي ادعوا ذلك بألسنتهم ﴿أوفوا﴾ أي صدقوا ذلك بأن توفوا ﴿بالعقود﴾ أي العهود الموثقة المحكمة وهي تعم جميع أحكامه سبحانه فيما أحل أو حرم أو ندب على سبيل الفرض أو غيره، التي من جملتها الفرائض التي افتتحها بلفظ الإيصاء الذي هو من أعظم العهود، وتعم سائر ما بين الناس من ذلك، حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى بر، وأما غير ذلك فليس بعقد، بل حل بيد الشرع القوية، تذكيراً بما أشار إليه قوله تعالى في حق أولئك ﴿اذكروا نعمتي وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠] وإخباراً لهم بأنه أحل لهم ما حرم على أولئك، فقال على سبيل التعليل مشيراً إلى أن المقصود من النعمة كونها، لا بقيد فاعل مخصوص، وإلى أن المخاطبين يعلمون أنه لا منعم غيره سبحانه: ﴿أحلت لكم﴾ والإحلال من أجل العقود ﴿بهيمة﴾ وبينها بقوله: ﴿الأنعام﴾ أي أوفوا لأنه أحلّ لكم بشامل علمه وكامل قدرته لطفاً بكم ورحمة لكم ما حرم على من قبلكم من الإبل والبقر والغنم بإحلال أكلها والانتفاع بجلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من شأنها، فاحذروا أن تنقضوا كما نقضوا، فيحرم عليكم ما حرم عليهم، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم، ولا تعترضوا على نبيكم، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا، فإن ربكم
3
لا يسأل عما يفعل، وسيأتي في قوله:
﴿لا تسئلوا عن أشياء﴾ [المائدة: ١٠١] ما يؤيد هذا.
ولما كانوا ربما فهموا من هذا الإحلال ما ألفوا من الميتات ونحوها قال مستثنياً من نفس البهيمة، وهي في الأصل كل حي لا يميز، مخبراً أن من أعظم العقود ما قدم تحريمه من ذلك في البقرة: ﴿إلا ما يتلى عليكم﴾ أي في بهيمة الأنعام أنه محرم، فإنه لم يحل لكم، ونصب ﴿غير محلي الصيد﴾ على الحال أدل دليل على أن هذا السياق. وإن كان صريحه مذكراً بالنعمة لتشكر - فهو مشار به إلى التهديد إن كُفِرَت، أي أحل لكم ذلك في هذه الحال، فإن تركتموها انتفى الإحلال، وهذه مشيرة إلى تكذيب من حرم من ذلك ما أشير إليه بقوله تعالى في التي قبلها حكاية عن الشيطان ﴿ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله﴾ [النساء: ١١٩] من السائبة وما معها مما كانوا اتخذوه ديناً، وفصّلو فيه تفاصيل - كما سيأتي صريحاً في آخر هذه السورة بقوله تعالى: ﴿ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة﴾ [المائدة: ١٠٣] الآية، وكذا في آخر الأنعام، وفي الأمر بالوفاء بالعقود بعد الإخبار بأنه بكل شيء عليم غاية التحذير من تعمد الإخلال بشيء من ذلك وإن دق، وفي افتتاح هذه المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة عقب سورة النساء - التي من أعظم مقاصدها النكاح والإرث،
4
المتضمن للموت المشروع فيهما الولائم والمآتم. أتم مناسبة، وقال ابن الزبير: لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم، ومن تنكب عن نهجهم، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذاً وتركاً، وجعل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه في قوله: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم والشهادة سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له» قلت: وهذا الحديث أخرجه البزار عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم» فذكره، وصحح الدارقطني وقفه، ورواه أبو يعلى الموصلي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً والطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قالك «قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» الإسلام عشرة أسهم، وقد خاب من لا سهم له: شهادة أن لا إله إلا الله سهم وهي الملة، والثانية: الصلاة وهي الفطرة، والثالثة: الزكاة وهي الطهور، والرابعة: الصوم وهي الجنة، والخامسة: الحج وهي الشريعة، والسادسة: الجهاد وهي الغزوة، والسابعة: الأمر بالمعروف
5
وهو الوفاء والثامنة: النهي عن المنكر وهي الحجة، والتاسعة: الجماعة وهي الألفة، والعاشرة: الطاعة وهي العصمة «
وفي سنده من ينظر في حاله؛ قال ابن الزبير: وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بني الإسلام على خمس»
أي في الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر وغيره واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» قال ابن الزبير: وقد تحصلت - أي الأسهم الثمانية والدعائم الخمس - فيما مضى، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وأن ذلك ببغيهم وعداوتهم ونتقضهم العهود ﴿فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم﴾ [المائدة: ١٣] وكان النقض كل مخالفة، قال الله تعالى لعباده المؤمنين: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ [المائدة: ١] لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود، فحذر المؤمنين - انتهى. والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام وما شابهها من حيوان البر، ولكون الصيد مراد الدخول في بهيمة الأنعام استثنى بعض أحواله فقال: ﴿وأنتم حرم﴾ أي أحلت البهيمة مطلقاً إلا ما يتلى عليكم
6
من ميتاتها وغيرها في غير حال الدخول في الإحرام بالحج أو العمرة أو دخول الحرم، وأما في حال الإحرام فلا يحل الصيد أكلاً ولا فعلاً.
ولما كان مدار هذه السنة على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد ألفهم لها والتفاتهم إليها، وعظمت فيها رغباتهم من الميتات وما معها، والأزلام والذبح على النصب، وأخذ الإنسان بجريمة الغير، والفساد في الأرض، والسرقة والخمر والسوائب والبحائر - إلى غير ذلك؛ ذكّر في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم ليلة العقبة حين تواثقوا على الإسلام من السمع والطاعة في المنشط والمكر والعسر واليسر فيما أحبوا وكرهوا، وختم الآية بقوله معللاً: ﴿إن الله﴾ أي ملك الملوك ﴿يحكم ما يريد *﴾ أي من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق كالأنعام، وفي حال دون حال كما شابهها من الصيد، فلا يسأل عن تخصيص ولا عن تفضيل ولا غيره، فما فهمتم حكمته فذاك، وما لا فكلوه إليه، وارغبوا في أن يلهمكم حكمته؛ قال الإمام - وهذا هو الذي يقوله أصحابنا -: إن علة حسن التكليف هو الربوبية والعبودية، لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصلحة.
7
ولما استثنى بعض ما أحل على سبيل الإبهام شرع في بيانه، ولما كان منه ما نهى عن التعرض له لا مطلقاً، بل ما يبلغ محله، بدأ به
7
لكونه في ذلك كالصيد، وقدم على ذلك عموم النهي عن انتهاك معالم الحج المنبه عليه بالإحرام، أو عن كل محرم في كل مكان وزمان، فقال مكرراً لندائهم تنويهاً بشأنهم وتنبيهاً لعزائمهم وتذكيراً لهم بما ألزموه أنفسهم: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي دخلوا في هذا الدين طائعين ﴿لا تحلو شعائر الله﴾ أي معالم حج بيت الملك الأعظم الحرام، أو حدوده في جميع الدين، وشعائر الحج أدخل في ذلك، والاصطياد أولاها.
ولما ذكر ما عممه في الحرم أو مطلقاً، أتبعه ما عممه في الزمان فقال: ﴿ولا الشهر الحرام﴾ أي فإن ذلك لم يزل معاقداً على احترامه في الجاهلية والإسلام، ولعله وحده والمراد الجمع إشارة إلى أن الأشهر الحرم كلها في الحرمة سواء.
ولما ذكر الحرم والأشهر الحرم ذكر ما يهدى للحرم فقال: ﴿ولا الهدي﴾ وخص منه أشرفه فقال: ﴿ولا القلائد﴾ أي صاحب القلائد من الهدي، وعبر بها مبالغة في تحريمه؛ ولما أكد في احترام ما قصد به الحرم من البهائم رقّى الخطاب إلى من قصده من العقلاء، فإنه مماثل لما تقدمه في أن قصد البيت الحرام حامٍ له وزاجر عنه، مع ما زاد به من شرف العقل فقال: ﴿ولا آمين﴾ أي ولا تحلوا التعرض لناس قاصدين ﴿البيت الحرام﴾ لأن من قصد بيت الملك كان محترماً باحترام ما قصده.
8
ولما كان المراد القصد بالزيارة بقوله: ﴿يبتغون﴾ أي حال كونهم يطلبون على سبيل الاجتهاد ﴿فضلاً من ربهم﴾ أي المحسن إليهم شكراً لإحسانه، بأن يثيبهم على ذلك، لأن ثوابه لا يكون على وجه الاستحقاق الحقيقي أصلاً؛ ولما كان الثواب قد يكون مع السخط قال: ﴿ورضواناً﴾ وهذا ظاهر في المسلم، ويجوز أن يراد به أيضاً الكافر، لأن قصده البيت الحرام على هذا الوجه يرق قلبه فيهيئه للإسلام، وعلى هذا فهي منسوخة.
ولما كان التقدير: فإن لم يكونوا كذلك. أي في أصل القصد ولا في وصفه - فهم حل لكم وإن لم تكونوا أنتم حرماً، والصيد حلال لكم، عطف عليه التصريح بما أفهمه التقييد فيما سبق بالإحرام فقال: ﴿وإذا حللتم﴾ أي من الإحرام بقضاء المناسك والإحصار ﴿فاصطادوا﴾ وترك الشهر الحرام إذ كان الحرام فيه حراماً في غيره، وإنما صرح به تنويهاً بقدره وتعظيماً لحرمته، ثم أكد تحريم قاصد المسجد الحرام وإن كان كافراً، وإن كان على سبيل المجازاة بقوله: ﴿ولا يجرمنكم﴾ أي يحملنكم ﴿شنئان قوم﴾ أي شدة بغضهم.
ولما ذكر البغض أتبعه سببه فقال: ﴿إن﴾ على سبيل الاشتراط الذي يفهم تعبير الحكم به أنه سيقع، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو،
9
والتقدير في قراءة الباقين بالفتح: لأجل أن ﴿صدوكم﴾ أي في عام الحديبية أو غيره ﴿عن المسجد الحرام﴾ أي على ﴿أن تعتدوا﴾ أي يشتد عدوكم عليهم بأن تصدوهم عنه أو بغير ذلك، فإن المسلم من لم يزده تعدي عدوه فيه حدود الشرع إلا وقوفاً عند حدوده، وهذا قبل نزول
﴿إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام﴾ [التوبة: ٢٨] سنة تسع.
ولما نهاهم عن ذلك، وكان الانتهاء عن الحظوظ شديداً على النفوس، وكان لذلك لا بد في الغالب من منتهٍ وآبٍ، أمر بالتعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: ﴿وتعاونوا على البر﴾ وهو ما اتسع وطاب من حلال الخير ﴿والتقوى﴾ وهي كل ما يحمل على الخوف من الله، فإنه الحامل على البر، فإن كان منكم من اعتدى فتعاونوا على رده، وإلا فازدادوا بالمعاونة خيراً.
ولما كان المعين على الخير قد يعين على الشر قال تنبيهاً على الملازمة في المعاونة على الخير، ناهياً أن يغضب الإنسان لغضب أحد من صديق أو قريب إلا إذا كان الغضب له داعياً إلى بر وتقوى: ﴿ولا تعانوا على الإثم﴾ أي الذنب الذي يستلزم الضيق ﴿والعدوان﴾ أي المبالغة في مجاوزة الحدود والانتقام والتشفي وغير ذلك وكرر الأمر بالتقوى إشارة إلى أنها الحاملة على كل خير فقال: ﴿واتقوا﴾ أي الذي له صفات الكمال لذاته فلا تتعدوا شيئاً من حدوده؛ ولما كان
10
كف النفس عن الانتقام وزجرها عن شفاء داء الغيظ وتبريد غلة الاحن في غاية العسر، ختم الآية بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿شديد العقاب﴾.
11
ولما أتم الكلام على احترام أعظم المكان وأكرم الزمان وما لابسهما، فهذب النفوس بالنهي عن حظوظها، وأمر بعد تخليتها عن كل شر بتحليتها بكل خير عدّد على سبيل الاستئناف ما وعد بتلاوته عليهم مما حرم مطلقاً إلا في حال الضرورة فقا: ﴿حرمت﴾ بانياً الفعل للمفعول لأن الخطاب لمن يعلم أنه لا محرم إلا الله، وإشعاراًَ بأن هذه الأشياء لشدة قذارتها كأنها محرمة بنفسها ﴿عليكم الميتة﴾ وهي ما فقد الروح بغير ذكاة شرعية، فإن دم كل ما مات حتف أنفه يحبس في عروقه ويتعفن ويفسد، فيضر أكله البدن بهذا الضرر الظاهر، والدين بما يعلمه أهل البصائر ﴿والدم﴾ أي المسفوح، وهو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق ﴿ولحم الخنزير﴾ خصة بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارة أكله كالدين ﴿وما أهل﴾ ولما كان القصد في هذه السورة إلى حفظ محكم العهود المذكر بجلاله الباهر، قدم المفعول له فقال: ﴿لغير الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿به﴾ أي ذبح على اسم غيره من صنم أو غيره على وجه التقرب عبادة لذلك الشيء، والإهلاك: رفع الصوت.
ولما كان من الميتات ما لا تعافه النفوس عيافتها لغيره، نص عليه
11
فقال: ﴿والمنخنقة﴾ أي بحبل ونحوه، سواء خنقها أو لا ﴿والموقوذة﴾ أي المضروبة بمثقل، من: وقذه - إذا ضربه ﴿والمتردية﴾ أي الساقطة من عال، المضطربة غالباً في سقوطها ﴿والنطيحة﴾ أي التي نطحها فماتت ﴿وما أكل السبع﴾ أي كالذئب والنسر ونحوهما.
ولما كان كل واحدة من هذه قد تدرك حية فتذكى، استثنى فقال: ﴿إلا ما ذكيتم﴾ أي من ذلك كله بأن أدركتموه وفيه حياة مستقرة، بأن اشتد اضطرابه وانفجر منه الدم؛ ولما حرم الميتات وعد في جملتها ما ذكر عليه اسم غير الله عبادة، ذكر ما ذبح على الحجارة التي كانوا ينصبونها للذبح عندها تديناً وإن لم يذكر اسم شيء عليها فقال: ﴿ما ذبح على النصب﴾ وهو واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة تنصب، فيهل عليها ويذبح عندها تقرباً إليها وتعظيماً لها ﴿وأن تستقسموا﴾ أي تطلبوا على ما قسم لكم ﴿بالأزلام﴾ أي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها بوزن قلم وعمر وكانت ثلاثة، على واحد: أمرني ربي، وعلى آخر: نهاني ربي، والآخر غفل، فإن خرج الآمر فعل، أو الناهي ترك، أو الغفل أجيلت ثانية، فهو دخول في علم الغيب وافتراء على الله بادعاء أمره ونهيه، وإن أراد المنسوب إلى الصنم فهو الكفر الصريح وقال
12
صاحب كتاب الزينة: يقال: إنه كانت عندهم سبعة قداح مستوية من شوحط، وكانت بيد السادن، مكتوب عليها «نعم» «لا» «منكم» «من غيركم» «ملصق» «العقل» «فضل العقل» فكانوا إذا اختلفوا في نسب الرجل جاؤوا إلى السادن بمائة درهم، ثم قالوا للصنم: يا إلهنا! قد تمارينا في نسب فلان، فأخرج علينا الحق فيه، فتجال القداح فإن خرج القدح الذي عليه «منكم» كان أوسطهم نسباً، وإن خرج الذي عليه «من غيركم» كان حليفاً وإن خرج «ملصق» كان على منزلته لا نسب له ولا حلف، وإذا أرادوا سفراً أو حاجة جاؤوا بمائة فقالوا: يا إلهنا! أردنا كذا، فإن خرج «نعم» فعلوا، وإن خرج «لا» لم يفعلوا، وإن جنى أحدهم جناية، فاختلفوا فيمن يحمل العقل جاؤوا بمائة فقالوا: يا إلهنا! فلان جنى عليه، أخرج الحق، فإن خرج القدح الذي عليه «العقل» لزم من ضرب عليه وبرىء الآخرون، وإن خرج غيره كان على الآخرين العقل، وكانوا إذا عقلوا العقل ففضل الشيء منه تداروا فيمن يحمله، فضربوا عليه؛ فإن خرج القدح الذي عليه «فضل العقل» للذي ضرب عليه لزمه، وإلا كان على الآخرين الذين لم يضرب عليهم فهذا الاستقسام الذي حرمه الله لأنه يكون عند الأصنام ويطلبون
13
ذلك منها، ويظنون أن الذي أخرج لهم ذلك هو الصنم، وأما إجالة السهام لا على هذا الوجه فهو جائز، هو وتساهم واقتراع لا استقسام وقال أبو عبيدة: واحد الأزلام زلم - بفتح الزاء، وقال بعضهم بالضم وهو القدح لا ريش له ولا نصل، فإذا كان مريَّشاً فهو السهم - والله أعلم؛ ويجوز أن يراد مع هذا ما كانوا يفعلونه في الميسر - على ما مضى في البقرة، فإنه طلب معرفة ما قسم من الجزور، ويلتحق بالأول كل كهانة وتنجيم، وكل طيرة يتطيرها الناس الآن من التشاؤم ببعض الأيام وبعض الأماكن والأحوال، فإياك أن تعرج على شيء من الطيرة، فتكون على شعبة جاهلية، ثم إياك!.
ولما كانت هذه الأشياء شديدة الخبث أشار إلى تعظيم النهي عنها بأداة البعد وميم الجمع فقال: ﴿ذلكم﴾ أي الذي ذكرت لكم تحريمه ﴿فسق﴾ أي فعله خروج من الدين.
ولما كانت هذه المنهيات معظم دين أهل الجاهلية، وكان سبحانه قد نهاهم قبلها عن إحلال شعائر الله والشهر الحرام وقاصدي المسجد الحرام بعد أن كان أباح لهم ذلك في بعض الأحوال والأوقات بقوله ﴿وأخرجوهم من حيث أخرجوكم - ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه﴾ [البقرة: ١٩١] ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام﴾ [البقرة: ١٩٤] {واقتلوهم حيث
14
ثقفتموهم} [البقرة: ١٩١] علم أن الأمر بالكف عن انتهاز الفرص إنما هو للأمن من الفوت، وذلك لا يكون إلا من تمام القدرة، وهو لا يكون إلا بعد كمال الدين وإظهاره على كل دين - كما حصل به الوعد الصادق، وكذا الانتهاء عن جميع هذه المحارم إنما يكون لمن رسخ في الدين قدمه، وتمكنت فيه عزائمه وهممه، فلا التفات له إلى غيره ولا همه إلى سواه، ولا مطمع لمخالفه فيه، فعقب سبحانه النهي عن هذه المناهي كلها بقوله على سبيل النتيجة والتعليل: ﴿اليوم﴾ أي وقت نزول هذه الآية ﴿يئس الذين كفروا﴾ أي لابسوا الكفر سواء كانوا راسخين فهي أو لا ﴿من دينكم﴾ أي لم يبق لكم ولا لأحد منكم عذر في شيء من إظهار الموافقة لهم أو التستر من أحد منهم، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كاتبهم ليحمي بذلك ذوي رحمه، لأن الله تعالى قد كثركم بعد القلة، وأعزكم بعد الذلة، وأحيى بكم منار الشرع، وطمس معالم شرع الجهل، وهدّ منار الضلال، فأنا أخبركم - وأنتم عالمون بسعة علمي - أن الكفار قد اضمحلت قواهم، وماتت هممهم، وذلت نخوتهم، وضعفت عزائمهم، فانقطع رجاؤهم عن أن يغلبوكم أو يستميلوكم إلى دينهم بنوع استمالة، فإنهم رأوا دينكم قد قامت منائره، وعلت في المجامع منابره، وضرب محرابه، وبرّك بقواعده وأركانه، ولهذا سبب
15
عما مضى قوله: ﴿فلا تخشوهم﴾ أي أصلاً ﴿واخشون﴾ أي وامحضوا الخشية لي وحدي، فإن دينكم قد أكمل بدره، وجل عن المحلق محله وقدره، ورضي به الآمر، ومكنه على رغم أنف الأعداء.
وهو قادر على ذلك، وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ أي الذي أرسلت إليكم به أكمل خلقي لتدينوا به وتدانوا، وإكماله بإنزال كل ما يحتاج إليه من أصل وفرع، نصاً على البعض، وبياناً لطريق القياس في الباقي، وذلك بيان لجميع الأحكام، وأما قبل ذلك اليوم فهو وإن كان كاملاً لكنه بغير هذا المعنى، بل إلى حين ثم يزيد فيه سبحانه ما يشاء، فيكون به كاملاً أيضاً وأكمل مما مضى، وهكذا إلى هذه النهاية، وكان هذا هو المراد من قوله: ﴿وأتممت عليكم نعمتي﴾ أي التي قسمتها في القدم من هذا الدين على لسان هذا الرسول، بأن جمعت عليه كلمة العرب الذين قضيت في القدم بإظهارهم على من ناواهم من جميع أهل الملل، ليظهر بهم الدين، وتنكسر شوكة المفسدين من غير حاجة في ذلك إلى غيرهم وإن كانوا بالنسبة إلى المخالفين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ﴿ورضيت لكم الإسلام﴾ أي الذي هو الشهادة لله بما شهد به لنفسه من الوحدانية التي لمن يتبع الإذعان لها الإذعان لكل طاعة ﴿ديناً﴾ تتجازون به فيما بينكم ويجازيكم به ربكم؛
16
روى البخاري في المغازي وغيره، ومسلم في آخر الكتاب، والترمذي في التفسير، والنسائي في الحج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ فقال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة» وفي التفسير من البخاري عن طارق بن شهاب «قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أنزلت» وقال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذلك اليوم خمسة أعياد: جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده، قلت: ويوم الجمعة هو اليوم الذي أتم الله فيه خلق هذه الموجودات بخلق آدم عليه السلام بعد عصره، وهو حين نزول هذه الآية إن شاء الله تعالى، فكانت تلك الساعة من ذلك اليوم تماماً ابتداء، وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: «لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فإذا كمل
17
فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، قال: صدقت!» فكانت هذه الآية نعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً وقد روي أنه كان هجيري النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عرفة من العصر إلى الغروب شهد الله أنه لا إله إلا هو - الآية، وكأن ذلك كان جواباً منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذه الآية، لفهمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن إنزال آية سر الإسلام وأعظمه وأكمله، وهذه الآية من المعجزات، لأنها إخبار بمغيب صدقها فيه الواقع.
ولما تمت هذه الجمل الاعتراضية التي صار ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها بأحكام الرصف واتقان الربط من الامتزاج أشد مما بين الروح والجسد، المشيرة إلى أن هذه المحرمات هي التي تحقق بها أهل الكفر كمال المخالفة، فأيسوا معها من المواصلة والمؤالفة؛ رجع إلى تتمات لتلك المحظورات، فقال مسبباً عن الرضى بالإسلام الذي هو الحنيفة السمحة المحرمة لهذه الخبائث لإضرارها بالبدن والدين: ﴿فمن اضطر﴾ أي ألجىء إلجاء عظيماً - من أي شيء كان - إلى تناول شيء مما مضى أنه حرم، بحيث لا يمكنه معه الكف عنه ﴿في مخمصة﴾ أي مجاعة عظيمة ﴿غير متجانف﴾ أي متعمد ميلاً ﴿لإثم﴾ أي بالأكل على غير سد الرمق، أو بالبغي على مضطر آخر بنوع مكر أو العدو عليه
18
بضرب قهر، وزاد بعد هذا التقييد تخويفاً بقوله: ﴿فإن الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿غفور رحيم *﴾ أي يمحو عنه إثم ارتكابه للمنهي ولا يعاقبه عليه ولا يعاتبه ويكرمه، بأن يوسع عليه من فضله، ولا يضطره مرة أخرى - إلى غير ذلك من الإكرام وضروب الأنعام.
19
ولما تقدم إحلال الصيد وتحريم الميتة، وختم ذلك بهذه الرخصة، «وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر بقتل الكلاب» وكان الصيد ربما مات في يد الجارح قبل إدراك ذكاته، سأل بعضهم عما يحل من الكلاب، وبعضهم عما يحل من ميتة الصيد إحلالاً مطلقاً لا بقيد الرخصة، إذ كان الحال يقتضي هذا السؤال؛ روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن أبي رافع رضي الله عنه قال: «أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل الكلاب، فقال الناس: يا رسول الله! ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله تعالى: ﴿يسئلونك﴾ ».
ولما كان هذا إخباراً عن غائب قال: ﴿ماذا أحل لهم﴾ دون «لنا» قال الواحدي: أي من إمساك الكلاب وأكل الصيود وغيرها، أي من المطاعم، ثم قال الواحدي: رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه، وذكر المفسرون شرح هذه القصة، قال: قال أبو رافع رضي الله عنه: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأذن عليه، فأذن له فلم يدخلن فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قد أذنا
19
لك! قال: أجل يا رسول الله! ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب، فنظر فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلباً إلا قتلته، حتى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فلما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر الكلاب جاء أناس فقالوا: يا رسول الله! ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله هذه الآية فلما نزلت أذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه، وأمر بقتل الكلاب الكلب والعقور ما يضر ويؤذي، ورفع القتل عما سواها مما لا ضر فيه، وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين رضي الله عنهما، وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد الخير، وذلك أنهما جاءا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: «يا رسول الله! إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله
20
الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت: ﴿يسئلونك﴾ الآية ﴿الطيبات﴾ يعني الذبائح، و ﴿الجوارح﴾ الكواسب من الكلاب وسباع الطير» انتهى.
فإذا أريد كون الكلام على وجه يعم قيل: ﴿قل﴾ لهم في جواب من سأل ﴿أحل﴾ وبناه للمفعول طبق سؤالهم ولأن المقصود لا كونه من معين ﴿لكم الطيبات﴾ أي الكاملة الطيب، فلا خبث فيها بنوع تحريم ولا تقذر، من ذوي الطباع السليمة مما لم يرد به نص ولا صح فيه قياس، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرمونه على أنفسهم من السائبة وما معها، وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم ﴿وما﴾ وهو على حذف مضاف للعلم به، فالمعنى: وصيد ما ﴿علمتم من الجوارح﴾ أي التي من شأنها أن تجرح، أو تكون سبباً للجرح وهو الذبح، أو من الجرح بمعنى الكسب ﴿ويعلم ما جرحتم بالنهار﴾ [الأنعام: ٦٠] وهو كواسب الصيد من السباع والطير، فأحل إمساكها للقنية وصيدها وشرط فيه التعليم، قال الشافعي: والكلب لا يصير معلماً إلا عند أمور: إذا أشلى استشلى، وإذا زجر انزجر وحبس ولم يأكل، وإذا دعي أجاب، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم، ولم يذكر حداً
21
لأن الاسم إذا لم يكن معلوماً من نص ولا إجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف، وبنى الحال من الكلاب وإن كان المراد العموم، لأن التأديب فيها أكثر فقال: ﴿مكلبين﴾ أي حال كونكم متكلفين تعليم هذه الكواسب ومبالغين في ذلك، قالوا: وفائدة هذه الحال أن يكون المعلم نحريراً في علمه موصوفاً به، وأكد ذلك بحال أخرى أو استئناف فقال: ﴿تعلمونهن﴾ وحوشاً كنَّ أو طيوراً ﴿مما علمكم الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال من علم التكليب، فأفاد ذلك أن على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذ من غير متقن قد ضيع أيامه، وعض عند لقاء النجارين إبهامه! ثم سبب عن ذلك قوله: ﴿فكلوا﴾.
ولما كان في الصيد من العظم وغيره ما لا يؤكل قال: ﴿مما أمسكن﴾ أي الجوارح مستقراً إمساكها ﴿عليكم﴾ أي على تعليمكم، لا على جبلتها وطبيتعها دون تعليمكم، وذلك هو الذي لم يأكلن منه وإن مات قبل إدراك ذكاته، وأما ما أمسك الجارح على أي مستقراً على جبلته وطبعه، ناظراً فيه إلى نفاسه نفسه فلا يحل ﴿واذكروا اسم الله﴾ أي الذي له كل شيء ولا كفوء له ﴿عليه﴾ أي على ما أمسكن عند إرسال الجارح أو عند الذبح إن أدركت ذكاته، لتخالفوا سنة الجاهلية
22
وتأخذوه من مالكه، وقد صارت نسبة هذه الجملة. كما ترى. إلى ﴿حرمت عليكم الميتة﴾ [المائدة: ٣] نسبة المستثنى إلى المستثنى منه، وإلى مفهوم غير محلي الصيد وانتم حرم نسبة الشرح.
ولما كان تعليم الجوارح أمراً خارجاً عن العادة في نفسه وإن كان قد كثر، حتى صار مألوفاً، وكان الصيد بها أمراً تُعجب شرعته وتهز النفوس كيفيتُه، ختم الآية بما هو خارج عن عادة البشر وطرقها من سرعة الحساب ولطف العلم بمقدار الاستحقاق من الثواب والعقاب، فقال محذراً من إهمال شيء مما رسمه: ﴿واتقوا﴾ أي حاسبوا أنفسكم واتقوا ﴿الله﴾ أي عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء فيما أدركتم ذكاته وما لم تدركوها، وما أمسكه الجارح عليكم وما أمسكه على نفسه - إلى غير ذلك من أمور الصيد التي لا يقف عندها إلا من غلبت عليه مهابة الله واستشعر خوفه، فاتقاه فيما أحل وما حرم، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الجامع لمجامع العظمة ﴿سريع الحساب *﴾ أي عالم بكل شيء وقادر عليه في كل وقت، فهو قادر على كل جزاء يريده، لا يشغله أحد عن أحد ولا شأن عن شأن.
23
ولما كان قد تقدم النهي عن نكاح المشركات، والمنافرة لجميع أصناف الكفار، وبيان بغضهم وعداوتهم، والحث على طردهم ومنابذتهم ﴿هآ أنتم أولاء تحبونهم﴾ [آل عمران: ١١٩] ونحوها لضعف الأمر إذ ذاك وشدة الحاجة إلى
23
إظهار الفظاظة والغلظة لهم لتعظيم دين الله، حتى كانت خلطتهم من أمارات النفاق. كما سيأتي في كثير من آيات هذه السورة، وكان الدين وصل عند نزولها من العظمة إلى حد لا يحتاج في إلى تعظيم معظم، وكانت مخالطة أهل الكتاب لا بد منها عند فتوح البلاد التي وعد الصادق بهان وسبق في الأزل علمها، فكانت الفتنة في مخالطتهم قد صارت في حد الأمن وسّع الأمر بحل طعامهم ونسائهم، فقال تعالى مكرراً ذكر الوقت الذي أنزل فيه هذه الآيات، تنبيهاً على عظم النعمة فيه بتذكر ما هم فيه من الكثرة والأمن والجمع والألفة، وتذكر ما كانوا فيه قبل ذلك من القلة والخوف والفرقة، فقال معيداً لصدر الآية التي قبلها إعلاماً بعظم النعمة فيه، ومفيداً بذكر وقت الإحلال أنه إحلال مقصود به الثبات، لكونه يوم إتمام النعمة فهو غير الأول: ﴿اليوم﴾.
ولما كان القصد إنما هو الحل، لا كونه من محل معين، مع أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون أنه لا محل إلا الله، بني الفعل للمجهول فقال: ﴿أحل﴾ أي ثبت الإحلال فلا ينسخ أبداً ﴿لكم﴾ أي أيها المؤمنون ﴿الطيبات﴾ أي التي تقدم في البقرة وصفها بالحل لزوال الإثم وملاءمة الطبع، فهي الكاملة في الطيب.
24
ولما كانت الطيبات أعم من المآكل قال: ﴿وطعام الذين﴾ ولما كان سبب الحل الكتاب، ولم يتعلق بذكر مؤتيه غرض، بني الفعل للمجهول فقال: ﴿أوتوا الكتاب﴾ أي مما يصنعونه أو يذبحونه، وعبر بالطعام الشامل لما ذبح وغيره وإن كان المقصود المذبوح، لا غيره، ولا يتخلف حاله من كتابي ولا غيره تصريحاً بالمقصود ﴿حل لكم﴾ أي تناوله لحاجتكم، أي مخالطتهم للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية، ولما كان هذا مشعراً بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم زاده تأكيداً بقوله: ﴿وطعامكم حل لهم﴾ أي فلا عليكم في بذله لهم ولا عليهم في تناوله.
ولما كانت الطيبات أعم من المطاعم وغيرها، وكانت الحاجة إلى المناكح بعد الحاجة إلى المطاعم، وكانت المطاعم حلالاً من الجانبين والمناكح من جانب واحد قال: ﴿والمحصنات﴾ أي الحرائر ﴿من المؤمنات﴾ ثم أكد الإشارة إلى إقرار أهل الكتاب فقال: ﴿والمحصنات﴾ أي الحرائر ﴿من الذين أوتوا الكتاب﴾ وبني الفعل للمفعول للعلم بمؤتيه مع أنه لم يتعلق بالتصريح به غرض.
ولما كان إيتاؤهم الكتاب لم يستغرق الزمن الماضي، أثبت الجار فقال: ﴿من قبلكم﴾ أي وهم اليهود والنصارى، وعبر عن العقد بالصداق
25
للملابسة فقال مخرجاً للأمة لأنها لا تعطى الأجر وهو الصداق، لأنها لا تملكه بل يعطاه سيدها: ﴿إذا آتيتموهن أجورهن﴾ أي عقدتم لهن، ودل مساق الشرط على تأكد وجوب الصداق، وأن من تزوج وعزم على عدم الإعطاء، كان في صورة الزاني، وورد فيه حديث، وتسميته بالأجر تدل على أنه لا حد لأقله.
ولما كان المراد بالأجر المهر، وكان في اللغة يطلق على ما يعطاه الزانية أيضاً، بينه بقوله: ﴿محصنين﴾ أي قاصدين الإعفاف والعفاف ﴿غير مسافحين﴾ أي قاصدين صب الماء لمجرد الشهوة جهاراً ﴿ولا متخذي أخذان﴾ أي صدائق لذلك في السر، جمع خدن، وهو يقع على الذكر والأنثى، فكانت هذه الآية مخصصة لقوله تعالى ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن﴾ [البقرة: ٢٢١] فبقي على التحريم مما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهن من جميع المشركات حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام، وصرح هنا بالمؤمنات المقتضي لهن قوله تعالى في النساء ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم﴾ [النساء: ٢٤] وقوله ﴿ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات﴾ [النساء: ٢٥] ولعل
26
ذكر وصف الإحصان الواقع على العفة للتنبيه على أنه لا يقصد المتصفة بغيره لمجرد الشهوة إلا من سلب الصفات البشرية، وأخلد إلى مجرد الحيوانية، فصار في عداد البهائم، بل أدنى، مع أن التعليق بذلك الوصف لا يفهم الحرمة عند فقده، بل الحل من باب الأولى، لأن من حكم مشروعية النكاح الإعفاف، فإذا شرع إعفاف العفائف كان شرع إعفاف غيرهن أولى، لأن زناها إما لشهوة أو حاجة، وكلاهما للنكاح مدخل عظيم في نفيه. والله أعلم.
ولما كان السر في النهي عن نكاح المشركات في الأصل ما يخشى من الفتنة، وكانت الفتنة - وإن علا الدين روسخ الإيمان واليقين. لم تنزل عن درجة الإمكان، وكانت الصلاة تسمى إيماناً لأنها من أعظم شرائعه ﴿وما كان الله ليضيع إيمانكم﴾ [البقرة: ١٤٣] أي صلاتكم، وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» وله في الأوسط أيضاً بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة ينظر في صلاته، فإن صلحت فقد أفلح، وإن فسدت فقد خاب وخسر «وكانت مخالطة الأزواج مظنة للتكاسل عنها، ولهذا أنزلت آية ﴿حافظوا على الصلوات﴾ [البقرة: ٢٣٨]
27
كما مضى بالمحل الذي هي به، لما كان ذلك كذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى منفرداً من نكاحهن بعد إحلاله، إشارة إلى أن الورع ابتعد عنه، امتثالاً للآيات الناهية عن موادة المحاد لئلا يحصل ميل فيدعو إلى المتابعة، أو يحصل ولد، فتستميله لدينها: ﴿ومن﴾ أي أحل لكم ذلك والحال أنه من ﴿يكفر﴾ أي يوجد ويجدد الكفر على وجه طمأنينة القلب به والاستمرار عليه إلى الموت ﴿بالإيمان﴾ أي بسبب التصديق القلبي بكل ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب، الذي منه حل الكتابيات، فيدعوه ذلك إلى نكاحهن، فتحمله الخلطة على اتباع دينهن، فيكفر بسبب ذلك التصديق فيكفر بالصلاة التي يلزم من الكفر بها الكفر به، فإطلاقه عليها تعظيم لها
﴿وما كان الله ليضيع إيمانكم﴾ [البقرة: ١٤٣] أي صلاتكم ﴿فقد حبط﴾ أي فسد ﴿عمله﴾ أي إذا اتصل ذلك بالموت بدليل قوله: ﴿وهو في الآخرة من الخاسرين *﴾ والآية من أدلة إمانا الشافعي على استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، فحيث قصد التحذير من الكفر حقيقة فالإيمان حقيقة وحيث أريد الترهيب من إضاعة الصلاة فهو مجاز، ومما يؤيد ذلك أن في السفر الثاني من التوراة: لا تعاهدن سكان الأرض لكيلا تضلوا
28
بأوثانهم، وتذبحوا لآلهتهم، أو يدعوك فتأكل من ذبائحهم، وتزوج بنيك من بناتهم وبناتك من بنيهم، فتضل بناتك خلف آلهتهم ويضل بنوك بآلهتهم، وقال في الخامس منها: وإذا أدخلكم الله ربنا الأرض التي تدخلونها لترثوها، وأهلك شعوباً كثيرة من بين أيديكم: حتانيين وجرجسانيين وأمورانيين وكنعانيين وفرزانيين وحاوانيين ويابسانيين. سبعة شعوب أكثر وأقوى منكم، ويدفعهم الله ربكم في أيديكم فاضربوهم واقتلوهم وانفوهم وحرموهم ولا تعاهدوهم عهداً ولا ترحموهم، وتحاشوهم ولا تزوجوا بناتكم من بنيهم، ولا تزوجوا بنيكم من بناتهم لئلا يغوين بنيكم عن عبادتي، ويخدعنهم فيعبدوا آلهة أخرى، ويشتد غضب الرب عليكم ويهلككم سريعاً، ولكن اصنعوا بهم هذا الصنيع: استأصلوا مذابحهم، وكسروا أنصابهم، وحطموا أصنامهم المصبوغة، وأحرقوا أوثانهم المنحوتة، لأنكم شعب طاهر لله ربكم - انتهى. وإذا تأملت جميع ذلك، وأمعنت فيه النظر لاح لك سرُّ تعقيبها بقوله تعالى في سياق مشير إلى البشارة بأن هذه الأمة تطيع ولا تعصى فتؤمن ولا تكفر، لما خص به كتابها من البيان الأتم في النظم المعجز
29
مع شرف التذكير بما أفاضه من شرف جليل الأيادي، فافتتح هذه السورة بالأمر بالوفاء بحق الربوبية، وأتبعه التذكير بما وفى به سبحانه من حق الربوبية من نوع المنافع في لذة المطعم وتوابعه ولذة المنكح وتوابعه، وقدم المطعم لأن الحاجة إليه فوق الحاجة إلى المنكح، فلما أتم ما ألزمه نفسه الأقدس من عهد الربوبية فضلاً منه، أتبعه الأمر بالوفاء بعهد العبودية، وقدم منه الصلاة لأنها أشرفه بعد الإيمان، وقدم الوضوء لأنه شرطها فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا به! صدقوه بأنكم ﴿إذا﴾ عبر بأداة التحقيق بشارة بأن الأمة مطيعة ﴿قمتم﴾ أي بالقوة، وهي العزم الثابت على القيام الذي هو سبب القيام ﴿إلى الصلاة﴾ أي جنسها محدثين، لما بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجمعه بعده صلوات بوضوء واحد وإن كان التجديد أكمل، وخصت الصلاة ومس المصحف من بين الأعمال بالأمر بالوضوء تشريفاً لهما ويزيد حمل الإيمان على الصلاة حسناً تقدم قوله تعالى
﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ [المائدة: ٣] الثابت أنها نزلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد عصر يوم عرفة والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناقته يخطب، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو في يوم النحر أو في كليهما: «ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة
30
والترمذي عن جابر رضي الله عنه، فقوله «المصلون» إشارة إلى أن الماحي للشرك هو الصلاة، فما دامت قائمة فهو زائل، ومتى زالت والعياذ بالله - رجع، وإلى ذلك يشير ما رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:» بين العبد والكفر ترك الصلاة «وللأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن بريدة رضي الله عنه» أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» ولأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقى الصلاة «. ولما كان الوضوء في سورة النساء إنما هو على سبيل الإشارة إجمالاً، صرح به هنا على سبيل الأمر وفصله، فقال مجيباً للشرط إعلاماً بأن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، لأن المعلق على الشيء بحرف الشرط يعدم عند عدم الشرط: ﴿فاغسلوا﴾ أي لأجل إرادة الصلاة، ومن هنا يعلم وجوب النية، لأن فعل العاقل لا يكون إلا مقصوداً، وفعل المأمور به لأجل الأمر هو النية ﴿وجوهكم﴾ وحدّ الوجه منابت شعر الرأس ومنتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً، وليس منه داخل العين وإن كان مأخوذاً من المواجهة، لأنه من الحرج،
31
وكذا إيصال الماء إلى البشرة إذا كثفت اللحية خفف للحرج واكتفى عنه بظاهر اللحية، وأما العنفقة ونحوها من الشعر الخفيف فيجب ﴿وأيديكم﴾.
ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب ورؤوس الأصابع، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم: ﴿إلى المرافق﴾ أي آخرها، أخذاً من بيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفعله، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه، وإنما كان الاعتماد على البيان لأن الغاية تارة تدل كقوله تعالى ﴿من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى﴾ [الإسراء: ١] وتارة لا تدخل كقوله تعالى ﴿ثم أتموا الصيام إلى اللّيل﴾
[البقرة: ١٨٧] والمرفق ملتقى العظمين، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً ﴿وامسحوا﴾ ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه، بل أتى بالباء فقال: ﴿برءوسكم﴾ علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف: المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح.
ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً، قرىء: ﴿وأرجلكم﴾ بالجر على المجاورة إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب،
32
قال في القاموس: المسح كالمنع: إمرار اليد على الشيء السائل. فيكون في ذلك إشارة أيضاً إلى استحباب الدلك، والقرينة الدالة على استعمال هذا المشترك في أحد المعنيين قراءة النصب وبيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومر استعماله فيه وفيه الإشارة إلى الرفق بالنصب على الأصل.
ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل - كما مضى في المرافق، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل: ﴿إلى الكعبين﴾ وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين، ولو قيل: إلى الكعاب، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل - كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب، لأن عادة العرب - كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب - أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب: ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة، فوجب تنزيه كلام الله
33
عنه أيضاً، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما، وللتذكير بالنعمة في التوسعة بالتيمم، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط في الأرض، لظهور الكفار وغلبتهم، كما كان المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظراً إلى الحاجة وفقدها، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة، فقال تعالى معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع وقد لا يقع وهو نادر على تقدير وقوعه، عاطفاً على ما تقديره: هذا إن كنتم محدثين حدثاً أصغر: ﴿وإن كنتم﴾ أي حال القصد للصلاة ﴿جنباً﴾ أي ممنين باحتلام أو غيره ﴿فاطهروا﴾ أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء.
ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء، وبدأ بالوضوء لعمومه، ذكر الطهارة رخصة بالتراب، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة: ﴿وإن كنتم مرضى﴾ أي
34
بجراح أو غيره، فلم تجدوا ماء حساً أو معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب ﴿أو على سفر﴾ طويل أو قصير كذلك، ولما ذكر الأكبر أتبعه الأصغر فقال ﴿أو جاء أحد منكم﴾ وهو غير جنب ﴿من الغائط﴾ أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي مكان التخلي، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لا بد له منها، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة له بشديد عجزه وعظيم ضرورته وفقره ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره. كما ورد أن بعض الأمراء لقي بعض البله في طريق فلم يفسح له، فغضب وقال: كأنك ما تعرفني؟ فقال بلى والله! إني لأعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة.
ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال: ﴿أو لامستم النساء﴾ أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا ﴿فلم تجدوا ماء﴾ أي حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره ﴿فتيمموا﴾ أي اقصدوا قصداً متعمداً ﴿صعيداً﴾ أي تراباً ﴿طيباً﴾ أي طهوراً خالصاً ﴿فامسحوا﴾.
35
ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة، وبينت السنة أن المراد جميع العضو، فقال: ﴿بوجوهكم وأيديكم منه﴾ أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفاً: ﴿ما يريد الله﴾ أي الغنى الغنى المطلق ﴿ليجعل عليكم﴾ وأغرق في النفي بقوله: ﴿من حرج﴾ أي ضيق علماً منه بضعفكم، فسهل عليكم ما كان عسره على من كان قبلكم، وإكراماً لكم لأجل نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم ﴿ولكن يريد ليطهركم﴾ أي ظاهراً وباطناً بالماء والتراب وامتثال الأمر على ما شرعه سبحانه، عقلتم معناه أو لا، مع تسهيل الأوامر والنواهي لكيلا يوقعكم التشديد في المعصية التي هي رجس الباطن ﴿وليتم نعمته﴾ أي في التخفيف في العزائم ثم في الرخص، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال ﴿عليكم﴾ لأجل تسهيلها، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعاً به، إلا لمن لج طبعه في العوج، وتمادى في الغواية والجهل والبطر ﴿لعلكم تشكرون *﴾ أي وفعل ذلك كله.
هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل
36
عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه في طاعته المسهلة له المحببة إليه، روى البخاري في التفسير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. وفي رواية: سقط قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزل، فثنى رأسه في حجري راقداً. فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ فجاء أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلادة، فبي الموت لمكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أوجعني، ثم إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة﴾ [المائدة: ٦]، وفي رواية: فأنزل الله آية التيمم ﴿فتيمموا﴾ فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة لهم، وفي رواية: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي
37
كنت عليه فإذا العقد تحته» وفي رواية له عنها في النكاح أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيراً! فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة «وهذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت قبل آية النساء، فكانت تلك نزلت بعد ذلك لتأكيد هذا الحكيم ومزيد الامتنان به، لما فيه من عظيم اليسر وليحصل في التيمم من الجناية نص خاص، فيكون ذلك أفخم لشأنها وأدل على الاهتمام به.
38
ولما كان في هذه المأمورات والمنهيات خروج عن المألوفات، وكانت الصلاة أوثق عرى الدين، وكان قد عبر عنها بالإيمان الذي هو أصل الدين وأساس الأعمال، عطف عليها قوله تذكيراً بما يوجب القبول والانقياد: ﴿واذكروا﴾ أي ذكر اتعاظ وتأمل واعتبار.
ولما كان المقصود من الإنعام غايته قال: ﴿نعمة الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿عليكم﴾ أي في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، وفي غير ذلك من جميع النعم، وإنما
38
لم تجمع لئلا يظن أن المقصود تعداد النعم، لا الندب إلى الشكر بتأمل أن هذا الجنس لا يقدر عليه غيره سبحانه وعظَّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يستحقه بجعل فعله سبحانه فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿وميثاقه﴾ أي عقده الوثيق ﴿الذي واثقكم به﴾ أي بواسطة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قلتم سمعنا وأطعنا﴾ وفي ذلك تحذير من مثل ما أراد بهم شاس بن قيس، وتذكير بما أوجب له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم من الشكر بهدايته لهم إلى الإسلام المثمر لالتزام تلك العهود ليلة العقبة الموجبه للوفاء الموعود عليه الجنة، والتفات إلى قوله أول السورة ﴿أوفوا بالعقود﴾ [المائدة: ١] وحديث إسباغ الوضوء على المكاره مبيّن لحسن هذه التناسب.
ولما كان أمر الوفاء بالعهد صعباً، لا يقوم به إلا من صدقت عريقته وصلحت سريرته، وإنما يحمل عليه مخافة الله قال: ﴿واتقوا الله﴾ أي اجعلوا بينكم وبين ما يغضب الملك الأعظم. الذي يفعل ما يشاء. من نقض العهد وقاية من حسن القيام، لتكونوا في أعلى درجات وعيه، ثم علل ذلك مرغباً مرهباً بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم ﴿بذات الصدور *﴾ أي أحوالها من سرائرها
39
وإن كان صاحبها لم يعلمها لكونها لم تبرز إلى الوجود، وعلانيتها وإن صاحبها قد نسيها.
ولما تقدم القيام إلى الصلاة، وتقدم ذكر الأزواج المأمور فيهن بالعدل في أول النساء وأثنائها، وكان في الأزواج المذكورات هنا الكافرات، ناسب تعقيب ذلك بعد الأمر بالتقوى بقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان ولما كان العدل في غاية الصعوبة على الإنسان، فكان لذلك يحتاج المتخلق به إلى تدريب كبير ليصير صفة راسخة، عبر بالكون فقال تعالى: ﴿كونوا قوّامين﴾ أي مجتهدين في القيام على النساء اللاتي أخذتموهن بعهد الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وعلى غيرهن في الصلاة وغيرها من جميع الطاعات التي عاهدتم على الوفاء بها.
ولما كان مبنى السورة على الوفاء بالعهد الوثيق، وكان الوفاء بذلك إنما يخف على النفوس، ويصح النشاط فيه، ويعظم العزم عليه بالتذكير بجلالة موثقة وعدم انتهاك حرمته، لأن المعاهد إنما يكون باسمه ولحفظ وحده ورسمه، قدم قوله: ﴿لله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء.
بخلاف ما مضى في النساء.
ولما كان من جملة المعاقد عليه ليلة العقبة «ليلة تواثقوا على الإسلام» أن يقولوا الحق حيث ما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم،
40
قال: ﴿شهداء﴾ أي متيقظين محضرين أفهامكم غاية الإحضار بحيث لا يسد عنها شيء مما تريدون الشهادة به ﴿بالقسط﴾ أي العدل، وقال الإمام أبو حيان في نهره: إن التي جاءت في سورة النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين، فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والاحن، فبدىء فيها بالقيام لله إذ كان الأمر بالقيام لله أولاً أردع للمؤمنين، ثم أردف بالشهادة بالعدل، فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيها بما هو آكد وهو القسط، والتي في معرض العدواة والشنآن، بدىء فيها بالقيام لله، فناسب كل معرض ما جيء به إليه، وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله ﴿ولن تستطيعوا أن تعدلوا﴾ [النساء: ١٢٩] وقوله ﴿فلا جناح عليهما أن يصلحا﴾ [النساء: ١٢٨] فناسب ذكر تقديم القسط، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط - انتهى.
ولما كان أمر بهذا الخبر، نهى مما يحجب عنه فقال: ﴿ولا يجرمنكم﴾
41
أي يحملنكم ﴿شنئان قوم﴾ أي شدة عداوة من لهم قوة على القيام في الأمور من المشركين، بحيث يخشى من إهمالهم ازدياد قوتهم ﴿على ألا تعدلوا﴾ أي أن تتركوا قصد العدل، وهو يمكن أن يدخل فيه بغض أهل الزوجة الكافرة أو ازدراؤها في شيء من حقوقها لأجل خسة دينها، فأمروا بالعدل حتى بين هذه المرأة الكافرة وضرّاتها المسلمات، وإذا كان هذا شأن الأمر به في الكافر فما الظن به في المسلم؟ ثم استأنف قوله آمراً بعد النهي تأكيداً لأمر العدل: ﴿اعدلوا﴾ أي تحروا العدل واقصدوه في كل شيء حتى في هذه الزوجات وفيمن يجاوز فيكم الحدود، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه فيهم، فإن الذي منعكم من التجاوز وفيمن يجاوز فيكم الحدود، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه فيهم، فإن الذي منعكم من التجاوز خوفه يريكم من النصرة وصلاح الحال ما يسركم.
ولما كان ترك قصد العدل قد يقع لصاحبه العدل اتفاقاً، فيكون قريباً من التقوى، قال مستأنفاً ومعللاً: ﴿هو﴾ أي قصد العدل ﴿أقرب﴾ أي من ترك قصده ﴿للتقوى﴾ والإحسان الذي يتضمنه الصلح أقرب من العدل إليها، وتعدية ﴿أقرب﴾ بالام دون إلى المقتضية لنوع بعد زيادة في الترغيب - كما مر في البقرة؛ ولما كان الشيء لا يكون إلا بمقدماته، وكان قد علم من هذا أن العدل مقدمة التقوى، قال عاطفاً
42
على النهي أو على نحو: فاعدلوا: ﴿واتقوا الله﴾ أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية بالإحسان فضلاً عن العدل، ويؤيد كون الآية ناظرة إلى النكاح مع ما ذكر ختام آية الشقاق التي في أول النساء بقوله
﴿إن الله كان عليماً خبيراً﴾ [النساء: ٣٥]، وختام قوله تعالى في أواخرها وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو اعراضاً بقوله ﴿فإن الله كان بما تعملون خبيراً﴾ وختام هذه بقوله معللاً لما قبله: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿خبير بما تعملون*﴾ لأن ما بين الزوجين ربما دق علمه عن إدراك غير العليم الخبير؛ وقالو أبو حيان: لما كان الشنآن محله القلب، وهو الحامل على ترك العدل، أمر بالتقوى وأتى بصفة ﴿خبير﴾ ومعناها عليم ولكنها مما تختص بما لطف إدراكه انتهى. ﴿وشهداء﴾ يمكن أن يكون من الشهادة التي هي حضور القلب - كما تقدم من قوله ﴿أو ألقى السمع وهو شهيد﴾ [ق: ٣٧] وأن يكون من الشهادة المتعارفة، ويوضح المناسبة فيها مع تأييد إرادتها كونها بعد قوله ﴿إن الله عليم بذات الصدور﴾ [آل عمران: ١١٩] ومع قوله تعالى: {ومن يكتمها
43
فإنه آثم قلبه} [البقرة: ٢٨٣] وختام آية النساء التي في الشهادة بقوله: ﴿وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً﴾ [النساء: ١٣٥] كما ختمت هذه بمثل ذلك.
44
ولما أمر سبحانه ونهى، بشر وحذر فقال: ﴿وعد الله﴾ أي الملك الذي له الكمال المطلق فله كل شيء ﴿الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان بألسنتهم ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لهذا الإقرار ﴿الصالحات﴾ وترك المفعول الثاني أقعد في باب البشارة، فإنه يحتمل كل خير، وتذهب النفس في تحريزه كل مذهب.
ولما كان الموعود شيئين: فضلاً وإسقاط حق قدم الإسقاط تأميناً للخوف فقال واضعاً له موضع الموعود في صيغة دالة على الثبات والاختصاص: ﴿لهم مغفرة﴾ أي لما فرط منهم لما طبع الإنسان عليه من النقص نسياناً أو عمداً، بعمل الواجبات إن كان صغيرة، وبالتوبة إن كان كبيرة، وفيه إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره؛ ولما أمنهم بالتجاوز أتبعه الجود بالعطاء فقال ﴿وأجر﴾ أي على قدر درجاتهم من حسن العمل ﴿عظيم *﴾ أي لا يدخل تفاوت درجاته تحت الحصر.
ولما قدم الوعد لأنه في سورة الذين آمنوا أتبعه الوعيد لأضدادهم، وهو أعظم وعد لأحبابه المؤمنين أيضاً فقال: ﴿والذين كفروا﴾ أي غطوا ما اتضح لعقولهم من أدلة الوحدانية ﴿وكذبوا﴾ أي زيادة
44
على الستر بالعناد: ﴿بآياتنا﴾ على ما لها من العظمة في أنفسها وبإضافتها إلينا ﴿أولئك﴾ أي البغضاء البعداء من الرحمة خاصة ﴿أصحاب الجحيم *﴾ أي النار التي اشتد توقدها فاشتد احمرارها، فلا يراها شيء إلا أحجم عنها، فهم يلقون فيها بما أقدموا على ما هو أهل للإجحام عنه من التكذيب بما لا ينبغي لأحد التكذيب به، ثم يلازمونها فلا ينفكون عنها كما هو شأن الصاحب.
ولما كان من الأجر ما يحصل من أسباب السعادة في الدنيا، قال تعالى ذاكراً لهم بعض ذلك مذكراً ببعض ما خاطبهم به ليقدموا على مباينة الكفرة ويقفوا عند حدوده كائنة ما كانت: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي صدقوا بالله ورسوله وكتابه ﴿اذكروا نعمت الله﴾ أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿عليكم﴾ عظمها بإبهامها، ثم زادها تعظيماً بالتذكير بوقتها فقال: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿همّ قوم﴾ أي لهم قوة ومنعه وقدرة على ما يقومون فيه ﴿أن يبسطوا إليكم أيديهم﴾ أي بالقتال والقتل، وهو شامل - مع ذكر من أسباب نزوله - لما اتفق صبيحة ليلة العقبة من أن قريشاً تنطست الحبر عن البيعة، فلما صح عندهم طلبوا أهل البيعة ففاتوهم إلا أنهم أدركوا سعد بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة، وكلاهما كان نقيباً، فأما المنذر فأعجزهم، وأما سعد فأخذوه فربطوه وأقبلوا يضربونه، حتى خلصه الله منهم بجبير بن مطعم
45
والحارث بن حرب بن أمية بما كان بينه وبينهما من الجوار، فكان في سوق الآية بعد آية الميثاق الذي أعظمه ما كان ليلة العقبة أعظم مذكر بذلك ﴿فكف أيديهم عنكم﴾ أي مع قلتكم وكثرتهم وضعفكم وقوتهم، ولم يكن لكم ناصر إلا الذي آمنتم به تلك الليلة وتوكلتم عليه وبايعتم رسوله، فكف ببعض الأعداء عنكم أيدي بعض، ولو شاء لسلطهم عليكم كما سلط ابن آدم على أخيه؛ وينبغي أن يعلم أن القصة التي عُزِيت في بعض التفاسير هنا إلى بني قريظة في الاستعانة في دية القتيلين إنما هي لبني النضير، وهي كانت سبب إجلائهم.
ولما أمرهم بذكر النعمة، عطف على ذلك الأمر الأمر بالخوف من المنعم أن يبدل نعمته بنقمة فقال: ﴿واتقوا الله﴾ أي الملك الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له، حذراً من أن يسلط عليكم أعداءكم ومن غير ذلك من سطواته.
ولما كان التقدير: على الله وحده في كل حالة فتوكلوا، فإنه جدير بنصر من انقطع إليه ولم يعتمد إلا عليه، عطف على ذلك قوله تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: ﴿وعلى الله﴾ أي وحده لكونه لا مثل له ﴿فليتوكل المؤمنون *﴾ أي في كل وقت فإنه يمنعهم إذا شاء كهذا المنع وإن اشتد الخطب وتعاظم الأمر، فتوكلوا ولا تنكلوا عن أعدائكم الذين وعدكم الله أرضهم وديارهم وأبناءهم وتهابوا جموعهم كما هاب
46
بنو إسرائيل - كما سيقص عليكم، وقوله هنا ﴿المؤمنون﴾ وفي قصة بني إسرائيل ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ شديد التآخي، معلم بمقامي الفريقين، وحينئذ حسن كل الحسن تعقيبها مع ما تقدم من أمر العقبة وأمر بني النضير في نقضهم عهدهم وغدرهم، بما هموا به من قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلقاء الرحى عليه من سطح البيت الذي أجلسوه إلى جانبه، بقوله إشارة إلى أن اليهود ما زالوا على النقض قديماً، تحذيراً للمؤمنين من أن يكونوا مثلهم في النقض لئلا يحل بهم ما حل بهم من الصغار، وإعلاماً بأن عادته سبحانه في الإلزام بالتكاليف قديمة غير مخصوصة بهم، بل هي عامة لعباده وقد كلف أهل الكتاب، تشريفاً لهم بمثل ما كلفهم به، ورغبهم ورهبهم ليسابقوهم في الطاعة، فإن الأمر إذا عم هان، والإنسان إذا سابق اجتهد في أخذ الرهان، وأكد الخبر بذلك لئلا يظن لشدة انهماكهم في النفس أنه لم يسبق لهم عهد قبل ذلك فقال تعالى: ﴿ولقد أخذ الله﴾ أي بما له من جميع الجلال والعظمة والكمال ﴿ميثاق بني إسرائيل﴾ أي العهد الموثق بما أخذ عليكم من السمع والطاعة ﴿وبعثنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿منهم اثني عشر نقيباً﴾ أي شاهداً، على كل سبط نقيب يكفلهم بالوفاء بما عليهم من الوفاء به - كما بعثنا منكم ليلة العقبة اثني عشر نقيباً وأخذنا منكم الميثاق على
47
ما أحاله الإسلام - كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه في تخلفه عن تبوك: «ولقد شهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام» وأما تفصيله فمذكور في السير، والنقيب: الذي ينقب عن أحوال القوم كما قيل: عريف، لأنه يتعرفها، ومن ذلك المناقب وهي الفضائل، لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها ﴿وقال الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لبني إسرائيل، وأكد لتكرر جزعهم وتقلبهم فقال: ﴿إني معكم﴾ وهو كناية عن الكفاية لأن القادر إذا كان مع أحد كان كذلك إذا لم يغضبه.
ولما أنهى الترغيب بالمعية استأنف بيان شرط ذلك بقوله مؤكداً لمثل ما مضى: ﴿لئن اقمتم﴾ أي أنشأتم ﴿الصلاة﴾ أي التي هي صلة ما بين العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها؛ ولما كان المقصود من الإنفاق المؤاساة بالإيتاء قال: ﴿وآتيتم الزكاة﴾ أي التي هي بين الحق والخلائق.
ولما كان الخطاب مع من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام، وكانوا في كل قليل يتردعون عن اتباعه أو كمال اتباعه، وكان سبحانه عالماً بأن ميلهم بعده يكون أكثر، فرتب في الأزل أنه تواتر إليهم بعده الرسل يحفظونهم عن الزيغ ويقومون منهم الميل قال: ﴿وآمنتم برسلي﴾ أي
48
أدمتم الإيمان بموسى عليه السلام، وجددتم الإيمان بمن يأتي بعده، فصدقتموهم في جميع ما يأمرونكم به ﴿وعزرتموهم﴾ أي ذببتم عنهم ونصرتموهم ومنعتموهم أشد المنع، والتعزير والتأزير من باب واحد.
ولما كان من أعظم المصدق للإيمان ونصر الرسل بذل المال فهو البرهان قال: ﴿وأقرضتم الله﴾ أي الجامع لكل وصف جميل ﴿قرضاً حسناً﴾ أي بالإنفاق في جميع سبل الخير، وأعظمها الجهاد والإعانة فيه للضعفاء.
ولما كان الإنسان محل النقصان، فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صالح العمل، قال سادّاً. بجواب القسم الذي وطّأت له اللام الداخلة على الشرط - مسدّ جواب الشرط: ﴿لأكفرن﴾ أي لأسترن ﴿عنكم سيئاتكم﴾ أي فعلكم لما من شأنه أن يسوء ﴿ولأدخلنكم﴾ أي فضلاً مني ﴿جنات تجري﴾ ولما كان الماء لا يحسن إلا بقربه وانكشافه عن بعض الأرض قال: ﴿من تحتها الأنهار﴾ أي من شدة الريّ ﴿فمن كفر﴾ ولما كان الله سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولاً. وكان المهلك من المعاصي بعد الإرسال ما اتصل بالموت فأحبط ما قبله، نزع الجار فقال: ﴿بعد ذلك﴾ أي الشرط المؤكد بالأمر العظيم الشأن ﴿منكم﴾ أي بعد ما رأى من الآيات واقرّ به من المواثيق ﴿فقد ضل﴾ أي ترك وضيّع، يُستعمل قاصراً بمعنى: حار، ومتعدياً كما هنا ﴿سواء﴾ أي وسط وعدل ﴿السبيل *﴾
49
أي لأن ذلك كفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره، وفي هذا تحذير شديد لهذه الأمة، لأن المعنى: فإن نقضتم الميثاق - كما نقضوا - بمثل استدراج شاس بن قيس وغيره، صنعنا بكم ما صنعنا بهم حين نقضوا، من إلزامهم الذلة والمسكنة وغير ذلك من آثار الغضب، وإن وفيتم بالعقود آتيناكم أعظم مما آتيناهم من فتح البلاد والظهور على سائر العباد؛ قال ابن الزبير: ولهذا الغرض والله أعلم - أي غرض التحذير من نقض العهد - ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله تعالى
﴿أوفوا بعهدي﴾ [البقرة: ٤٠] فقال تعالى: ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل﴾ إلى قوله ﴿فقد ضل سواء السبيل﴾ [المائدة: ١٢] ثم بين نقضهم وبنى اللعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه فقال ﴿فبما نقضهم ميثاقهم﴾ [النساء: ٥٥ والمائدة: ١٣] وذكر تعالى عهد الآخرين فقال ﴿ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم﴾ [المائدة: ١٤] ثم فصل تعالى للمؤمنين أفعال الفريقين ليتبين لهم ما نقضوا فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، وكفهم عن فتح الأرض المقدسة، وإسرافهم في القتل وغيره، وتغييرهم أحكام التوراة - إلى غير ذلك مما ذكره في هذه السورة، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى: ﴿لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا﴾ [المائدة: ٨٢] انتهى. وينبغي ذكر النقباء من هذه الفرق الثلاث بأسمائهم وما دعي إلى ذلك تحقيقاً
50
للأمر وزيادة تبصرة، أما اليهود فكان فيهم ذلك مرتين: الأولى: قال في السفر الرابع من التوراة: إن الرب تبارك اسمه كلم موسى النبي في جبل سينا وفي قبة الأمد في أول يوم من الشهر الثاني في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر وقال الله: احص عدد جماعة بني إسرائيل كلها في قبائلهم. كل ذكر من أبناء عشرين سنة إلى فوق، كل من يخرج في الحرب، وأحصهم أنت وأخوك هارون، وليكن معكما من كل سبط رجل ويكون الرجل رئيساً في بيته، ثم بين بعد ذلك أن كل رجل منهم يكون قائد جماعته، ينزلون بنزوله حول قبة الزمان ويرحلون برحيله، ويطيعونه فيما يأمر به، ففعل موسى وهارون ما أمرهما الله به وانتدبوا اثني عشررجلاً كما أمر الله، فمن سبط روبيل: إليصور بن شداور، ومن سبط شمعون: سلوميل بن صور يشدي، ومن سبط يهودا: نحسون بن عمينا ذاب، ومن سبط إيشاخار: نتنائيل بن ضوغر، ومن سبط زابلون: أليب بن حيلون، ومن سبط يوسف من آل إفرائيم: إليسمع بن عميهوذ. ومن سبط منشا: جماليال بن فداهصور - قلت: ومنشا هو
51
ابن يوسف وهو أخو إفرائيم - ومن سبط بنيامين: أبيذان بن جدعوني، ومن سبط دان: أخيعزر بن عميشدي، ومن سبط آشير: فجعائيل بن عخرن، ومن سبط جاد: إليساف بن دعوائيل، ومن سبط نفتالي: أخيراع ابن عينان؛ وسبط لاوي هم سبط موسى وهارون عليهما السلام لم يذكروا لأنهم كانوا لحفظ قبة الزمان، فموسى وهارون عليهم كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قومه - كما سيأتي، والمرة الثانية كانت ليجسّوا أمر بيت المقدس، قال في أثناء هذا السفر: وكلم الرب موسى وقال له: أرسل قوماً يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل، وليكون الذين ترسل رجلاً من كل سبط من رؤساء آبائهم، فأرسلهم موسى من برية فاران عن قول الرب، رجالاً من رؤساء بني إسرائيل، وهذه أسماءهم من سبط روبيل: ساموع بن ذكور، ومن سبط شمعون: سافاط بن حوري، ومن سبط يهودا: كالاب بن يوفنا، ومن سبط إيشاخار: إجال بن يوسف، ومن سبط إفرائيم: هو ساع بن نون،
52
ومن سبط بنيامين: فلطي بن رافو، ومن سبط زابلون: جدي إيل بن سودي، ومن سبط يوسف من سبط منشا: جدي بن سوسي، ومن سبط دان: عميال بن جملي، ومن سبط آشير: ساتور بن ميخائيل، ومن سبط نفتالي: نجني بن وفسي، ومن سبط جاد: جوائل بن ماخي؛ هؤلاء الذين أرسلهم وتقدم إليهم بالوصية.
وأما النصارى ففي إنجيل متى ما نصه: ودعا يعني عيسى عليه السلام. تلاميذه الاثني عشر، وأعطاهم سلطاناً على جميع الأرواح النجسة لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض؛ وفي إنجيل مرقس: وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه، ولكي يرسلهم ليكروزا، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين؛ وفي إنجيل لوقا: ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وإشفاء المرضى، وأرسلهم يكرزون مملكوت الله ويشفون الأوجاع، وهذه أسماؤهم: شمعون المسمى بطرس، وأندراوس أخوه، ويعقوب بن زبدي، ويوحنا أخوه - وقال في إنجيل مرقس: وسماهما
53
باسم بوانرجس اللذين هما ابنا الرعد - وفيلبس، وبرتولوماوي، وتوما، ومتى العَشّار، ويعقوب بن حلفا، وليا الذي يدعى بداوس وقد اختلفت الأناجيل في هذا، ففي إنجيل مرقس بدله: تدي، وفي إنجيل لوقا: يهودا بن يعقوب، ثم اتفقوا: وشمعون القاناني - وفي إنجيل لوقا: المدعو الغيور - ويهودا الإسخريوطي الذي أسلمه. وأما نقباء الإسلام فكانوا ليلة العقبة الأخيرة حين بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصار رضي الله عنهم على الحرب وأن يمنعوه إذا وصل إلى بلدهم، وقال لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم كما اختار موسى من قومه، وأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال لهم: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي، قالوا: نعم، وهذه اسماؤهم من الخزرج: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، وعبادة بن الصامت، والمنذر بن عمرو؛ ومن الأوس: أسيد بن حضير، وسعد بن خثيمة، ورفاعة بن عبد المنذر، وأبو الهيثم بن التيهان، قال
54
ابن هشام: وقال كعب بن مالك يذكرهم فيما أنشدني أبو زيد الأنصاري وذكر أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة فقال:
55
أبلغ أبيّاً أنه قال رأيه وحان غداة الشعب والحين واقع
أبى الله ما منتك نفسك إنه بمرصاد أمر الناس راءٍ وسامع
وأبلغ أبا سفيان أن قد بدا لنا بأحمد نور من هدى الله ساطع
فلا ترغبن في حشد أمر تريده وألب وجمع كل ما أنت جامع
ودونك فاعلم أن نقض عهودنا أباه عليك الرهط حين تبايعوا
أباه البراء وابن عمرو كلاهما وأسعد يأباه عليك ورافع
وسعد أباه الساعدي ومنذر لأنفك إن حاولت ذلك جادع
وما ابن ربيع إن تناولت عهده بمسلمه لا يطمعن ثم طامع
وأيضاً فلا يعطيكه ابن رواحة وإخفاره من دونه السم ناقع
وفاء به والقوقلي بن صامت بمندوحة عما تحاول يافع
أبو هيثم أيضاً وفى بمثلها وفاء بما أعطى من العهد خانع
وما ابن حضير إن أردت بمطمع فهل أنت عن أحموقة الغي نازع
وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه ضروح لما حاولت ملأمر مانع
اولاك نجوم لا يغبك منهم عليك بنحس في دجى الليل طالع
فأما نقباء اليهود في جسّ الأرض فلم يوف منهم إلا اثنان - كما سيأتي قريباً عن بعض التوراة التي بين أيديهم، وأما نقباء النصارى فنقض منهم واحد - كما مضى عند قوله تعالى: ﴿وما قتلوه وما صلبوه﴾ [النساء: ١٥٧] وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأنعام عند قوله تعالى: ﴿لأنذركم به ومن بلغ﴾ [الأنعام: ١٩]، وأما نقباؤنا فكلهم وفي وبرّ بتوفيق الله وعونه فله أتم الحمد.
56
ولما ذكر سبحانه ما أخذ على اليهود من الميثاق ووعيده لهم إن كفروا بعد ذلك، ذكر أنهم نقضوا مرة بعد مرة - كما تقدم في سورة البقرة وغيرها كثير منه عن نص ما عندهم من التوراة - فاستحقوا ما هم فيه من الخزي، فقال تعالى مسبباً عما مضى مؤكداً بما النافية لضد ما أثبته الكلام: ﴿فبما نقضهم ميثاقهم﴾ أي بتكذيب الرسل الآتين من بعد موسى عليه السلام، وقتلهم الأنبياء، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم في كتمانهم أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغير ذلك
56
لا بغير ذلك كما نقض بنو النضير فسلطكم الله عليهم بما أشار إليهم في سورة الحشر ﴿لعناهم﴾ أي أبعدناهم بعد أنا وعدناهم القرب بالكون معهم إن وفوا.
ولما كان البعيد قد يكون رقيق القلب، متأسفاً على بعده. ساعياً في أسباب قربه، باقياً على عافية ربه، فيرجى بذلك له الغفران لذنبه. أخبر أنهم على غير ذلك بقوله: ﴿وجعلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿قلوبهم قاسية﴾ أي صلبة عاسية بالغش فهي غير قابلة للنصحية، لأن الذهب الخالص يكون ليناً، والمغشوش يكون فيه يبس وصلابة، وكل لين قابل للصلاح بسهولة، ثم بين قساوتها بما دل على نقضهم بقوله: ﴿يحرّفون الكلم﴾ أي يجددون كل وقت تحريفه ﴿عن مواضعه﴾ فإنهم كلما وجدوا شيئاً من كلام الله يشهد بضلالهم حرفوه إلى شهواتهم، وأولوه التأويل الباطل بأهوائهم، فهم يحرفون الكلم ومعانيها.
ولما كانوا قد تركوا أصلاً ورأساً ما لا يقدرون لصراحته على تحريفه، قال معبراً بالماضي إعلاماً بحرمهم بالبراءة من ذلك: ﴿ونسوا حظاً﴾ أي نصيباً نافعاً معلياً لهم ﴿مما ذكروا به﴾ أي من التوراة على ألسنة أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم السلام، تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته
57
به بحيث لم يكن لهم رجوع إليه، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية.
ولما ذكر سبحانه ما يفعلونه في حقه في كلامه الذي هو صفته، أتبعه ما يعم حقه وحق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجه معلم أن الخيانة ديدنهم، تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿ولا تزال﴾ أي بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق! ﴿تطلع﴾ أي تظهر ظهوراً بليغاً ﴿على خائنة﴾ أي خيانة عظيمة تستحق أن تسمي فاعلها الخؤون لشدتها و ﴿منهم﴾ أي في حقك بقصد الأذى، وفي حق الله تعالى بإخفاء بعض ما شرعه لهم ﴿إلا قليلاً منهم﴾ فإنهم يكونون على نهج الاستقامة إما بالإيمان، وإما بالوفاء وهم متمسكون بالكفر، ثم سبب عن هذا الذي في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: ﴿فاعف عنهم﴾ أي امح ذنبهم ذلك الذي اجترحوه، وهو دون النقض والتحريف فلا تعاقبهم عليه.
ولما كان العفو لا يمنع المعاتبة قال: ﴿واصفح﴾ أي وأعرض عن ذلك أصلاً ورأساً، فلا تعاتبهم عليه كما لم تعاقبهم، فإن ذلك إحسان منك، وإذا أحسنت أحبك الله ﴿إن الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿يحب المحسنين *﴾ وذلك - كما روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله سحره رجل من
58
اليهود يقال له لبيد بن الأعصم وفي رواية للبخاري: إنه رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقاً - حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وذلك أشد السحر، ثم إن الله تعالى شفاه وأعلمه أن السحر في بئر ذروان، فقالت له عائشة رضي الله عنها: أفلا أخرجته؟ فقال: لا، أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شراً، فأمر بها فدفنت، وهو في معجم الطبراني الكبير - وهذا لفظه - ومسند أبي يعلى الموصلي وسنن النسائي الكبرى ومسند عبد بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «كان رجل يدخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعقد له عقداً فجعله في بئر رجل من الأنصار، فأتاه ملكان يعودانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما: أتدري ما وجعه؟ قال: فلان الذي يدخل عليه عقد له عقداً فألقاه في بئر فلان الأنصاري، فلو أرسل إليه رجلاً لوجد الماء أصفر، فبعث رجلاً فأخذ العقد فحلّها فبرأ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يذكر له شيئاً منه ولم يعاتبه» وللشيخين عن أنس رضي الله عنه «أن
59
امرأة يهودية أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك، قال: ما كان الله ليسلطك على ذلك - أو قال: عليّ - قالوا: فلا تقتلها؟ قال: لا، قال: فما زلت أعرفها في لهوات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي رواية: إنها كانت سبب موت النبي صلى الله عيله وسلم بانقطاع أبهره الشريف منها بعد سنين» وفي سنن أبي داود من وجه مرسل أنه قتل اليهودية. والأول هو الصحيح، وسيأتي لهذا الحديث ذكر في هذه السورة عند ﴿والله يعصمك من الناس﴾ [المائدة: ٦٧]، فهذا غاية العفو والإحسان امتثالاً لأمر الله سبحانه.
ولما دخل النصارى فيما مضى لأنهم من بني إسرائيل، خصهم بالذكر لأن كفرهم أشد وأسمج فقال: ﴿ومن الذين قالوا﴾ أي مسمين أنفسهم ملزمين لها النصرة لله، مؤكدين قولهم رداً على من يرتاب فيه: ﴿إنا نصارى﴾ أي مبالغون في نصرة الحق، فالتعبير بذلك دون ومن النصارى تنبيه على أنهم تسموا بما لم يفوا به ﴿أخذنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿ميثاقهم﴾ أي كما أخذ على الذين من قبلهم.
ولما كان كفرهم في غاية الظهور والجلاء، لم ينسبهم إلى غير الترك فقال: ﴿فنسوا﴾ أي تركوا ترك الناسي ﴿حظاً﴾ أي
60
نصيباً عظيماً يتنافس في مثله ﴿مما ذكروا به﴾ أي في الإنجيل مما سبق لهم ذكره في التوراة من أوصاف نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغير ذلك من الحق.
ولما أدى ذلك إلى تشعبهم فرقاً، فأنتج تشاحنهم وتقاطعهم وتدابرهم، سبب عنه قوله: ﴿فأغرينا﴾ أي ألصقنا بعظمتنا إلصاق ما هو بالغراء لا ينفك بل يصير كجزء الشيء ﴿بينهم﴾ أي النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً متباينين بتفريق الدين، وكذا بينهم وبين اليهود ﴿العداوة﴾ ولما كان العداوة قد تكون عن بغي ونحوه إذا زال زالت أو خفت، قال معلماً أنها لأمر باطني نشأ من تزيين الهوى، فهو ثابت غير منفك: ﴿والبغضاء﴾ بالأهواء المختلفة ﴿إلى يوم القيامة﴾.
ولما أخبر بنكدهم في الدنيا، أعقبه ما لهم في الأخرى فقال: ﴿وسوف ينبئهم﴾ أي يخبرهم ﴿الله﴾ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً إخباراً بعظيم الشأن بما فيه من عظم التقريع والتوبيخ في الآخرة بوعيد لا خلف فيه؛ ولما كانت خيانتهم قد صارت لهم فيها ملكات بما لازموا منها حتى ضربوا بها وتدربوا عليها، حتى
61
صارت لهم أحوالاً لأنفسهم وأخلاقاً لقلوبهم، سماها صنائع فقال: ﴿بما كانوا يصنعون *﴾ أي دربوا أنفسهم عليه حتى صار كالصنعة، فيجازيهم عليه بما يقيم عليهم من الحجة.
62
ولما علم بذلك كله أحوال الفريقين، أقبل عليهم واعظاً منادياً متلطفاً مستعطفاً مرغباً مرهباً فقال: ﴿يا أهل الكتاب﴾ أي عامة ﴿قد جاءكم رسولنا﴾ أي الذي أرسلناه مما لنا من العظمة فليظهرن بذلك على من ناواه ﴿يبين لكم﴾ أي يوضح إيضاحاً شافياً ﴿كثيراً مما كنتم﴾ أي بما لكم من جبلة الشر والخيانة ﴿تخفون من الكتاب﴾ أي العظيم المنزل عليكم، من صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكم الزنا وغيرهما، لإحياء سنة وإماتة بدعة - كما مضى منه ما شاء الله في سورة البقرة، وذلك دال بلا شبهة على صحة رسالته ﴿ويعفوا عن كثيراً *﴾ أي فلا يفضحكم بإظهاره امتثالاً لأمرنا له بذلك - كما تقدم أنه إحسان منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليكم، لأنه لا فائدة في إظهاره إلا فضيحتكم.
ولما أخبر عن فصله للخفايا، وكان التفصيل لا يكون إلا بالنور، اقتضى الحال توقع الإخبار بأنه نور، فقال مفتتحاً بحرف التوقيع والتحقيق:
62
﴿قد جاءكم﴾ وعظمه بقوله معبراً بالاسم الأعظم: ﴿من الله﴾ أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿نور﴾ أي واضح النورية، وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كشف ظلمات الشك والشرك، ودل على جمعه مع فرقه بقوله: ﴿وكتاب﴾ أي جامع ﴿مبين﴾ أي بين في نفسه، مبين لما كان خافياً على الناس من الحق.
ولما كانت هدايته مشروطة بشرط صلاح الجبلة، بين ذلك بقوله واصفاً له: ﴿يهدي به﴾ أي الكتاب ﴿الله﴾ أي الملك الأعظم القادر على التصرف في البواطن والظواهر ﴿من اتبع﴾ أي كلف نفسه وأجهدها في الخلاص من أسر الهوى بأن تبع ﴿رضوانه﴾ أي غاية ما يرضيه من الإيمان والعمل الصالح، ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا بتوفيقه، ثم ذكر مفعول ﴿يهدي﴾ فقال: ﴿سبل﴾ أي طرق ﴿السلام﴾ أي الله، باتباع شرائع دينه والعافية والسلامة من كل مكروه ﴿وخرجهم من الظلمات﴾ أي كدورات النفوس والأهواء والوساس الشيطانية ﴿إلى النور﴾ أي الذي دعا إليه العقل فيصيروا عاملين بأحسن الأعمال كما يقتضيه اختيار من هو في النور ﴿بإذنه﴾ أي بتمكينه.
ولما كان من في النور قد يغيب عنه غرضه الأعظم فلا ينظره لغيبته عنه ببعده منه، وتكثر عليه الأسباب فلا يدري أيها الوصف أو يقرب إيصاله ويسهل أمره، قال كافلاً لهم بالنور مريحاً من تعب
63
السير: ﴿ويهديهم﴾ أي بما له من إحاطة العلم والقدرة ﴿إلى صراط مستقيم *﴾ أي طريق موصل إلى الغرض من غير عوج أصلاً، وهو الدين الحق، وذلك مقتض للتقرب المستلزم لسرعة الوصول.
64
ولما تم ذلك موضحاً لأن من لم يتبع الكتاب الموصوف كان كافراً وعن الطريق الأمم جائراً حائراً، وكان محصل حال اليهود كما رأيت فيما تقدم ويأتي من نصوص التوراة - أنهم لا يعتقدون على كثرة ما يرون من الآيات أن الله مع نبيهم دائماً، وكان أنسب الأشياء بعد الوعظ أن يذكر حال النصارى في نبيهم، فإنه مباين لحال اليهود من كل وجه، فأولئك على شك في أنه معه، وهؤلاء اعتقدوا أنه هو، فقال تعالى مبيناً أنهم في أظلم الظلام وأعمى العمى: ﴿لقد﴾ أو يقال: إن اليهود لما فرطوا فكفروا، أفهم ذلك أن النصارى لما أفرطوا كفروا، فصار حالهم كالنتيجة لما مضى فقال: لقد ﴿كفر الذين قالوا﴾ مؤكدين لبعد ما قالوه من العقل فهو في غاية الإنكار ﴿إن الله﴾ أي على ما له من جميع صفات الكمال التي لا يجهلها من له أدنى تأمل إذا ترجى الهدى وانخلع من أسر الهوى ﴿هو المسيح﴾ أي عينه، وهو أقطع الكفر وأبينه بطلاناً، ووصفه بما هو في غاية الوضوح في بطلان قولهم لبعده عن رتبة الألوهية في الحاجة إلى امرأة فقال: ﴿ابن مريم﴾ فهو محتاج إلى كفالتها بما لها من الأمومة.
ولما بطل مدعاهم على أتقن منهاج وأخصره، وكان بما دق
64
على بعض الأفهام، أوضحه بقوله: ﴿قل﴾ دالاً على أن المسيح عليه السلام عبد مملوك لله، مسبباً عن كفرهم ﴿فمن يملك من الله﴾ أي الملك الذي له الأمر كله ﴿شيئاً﴾ أي من الأشياء التي يتوهم أنها قد تمنعه مما يريد، بحيث يصير ذلك المملوك أحق به منه ولا ينفذ له فيه تصرف ﴿إن أراد﴾ أي الله سبحانه ﴿أن يهلك المسيح﴾ وكرر وصفه بالنوبة إيضاحاً للمراد فقال: ﴿ابن مريم﴾ وأزال الشبهة جداً بقوله: ﴿وأمه﴾ ولما خصهما دليلاً على ضعفهما المستلزم للمراد، عم دلالة على عموم القدرة المستلزم لتمام القهر لكل من يماثلهما المستلزم لعجز الكل المبعد من رتبة الإلهية، فقال موضحاً للدليل بتسويتهما ببقية المخلوقات: ﴿ومن في الأرض جميعاً﴾ أي فمن يملك منعه من ذلك.
ولما كان التقدير: فإن ذلك كله لله، يهلكه كيف شاء متى شاء، عطف عليه ما هو أعم منه، فقال معلماً بأنه - مع كونه مالكاً مَلِكاً - له تمام التصرف: ﴿ولله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا شريك له ﴿ملك السماوات﴾ أي التي بها قيام الأرض ﴿والأرض وما بينهما﴾ أي ما بين النوعين وبين أفرادهما، بما به تمام أمرهما؛ ثم استأنف قوله دليلاً على ما قبله ونتيجة له: ﴿يخلق ما يشاء﴾ على أي كيفية أراد -
65
كما تقدم أن له أن يعدم ما يشاء كذلك، فلا عجب في خلقه بشراً من أنثى فقط، لا بواسطة ذكر، حتى يكون سبباً في ضلال من ضل به، ولما دل ذلك على تمام القدرة على المذكور عم فقال: ﴿والله﴾ أي ذو الجلال والإكرام ﴿على كل شيء﴾ أي من ذلك وغيره ﴿قدير *﴾.
ولما عم سبحانه في ذكر فضائح بني إسرائيل تارة، وخص أخرى، عم بذكر طامة من طوامهم، حملهم عليها العجب والبطر بما أنعم الله به عليهم، فقال: ﴿وقالت اليهود والنصارى﴾ أي كل طائفة قالت ذلك على حدتها خاصة لنفسها دون الخلق أجمعين ﴿نحن أبناؤا الله﴾ أي بما هو ناظر إلينا به من جميع صفات الكمال ﴿وأحباؤه﴾ أي غريقون في كل من الوصفين - كما يدل عليه العطف بالواو، ثم شرع ينقض هذه الدعوى نقضاً بعد نقض على تقدير كون البنوة على حقيقتها أو مجازها، والذي أورثهم هذه الشبهة - إن لم يكونوا قالوا ذلك عناداً - أن في موضع من التوراة عن قول الله تعالى لموسى عليه السلام: شعبي بكري، وقال في أول نبوة موسى عليه السلام - كما ذكرته في الأعراف: وقل لفرعون: هكذا يقول الرب: ابني بكري إسرائيل أرسل ليعبدني، فإن أبيت أن ترسل ابني فإني أقتل ابنك بكرك - ونحو هذا؛ وفي كثير مما بين أيديهم من الإنجيل عن قول عيسى عليه السلام:
66
افعلوا كذا لتكونوا بني أبيكم الذي في السماء - ونحو ذلك، وقد بينت معناه على تقدير صحته بما يوجب رده إلى المحكم بلا شبهة في أول سورة آل عمران؛ قال البيضاوي في أول سورة الكهف: إنهم كانوا يطلقون الأب والابن في تلك الأديان بمعنى المؤثر والأثر، وقال في البقرة في تفسير ﴿بديع السماوات﴾ [البقرة: ١١٧] : أنهم كانوا يطلقون الأب على الله باعتبار أنه السبب الأصلي، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة، فلذاك كفر قائله ومنع منه منعاً مطلقاً انتهى. فأول نقض نقض به سبحانه وتعالى هذه الدعوى بيان أنه يعذبهم فقال: ﴿قل فلم يعذبكم﴾ أي إن كنتم جامعين بين كونكم أبناء وأحباء بين عطف النبوة وحنو المحبة ﴿بذنوبكم﴾ وعذابهم مذكور في نص توراتهم في غير موطن ومشهور في تواريخهم بجعلهم قردة وخنازير وغير ذلك، أي فإن كان المراد بالبنوة الحقيقة فابن الإله لا يكون له ذنب فضلاً عن أن يعذب به، لأن الابن لا يكون إلا من جنس الأب - تعالى الله عن النوعية والجنسية والصاحبة والولد علواً كبيراً! وإن كان المراد المجاز، أي بكونه يكرمكم إكرام الولد والحبيب، كان ذلك مانعاً من التعذيب.
ولما كان معنى ذلك أن يعذذبكم لأنكم لستم أبناء ولا أحباء،
67
عطف عليه نقضاً آخر أوضح من الأول فقال: ﴿بل أنتم بشر ممن خلق﴾ وذلك أمر مشاهد، والمشاهدات من أوضح الدلائل، فأنتم مساوون لغيركم في البشرية والحدوث، لا مزية لأحد منكم على غيره في الخلق والبشرية، وهما يمنعان البنوة، فإن القديم لا يلد بشراً، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوصفين البنوة، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله؛ فبطل الوصفان اللذان ادعوهما.
ولما كان التقدير: يفعل بكم ما يفعل بسائر خلقه، وصل به قوله جواباً لمن يقول: وما هو فاعل بمن خلق؟ :﴿يغفر لمن يشاء﴾ أي من خلقه منكم ومن غيركم فضلاً منه تعالى ﴿ويعذب من يشاء﴾ عدلاً كما تشاهدونه يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين.
ولما كان التقدير: لأنه مالك خلقه وملكهم لا اعتراض عليه في شيء من أمره، عطف عليه قوله نقضاً ثالثاً بما هو أعم مما قبله فقال: ﴿ولله﴾ أي الذي له الأمر كله، فلا كفوء له ﴿ملك السماوات﴾ وقدمها لشرفها دلالة على ملك غيرها من باب أولى، وصرح بقوله: ﴿والأرض وما بينهما﴾ أي وأنتم مما بينهما، وقد اجتمع بذلك مع المُلكِ والإبداعِ المِلكُ والتصريف والتصرف التام، وذلك هو الغنى المطلق، ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء من ولد ولا غيره، ولا يكون لأحد عليه حق، ولا يسوغ عليه اعتراض.
ولما كان التقدير: فمنه وحده الابتداء، عطف عليه قوله:
68
﴿وإليه﴾ أي وحده ﴿المصير *﴾ أي الصيرورة والرجوع وزمان ذلك ومكانه معنى في الدنيا بأنه لا يخرج شيء عن مراده، وحساً في الآخرة، فيحكم بين مصنوعاته على غاية العدل - كما هو مقتضى الحكمة وشأن كل ملك في إقامة ملكه بإنصاف بعض عبيده من بعض، لا يجوز عنده في موجب السياسة إطلاق قويهم على ضعيفهم، فإن ذلك يؤدي إلى خراب الملك وضعف الملك، فإذا كان هذا شأن الملوك في العبيد الناقصين فما ظنك بأحكم الحاكمين! فإذا عاملهم كلهم بالعدل أسبغ على من يريد ملابس الفضل.
69
ولما دحضت حجتهم، ووضحت أكذوبتهم، اقتضى ذلك الالتفات إلى وعظهم على وجه الامتنان عليهم وإبطال ما عساهم يظنونه حجة، فقال تعالى: ﴿يا أهل الكتاب﴾ أي من الفريقين؛ ولما كان ما حصل لهم من الضلال بتضييع ما عندهم من البينات وتغييرها ما لا يتوقع معه الإرسال، قال معبراً بحرف التوقع: ﴿قد جاءكم رسولنا﴾ أي الذي عظمته من عظمتنا، فإعظامه وإجلاله واجب لذلك، ثم بين حاله مقدماً له على متعلق جاء بياناً لأنه أهم ما إلى الرسل إليهم إرشاداً إلى قبول كل ما جاء به بقوله: ﴿يبين لكم﴾ أي يوقع لكم البيان في كل ما ينفعكم بياناً شافياً لما تقدم وغيره.
69
ولما كان مجيئه ملتبساً ببيانه وظرفاً له غير منفك عنه، وكان بياناً مستعلياً على وقت مجيئه وما مضى قبله وما يأتي بعده ببقاء كتابه، محفوظاً لعموم دعوته وختامه وتفرده، فلا نبي بعده، قال معلقاً بجاء: ﴿على فترة﴾ أي طويلة بالنسبة إلى ما كان يكون بين النبيِّين من بني إسرائيل، مبتدئة تلك الفترة ﴿من الرسل﴾ أي انقطاع من مجيئهم، شُبِّه فقدهم وبُعْد العهد بهم ونسيان أخبارهم، وبلاء رسومهم وآثارهم، وانطماس معالمهم وأنوارهم بشيء كان يفنى ففتر، لم يبق من وصفه المقصود منه إلا أثر خاف ورسم دارس، يقال: فتر الشيء - إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه وذلك لأنه كان بين عيسى وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستمائة سنة فسد فيها أمر الناس، ولعله عبر بالمضارع في يبين إشارة إلى أن دينه وبيانه لا ينقطع أصلاً بحفظ كتابه، فكلما درست سنة منح الله بعالم يرد الناس إليها بالكتاب المعجز القائم أبداً، فلذلك لا يحتاج الأمر إلى نبي مجدد إلا عند الفتنة التي لا يطيقها العلماء، وهي فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج، ثم علل ذلك بقوله: ﴿أن﴾ أي كراهة أن ﴿تقولوا﴾ أي إذا حشرتم وسئلتم عن
70
أعمالكم ﴿ما جاءنا﴾ ولتأكيد النفي قيل: ﴿من بشير﴾ أي يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز ﴿ولا نذير﴾ أي يحذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم، لأن الإنسان موزَّع النقصان بين الرغبة والرهبة، وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل فالتبس الأمر وجهل الحال، لكنه لم يجهل جهلاً يحصل به عذر في الشرك، وسأبينه في أول ص.
ولما كان المعنى: فلا تقولوا ذلك، سبب عنه قوله: ﴿فقد جاءكم﴾ أي من هو متصف بالوصفين معاً فهو ﴿بشير ونذير﴾ أي كامل في كل من الوصفين وإن تباينا؛ ولما كان ربما كان توهم أحد من ترك الإرسال زمن الفترة، ومن ترك التعذيب بغير حجة الإرسال، وبالعدول عن بني إسرائيل إلى بني إسماعيل شيئاً في القدرة، قال كاشفاً لتلك الغمة: ﴿والله﴾ أي جاءكم والحال أن الملك الذي له الكمال كله ﴿على كل شيء﴾ أي من أن يرسل في كل وقت وأن يترك ذلك، وأن يهدي بالبيان وأن يضل، ومن أن يعذب ولا يقبل عذراً وأن يغفر كل شيء وغير ذلك ﴿قدير *﴾ وفي الختم بوصف القدرة واتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوة والملك بعدما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل إشارة إلى أن إنكارهم
71
لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبي يلزم منه إنكارهم للقدرة.
72
ولما ذكر سعة مملكته وتمام علمه وشمول قدرته أتبع ذلك الدلالة عليه بقصة بني إسرائيل في استنقاذهم من أسر العبودية والرق وإعلاء شأنهم وإيراثهم أرض الجبارين بعد إهلاك فرعون وجنوده وغير ذلك مما تضمنته القصة، إظهاراً - بعدم ردهم إلى مصر التي باد أهلها - لتمام القدرة وسعة الملك ونفوذ الأمر وهي مع ذلك دالة على نقضهم الميثاق وقساوتهم ونقض ما ادعوه من بنوتهم ومحبتهم، وذلك أنها ناطقة بتعذيبهم وتفسيقهم وتبرئهم من الله، ولا شيء من ذلك فعل حبيب ولا ولد، فقال عاطفاً على نعمة في ﴿واذكروا نعمة الله عليكم﴾ [المائدة: ٧] تذكيراً لهذه الأمة بنعمة التوثيق للسمع والطاعة التي أباها بنو إسرائيل بعدما رأوا من الآيات، وبما كف عنهم على ضعفهم وشجع به قلوبهم، وألزمهم الطاعة وكره إليهم المعصية بضد ما فعل ببني إسرائيل - وغير ذلك مما يرشد إليه إنعام النظر في القصة: ﴿وإذ﴾ أي واذكروا حين ﴿قال موسى لقومه﴾ أي من اليهود ﴿يا قوم اذكروا﴾ أي بالقلب واللسان، أي ذكر اعتبار واتعاظ بما لكم من قوة القيام بما تحاولونه ليقع منكم الشكر ﴿نعمة الله﴾ أي إنعام الملك الأعظم الذي له الإحاطة بالجلال والإكرام، وعبر عن
72
الإنعام بالغاية لأنها المقصود ﴿عليكم﴾ وعظم ذلك التذكير بالاسم الأعظم، ونبه بذكر ظرفها على أجل النعم، وهي النبوة المنقذة لهم من النار فقال: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿جعل فيكم﴾ وبشرهم بمن يأتي بعده من الأنبياء من بني إسرائيل فجمع جمع الكثرة في قوله: ﴿أنبياء﴾ أي يحفظونكم من المهالك الدائمة، ففعل معكم - بذلك وغيره من النعم التي فضلكم بها على العالمين في تلك الأزمان - فعل المحب مع حبيبه والوالد مع ولده، ومع ذلك عاقبكم حين عصيتم، وغضب عليكم إذ أبيتم، فعلم أن الإكرام والإهانة دائران بعد مشيئته على الطاعة والمعصية.
ولما نقلهم من الحيثية التي كانوا فيها عبيداً لفرعون، لا يصلحون معها لملك، ولا تحدثهم أنفسهم به، إلى حيثية الحرية القابلة لأن يكون كل منهم معها ملكاً بعد أن أرسل فيهم رسولاً وبشر بأنه يتبعه من الأنبياء ما لم يكن في أمة من الأمم غيرهم، قال: ﴿وجعلكم ملوكاً﴾ أي فكما جعلكم كذلك بعد ما كنتم غير طامعين في شيء منه، فقد نقله منكم وجعله في غيركم بتلك القدرة التي أنعم عليكم بها، وذلك لكفركم بالنعم وإيثاركم الجهل على العلم، فإنكاركم لذلك وتخصيص النعم بكم تحكم وترجيح بلا مرجح، ويوضح ذلك أن كفر النعمة سبب لزوالها، وقد كانوا يهددون في التوراة وغيرها بما هم فيه الآن من ضرب الذلة
73
والمسكنة التي لا يصلحون معها لملك إن هم كفروا - كما سيأتي بعض ذلك في هذه السورة.
ولما ذكرهم تعالى بما ذكرهم به من النعم العامة، أتبعه التذكير بنعمة خاصة فقال: ﴿وآتاكم ما لم يؤت﴾ أي في زمانكم ولا فيما قبله من سالف الزمان - كما اقتضاه التعبير بلم ﴿أحداً من العالمين *﴾ من الآيات التي أظهرها على يد موسى عليه السلام، فأخرجكم بها من الظلمات إلى النور، والكتاب الذي جعله تبياناً لكل شيء؛ ثم أتبعه ما يقيد به هذه النعم من الشكر بامتثال الأمر في جهاد الأعداء في سياق مؤذن بالنصر معلم بأنه نعمة أخرى يجب شكرها، فلذلك وصله بما قبله وصل المعلول بالعلة فقال: ﴿يا قوم ادخلوا﴾ عن أمر الله الذي أعلمكم بما صنع من الآيات أنه غالب على جميع أمره ﴿الأرض المقدسة﴾ أي المطهرة المباركة التي حكم الله أن يطهرها بأنبيائه ورسله من نجس الشرك وضر المعاصي والإفك، ويبارك فيها، ثم وصفها بما يوجب للمؤمن الإقدام لتحققه النصر فقال: ﴿التي كتب الله﴾ أي الذي له الأمر كله فلا مانع لما أعطى ﴿لكم﴾ أي بأن تجاهدوا أعداءه فترثوا أرضهم التي لا مثل لها، فتحوزوا سعادة الدارين، وهي بيت المقدس والتي وعد
74
أباكم إبراهيم عليه السلام أن تكون ميراثاً لولده بعد أن جعلها مهاجرة.
ولما أمرهم بذلك نهاهم عن التقاعد عنه، فقال مشيراً إلى أن مخالفة أمر الله لا تكون إلا بمعالجة للفطرة الأولى: ﴿ولا ترتدوا﴾ أي تكلفوا أنفسكم الرجوع عن أخذها، وصوَّر لهم الفتور عن أخذها بما يستحيي من له همة من ذكره فقال: ﴿على أدباركم﴾ ولما جمع بين الأمر والنهي، خوفهم عواقب العصيان معلماً بأن ارتدادهم سبب لهلاكهم بغير شك، فقال معبراً بصيغة الانفعال: ﴿فتنقلبوا﴾ أي من عند أنفسكم من غير قالب يسلط عليكم ﴿خاسرين *﴾ أي بخزي المعصية عند الله وعار الجبن عن الناس وخيبة السعي من خيري الدارين.
75
ولما كان هذا السياق محركاً للنفس إلى معرفة جوابهم عنه، أورده على تقدير سؤال من كأنه قال: إن هذا لترغيب مشوق وترهيب مقلق، فما قالوا في جوابه؟ فقال: ﴿قالوا﴾ معرضين عن ذلك كله بهمم سافلة وأحوال نازلة، مخاطبين له باسمه جفاء وجلافة وقلة أدب ﴿يا موسى﴾ وأكدوا قولهم تأكيد من هو محيط العلم، فقالوا مخاطبين بجرأة وقلة حياء لأعلم أهل زمانه: ﴿إن فيها﴾ أي دون غيرها ﴿قوماً جبارين﴾ أي عتاة قاهرين لغيرهم مكرهين له على ما يريدون ﴿وإنا لن ندخلها﴾ خوفاً منهم ﴿حتى يخرجوا منها﴾ ثم صرحوا بالإتيان بالجملة الاسمية المؤكدة
75
بتهالكهم على الدخول وأنه لا مانع لهم إلا الجبن فقالوا: ﴿فإن يخرجوا منها﴾ أي بأي وجه كان، وعبروا بأداة الشك مع إعلام الله لهم بإهلاكهم على أيديهم جلافة منهم وعراقة طبع في التكذيب ﴿فإنا داخلون *﴾ فكأنه قيل: إن هذه لسقطة ما مثلها، فما اتفق لهم بعدها؟ فقيل: ﴿قال رجلان﴾ وأشار إلى كونهما من بني إسرائيل بقوله ذماً لمن تقاعس عن الأمر منهم: ﴿من الذين يخافون﴾ أي يوجد منهم الخوف من الجبارين، ومع ذلك فلم يخافا وثوقاً منهما بوعد الله، ولما كان بنو إسرائيل أهلاً لأن يخافهم من يقصدونهم بالحرب لأن الله معهم بعونه ونصره، قرىء: يخافون - مبيناً للمفعول ﴿أنعم الله﴾ أي بما له من صفات الكمال ﴿عليهما﴾ أي بالثبيت على العمل بحق النقابة، وهما يوشع بن نون وكالاب بن يوفنا - كما أنعم عليكم أيها العرب وخصوصاً النقباء بالثبات في كل موطن ﴿ادخلوا عليهم الباب﴾ أي باب قريتهم امتثالاً لأمر الله وإيقاناً بوعده.
ولما كانا يعلمان أنه لا بد من دخولهم عليهم وإن تقاعسوا وإن طال المدى، لأن الله وعد بنصرهم عليهم ووعده حق عبرا بأداة التحقيق خلاف ما مضى لجماهيرهم فقالا: ﴿فإذا دخلتموه﴾ ثم أكد خبرهما إيقاناً بوعد الله فقالا: ﴿فإنكم غالبون﴾ أي لأن الملك معكم دونهم ﴿وعلى الله﴾ أي الملك الأعظم الذي وعدكم بإرثها وحده ﴿فتوكلوا﴾ أي لا على عُدة منكم ولا عِدة ولا حول ولا قوة.
76
ولما كان الإخلاص يلزمه التوكل وعدم الخوف من غير الله، ألهمهم بقوله؛ ﴿إن كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿مؤمنين *﴾ أي عريقين في الإيمان بنبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتصديق بجميع ما أتى به، فكأنه قيل: لقد نصحا لهم وبرّا، واجتهدا في إصلاح الدين والدنيا فما خدعا ولا غرّا، فما قالوا؟ فقيل: لم يزدهم ذلك إلا نفاراً واستضعافاً لأنفسهم لإعراضهم عن الله واستصغاراً لأنهم ﴿قالوا﴾ معرضين عمن خاطباهم غيرعادين لهما ﴿يا موسى﴾ وأكدوا نفيهم للإقدام عليهم بقولهم: ﴿إنا﴾ وعظموا تأكيدهم بقولهم: ﴿لن ندخلها﴾ وزادوه تأكيداً بقولهم: ﴿أبداً﴾ وقيدوا ذلك بقولهم: ﴿ما داموا﴾ أي الجبابرة ﴿فيها﴾ أي لهم اليد عليها، ثم اتبعوه بما يدل على أنهم في غاية الجهل بالله الفعال لما يريد.
الغني عن جميع العبيد، فقالوا مسببين عن نفيهم ذلك قولهم: ﴿فاذهب أنت وربك﴾ أي المحسن إليك، فلم يذكروا أنه أحسن إليهم كثافة طباع وغلظ أكباد، بل خصوه بالإحسان، وهذا القول إن لم يكن قائلوه يعتقدون التجسيم فهم مشارفون له، وكذلك أمثاله، وكان اليهود الآن عريقين في التجسيم، ثم سببوا عن الذهاب قولهم: ﴿فقاتلا﴾ ثم استأنفوا قولهم مؤكدين لأن من له طبع سليم وعقل مستقيم لا يصدق أن أحداً يتخلف عن
77
أمر الله لا سيما إن كان بمشافهة الرسول: ﴿إنا هاهنا﴾ أي خاصة ﴿قاعدون﴾ أي لا نذهب معكما، فكان فعلهم فعل من يريد السعادة بمجرد ادعاء الإيمان من غير تصديق له بامتحان بفعل ما يدل على الإيقان؛ روى البخاري في المغازي والتفسير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال المقداد بن عمرو يوم بدر: يا رسول الله! لا نقول كما قال قوم موسى: ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون﴾ ولكن امض ونحن معك، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشرق وجهه وسرَّه» فكأنه قيل: فما قال موسى عليه السلام؟ فقيل: ﴿قال﴾ لما أيس منهم معرضاً عنهم شاكياً إلى الله تعالى ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ.
ولما كان من حق الرسول أن يقيه كل أحد بنفسه وولده فكيف بما دون ذلك، فكان لا يصدق أحد أن أتباعه لا يطيعونه، جرى على طبع البشر وإن كان يخاطب علام الغيوب قال مؤكداً: ﴿إني﴾ ولما فهم من أمر الرجلين لهم بالدخول أنهما قيّدا دخولهما بدخول الجماعة، خص في قوله: ﴿لا أملك إلا نفسي وأخي﴾ أي ونحن مطيعان لما تأمر به ﴿فافرق بيننا﴾ أي أنا وأخي ﴿وبين القوم الفاسقين *﴾ أي الخارجين
78
عن الطاعة قولاً وفعلاً، ولا تجمعنا معهم في بين واحد، في فعل ولا جزاء ﴿قال فإنها﴾ أي الأرض المقدسة ﴿محرمة عليهم﴾ أي بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم، لا يدخلها ممن قاله هذه المقالة أو رضهيا أحد، بل يمكثون ﴿أربعين سنة﴾ ثم استأنف جواباً لمن تشعب فكره في تعرف حالهم في هذه الأربعين ومحلهم من الأرض قوله: ﴿يتيهون﴾ أي يسيرون متحيرين ﴿في الأرض﴾ حتى يهلكوا كلهم، والتيه: المفازة التي يحير سالكها فيضل عن وجه مقصده، روي أنهم أقاموا هذه المدة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين، ثم يمشون في الموضع الذي ساروا منه، ثم سبب عن إخباره بعقوبتهم قوله: ﴿فلا تأس﴾ أي تحزن حزناً مؤيساً ﴿على القوم﴾ أي الأقوياء الأبدان الضعفاء القلوب ﴿الفاسقين *﴾ أي الخارجين من قيد الطاعات، ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين نشأوا في التيه لسلامتهم من اعوجاج طباعهم التي ألبستهم إياها بلاد الفراعنة، فإني كتبتها لبني إسرائيل، ولم أخبر بتعيينهم - وإن كانوا معينين في علمي - كما اقتضت ذلك حكمتي؛ وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها وافتتحت بها، وصرح بأخذها عليهم في قوله:
﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل﴾ [المائدة: ١٢]
79
إلى أن قال: ﴿وآمنتم برسلي وعزرتموهم﴾ [المائدة: ١٢] وفي ذلك تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يفعلونه معه، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق، وترغيب لمن أطاع منهم وترهيب لمن عصى، ومات في تلك الأربعين كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة، وكان الغمام يظلهم من حر الشمس، ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء هاهنا عليهم - وغير هذا من النعم، لأن المنع بالتيه كان تأديباً لهم لا غضباً فإنهم تابوا.
شرحُ هذه القصة ما بين أيديهم من التوراة وذكرُ بعض ما عذبهم فيه بذنوبهم، قال في السفر الرابع منها: وكلم الرب موسى وقال له: أرسل قوماً يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل، فأرسلهم موسى من برية فاران رجالاً من رؤساء بني إسرائيل - اثني عشر رجلاً - فيهم كالاب بن يوفنا وهو ساع بن نون، ودعا موسى هوساع بن نون يوشع، وأرسلهم ليستخبروا أرض كنعان وقال لهم: اعرفوا خبر الشعب الذي بها، أقوي هو أم ضعيف؟ أكثير هو أم قليل؟ وما خبر الأرض التي هم فيها، أمخصبة أم لا؟ أفيها شجر أم لا؟ وفي نسخة: وما المدن التي يسكنونها؟ وإن كانت محوَّطاً عليها أم لا؟ وتقووا وخذوا من ثمار الأرض؛ فصعدوا فاستخبروا الأرض، وأخذوا من برية صين حتى
80
انتهوا إلى راحوب التي في مدخل حمات، وصعدوا إلى التيمن فأتوا حبران - وفي نسخة: حبرون - وكان بها بنو الجبابرة، ثم أتوا وادي العنقود وقطعوا قضيباً من الكرم فيه عنقود عنب، فحمله رجلان بأسطار، ودعوا اسم ذلك الموضع وادي العنقود من أجل ذلك، وأخذوا من الرمان والتين أيضاً، ورجعوا إلى موسى بعد أربعين ليلة إلى برية فاران إلى رقيم، وأخبروا موسى والجماعة كلها خبر الأرض وقالوا: انطلقنا فإذا الأرض تغل اللبن والعسل وهذه ثمارها، ولكن الشعب الذي في الأرض عزيز قوي، وقراهم كبار مشيدة، ورأينا ثَمّ بني الجبابرة، ثم ذكر أن الكنعانيين على ساحل البحر إلى نهر الأردن، قالوا: وكنا عندهم مثل الجراد، كذلك رأينا أنفسنا، فضجت الجماعة كلها ورفعوا أصواتهم بالبكاء، وبكوا في تلك الليلة بكاء شديداً، وتذمر جميع بني إسرائيل على موسى وهارون في ذلك اليوم وضجوا عليهما، وقال لهما محافل بني إسرائيل كلها: يا ليتنا! متنا بأرض مصر على يدي الرب، وليتنا متنا في هذه البرية ولا يدخلنا الرب إلى الإرض التي نصرع فيها قتلاً! وتنتهب مواشينا وأهلونا! كان المنون بأرض مصر خيراً لنا، وقال كل امرىء منهم لأخيه: اجتمعوا حتى نصيّر علينا رئيساً، ونرجع إلى أرض مصر،
81
فخر موسى وهارون على وجوههما ساجدين بين يدي جماعة بني إسرائيل كلها، فأما يشوع ابن نون وكالاب بن يوفنا اللذان كانا من الجواسيس فقالا: الأرض مخصبة جداً، فإن شاء الرب دفعها إلينا، فهي أرض تغل السمن والعسل، فلا تعصوا الرب ولا تفتتنوا ولا تخافوا شعب هذه الأرض لأن أهلها مبذولون لنا مثل الطعام للأكل، واعلموا أن قويهم سيضعف وتزول عنهم شدتهم، ونحن الغالبون لأن الرب معنا، فلا تفرقوا منهم، وظهر مجد الرب بالسحابة في قبة الزمان تجاه بني إسرائيل، وقال الرب لموسى: إلى متى يسخطني هذا الشعب؟ وكم إلى كم لا يصدقونني؟ ألم يروا جميع الآيات التي أتيتهم بها؟ سأضربهم بالموت وأهلكهم، وأصيرك الشعب أعظم من هذا وأعزّ منهم، فقال موسى أمام الرب: يسمع أهل مصر الذين أخرجت هذا الشعب من بينهم بقوتك، ويقول لسكان هذه الأرض أيضاً الذين سمعوا أنك رب هذا الشعب، فإن أنت قتلت هذا الشعب جميعاً كرجل واحد تقول الشعوب التي بلغها خبرك: إن الرب لم يقدر أن يدخل هذا الشعب الأر ض التي كان وعد إياهم، فلذلك قتلهم في البرية، فلتعظم قوتك الآن يا رب كما وعدت وقلت! يا رب
82
أنت ذو المودة والنعمة، تغفر الإثم والخطايا، وتزكي من ليس بمزكي، اغفر يا رب كما غفرت لهم مذ خرجوا من أرض مصر إلى الآن! فقال الرب لموسى: قد غفرت لهم لقولك ولكني حي قيوم، أقسم بذلك وبمجدي الذي امتلأت الأرض كلها منه أن جميع الرجال الذين عاينوا مجدي والآيات التي أظهرت لهم بمصر والفضاء، وجربوني عشر مرات، ولم يطيعوني ولم يقبلوا قولي، لا يعاينون الأرض التي أقسمت لآبائهم أني أعطيهم، ولا يدخلها أحد من الذين أغضبوني، فأقبلوا غداً وارتحلوا إلى طريق بحر سوف؛ وقال الرب: إلى متى تغفرُ هذه الجماعة الرديئة بين يدي؟ فبي أقسم أنكم تصيرون إلى ما قلتم، وكما فكرتم ذلك يصيبكم في هذه البرية، فتسقط جثثكم فيها وتبلى أجسادكم ويهلك كل عددكم وحسابكم من ابن عشرين سنة إلى فوق، لأنكم تشوشتم وتذمرتم عليّ، لا تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأنزلكم فيها، لوا يدخلها إلا كالاب بن يوفنا ويوشع بن نون، وأما مواشيكم التي قلتم: إنها تنتهب، وبنوكم الذين لا يعلمون الخير من الشر فهم يدخلون الأرض وأصيّرهم إليها وأورثهم الأرض، فأما جيفكم فتسقط وتبلى في هذه البرية.
وتمكث بنوكم يترددون في هذه المفازة أربعين سنة، يعاقبون حتى تهلك جثثكم في هذه البرية على عدد الأيام التي اجتس الجواسيس الأرض فيها، لكل يوم سنة،
83
وتعاقبون بإثمكم، لكل يوم سنة، أربعين سنة لأربعين يوماً، فتعلمون أني إنما فعلت ذلك لتذمركم بين يدي، أنا الرب قلت: كذلك أصنع بهذه الجماعة الرديئة التي اجتمعت بين يدي، تهلك في هذه البرية، يموتون كلهم، والقوم الذين أرسلهم موسى أن يجتسوا الأرض له فانقلبوا وشغبوا عليه وأفسدوا الجماعة كلها، وذلك أنهم أخبروا الشعب في أمر الأرض خبراً رديئاً، ومات القوم الذين أخبروا الخبر السوء موت الفجاءة أمام الرب، فأما يشوع وكالاب فنجوا من الموت، ولم يهلكا مع الذين استخبروا الأرض، فأخبر موسى بني إسرائيل هذه الأقوال، وجلسوا في حزن شديد وقالوا: نحن صاعدون إلى الموضع الذي أمر الرب ونقر بخطايانا، قال لهم موسى: اعلموا أنكم لا تنجحون ولا يتم أمركم، لا تصعدوا لأن الرب ليس معكم لئلا يهزمكم أعداؤكم، فإن صعدتم هزمتم وقتلتم، لأنكم أغضبتم الرب ورجعتم عن قوله، فلذلك لا يكون الرب معكم، فصعد القوم إلى رأس الجبل، فأما تابوت عهد الرب وموسى النبي فلم يبرحا من العسكر، ونزل العملقانيون الذين يسكنون ذلك الجبل وحاربوهم وهزموهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وطردوهم إلى حرما؛ وكان ذكر قبل ذلك في السفر الثاني وقبل معصيتهم في أمر الجواسيس قتالهم في رفيدين ورقيم لعماليق فقال ما نصه: وإن عماليق جاء ليقاتل بني إسرائيل برفيدين فقال موسى ليشوع:
84
اختر رجلاً من أهل الجلد والشدة واخراج بنا نقاتل عماليق غداً وأنا واقف على رأس الأكمة، وقضيب الله في يدي، فصنع يشوع كما قال له موسى فخرج إلى حرب عماليق، وصعد موسى وهارون وحور إلى رأس الجبل، وكان موسى إذا رفع يده قوى بنو إسرائيل، وإذا خفض يده قوى عماليق، فأعيت يدُ موسى فأخذ حجارة فوضعها تحته، ثم استوى عليها جالساً، وكان هارون وحور يدعمان يديه، أحدهما يميناً والآخر شمالاً حتى غربت الشمس، فهزم يشوع عماليق ومن معه وقتلوهم بحد السيف، فقال الرب لموسى: اكتب هذا الأمر في سفر الكتاب وضعه أما يشوع بن نون، لأني أمحق وأبيد ذكر عماليق من تحت السماء، فبنى للرب مذبحاً، ودعا اسمه الله علمي، ثم قال: وأرسل رسلاً من رقيم إلى ملك أدوم بأنهم نازلون في رقيم - القرية التي في حد بلاده - واستأذنه في الجواز في بلاده، فهددهم بالمقاتلة فقالوا: لا نشرب لك ماء إلا بثمن، فقال: لا تجوزوا في حدي، وخرج إليهم بجيش عظيم وسلاح شاك فصغا بنو إسرائيل عنه وظعنوا
85
من رقيم، وأتى جميع بني إسرائيل إلى هور الجبل حيث توفي هارون، ثم قال: ونزل موسى وإليعازر من الجبل، فرأت محافل بني إسرائيل كلها أن هارون قد توفي، وبكى على هارون جميع بني إسرائيل ثلاثين يوماً، وسمع الكنعاني ملك عراد الذي كان يسكن التيمن أن بني إسرائيل قد نزلوا في طريق الجواسيس فحاربهم وسبى منهم قوماً، فنذر بنو إسرائيل نذراًَ للرب وقالوا: إن أنت دفعت إلينا هذا الشعب يا رب وقويتنا عليه جعلنا قراهم حريمة للرب، فسمع الرب أصوات بني إسرائيل ودفع إليهم الكنعانيين وقوّاهم عليهم، وهزموهم وقتلوهم وجعلوا قراهم حريمة للرب ودعوا اسم تلك البلاد حريمة، فظعن الشعب من هور الجبل في طريق بحر سوف ليدوروا حول أرض أدوم، ففزعت أنفس الشعب من شدة الطريق وكلّت، وتذمر الشعب على الله وعلى موسى وقالوا: لِمَ أصعدتنا من مصر؟ لتميتنا في موضع ليس فيه خبز ولا ماء، قد ضاقت أنفسنا من قلة الطعام، فسلط الله عليهم حيات فنهشت قوماً من الشعب ومات منهم كثير، فاجتمعوا إلى موسى وقالوا: قد أخطأنا إذ تذمرنا على الله وعليك، صل أمام الرب لتنصرف عنا الحيات، فصلى موسى فقال الرب له: اتخذ حية من نحاس مثال الحية وارفعها على خشبة علامة، ومن نهشته حية ينظر إلى الحية المعلقة
86
فيبرأ، ففعل ذلك، فطعن بنو إسرائيل فنزلوا أبوت، ثم ارتحلوا من أبوت ونزلوا على عين العبرانيين التي في البرية أمام أرض موآب في الجانب الشرقي وحيث مشارق الشمس، ثم ظعنوا من هناك ونزلوا وادي زرود، وارتحلوا من هناك ونزلوا عبر أرنون في البرية أمام أرض موآب في الجانبين التي تخرج من حد الأمورانيين وهي في حد الموآبيين، ولذلك يقال في كتاب حروب الرب: واهب في سوفة ووادي أرنون ومصب الأودية المائلة إلى سكان عار التي تنتهي إلى حد الموآبيين؛ ثم أرسل بنو إسرائيل رسلاً إلى سيحون ملك الأمورانيين وقالوا له: نجوز في أرضك من غير أن نطأ لك حقلاً ولا كرماً، ولا نشرب من ماء جناتك، ولكن نلزم الطريق الأعظم حتى نجوز أرضك، فأبى سيحون وجمع جميع أجناده وخرج إلى البرية وحارب بني إسرائيل، فقتل بنو إسرائيل سيحون وأصحابه وورثوا أرضه، وصعدوا إلى أرض متنين، وخرج عوج ملك متنين
87
إليهم هو وأجناده ليحاربهم في أدرعى، وقال الرب لموسى: لا تخفه لأني دافعة في يدك وأصيّر جميع شعبه وأرضه في يدك، فاصنع به كما صنعت بسيحون ملك الأمورانيين، فلما حاربوه قتل هو وبنوه وجميع شعبه ولم يبق منهم أحد، فظعن بنو إسرائيل ونزلوا عربات موآب التي عند أردن إريحا؛ ثم ذكر قصة بلعام بن باعور وغيرها وقال: ثم قال الرب لموسى: اصعد إلى هذا الجبل جبل العبرانيين، وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل، فإذا نظرت إليها اجتمع معك شعبك، وصر إلى ما صار إليه آباؤك كما صار [إليه] هارون أخوك، فتكلم موسى أمام الرب وقال: يأمر الله رجلاً يريد الجماعة ويدخل ويخرج أمامهم، ويدخلهم ويخرجهم لكيلا تكون جماعة الرب كالغنم التي ليس لها راعٍ، فقال الرب لموسى: اعمد إلى يشوع بن نون - رجل عليه من الروح نعمة - فضع يدك عليه، وأقمه بين يدي إليعازر الحبر أمام الجماعة كلها ومن تجاههم قبلاً، وأعطه من المجد الذي عليك، فتطيعه جماعة بني إسرائيل كلها، ويقوم بين يدي إليعازر الحبر ليكون يسأل الرب عن حوائجه وسننه، ويحفظ بنو إسرائيل قوله،
88
وعن قوله يخرجون وعن قوله يدخلون، وفعل موسى كالذي أمره الله في يوشع وغيره - ثم ذكره أشياء من القرابين والأعياد وفتح مدين وبقية قصة بلعام وغير ذلك ثم قال: وكثرت مواشي بني روبيل وبني جاد جداً، ونظروا إلى يعزير وأرض جلعاد أنه موضع يصلح للمواشي فقالوا لموسى: إن نحن ظفرنا منك برحمة ورأفة تعطي هذه الأرض لعبيدك ميراثاً ولا تجزنا نهر الأردن، فقال موسى: إخوتكم يخرجون إلى الحرب وأنتم تستقرون هاهنا؟ لِمَ تكسرون قلوب إخوتكم أن لا يجوزوا إلى الأرض التي يعطيهم الرب ميراثاً! هكذا صنع أيضاً آباؤكم فاشتد غضب الرب عليهم، وأقسم أنه لا يعاين أحد منهم الأرض التي وعدت بها آباءهم، لأنهم لم يتموا قولي ولم يتبعوا وصيتي ما خلا كالاب بن يوفنا القنزابي ويشوع بن نون، إنهما أتما قول الرب فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل وتَوَّههُمْ في البرية أربعين سنة حتى هلك حقب الرجال الذين أسخطوا الرب، وأنتم اليوم أيضاً تريدون أن ينزل غضب الرب ببني إسرائيل، وإن أنتم انقلبتم عن أمر الرب أيضاً يعود أن يُتَوِّهَكم في التيه، فتفسدون على جميع هذا الشعب،
89
فدنا منه القوم وقالوا: نبني هاهنا قرى لعيالاتنا وحظائر لأنعامنا، ونحن نتسلح أمام بني إسرائيل حتى ندخلهم إلى مواضعهم ولا نرجع إلى بيوتنا حتى يرث بنو إسرائيل كل إنسان ميراثه، ولا نرث معهم من عبر الأردن وما خلف ذلك، لأنا قد قبضنا ميراثنا في مجاز الأردن في مشارق الشمس، فقال لهم موسى: إذا أنتم فعلتم هذا الفعل وتسلحتم أمام ربكم، حينئذ ترجعون وتستجلبون أرضكم ويرضى بنو إسرائيل عنكم، وتصير هذه الأرض لكم ميراثاً، وإن لم تفعلوا هذا تصيروا أمام الرب خطأة، واعلموا أن خطاياكم تدرككم، ثم قال: وهذه خطأ عن بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر - فذكر ما تقدم في البقرة، ثم قال: وارتحلوا من مقبرة الشهوة ونزلوا حضروت، وظعنوا من حضروت ونزلوا رثما، وارتحلوا من رثما ونزلوا رمّون فرص، وظعنوا من رمّون فرص ونزلوا لبنا - وفي نسخة: لبونا -
90
وارتحلوا من لبنا ونزلوا أراسيا - وفي نسخة: رسا - وظعنوا من أراسيا أو رسا ونزلوا قهاث - وفي نسخة: بقهالاث - وارتحلوا من قهاث ونزلوا جبل شافار - وفي نسخة: شافر - وارتحلوا من جبل شافار ونزلوا حرادة - وفي نسخة: حرذا - وارتحلوا من حرادة - وفي نسخة: حارذا - ونزلوا مقهلوث - وفي نسخة: مهقلوث - وظعنوا من مقهلوث نزلوا تحاث - وارتحلوا من تحاث ونزلوا ترح، وارتحلوا من ترح ونزلوا مثقا، وارتحلوا من مثقا ونزلوا حشمونا، وظعنوا من حشمونا ونزلوا مسروت، وارتحلوا من مسروت ونزلوا بحيّ بني يعقان، وظعنوا من حيّ بني يعقان ونزلوا جبل جدجاد، وارتحلوا من جدجاد ونزلوا يطبث - وفي نسخة: يطباثا - وظعنوا من يطبث ونزلوا عجرونا - وفي نسخة: عبرونا - وارتحلوا من عجرونا ونزلوا عصيون جابر وهي قلزم، ورحلوا من عصيون جابر ونزلوا بَرَّصين - وفي نسخة: برية صين المعروفة بقداش - وهي رقيم، وظعنوا من قداش ونزلوا هور الجبل الذي في أقاصي
91
أرض أدوم - وفي نسخة: وظعنوا من برية صين فنزلوا في قفر فاران وهي القدس، وارتحلوا من القدس فنزلوا في جبل هور بحذاء أرض أدوم وهي الروم - وصعد هارون الحبر عن قول الله إلى هور الجبل، وتوفي هناك في سنة أربعين بخروج بني إسرائيل من أرض مصر في الشهر الأول أول يوم منه، وقد كان أتى على هارون يوم توفي مائة وثلاث وعشرون سنة، وبلغ الكنعاني ملك حديا الساكن بالتيمن في أرض كنعان - وفي نسخة: عراد الساكن في الداروم في بلد ماءب - أن بني إسرائيل أتوا حده، فينون من هور الجبل ونزلوا صلمونا، وارتحلوا من صلمونا ونزلوا فينون وظعنوا من فينون ونزلوا أبوث - وفي نسخة: أباث - وارتحلوا من أبوث ونزلوا العين المعروفة بالعبرانيين على حد موآب - وفي نسخة: ونزلوا عايا في العين على تخوم موآب - وارتحلوا من عايا فنزلوا جاد - وفي نسخة: ورحلوا من عين العبرانيين ونزلوا ديبون قرية جاد - وارتحلوا من قرية جاد ونزلوا علمون التي دبلثيم - وفي نسخة: دبلاثيم - وظعنوا من
92
علمون التي دبلثيم - وفي نسخة: دبلاثيم - فنزلوا جبل العبرانيين الذي أمام نابو، وارتحلوا من جبل العبرانيين ونزلوا عربة موآب التي بأردن يريحا - وفي نسخة: ونزلوا مغارب موآب على الأردن قبالة يريحا - ونزلوا على شاطىء الأردن من عند أشيموت إلى آبل شاطيم التي عند عربة موآب - وفي نسخة: قبالة مغارب موآب.
وكلم الرب موسى على مغارب موآب عند الأردن قبالة يريحا فقال: كلم بني إسرائيل وقل لهم: أنتم جائزون الأردن إلى أرض كنعان لتهلكوا جميع سكان الأرض، وتحرقوا بيوت أصنامهم المسبوكة، وتقلعوا مذابحهم كلها، وتصير الأرض إليكم وترثونها، فاقسموها لعشائركم سهاماً، وصيروا الكثير على قدر كثرتهم، والقليل على قدر قلتهم، وكل قبيلة على ما يرتفع السهم بها وتصيبها القرعة، وإن لم تهلكوا سكان الأرض من بين أيديكم فالذين يبقون منهم يكونون أسنة في أعينكم وسهاماً في أصداغكم، ويضيّقون عليكم في الأرض التي تسكنونها، وكما رأيت أن أصنع بهم كذلك أصنع بكم، فهكذا اقسموا الأرض في مواريثكم: أرض كنعان بحدودها،
93
فأما حد التيمن فيكون لكم من ساحل البحر الملح من ناحية المشرق، ويدور حدكم من التيمن إلى عقبة عقربيم ويجوز إلى صين، وتكون مخارجه من التيمن إلى رقيم الجائي، ويخرج من هناك إلى حصر إدار - وفي نسخة: إلى رفح - ويجوز إلى عصمون إلى وادي مصر، وتكون مخارجه إلى ناحية البحر ويكون حد البحر حدكم والبحر الأعظم بحدوده، هذا حدكم من ناحية البحر وأما حدكم مما يلي الجربيا - وفي نسخة: الشمال - فيكون من البحر الأعظم إلى هور الجبل، وحدود ذلك من الجبل إلى مدخل حماة، وتكون مخارج الجبل إلى صدد، ويخرج الحد إلى زفرون، وتكون مخارجه إلى حصر عينن، هذه حدودكم من ناحية الجربيا، وأما حدودكم من ناحية المشرق فحدوده من حصر عينن إلى شافم، وينزل الحد نم شافمم إلى ربلة إلى مشارق غاب، حتى ينتهي إلى بحر كنرت - وفي نسخة: البحيرة الميتة - من مشارقه، ويدور حتى ينزل إلى حد الأردن، وتكون مخارجه إلى بحر الملح، هذه حدود الأرض التي ترثونها كما تدور ثم ذكر القسمة وشيئاً من الأحكام، ثم قال في أول السفر الخامس: هذه الآيات والأقوال التي قال موسى لبني إسرائيل عند مجاز الأردن في البرية في عرابا - وفي نسخة: البيداء وهو الجانب الغربي -
94
حيال سوف بين فاران وبين تفال ولبان وحضروت وذي ذهب - وفي نسخة: ودار الذهب وهو إشارة إلى الموضع الذي عبدوا فيه العجل - مسير أحد عشر يوماً من حوريب إلى ساعير وإلى رقام الجائي.
لما كان في سنة أربعين من خروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الحادي عشر في أول يوم منه كلم موسى بني إسرائيل وأمرهم بعد قتلهم سيحون ملك الأمورانيين وعوج ملك متنين في مجاز الأردن في أرض موآب، قال: إن الله قال لنا في حوريب: قد طال مكثكم في هذا الجبل، انهضوا فارتحلوا من هاهنا وادخلوا جبل الأمورانيين وكل ما حوله إلى القرى والجبل وإلى ساحل البحر أسفل الجبال، والتيمن أرض الكنعانيين، ولبنان إلى النهر الكبير الذي هو الفرات، ادخلوا ورثوا الأرض التي وعد الله آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم، ويورثها نسلهم من بعدهم، ثم قال: وأمرتكم في ذلك الزمان بما ينبغي أن تصنعوا، وارتحلنا من حوريب وسرنا في البرية العظيمة المرهوبة كما أمرنا الله ربنا، وانتهينا إلى رقيم الجائي، وقلت لكم:
95
قد انتهيتم إلى جبل الأمورانيين الذي أعطانا الله ربنا، اصعدوا ورثوا الأرض كما قال لكم الله رب آبائكم، لا تخافوا ولا تفزعوا، وتقدمتم إليّ بأجمعكم وقلتم: نرسل بين أيدينا رجالاً يتجسسون لنا الأرض ويخبرونا بخبرها ويدلّونا على الطريق الذي نسير فيه والقرى التي ندخلها؛ فكان قولكم عندي حسناً، وعمدت إلى اثني عشر رجلاً منكم، من كل سبط منكم رجل، وأرسلتهم، وصعدوا إلى الجبل حتى انتهوا إلى وادي العنقود، واستخبروا الأرض وأخذوا من ثمار الأرض وأتوا به وأخبرونا وقالوا لنا: ما أخصب الأرض التي يعطينا الله ربناَ! ولم يعجبكم أن تصعدوا، ولكن اجتنبتم قول الله ربكم وأغضبتموه وتوشوشتم في خيمتكم وقلتم: لبغض الرب أخرجنا من أرض مصر ليدفعنا في أيدي الأمورانيين ليهلكونا، إلى أين نصعد! إخوتنا كسروا قلوبنا وقالوا: الشعب أعظم وأعزّ منا وأقوى، وقراهم عظيمة مشيدة إلى السماء، ورأينا هناك أبناء جبابرة، وقلت لكم: لا تخافوا ولا تفزعوا منهم، من أجل أن الله ربكم هو يسير أمامكم، وهو يجاهد عنكم كما صنع بكم في أرض مصر وفي البرية.
كما رأيتم أنه فداكم كما يفدي الوالد ولده في كل الأرض التي سلكتموها حتى انتهيتم إلى هذه البلاد،
96
وبهذا القول لم تصدقوا أن الله ربكم يكمل لديكم أنه يسير أمامكم في الطريق ليهيىء لكم موضعاً تسكنون فيه، أليس هو الذي أراكم طريقاً تسلكون فيه بالليل بالنار، وستركم بالنهار من حر الشمس بالغمام، وسمع الرب كلامكم وأصواتكم وغضب وأقسم وقال: لا يعاين أحد من هؤلاء القوم - أهل هذا الحقب الرديء - الأرض المخصبة التي أقسمت أن أعطي آباءهم غير كالاب بن يوفنا، إني أدفع إليه الأرض التي مشى فيها وأورثها ولده، لأنه أتم قول الرب وأكمل سنته، وقال لي: وأنت أيضاً لا تدخلها، ولكن يشوع بن نون الذي يخدمك هو يدخل هناك، إياه قوِّ وأيد، لأنه هو الذي يورث بني إسرائيل الأرض المخصبة التي وعدت بها آباءهم أن أعطيهم، وأما مواشيكم التي قلتم: إنها تنتهب، وبنوكم الذين لا يعلمون الخير من الشر، فهم يدخلون هناك، وإليهم أدفعها وهم يرثونها، فأما أنتم فاقبلوا وارتحلوا إلى البرية في طريق بحر سوف، فرددتم عليّ وقلتم: أسأنا وأجرمنا بين يدي الله ربنا، نحن صاعدون ومجاهدون كما قال لنا، وتسلح كل امرىء منكم بسلاحه، وتهيأتم للصعود إلى الجبل، وقال الرب لي: أنذرهم وقل لهم: لا تصعدوا ولا تجاهدوا، لأني لست بينكم، لئلا يهزمكم أعداؤكم، وقلت ولم تقبلوا، اجتنبتم قول الرب وأغضبتموه وجسرتم وطلعتم إلى الجبل، فخرج الأموريون الساكنون
97
في ذلك الجبل للقائكم وطردوكم كما تطرد الزنابير بالدخان، ودفعوكم من ساعير إلى حرما، وجلستم وبكيتم ولم يسمع الرب أصواتكم، فبكيتم أمام الرب في رقام أياماً كثيرة ما مكثتم فيها، فأقبلنا فارتحلنا في البرية في طريق بحر سوف كما قال الرب، وترددنا حول جبل ساعير أياماً كثيرة، وقال لي الرب: قد طال ترددكم حول هذا الجبل اقبلوا إلى الجانب الجربي، فتقدم إلى الشعب وقل لهم: أنتم تجوزون في حد إخوتكم بني عاسو - وفي نسخة: عيصو - الذين يسكنون ساعير، فاحفظوا أن لا تولعوا بهم.
لأني لست أعطيكم من أرضهم ميراثاً ولا موضع قدم، ابتاعوا منهم طعاماً لمأكلكم وامتاروا منهم ماء بفضة لمشربكم، وليبارك الله ربكم عليكم ويبارك لكم في كل ما عملت أيديكم، كما علم أن يسوسكم في هذه البرية أربعين سنة، الله ربكم ما دام معكم لا يعوز بكم شيء، وجزنا طريق العربة - وفي نسخة: البيداء - وأيلة، وأقبلنا وجزنا في البرية إلى طريق موآب، وقال لي الرب: لا تضيق على الموآبيين ولا تحاربهم، لأني لست أعطيك من أرضهم ميراثاً، بل قد جعلت هذه
98
الأرض ميراثاً لبني لوط هذه التي سكنها إمتى أولاً، شعباً كان عظيماً، كان الموآبيون يسمونهم إمتى، فأما ساعير فكان سكانها الحورانيين أولاً وورثها بنو عاسو، فقوموا الآن فجوزوا وادي زرد، فجزنا وادي زرد حينئذ، وكان عدد الأيام التي سرنا من رقيم إلى أن جزنا وادي زرد ثماني وثلاثين سنة، حتى هلك جميع الرجال الأبطال أهل ذلك الحقب من عسكر بني إسرائيل كما أقسم عليهم الرب، لأن يد الرب كانت عليهم حتى هلكوا، فلما ماتوا من الشعب كلمني الرب وقال لي: أنت جائز اليوم إلى حد موآب، وتدنو من حد بني عمون فلا تتعرض لهم، لست أعطيك ميراثاً من أرض بني عمون، لأني قد جعلتها ميراثاً لبني لوط، فقم وارتحل وجز وادي أرنون، إني قد دفعت إليك سيحون ملك الأمورانيين فحاربه وأهلك أصحابه، فإني أبدأ فألقي خوفك وفزعك على الناس منذ يومك هذا، وعلى جميع الشعوب التي تحت السماء، حتى إذا سمعوا بخبرك فرقوا وفزعوا منك، وأرسلت رسلاً من برية قدموت إلى سيحون ملك حجبون بكلام طيب وبالسلام، وقلت له: نجوز في أرضك ونسير في الطريق الأعظم، لا نميل يمنة ولا يسرة نمتار منكم طعاماً بفضة لمأكلنا، وكذلك نبتاع ماء لمشربنا بثمن، فدعونا نجز
99
سائرين في الطريق كما صنع بنا بنو عاسو الذين في ساعير، والموآبيون الذي في عار، حتى يجوز في الأردن إلى الأرض التي يعطينا الله ربنا، لوم يسرَّ سيحون ملك حجبون أن نجوز في حده، لأن الله ربكم قسّى قلبه وعظم روحه ليدفعه في أيديكم، وخرج إلينا هو وجميع أجناده ليحاربونا في ياهاص، فدفعه الرب إلينا وقتلناه هو وجميع أجناده وفتحنا قراه وأهلكنا كل من كان في قراه، ولم يبق منهم أحد، وأهلكنا نساءهم وعيالاتهم، ولم يبق منهم أحد من حد عروعير التي على حد وادي أرنون، والقرية التي في الوادي وإلى جلعاد لم تفتنا قرية، بل دفعها الله ربنا في أيدينا جميعاً، فأما أرض بني عمون فلم نقربها، وكل ما كان على وادي يبوق وقرى الجبال أيضاً، وكل ما أمرنا الله ربنا به، ثم أقبلنا وصعدنا إلى أرض متنين، وخرج إلينا عوج ملك متنين هو وكل شيعته ليحاربنا في أدرعى، وقال لي الرب: لا تفرق فإني قد دفعته في يديك، وأسلمت إليك كل أجناده وأرضه، وقتلناهم ولم يبق منهم أحد، وظفرنا بكل قراه في ذلك الزمان، ولم تفتنا قرية إلا أخذناها منهم ستين قرية، كل جبل أرجوب، كل القرى التي كانت أسوارها
100
مشيدة محصنة بالأبواب الشديدة الموثقة، وأحرمناهن كما صنعنا بسيحون وأخذنا الأرض في ذلك الزمان من ملكي الأمورانيين اللذين كانا عند مجاز الأردن من وادي أرنون إلى جبل حرمون، فأما الصيدانيون فكانوا يدعون حرمون سريون، وأما الأمورانيون فكانوا يسمونها سنير، وأخذنا كل القرى التي كانت في الصحراء وكل جلعاد وكل متنين إلى سلكة وأدرعى، جميع قرى ملك عوج، لأن عوجاً كان الجبار الذي بقي وحده من الجبابرة، وكان سريره من حديد، وفي مدينة بني عمون التي تسمى ربة، طوله تسع أذرع وعرضه أربع أذرع بذراع الجبابرة، وورثنا هذه الأرض في ذلك الزمان؛ ثم قال: أمرت يشوع في ذلك الزمان وقلت: قد رأيت بعينيك ما صنع الله ربكم بملكي الأمورانيين، كذلك يصنع الرب بجميع المملكات التي تجوز إليها، لأن الله ربكم هو يجاهد عنكم، وتضرعت إلى الرب في ذلك الزمان وقلت: أطلب إليك يا ربي وإلهي أن تظهر لعبدك عظمتك بيدك المنيعة وبذراعك العظيمة، أيّ إله في السماء أو في الأرض يعمل مثل أعمالك وجرائحك! أتأذن
101
لي الآن فأعبر وأعاين الأرض المخصبة التي في مجاز الأردن، هذا الجبل المخصب ولبنان، ولم يتسجب لي وقال لي الرب: حسبك! لا تعد أن تقول هذا القول بين يدي، اصعد رأس الأكمة وارفع عينيك إلى المغرب والمشرق وإلى الجربي والتيمن، وانظر إليها نظراً ولا تجز هذا الأردن، ومر يشوع وتقدم إليه وقوِّه وأيده، لأنه هو الذي يجوز أمام هذا الشعب وهو الذي يورثهم الأرض التي تراها، ونزلنا الوادي حيال بيت فغور: ثم قال: وأقسم - أي الرب -أني لا أجوز هذا الأردن ولا أدخل إلى الأرض التي أعطاكم الله ربكم ميراثاً، فأنا الآن متوفٍ في هذه الأرض، ولا أجوز هذا الأردن، فأما أنتم فتجوزون وترثون هذه الأرض المخصبة، احفظوا لا تنسوا عهد ربكم الذي عاهدكم، ولا تفسدوا وتتخذوا أصناماً وأشباهاً، من أجل أن الله ربكم هو نار محرقة وهو إله غيور، وإذا ولد لكم بنون وبنو بنين وعتقتم في الأرض.
واتخذتم أصناماً وأشباهاً وارتكبتم الشر أمام الله ربكم وأغضبتموه قد أشهد عليكم السماء والأرض أنكم تهلكون سريعاً من الأرض التي تجوزون لترثوها، ولا تكثر أيامكم فيها، ويبددكم الرب من بين الشعوب ويبقي منكم عدد قليل بين الشعوب
102
التي يفرقكم الرب فيها، سلوا عن الأيام الأولى التي مضت قبلكم منذ يوم خلق الله الناس على الأرض من أقصى السماء إلى أقطارها، هل كان مثل هذا الأمر العظيم أو سمع بمثله قط؟ هل سمع شعب آخر صوت الله يكلمه من النار كما سمعتم أنتم، وجربوا الله الذي اتخذهم شعباً من الشعوب بالبلايا والآيات والأعاجيب والحروب واليد المنيعة والذراع العظيمة وبالمناظر العظيمة، كما صنع الله بأهل مصر تجاهكم أنتم وعاينتم وعلمتم أن الله هو رب كل شيء وليس إله غيره، أسمعكم صوته من السماء ليعلمكم وأراكم ناره العظيمة، وسمعتم أقاويله من النار، ولحبه لآبائكم اختار نسلهم من بعدهم، وأخرجكم بوجهه من مصر بقوته العظيمة، ليهلك من بين أيديكم شعوباً أعظم وأعزّ منكم ليدخلكم ويعطيكم أرضهم ميراثاً، لتعلموا يومكم هذا وتقبلوا بقلوبكم لأن الرب هو إله في السماء فوق وفي الأرض أسفل، وليس إله سواه، احفظوا سننه ووصاياه التي أمركم بها يومكم هذا لينعم عليكم وعلى أبنائكم من بعدكم ويطول مكثكم في الأرض التي يعطيكم الله ربكم طول الأيام.
هذه الشهادات والأحكام التي قص موسى على بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر، فانتهوا إلى مجاز الأردن في الوادي في مشارق الشمس، وإلى بحر العربة إلى سدود الفسجة، ثم قال بعد ذلك في أواخر هذا السفر بعد أن قص عليهم
103
أحكاماً كثيرة وحِكَما عزيزة: الرب يقبل بكم إلى الخير ويفرحكم كما فرح آباؤكم، وذلك إن أنتم سمعتم قول الله ربكم وحفظتم سننه ووصاياه المكتوبة في هذا الكتاب من كل قلوبكم وأنفسكم، من أجل أن هذه الوصية لم تخف عليكم ولم تغب، وليس هو بمستور في السماء فتقولوا: من يصعد لنا إلى السماء ويأتينا به فنسمعه ونعمل به! وليس بغائب عنكم في أقصى البحر فتقولوا: من ينزل لنا إلى البحر ويأتينا به فنسمعه ونعمل به! ولكن القول قريب من فمك وقلبك فاعمل به، وانظر أني قد صيّرت بين يديك اليوم الحياة والخير، فأخبرتك بالموت والشر، وأنا آمرك اليوم أن تحب الله ربك وتسلك في طرقه وتحفظ سننه ووصاياه وأحكامه، لتحيى وتكثر جداً، ويبارك الله ربك عليك، وينميك في الأرض التي تدخلها لترثها، وإن مال قلبك وزاغ ولم تسمع وضللت وتبعت الآلهة الأخرى وسجدت لها فقد بينت لكم اليوم أنكم تهلكون هلاكاً، ولا يطول مكثكم في الأرض التي تجوزون الأردن لترثوها، وأوعزت إليكم وناشدتكم السماء والأرض والحياة والموت - وفي نسخة: وأشهدت عليكم السماء والأرض وجعلت بين يديكم الحياة والموت - وتلوت
104
عليكم اللعن والدعاء، فاختر الحياة لتحيى أنت ونسلك إذا أحببت الله ربك وسمعت قوله ولحقت بعبادته، لأنه حياتك وطول عمرك، وتسكن في الأرض التي أقسم الرب لآبائك ووعد إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك؛ ثم انطلق موسى وكلم بني إسرائيل وقص عليهم هذه الأقوال كلها وقال لهم: اليوم مائة وعشرون سنة، ولست أقدر على الدخول والخروج أيضاً، والرب قال: إنك لا تجوز هذا الأردن، فالله ربكم هو يجوز أمامكم، وهو يهلك هذه الشعوب من بين أيديكم وترثونهم، ويشوع هو يجوز أمامكم كما قال الرب، وسيصنع بهم الرب كما صنع بسيحون وعوج ملكي الأمورانيين اللذين أهلكهما، ويهزمهم الله ربكم من بين أيديكم، فاصنعوا بهم حينئذ ما أمرتكم به، فتقوّوا واعتزوا ولا تخافوا ولا تفزعوا، ولا ترعب قلوبكم منهم، لأن الله ربكم سائر أمامكم، لا يخذلكم ولا يرفضكم؛ ودعا موسى يشوع بن نون وقال له بين يدي جماعة بني إسرائيل: تقّو واعتز، لأنك أنت الذي تدخل هذا الشعب الأرض التي أقسم الله لآبائهم أن يعطيهم، وأنت تورثها أبناءهم، والرب هو يسير أمامكم وهو يكون معك ولا يخذلك ولا يرفضك، فلا تخف ولا تفزع ولا يرعب قلبك؛ وكتب موسى هذه التوراة وسننها ودفعها إلى الأحبار بني لاوي الذين يحملون
105
تابوت عهد الرب وإلى جميع أشياخ بني إسرائيل؛ ثم قال: وكلم الرب موسى في ذلك اليوم وقال له: اصعد إلى جبل العبرانيين هذا جبل نابو الذي في أرض موآب حيال يريحا وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ميراثاً، ولتتوفّ هناك في الجبل الذي تصعد إليه واجتمع إلى آبائك، كما توفي أخوك هارون في الجبل وصار إلى قومه، ثم قال في آخر هذا السفر وهو آخر التوراة: فطلع موسى من عربوب - وفي نسخة: من بيداء موآب - إلى جبل نبو إلى رأس الأكمة التي قبالة وجه إريحا، وأراه الله جميع جلعد إلى دان وجميع أرض نفتالي وجميع أرض إفرائيم ومنشا، وجميع أرض يهودا إلى آخر البحر والبرية وما حول بقعة بلد إريحا مدينة النخل إلى صاغر، فقال الرب لموسى: إن هذه هي في الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وقلت: إني لنسلكم أعطيها، قد أريتكها بعينيك، فأما أنت فما تدخلها، وقضى عبد الله موسى بأرض موآب بأمر الرب، فدفن - يعني في أرض موآب - حذاء بيت فاغور، ولم يعرف
106
أحد أين قضى إلى يومنا هذا، وكان موسى وقت قضى ابن مائة وعشرين سنة، لم يضعف بصره ولم يشخ جداً؛ فناح بنو إسرائيل على موسى بعربوب - وفي نسخه: في بيداء موآب - ثلاثين يوماً، وتمت أيام بكاء مأتم موسى؛ وامتلأ يشوع بن نون روَح الحكمة، لأن موسى وضع عليه يده، وأطاع له بنو إسرائيل وامتثلوا ما أمر الرب به موسى - انتهى ما أردته من أخبار التيه وما يتصل بذلك من مساواتهم لجميع الناس في العذاب بالمعاصي والإلطاف بالطاعات، الهادم لكونهم أبناء وأحباء.
وفيه مما يحتاج إلى تفسير: الجربي، وهو نسبة إلى الجربياء - بكسر الجيم والموحدة، بينهما مهملة ساكنة ثم تحتانية ممدودة، وهي جهة الشمال، والتيمنُ - بفتح الفوقانية وإسكان التحتانية وضم الميم، وهو أفق اليمن الذي يقابل الشمال فالمراد الجنوب، وفيه قاصمة لهم من إنكار النسخ في أمرهم بنص التوراة بالدخول إلى يبت المقدس ثم نهيهم عن ذلك لما عصوا، فإنه قال: اصعدوا ورثوا الأرض كما قال لكم الله رب آبائكم، لا تخافوا ولا تفزغوا، ولما عصوا هذا الأمر وأعلمهم موسى عليه السلام عليه السلام بغضب الله عليهم وعقوبته بالتيه أرادوا امتثال الأمر في الصعود توبة، فقال لهم موسى عليه السلام: وقال لي الرب: أنذرهم وقل لهم: لا تصعدوا
107
ولا تجاهدوا لأني لست بينكم، لئلا يهزمكم أعداؤكم - هذا نصه فراجعه. وأما دخول أبنائهم إلى بلاد القدس وغلبتهم على أهلها وتبسطهم في أرضها تصديقاً لمواعد الله على يد يشوع بن نون عليه السلام فسيذكر إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى في سورة يونس عليه السلام: ﴿ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق﴾ [يونس: ٩٣]، ولكن أقدم هنا من أمر يوشع بعد موسى عليهما السلام - والمعونة بالله - ما يبنى عليه بعض مناسبات الآية التي بعدها، قال البغوي: فتوجه - يعني يوشع - ببني إسرائيل إلى إريحا ومعه تابوت الميثاق، فأحاط بها ستة أشهر، ثم نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة ودخلوا، فقاتلوا الجبارين فقتلوهم، وكان القتال في يوم الجمعة، فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال: اللهم أردد الشمس عليّ! فردت عليه وزيد في النهار ساعة، ثم قتلهم أجمعين، وتبع ملوك الشام واستباح منهم واحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام وفرق عماله في نواحيها، وجمع الغنائم فلم تنزل النار، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك، فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلمّ ما عندك! فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر، فجعله في القربان وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان - انتهى. ورأيت أنا في تاريخ نبوة يوشع بعد موت موسى عليهما السلام ما ربما يخالف هذا في الأشهر والبلد، أما الأشهر فجعلها سبعة أيام، وأما البلدة التي وقفت عندها الشمس فجبعون لا إريحا، فإنه قال ما نصه: قال الرب ليشوع: انظر، إني قد دفعت في يدك إريحا وملكها وكل أجنادها، فليُحِطْ بالمدينة جميع الرجال المقاتلة، ودوروا حول المدينة في اليوم مرة، وافعلوا ذلك في ستة أيام، ويحمل سبعة من الكهنة سبعة أبواق ويهتفون أمام التابوت، حتى إذا كان اليوم السابع دوروا حول المدينة سبع مرات، ويهتف الكهنة بالقرون، وإذا هتفت الأبواق وسمعتم أصواتها يهتف جميع الشعب بأعلى أصواتهم صوتاً شديداً، فيقع سور المدينة مكانه، ويصعد الشعب كل إنسان حياله - انتهى.
108
ثم ذكر امتثالهم لأمر الله وفتحهم لإريحا على ما قال الله، وأما البلدة التي ردَّت فيها الشمس فهي جبعون، وذلك أنه ذكر بعد فتح إريحا هذه أن سكون جعبون وهم الحاوانيون صالحوا يوشع بحيلة فعلوها، ثم قال: وهذه أسماء قراهم: جبعون والكفيرة وبيروت ويعاريم، فلما سمع بذلك أدونصداق ملك أورشليم فرق فرقاً شديداً، لأن جبعون كانت مدينة عظيمة كمثل مدن الملك، وكان أهلها رجالاً جبابرة، فأرسل إلى هوهم ملك حبران -
109
وفي موضع آخر: حبرون - وإلى فرآم ملك يرموث، وإلى يافع ملك لخيس، وإلى دابير ملك عقلون - وقال لي بعض اليهود: إن المراد بهذه عجلون - وقال لهم: اصعدوا لتعينوني على محاربة أهل جبعون، لأنهم قد صالحوا يشوع، فاجتمع الخمسة من ملوك الأمورانيين وجميع عساكرهم فنزلوا على جبعون، فأرسل أهل جبعون إلى يشوع فصعد يشوع من الجلجال هو وجميع أبطال الشعب، فأوحى الرب إلى يشوع: لا تخف ولا تفزع منهم، لأني قد أسلمتهم في يدك، فأتاهم بغتة، لأنه صعد من الجلجال الليل أجمع، فهزمهم الرب بين يدي آل إسرائيل وجرحوا منهم جرحى كثيرة في جبعون التي بحوران، وهربوا في طريق عقبة حوران ولم يزالوا يقتلون منهم إلى عزيقة ومقيدة، فلما هرب الذين بقوا منهم ونزلوا عقبة حوران أمطر الرب عليهم حجارة برد كبار من السماء إلى عزيقة وماتوا كلهم، فكان الذين ماتوا بحجارة البرد أكثر من الذين قتلوا، ثم قام يشوع أمام الرب مصلياً في اليوم الذي دفع الرب الأمورانيين في يدي بني إسرائيل وقال: أيتها الشمس! امكثي في جبعون ولا تسيري، وأنت أيها القمر! لا تبرح قاعَ أيلون،
110
فثبتت الشمس وقام القمر حتى انتقم الشعب من أعدائهم؛ فكتبت هذه الأعجوبة في سفر التسابيح، لأن الشمس وقفت في وسط السماء ولم تزل إلى الغروب، وصار النهار يوماً تاماً، ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده - انتهى. وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه القصة، روى الشيخان: البخاري في الخمس والنكاح، ومسلم في المغازي عن أبي هريرة رضي الله عنه قالك «قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولمّا يبن بها، ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزا فدنا من القرية صلاةَ العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا! فحبست حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم، فجاءت - يعني النار - لتأكلها فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولاً، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى بعض ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا «
وفي
111
رواية المسند للحافظ نور الدين الهيثمي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشمس لم يحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس»، قال: وهو في الصحيح ولم أر فيه حصراً كما هنا؛ وفي سيرة ابن إسحاق ما ينقضه، قال: حدثنا يونس عن الأسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال: لما أسري برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبر قومه بالرفعة والعلامة عما في العير قالوا: فمتى تجيء؟ قال: يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون وقد ولى النهار ولم تجىء، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس، ولم ترد الشمس على أحد إلا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى يوشع بن نون حين قاتل الجبارين يوم الجمعة.
112
ولما كانت قصتهم هذه - في أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدسة لما فيها من نقض العهود والتبرؤ من الله والحكم عليهم بالفسق والتعذيب - ناقضة لما ادعاه اليهود من البنوة، كان ذلك كافياً في إبطال مدعى النصارى لذلك، لأنهم أبناء اليهود، وإذا بطل كون أبيك ابانً لأحد بطل أن تكون أنت ابنه، لما كان ذلك كذلك ناسب أن تعقب بقصة ابني آدم لما يذكر، فقال تعالى عاطفاً على قوله: ﴿وإذ قال موسى﴾ [المائدة: ٢٠] ﴿واتل عليهم﴾
112
أي على المدعوّين الذين من جملتهم اليهود تلاوة، وهي من أعظم الأدلة على نبوتك، لأن ذلك لا علم لك ولا لقومك به إلا من جهة الوحي ﴿نبأ ابني آدم﴾ أي خبرهما الجليل العظيم، تلاوة ملتبسة ﴿بالحق﴾ أي الخبر الذي يطابقه الواقع إذا تُعُرَّفَ من كتب الأولين وأخبار الماضين كائناً ذلك النبأ ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قربا﴾ أي ابنا آدم؛ ولما لم يتعلق الغرض في هذا المقام ببيان أيّ نوع قربا منه، قال: ﴿قرباناً﴾ أي بأن قرب كل واحد منهما شيئاً من شأنه أن يقرِّبَ إلى المطلوب مقاربتُه غاية القرب.
ولما كان المؤثر للحسد إنما هو عدم التقبل، لا بالنسبة إلى متقبل خاص، بناه للمفعول فقال: ﴿فتُقبِّل﴾ أي قبل قبولاً عظيماً ظاهراً لكل أحد ﴿من أحدهما﴾ أبهمه أيضاً لعدم الاحتياج في هذا السياق إلى تعيينه ﴿ولم يتقبل من الآخر﴾ عَلِمَا ذلك بعلامة كانت لهم في ذلك، إما أكل النار للمقبول كما قالوه أو غير ذلك؛ ومناسبتها لما قبلها من حيث إنها أيضاً ناقضة لدعواهم البنوة، لأن قابيل ممن ولد في الجنة على ما قيل، ومع ذلك فقد عذب لما نقض العهد، فانتفى أن يكون ابناً وكان هو وغيره شرعاً واحداً دائراً أمرهم في
113
العذاب والثواب على الوفاء والنقض، من وفى كان حبيباً ولياً، ومن نقض كان بغيضاً عدواً، وإذا انتفت البنوة عن ولد لآدم صفي الله مع كونه لصلبه لا واسطة بينهما ومع كونه وُلِدَ في الجنة دار الكرامة، فانتفاؤها عمن هو أسفل منه من باب الأولى، وكذا المحبة؛ ومن المناسبات أيضاً أن كفر بني إسرائيل بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو للحسد، فنبهوا بقضة ابني آدم على أن الحسد يجر إلى ما لا يرضي الله وإلى ما لا يرضاه عاقل ويكب في النار؛ ومنها أن في قصة بني إسرائيل إحجامهم عن قتال أعداء الله البعداء منهم المأمورين بقتالهم الموعودين عليه بخيري الدارين، وأن الله معهم فيه، وفي قصة ابني آدم إقبال قابيل على قتل أخيه حبيب الله المنهي عن قتله المتوعد بأن الله يتبرأ منه إن قتله، ففي ذلك تأديب لهذه الأمة عند كل إقدام وإحجام، وتذكير بالنعمة في حفظهم من مثل ذلك، وأن فيها أن موسى وهارون عليهما السلام أخوان في غاية الطواعية في أنفسهما، ورحمة كل منهما للآخر والطاعة لله، وقصة ابني آدم بخلاف ذلك، وفي ذلك تحذير مما جر إليه وهو الحسد، وأن في قصة بني إسرائيل أنهم لما قدموا الغنائم للنار فلم تأكلها، عَلِمَ نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها لم تقبل لغلول غَلّوه، فاستخرجه ووضعه فيها فأكلتها، ففي ذلك الاستدلال بعدم أكل النار على عدم القبول - كما
114
في قصة ابني آدم، وأن بني إسرائيل عذبوا بالمنع من بيت المقدس بالتيه.
وقابيل نفي من الأرض التي كان فيها مقتل أخيه، وأن بني إسرائيل تاهوا أربعين سنة على عدد الأيام التي غاب فيها نقباؤهم في جسّ أخبار الجبابرة، وأن قابيل حمل هابيل بعد أن قتله أربعين يوماً - ذكره البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقصده السباع فحمله على ظهره أربعين يوماً، وكل هذه محسنات والعمدة هو الوجه الأول وأحسن منه أن يكون الأمر لموسى عليه السلام عطفاً على النهي في لاتاس، والمعنى أن الأرض المقدسة مكتوبة لهم كما قَدمته أنت أول القصة في قولك: ﴿التي كتب الله لكم﴾ [المائدة: ٢١] فأنا مورثها لا محالة لأبنائهم وأنت متوفٍ قبل دخولها، وقد أجريت سنتي في ابني آدم بأنهم إذا توطنوا واستراحوا تحاسدوا، وإذا تحاسدوا تدابروا فقتل بعضهم بعضاً، فاتل عليهم هذه القصة لتكون زاجرة لهم من أن يفعلوا ذلك إذا فرغوا من الجبابرة وأبادوهم وصفت لهم البلاد فتوطنوها، وأخرجت لهم بركاتها فأبطرتهم النعم، ونسوا غوائل النقم؛ ويكون ذلك وعظاً لهذه الأمة ومانعاً من فعل مثل ذلك بعد إكمال دينهم ووفاة نبيهم وإظهارهم على الدين كله، كما تقدم به الوعد لهم فقهروا العباد وفتحوا البلاد وانتثلوا كنوزها
115
وتحكموا في أموالها، فنسوا ما كانوا فيه من القلة والحاجة والذلة فأبطرتهم النعم، وارتكبوا أفعال الأمم، وأعرضوا عن غوائل النقم - كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، الا والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» أخرجه الترمذي والإمام أحمد وأبو داود الطيالسي في مسنديهما والبزار - قال المندري: بإسناد جيد - والبيهقي وقال: «لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا» رواه الطبراني ورواته ثقات، وذكر الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في القسم الثاني من سيرته في فتح جلولاء من بلاد فارس أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أرسل الغنيمة إلى عمر رضي الله عنه أقسم عمر رضي الله عنه: لا يخبأها سقف بيت حتى تقسم! فوضعت في صحن المسجد، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم رضي الله عنهما يحرسانه، فلما جاء الناس كشف عنه فنظر عمر رضي الله عنه إلى ياقوتة وزبرجدة وجوهرة فبكى، فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا إلا موطن شكر! فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم.
شرحُ قصة ابني آدم من التوراة، قال المترجم في أولها بعد قصة أكل آدم
116
عليه السلام من الشجرة ما نصه: فدعا آدم اسم امرأته حواء من أجل أنها كانت أم كل حيّ، وصنع الرب لآدم وامرأته سرابيل من الجلود وألبسهما، فأرسله الله من جنة عدن ليحرث الأرض التي منها أخذ، فأخرجه الله ربنا، فجامع آدم امرأته حواء فحبلت وولدت قايين وقالت: لقد استفدت لله رجلاً، وعادت فولدت أخاه هابيل، فكان هابيل راعي غنم، وكان قايين يحرث الأرض، فلما كان بعد أيام جاء قايين من ثمر أرضه بقربان لله، وجاء هابيل أيضاً من أبكار غنمه بقربان، فسر الله بهابيل وقربانه ولم يسر بقايين وقربانه، فساء ذلك قايين جداً وهمَّ أن يسوءه وعبس وجهه، فقال الرب لقايين: ما ساءك؟ ولِمَ كسف وجهك؟ إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة على الباب وأنت تقبل إليها وهي تتسلط عليك، فقال قايين لهابيل أخيه: تتمشى بنا في البقعة، فبينما هما يتمشيان في الحرث وثب قايين على أخيه هابيل فقتله، فقال الله لقايين: أين هابيل أخوك؟ فقال: لا أدري، أرقيب أنا على أخي؟ قال الله: ماذا فعلت! فإن دم أخيك ينادي لي من الأرض، من الآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها
117
فقبلت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حراثها، وتكون فزعاً تائهاً في الأرض، فقال قايين للرب: عظمت خطيئتي من أن تغفرها، وقد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض، وأتوارى من قدامك وأكون فزعاً تائها في الأرض، وكل من وجدني يقتلني، فقال الله ربنا: كلا! ولكن كذلك كل قاتل، وأما قايين فإنه يجزى بدل الواحد سبعة، فخرج قايين من قدام الله فجلس في الأرض نود شرقي عدن - انتهى. قال البغوي عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت فيها بقابيل وتوأمته - فذكر قصته في النكاح وقتله لأخيه وشرب الأرض لدمه قولو قابيل لله - حين قال له: إنه قتله -: إن كنت قتلته فأين دمه؟ فحرم الله على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعده أبداً - انتهى.
ولما أخبر الله تعالى بأن أحدهما فعل معه من عدم القبول ما غاظه، كان كأنه قيل: فما فعل حين غضب؟ فقيل: ﴿قال﴾ أي لأخيه الذي قبل قربانه حسداً له ﴿لأقتلنك﴾ فكأنه قيل: بما أجابه؟
118
فقيل: نبهه أولاً على ما يصل به إلى رتبته ليزول حسده بأن ﴿قال إنما يتقبل الله﴾ أي يقبل قبولاً عظيماً المحيط لكل شيء قدرة وعلماً الملك الذي له الكمال كله، فليس هو محتاجاً إلى شيء، وكل شيء محتاج إليه ﴿من المتقين *﴾ أي العريقين في وصف التقوى، فلا معصية لهم يصرون عليها بشرك ولا غيره، فعدمُ تقبل قربانك من نفسك لا مني، فلم تقتلني؟ فقتلك لي مبعد لك عما حسدتني عليه.
ولما وعظه بما يمنعه من قتله ويقبل به على خلاص نفسه، أعلمه ثانياً أن الخوف من الله مَنَعَه من أن يمانعه عن نفسه مليناً لقلبه بما هو جدير أن يرده عنه خشية أن تجره الممانعة إلى تعدي الحد المأذون فيه، لأن أخاه كان عاصياً لا مشركاً، فقال مؤكداً بالقسم لأن مثل ما يخبر به عظيم لا يكاد يصدق: ﴿لئن بسطت إليّ﴾ أي خاصة ﴿يدك لتقتلني﴾ أي لتوجد ذلك بأيّ وجه كان، ثم بالغ في إعلامه بامتناعه من الممانعة فقال: ﴿ما أنا﴾ وأغرق في النفي فقال: ﴿بباسط﴾ أي أصلاً، وقدم المفعول به تعميماً، ثم خص المتعلق لمناسبة الحال فقال: ﴿يدي إليك لأقتلك﴾ أي في أيّ وقت من الأوقات، ولعله أتى بالجملة الاسمية المفيدة لنفي الثبات والدوام أدباً مع الله في عدم الحكم على
119
المستقبل، ثم علله بقوله: ﴿إني أخاف الله﴾ أي أستحضر جميع ما أقدر على استحضاره من كماله، ثم وصفه بالإحسان إلى خلقه ليكون ذلك مانعاً له من الإساءة إلى أحد منهم فقال: ﴿رب العالمين *﴾ أي الذي أنعم عليهم بنعمة الإيجاد ثم التربية، فأنا لا أريد أن أخرب ما بنى، وهذا كما فعل عثمان رضي الله عنه.
ولما كان من النهايات للواصلين إلى حضرات القدس ومواطن الأنس بالله، المتمكنين في درجة الغناء عن غير الفاعل المختار أن لا يراد إلا ما يريد سبحانه، فإن كان طاعة أراده العبد ورضيه، وإن كان معصية أراده من حيث إنه مراد الله ولم يرضه لكونه معصية، فيرضى بالقضاء دون المقضي، وكأنه من الممكن القريب أن يكون هابيل قد كشف له عن أنه سبق في علم الله أن أخاه يقتله، قال مرهباً له معللاً بتعليل آخر صاد له أيضاً عن الإقدام على القتل: ﴿إني أريد﴾ أي بعدم الممانعة لك ﴿أن تبوأ﴾ أي ترجع من قتلي إن قتلتني ﴿بإثمي﴾ أي الإثم الذي ينالك من أجل قتلك لي، وبعقوبته الذي من جملته أنه يطرح عليك من سيئاتي بمقدار ما عليك من حقي إذا لم تجد ما ترضيني به من الحسنات ﴿وإثمك﴾ أي الذي لا سبب لي فيه، وهو الذي كان سبباً لرد قربانك واجترائك عليّ وعدوانك، وأفوز أنا بأجري وأجرك، أي
120
أجري الذي لا سبب لك فيه والأجر الذي أثمره استسلامي لك وكفُّ يدي عنك ﴿فتكون﴾ أي أنت بسبب ذلك ﴿من أصحاب النار﴾ أي الخالدين فيها جزاءً لك لظلمك بوضعك القتل في غير موضعه، ثم بين أن هذا يعم كل من فعل هذا الفعل فقال: ﴿وذلك جزاء الظالمين *﴾ أي الراسخين في وصف الظلم كلهم، وأكون أنا من أصحاب الجنة جزاءً لي بإحساني في إيثار حياتك لإرادة المعصية من حيث كونها معصية بإرادة ظهور الكفار، لما علم من أن النصر بيد الله، فهو قادر على نصر الباقي بعد استشهاد الشهيد.
121
ولما كان هذا الوعظ جديراً بأن يكون سبباً لطاعته وزاجراً له عن معصيته، بين تعالى أنه قسا قلبه فجعله سبباً لإقدامه، فقال - مبيناً بصيغة التفعيل، إذ القتل لما جعل الله له من الحرمة وكساه من الهيبة لا يقدم عليه إلا بمعالجة كبيرة من النفس -: ﴿فطوعت له﴾ أي الذي لم يتقبل منه ﴿نفسه قتل أخيه﴾ أي فعالجته معالجة كبيرة وشجعته، وسهلت له بما عندها من النفاسة على زعمها حتى غلبت على عقله فانطاع لها وانقاد فأقدم عليه؛ وتحقيق المعنى أن من تصور النهي عن الذنب والعقاب عليه امتنع منه فكان فعله كالعاصي عليه، ومن استولت عليه نفسه بأنواع الشبه في تزيينه صار فعله له وإقدامه عليه كالمطيع له
121
الممكن من نفسه بعد أن كان عاصياً عليه نافراً عنه، ثم سبب عن هذا التطويع قوله: ﴿فقتله﴾ وسبب عن القتل قوله: ﴿فأصبح﴾ أي فكان في كل زمن ﴿من الخاسرين *﴾ أي العريقين في صفة الخسران بغضب الله عليه لاجترائه على إفساده مصنوعَه، وغضب أبناء جنسه عليه لاجترائه على أحدهم، وعبر بالإصباح والمراد جميع الأوقات، لأن الصباح محل توقع الارتياح، قيل: إنه لم يدر كيف يقتله، فتصور له إبليس في يده طائر فشدخ رأسه بحجر فقتله، فاقتدى به قابيل، فأتى هابيل وهو نائمٌ فشدخ رأسه بحجر.
ولما كان التقدير: ثم إنه لم يدر ما يصنع به، إذ كان أول ميت فلم يكن الدفن معروفاً، سبب عنه قولَه: ﴿فبعث الله﴾ أي الذي له كمال القدرة والعظمة والحكمة؛ ولما كان المعنى يحصل بالغراب الباحث فقط قال: ﴿غراباً يبحث﴾ أي يوجد البحث وهو التفتيش في التراب بتليين ما تراصّ منه وإزاحته من مكانه ليبقى مكانه حوزة خالية.
122
ولما كان البحث مطلق التفتيش، دل على ما ذكرته بقوله: ﴿في الأرض﴾ ليواري غراباً آخر مات؛ ولما كان الغراب سبب علم ابن آدم القاتل للدفن، كان كأنه بحث لأجل تعليمه فقال تعالى: ﴿ليريه﴾ أي الغراب يُرى ابن آدم، ويجوز أن يكون الضمير المستتر لله تعالى، والأول أولى لتوقيفه على عجزه وجهله بأن الغراب أعلم منه وأقرب إلى الخير ﴿كيف يواري﴾.
ولما كانت السوءة واجبة الستر، وكان الميت يصير بعد موته كله سوءة، قال منبهاً على ذلك وعلى أنها السبب في الدفن بالقصد الأول: ﴿سوءة﴾ أي فضيحة ﴿أخيه﴾ أي أخي قابيل وهو هابيل المقتول، وصيغة المفاعلة تفيد أن الجثة تريد أن يكو القاتل وراءها، والقاتل يريد كون الجثة وراءه، فيكونان بحيث لا يرى واحد منهما الآخر، ولعل بعث الغراب إشارة إلى غربة القاتل باستيحاش الناس منه وجعله ما ينفر عنه ويقتله كل من يقدر عليه، ومن ثَمَّ سمى الغراب البين، وتشاءم به من يراه.
ولما كان كأنه قيل: إن هذا لعجب، فما قال؟ قيل: ﴿قال﴾ الكلمة التي تستعمل عند الداهية العظيمة لما نبهه ذلك، متعجباً متحيراً متلهفاً عالماً أن الغراب أعلم منه وأشفق، منكراً على نفسه ﴿يا ويلتي﴾
123
أي احضُرْني يا ويل! هذا أوانك أن لا يكون لي نديم غيرك؛ ولما تفجع غاية الفجيعة وتأسف كل الأسف، أنكر على نفسه فقال: ﴿أعجزت﴾ أي مع ما جعل لي من القوة القاطعة ﴿أن أكون﴾ مع ما لي من الجوارح الصالحة لأعظم من ذلك ﴿مثل هذا الغراب﴾ وقوله مسبباً عن ذلك: ﴿فأواري سوءة﴾ أي عورة وفضيحة ﴿أخي﴾ نصِبَ عطفاً على أكون لا على جواب الاستفهام، لأنه إنكاري فمعناه النفي، لأنه لم تكن وقعت منه مواراة لينكر على نفسه ويوبخها بسببها، ولو كانت وقعت لم يصح إنكارها على تقدير عدم العجز الذي أفادته الهمزة ﴿فأصبح﴾ بسبب قتله ﴿من النادمين *﴾ أي على ما فعل، لأنه فقد أخاه وأغضب ربه وأباه، ولم يفده ذلك ما كان سبب غيظه، بل زاده بعداً، وذكر أن آدم عليه السلام لما علم قتله رثاه بشعر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ردُّ ذلك، وأن الأنبياء عليهم السلام كلهم في النهي عن الشعر سواء، وقال صاحب الكشاف: وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر، «ولا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم هذا كفل من دمها بما سن» رواه مسلم وغيره عن عبد الله، وكذا «كل من سن سنة سيئة» ولهذا قال عليه السلام «إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون»، وهذا لأن الآدمي
124
لنقصانه أسرع شيء إلى الاقتداء في النقائص، وهذا ما لم يتب الفاعل، فإذا تاب أو كان غير متعمد للفعل كآدم عليه السلام لم يكن ساناً لذلك فلا شيء عليه ممن عمل بذلك.
ولما علم بهذا أن الإنسان موضع العجلة الإقدام على الموبقات من غير تأمل، فكان أحوج شيء إلى نصب الزواجر، أتبعه تعالى قوله: ﴿من أجل ذلك﴾ أي من غاية الأمر الفاحش جداً ومدته وعظم الأمر وشدة قبحه في نفسه وعند الله وصغره عند القاتل وحبسه ومنعه وجنايته وإثارته وتهييجه وجرأة الإنسان على العظائم بغير تأمل ﴿كتبنا﴾ أي بما لنا من العظمة ليفيد ذلك عظمة المكتوب والتنبيه على ما فيه من العجز ليفيد الانزجار ﴿على بني إسرائيل﴾ أي أعلمناهم بما لنا من العناية بهم في التوراة التي كتبناها لهم، ويفهم ذلك أيضاً أنهم أشد الناس جرأة على القتل، ولذلك كانوا يقتلون الأنيباء، فأعلمهم الله بما فيهم من التشديد، ولِمَا علم من الأدميين - لا سيما هم - من الجرأة عليه، ليقيم عليهم بذلك الحجة على ما يتعارفونه بينهم، ويكف عن القتل من سبقت له منه العناية بما يتصور من فظاعة القتل، وقبح صورته وفحش أمره، وعبر بأداة الاستعلاء التي هي للحتم من الوجوب والحرمة، لأن السياق للزجر، فهي تفهم المنع عن الإقدام على القتل في هذا المقام
125
﴿أنه من قتل نفساً﴾ أي من ابني آدم، وكأنه أطلق تعظيماً لهم إشارة إلى أن غيرهم جماد ﴿بغير نفس﴾ أي بغير أن تكون قتلت نفساً تستحق أن تقاد بها فاستباح قتلها لتلك النفس التي قتلتها ﴿أو﴾ قتلها بغير ﴿فساد﴾ وقع منها.
ولما كانت الأرض - مع أنها فراشنا فهي محل التوليد والتربية والتنمية - دار الكدر، وكان فساد من أفسد فراشه الموصوف - لا سيما وهو في كدر - دالاً على سوء جبلته، وكان سوء الجبلة موجباً للقتل، قال: ﴿في الأرض﴾ أي يبيح ذلك الفساد دمها كالشرك والزنا بعد الإحصان وكل ما يبيح إراقة الدم، وقد علم بهذا أن قصة ابني آدم مع شدة التحامها بما قبل توطئة لما بعد، وتغليظُ أمر القتل تقدم عن التوراة في سورة البقرة، وقوله: ﴿فكأنما قتل الناس جميعاً﴾ من جملة الأدلة المبطلة لما ادعوا من البنوة، إذ معناه أن الناس شرع واحد من جهة نفوسهم متساوون فيها. كلهم أولاد آدم، لا فضل لأحد منهم على آخر في أصل تحريم القتل بغير ما ذكر من الموجب من قصاص أو فساد لا من بني إسرائيل ولا من غيرهم، وذلك كما قال تعالى في ثاني النقوض ﴿بل أنتم بشر ممن خلق﴾ [المائدة: ١٨] فصار من قتل نفساً واحدة بغير ما ذكر
126
فكأنما حمل إثم من قتل الناس جميعاً، لأن اجتراءه على ذلك أوجب اجتراء غيره، ومن سن سنة كان كفاعلها ﴿ومن أحياها﴾ أي بسبب من الأسباب كعفو، أو إنقاذ من هلكة كغرق، أو مدافعة لمن يريد أن يقتلها ظلماً ﴿فكأنما أحيا﴾ أي بذلك الفعل الذي كان سبباً للأحياء ﴿الناس جميعاً﴾ أي بمثل ما تقدم في القتل، والآية دالة على تعليمه سبحانه لعباده الحكمة، لما يعلم من طباعهم التي خلقهم عليها ومن عواقب الأمور - لا على أنه يجب عليه - رعاية المصلحة، ومما يحسن إيراده هاهنا ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورأيت من ينسبه للشافعي رحمه الله تعالى:
127
ولما أخبر سبحانه أنه كتب عليهم ذلك، أتبعه حالاً منهم دالة على أنهم بعيدون من أن يكونوا أبناء وأحباء فقال: ﴿ولقد﴾ أي والحال أنهم قد ﴿جاءتهم رسلنا﴾ أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا واختيارنا لهم لأن يأتوا عنا، فهم لذلك أنصح الناس وأبعدهم عن الغرض وأجلّهم وأجمعهم للكمالات وأرفعهم عن النقائص، لأن كل رسول دال على مرسله ﴿بالبينات﴾ أي الآيات الواضحة للعقل أنها من عندنا، آمره لهم بكل خير، زاجرة عن كل ضير، لم نقتصر في التغليظ في ذلك على الكتاب بل وأرسلنا الرسل إليهم متواترة.
ولما كان وقوع الإسراف - وهو الإبعاد عن حد الاعتدال في الأمر منهم بعد ذلك - بعيداً - عبر بأداة التراخي مؤكداً بأنواع التأكيد فقال: ﴿ثم إن كثيراً منهم﴾ أي بني إسرائيل، وبيَّنَ شدة عتوّهم بإصرارهم خلفاً بعد سلف فلم يثبت الجار فقال: ﴿بعد ذلك﴾ أي البيان العظيم والزجر البليغ بالرسل والكتاب ﴿في الأرض﴾ أي التي هي مع كونها فراشاً لهم - ويقبح على الإنسان أن يفسد فراشه - شاغلة - لما فيها من عظائم الكدورات وترادف القاذورات - عن الكفاف فضلاً عن الإسراف ﴿لمسرفون *﴾ أي عريقون في الإسراف بالقتل وغيره.
128
ولما كان هذا الإسراف بعد هذه الموانع محاربة للناهي عنه، وكان تارة يكون بالقتل وتارة بغيره، وكان ربما ظن أن عذاب القاتل يكون بأكثر من القتل لكونه كمن قتل الناس جميعاً، وصل به سبحانه قوله على طريق الحصر: ﴿إنما جزاؤا﴾ وكان الأصل: جزاؤهم، ولكن أريد تعليق الحكم بالوصف والتعميم فقال: ﴿الذين يحاربون الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ﴿ورسوله﴾ أي بمحاربة من نَهَيَا عن محاربته بقطع الطريق وهم مسلمون، ولهم منعة ممن أرادهم، ويقصدون المسلمين في دمائهم وأموالهم سواء كانوا في البلد أو خارجها.
ولما كان عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً، أعلم أن هؤلاء عماد الشيطان بقوله: ﴿ويسعون في الأرض﴾ ولما كان هذا ظاهراً في الفساد، صرح به في قوله: ﴿فساداً﴾ أي حال كونهم ذوي فساد، أو للفساد، ويجوز أن يكون مصدراً ليسعون - على المعنى، ولما كانت أفعالهم مختلفة، فسم عقوبتهم بحسبها فقال: ﴿أن يقتلوا﴾ أي إن كانت جريمتهم القتل فقط، لأن القتل جزاؤه القتل، وزاد - لكونه في قطع الطريق - صيرورته حتماً لا يصح العفو عنه ﴿أو يصلّبوه﴾ أي مع القتل إن ضموا إلى القتل أحد المال، بأن يرفع المصلوب على جذع، ومنهم من قال: يكون ذلك وهو حيّ، فحينئذٍ تمد يداه مع الجذع، والأصح عند الشافعية أنه يقتل ويصلى عليه ثم يرفع على الجذع زمناً يشيع خبره فيه لينزجر غيره، ولا يزاد على ثلاثة أيام ﴿أو تقطّع أيديهم﴾
129
أي اليمنى بأخذهم المال من غير قتل ﴿وأرجلهم﴾ أي اليسرى لإخافة السبيل، وهذا معنى قوله: ﴿من خلاف﴾ أي إن كانت الجريمة أخذ المال فقط ﴿أو ينفوا من الأرض﴾ أي بالإخافة والإزعاج إن لم يقعوا في قبضة الإمام ليكونوا منتقلين من بلد إلى آخر ذعراً وخوفاً، وبالحبس إن وقعوا في القبضة، وكانوا قد كثروا سواد المحاربين وما قتلوا ولا أخذوا مالاً ﴿ذلك﴾ أي النكل الشديد المفصّل إلى ما ذكر ﴿لهم﴾ أي خاصاً بهم ﴿خزي﴾ أي إهانة وذل بإيقاعه بهم ﴿في الدنيا﴾ أي ليرتدع بهم غيرهم ﴿ولهم﴾ أي إن لم يتوبوا ﴿في الآخرة﴾ أي التي هي موطن الفصل بإظهار العدل ﴿عذاب عظيم﴾ أي هو بحيث لا يدخل تحت مَعارِفِكم أكثر من وصفه بالعظم.
ولما كان التعبير ب «إنما» يدل بختم الجزاء على هذا الوجه، استثنى من المعاقبين هذه العقوبة بقوله: ﴿إلا الذين تابوا﴾ أي رجعوا عما كانوا عليه من المحاربة خوفاً من الله تعالى، ولذا قال: ﴿من قبل﴾ وأثبت الجار إشارة إلى القبول وإن طال زمن المعصية وقصر زمن التوبة ﴿أن تقدروا عليهم﴾ أي فإن تحتم الجزاء المذكور يسقط، فلا يجازون على ما يتعلق بحقوق الآدمي إلاّ إذا طلب صاحب الحق،
130
فإن عفا كان له ذلك، وأما حق الله تعالى فإنه يسقط، وإلى هذا الإشارة أيضاً بقوله تعالى: ﴿فاعلموا أن الله﴾ أي على ما له من صفات العظمة ﴿غفور رحيم *﴾ أي صفته ذلك أزلاًَ وأبداً، فهو يفعل منه ما يشاء لمن يشاء، وأفهمت الآية أن التوبة بعد القدرة لا تسقط شيئاً من الحدود.
ولما ذكر تعالى حكمهم عند التوبة، وختم الآية بما يناسب من الغفران والرحمة، وكان ذلك ربما كان جزاء من لم يرسخ قدمه في الدين على جنابه المتعالي، أتبع ذلك الأمر بالتقوى وجهاد كل من أفسد بقطع الطريق أو الكفر أو غيره فقال على وجه الاستنتاج مما قبله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي وجد منهم الإقرار بالإيمان ﴿اتقوا الله﴾ أي اجعلوا بينكم وبين ما سمعتم من وعيده للمفسدين وقاية تصديقاً لما أقررتم به، لما له سبحانه من العظمة التي هي جديرة بأن تخشى وترجى لجمعها الجلال والإكرام.
ولما كانت مجامع التكليف منحصرة في تخلٍّ من فضائح المنهيات وتحلٍّ بملابس المأمورات، وقدم الأول لأنه من درء المفاسد، أتبعه الثاني فقال: ﴿وابتغوا﴾ أي اطلبوا طلباً شديداً ﴿إليه﴾ أي خاصة ﴿الوسيلة﴾ أي التقريب بكل ما يوصل إليه من طاعته، ولا تيأسوا وإن عظمت ذنوبكم لأنه غفور رحيم.
ولما كان سببحانه قد قدم أوامر ونواهي، وكان الاستقراء
131
قد أبان الناس عند الأمر والنهي بين مقبل ومعرض، وكان قد أمر المقبل بجهاد المعرض، وكان للجهاد. بما له من عظيم النفع وفيه من المشقة - مزيدُ خصوصية، أفرد بالذكر تأكيداً لما مضى منه وإعلاماً بأنه للعاصي مطلقاً سواء كان بالكفر أو بغيره فقال: ﴿وجاهدوا في سبيله﴾ أي لتكون كلمته هي العليا ﴿لعلكم تفلحون *﴾ أي لتكون حالكم حال من يرجى نيله لكل ما يطلبه، وهذا شامل لكل أمر بمعروف ونهي عن منكر في أعلى درجاته وأدناها.
132
ولما كان ترك هذه الأوصاف الثلاثة: التقوى وطلب الوسيلة والجهاد مزيلاً للوصف الأول وهو الإيمان، ناسب كل المناسبة تحذيراً من تركها ذكرُ حال الكفار وأنه لا تنفعهم وسيلة في تلك الدار فقال معللاً لما قبله: ﴿إن الذين كفروا﴾ أي بترك ما في الآية السابقة، ورتب الجزاء عن الماضي زيادة في التحذير ﴿لو أن لهم ما في الأرض﴾ وأكد ما أفهمه الكلام من استغراق الظرف والمظروف فقال: ﴿جميعاً﴾ أي مما كان يطلب منهم شيء يسير جداً منه، وهو الإذعان بتصديق الجنان إنفاق الفضل من المال، وزاد الأمر هولاً بقوله: ﴿ومثله﴾ ولما كان لدفع الفداء جملة ما ليس له مفرَّقاً قال ﴿معه﴾.
ولما كان المقصود تحقير ذلك بالنسبة إلى عظمة يوم التغابن وإن كان
132
عند الكفار الذين جعلوا غاية أمرهم الحياة الدنيا أعظم ما يكون، والإفهام بأن المراد بالمثل الجنس ليشمل ما عساه أن يفرض من الأمثال، أعاد الضمير على هذين الشيئين على كثرتهما وعظمتهما مفرداً، فقال معبراً بالمضارع الدال على تجديد الرغبة في المسألة على سبيل الاستمرار ولأن السياق للمتصفين بالكفر والمحاربة لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسعي في الأرض بالفساد، ولذلك صرح بنفي القبول على الهيئة الآتية: ﴿ليفتدوا به﴾ أي يجددوا الافتداء في كل لحظة، أي بما ذكر ﴿من عذاب يوم القيامة﴾.
ولما كان المراد تهويل الأمر بردّه، وكان ذلك يحصل بغير تعيين الرادّ، قال: ﴿ما تقبل منهم﴾ بالبناء للمفعول، أي على حالة من الحالات وعلى يد من كان، لأن المدفوع إليه ذلك تام القدرة وله الغنى المطلق.
ولما كان من النفوس ما هو سافل لا ينكّبه الرد، وكان الرد لأجل إمضاء المُعَدِّ من العذاب، قال مصرحاً بالمقصود: ﴿ولهم﴾ أي بعد ذلك ﴿عذاب أليم *﴾ أي بالغ الإيجاع بما أوجعوا أولياء الله بسترهم لما أظهروا من شموس البيان، وانتهكوا من حرمات الملك الديان. ثم علل
133
شدة إيلامه بدوامه فقال: ﴿يريدون أن يخرجوا﴾ أي يكون لهم خروج في وقت ما إذا رفعهم اللهب إلى أن يكاد أن يلقيهم خارجاً ﴿من النار﴾ ثم نفى خروجهم على وجه التأكيد الشديد فقال: ﴿وما هم﴾ وأغرق في النفي بالجار واسم الفاعل فقال: ﴿بخارجين منها﴾ أي ما يثبت لهم خروج أصلاً، ولعله عبر في النفي بالاسمية إشارة إلى أنه يتجدد لهم الخروج من الحرور إلى الزمهرير، فإن سمى أحد ذلك خروجاً فهو غير مرادهم.
ولما كان المعذبون في دار ربما دام لهم المكث فيها وانقطع عنهم العذاب قال: ﴿ولهم﴾ أي خاصة دون عصاة المؤمنين ﴿عذاب﴾ أي تارة بالحر وتارة بالبرد وتارة بغيرهما، دائم الإقامة لا يبرح ولا يتغير ﴿مقيم *﴾.
ولما كانت السرقة من جملة المحاربة والسعي بالفساد، وكان فاعلها غير متقٍ ولا متوسل، عقب بها فقال: ﴿والسارق﴾ الآخذ لما هو في حرز خفيةً لكونه لا يستحقه ﴿والسارقة﴾ أي كذلك؛ ولما كان التقدير: وهما مفسدان، أو حكمهما فيما يتلى عليكم، سبب عنه قوله: ﴿فاقطعوا﴾ وال - قال المبرد - للتعريف بمعنى: الذي، والفاء للسبب كقولك:
134
الذي يأتيني فله كذا كذا درهم ﴿أيديهما﴾ أي الأيامن من الكوع إذا كان المأخوذ ربع دينار فصاعداً من حرز مثله من غير شبهة له فيه - كما بين جميع ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويرد مع القطع ما سرقه؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿جزاء بما كسبا﴾ أي فعلا من ذلك، وإدالته على أدنى وجوه السرقة وقاية للمال وهواناً لها للخيانة، وديتها إذا قطعت في غير حقها خمسمائة دينار وقاية للنفس من غير أن ترخصها الخيانة، ثم علل هذا الجزاء بقوله: ﴿نكالاً﴾ أي منعاً لهما كما يمنع القيد ﴿من الله﴾ أي الذي له جميع العظمة فهو المرهوب لكل مربوب، وأعاد الاسم الأعظم تعظيماً للأمر فقال: ﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿عزيز﴾ أي في انتقامه فلا يغالبه شيء ﴿حكيم *﴾ أي بالغ الحكم والحكمة في شرائعه، فلا يستطاع الامتناع من سطوته ولا نقض شيء يفعله، لأنه يضعه في أتقن مواضعه.
ولما ختم بوصفي العزة والحكمة، سبب عنهما قوله: ﴿فمن تاب﴾ أي ندم وأقلع، ودل على كرمه بالقبول في أيّ وقت وقعت التوبة فيه ولو طال زمن المعصية بإثبات الجار فقال: ﴿من بعد﴾ وعدل عن أن يقول «سرقته» إلى ﴿ظلمه﴾ تعميماً للحكم في كل ظلم، فشمل ذلك فعل طعمة وما ذكر بعده مما تقدم في النساء وغير ذلك
135
من كل ما يسمى ظلماً ﴿وأصلح﴾ أي أوجد الإصلاح وأوقعه بردّ الظلامة والثبات على الإقلاع ﴿فإن الله﴾ أي بما له من كمال العظمة ﴿يتوب عليه﴾ أي يقبل توبته ويرجع به إلى أتم ما كان عليه قبل الظلم من سقوط عذاب الآخرة دون عقاب الدنيا، رحمة من الله له ورفقاً به وبمن ظلمه وعدلاً بينهما، لا يقدر أحد أن يمنعه من ذلك ولا يحول بينه وبينه لحظة ما؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الكمال كله أزلاً وأبداً ﴿غفور رحيم *﴾ أي بالغ المغفرة والرحمة، لا مانع له من ذلك ولا من شيء منه ولا من شيء يريد فعله، بل هو فعال لما يريد، والآية معطوفة على آية المحاربين وإنما فصل بينهما بما تقدم لما ذكر من العلة الطالبة لمزيد العناية به.
136
ولما كان معنى ذلك أنه لا اعتراض عليه سبحانه في شيء من ذلك ولا مانع، لأن قدرته تامة، ليس هو كمن يشاهد من الملوك الذين ربما يعجزون من اعتراض أتباعهم ورعاياهم عن تقريب بعض ما لم يباشر إساءة، وإبعاد بعض من لم يباشر إحساناً، فكيف بغير ذلك! قال تعالى مقرراً لذلك بتفرده في الملك: ﴿ألم تعلم أن الله﴾ أي الذي له جميع العز ﴿له ملك السماوات﴾ أي على علوها وارتفاع سمكها وانقطاع أسباب ما دونها منها ﴿والأرض﴾ أي أن الملك خالص له عن جميع الشوائب.
136
ولما كان إيقاع النقمة أدل على القدرة، وكان السياق لها لما تقدم من خيانة أهل الكتاب وكفرهم وقصة ابنيّ آدم والسرقة والمحاربة وغير ذلك، قدم قوله معللاً لفعل ما يشاء بتمام الملك لا بغيره من رعاية لمصالح أو غيرها: ﴿يعذب من يشاء﴾ أي من بني إسرائيل الذين ادعوا النبوة والمحبة وغيرهم وإن كان مطيعاً أي له فعل ذلك لآنه لا يقبح منه شيء ﴿ويغفر لمن يشاء﴾ أي وإن كان عمله موبقاً، لأنه لا يتصور منه ظلم ولا يسوغ عليه اعتراض.
ولما كان التقدير: لأنه قادر على ذلك، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل كمال ﴿على كل شيء﴾ أي شيء ﴿قدير *﴾ أي ليس هو كغيره من الملوك الذين قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدى عدوه، وهذه القضية الضرورية ختم بها ما دعت المناسبة إلى ذكره من الأحكام، وكرَّ بها على أتم انتظام إلى أوائل نقوض دعواهم في قوله ﴿بل أنتم بشر ممن خلق﴾ [المائدة: ١٨]-.
ولما تقرر ذلك، كان من غير شك علةً لعدم الحزن على شيء من أمرهم ولا من أمر غيرهم ممن عصى شيئاً من هذه الأحكام، كما قال تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها﴾ [الحديد: ٢٢] إلى أن قال: ﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم﴾ [الحديد: ٢٣]، فقوله: ﴿يا أيها الرسول﴾ أي المبلغ لما أرسل به - معلول لما قبله. وأدل دليل
137
على ذلك قوله تعالى ﴿ومن يرد اله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً﴾ ﴿ولا يحزنك﴾ أي لا يوقع عندك شيئاً من الحزن صنعُ ﴿الذين يسارعون في الكفر﴾ أي يفعلون في إسراعهم يف الوقوع فيه غاية الإسراع فعلَ من يسابق غيره، وفي تبيينهم بالمنافقين وأهل الكتاب بشارة بإتمام النعمة على العرب بدوام إسلامهم ونصرهم عليهم، وقدم أسوأ القسمين فقال: ﴿من الذين قالوا آمنا﴾.
ولما كان الكلام هو النفسي، أخرجه بتقييده بقوله: ﴿بأفواههم﴾ معبراً لكونهم منافقين بما منه ما هو أبعد عن القلب من اللسان، فهم إلى الحيوان أقرب منهم إلى الإنسان، وزاد ذلك بياناً بقوله: ﴿ولم تؤمن قلوبهم﴾.
ولما بين المسارعين بالمنافقين، عطف عليهم قسماً آخر هم أشد الناس مؤاخاة لهم فقال: ﴿ومن الذين هادوا﴾ أي الذين عرفت قلوبهم وكفرت ألسنتهم تبعاً لمخالفة قلوبهم لما تعرف عناداً وطغياناً، ثم أخبر عنهم بقوله: ﴿سمّاعون﴾ أي متقبلون غاية التقبل بغاية الرغبة ﴿للكذب﴾ أي من قوم من المنافقين يأتونك فينقلون عنك الكذب ﴿سمّاعون لقوم آخرين﴾ أي الصدق، ثم وصفهم بقوله: ﴿لم يأتوك﴾ أي لعلة، وذكر الضمير لإرادة الكلام، لأن المقصود البغض على
138
نفاقهم ﴿يحرفون الكلم﴾ أي الذي يسمعونه عنك على وجهة فيبالغون في تغييره وإمالته بعد أن يقيسوا المعنيين: المغير والمغير إليه، واللفظين فلا يبعدوا به، بل يأخذون بالكلم عن حده وطرفه إلى حد آخر قريب منه جداً، ولذلك، أثبت الجار فقال: ﴿من بعد﴾ أي يثبتون الإمالة من مكان قريب من ﴿مواضعه﴾ أي النازلة عن رتبته بأن يتأولوه على غير تأويله، أو يثبتوا ألفاظاً غير ألفاظه قريبة منها فلا يبعد منها المعنى جداً وهذا أدق مكراً مما في النساء وهو من الحرف وهو الحد والطرف، وانحرف عن الشيء: مال عنه، قال الصغاني: وتحريف الكلام عن مواضعه: تغييره، وقال أبو عبد الله القزاز: والتحريف التفعيل، من: انحرف عن الشيء - إذا مال، فمعنى حرفت الكلام: أزلته عن حقيقة ما كان عليه في المعنى، وأبقيت له شبه اللفظ، ومنه قوله تعالى ﴿يحرفون الكلم﴾، وذلك أن اليهود كانت تغير معاني التوراة بالأشباه، وفي الحديث «يسلط عليهم طاعون يحرف القلوب» أي يغيرها عن التوكل ويدعوهم إلى الانتقال عن تلك البلاد، وحكي: حرفته عن جهته - أي بالتخفيف - مثل: حرّفته، والمحارفة: المقايسة، من المحراف وهو
139
الميل الذي يقاس به الجراح - انتهى. فالآية من الاحتباك: حذف منها أولاً الإتيان وأثبت عدمه ثانياً للدلالة عليه، وحذف منها ثانياً الصدق ودل عليه بإثبات ضده - الكذب - في الأولى.
ولما كان كأنه قيل: ما غرضهم بإثبات الكذب وتحريف الصدق؟ قال: ﴿يقولون﴾ أي لمن يوافقهم ﴿إن أوتيتم﴾ أي من أيّ مؤت كان ﴿هذا﴾ أي المكذوب والمحرف ﴿فخذوه﴾ أي اعملوا به ﴿وإن لم تؤتوه﴾ أي بأن أوتيتم غيره أو سكت عنكم ﴿فاحذروا﴾ أي بأن تؤتوا غيره فتقبلوه.
ولما كان التقدير: فأولئك الذين أراد الله فتنتهم، عطف عليه قوله: ﴿ومن يرد الله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿فتنته﴾ أي أن يحل به ما يميله عن وجه سعادته بالكفر حقيقة أو مجازاً ﴿فلن تملك له من الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ﴿شيئاً﴾ أي من الإسعاد، وإذا لم تملك ذلك أنت وأنت أقرب الخلق إلى الله فمن يمكله.
ولما كان هذا، أنتج لا محالة قوله: ﴿أولئك﴾ أي البعداء من الهدى ﴿الذين لم يرد الله﴾ أي وهو الذي لا راد لما يريده، ولا فاعل لما يرده، فهذه أشد الآيات على المعتزلة ﴿أن يطهر قلوبهم﴾ أي بالإيمان، والجملة كالعلة لقوله ﴿فلن تملك له من الله شيئاً﴾، ولما ثبت
140
أن قلوبهم نجسة، أنتج ذلك قوله: ﴿لهم في الدنيا خزي﴾ أي بالذل والهوان، أما المنافقون فبإظهار الأسرار والفضائح الكبار وخوفهم من الدمار، وأما اليهود فببيان أنهم حرفوا وبدلوا وضرب الجزية عليهم وغير ذلك من الصغار ﴿ولهم في الآخرة﴾ التي من خسرها فلا ربح له بوجه ما ﴿عذاب عظيم *﴾ أي لعظيم ما ارتكبوه من هذه المعاصي المتضاعفة.
141
ولما ذكر التحريف، ذكر أثره وهو الحكم به فقال مكرراً لوصفهم زيادة في توبيخهم وتقبيح شأنهم: ﴿سمّاعون﴾ أي هم في غاية الشهوة والانهماك في سماعهم ذلك ﴿للكذب أكّالون﴾ أي على وجه المبالغة ﴿للسحت﴾ أي الحرام الذي يسحت البركة أي يستأصلها، وهو كل ما لا يحل كسبه، وذلك أخذهم الرشى ليحكموا بالباطل على نحو ما حرفوه وغيره من كلام الله، قال الشيخ أبو العباس المرسي: ومن آثر من الفقراء السماع لهواه، وأكل ما حرمه مولاه، فقد استهوته نزعة يهودية، فإن القوال يذكر العشق والمحبة والوجد وما عنده منها شيء.
ولما كانوا قد يأخذون الرشوة ولا يقدرون على إبرام الحكم بما أرادوه، فيطمعون في أن يفعلوا ذلك بواسطة ترافعهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيترافعون إليه، فإن حكم بينهم بما أرادوا قبلوه واحتجوا به على
141
من لعله يخالفهم، وإن حكم بما لم يريدوه قالوا: ليس هذا في ديننا - طمعاً في أن يخليهم فلا يلزمهم بما حكم، أعلمه الله تعالى بما يفعل في أمرهم، وحذره غوائل مكرهم، فقال مفوضاً الخيرة إليه في أمر المعاهدين إلى مدة - وأما أهل الجزية فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلى حاكمنا - مسبباً عن أكلهم الحرام وسماعهم الكذب: ﴿فإن جاءوك﴾ أي طمعاً في أن تؤتيهم ما حرفوا إليه الكلم ﴿فاحكم بينهم﴾ أي إن شئت بما أنزل الله عليك من الحق ﴿أو أرض عنهم﴾ أي كذلك.
ولما كان قوله: ﴿وإن﴾ دالاً بعطفه على غير معطوف عليه أن التقدير: فإن حكمت بينهم لم ينفعوك شيئاً لإقبالك عليهم، قال: وإن ﴿تعرض عنهم﴾ أي الكفرة كلهم من المصارحين والمنافقين ﴿فلن يضروك شيئاً﴾ أي إعراضك عنهم واستهانتك بهم.
ولما كان التخيير غير مراد الظاهر في جواز الحكم بينهم عند الترافع إلينا وعدمه، بل معناه عدم المبالاة بهم، أعرض عنهم أولاً، فحقيقته بيان العاقبة على تقديري الفعل والترك، علَّمه كيف يحكم بينهم، فقال عاطفاً على ما قدرته: ﴿وإن حكمت﴾ أي فيهم ﴿فاحكم﴾ أي أوقع الحكم ﴿بينهم بالقسط﴾ أي العدل الذي أراكه الله - على أن
142
الآية ليست في أهل الذمة، والحكم في ترافع الكفار إلينا أنه كان منهم أو من أحدهم التزام لأحكامنا أم منا التزام للذب عنهم وجب، لقوله تعالى ﴿فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم﴾ وإلا لم يجب، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿يحب المقسطين﴾ أي الفاعلين للعدل السوي من غير حيف أصلاً.
ولما كان التقدير: فكيف يحكمونك وهم يكذبونك ويدعون أنك مبطل، عطف عليه قوله معجباً منهم موبخاً لهم: ﴿وكيف يحكمونك﴾ أي في شيء من الأشياء ﴿وعندهم﴾ أي والحال أنه عندهم ﴿التوراة﴾ ثم استأنف قوله: ﴿فيها حكم الله﴾ أي الذي لا يداني عظمته عظمة وهو الذي كان مقرراً في شرعهم أنه لا يسوغ خلافه، فإن كانوا يعتقدون ذلك إلى الآن لم يجز لهم العدول إليك على زعمهم، وإن كانوا لا يعتقدونه ويعتقدون أن حكمك هو الحق ولم يؤمنوا بك كانوا قد آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
ولما كان الإعراض عن حكمه سبحانه عظيماً، وكان وقوعه ممن يدعي أنه مؤمن به بعيداً عظيماً شديداً، قال: ﴿ثم يتولون﴾ أي يكلفون أنفسهم الإعراض عنه سواء تأيد بحكمك به أو لا لأجل الأعراض الدنيوية، ولما كان المراد بالحكم الجنس، وكانوا يفعلون بعض أحكامها
143
فلم يستغرق زمان توليهم زمان البعد، أدخل الجار لذلك فقال: ﴿من بعد ذلك﴾ أي الأمر العالي وهو الحكم الذي يعلمون أنه حكم الله، فلم يبق تحكيمهم لك من غير إيمان بك إلا تلاعباً.
ولما كان التقدير: فما أولئك بالمريدين للحق في ترافعهم إليك، عطف عليه قوله: ﴿وما أولئك﴾ أي البعداء من الله ﴿بالمؤمنين *﴾ أي العريقين في صفة الإيمان بكتابهم ولا بغيره مما يستحق الإيمان به، لأنهم لو كانوا عريقين في ذلك آمنوا بك لأن كتابهم دعا إليك.
144
ولما تضمن هذا مدح التوراة، صرح به فقال تأكيداً لذمهم في الإعراض عما دعت إليه من أصل وفرع، وتحذيراً من مثل حالهم: ﴿إنا أنزلنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿التوراة﴾ ثم استأنف قوله معظماً لها: ﴿فيها هدى﴾ أي كلام يهدي بما يدعو إليه إلى طريق الجنة ﴿ونور﴾ أي بيان لا يدع لبساً، ثم استأنف المدح للعاملين بها فقل: ﴿يحكم بها النبيون﴾ ووصفهم بأعلى الصفات وذلك الغنى المحض، فقال مادحاً لا مقيداً: ﴿الذين أسلموا﴾ أي أعطوا قيادهم لربهم سبحانه حتى لم يبق لهم اختيار أصلاً، وفيه تعريض بأن اليهود بعداء من الإسلام وإلا لاتبعوا أنبياءهم فيه، فكانوا يؤمنون بكل من قام الدليل على نبوته.
ولما كان من المعلوم أن حكمهم بأمر الله لهم باتباع التوراة ومراعاتها، عُلِم أن التقدير: بما استحفظوا من كتاب الله، فحذف لدلالة ما يأتي عليه
144
وإشعار الإسلام به، ثم بين المحكوم له تقييداً به إشارة إلى أنها ستنسخ فقال: ﴿للذين هادوا﴾ أي لمن التزم اليهودية ﴿والرّبانيون﴾ أي أهل الحقيقة، منهم الذين انسلخوا من الدنيا وبالغوا فيما يوجب النسبة إلى الرب ﴿والأحبار﴾ أي العلماء الذي أسلموا ﴿بما﴾ أي بسبب ما.
ولما كان سبب إسلام أمرهم بالحفظ، لا كونه من الله بلا واسطة، بني للمفعول قوله: ﴿استُحفظوا﴾ أي الأنبياء ومن بعدهم ﴿من كتاب الله﴾ أي بسبب ما طلبوا منهم وأمروا به من الحفظ لكتاب الذي له جميع صفات الكمال الذي هو صفته، فعظمته من عظمته، وحفظه: دراسته والعمل بما فيه ﴿وكانوا﴾ أي وبما كانوا ﴿عليه شهداء﴾ أي رقباء حاضرين لا يغيبون عنه ولا يتركون مراعاته أصلاً، فالآية - كما ترى - من فن الاحتباك: ترك أولاً «بما استحفظوا» لدلالة ما ذكر هنا عليه، وترك ذكر الإسلام هنا لدلالة ذكره أولاً عليه، وإنما خص الأول بذكر الإسلام لأن الأنبياء أحق به، وهو داع إلى الحفظ قطعاً، وخص الثاني بالاستحفاظ لأن الأتباع أولى به، وهو دال على الإسلام.
ولما كان هذا كله ذماً لليهود بما تركوا من كتابهم، ومدحاً لمن راعاه منهم، وكان ذلك الترك إما لرجاء أو خوف، قال مخاطباً لهذه الأمة
145
كلها طائعها وعاصيها، وحذراً لها من مثل حالهم ومرغباً في مثل حال الأنبياء والتابعين لهم بإحسان، مسبباً عن ذلك: ﴿فلا تخشوا الناس﴾ أي في العمل بحكم من أحكام الله ﴿واخشون﴾ أي فإن ذلك حامل لكم على العدل والإحسان، فمن كان منكم مسلماً طائعاً فليزدد طاعة، ومن لم يكن كذلك فليبادر بالانقياد والطاعة، وهذا شامل لليهود وغيرهم.
ولما قدم الخوف لأنه أقوى تأثيراً أتبعه الطمع فقال: ﴿ولا تشتروا﴾ ولما كان الاشتراء معناه اللجاجة في أخذ شيء بثمن، وكان المثمن أشرف من الثمن من حيث إنه المرغوب فيه، جعل الآيات مثمناً وإن اقترنت بالباء، حتى يفيد الكلام التعجب من الرغبة عنها، وأنها لا يصح كونها ثمناً فقال: ﴿بآياتي ثمناً قليلاً﴾ أي من الرشى وغيرها لتبدلوها كما بدل أهل الكتاب.
ولما نهى عن الأمرين، وكان ترك الحكم بالكتاب إما لاستهانة أو لخوف أو رجاء أو شهوة، رتب ختام الآيات على الكفر والظلم والفسق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: من جحد حكم الله كفر ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق. فلما كان التقدير: فمن حكم بما أنزل الله فأولئك هم المسلمون، عطف عليه ما أفهمه من قوله:
146
﴿ومن لم يحكم﴾ أي يوجد الحكم ويوقعه على وجه الاستمرار ﴿بما أنزل الله﴾ أي الذي له الكمال كله فلا أمر لأحد معه تديناً بالإعراض عنه، أعم من أن يكون تركه له حكماً بغيره أو لا ﴿فأولئك﴾ أي البعداء من كل خير ﴿هم الكافرون﴾ أي المختصون بالعراقة في الكفر، وهذه الآيات من قوله تعالى ﴿يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر﴾ [المائدة: ٤١] إلى هنا نزلت في الزنا، ولكن لما كان السياق للمحاربة، وكان كل من القتل وقطع الطريق والسرقة محاربة ظاهرة مع كونه فساداً صرح به، ولما كان الزنا محاربة خفية بالنظر إلى فحشه وحرمته وجرّه في بعض الصور إلى المحاربة وغير محاربة بالنظر إلى كونه في الغالب عن تراض، وصاحبه غير متزيّ بزيّ المحاربين، لم يصرح في هذه الآيات باسمه وإن كانت نزلت فيه، روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته: «إن الله بعث محمداً وأنزل عليه كتاباً، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم فتلوناها ووعيناها» الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم «وقد رجم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجمنا بعده - الحديث. وفي آخره: ولولا أني أخشى أن يقول الناس: زاد في كتاب الله، لأثبته في حاشية المصحف» وأصله في الصحيحين وغيرهما، وللحاكم والطبراني عن أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء رضي الله عنها بلفظ: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» وفي صحيح ابن حبان عن أبي بن كعب
147
رضي الله عنه أنه قال لزرّ بن حبيش: «كم تعدون سورة الأحزاب من آية؟ قال: قلت: ثلاثاً وسبعين، قال: والذي يحلف به! كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، وكان فيها آية الرجم: الشيخ والشيخة» الحديث. وللشيخين: البخاري في مواضع، ومسلم وأحمد وأبي داود - وهذا لفظه - والدرامي والترمذي في الحدود والنسائي في الرجم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
«إن اليهود جاؤوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تجدون في التوراة في شأن الزنا؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون - وفي رواية: فقال: لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئاً - فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: كذبتم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة، فنشروها فجعل أحدهم - وفي رواية - مدراسها الذي يدرسها منهم - يده على آية الرجم فجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها فقال: ما هذه؟ فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد! فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجما، قال عبد الله
148
بن عمر رضي الله عنهما: فرأيت الرجل يحنأ على المرأة يقيها الحجارة» وفي لفظ للبخاري في التفسير أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئاً، فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم! فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين» وفي لفظ له في التوحيد - وهو رواية أحمد - أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي قال: «فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين» ولأبي داود عن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما قال: «أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى القف، فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم! إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم، فوضعوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسادة فجلس عليها ثم قال: ائتوني بالتوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها ثم قال: آمنت بك وبمن أنزلك، ثم قال: ائتوني بأعلمكم، فأتي بفتى شاب» فذكر قصة الرجم نحو الذي قبله، وسكت عليه أبو داود
149
والحافظ المنذري في مختصره وسنده حسن، ولمسلم وأبي داود - وهذا لفظه - والنسائي وابن ماجه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيهودي محمم. فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني؟ فقالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: نشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالك اللهم! لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد وتركنا الرجم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أول من أحيى أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله عزّ وجلّ ﴿يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر﴾ [المائدة: ٤١] إلى قوله: ﴿يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا﴾ [المائدة: ٤١] إلى قوله: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ [المائدة: ٤٤] في اليهود - إلى قوله: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾ [المائدة: ٤٥] في اليهود - إلى قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله
150
فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: ٤٧] قال: هي في الكفار كلها»
يعني هذه الآية.
وروى الدارقطني في آخر النذور من السنن عن جابر رضي الله عنه قال: «أتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيهودي ويهودية قد زنيا، فقال لليهود: ما يمنعكم أن تقيموا عليهما الحد؟ فقالوا: كنا نفعل إذا كان الملك لنا، فلما أن ذهب ملكنا فلا نجتري على الفعل، فقال لهم: ائتوني بأعلم رجلين فيكم، فأتوه بابني صوريا، فقال لهما: أنتم أعلم من ورائكما؟ قالا: يقولون، قال: فأنشدكما بالله الذي أنزل التوراة على موسى كيف تجدون حدهما في التوراة؟ فقالا: الرجل مع المرأة زنية وفيه عقوبة، والرجل على بطن المرأة زنية وفيه عقوبة، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة رُجِم، قال: ائتوني بالشهود فشهد أربعة، فرجمهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - انتهى. وهذه الآية ملتفتة إلى آية ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة﴾ - الآية والتي بعدها أي التفات وذلك أن هؤلاء لما تركوا هذا الحكم، جرَّهم إلى الكفر وليس في هذه الروايات - كما ترى - تقييد الرجم بالإحصان،
151
وكذا هو فما هو موجود عندهم في التوراة، قال في السفر الثالث وغيره: ثم كلم الله موسى وقال له: قل لبني إسرائيل: أيُّ رجل من بني إسرائيل ومن الذين يقبلون إلى أيّ ويسكنون بين بني إسرائيل ألقى زرعه في امرآة غريبة يقتل ذلك الرجل فليرجمه جميع الشعب بالحجارة، وأنا أيضاً أنزل غضبي بذلك الرجل وأهلكه من شعبه، لأنه ألقى زرعه في غريبة وأراد أن ينجس مقدسي وأن ينجس اسم قدسي، فإن غفل شعب الأرض عن الرجل الذي ألقى زرعه في غريبة ولم يوجبوا عليه القتل أنزل غضبي بذلك الرجل وبقبيلته وأهلكه وأهلك من يضل به، لأنهم ضلوا بنساء غريبات لسن لهم بحلال، ثم قال: الرجل الذي يأتي امرأة صاحبه وامرأة رجل غريب يقتلان جميعاً، والرجل الذي يرتكب ذكراً مثله فيرتكب منه ما يرتكب من النساء فقد ارتكبا نجاسة، يقتلان ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يتزوج امرأة وأمها فقد ارتكب خطيئة، يحرق بالنار هو وهما، والرجل الذي يرتكب من البهيمة ما يرتكب من النساء يقتل قتلاً، والبهيمة ترجم أيضاً، والمرأة التي ترقد بين يدي البهيمة لترتكب منها البلاء تقتل المرأة والبهيمة جميعاً، يقتلان ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يأتي امرأة طامثاً ويكشف عورتها، قد كشف عن ينبوعها وهي أيضاً كشفت عن ينبوع دمها،
152
يهلكان جميعاً من شعبهما، وقال: والرجل الذي يأتي امرأة أبيه قد كشف هذا عورة أبيه، يقتلان جميعاً ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يأتي كنّته يقتلاه كلاهما، لأنهما ارتكبا خطيئة، ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يتزوج أخته من أمه أو من أبيه ويرى عورتها وترى عورته، هذا عار شديد، يقتلان قدام شعبهم، وذلك لأنه كشف عورة أخته، يكون إثمهما في رؤوسهما، لا تكشفن عورة عمتك ولا خالتك! لأنهما قرابتك، ومن فعل ذلك يعاقب بإثم فضيحته، والرجل الذي يأتي امرأة عمه قد كشف عورة عمه يعاقبان بخطيئتهما ويموتان، والرجل الذي يتزوج امرأة أخيه قد ارتكب إثماً، لأنه كشف عورة أخيه يموتان، بل وصرح برجم البكر فقال في السفر الخامس فيمن تزوج بكراً فادعى أنه وجدها ثيباً: فإن كان قذفه إياها حقاً ولم يجدها عذراء تخرج الجارية إلى بيت أبيها، ويرجمهاه أهل القرية بالحجارة وتموت، لأنها ارتكبت حوباً بين يدي بني إسرائيل وزنت في بيت أبيها، نحوّا الشر عنكم، وإن وجد رجل يسفح بامرأة رجل يقتلان كلاهما: الرجل والمرأة، بل صرح برجم البكر المكرهة فقال عقب ما تقدم: وإن كان لرجل خطيبة بكر لم يبتن بها بعد، فخرجت خارجاً فظفر بها
153
رجل وقهرها وضاجعها، يخرجان جميعاً ويرجمان حتى يموتا، وإنما تقتل الجارية مع الرجل لأنها لم تصرخ ولم تستغث - انتهى.
فالأحاديث المفيدة بالإحصان في هذه القصة ينبغي أن تكون مرجوحة، لأن رواتها ظنوا أن الجادة الإسلامية شرع لهم.
154
ولما كان ختام هذه الآيات في ترهيب المعرض عن الحكم بما أنزل الله مطابقاً لقوله في أول سياق المحاربة ﴿ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون﴾ رجع إلى القتل مبيناً أنهم بدلوا في القتل كما بدلوا في الزنا، ففضلوا بني النضير على بني قريظة، فقال: ﴿وكتبنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿عليهم فيها﴾ أي في التوراة، عطفاً على قوله ﴿كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس﴾، وإذا أنعمت النظر وجدت ما بينهما لشدة اتصاله وقوة الداعية إليه كأنه اعتراض ﴿أن النفس﴾ أي مقتولة قصاصاً مثلاً بمثل ﴿بالنفس﴾ أي بقتل النفس بغير وجه مما تقدم ﴿والعين﴾ أي تقلع ﴿بالعين﴾ أي قلعت بغير شبهة ﴿والأنف﴾ يجدع ﴿بالأنف﴾ كذلك ﴿والأذن﴾ تصلم ﴿بالأذن﴾ على ما تقدم ﴿والسن﴾ تقلع ﴿بالسن﴾ إذا قلعت عمداً بغير حق ﴿والجروح﴾ أي التي تنضبط كلها ﴿قصاص﴾ مثلاً بمثل سواء بسواء.
ولما أوجب سبحانه هذا، رخص لهم في النزول عنه، فسبب عن
154
ذلك قوله: ﴿فمن تصدق به﴾ أي عفا عن القصاص ممن يستحقه سواء كان هو المجروح إن كان باقياً أو وارثه إن كان هالكاً ﴿فهو﴾ أي التصدق بالقصاص ﴿كفارة له﴾ أي ستارة لذنوب هذا العافي ولم يجعل لهم دية، إنما هو القصاص أو العفو، فمن حكم بما أنزل الله على وجه الاستمرار ﴿بما أنزل الله﴾ أي الذي لا كفوء له فلا أمر لأحد معه لخوف أو رجاء، أو تديناً بالإعراض عنه سواء حكم بغيره أو لا ﴿فأولئك﴾ أي البعداء عن طريق الاستقامة، البغضاء إلى أهل الكرامة ﴿هم الظالمون *﴾ أي الذي تركوا العدل فضّلوا، فصاروا كمن يمشي في الظلام، فإن كانا تديناً بالترك كان نهاية الظلم وهو الكفر، وإلا في الزنا نحو ما تقدم ثم قال: وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها ﴿فاحكم بينهم أو أعرض عنهم﴾ [المائدة: ٤٢] إلى: ﴿المقسطين﴾ إنما نزلت في الدية بين بني النضير وبني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير وكان لهم شرف - يؤدون الدية الكاملة وأن
155
بني قريظة كانوا يؤدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحق في ذلك فجعل الدية سواء» قال ابن إسحاق: فالله أعلم أيّ ذلك كان! وأخرجه النسائي في سننه من طريق ابن إسحاق، وروي من طريق آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، قال: كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قُتِل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة أدى مائة وسق من تمر، فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله فقالوا: بيننا وبينكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتوه فنزلت
﴿وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط﴾ [المائدة: ٤٢] والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت ﴿أفحكم الجاهلية يبغون﴾ [المائدة: ٥٠] انتهى.
وهذا نص ما عندهم من التوراة في القصاص قال في السفر الثاني: وكل من ضرب رجلاً فمات فليقتل قتلاً، وإذا تشاجر رجلان فأصابا امرأة حبلى فأخرجا جنينها ولم تكن الروح حلت في السقط بعد، فليغرم على قدر ما يلزمه زوج المرأة، وليؤد ما حكم عليه الحاكم، فإن كانت الروح حلت في السقط فالنفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرجل بالرجل
156
والجراحة بالجراحة واللطمة باللطمة، وقال في السفر الثالث بعد ذكر الأعياد في الاصحاح السابع عشر: ومن قتل إنساناً يقتل، ومن قتل بهيمة يدفع إلى صاحبها مثلها، والرجل يضرب صاحبه ويؤثر فيه أثراً يعاب به يصنع به كما صنع، والجروح قصاص: الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن، كما يصنع الإنسان بصاحبه كذلك يصنع به، القضاء واحد لكم وللذين يقبلون إليّ، وقال في الثاني: إذا ضرب الرجل عين عبده أو أمته ففقأها فليعتقه بدل عينه، وإذا قلع سن عبده أو أمته فليعتقه بدل سنة - وذكر أحكاماً كثيرة، ثم قال: ومن ذبح للأوثان فيهلك، بل لله وحده، وقال في الرابع: ومن يقتل نفساً لا يقتل إلا ببينة عادلة، ولا تقبل شهادة شاهد واحد على قتل النفس، ولا تقبلوا رشوة في إنسان يجب عليه القتل بل يقتل، لوا تأخذوا منه رشوة ليهرب إلى قرية إلى الملجأ ليسكنها إلى وفاة الحبر العظيم، ولا تنجسوا الأرض التي تسكنونها، لأن الدم ينجس الأرض، والأرض التي يسفك فيها الدم لا يغفر لتلك الأرض حتى يقتل القاتل الذي قتل، وقال في الخامس: ولا يقتل من قد وجب عليه القتل إلا بشهادة رجلين،
157
لا يقتل بشهادة رجل واحد، وإذا رجمتم فالذي يُشَهد عليه فليبدأ برجمه الشهود أولاً ثم يبدأ به جميع الشعوب، وأهلكوا الذين يعملون الشر واستأصلوهم من بينكم، وإن شهد رجل على صاحبه شهادة زور يقوم الرجلان قدام الحبر والقاضي فيفحصون عن أمرهما فحصاً شديداً، فإن وجدوا رجلاً شهد شهادة، زور يصنعوا به مثل ما أراد أن يصنع بأخيه، ونحوّا الشر من بينكم، وعاقبوا بالحق ليسمع الذين يتقون فيفزعوا ولا يعودوا أن يفعلوا مثل هذا الفعل القبيح بينكم، ولا تشفق أعينكم على الظالم، بل يكون قضاؤكم نفساً بنفس وعيناً بعين وسناً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل.
ولما كانت هذه الآيات كلها - مع ما فيها من الأسرار - ناقضة أيضاً لما ادعوا من البنوة بما ارتكبوه من الذنوب من تحريف كلام الله وسماع الكذب وأكل السحت والإعراض عن أحكام التوراة والحكم بغير حكم الله، أتبعها ما أتى به عيسى عليه السلام الذي ادعى فيه النصارى النبوة الحقيقية والشركة في الإلهية، وقد أتى بتصديق التوراة في الشهادة على من خالفها من اليهود بالتبرؤ من الله، مؤكداً لما فيها من التوحيد الذي هو عماد الدين وأعظم آياتها التي أخذت عليهم بها العهود ووضعت في تابوت الشهادة الذي كانوا يقدمونه أمامهم في الحروب، فإن كانوا باقين على ما فيه من الميثاق نصروا وإلا خذلوا، وناسخاً لشريعتهم مجازاة لهم
158
من جنس ما كانوا يعملون من التحريف، وشاهداً على من أطراه بالضلال فقال: ﴿وقفينا﴾ إلى آخرها، وكذا كل ما بعدها من آياتهم إلى آخر السورة، لا تخلوا آية منها من التعرض إلى نقض دعواهم لها بذكر ذنب، أو ذكر عقوبة عليه، أو ذكر تكذيب لهم من كتابهم أو نبيهم، والمعنى: أوجدنا التقفية، وهي اتباع شيء بشيء تقدِّمه، فيكون أتيا في قفاه لكونه وراءه، وإلقاؤه في مظهر العظمة لتعظيم شأن عيسى عليه السلام ﴿على آثارهم﴾ أي النبيين الذين يحكمون بالتوراة، وذكر الأثر يدل على أنهم كانوا قد تركوا دينهم، لم يبق منه إلا رسم خفي ﴿بعيسى﴾ ونسبه إلى أمه إشارة إلى أنه لا والد له تكذيباً لليهود، وإلى أنه عبد مربوب تكذيباً للنصارى، فقال: ﴿ابن مريم مصدقاً﴾ أي عيسى عليه السلام في الأصول وكثير من الفروع و ﴿لما بين يديه﴾ أي مما أتى به موسى عليه السلام قبله ﴿من التوراة﴾ وأشار إلى أنه ناسخ لكثير من أحكامها بقوله: ﴿وآتيناه الإنجيل﴾ أي أنزلناه بعظمتنا عليه كما أنزلنا التوراة على موسى عليه السلام.
ولما كان في الإنجيل المحكم الذي يفهمه كل أحد، والمتشابه الذي لا يفهمه إلا الأفراد من خلص العباد، ولا يقف بَعدَ فهمه عند حدوده إلا المتقون، قال مبيناً لحاله: ﴿فيه﴾ أي آتيناه إياه بحكمتنا وعظمتنا كائناً
159
فيه ﴿هدى﴾ أي وهو المحكم، يهتدي به كل أحد سمعه إلى صراط مستقيم ﴿ونور﴾ أي حسن بيان كاشف للمشكلات، لا يدع بذلك الصراط لبساً.
ولما كان الناسخ للشيء بتغيير حكمه قد يكون مكذباً له، أعلم أنه ليس كذلك، بل هو مع النسخ للتوراة مصدق لها فقال - أي مبيناً لحال الإنجيل عطفاً على محل ﴿فيه هدى﴾ :﴿ومصدقاً﴾ أي الإنجيل بكماله ﴿لما بين يديه﴾ ولما كان الذي نزل قبله كثيراً، عين المراد بقوله: ﴿من التوراة﴾ فالأول صفة لعيسى عليه السلام، والثاني صفة لكتابه، بمعنى أنه هو والتوراة والإنجيل متصادقون، فكل من الكتابين يصدق الآخر وهو يصدقهما، لم يتخالفوا في شيء، بل هو متخلق بجميع ما أتى به.
ولما كان المتقون خلاصة الخلق، فهم الذين يُنزلون كل ما في كتب الله من محكم ومتشابه على ما يتحقق به أنه هدى ويتطابق به المتشابه والمحكم، وكان قد بين أنه فيه من الهدى ما يسهل به رد المتشابه إليه فصار بعد البيان كله هدى، قال معمماً بعد ذلك التخصيص: ﴿وهدى وموعظة للمتقين *﴾ أي كل ما فيه يهتدون به ويتعظون فترق قلوبهم ويعتبرون به وينتقلون مترقين من حال عالية إلى حال أعلى منها.
160
ذكرُ بعض ما يدل على ذلك من الإنجيل الذي بين ظهراني النصارى الآن وقد مزجتُ فيه كلام بعض الأناجيل ببعض وأغلب السياق لمتى، وعينتُ بعض ما خالفه، قال لوقا: وجاء إليه قوم وأخبروه خبر الجليليين الذين خلط بيلاطس دماءهم مع دماء ذبائحهم، فأجاب يسوع وقال لهم: لا تظنوا أن أولئك الجليليين أشد خطأ من كل الجليليين إذا أصابتهم هذه الأوجاع، لا أقول لكم إن لم تتوبوا كلكم أنتم تهلكون مثلهم، وهؤلاء الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سيلوخا وقتلهم أتظنون أنهم أكبر جرماً من جميع سكان يروشليم، كلا أقول لكم، إن لم تتوبوا فجميعكم يهلك؛ وقال لهم: شجرة تين كانت لواحد مغروسة في كرمه، جاء يطلب فيها ثمرة فلم يجد، فقال للكرام: هذه ثلاث سنين آتي وأطلب فيها ثمرة فلا أجد، اقطعها لئلا تبطل الأرض، فقال: يا رب! دعها في هذه السنة لأنكحها وأصلحها، لعلها تثمر في السنة الآتية، فإن هي أثمرت وإلا أقطعها. قال متى: ولما نزل من الجبل تبعه جمع كبير وإذا أبرص قد جاء فسجد له وقال: إن شئت فأنت قادر أن تطهرني، فمد يده ولمسه وقال له: قد شئت فاطهر، وللوقت طهر برصه، وقال له يسوع: لا تقل لأحد ولكن امض فأرٍ نفسَك
161
للكاهن وقدم قرباناً كما أمر موسى للشهادة عليهم - وقال مرقس: بشهادتهم - قال لوقا: فذاع عنه الكلام وزاد، واجتمع جمع كثير ليسمعوا منه ويستشفوا من أمراضهم، وأما هو فكان يمضي إلى البرية ويصلي هناك. وقال متى: ولما دخل كفرناحوم جاء إليه قائد مائة فطلب إليه قائلاً: يا رب! فتاي ملقى في البيت مخلع وسقيم جداً، فقال له: إني آتي وأبرئه، فأجاب قائد المائة وقال: يا رب! لست مستحقاً أن تدخل تحت سقف بيتي، ولكن قل كلمة فقط فيبرأ فتاي لأني تحت سلطان، ولي جند، إن قلت لهذا: اذهب، ذهب، ولآخر: ائت، أتى، ولعبدي: اعمل هذا، عمل، فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعونه: الحق أقول لكم! إنني لم أجد مثل هذه الأمانة في إسرائيل، أقول لكم: إن كثيراً يأتون من المشرق والمغرب - وقال لوقا: والشمال واليمين - يتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ قال لوقا: وكل الأنبياء في ملكوت الله وأنتم خارجاً ويكون الأولون آخرين والآخرون أولين؛ وقال متى: في ملكوت السماوات، وبنو الملكوت يلقون في الظلمة البرانية، الموضع الذي يكون فيه البكاء وصرير الأسنان، وقال يسوع لقائد المائة: اذهب كأمانتك
162
يكن لك، فبرأ الفتى في تلك الساعة، وقال لوقا: ولما أكمل جميع كلامه ودخل كفرناحوم، وكان عبد لقائد المائة قد قارب الموت وكان كريماً عنده، فلما سمع بيسوع أرسل إليه شيوخ اليهود يسألونه المجيء ليخلص عبده، فلما جاؤوا إلى يسوع طلبوا منه باجتهاد وقالوا: إنه مستحق أن يفعل معه هذا، لأنه محب لأمتنا وهو بنى لنا كنيسة، فمضى يسوع معهم، وفيما هو قريب من البيت أرسل إليه قائد المائة أصدقاءه قائلاً: يا رب! لا تتعب فإني لا أستحق أن تدخل تحت سقف بيتي، من أجل ذلك لم أستحق أن أجيء أنا إليك لكن قل كلمة فيبرأ لأني رجل ذو سلطان وتحت يدي جند فأقول لهذا: امض فيمضي ولآخر: ائت فيأتي فلما سمع يسوع هذا تعجب منه والتفت إلى الجمع الذي يتبعه وقال: الحق أقول لكم! إني لم أجد في بني إسرائيل مثل هذه الأمانة، فرجع المرسلون إلى اليبت فوجدوا المريض قد برأ، وفي غد كان يسوع ماضياً إلى مدينة اسمها نايين وتبعه تلاميذه أجمع وجمع كبير، فلما قرب من باب المدينة إذا محمول قد مات وحيداً لأمه وكانت أرملة، وجمع كبير من أهل المدينة معها، فلما رآها
163
الرب تحنن عليها وقال لها: لا تبكي، وتقدم ولمس النعش فوقف الحاملون له، وقال له: أيها الشاب! لك أقول: قم واجلس! فجلس الميت وبدأ يتكلم، ودفعه لأمه، ولحقهم خوف ومجدوا الله قائلين: لقد قام فينا نبي عظيم، وتعاهد الله شعبه بصلاح، فذاع هذا الكلام في كل اليهودية وكل الكور التي حولها.
قال متى: وجاء يسوع إلى بيت بطرس فنظر إلى حماته ملقاة تحمى؛ وقال مرقس: وجاء إلى بيت سمعان وأندراوس مع يعقوب ويوحنا فرأى حماة سمعون في حمى شديدة فقالوا له من أجلها، فقدم وأمسك بيدها وأقامها؛ وقال متى: فمس يديها فتركها الحمى وقامت تخدمهم؛ وقال لوقا: ونهضت للوقت تخدمهم، فلما كان المساء - قال مرقس: عند غروب الشمس - قدموا إليه مجانين كثيراً، قال مرقس: ووقف جميع أهل المدينة على الباب، وأبرأ كثيراً ممن به علة رديئة، وأخرج شياطين كثيرة؛ وقال متى: وكان يخرج الأرواح بكلمة، وأبرأ كل سقيم لكي يتم ما قيل في أشعياء النبي القائل: إنه أخذ أمراضنا وحمل أوجاعنا. وسحرا جدا قام وخرج إلى البرية ليصلي
164
هناك وسمعون ومن معه يطلبونه، فلما وجدوه قالوا له: إن الجمع يطلبك، فقال لهم: سيروا بنا إلى القرى والمدن القريبة لنكرز، فإني لهذا وافيتُ، فأقبل يبشر في مجمعهم في كل الجليل ويخرج الشياطين؛ وقال لوقا: وفي غد اليوم خرج وذهب إلى موضع قفر والجمع يطلبونه، وجاؤوا إليه وأمسكوه لئلا يمضي من عندهم، فقال لهم: إنه ينبغي أن أبشر في المدن الأخر بملكوت الله، لأني لهذا أرسلت، وكان يكرز في مجامع الجليل، وكان لما اجتمع إليه جمع ليسمعوا كلام الله كان هو واقفاً على بحيرة جاناسر، فرأى سفينتين موقفتين على شاطىء البحيرة والصيادون قد صعدوا عليها ليغسلوا شباكهم، فصعد إلى إحداهما التي لسمعان، وأمر أن يبعدها عن الشط قليلاً، وجلس يعلم في الجمع من السفينة؛ ولما أكمل كلامه قال لسمعان: تقدم إلى اللج وألقوا شباككم! فقال: يا معلم! قد تعبنا الليل أجمع ولم نأخذ شيئاً، وبكلمتك نحن نلقي شباكنا، ولما فعلوا ذلك أخذوا سمكاً كثيراً، وكادت شباكهم تتخرق، فأشاروا إلى شركائهم في السفينة الأخرى ليأتوا يعينوهم، فلما جاؤوا ملؤوا السفينتين حتى كادتا أن تغرقا، فلما رأى سمعان ذلك خر عند قدمي يسوع وقال له: ابعد عني يا سيدي! لأني رجل خاطىء، لأن الخوف اعتراه
165
وكل من معه لأجل صيد الحيتان التي اصطادوا، وكذلك يعقوب ويوحنا ابنا زبدي اللذان كانا صديقي سمعان، فقال يسوع لسمعان: لا تخف، من الآن تكون صياداً تصيد للناس، وقربوا السفن إلى الشط وتركوا كل شيء وتبعوه؛ وقال متى: فلما نظر يسوع إلى الجمع الذي حوله أمر أن يذهبوا إلى العبر، فجاء إليه كاتب وقال له: يا معلم! أتبعك إلى حيث تمضي، فقال له يسوع: إن للثعالب أجحاراً، ولطير السماء أوكاراً، فأما ابن الإنسان فليس له موضع يسند رأسه؛ وقال لوقا: وقال لآخر: اتبعني، فقال: يا رب! ائذن لي أن امضي أولاً وأدفن أبي، فقال له يسوع: اتبعني ودع الموتى يدفنوا موتاهم، وقال الآخر أيضاً: بل تأذن لي أولاً أن أرتب أهل بيتي، فقال: ما من أحد يضع يده على سكة الفدان وينظر إلى ورائه يستحق ملكوت الله؛ وقال متى: فلما صعد السفينة تبعه تلاميذه - وقال لوقا: صعد السفينة هو وتلاميذه وقال لهم: امضوا بنا إلى عبر البحيرة، فساروا وفيما هم سائرون نام - وإذا اضطراب عظيم كان في البحر حتى كادت الأمواج تغطي السفينة - لأن الريح كانت مضادة لهم - وهو نائم، فتقدم إليه تلاميذه وقالوا: يا رب! - وقال
166
مرقس: وكانت رياح عواصف عظيمة، وكانت الأمواج تضرب السفينة وتدخلها المياه حتى كادت تمتلىء، وهو نائم في مؤخرها على وسادة - فأيقظوه وقالوا له: يا معلم! نجِّنا فقد هلكنا! فقال لهم: ما أخافكم يا قليلي الأمانة؟ حينئذ قام وانتهر الرياح والبحر، فصار هدوءاً عظيماً، ثم قال متى: فلما صعد السفينة وجاء إلى العبر ودخل مدينته قدم إليه مخلع ملقى على سرير - وفي إنجيل مرقس ولوقا: إنهم أرادوا الدخول به إليه فلم يقدروا لكثرة الجمع، فصعدوا إلى السطح ودلوه بسريره إليه - حينئذ قال للمخلع: قم! امل سريرك واذهب إلى بيتك! فقام ومضى إلى بيته، فنظر الجمع وتعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى هذا السلطان كذا للناس؛ وقال يوحنا في إنجيله: وبعد هذا كان عيد اليهود فصعد يسوع إلى يروشليم، وكان هناك بيروشليم مكان يسمى بالعبرانية بيت الرحمة، وكان فيه خمسة أروقة، وكان خلق كثير من المرضى مطروحين فيها وعمي ومقعدون وجافون، فكانوا يتوقعون تحريك الماء، لأن ملاكاً كان ينزل إلى الصبغة في حين بعد حين، وكان يحرك الماء، والذي كان ينزل فيه أولاً من بعد حركة الماء يبرأ من كل الوجع الذي به، وكان هنا رجل سقيم منذ ثمان وثلاثين
167
سنة، فنظر إليه يسوع ملقى فقال له: أتحب أن تبرأ؟ فقال: نعم يا سيدي! ولكن ليس لي إنسان إذا تحرك الماء يلقيني في البركة أولاً، فإلى أن أجيء أنا ينزل قدامي آخر، فقال له: قم، احمل سريرك وامض فمن ساعته برأ ونهض حاملاً سريره، وكان ذلك اليوم يوم سبت، فقال له اليهود: إنه يوم سبت، ولا يحل لك أن تحمل سريرك، فأجابهم: الذي أبرأني هو قال لي: احمل سريرك وامش، فسألوه: من هو؟ فلم يكن يعلم من هو، لأن يسوع كان قد استتر في الجمع الكبير الذي كان في ذلك الموضع، ثم قال: وقال لهم يسوع: لقد عملت عملاً واحداً فعجبتم بأجمعكم، أعطاكم موسى الختان وليس هو من موسى ولكنه من الآباء، وقد تختنون الإنسان يوم السبت لئلا تنقضوا سنة موسى، فلِمَ تتذمرون عليّ لإبرائي الإنسان يوم السبت، لا تحكموا بالمحاباة ولكن احكموا حكماً عدلاً، ثم قال: فبينما هو مار رأى رجلاً ولد أعمى فقال تلاميذه: يا معلم! من أخطأ؟ هذا أم أبواه حتىأنه ولد أعمى، فقال: لا هو ولا أبواه، ولكن لتظهر أعمال الله فيه، ينبغي أن أعمل أعمال من أرسلني ما دام النهار، سيأتي الليل الذي لا يستطيع أحد أن يعمل فيه عملاً، ما دمت في العالم أن نور العالم - قال هذا وتفل على التراب
168
وصنع من تفله طيناً وطلى به عيني ذلك الأعمى وقال له: امض واغتسل في عين سيلوخا التي تأويلها المبعوثة، فمضى وغسلهما فعاد ينظر، فأما جيرانه والذين كانوا يرونه يتسول فقالوا: ليس هو هذا الذي كان يجلس ويتسول، وآخرون قالوا: إنه هو، وآخرون قالوا: إنه يشبهه، فأما هو فكان يقول: إني أنا هو، فقالوا له: كيف انفتحت عيناك؟ فقص عليهم القصة، فقالوا: أين هو ذاك؟ فقال: ما أدري، فأتوا به إلى الفريسيين، لأن يسوع صنع الطين يوم السبت، فسأله الفريسيون فأخبرهم، فقال قوم منهم: ليس هذا الرجل من الله إذ لا يحفظ السبت، وآخرون قالوا: كيف يقدر رجل خاطىء أن يعمل هذه الآيات! فوقع بينهم لذلك شقاق، فقالوا للأعمى: ما تقول أنت من أجله؟ قال لهم: إنه نبي، ولم يصدق اليهود أنه كان أعمى حتى دعوا أبويه وسألوهما، فقالا: نحن نعلم أن هذا ولدنا وأنه وُلِدَ أعمى، ووقعت بين الأعمى وبينهم محاورة، كان آخر ما قالوا له: أنت ولدت بالخطايا وأنت تعلمنا! وأخرجوه.
وقال متى: واجتاز يسوع هناك فرأى إنساناً جالساً على التعشير اسمه متى فقال له: اتبعني، فترك كل شيء وقام وتبعه. وقال لوقا: وبعد هذا خرج فنظر إلى عشار اسمه لاوي جالساً على المكس،
169
فقال له: اتبعني، فترك كل شيء وقام وتبعه، وصنع له لاوي في بيته وليمة عظيمة، وكان جمع كثير من العشارين وآخرين متكئين معه. وقال مرقس: ثم خرج إلى شاطىء البحر واجتمع إليه جمع كبير وعلمهم، وعند مضيه رأى لاوي ابن حلفي جالساً على العشارين فقال له: اتبعني، فقام وتبعه، وبينما هو متكىء في بيته - وقال متى: وبينما هو متكىء في بيت سمعان - جاء عشارون وخطأة كثيرون، فاتكؤوا مع يسوع وتلاميذه، فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه: لماذا معلمكم يأكل مع العشارين والخطأة؟ فلما سمع يسوع قال لهم: الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب، لكن ذوو الأسقام، اذهبوا فاعلموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة، لم آت لأدعو الصديقين لكن الخطأة للتوبة. وقال لوقا: وطلب إليه واحد من الفريسيين أن يأكل معه، فدخل بيت ذلك الفريسي وجلس، وكان في تلك المدينة امرأة خاطئة، فلما علمت أنه متكىء في بيت ذلك الفريسي أخذت قارورة طيب ووقفت من ورائه عند رجليه باكية، وبدأت تبل قدميه بدموعها وتمسحها بشعر رأسها،
170
وكانت تقبل قدميه وتدهنهما بالطيب، فلما رأى ذلك الفريسي الذي دعاه فكر في نفسه قائلاً: لو كان هذا نبياً علم ما هذه وأنها خطائة، فأجاب يسوع وقال له: يا سمعان! غريمان عليها لإنسان دين، على أحدهما خمسمائة دينار وعلى الآخر خمسون، وليس لهما ما يوفيان فوهب لهما، فأيهما أكثر حبّاً له؟ فقال: أظن الذي وهب له الأكثر، فقال له: بالحق حكمت؛ ثم التفت إلى المرأة وقال: يا سمعان! دخلت بيتك فلم تسكب على رجلي ماء وهذه بلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها، أنت لم تقبلني وهذه منذ دخلت لم تكف عن تقبيل قدمي، أنت لم تدهن رأس بزيت وهذه دهنت بالطيب قدمي، لأجل ذلك أقول لك: إن خطاياها مغفورة لها، لأنها أحبت كثيراًن ثم قال لها: اذهبي بسلام! إيمانك خلصك؛ وكان بعد ذلك يسير إلى كل مدينة ويكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر ونسوة كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة: مريم التي تدعى المجدلانية التي أخرج منها سبعة شياطين، ويونا امرأة خوزي خازن هيرودس، وأخر كثيرات.
وقال متى: حينئذ جاء إليه تلاميذ يوحنا قائلين: لماذا نحن والفريسيون نصوم كثيراً وتلاميذك
171
لا يصومون؟ فقال لهم يسوع: لا يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم، وستأتي أيام إذا ارتفع العريس عنهم حينئذ صومون؛ ليس أحد يأخذ خرقة جديدة يجعلها في ثوب بال، لأنها تأخذ ملأها من الثوب فيصير الخرق أكبر وقال مرقس: إنه لا يرقع إنسان ثوباً بالياً بخرقة جديدة إلا مد الجديد البالي فيخرقه؛ وقال متى: ولا تُجْعَلُ خمر جديدة في زقاق عتق فتنشق الزقاق وتهلك وتهراق الخمر لكن تجعل خمر جديدة في زقاق جدد فيتحفظان جميعاً؛ وقال لوقا: وما من أحد يشرب قديماً فيحب الجديد للوقت لأنه يقول: إن القديم أطيب، وقال متى: وفيما هو يكلمهم إذا رئيس قد جاء إليه ساجداً قائلاً: إن ابنتي ماتت الآن، تأتي فتضع يدك عليها فتحيى! فقام يسوع وتبعه تلاميذه، فإذا امرأة بها نزيف دم منذ اثنتي عشرة سنة؛ قال مرقس: أعيت من الأطباء، أنفقت كل مالها، لم تجد راحة بل تزداد وجعاً، فلما سمعت بيسوع - قال متى: جاءت من خلفه ومست طرفه ثوبه - فالتفت يسوع فرآها فقال لها: ثقي يا ابنة! إيمانك خلصك، فبرئت المرأة من تلك الساعة، وجاء يسوع إلى بيت الرئيس؛ وقال مرقس: ولم يدع أحداً يتبعه إلا بطرس
172
ويعقوب ويوحنا أخا يعقوب - انتهى. فنظر إلى الجمع مضطربين، فقال لهم: اخرجوا، لم تمت الجارية لكنها نائمة، فضحكوا منه، فلما خرج الجمع دخل وأمسك يدها فقامت الجارية؛ وقال مرقس: وأخرج جميعهم وأخذ معه أبا الصبية وأمها والذين معه، ثم دخل إلى الموضع الذي فيه الصبية موضوعة، وأخذ بيدها وقال لها: طليثا! قومي، الذي تأويله: يا صبية! لك أقول: قومي، فللوقت قامت الصبية ومشت، وكان لها اثنتا عشرة سنة، فبهتوا وعجبوا عجباً عظيماً، فأمرهم كثيراً أن لا يُعْلِموا أحداً بهذا، وقال: أطعموها تأكل؛ وقال متى: وخرج خبرها في جميع تلك الأرض.
173
ولما كان التقدير: آتيناه ذلك لينتهي أهل التوراة عما نسخه منها، عطف عليه قوله: ﴿وليحكم﴾ في قراءة حمزة بكسر اللام والنصب، والتقدير على قول الجماعة بالإسكان والجمع والجزم: فلينته أهل التوراة عما نسخ منها وليحكم ﴿أهل الإنجيل﴾ وهم أتباع عيسى عليه السلام ﴿بما أنزل الله﴾ أي الواحد الأحد الذي له جميع صفات الكمال ﴿فيه﴾ من الدلائل على نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن غير ذلك مما أودعناه إياه من الأحكام والمواعظ الجسام.
ولما كان التقدير: فمن انتهى فأولئك هم المسلمون، ومن حكم بما
173
أنزل الله فيه فأولئك هم المفلحون، عطف عليه قوله: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، فله كل شيء وليس لأحد معه شيء، وكل شيء إليه مفتقر، ولا افتقار له إلى شيء فيه أو في غيره؛ وهو غير منسوخ، تديناً بتركه أو لشهوة دعت ﴿فأولئك﴾ أي البعداء عن كل خير البغضاء ﴿هم الفاسقون *﴾ أي المختصون بكمال الفسق، فإن كان تديناً كان كفراً، وإن كان لاتباع الشهوات كان مجرد معصية، لأن الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج عن دائرة الشرع مرة بعد أخرى، فمن ترك الحكم تكذيباً فقد جمع الدركات الثلاث: ستر الدلائل فتنقل من درجة النور إلى دركة الظلام، فانكب في مهواة الخروج من المحاسن، فانحط إلى أقبح المساوي؛ والتعبير بالوصف المؤذن بالعراقة في مأخذ الاشتقاق معلم بأن المراد بكل واحد منها الكفر، فحق أن المراد منه الشرعي لا مطلق الستر غاية التحقيق، فبين بوصفه بالظلم أنه ستر لما ينبغي إظهاره، وبالفسق أنه بلغ في كونه في غير موضعه النهاية حتى خرق جميع دائرة المأذون فيه فخرج منها، وهذا إشارة إلى ذنوب أهل الإنجيل لينتج نقض دعواهم البنوة والمحبة، لأن المعنى: ومن الواضح بكتابك الذي جعل مهيمناً على جميع الكتب أنهم خالفوا أحكامه فهم فاسقون، أي خارجون عما من شأنه الاستقرار فيه لنفعه، فواقعون في الظلمة الموجبة لوضع الشيء في غير موضعه المقتضية للتغطية والستر، وقدم الوصف بالكفر لأن السياق لمن حرف الكلم عن موضعه، وغير
174
ما كتب من محكم أحكام التوراة من الحدود، وذلك هو التغطية التي هي معنى الكفر لأنه من الظلام، كما أن الفسق سبب الظلم لأنه الخروج عما من شأنه النفع، فكان الآخر أولاً في المعنى والأول نهاية في الحقيقة، والآية دالة على أن فيه أحكاماً، وكذا قوله تعالى في آل عمران: ﴿ولأُحل لكم بعض الذي حرم عليكم﴾ [آل عمران: ٥]، وهذا هو الحق، وأعظم ما غيّر تحريم السبت الذي كان أعظم شعائرهم فأحله، وغيَّر أيضاً غير ذلك من أحكامهم؛ قال فيما رأيته من ترجمة إنجيل متى: سمعتم ما قيل للأولين: لا تقتل، فإن من قتل وجبت عليه لائمة الجماعة، ومن قال لأخيه: أحمق، فقد وجبت عليه نار جهنم، إن أنت قدمت قربناك على المذبح وذكرت هناك أن أخاك واجد عليك فدع قربانك هناك قدام المذبح، وامض أولاً وصالح أخاك، وحينئذ فائت وقدم قربانك، كن متفهماً من خصمك سريعاً ما دمت معه في الطريق، لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم، والحاكم إلى المستخرج وتلقى في السجن؛ وفي إنجيل لوقا: إذا رأيتم سحابة تطلع من المغرب قلتم: إن المطر يأتي؛ فيكون كذلك، وإذا هبت ريح الجنوب قلتم: سيكون حر، يا مراؤون! تحسنون تمييز وجه السماء والأرض وهذا الزمان كيف لا تميزونه، ولا تحكمون بالصدق من قبل نفوسكم!
175
لأنك إذا ذهبت مع خصمك إلى الرئيس فأعطه ما يجب عليك في الطريق تتخلص منه، لئلا يذهب بك إلى الحاكم فيدفعك الحاكم إلى المستخرج ويلقيك المستخرج في السجن؛ وقال متى: الحق الحق أقول لك! إنك لا تخرج من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك، سمعتم ما قيل للأولين: لا تزن، وأنا أقول لكم: إن كل من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه، إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها، لأنه خير لك أن تهلك أحد أعضائك ولا تلقي جسدك كله في جهنم، قيل: إن من طلق امرأته فيدفع لها كتاب الطلاق، وأنا أقول لكم: إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية، ومن تزوج مطلقة فقد زنى، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين: لا تحنث في مينك، وأوف للرب قسمك، وأنا اقول لكم: إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية، ومن تزوج مطلقة فقد زنى، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين: لا تحنث في مينك، وأوف للرب قسمك، وأنا أقول لكم: لا تحلفوا البتة لا بالسماء فإنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطىء قدميه، ولا بيروشليم فإنها مدينة الملك العظيم، ولا برأسك لأنك لا تقدر تصنع شعرة بيضاء أو سوداء، ولتكن كلمتكم: نعم ونعم ولا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشر، سمعتم ما قيل: العين بالعين والسن بالسن، وأنا أقول لكم: لا تقاوموا الشر، ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر،
176
ومن أراد خصومتك وأخذ ثوبك دفع له رداءك، ومن سخّرك ميلاً فامض مع اثنين، قال لوقا: وكل من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده، ولا تطلب من الذي يأخذ مالك، وكما تحبون أن يصنع الناس بكم كذلك فاصنعوا أنتم بهم؛ وقال متى: سمعتم ما قيل: أحبب قريبك وابغض عدوك، وأنا أقول لكم: حبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى من أبغضكم - وقال لوقا: يبغضكم - وصلوا على من يطردكم ويحزنكم، لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم! أليس العشارون يفعلون مثل ذلك! وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل عملتم! أليس كذلك يفعل العشارون! وقال لوقا: إن كنتم إنما تحبون من يحبكم فأي أجر لكم! إن الخطأة يحبون من يحبهم، وإن صنعتم الخير مع من يحسن إليكم فأيّ فضل لكم! إن الخطأة هكذا يصنعون، وإن كنتم إنما تقرضون من تظنون أنكم تأخذون العوض منه فأي فضل لكم! إن الخطأة أيضاً يقرضون الخطأة لكي يأخذوا منهم العوض، لكن حبوا أعداءكم وأحسنوا إليهم، وكونوا رحماء مثل أبيكم فهو رؤوف، وقال متى: كونوا أنتم كاملين مثل أبيكم السمائي فهو كامل.
ثم قال في الفصل الثالث والثلاثين: وفي ذلك الزمان
177
مر يسوع في سبت بالزروع وجاع تلاميذه، فبدؤوا يفركون سنبلاً ويأكلون - وفي لوقا: كان تلاميذه يقطعون السنبل ويفركون بأيديهم ويأكلون - فلما أبصرهم الفريسيون قالوا له: ها هو ذا تلاميذك يعملون ما لا يحل في السبت - وفي لوقا: لماذا تفعلون ما لا يحل أن يفعل في السبوت - فقال لهم: أما قرأتم ما صنع داود لما جاع هو والذين معه! كيف دخل إلى بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة! قال مرقس: وأعطى الذين كانوا مع، ثم قال لهم: السبت من أجل الإنسان كان ولم يخلق الإنسان من أجل السبت؛ قال متى: أوما قرأتم في الناموس أن الكهنة في السبت في الهيكل ينجسون السبت وليس عليهم جناح! وأقول لكم: إن ها هنا أعظم من الهيكل لو كنتم تعلمون ما هو مكتوب، إني أريد الرحمة لا الذبيحة، لِمَ تحكمون على من لا ذنب له! وقال لوقا: ودخل بيت أحد الرؤساء الفريسيين في يوم سبت ليأكل خبزاً وهم كانوا يرصدونه فإذا إنسان به استسقاء، فقال يسوع للكهنة والفريسيين: هل يحل أن يبرأ في السبت؟ فسكتوا فأخذه وأبرأه ثم قال لهم: من منكم يقع ابنه في بئر يوم السبت ولا يصعده في الوقت؟ فلم يقدروا أن يجيبوه عن هذا؛ ثم قال متى: فجاء الفريسيون ليجربوه
178
قائلين: هل يحل للإنسان أن يطلق امرأته لأجل كل كلمة؟ أجاب: أما قرأتم أن الذي خلق في البدء خلقهما ذكراً وأنثى، من أجل ذلك يترك الإنسان أباه وأمه ويلصق بامرأته، ويكونان كلاهما جسداً واحداً، وليس هما اثنين لكن جسد واحد، وما زوجه الله لا يفرقه الإنسان - وقال مرقس: لا يقدر إنسان يفرقه - قالوا له: لماذا أمر موسى أن يعطى كتاب الطلاق وتخلى؟ قال لهم: موسى من أجل قسوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم - وفي مرقس: إنهم سألوه فقال لهم: بماذا أوصاكم موسى؟ قالوا: أمر أن يكتب كتاب الطلاق وتخلى، قال لهم يسوع: من أجل قسوة قلوبكم كتب لكم موسى هذه الوصية، من البدء لم يكن هكذا، وأقول لكم: من طلق امرأته من غير زنا فقد ألجأها إلى الزنا، ومن تزوج مطلقة فقد زنى، وفي إنجيل مرقس: وفي البيت أيضاً سأله التلاميذ عن هذا فقال لهم: من طلق امرأته وتزوج أخرى فقد زنى عليها، وإن هي خلت زوجها وتزوجت آخر فهي زانية؛ وفي لوقا: كل من يطلق امرأته ويتزوج أخرى فهو يزني، وكل من تزوج مطلقة من زوجها فهو يزني؛ قال متى: فقال له التلاميذ: إن كان هكذا علة الرجل مع المرأة فخير له أن لا يتزوج، فقال لهم: ما كل أحد يستطيع هذا الكلام إلا الذين قد أعطوا، الآن خِصيانُ ولدوا
179
من بطون أمهاتهم، وخصيان أخصاهم الناس، وخصيان أخصوا نفوسهم من أجل ملكوت السماوات، ومن استطاع أن يحتمل فليحتمل.
ولما ذكر سبحانه الكتابين، ذكر ختامهما وتمامهما، وهو ما أنزل إلى هذا النبي الأمي من الفرقان الشاهد على جميع الكتب التي قبله، فقال تعالى: ﴿وأنزلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿إليك﴾ أي خاصة ﴿الكتاب﴾ أي الكامل في جمعه لكل ما يطلب منه وهو القرآن ﴿بالحق﴾ أي الكامل الذي لا يحتاج إلى شيء يتمه، ثم مدحه بمدح الأنبياء الذين تقدموه فقالك ﴿مصدقاً لما بين يديه﴾ أي تقدمه.
ولما كانت الكتب السماوية من شدة تصادقها كالشيء الواحد، عبر بالمفرد لإفادته ما يفيد الجمع وزيادة دلالة على ذلك فقال: ﴿من الكتاب﴾ أي الذي جاء به الأنبياء من قبل ﴿ومهيمناً﴾ أي شاهداً حفيظاً مصدقاً وأميناً رقيباً ﴿عليه﴾ أي على كل كتاب تقدمه - كما قاله البخاري في أول الفضائل من الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي هذه الصفة بشارة لحفظه سبحانه لكتابنا حتى لا يزال بصفة الشهادة، فإن الله تعالى استحفظهم كتبهم فعجزوا عنها، فحرفها محرفوهم وأسقطوا منها وأسقط مسرفوهم، فتكفل هو سبحانه بحفظ كتابنا فكان قيماً عليها، فما كان فيها موافقاً له فهو حق، وما كان فيها مخالفاً فهو إما منسوخ
180
أو مبدل فلا يعبر، بل يحكم بما في كتابنا لأنه ناسخ لجميع الكتب، والآتي به مرسل إلى جميع العالمين، فملته ناسخة لجميع الملل، فأنتج هذا وجوب الحكم بما فيه على المؤالف والمخالف بشرطه؛ فلذا قال مسبباً عما قبله: ﴿فاحكم بينهم﴾ أي بين جميع أهل الكتب، فغيرهم من باب الأولى ﴿بما أنزل الله﴾ أي الملك الذي له الأمر كله إليك في هذا الكتاب الناسخ لكتبهم المهيمن عليها في إثبات ما أسقطوه منها من أمرهم باتباعك ونحو ذلك من أوصافك ﴿ولا تتبع أهواءهم﴾ فيما خالفه منحرفين ﴿عما جاءك﴾ وبينه بقوله: ﴿من الحق﴾.
ولما كان كل من كتابيهم من عند الله، كان كأنه قيل: كيف يكون الحكم بكتابهم الذي يصدقه كتابنا انحرافاً عن الحق؟ علل ذلك دالاً على النسخ بقوله: ﴿لكل﴾ أي لكل واحد ﴿جعلنا﴾ أي بعظمتنا التي نفعل بها ما نشاء من نسخ وغيره، ثم خصص الإبهام بقوله: ﴿منكم﴾ أي يا أهل الكتب ﴿شرعة﴾ أي ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية، كما أن الشرعة موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية ﴿ومنهاجاً﴾ أي طريقاً واضحاً مستنيراً ناسخاً لما قبله، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع، وهذا وأمثاله - مما يدل على أن كل متشرع مختص بشرع وغير متعبد بشرع من قبله - محمول على الفروع، وما دل
181
على الاجتماع كأنه شرع لكم من الدين محمول على الأصول ﴿ولو شاء الله﴾ أي الملك الأعظم المالك المطلق الذي له التصرف التام والأمر الشامل العام أن يجمعكم على شيء واحد ﴿لجعلكم أمة﴾ أي جماعة متفقة يؤم بعضها بعضاً، وحقق المراد بقوله: ﴿واحدة﴾ أي على دين واحد، ولم يجعل شيئاً من الكتب ناسخاً لشيء من الشرائع، لأن الكل بمشيئته، ولا مشيئة لأحد سواه إلا بمشيئته ﴿ولكن﴾ لم يشأ ذلك، بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة ﴿ليبلوكم﴾ أي ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر ﴿فيما آتاكم﴾ أي أعطاكم وقسم بينكم من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود ما تعملون في ذلك من اتباع وإذعان اعتقاداً أن ذلك مقتضى الحكمة الإلهية؛ فترجعون عنه إذا قامت البراهين بالمعجزات على صدق ناسخه، ونهضت الأدلة البينات على صحة دعواه بعد طول الإلف له وإخلاد النفوس إليه واستحكامه بمرور الأعصار وتقلب الأدوار؛ أو زيغ وميل اتهاماً وتجويزاً كما فعل أول المتكبرين إبليس، فتؤثرون الركون إليه والعكوف عليه لمتابعة الهوى والوقوف عند مجرد الشهوة.
ولما كان في الاختبار أعظم تهديد، سبب عنه قوله: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ أي افعلوا في المبادرة إليها بغاية الجهد فعل من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه له، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إلى الله﴾ أي الشارع لذلك، لا إلى غيره، لأنه الملك الأعلى ﴿مرجعكم جميعاً﴾ وإن اختلفت
182
شرائعكم، حساً في القيامة، ومعنى في جميع أموركم في الدارين ﴿فينبئكم﴾ أي يخبركم إخباراً عظيماً ﴿بما كنتم﴾ أي بحسب اختلاف الجبلات؛ ولما كان في تقديم الظرف إبهام، وكان الإفهام بعد الإبهام أوقع في النفس، قال ﴿فيه تختلفون *﴾ أي تجددون الخلاف مستمرين عليه، ويعطي كلاماً يستحقه، ويظهر سر الاختلاف وفائدة الوفاق والائتلاف.
183
ولما كان الأمر بالحكم فيما مضى لكونه مسبباً عما قبله من إنزال الكتاب على الأحوال المذكورة، أعاد الأمر به سبحانه مصرحاً بذلك لذاته لا لشيء آخر، ليكون الأمر به مؤكداً غاية التأكيد بالأمر به مرتين: مرة لأن الله أمر به، وأخرى لأنه على وفق الحكمة، فقال تأكيداً له وتنويهاً بعظيم شأنه ومحذراً من الأعداء فيما يلقونه من الشبه للصد عنه: ﴿وأن﴾ أي احكم بينهم بذلك لما قلنا من السبب وما ذكرنا من العلة في جعلنا لكل ديناً، ولأنا قلنا آمرين لك أن ﴿احكم بينهم﴾ أي أهل الكتب وغيرهم ﴿بما أنزل الله﴾ أي المختص بصفات الكمال لأنه يستحق أن يتبع أمره لذاته وبين أن مخالفتهم له وإعراضهم عنه إنما هو مجرد هوى، لأن كتابهم داع إليه، فقال: ﴿ولا تتبع أهواءهم﴾ أي في عدم التقييد به ﴿واحذرهم أن يفتنوك﴾ أي يخالطوك بكذبهم
183
على الله وافترائهم وتحريفهم الكلم ومراءاتهم مخالطة تميلك ﴿عن بعض ما أنزل الله﴾ أي الذي لا أعظم منه، فلا وجه أصلاً للعدول عن أمره ﴿إليك فإن تولوا﴾ أي كلفو أنفسهم الإعراض عما حكمت به بينهم مضادين لما دعت إليه الطفرة الأولة من اتباع الحق ودعت إليه كتبهم من اتباعك ﴿فاعلم إنما يريد الله﴾ أي الذي له جميع العظمة العظمة ﴿أن يصيبهم﴾ لأنه لو أراد بهم الخير لهداهم إلى القبول الذي يطابق عليه شاهد العقل بما تدعو إليه الفطرة الأولى والنقل بما في كتبهم، إما من الأمر بذلك الحكم بعينه، وإما من الأمر باتباعك ﴿ببعض ذنوبهم﴾ أي التي هذا منها، وأبهمه زيادة في استدراجهم وإضلالهم وتحذيراً لهم من جميع مساوي أعمالهم، لئلا يعلموا عين الذنب الذي اصيبوا به، فيحملهم ذلك على الرجوع عنه، ويصير ذلك كالإلجاء، أو يكون إبهامه للتعظيم كما أن التنكير يفيد التعظيم، فيؤذن السياق بتعظيم هذا التولي وبكثرة ذنوبهم واجترائهم على مواقعتها.
ولما كان التقدير: فإنهم بالتولي فاسقون، عطف عليه: ﴿وإن كثيراً من الناس﴾ أي هم وغيرهم ﴿لفاسقون *﴾ أي خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات، متكلفون لأنفسهم إظهار ما في بواطنهم من خفي الحيلة بقوة؛ ولما كان من المعلوم أن من أعرض عن حكم الله أقبل ولا بد على حكم الشيطان الذي هو عين الهوى الذي هو دين أهل الجهل الذين لا كتاب لهم هاد ولا شرع ضابط، سبب عَن إعراضهم
184
الإنكار عليهم بقوله: ﴿أفحكم الجاهلية﴾ أي خاصة مع أن أحكامها لا يرضى بها عاقل، لكونها لم يدع إليها كتاب، بل إنما هي مجرد أهواء وهم أهل كتاب ﴿يبغون﴾ أي يريدون بإعراضهم عن حكمك مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك، وشهد به كتابك بالعجز عن معارضته من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق، وقراءة ابن عامر بالالتفات إلى الخطاب أدل على الغضب.
ولما كان حسن الحكم تابعاً لإتقانه، وكان إتقانه دائراً على صفات الكمال من تمام العلم وشمول القدرة وغير ذلك، قال - معلماً أن حكمه أحسن الحكم عاطفاً على ما تقديره: فمن أضل منهم: ﴿ومن﴾ ويجوز أن تكون الجملة حالاً من واو يبغون، أي يريدون ذلك والحال أنه يقال: من ﴿أحسن من الله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال ﴿حكماً﴾ ثم زاد في تقريعهم بكثافة الطباع وجمود الأذهان ووقوف الأفهام بقوله معبراً بلام البيان إشارة إلى المعنى بهذا الخطاب: ﴿لقوم﴾ أي فيهم نهضة وقوة محاولة لما يريدونه ﴿يوقنون *﴾ أي يوجد منهم اليقين يوماً ما وأما غيرهم فليس بأهل الخطاب فكيف بالعتاب! إنما عتابه شديد العقاب، وفي ذلك أيضاً غاية التبكيت لهم والتقبيح عليهم من حيث إنهم لم يزالوا يصفون أهل الجاهلية بالضلال، وأن دينهم لم ينزل الله به
185
من سلطان، وقد عدلوا في هذه الأحكام إليه تاركين جميع ما أنزل الله من كتابهم والكتاب الناسخ له، فقد ارتكبوا الضلال بلا شبهة على علم، وتركوا الحق المجمع عليه.
ولما بين عنادهم وأن عداوتهم لأهل هذا الدين التي حملتهم على هذا الأمر العظيم ليس بعدها عداوة، نهى من اتسم بالإيمان عن موالاتهم، لأنه لا يفعلها بعد هذا البيان مؤمن ولا عاقل، فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان؛ ولما كان الإنسان لا يوالي غير قومه إلا باجتهاد في مقدمات يعملها وأشياء يتحبب بها إلى أولئك الذين يريد أن يواليهم، أشار إلى ذلك بصيغة الافتعال فقال: ﴿لا تتخذوا﴾ أي إن ذلك لو كان يتأتى بسهولة لما كان ينبغي لكم أن تفعلوه، فكيف وهو لا يكون إلا ببذل الجهد! ﴿اليهود والنصارى أولياء﴾ أي أقرباء تفعلون معهم ما يفعل القريب مع قريبه، وترجون منهم مثل ذلك، وهم أكثر الناس استخفافاً بكم وازدراء لكم؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿بعضهم أولياء بعض﴾ أي كل فريق منهم يوالي بعضهم بعضاً، وهم جميعاً متفقون - بجامع الكفر وإن اختلفوا في الدين - على عداوتكم يا أهل هذا الدين الحنيفي! ﴿ومن يتولهم منكم﴾ أي يعالج فطرته الأولى حتى يعاملهم معاملة الأقرباء ﴿فإنه منهم﴾ لأن الله غني عن العالمين، فمن والى أعداءه تبرأ منه ووكله إليهم؛ ثم علل ذلك
186
تزهيداً فيهم وترهيباً لمتوليهم بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الغنى المطلق والحكمة البالغة، وكان الأصل: لا يهديهم، أو لا يهديه، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: الأصل: لا يهديهم، أو لا يهديه، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: ﴿لا يهدي القوم الظالمين *﴾ أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها، فهم يمشون في الظلام، فلذلك اختاروا غير دين الله ووالوا من لا تصلح موالاته، ومن لم يرد الله هدايته لم يقدر أحد أن يهديه، ونفي الهداية عنهم دليل على أن العبرة في الإيمان القلب، إذ معناه أن هذا الذي يظهر من الإقرار ممن يواليهم ليس بشيء، لأن الموالي لهم ظالم بموالاته لهم، والظالم لا يهديه الله، فالموالي لهم لا يهديه الله فهو كافر، وهكذا كل من كان يقول أو يفعل ما يدل دلالة ظاهرة على كفره وإن كان يصرح بالإيمان - والله الهادي، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبه المخالف في الدين واعتزاله - كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لا تراءى ناراهما» ومنه قول عمر لأبي موسى رضي الله عنهما حين اتخذ كاتباً نصرانياً: لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله، وروي أن أبا موسى رضي الله عنه قال: لا قوام للبصرة إلا به،
187
فقال عمر رضي الله عنه: مات النصراني - والسلام، يعني هب أنه مات فما كنت صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة.
188
ولما علل بذلك، كان سبباً لتمييز الخالص الصحيح من المغشوش المريض، فقال: ﴿فترى﴾ أي فتسبب عن أن الله لا يهدي متوليهم أنك ترى ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾ أي فساد في الدين كابن أبي وأصحابه - أخزاهم الله تعالى ﴿يسارعون﴾ أي بسبب الاعتماد عليهم دون الله ﴿فيهم﴾ أي في موالاة أهل الكتاب حتى يكونوا من شدة ملابستهم كأنهم مظروفون لهم كأن هذا الكلام الناهي لهم كان إغراء، ويعتلون بما بما لا يعتل به إلا مريض الدين من النظر إلى مجرد السبب في النصرة عند خشية الدائرة ﴿يقولون﴾ أي قائلين اعتماداً عليهم وهم أعداء الله اعتذاراً عن موالاتهم ﴿نخشى﴾ أي نخاف خوفاً بالغاً ﴿أن تصيبنا دائرة﴾ أي مصيبة محيطة بنا، والدوائر: التي تخشى، والدوائل: التي ترجى.
ولما نصب سبحانه هذا الدليل الذي يعرف الخالص من المغشوش، كان فعلهم هذا للخالص سبباً في ترجي أمر من عند الله ينصر به دينه، إما الفتح أو غيره مما أحاط به علمه وكوّنته قدرته يكون سبباً لندمهم، فلذا قال: ﴿فعسى الله﴾ أي الذي لا أعظم منه فلا يطلب النصر إلا منه ﴿أن يأتي بالفتح﴾ أي بإظهار الدين على الأعداء ﴿أو أمر من عنده﴾
188
بأخذهم قتلاً بأيديكم أو بإخراج اليهود من أرض العرب أو بغير ذلك فينكشف لهم الغطاء.
ولما كانت المصيبة عند الإصباح أعظم، عبر به وإن كان المراد التعميم فقال: ﴿فيصبحوا﴾ أي فيسبب عن كشف غطائهم أن يصبحوا والأحسن في نصبه ما ذكره أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح للفارسي من أنه جواب «عسى» إلحاقاً لها بالتمني لكونها للطمع وهو قريب منه، ويحسنه أن الفتح وندامتهم المترتبة عليه عندهم من قبيل المحال، فيكون النصب إشارة إلى ما يخفون من ذلك، وهو مثل ما يأتي إن شاء الله تعالى في توجيه قراءة حفص عن عاصم في غافر ﴿فاطلع﴾ [غافر: ٣٧] بالنصب ﴿على ما أسروا﴾.
ولما كان الإسرار لا يكون إلاّ لما يخشى من إظهاره فساد، وكان يطلق على ما دار بين جماعة خاصة على وجه الكتمان عن غيرهم، بين أنه أدق من ذلك وأنه على الحقيقة مَنَعهم خوفهم من غائلته وغرته عندهم أن يبرزوه إلى الخارج فقال: ﴿في أنفسهم﴾ أي من تجويز محو هذا الدين وإظهار غيره عليه ﴿نادمين *﴾ أي ثابت لهم غاية الندم في الصباح وغيره ﴿ويقول الذين آمنوا﴾ من رفعه عطفه على معنى ﴿نادمين﴾ فإن أصله: يندمون، ولكنه عبر بالاسم إعلاماً بدوام ندمهم
189
بشارة بدوام الظهور لهذا الدين على كل دين، أو على ﴿يقولون نخشى﴾، ومن أسقط الواو جعله حالاً، ومن نصبه جاز أن يعطفه على «يصبحوا» أي يكون ذلك سبباً لتحقق المؤمنين أمر المنافقين بالمسارعة في أهل الكتاب عند قيامهم سروراً بهم والندم عند خذلانهم ومحقهم، فيقول بعض المؤمنين لبعض تعجباً من حالهم واغتباطاً بما من الله عليهم به من التوفيق في الإخلاص مشيرين إلى المنافقين تنبيهاً وإنكاراً: ﴿أهؤلاء﴾ أي الحقيرون ﴿الذين أقسموا بالله﴾ أي وهو الملك الأعظم ﴿جهد أيمانهم﴾ أي مبالغين في ذلك اجتراء على عظمته ﴿إنهم لمعكم﴾ أيها المؤمنون! ويجوز أن يكون هذا القول من المؤمنين لليهود في حق المنافقين حيث قاسموهم على النصرة؛ ثم ابتدأ جواباً من بقية كلام المؤمنين أو من كلام الله لمن كأنه قال: فماذا يكون حالهم؟ فقال: ﴿حبطت﴾ أي فسدت فسقطت ﴿أعمالهم فأصبحوا﴾ أي فتسبب عن ذلك أنهم صاروا ﴿خاسرين﴾ أي دائمي الخسارة بتعبهم في الدنيا بالأعمال وخيبة الآمال، وجنايتهم في الآخرة الوبال، وعبر بالإصباح لأنه لا أقبح من مصابحة السوء لما في ذلك من البغتة بخلاف ما ينتظر ويؤمل.
190
ولما نهى عن موالاتهم وأخبر أن فاعلها منهم. نفى المجاز مصرحاً بالمقصود فقال مظهراً لنتيجة ما سبق: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾
190
أي أقروا بالإيمان! من يوالهم منكم - هكذا كان الأصل، ولكنه صرح بأن ذلك ترك الدين فقال: ﴿من يرتد﴾ ولو على وجه خفي - بما أشار إليه الإدغام في قراءة من سوى المدنيين وابن عامر ﴿منكم عن دينه﴾ أي الذي معناه موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، فيوالون أعداءه ويتركون أولياءه، فيبغضهم الله ويبغضونه، ويكونون أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، فالله غني عنهم ﴿فسوف يأتي الله﴾ اي الذي له الغنى المطلق والعظمة البالغة مكانهم وإن طال المدى بوعد صادق لا خلف فيه ﴿بقوم﴾ أي يكون حالهم ضد حالهم، يثبتون على دينهم، وهم أبو بكر والتابعون له بإحسان - رضي الله عنهم.
ولما كانت محبته أصل كل سعادة قدمها فقال: ﴿يحبهم﴾ فيثبتهم عليه ويثيبهم بكرمه أحسن الثواب ﴿ويحبونه﴾ فيثبتون عليه، ثم وصفهم بما يبين ذلك فقال: ﴿أذلة﴾ وهو جمع ذليل؛ ولما كان ذلهم هذا إنما هو الرفق ولين الجانب لا الهوان، كان في الحقيقة عزاً، فأشار إليه بحرف الاستعلاء مضمناً له معنى الشفقة، فقال مبيناً أن تواضعهم عن علو منصب وشرف: ﴿على المؤمنين﴾ أي لعلمهم أن الله يحبهم ﴿أعزة على الكافرين﴾ أي يظهرون الغلظة والشدة عليهم لعلهم أن الله خاذلهم ومهلكهم وإن اشتد أمرهم وظهر علوهم وقهرهم، فالآية
191
من الاحتباك: حذف أولاً البغض وما يثمره لدلالة الحب عليه، وحذف ثانياً الثبات لدلالة الردة عليه؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿يجاهدون﴾ أي يوقعون الجهاد على الاستمرار لمن يستحقه من غير ملال ولا تكلف كالمنافقين، وحذف المفعول تعميماً ودل عليه مؤذناً بأن الطاعة محيطة بهم فقال: ﴿في سبيل الله﴾ أي طريق الملك الأعظم الواسع المستقيم الواضح، لا لشيء غير ذلك كالمنافقين.
ولما كان المنافقون يخرجون في الجهاد، فصلهم منهم بقوله: ﴿ولا﴾ أي والحال أنهم لا ﴿يخافون لومة﴾ أي واحدة من لوم ﴿لائم﴾ وإن كانت عظيمة وكان هو عظيماً، فبسبب ذلك هم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين - أمر بالمعروف أو نهي عن منكر - كانوا كالمسامير المحماة، لا يروِّعهم قول قائل ولا اعتراض معترض، ويفعلون في الجهاد في ذلك جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه من إنكال الأعداء وإهانتهم ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم، وليسوا كالمنافقين يخافون لومة أوليائهم من اليهود فلا يفعلون وإن كانوا مع المؤمنين شيئاً ينكيهم.
ولما كانت هذه الأوصاف من العلو في رتب المدح بمكان لا يلحق، قال مشيراً إليها بأداة البعد واسم المذكر: ﴿ذلك﴾ أي الذي تقدم من
192
أوصافهم العالية ﴿فضل الله﴾ أي الحاوي لكل كمال ﴿يؤتيه﴾ أي الله لأنه خالق لجميع أفعال العباد ﴿من يشاء﴾ أي فليبذل الإنسان كل الجهد في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة ﴿واسع﴾ أي محيط بجميع أوصاف الكمال، فهو يعطي من سعة ليس لها حد ولا يلحقها أصلاً نقص ﴿عليم *﴾ أي بالغ العلم بمن يستحق الخير ومن يستوجب غيره، وبكل ما يمكن علمه.
ولما نفى سبحانه ولايتهم بمعنى المحبة وبمعنى النصرة وبمعنى القرب بكل اعتبار، أنتج ذلك حصر ولاية كل من يدعي الإيمان فيه وفي أوليائه فقال: ﴿إنما وليكم الله﴾ أي لأنه القادر على ما يلزم الولي، ولا يقدر غيره على شيء من ذلك إلاّ به سبحانه؛ ولما ذكر الحقيق بإخلاص الولاية له معلماً بأفراد المبتدأ أنه الأصل في ذلك وما عداه تبع، أتبعه من تعرف ولايته سبحانه بولايتهم بادئاً بأحقهم فقال: ﴿ورسوله﴾ وأضافة إليه إظهاراً لرفعته ﴿والذين آمنوا﴾ أي أوجدوا الإيمان وأقروا به ثم وصفهم بما يصدق دعواهم الإيمان فقال: ﴿والذين يقيمون الصلاة﴾ أي تمكيناً لوصلتهم بالخالق ﴿ويؤتون الزكاة﴾ إحساناً إلى الخلائق، وقوله: ﴿وهم راكعون *﴾ يمكن أن يكون معطوفاً على ﴿يقيمون﴾ أي ويكونون من أهل الركوع، فيكون فضلاً مخصصاً
193
بالمؤمنين المسلمين، وذلك لأن اليهود والنصارى لا ركوع في صلاتهم - كما مضى بيانه في آل عمران، ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإيتاء؛ وفي أسباب النزول أنها نزلت في عليّ رضي الله عنه، سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه. وجمع وإن كان السبب واحداً ترغيباً في مثل فعله من فعل الخير والتعجيل به لئلا يظن أن ذلك خاص به.
ولما كان التقدير: فمن يتول غيرهم فأولئك حزب الشيطان، وحزب الشيطان هم الخاسرون، عطف عليه: ﴿ومن يتول الله﴾ أي يجتهد في ولاية الذي له مجامع العز ﴿ورسوله﴾ الذي خُلقه القرآن ﴿والذين آمنوا﴾ وأعاد ذكر من خص الولاية بهم تبركاً بأسمائهم وتصريحاً بالمقصود، فإنهم الغالبون - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر ما شرفهم به ترغيباً لهم في ولايته فقال: ﴿فإن حزب الله﴾ أي القوم الذين يجمعهم على ما يرضي الملك الأعلى ما حزبهم أي اشتد عليهم فيه ﴿هم الغالبون *﴾ أي لا غيرهم، بل غيرهم مغلوبون، ثم إلى النار محشورون، لأنهم حزب الشيطان.
ولما نبه سبحانه على العلل المانعة من ولاية الكفار وحصر الولاية فيه سبحانه، أنتج ذلك قطعاً قوله منبهاً على علل أخرى موجهاً للبراءة منهم: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان، ونبه بصيغة الافتعال على أن من
194
يوالهم يجاهد عقله على ذلك اتباعاً لهواه فقال: ﴿لا تتخذوا الذين اتخذوا﴾ أي بغاية الجد والاجتهاد منهم ﴿دينكم﴾ أي الذي شرفكم الله به ﴿هزواً ولعباً﴾ ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله: ﴿من الذين﴾.
ولما كان المقصود بهم منح العلم، وهو كاف من غير حاجة إلى تعيين المؤتي، بني للمجهول قوله: ﴿أوتوا الكتاب﴾ ولما كان تطاول الزمان له تأثير فيما عليه الإنسان من طاعة أو عصيان، وكان الإيتاء المذكور لم يستغرق زمان القبل قال: ﴿من قبلكم﴾ يعني أنهم فعلوا الهزو عناداً بعد تحققهم صحة الدين.
ولما خص عم فقال: ﴿والكفار﴾ أي من عبدة الأوثان الذين لا علم لهم نُقِلَ عن الأنبياء، وإنما ستروا ما وضح لعقولهم من الأدلة فكانوا ضالين، وكذا غيرهم، سواء علم أنهم يستهزؤون أولا، كما أرشد إليه غير قراءة البصريين والكسائي بالنصب ﴿أولياء﴾ أي فإن الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم، فلا تصح لكم موالاتهم أصلاً.
ولما كان المستحق لموالاة شخص - إذا تركه ووالى غيره - يسعى في إهانته، حذرهم وقوعهم بموالاتهم على ضد مقصودهم فقال:
195
﴿واتقوا الله﴾ من له الإحاطة الكاملة، فإن من والى غيره عاداه، ومن عاداه هلك هلاكاً لا يضار معه ﴿إن كنتم مؤمنين *﴾ أي راسخين في الإيمان بحيث صار لكم جبلة وطبعاً، فإن لم تخافوه بأن تتركوا ما نهاكم عنه فلا إيمان.
ولما عم في بيان استهزائهم جميع الدين، خص روحه وخالصته وسره فقال: ﴿وإذا ناديتم﴾ أي دعا بعضكم الباقين إلى الإقبال إلى الندى وهو المجتمع، فأجابه الباقون بغاية الرغبة، ومنه دار الندوة، أو يكون المعنى أن المؤذن كلم المسلمين برفع صوته كلام من هو معهم في الندى بالقول فأجابوه بالفعل، فكان ذلك مناداة - هذا أصله، فعبر بالغاية التي يكون الاجتماع بها فقال مضمناً له الانتهاء: ﴿الى الصلاة﴾ أي التي هي أعظم دعائم الدين، وموصل إلى الملك العظيم، وعاصم بحبلة المتين ﴿اتخذوها﴾ على ما لها من العظمة والجد والبعد من الهزء بغاية هممهم وعزائمهم ﴿هزواً ولعباً﴾ فيتعمدون الضحك والسخرية ويقولون: صاحوا كصياح العير - ونحو هذا، وبين سبحانه أن سبب ذلك عدم انتفاعهم بعقولهم فكأنهم لا عقول لهم، وذلك لأن تأملها - في التطهر لها وحسن حال فاعلها عند التلبس بها من التخلي عن الدنيا جملة والإقبال على الحضرة الإلهية، والتحلي
196
بالقراءة لأعظم الكلام، والتخشع والتخضع لملك الملوك الذي لم تخف عظمته على أحد، ولا نازع قط في كبريائه وقدرته منازع - بمجرده كافٍ في اعتقاد حسنها وجلالها وهيبتها وكمالها فقال: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الشناعة ﴿بأنهم قوم﴾ وإن كانوا أقوياء لهم قدرة على القيام في الأمور ﴿لا يعقلون *﴾ أي ليست لهم هذه الحقيقة، ولو كان لهم شيء من عقل لعلموا أن النداء بالفم أحسن من التبويق وضرب الناقوس بشيء لا يقاس، وأن التذلل بين يدي الله بالصلاة أمر لا شيء أحسن منه بوجه، وللأذان من الأسرار ما تعجز عنه الأفكار، منه أنه جعل تسع عشرة كلمة، ليكف الله به عن قائله خزنة النار التسعة عشر، وجعلت الإقامة إحدى عشرة كلمة رجاء أن يكون معتقدها رفيقاً لأحد عشر: العشرة المشهود لهم بالجنة، وقطبهم وقطب الوجود كله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وناهيك أن من أسراره أنه جمع الدين كله أصولاً وفروعاً - كما بنت ذلك في كتابي «الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان».
197
ولما كانت النفوس نزاعة إلى الهوى، عمية عن المصالح، جامحة عن الدواء بما وقفت عنده من النظر إلى زينة الحياة الدنيا، وكان الدليل على سلب العقل عن أهل الكتاب دليلاً على العرب بطريق الأولى، وكان أهل الكتاب لكونهم أهل علم لا ينهض بمحاجتهم
197
إلا الأفراد من خلص العباد، قال تعالى دالاً على ما ختم به الآية من عدم عقلهم آمراً لأعظم خلقه بتبكيتهم وتوبيخهم وتقريعهم: ﴿قل﴾ وأنزلهم بمحل البعد فقال مبكتاً لهم بكون العلم لم يمنعهم عن الباطل: ﴿يا أهل الكتاب﴾ أي من اليهود والنصارى ﴿هل تنقمون﴾ أي تنكرون وتكرهون وتعيبون ﴿منا إلا أن آمنا﴾ أي أوجدنا الإيمان ﴿بالله﴾ أي لما له من صفات الكمال التي ملأت الأقطار وجاوزت حد الإكثار ﴿وما أنزل إلينا﴾ أي لما له من الإعجاز في حالات الإطناب والتوسط والإيجاز ﴿وما أنزل﴾.
ولما كان إنزال الكتب والصحف لم يستغرق زمان المضي، أثبت الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي لما شهد له كتابنا، وهذه الأشياء التي آمنا بها لا يحيد فيها عاقل، لما لها من الأدلة التي وضوحها يفوق الشمس، فحسنها لا شك فيه ولا لبس ﴿وأن﴾ أي آمنا كلنا مع أن أو والحال أن ﴿أكثركم﴾ قيد به إخراجاً لمن يؤمن منهم بما دل عليه التعبير بالوصف ﴿فاسقون *﴾ أي عريقون في الفسق، وهو الخروج عن دار السعادة بحيث لا يمكن منهم رجوع إلى المرضى من العبادة، فبين أنهم لا ينقمون من المؤمنين إلا المخالفة، والمخالفة إنما هي بإيمان المسلمين بالله وما أمر به، وكفر أهل الكتاب بجميع ذلك مع علمهم بما تقدم لهم أن من آمن بالله كان الله معه،
198
فنصره على كل من يناويه، وجعل مآله إلى الفوز الدائم، وأن من كفر تبرأ منه فأهلكه في الدنيا، وجعل مآله إلى عذاب لا ينقضي سعيره، ولا ينصرم أنينه وزفيره، ومن ركب ما يؤديه إلى ذلك على علم منه واختيار لم يكن أصلاً أحد أضل منه ولا أعدم عقلاً، وتخصيص النقم بما صدر من المؤمنين يمنع عطف ﴿وأن﴾ على ﴿أن آمنا﴾.
ولما أنزلهم سبحانه إلى عداد البهائم بكونهم ينسبونهم إلى الشر بجعلهم إياهم موضع الهزء واللعب وبكونهم ينظرون إلى أي من خالفهم، فيبعدون منه وينفرون عنه من غير أن يستعملوا ما امتازوا به عن البهائم في أن المخالف ربما كان فيه الدواء، والمكروه قد يؤول إلى الشفاء، والمحبوب يجر إلى العطب والتوي، بين لهم أن تلك رتبة سنية ومنزلة علية بالنسبة إلى ما هم فيه، فقال على سبيل التنزل وإرخاء العنان: ﴿قل﴾ أي يا من لا ينهض بمحاجتهم لعلمهم ولددهم غيره لما جبلت عليه من قوة الفهم ثم لما أنزل عليك من العلم ﴿هل أنبئكم﴾ أي أخبركم إخباراً متقناً معظماً جليلاً ﴿بشر من ذلك﴾ أي الأمر الذي نقمتموه علينا مع كونه قيماً وإن تعاميتم عنه، ووحد حرف الخطاب إشارة إلى عمى قلوبهم وأن هذه المقايسة لا يفهمها حق الفهم إلا المؤيد بروح
199
من الله ﴿مثوبة﴾ أي جزاء صالحاً ويرجع إليه، فإن المثوبة للخير كما أن العقوبة للشر، وهي مصدر ميمي كالميسور والمعقول، ثم نوه بشرفه بقوله: ﴿عند الله﴾ أي المحيط بصفات الجلال والإكرام، ثم رده أسفل سافلين بياناً لأنه استعارة تهكمية على طريق: تحية بينهم ضرب وجيع.
بقوله - جواباً لمن كأنه قال: نعم: ﴿من﴾ أي مثوبة من ﴿لعنة الله﴾ أي أبعده الملك الأعظم وطرده ﴿وغضب عليه﴾ أي أهلكه، ودل على اللعن والغضب بأمر محسوس فقال: ﴿وجعل﴾ ودل على كثرة الملعونين بجمع الضمير فقال: ﴿منهم﴾ أي بالمسخ على معاصيهم ﴿القردة﴾ تارة ﴿والخنازير﴾ أخرى، والتعريف للجنس، وقال ابن قتيبة: إن التعريف يفيد ظن أنهم لم ينقرضوا بل توالدوا حتى كان منهم أعيان ما تعرفه من النوعين، فما أبعد من كان منهم هذا من أن يكونوا أبناء الله وأحباءه! ثم عطف - على قراءة الجماعة - على قوله ﴿لعنه الله﴾ سبب ذلك بعد أن قدم المسبب اهتماماً به لصراحته في المقصود، مع أن اللعن والغضب سبب حقيقي، والعبادة سبب ظاهري، فقال: ﴿وعبد الطاغوت﴾ وقرأه حمزة بضم الباء على أنه جمع والإضافة عطف على القردة، فهو - كما قال في القاموس - اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ومردة أهل الكتاب، للواحد والجمع، فلعوت من
200
طغوت، وكل هذه المعاني تصلح ها هنا، أما اللات والعزى وغيرهما مما لم يعبدوه صريحاً فلتحسينهم دين أهله حسداً للإسلام وقد عبدوا الأوثان في كل زمان حتى في زمان موسى عليه السلام كما في نص التوراة: ثم بالغوا في النجوم لاستعمال السحر فشاركوا الصابئين في ذلك. فمعنى الآية: تنزلنا إلى أن نسبتكم لنا إلى الشر صحيحة، ولكن لم يأت كتاب بلعننا ولا بالغضب علينا ولا مسخنا قردة ولا خنازير، ولا عبدنا غير الله منذ أقبلنا عليه، وأنتم قد وقع بكم جميع ذلك، لا تقدرون أن تتبرؤوا من شيء منه، فلا يشك عاقل أنكم شر منا وأضل، والعاقل من إذا دار أمره بين شرين لم يختر إلا أقلهما شراً، فثبت كالشمس صحة دعوى أنهم قوم لا يعقلون، ولذلك ختم الآية بقوله ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء الموصوفون باللعن وما معه ﴿شر مكاناً﴾ وإذا كان ذلك لمكانهم فما ظنك بأنفسهم، فهو كناية عن نسبتهم إلى العراقة في الشر ﴿وأضل﴾ أي ممن نسبوهم إلى الشر والضلال، وسلم لهم ذلك فيهم إرخاء للعنان قصداً للإبلاغ في البيان ﴿عن سواء﴾ أي قصد وعدل ﴿السبيل *﴾ أي الطريق، ويجوز أن تكون الإشارة في ذلك إلى ما دل عليه الدليل الأول من عدم عقلهم ولا تنزل حينئذ، وإنما قلت: إنهم لا يقدرون على إنكار شيء
201
من ذلك، لأن في نص التوراة التي بين أظهرهم في السفر الخامس: فالرب يقول لكم ويأمركم أن تكونوا له شعباً حبيباً، وتحفظوا جميع وصاياه وتعملوا بها، فإنه يرفعكم فوق جميع الشعوب، وإذا جزتم الأردن انصبوا الحجارة التي آمركم بها اليوم على جبل عبل وكلسوها بالكلس، وابنوا هناك مذبحاً من الحجارة لم يقع عليها حديد، ولكن ابنوا الحجارة كاملة لم تقطع، وقربوا عليها ذبائح كاملة أمام الله ربكم، وكلوا هناك وافرحوا أمام الله ربكم، واكتبوا على تلك الحجارة جميع آيات هذه السنة.
ثم عين موسى رجالاً يقومون على جبل إذا جازوا الأردن ويهتفون بصوت عال ويقولون لبني إسرائيل: ملعوناً يكون الذي يتخذ أصناماً مسبوكة وأوثاناً منحوتة أمام الرب، والشعب كلهم يقولون: آمين! ملعوناً يكون من ينقل حد صاحبه ويظلمه في أرضه، ويقول الشعب كلهم: آمين! ملعوناً يكون من يضل الأعزى عن الطريق، ويقول الشعب كلهم: آمين! ملعوناً يكون من يحيف على المسكين واليتيم والأرملة في القضاء، ويقول الشعب كلهم: آمين! - إلى أن قال: ملعوناً يكون كل من لا يثبت على عهد آيات هذه التوراة ويعمل بها، ويقول الشعب كلهم: آمين! ثم قال: وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم ولم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه ووصاياه التي آمركم بها اليوم، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص
202
عليكم كله ويدرككم العقاب، وتكونوا ملعونين في القرية، ملعونين في الحرب، ويلعن نسلكم وثمار أرضكم، وتكونون ملعونين إذا دخلتم وملعونين إذا خرجتم، ينزل بكم الرب البلاء والحشرات، وينزل بكم الضربات الشديدة، وبكل شيء تمدون أيديكم إليه لتعملوه حتى يهلككم ويتلفكم سريعاً من أجل سوء أعمالكم وترككم لعبادتي، ويسلط عليكم هذه الشعوب حتى تهلكوا، وتكون السماء التي فوقكم عليكم شبه النحاس، والأرض تحتكم شبه الحديد، ويكسركم الرب بين يدي أعدائكم، تخرجون إليهم في طريق واحدة وتهربون في سبعة طرق، وتكونون مثلاً وقرعاً لجميع مملكات الأرض، وتكون جيفكم مأكلاً لجميع السباع وطيور السماء ولا يذب أحد عنكم، تكونون مقهورين مظلومين مغصوبين كل أيام حياتكم، يسبي بنيك وبناتك شعب آخر وتنظر إليهم ولا تقدر لهم على خلاص، وتكون مضطهداً مظوماً طور عمرك يسوقك الرب، ويسوق ملكك الذي مكله عليك إلى شعب لم يعرفه أبوك، وتعبد هناك آلهة أخرى عملت من خشب وحجارة، وتكون مثلاً وعجباً ويفكر فيك كل من يسمع خبرك في جميع الشعوب التي يقركم الله فيها، تزرع كثيراً وتحصد قليلاً، ويتعظم عليك سكانك ويصيرون فوقك، هذا اللعن
203
كله يلزمك وينزل بك ويدركك حتى تهلك، لأنك لم تقبل قول الله ربك، ولم تحفظ سننه ووصاياه التي أمرك بها، وتظهر فيك آيات وعجائب وفي نسلك إلى الأبد، لأنك لم تعبد الله ربك ولم تعمل بوصاياه، ويصير أعداؤك دق الحديد على عنقك، ويسلط الله عليك شعباً يأتيك وأنت جائع ظمآن عريان فقير، قد أعوزك كل شيء يحتاج إليه، وتخدم أعداءك، ويسرع إليك مثل طيران النسر شعب لا تعرف نعتهم، شعب وجوههم صفيقة، لا تستحيي من الشيوخ ولا ترحم الصبيان، ويضيق عليك في جميع قراك حتى يظفر بسوراتك المشيدة التي تتوكل عليها وتثق بها في كل أرضك، وتضطر حتى تأكل لحم ولدك، والرجل المدلل منكم المفنق تنظر عيناه إلى أخيه وخليله وإلى من بقي من ولده جائعاً، لا يعطيهم من لحم ابنه الذي يأكله لأنه لا يبقى عنده شيء من الاضطهاد والضيق الذي يضيق عليك عدوك، وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب وتتقي الله ربك وتهب اسمه المحمود المرهوب يخصك الرب بضربات موجعة، ويبتليك بها ويبتلي نسلك من بعدك، ويبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء،
204
لأنك لم تسمع قول الله، كما فرّحكم الرب وأنعم عليكم وكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليستأصلكم بالعقاب والنكال، ويدمر عليكم ويتلفكم، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها، ويفرقكم الرب بين جميع الشعوب - هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في أرض موآب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب، فإن قالوا: نحن لم ننقض بعد موسى عليه السلام حتى يلزمنا هذا اللعن المشروط بنقض العهد! قيل: قد شهد عليكم بذلك ما بين أيديكم من كتابكم، فإنه قال في آخر أسفاره ما نصه: وقال الرب لموسى: قد دنت أيام وفاتك فادع يشوع وقوما في قبة الزمان لآمره بما أريد، وانطلق يشوع وموسى وقاما في قبة الزمان، وظهر الرب في قبة الزمان بعمود من سحاب، وقام عمود من سحاب في باب قبة الزمان، وقال الرب لموسى: أنت مضطجع منقلب إلى آبائك، فيقول هذا الشعب فيضل ويتبع آلهة أخرى آلهة الشعوب التي تدخل وترى وتسكن بينها، ويخالفني ويبطل عهدي الذي عهدته، ويشتعل غضبي عليه في ذلك اليوم، وأخذلهم وأدير وجهي عنهم، ويصيرون مأكلاً لأعدائهم، ويصيبهم شر شديد وغم طويل، لأنهم تبعوا الآلهة الأخرى، فاكتب لهم الآن هذا التسبيح وعلمه بني إسرائيل وصيره في أفواههم، ليكون هذا التسبيح شهادة على
205
بني إسرائيل، لأني مدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم، الأرض التي تغل السمن والعسل، ويأكلون ويشبعون ويتلذذون، ويتبعون الآلهة الأخرى ويعبدونها، ويغضبوني ويبطلون عهدي، فإذا نزل بهم هذا الشر الشديد والغموم يتلى عليهم هذا التسبيح للشهادة، ولا تعدمه أفواه ذريتهم، لأني عالم بأهوائهم، وكل ما يصنعونه ها هنا اليوم قبل أن أدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم، وكتب موسى هذا التسبيح ذلك اليوم وعلمه بني إسرائيل - وذكر بعد هذا كله ما ذكرته عند
﴿إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين﴾ [النساء: ١٦٣] في النساء فراجعه، ثم قال: أنصتي أيتها السماء فأتكلم، ولتسمع الأرض النطق من فيّ لأنها ترجو كلامي عطشانة، وكمثل الندى ينزل قولي وكالمطر على النخيل وشبه الضباب على العشب، لأني دعوت باسم الرب أبداً وبالتعظيم لله الرب العدل وليس عنده ظلم، الرب البار الصادق، أخطأ أولاد الأنجاس، الجيل المتعوج المنقلب، وبهذا كافؤوا الرب، لأنه شعب جاهل وليس بحليم، أليس الرب استخلصك وخلقك! اذكروا أيام الدهر وتفهموا ما مضى من سنني جيلاً بعد جيل، استخبر أباك فيخبرك، وشيوخك فيفهموك، حين قسم العلى للأمم بني آدم الذين فرقهم، أقام حدود الأمم على عدد الملائكة،
206
وصار جزء الرب شعبه، يعقوب حبل ميراثه، إسرائيل فأرواه في البرية من عطش الحر حيث لم يكن ماء، وحاطه وأدبه وحفظه مثل حدقة العين، وكمثل النسر حيث نقل عشه وإلى فراخه اشتاق، فنشر أجنحته وقبلهم وحملهم على صلبه، الرب وحده ساقهم ولم يكن معهم إله آخر، وأصعدهم إلى علو الأرض وأطعمهم من ثمر الشجر وغذاهم عسلاً من حجر، من الصخرة أخرج لهم الزيت، ومن سمن البقر ولبن الغنم وشحم الخراف والكباش والثيران والجداء ولب القمح، أكل يعقوب المخصوص، حين شحم وغلظ وعرُض، ترك الإله الذي خلقه وبعُد من الله مخلصه، يقول الله: أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين ولم يقربوا لإله الآلهة ولم يعرفه الجيل الجديد الذين أتوا ونسوا آباءهم.
هذا ما أردت ذكره من التوراة في الشهادة على لزوم اللعن والغضب لهم بعبادتهم الطواغيت، وقد صدق الله قوله فيها وأتم كلماته - وهو أصدق القائلين - بما وقع لهم بعد وفاة موسى عليه السلام ثم بعد يوشع عليه السلام مع ما تقدم لهم في أيام يوشع عليه السلام من عبادة بعليون
207
الصنم كما مضى عند قوله تعالى ﴿وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم﴾ [البقرة: ٩٣].
ذكر ما يصدق ذلك من سفر يوشع، قال: ودعا يوشع جميع بني إسرائيل وقال لهم: أنا قد شخت وطعنت في السن، وأنتم قد رأيتم ما صنع الله بهذه الشعوب، إنه أهلكهم من بين أيديكم، وإن الله ربكم هو تولى حروبكم وظفركم، قد علمتم أني قسمت لكم الشعوب التي بقيت. فأما عند النهر الأعظم في مغارب الشمس فقد قسمتها لكم، والله ربكم يهزمهم ويهلكهم في أمامكم وترثون أرضهم كما قال الله ربكم، ولكن تقووا جداً واعلموا بجميع ما كتب في سفر موسى عند الرب، أهلك الرب من أمامكم شعوباً عظيمة ولم يثبت لكم إنسان إلى اليوم، الرجل منكم يهزم ألف رجل، لأن الله ربكم معكم وهو يجاهد عنكم كما قال لكم، فاحترسوا لأنفسكم، إن أنتم خالطتم الشعوب الذين بقوا بينكم وصرتم لهم أختاناً صاروا لكم فخاخاً وعثرات وأسنة في أصدافكم وصنارات في أعينكم حتى تهلكوا من الأرض الصالحة التي أعطاكم الله ربكم، وأما أنا فسائر في طريق أهل الأرض كلهم، وقد تعلمون يقيناً من كل قلوبكم وأنفسكم أنه ما سقطت كلمة واحدة من الكلام الذي وعدكم الله ربكم،
208
وكما تم كل الكلام الصالح الذي وعدكم الله به كذلك ينزل بكم كل اللعن حتى تهلكوا وتبيدوا إن أنتم عصيتم وتعديتم على ميثاق الله ربكم والوصايا التي أوصاكم بها؛ وجمع جميع بني إسرائيل إلى سجام وأقامهم أمام الرب في قبة الزمان وقال: اسمعوا قول الله إله إسرائيل: كان آباؤكم سكاناً في مجاز النهر في الدهر الأول، ترح أبو إبراهيم وناحور، وكانوا يعبدون هناك آلهة أخرى، وعهد إلى إبراهيم أبيكم وأخرجته من مجاز النهر وسيَّرته في أرض كنعان كلها، وأكثرت ذريته ورزقته إسحاق ابناً، ورزقت إسحاق يعقوب وعيسو، وأعطيت عيسو جبل ساعير ميراثاً، فأما يعقوب وبنوه فنزلوا إلى مصر، وأرسلت موسى وهارون وعاقبت أهل مصر وأكثرت في أرضهم من الآيات والأعاجيب، ومن بعد ذلك أخرجتهم منها، وشق لهم الرب بحر سوف وأجاز إياكم فيه مشياً، فلما أراد المصريون أن يجوزوا أقلب البحر عليهم وغرقهم، ورأت أعينكم ما صنعت بأهل مصر، ثم أتيت بكم المفازة وسكنتموها أياماً كثيرة، وأتيت بكم أرض الأمورانيين الذين يسكنون عند مجاز الأردن، وحاربوكم ودفعتهم إليكم، ووثب عليكم بالاق بن صفور ملك الموآبيين، وحارب إسرائيل فأرسل فدعا بلعام بن بعور ليلعنكم، ولم يسرني أن أسمع قول بلغام، ولكن باركت عليكم ونجيتكم من يديه،
209
ثم جزتم نهر الأردن وأتيتم أهل أريحا فحاربكم أهلها والأمورانيون - ثم عد بقية الطوائف السبع - فدفعتهم إليكم أجمعين، وأعطيتكم أرضاً لم تتعبوا فيها، فاتقوا الرب واعبدوه بالبر والعدل، واصرفوا عن قلوبكم الفكر في عبادة الآلهة الأخرى التي عبدها أباؤكم عند مجاز النهر وفي أرض مصر، واعبدوا الرب وحده، وإن كان يشق عليكم أن تعبدوا الرب اختاروا لأنفسكم يومنا هذا من تعبدون، أتحبون أن تعبدوا الآلهة التي عبدها آباؤكم عند مجاز نهر الفرات أم آلهة الأمورانيين الذين سكنتم بينهم! أما أنا وأهل بيتي فإنا نعبد الله الرب، فأجاب الشعب وقالوا: حاشا لله أن نجتنب عبادة الرب ونعبد الآلهة الأخرى! لأن الله ربنا هو الذي أخرجنا من أرض مصر وخلصنا من العبودية، وأكمل الآيات والأعاجيب أمامنا، وحفظنا في كل الطرق التي سلكناها، وقوانا على جميع الشعوب التي حاربناها لذلك نعبد الرب لأنه هو الإلهة وحده وهو إلهنا، فقال: انظروا! لعلكم تجتنبون عبادة الله وتعبدون الآلهة الغريبة، فيغضب الرب عليكم وينزل بكم البلاء ويهلككم من بعد إنعامه عليكم، فقال الشعب: لا يكون لنا عبادة أخرى غير عبادة الله، ربنا، قال يشوع: اشهدتم على أنفسكم: أنتم الذين اخترتم عبادة الرب
210
قالوا له: نشهد! فأول ما دخل عليهم الدخيل أنهم لم يستأصلوا الكفرة وخالطوهم في أيام يوشع؛ قال في سفره: فصعد رسول الرب من الجلجال إلى سجين وقال لبني إسرائيل: هكذا يقول الرب: أنا الذي أصعدتكم من أرض مصر وأتيت بكم الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت: إني لا أبطل عهدي إلى الأبد، وأمرتكم أن لا تعاهدوا أهل هذه الأرض، ولكن استأصلوا مذابحهم، ولم تقبلوا ولم تطيعوني، وأنا أيضاً قد قلت: إني لا أهلكهم من أمامكم، ولكن تكون لكم آلهتهم عشرة، فلما قال رسول الرب لبني إسرائيل هذا القول رفع القوم أصواتهم بالبكاء ودعوا اسم ذلك الموضع تحناد أي موضع البكاء، وذبحوا هناك ذبائح للرب؛ وتوفي يشوع بن نون عند الرب ابن مائة وعشرين سنة، ودفن في حد ميراثه بسرح التي في جبل إفرائيم عن يسار جبل جعس، وكل ذلك الحقب أيضاً قبضوا، ونشأ من بعدهم حقب لم يعرف الرب ولم يعرف أعماله التي عملها، وارتكب بنو إسرائيل السيئات أمام الرب واجتنبوا عبادة الله إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر، وتبعوا آلهة الشعوب التي حولهم وسجدوا لها وعبدوا بعلاً وأشتراثاً الصنمين، وغضب الرب على بني إسرائيل، وسلط عليهم المنتهبين، ودفعهم إلى أعدائهم، ولم يقدروا
211
أن يثبتوا لأعدائهم، وكلما كانوا يخرجون إلى الحرب كانت يد الرب عليهم بالعقاب والبلاء كما قال لهم الرب وكما أقسم لآبائهم، واضطروا وضاق بهم جداً، فصير الرب عليهم قضاة، وأعان قضاتهم وخلصوهم من أيدي أعدائهم، وكان الرب يسمع أنينهم وما يشكون من المضيقين عليهم والمزعجين لهم، فلما توفيت قضاتهم رجعوا إلى الفساد كآبائهم، وعبدوا الأصنام وسجدوا لها، ولم ينقصوا من سوء أعمالهم الأولى وطرقهم الرديئة، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل وقال: لأن الشعب اعتدوا الوصية التي أوصيت آباءهم، ولم يسمعوا قولي، لا أعود أن أهلك إنساناً بين أيديهم من الشعوب التي خلف يشوع بعد وفاته، ليجرب الرب بها بني إسرائيل هل يحفظون طرق الرب كما حفظ آباؤهم أولاً! فلذلك ترك الرب هذه الشعوب ولم يهلكهم سريعاً، ولم يسلمها في يدي يشوع، والذين تركوا خمسة رؤساء أهل فلسطين وجميع الكنعانيين والصيدانيين والحاوانيين والذين يسكنون جبل لبنان ومن جبل بني حرمون إلى مدخل حماة ليجرب بهم بني إسرائيل، وجلس بنو إسرائيل بين يدي الأمورانيين وبقية القبائل، وزوجوا بنيهم من بناتهم وزوجوا بناتهم من بنيهم وعبدوا آلهتهم، وارتكب بنو إسرائيل السيئات أمام الرب ونسوا صنيع الرب إلههم وعبدوا بعلاً وأشتراثاً،
212
واشتد غضب الرب على بني إسرائيل ودفعهم إلى كوشان الأتيم ملك حران، فاستعبدهم ثماني سنين، ودعا بنو إسرائيل الرب متضرعين، وصيَّر الرب لهم مخلصاً، وخلصهم عثنايال بن قنز أخو كالاب الأصغر، فأعانه الرب وصار حكماً لبني إسرائيل فخرج إلى الحرب، وأسلم الرب في يده كوشان الأتيم، واستراحت الأرض من الحرب أربعين سنة، وتوفي عثنايال ابن قنز، وعاد بنو إسرائيل في سوء أعمالهم أمام الرب فقوى الرب عليهم ملك موآب، واستمروا هكذا في كل حين ينقضون، وسنة الرب كل قليل يرفضون، ولا يستقيمون إلا بقدر ما ينسون حرارة النقم ويذوقون لذاذة النعم - ولولا خوف الإطالة الموجبة للسآمة والملالة لذكرت من ذلك كثيراً من الكتب التي بين أيديهم، لا يقدرون على إنكار ما يلزمهم بها من الفضيحة والعار - والله الموفق.
213
ولما تم ذلك عطف سبحانه على ﴿وإذا ناديتم إلى الصلاة﴾ قوله دالاً على استحقاقهم للعن وعلى ما أخبر به من شرهم وضلالهم بما فضحهم به من سوء أعمالهم دلالة على صحة دين الإسلام بإطلاع شارعه عليه أفضل الصلاة والسلام على خفايا الأسرار: ﴿وإذا جاءوكم﴾ أي أيها المؤمنون! هؤلاء المنافقون من الفريقين، وإعادة ضمير الفريقين عليهم لأنهم في الحقيقة منهم، ما أفادتهم دعوى الإيمان شيئاً عند الله، والعدول إلى
213
خطاب المؤمنين دال على عطفه على ما ذكرت، وفيه إشارة إلى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرفهم في لحن القول، فلا يغتر بخداعهم ولا يسكن إلى مكرهم بما أعطى من صدق الفراسة وصحة التوسم ﴿قالوا آمنا﴾ أي لا تغتروا بمجرد قولهم الحسن الخالي عن البيان بما يناسبه من الأفعال فكيف بالمقترن بما ينفيه منها، وقد علم أن الفصل بين المتعاطفين بالآيتين السالفتين لا يضر، لكونهما علة للمعطوف عليه، فهما كالجزء منه.
ولما ادعوا الإيمان كذَّبهم سبحانه في دعواهم بقوله مقرباً لماضيهم من الحال رجاء لهم غير الدخول، لأنها تكاد تظهر ما هم مخفوه، فوجب التوقع للتصريح بها: ﴿وقد﴾ أي قالوا ذلك والحال أنهم قد ﴿دخلوا﴾ أي إليكم ﴿بالكفر﴾ مصاحبين له متلبسين به.
ولما كان المقام يقتضي لهم بعد الدخول حسن الحال، لما يرون من سمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجليل وكلامه العذب ودينه العدل وهدية الحسن، فلم يتأثروا لما عندهم من الحسد الموجب للعناد، أخبر عن ذلك بأبلغ من الجملة التي أخبرت بكفرهم تأكيداً للأخبار عن ثباتهم على الكفر، لأنه أمر ينكره العاقل فقال: ﴿وهم﴾ أي من عند أنفسهم لسوء ضمائرهم وجبلاتهم من غير سبب من أحد منكم، لا منك ولا من أتباعك ﴿قد خرجوا به﴾ أي الكفر بعد دخولهم ورؤية ما
214
رأوا من الخير، دالاً على قوة عنادهم بالجملة الاسمية المفيدة للثبات، وذكر المسند إليه مرتين، وهم بما أظهروا يظنون أنه يخفي ما أضمروا.
ولما كان في قلوبهم من الفساد والمكر بالإسلام وأهله ما يطول شرحه، نبه عليه بقوله: ﴿والله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال وبكل شيء علماً وقدرة ﴿أعلم﴾ أي منهم وممن توسم فيهم النفاق ﴿بما كانوا﴾ أي بما في جبلاتهم من الدواعي العظيمة للفساد ﴿يكتمون *﴾ أي من هذا وغيره في جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم.
ولما كذبهم في دعوى الإيمان، أقام سبحانه الدليل على كفرهم فقال مخاطباً لمن له الصبر التام، مفيداً أنه أطلعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما يعلم منهم مما يكتمونه من ذلك تصديقاً لقوله تعالى ﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾ إطلاعاً هو كالرؤية، عاطفاً على ما تقديره: وقد أخبرنا غيرك من المؤمنين بما نعلم منهم من ذلك، وأما أنت فترى ما في قلوبهم بما آتيناك من الكشف: ﴿وترى﴾ أي لا تزال يتجدد لك ذلك ﴿كثيراً منهم﴾ أي اليهود والكفار منافقهم ومصارحهم.
ولما كان التعبير بالعجلة لا يصح هنا، لأنها لا تكون إلا في شيء له وقتان: وقت لائق، ووقت غير لائق، والإثم لا يتأتى فيه ذلك،
215
قال: ﴿يسارعون﴾ أي يفعلون في تهالكهم على ذلك فعل من يناظر خصماً في السرعة فيما هو فيه محق وعالم بأنه في غاية الخير، وكان موضع لأن يعبر بالضمير فيقال: فيه - أي الكفر فعبر عنه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف إفادة لأن كفرهم عن حيلة هي في غاية الرداءة بقوله: ﴿في الإثم﴾ أي كل ما يوجب إثماً من الذنوب، وخص منه أعظمه فقال: ﴿والعدوان﴾ أي مجاوزة الحد في ذلك الذي أعظمه الشرك، ثم حقق الأمر وصوَّره بما يكون لوضوحه دليلاًعلى ما قبله من إقدامهم على الحرام الذي لا تمكن معه صحة القلب أصلاً، ولا يمكنهم إنكاره فقال: ﴿وأكلهم السحت﴾ أي الحرام الذي يستأصل البركة من أصلها فيمحقها، ومنه الرشوة، وكان هذا دليلاً على كفرهم لأنهم لون كانوا مؤمنين ما أصروا على شيء من ذلك، فكيف بجميعه! فكيف بالمسارعة فيه! ولذلك استحقوا غاية الذم بقوله: ﴿لبئس ما كانوا﴾ ولما كانوا يزعمون العلم، عبر عن فعلهم بالعمل فقال: ﴿يعملون *﴾.
ولما كان المنافقون من الأميين وأهل الكتاب قد صاروا شيئاً واحداً في الانحياز إلى المصارحين من أهل الكتاب، فأنزل فيهم سبحانه هذه الآيات على وجه يعم غيرهم حتى تبينت أحوالهم وانكشف زيغهم ومحالهم - أنكر- على من يودعونهم أسرارهم ويمنحونهم مودتهم وأخبارهم من علمائهم وزهادهم - عدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لكونهم
216
جديرين بذلك لما يزعمونه من اتباع كتابهم فقال: ﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا ﴿ينهاهم﴾ أي يجدد لهم النهي ﴿الربانيون﴾ أي المدعون للتخلي من الدنيا إلى سبيل الرب ﴿والأحبار﴾ أي العلماء ﴿عن قولهم الإثم﴾ أي الكذب الذي يوجبه وهو مجمع له ﴿وأكلهم السحت﴾ وذلك لأن قولهم للمؤمنين ﴿آمنا﴾ وقولهم لهم ﴿إنا معكم إنما نحن مستهزءون﴾ [البقرة: ١٤] لا يخلو عن كذب، وهو محرم في توراتهم وكذا أكلهم الحرام، فما سكوتهم عنهم في ذلك إلا لتمرنهم على المعاصي وتمردهم في الكفر واستهانتهم بالجرأة على من لا تخفى عليه خافية، ولا يبقى لمن عاداه باقية.
ولما كان من طبع الإنسان الإنكار على من خالفه، كانت الفطرة الأولى مطابقة لما أتت به الرسل من قباحة الكذب وما يتبعه من الفسوق. وكان الإنسان لا ينزل عن تلك الرتبة العالية إلى السكوت عن الفاسقين فضلاً عن تحسين أحوالهم إلا بتدرب طويل وتمرن عظيم، حتى يصير له ذلك كالصفة التي صارت بالتدريب صنعة يألفها وملكة لا يتكلفها، فجعل ذنب المرتكب للمعصية غير راسخ، لأن الشهوة تدعوه إليها، وذنب التارك للنهي راسخاً لأنه لا شهوة له تدعوه إلى الترك، بل معه
217
حامل من الفطرة السليمة تحثه على النهي، فكان أشد حالاً؛ قال: ﴿لبئس ما﴾ ولما كان ذلك في جبلاتهم، عبر بالكون فقال: ﴿كانوا يصنعون *﴾ أي في سكوتهم عنهم وسماعهم منهم.
218
ولما لم تزل الدلائل على إبطال دعوى أهل الكتاب في البنوة والمحبة تقوم، وجبوش البراهين تنجد، حتى انتشبت فيهم سهام الكلام أي انتشاب، قال تعالى معجباً من عامتهم بعد تعيين خاصتهم، معلماً بأنهم لم يقنعوا بالسكوت عن المنكر حتى تكلموا بأنكره، مشيراً إلى سفول رتبتهم ودناءة منزلتهم بأداة التأنيث: ﴿وقالت اليهود﴾ معبرين عن البخل والعجز جرأة وجهلاً بأن قالوا ذاكرين اليد لأنها موضع القدرة وإفاضة الجود والنصرة: ﴿يد الله﴾ أي الذي يعلم كل عاقل أن له صفات الكمال ﴿مغلولة﴾ أي فهو لا يبسط الرزق غاية البسط، وهذا كناية عن البخل والعجز من غير نظر إلى مدلول كل من ألفاظه على حياله أصلاً، كما قال تعالى: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط﴾ [الإسراء: ٢٩] ولم يقصد من ذلك غير الجود وضده، لا غل ولا عنق ولا بسط أصلاً، بل صار هذا الكلام عبارة عما وقع مجازاً عنه، كأنهما متعقبان على معنى واحد، حتى لو جاد
218
الأقطع إلى المنكب لقيل له ذلك، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، منه الاستواء «وقالت: في السماء» المراد منه - كما قاله العلماء - أنه ليس مما يعبده المشركون من الأوثان، قال في الكشاف: ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص عن يد الطاعن إذا عبثت به.
ولما نطقوا بهذه الكلمة الشنعاء، وفاهوا بتلك الداهية الدهياء، أخبر عما جازاهم به سبحانه على صورة ما كان العرب يقابلون به من يستحق الهلاك من الدعاء، فقال معبراً بالمبني للمفعول إفادة لتحتم الوقوع وتعليماً لنا كيف ندعو عليهم، ولم يسببه عما قبله بالفاء تقوية له على تقدير سؤال سائل: ﴿غلت أيديهم﴾ دعاء مقبولاً وخبراً صادقاً، عن كل خير، فلا تكاد تجد فيهم كريماً ولا شجاعاً ولا حاذقاً في فن، وإن كان ذلك لم تظهر له
219
ثمرة ﴿ولعنوا﴾ أي أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم ﴿بما قالوا﴾ والمعنى أنهم كما رأوا أحوال المنافقين المقضي في التوراة بأنها إثم وأقروا عليها، فكذلك نطق بعضهم بكلمة الكفر التي لا أفظع منها، وسكت عليه الباقون فشاركوه، ولما كان الغل كناية عن البخل وعدم الإنفاق، وكان الدعاء بغلهم ولعنهم متضمناً أن الأمر ليس كما قالوا، ترجمة سبحانه بقوله: ﴿بل يداه﴾ وهو منزه عن الجارحة وعن كل ما يدخل تحت الوهم ﴿مبسوطتان﴾ مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود، ليكون رد قولهم وإنكاره بأبلغ ما يكون في قطع تعنتهم وتكذيب قولهم.
ولما كان معنى هذا إثبات ما نفوه على أبلغ الأحوال، قال مصرحاً بالمقصود معرفاً أنه في إنفاقه مختار فلا غرو أن يبسط لبعض دون بعض: ﴿ينفق﴾ ولما كان إنفاقه سبحانه تحقيقاً للاختيار على أحوال متباينة بحيث إنها تفوت الحصر، أشار إلى التعجيب من ذلك بالتعبير بأداة الاستفهام وإن قالوا: إنها في هذا الموطن شرط، فقال: ﴿كيف﴾ أي كما ﴿يشاء﴾ أي على أي حالة أراد دائماً من تقتير وبسط وغير ذلك.
ولما كان قولهم هذا غاية في العجب لأن كتابهم كافٍ في تقبيحه بل تقبيح ما هو دونه في الفحش، فكيف وقد انضم إلى ذلك ما أنزل في القرآن من واضح البيان، قال سبحانه عاطفاً على ﴿وترى كثيراً منهم﴾ [المائدة: ٦٢]
220
مؤكداً لمضمون ما سبق من قوله ﴿ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً﴾ [المائدة: ٤١] بأنه جعل سبب هذا القول منهم ما أتاهم من الهدى الأكمل في هذا الكتاب المعجز على لسان هذا النبي الذي هم به أعرف منهم بأبنائهم: ﴿وليزيدن كثيراً منهم﴾ أي ممن أراد الله فتنته، ثم ذكر فاعل الزيادة فقال: ﴿ما أنزل إليك﴾ أي على ما له من النور وما يدعو إليه من الخير ﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بكل ما ينفعك دنيا وأخرى ﴿طغياناً﴾ أي تجاوزاً عظيماً عن الحد تمتلىء منه الأكوان في كل إثم وشنأ، وذلك بما جره إليهم داء الحسد، لأنهم كلما رأوه سبحانه قد زاد إحسانه إليك طعنوا في ذلك الإحسان، وهو - لما له من الكمال وعلو الشأن - يكون الطعن فيه من أعظم الدليل عليه والبرهان، فيكون أعدى العدوان ﴿وكفراً﴾ أي ستراً لما ظهر لعقولهم من النور ودعت إليه كتبهم من الخير، وهذا كما يؤذي الخفاش ضياء الصباح، وكلما قوي الضياء زاد أذاه، وفي هذا إياس من توبتهم وتأكيد لعداوتهم وزجر عن موالاتهم ومودتهم، أي إنهم لا يزدادون بحسن وعظم وجميل تلاوتك عليهم الآيات إلا شقاقاً ما وجدوا قوة، فإن ضعفوا فنفاقاً.
221
ولما كان الإخبار باجتماع كلمتهم على شقاوة الكفر ربما أحدث خوفاً من كيدهم، نفى ذلك بقوله ﴿وألقينا﴾ أي بما لنا من العظمة الباهرة ﴿بينهم﴾ أي اليهود ﴿العداوة﴾ ولما كانت العداوة - وهي أي يعدون بعضهم إلى أذى بعض - ربما زالت بزوال السبب، أفاد أنها لازمة لا تنفك بقوله: ﴿والبغضاء﴾ أي لأمور باطنية وقعت في قلوبهم وقوع الحجر الملقى من علو ﴿إلى يوم القيامة﴾.
ولما كان ذلك مفيداً لوهنهم ترجمه بقوله: ﴿كلما أوقدوا﴾ على سبيل التكرار لأحد من الناس ﴿ناراً للحرب﴾ أي باحكام أسبابها وتفتيح جميع أبوابها ﴿اطفأها﴾ أي خيّب قصدهم في ذلك ﴿الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال، فلا تجدهم في بلد من البلاد إلا في الذل وتحت القهر، وأصل استعارة النار لها ما في كل منهما من التسلط والغلبة والحرارة في الظاهر والباطن، مع أن المحارب يوقد النار في موضع عال ليجتمع إليه أنصاره، ولقد قام لعمري دليل المشاهدة على صدق ذلك بغزوة قينقاع تم النضير ثم قريضة، والقبائل الثلاث بالمدينة لم يتناصروا ولم ينصروا، ثم غزوة خيبر وأهل فدك ووادي القرى وهم متقاربون ولم يتناصروا ولم ينصروا، هذا فيما في خاصتهم،
222
وأما في غير ذلك فقد ألبّوا الأحزاب وجمعوا القبائل وأتقنوا في أمرهم على زعمهم المكايد، ثم أطفأ الله نارهم حساً ومعنى بالريح والملائكة، وألزمهم خزيهم وعارهم وجعل الدائرة عليهم - وساق جيش المنون على أيدي المؤمنين إليهم، وإلى ذلك وأمثاله من أذاهم الإشارة بقوله: ﴿ويسعون﴾ أي يوجدون مجتهدين اجتهاد الساعي على سبيل الاستمرار بما يوجدون من المعاصي من كتمان ما عندهم من الدليل على صحة الإسلام وغير ذلك من أنواع الأجرام ﴿في الأرض﴾ أي كل ما قدروا عليه بالفعل والباقي بالقوة.
ولما كان الإنسان لكونه محل نقصان لا ينبغي أن يتحرك فضلاً عن أن يمشي فضلاً عن أن يسعى إلا بما يرضي الله، وحينئذ لا ينسب الفعل إلا إلى الله لكونه آمراً به خالقاً له، فكانت نسبة السعي إلى الإنسان دالة على الفساد، صرح به في قوله: ﴿فساداً﴾ أي للفساد أو ذوي فساد ﴿والله﴾ أي والحال أن الذي له الكمال كله ﴿لا يحب المفسدين *﴾ أي لا يفعل معهم فعل المحب، فلا ينصر لهم جيشاً، ولا يعلي لهم كعباً، ولا يصلح لهم شأناً، وبذلك توعدهم سبحانه في التوراة أنهم إذا خالفوا أمره سلط عيهم من عذابه بواسطة عباده وبغير واسطتهم ما يفوت الحصر - كما مضى ذلك قريباً عما بين أيديهم من التوراة بنصه.
223
ولما أثبت بقوله ﴿وليزيدن﴾ أنهم كانوا كفرة قبل إتيان هذا الرسول عليه السلام، وكرر ما أعده لهم من الخزي الدائم على نحو ما أخبرهم به كتابهم، وعظهم ورجّاهم سبحانه استعطافاً لهم لئلا ييأسوا من روح الله على عادة منه في رحمته لعباده ورأفته بهم بقوله تعالى عاطفاً على ما تقديره: فلو أنهم كفوا عن هذه الجرائم العظائم لاضمحلت صغائرهم فلم تكن لهم سيئات: ﴿ولو أن﴾ ولما كان الضلال من العالم أقبح، قال: ﴿أهل الكتاب﴾ أي الفريقين منهم.
ولما كان الإيمان أساس جميع الأعمال، قدمه إعلاماً بأنه لا نجاة لأحد إلا بتصديق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذا مع أنه حقيق باشتداد العناية بهم لمبالغتهم في كتمان ما عندهم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿آمنوا﴾ أي بهذا النبي الكريم وما أنزل إليه من هذا الهدى ﴿واتقوا﴾ أي ما هددوا به في كتابهم على ترك الإيمان به على حسب ما دعاهم إليه كتابهم كما في قصة إسماعيل وغيرها إلى أن كان آخر ما فارقهم عليه موسى عليه السلام في آخر كتابهم التصريح بنبوته عليه السلام والإشارة إلى أن اتباعه أحق من اتباعه فقا: جاء ربنا من سيناء؛ وشرق من ساعير، وتبدّى من جبال فاران، فأضاف الرب إليهم، وجعل الإتيان من جبال فاران - التي هي مكة، لا نزاع لهم في ذلك - تبدياً وظهوراً أي لاخفاء
224
به بوجه، ولا ظهور أتم منه ﴿لكفّرنا﴾ وأشار إلى عظيم جرأتهم بمظهر العظمة ﴿عنهم سيئاتهم﴾ أي التي ارتكبوها قبل مجيئه وهي مما يسوء، أي يشتد تنكر النفس له أو تكرّهها، وأشار إلى سعة رحمته وأنها لا تضيق عن شيء أراده بمظهر العظمة فقال: ﴿ولأدخلناهم﴾ أي بعد الموت ﴿جنات النعيم *﴾ أي بدل ما هم فيه من هذا الشقاء الذي لا يدانيه شقاء.
ولما كان المعنى: ما فعلوا ذلك، فألزمناهم الخزي في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة، وكان هذا إجمالاً لحالتهم الدنيوية والأخروية، وكان محط نظرهم الأمر الدنيوي، رجع - بعد إرشادهم إلى إصلاح الحالة الأخروية لأنها أهم في نفسها - إلى سبب قولهم تلك الكلمة الشنعاء والداهية القبيحة الصلعاء، وهو تقتير الرزق عليهم، وبين أن السبب إنما هو من أنفسهم فقال: ﴿ولو أنهم أقاموا التوراة﴾ أي قبل إنزال الإنجيل بالعمل بجميع ما دعت إليه من أصل وفرع وثبات عليها وانتقال عنها ﴿والإنجيل﴾ أي بعد إنزاله كذلك، وفي إقامته إقامة التوراة الداعية إليه ﴿وما أنزل إليهم من ربهم﴾ أي المحسن إليهم من أسفار الأنبياء المبشرة بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ومن القرآن بعد إنزاله، وفي إقامته إقامة جميع ذلك، لأنه مبشر به وداع إليه ﴿لأكلوا﴾ أي لتيسر لهم الرزق، وعبّر ب «من» لأن المراد بيان جهة المأكول
225
لا الأكل ﴿من فوقهم﴾.
ولما كان ذلك كناية عن عظم التوسعة، قال موضحاً له معبراً بالأحسن ليفهم غيره بطريق الأولى: ﴿ومن تحت أرجلهم﴾ أي تيسراً واسعاً جداً متصلاً لا يحصر، أو يكون كناية عن بركات السماء والأرض، فبين ذلك أنه ما ضربهم بالذل والمسكنة إلا تصديقاً لما تقدم إليهم به في التوراة، قال مترجمها في السفر الخامس - الدعاء والبركات: وإن أنتم سمعتم قول الله ربكم وحفظتم وعملتم بجميع الوصايا التي آمركم بها اليوم، يصيركم الرب فوق جميع الشعوب، فتصيرون إلى هذا الدعاء، يبارك لكل امرىء منكم في القرية والحقل، يبارك في أولادكم وأرضكم، يبارك لكم في بهائمكم وما يضع في أقطاع بقركم وأحزاب غنمكم، ويبارك فيكم إذا دخلتم ويبارك فيكم إذا خرجتم، ويدفع إليكم الله أعداءكم أسارى، يخرجون إليكم في طريق واحد ويهربون منكم في سبعة طرق، يأمر الله ببركاته في أهرائكم وفي جميع الأشياء التي تمدون أيديكم إليها، وينظر إليكم جميع شعوب الأرض ويعلمون أن اسم الرب عليكم وقد وسمتم به فيخافونكم، ويزيدكم الرب خيراً ويبارك في ثمار أرضكم، يفتح الله ربكم أهراء السماء ويهبط المطر على أهله في زمانه، وتتسلطون على شعوب كثيرة ولا يتسلط عليكم أحد، ويصيركم الرب رأساً ولا يصيركم ذنباً، وتصيرون فوق ولا تصيرون
226
أسفل إذا عملتم بجميع وصايا الله ربكم ولم تروغوا عنها يمنة ولا يسرة، ولا تتبعوا الشعوب ولا تعبدوا آلهتها، وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم ولم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه ووصاياه التي آمركم بها اليوم، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله، ويدرككم العقاب، وتكونون ملعونين في القرية - إلى آخر اللعن الذي تقدم قريباً، وقال في الثالث: إذا سلكتم بسنتي وحفظتم وصاياي وعملتم بها، أديم أمطاركم في وقتها، وتبذل الأرض لكم غلاتها، وتبذل لكم الشجر ثمارها، ويدرك الدراس القطاف، والقطاف يدرك الزرع، وتأكلون خبزاً وتشبعون وتسكنون أرضكم مطمئنين، ولا يكون من يخرجكم، وأصرف عن أرضكم السباع الضارية، وتطردون أعداءكم، الخمسة منكم يهزمون مائة، والمائة منكم يهزمون عشرة آلاف، وتقع أعداؤكم قتلى بين أيديكم في الحرب، وأقبل إليكم وأكثركم وأديم مقدسي بينكم ولا أدبر عنكم، بل أكون معكم وأسير بينكم، وإن لم تطيعوني وتسمعوا قولي ولم تعملوا بهذه الوصايا وأبطلتم عهودي، أنا أيضاً أصنع بكم مثل صنيعكم، وآمر بكم البلايا والبرص والبهق المقشر الذي لا يبرأ، والسل الذي يطفىء البصر ويهلك النفس، ويكون تعبكم في الزرع باطلاً، وذلك لأن أعداءكم يأكلون ما تزرعون، وأنزل بكم غضبي، ويهزمكم أعداؤكم، ويتسلط
227
عليكم شنّاؤكم، وتنهزمون من غير أن يهزمكم أحد، وأصيّر السماء فوقكم مثل الحديد، والأرض تحتكم مثل النحاس، ولا تغل لكم أرضكم غلاتها، ولا تثمر الشجر ثمارها، وأرسل عليكم السباع الضارية فتلهككم وتهلك بهائمكم، ويستوحش الطرق منكم، وأسلط عليكم الموت وأدفعكم إلى أعدائكم، وتأكلون ولا تشبعون، وتصيروا إلى ضيق حتى تأكلوا لحوم بناتكم، وأخرب منازلكم، وأفرقكم بين الأمم، وتخرب قراكم، فحينئذ تهوى الأرض أسباتها، وتسبت كل أيام وحشتها ما لم تسبت حيث كنتم فيها عصاة لا تسبتون، والذين يبقون منكم ألقي في قلوبهم فزعة، ويطردهم صوت ورقة تحرك، ويهربون من صوت الورقة كما يهربون من السيف، ويعنفون بإثمهم ويعاقبون بإثم آبائهم، ومن بعد ذلك تنكسر قلوبهم الغلف.
ولما كان ما مضى من ذمهم ربما أفهم أنه لكلهم، قال مستأنفاً جواباً لمن يسأل عن ذلك: ﴿منهم﴾ أي أهل الكتاب ﴿أمة﴾ أي جماعة هي جديرة بأن تقصد ﴿مقتصدة﴾ أي مجتهدة في العدل لا غلو ولا تقصير، وهم الذين هداهم الله للإسلام بحسن تحريهم واجتهادهم ﴿وكثير منهم﴾ أي بني إسرائيل ﴿سآء ما يعملون *﴾ أي ما أسوأ
228
فعلهم الذي هم فيه مستمرون على تجديده، ففيه معنى التعجيب، والتعبيرُ بالعمل لأنهم يزعمون أنه لا يصدر منهم إلا عن علم، وهم الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، وارتكبوا العظائم في عداوة الله ورسوله.
ولما أتم ذلك سبحانه وعلم منه أن من أريدت سعادته يؤمن ولا بد، ومن أريدت شقاوته لا يؤمن أصلاً، ومن أقام ما أنزل عليه سعد، ومن كفر بشيء منه شقي، وكان ذلك ربما فتر عن الإبلاغ، قرن بقوله تعالى ﴿يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر﴾ [المائدة: ٤١] قولَه حاثاً على الإبلاغ لإسعاد من أريد للسعادة، وهم الأمة المقتصدة منهم وإن كانوا قليلاً، وكذا إبلاغ جميع من عداهم: ﴿يا أيها الرسول﴾ أي الذي موضوع أمره البلاغ ﴿بلغ﴾ أي أوصل إلى من أرسلت إليهم ﴿ما أنزل إليك﴾ أي كله ﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بإنزاله غير مراقب أحداً، ولا خائف شيئاً، لتعلم ما لم تكن تعلم، ويهدي على يدك من أراد الله هدايته، فيكون لك مثل أجره.
ولما كان إبلاغ ما يخالف الأهواء من الشدة على النفوس بمكان لا يعلمه إلا ذوو الهمم العالية والأخلاق الزاكية، كان المقام شديد الاقتضاء لتأكيد الحث على الإبلاغ، فدل على ذلك بالاعتراض بين الحال والعامل فيها،
229
بالتعبير بالفعل الدال على داعية هي الردع بأن قال: ﴿وإن لم تفعل﴾ أي وإن لم تبلغ جميع ذلك، أو إن لم تعمل به ﴿فما بلغت رسالته﴾ لأن من المعلوم أن ما تقع على كل جزء مما أنزل، فلو ترك منه حرف واحد صدق نفي البلاغ لما أنزل، ولأن بعضها ليس بأولى بالإبلاغ من بعض، فمن أغفل شيئاً منها فكأنه أغفل الكل، كما أن من لم يؤمن ببعضها لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدليه الآخر، فكانت لذلك في حكم شيء واحد، والمعنى: فلنجازينك، ولكنه كنى بالسبب عن المسبب إجلالاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإفادة لأن المؤاخذة تقع على الكل، لأنه ينتفي بانتفاء الجزء.
ولما تقدم أنهم يسعرون الحروب، ويسعون في إيقاع أشد الكروب، وكان ذلك - وإن وعد سبحانه بإخماده عند إيقاده - لا يمنع من تجويز أنه لا يخمد إلا بعد قتل ناس وجراح آخرين، وكان كأنه قيل: إذا بلغ ذلك وهو ينقّص أديانهم خيف عليه، قال: ﴿والله﴾ أي بلغ أنت والحال أن الذي أمرك بذلك وهو الملك الأعلى الذي لا كفوء له ﴿يعصمك﴾ أي يمنعك منعاً تاماً ﴿من الناس﴾ أي من أن يقتلوك قبل إتمام البلاغ وظهور الدين، فلا مانع من إبلاغ شيء منها لأحد من الناس كائناً من كان.
230
ولما آذن ضمان العصمة بالمخالفة المؤذنة بأن فيهم من لا ينفعه البلاغ فهو لا يؤمن، فلا يزال يبغي الغوائل. أقر على هذا الفهم بتعليل عدم الإيمان بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي لا أمر لغيره ﴿لا يهدي القوم الكافرين﴾ أي المطبوع على قلوبهم في علم الله مطابقة لقوله ﴿ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً﴾ [المائدة: ٤١] ويهدي المؤمنين في علمه المشار إليهم في قوله ﴿ويغفر لمن يشاء﴾ والحاصل أنه تبين من الآية الإرشاد إلى أن لترك البلاغ سببين: أحدهما خوف فوات النفس، والآخر خوف فوات ثمرة الدعاء، فنفي الأول بضمان العصمة، والثاني بختام الآية، أي ليس عليك إلاّ البلاغ، فلا يحزنك من لا يقبل، فليس إعراضه لقصور في إبلاغك ولا حظك، بل لقصور إدراكه وحظه لأن الله حتم بكفره وختم على قلبه لما علم من فساد طبعه، والله لا يهدي مثله، وتلخيصه: بلغ، فمن أجابك ممن أشير إليه - فيما سلف من غير الكثير الذين يزيدهم ما أنزل إليك عمى على عماهم ومن الأمة المقتصدة وغيرهم - فهو حظه في الدنيا والآخرة، ومن أبى فلا يحزنك أمره، لأن الله هو الذي أراد ضلاله. فالتقدير: بلغ، فليس عليك إلاّ البلاغ، وإلى الله الهدى والضلال، إن الله لا يهدي القوم الكافرين ويهدي القوم المؤمنين، أو فإذا بلغت هدى بك ربُك من أراد إيمانه، ليكتب لك مثل أجرهم، وأضل من شاء كفرانه، ولا يكون عليك شيء من
231
وزرهم، إن الله لا يهدي القوم الكافرين، والمعنى كما تقدم: يعصمك من أن ينالوك بما يمنعك من الإبلاغ حتى يتم دينك ويظهر على الدين كله كما وعدتك، وعلى مثل هذا دل كلام إمامنا الشافعي رحمه الله، قال في الجزء الثالث من الأم: ويقال - والله أعلم: إن أول ما أنزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ [العلق: ١] ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين، فمرت لذلك مدة، ثم يقال: أتاه جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم إلى الإيمان. فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يُتَناول، فنزل عليه ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالتك والله يعصمك من الناس﴾ [المائدة: ٦٧] : من قبلهم أن يقتلوك حتى تبلغ ما أنزل إليك - انتهى. ولقد وفى سبحانه بما ضمن ومن أوفى منه وعداً وأصدق قيلاً! فلما أتم الدين وأرغم أنوف المشركين، أنفذ فيه السم الذي تناوله بخيبر قبل سنين فتوفاه شهيداً كما أحياه سعيداً؛ روى الشيخان: البخاري في الهبة، ومسلم في الطب، وأبو داود في الديات عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن امرأة يهودية أتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك، فقال: ما كان الله
232
ليسلطك على ذلك - أو قال: عليّ - فقالوا: ألا تقتلها؟ قال: لا، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قال أبو داود: هي أخت مرحب اليهودي قال الحافظ عبد العظيم المنذري في مختصر سنن أبو داود: وذكره غيره أنها بنت أخي مرحب أن اسمها زينب بنت الحارث، وذكر الزهري أنها أسلمت، ولأبي داود والدارمي - وهذا لفظه - عن أبي سلمة - وهو ابن عبد الرحمن بن عوف - قال: «كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة، فأهدت له امرأة من يهود خيبر شاة مصلية فتناول منها، وتناول منها بشر بن البراء، ثم رفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده ثم قال: إن هذه تخبرني أنها مسمومة، فمات بشر بن البراء رضي الله عنه، فأرسل إليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: إن كنت نبياً لم يضرك شيء، وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك، قال أبو داود: فأمر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقتلت. زاد الدارمي: فقال في مرضه: ما زلت من الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري» وهذا مرسل. قال البيهقي: ورويناه عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو
233
عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال البيهقي: ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لما مات بشر أمر بقتلها. وقصة هذه الشاة عن أبي هريرة رواها البخاري في الجزية والمغازي والطب، والدارمي في أول المسند بغير هذا السياق - كما مضى في البقرة في قوله تعالى
﴿وقالوا لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة﴾ [البقرة: ٨٠] وقد مضى في أول هذه السورة عند قوله ﴿فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين﴾ [المائدة: ١٣] شيء منه. ولأبي داود والدارمي عن ابن شهاب قال: «كان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارفعوا أيديكم، وأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليهودية فدعاها، فقال لها: أسممت هذه الشاة؟ قالت اليهودية من أخبرك؟ قال: أخبرتني هذه في يدي - للذراع، قالت: نعم، قال: فما أردت؟ قالت: قلت: إن كان نبياً فلن يضره، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يعاقبها، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أو هند
234
بالقرن والشفرة، وهو مولى لبني بياضة من الأنصار» قال الدارمي: وهو من بني ثمامة - وهم حي من الأنصار، قال المنذري: وهذا منقطع، الزهري لم يسمع من جابر بن عبد الله، وفي غزوة خيبر من تهذيب السيرة لابن هشام: «فلما اطمأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدت له زينب بنت الحارثة امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ثم دعاها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكاً استرحت منه، وإن كان نبياً فسيخبر، فتجاوز عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومات بْشر من أكلته التي أكل» وذكر موسى بن عقبة أن بشراً رضي الله عنه لم يسغ لقمته حتى أساغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقمته وقال بعد
235
أن أخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي أكرمك! لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلاّ أني أعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت ما في فيك لم أكن لأرغب بنفسي عن نفسك.
ونقلتُ من خط شيخنا حافظ عصره أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر الكناني الشافعي ما نصه: وأخرج الحافظ أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور، وأبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في معجمه الكبير من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يأكل من هدية حتى يأمر صاحبها أن يأكل منها للشاة التي أهديت له بخيبر». قال شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيثمي: رجاله ثقات، قلت: وذكر محمد بن إسحاق في السيرة الكبرى وكذلك الواقدي في المغازي - انتهى. وقال ابن إسحاق: وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال: «كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال في مرضه الذي توفي فيه ودخلت عليه أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده: يا أم بشر! إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر»، قال: فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة. ولابن ماجه في الطب عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لا يزال، يصيبك في كل عام وجع من الشاة المسمومة التي أكلت، قال: ما أصابني
236
شيء منها إلاّ وهو مكتوب عليَّ وآدم في طينته «وللبخاري في آخر المغازي عن عائشة رضي الله عنها» أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة! ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم «قال ابن فارس في المجمل: الأبهر عرق مستبطن الصلب، والقلب متصل به، وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» هذا أوان قطعت أبهري «وعبارة المحكم: عرق في الظهر، يقال: هو الوريد في العنق، وبعضهم يجعله عرقاً مستبطن الصلب وقال ثابت بن عبد العزيز في كتاب خلق الإنسان: وفي الصلب الوتين، وهو عرق أبيض غليظ كأنه قصبة، وفي الصلب الأبهر والأبيض وهما عرقان، وقال الزبيدي في مختصر العين: والأبهران عرقان مكتنفاً الصلب، وقيل: هما الأكحلان. وقال الفيروزآبادي في قاموسه: والأبهر: الظهر وعرق فيه ووريد العنق والأكحل والكلية، والوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. وقال ابن الفرات في الوفاة من السيرة من تاريخه: قال الحربي: العرق في الظهر يسمى الأبهر، وفي اليد الأكحل، وفي العنق الوريد، وفي الفخذ النسا، وفي الساق الأبجل، وفي العين الشأن،
237
وهو عرق واحد، كله يسمى الجدول. وقال ابن كيسان أيضاً: هو الوتين في القلب والصافن.
وقال الإمام أبو غالب بن التياني الأندلسي في كتابه الموعب: إسماعيل بو حاتم: الأبهر عرق في الظهر، وقال: هو الوريد في العنق، ثم يقال: والأبهر عرق مستبطن المتن؛ الأصمعي: وفي الصلب الأبهر وهو عرق؛ صاحب العين: الأبهران الأكحلان، ويقال: هما عرقان مكتنفا الصلب من جانبيه. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما زالت أكلة خيبر تعادّني كل عام فالآن حين قطعت أبهري» يعني عرقي، ويقال: الأبهر عرق مستبطن الصلب، وإذا انقطع فلا حياة بعده. وهذا اللفظ الذي ذكره رواه البخاري والطبراني عن عائشة رضي الله عنها. ومعنى تعادّني: تناظرني وتخالفني، ومن العديد بمعنى الند الذي هو المثل المضاد والمنافر، أي إني كلما زدت في جسمي صحة، نقصته بما لها من الضر والأذى.
238
ولما أمر سبحانه بالتبليغ العام، أمره بنوع منه على وجه يؤكد ما ختمت به آية التبليغ من عدم الهداية لمن حتم بكفره، ويبطل - مع تأكيده - هذه الدعوى: قولهم: نحن أبناء الله وأحباءه، فقال مرهباً لهم بعد ما تقدم من الترغيب في إقامته: ﴿قل يا أهل الكتاب﴾
238
أي من اليهود والنصارى ﴿لستم على شيء﴾ أي سارّ أو يعتد به من دنيا ولا آخرة، لأنه لعدم نفعه لبطلانه لا يسمى شيئاً أصلاً ﴿حتى تقيموا﴾ أي بالعمل بالقلب والقالب ﴿التوراة والإنجيل﴾ وما فيهما من الإيمان بعيسى ثم بمحمد عليهما الصلاة والسلام بالإشارة إلى كل منهما بالخصوص بنحو ما تقدم في الإشراق من ساعير والظهور ممن فاران، وبالإشارة بالعموم إلى تصديق كل من أتى بالمعجز، وصدق ما قبله من منهاج الرسل ﴿وما أنزل﴾.
ولما كان ما عندهم إنما أوتي إليهم بواسطة الأنبياء، عداه بحرف الغاية فقال: ﴿إليكم من ربكم﴾ أي المحسن إليكم بإنزاله على ألسنة أنبيائكم من البشارة بهما، وعلى لسان هذا النبي العربي الكريم مما يصدق ما قبله، فإنهم يعلمون ذلك ولكنهم يجحدونه.
ولما كان السياق لأن أكثرهم هالك، صرح به دالاً بالعطف على غير معطوف عليه أن التقدير: فليؤمنن به من أراد الله منهم، فقال: ﴿وليزيدن كثيراً منهم﴾ أي ما عندهم من الكفر بما في كتابهم ﴿مآ أنزل إليك من ربك﴾ المحسن إليك بإنزاله ﴿طغياناً﴾ تجاوزاً شديداً للحد ﴿وكفراً﴾ أي ستراً لما دل عليه العقل.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد الشفقة على خلق الله، سلاّه في ذلك بقوله: ﴿فلا﴾ أي فتسبب عن إعلام الله لك بذلك قبل وقوعه ثم عن وقوعه كما أخبر أن تعلم أنه بإرادته وقدرته، فقال لك:
239
لا ﴿تأس﴾ أي تحزن ﴿على القوم الكافرين﴾ أي على فوات العريقين في الكفر لأنهم لم يضروا إلاّ أنفسهم لأن ربك العليم القدير لو علم فيهم خيراً لأقبل بهم إليك، والحاصل أنه ختم هذه الآية بمعلول الآية التي قبلها، فكأنه قبل: بلغ، فإن الله هو الهادي المضل، فلا تحزن على من أدبر.
ولما كان ما مضى في هذه السورة غالباً في فضائح أهل الكتاب لا سيما اليهود وبيان أنهم عضوا على الكفر، ومردوا على الجحد، وتمرنوا على البهت، وعتوا عن أوامر الله، كان ذلك موجباً لأنه ربما حدث في الخاطر أنه إن آمن منهم أحد ما يقبل، أو لأن يقولوا هم: ليس في دعائنا حينئذ فائدة فلا تدعنا، أخبر أن الباب مفتوح لهم ولغيرهم من جميع أهل الملل، وأنه ليس بين الإنسان وبين أن يكون من أهله إلا عدم الإخلاص، فإذا أخلص أذن في دخوله ونودي بقبوله، أو يقال - وهو أحسن: لما أخبر عن كثير منهم بالزيادة في الكفر، رغب القسم الآخر على وجه يعم غيرهم، أو يقال: إنه لما طال الكلام معهم.
كان ربما ظن أن الأمر ترغيباً وترهيباً وأمراً ونهياً خاص بهم، فوقع الإعلام بأنهم وغيرهم من جميع الفرق في ذلك سواء، تشريفاً لمقدار هذا النبي الكريم بعموم الدعوة وإحاطة الرسالة
240
فقال سبحانه: ﴿إن الذين آمنوا﴾ أي قالوا: آمنا ﴿والذين هادوا﴾ أي اليهود ﴿والصابئون﴾ أي القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية ﴿والنصارى﴾ أي الذين يدعون اتباع المسيح عليه السلام.
ولما كان اليهود قد عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم في استنزال الروحانيات انهماكاً في السحر الذي جاء نبيهم موسى عليهم السلام بإبطاله، وكان ذلك هو معنى دين الصابئة، وفرّق بين فريقي بني إسرائيل بهم مكتفياً بهم عن ذكر بقية المشركين لما مضى في البقرة، ولما سبق في هذه السورة من ذم اليهود بالنقض للميثاق والكفر واللعن والقسوة وتكرر الخيانة وإخفاء الكتاب والمسارعة في الكفر والنفاق والتخصيص بالكفر والظلم والفسق وغير ذلك من الطامات ما يسد الأسماع، كان قبول توبتهم جديراً بالإنكار، وكانوا هم ينكرون عناداً فلاح العرب من آمن منهم ومن لم يؤمن، فاقتضى الحال كون الفريقين في حيز التأكيد، ولم يتقدم للصابئة ذكر هنا فأخرجوا منه تنبيهاً على أن المقام لا يقتضيه لهم، فابتدىء بذكرهم اعتراضاً ودل على الخبر عنهم بخبر «إن»، أو أنه لما كان المقام للترغيب في التوبة، وجعل هؤلاء مع شناعة حالهم بظهور ضلالهم كمن لا إنكار لقبول توبته، كان غيرهم أولى بذلك، ولما كان حال النصارى مشتبهاً، جعلوا في حيز الاحتمال للعطف على اليهود لما
241
تقدم من ذمهم، وعلى الصابئة لخفة حالهم بأنهم مع أن أصل دينهم صحيح لم يبلغ ذمهم السابق في هذه السورة مبلغ ذم اليهود ﴿من آمن﴾ أي منهم مخلصاً من قلبه، ولعله ترك الجار إعراقاً في التعميم ﴿بالله﴾ أي الذي له جميع الجلال والإكرام ﴿واليوم الآخر﴾ أي الذي يبعث فيه العباد بأرواحهم وأشباحهم، ويبعث من ذكره على الزهادة وألحد في العبادة، وبالإيمان به يحصل كمال المعرفة بالله تعالى باعتقاد كمال قدرته ﴿وعمل صالحاً﴾ أي صدق إيمانه القلبي بالعمل بما أمر به، ليجمع بين فضيلتي العلم والعمل، ويتطابق الجنان مع الأركان ﴿فلا خوف عليهم﴾ يعتد به في دنيا ولا في آخرة ﴿ولا هم﴾ أي خاصة ﴿يحزنون *﴾ أي على شيء فات، لأنه لا يفوتهم شيء يؤسف عليه أصلاً، وأما غيرهم فهم في الحزن أبداً، وفي الآية تكذيب لهم في قولهم ﴿ليس علينا في الأميين سبيل﴾ [آل عمران: ٧٥] المشار إليه في هذه السورة بنسبتهم إلى أكل السحت في غير موضع، وفي نصوص التوراة الموجودة بين أظهرهم الآن أعظم ناصح لهم في ذلك كما سبق في أوائل البقرة، وقال في السفر الرابع منها عند ذكر التيه ووصاياهم إذ أدخلهم الأرض المقدسة، ومكنهم فيها بأشياء
242
منها القربان: وإن سكن بينكم رجل غريب يقبل إليّ أو بين أولادكم لأحقابكم ويقرب قرباناً لريح قتار الذبيحة للرب يفعل كما فعلتم أنتم، ولتكن السنة واحدة لكم وللذين يقبلون إليّ ويسكنون بينكم سنة جارية لأحقابكم إلى الأبد، والذين يقبلون إليّ من الغرباء يكونون أمام الرب مثلكم، ولتكن لكم سنة واحدة وحكومة واحدة لكم وللذين يقبلون إليّ ويسكنون معكم.
243
ولما كانت هذه البشارة - الصادقة من العزيز العليم الذي أهل الكتاب أعرف الناس به لمن آمن كائناً من كان - موجبة للدخول في الإيمان والتعجب ممن لم يسارع إليه، وكان أكثر أهل الكتاب إنما يسارعون في الكفر، كان الحال مقتضياً لتذكر ما مضى من قوله تعالى ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً﴾ [المائدة: ١٢] وزيادة العجب منهم مع ذلك، فأعاد سبحانه الإخبار به مؤكداً له تحقيقاً لأمره وتفخيماً لشأنه، وساقه على وجه يرد دعوى البنوى والمحبة، ملتفتاً مع التذكير بأول قصصهم في هذه السورة إلى أول السورة ﴿أوفوا بالعقود﴾ [المائدة: ١] وعبر في موضع الجلالة بنون العظمة، وجعل بدل النقباء الرسل فقال مستأنفاً: ﴿لقد أخذنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿ميثاق بني إسرائيل﴾ أي على الإيمان بالله ثم بمن يأتي بالمعجز مصدقاً لما عنده بحيث يقوم
243
الدليل على أنه من رسل الله الذين تقدم أخذ العهد عليهم بالإيمان بهم، ودل على عظمة الرسل بقوله في مظهر العظمة: ﴿وأرسلنا إليهم رسلاً﴾ أي لم نكتف بهذا العهد، بل لم نخلهم من بعد موسى من الرسل الذين يرونهم الآيات ويجددون لهم أوامر الرب إلى زمن عيسى عليه السلام، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه - البخاري في بني إسرائيل ومسلم في المغازي - أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» انتهى. ومع ذلك فلم يخل لهم زمان طويل من الكفر لا في زمن موسى ولا في زمن من بعده من الأنبياء عليهم السلام، حتى قتلوا كثيراً من الرسل وهو معنى قوله - جواباً لمن كأنه قال: ما فعلوا بالرسل: ﴿كلما جاءهم رسول﴾ أي من أولئك الرسل أي رسول كان ﴿بما لا تهوى أنفسهم﴾ أي بشيء لا تحبه نفوسهم محبة تتساقط بها إليه، خالفوه، فكأنه قيل: أي مخالفة؟ فقيل: ﴿فريقاً﴾ أي من الرسل ﴿كذبوا﴾ أي كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل، ودل على شدة بشاعة القتل وعظيم شناعته بالتعبير بالمضارع تصويراً للحال الماضية وتنبيهاً على أن هذا ديدنهم
244
وهو أشد من التكذيب فقال: ﴿وفريقاً يقتلون *﴾ أي مع التكذيب وليدل على ما وقع منهم في سم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدم المفعول للدلالة على انحصار أمرهم في حال التكذيب والقتل، فلا حظ لهم في تصديق مخالف لأهوتيهم ﴿وحسبوا﴾ أي لقلة عقولهم مع مباشرتهم لهذه العظائم التي ليس بعدها شيء ﴿ألاّ تكون﴾ أي توجد ﴿فتنة﴾ أي أنه لا يصيبهم بها عذاب في الدنيا ولا خزي في الأخرى، بل استحقوا بأمرها، فلا تعجب أنت من جرأتهم في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقرىء: تكون - بالرفع تنزيلاً للحسبان منزلة العلم فتكون مخففة من الثقيلة التي للتحقيق، وبالنصب كان الحسبان على بابه، وأن، على بابها خفيفة ناصبه للفعل، لأن القاعدة - كما ذكر الواحدي - أن الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل للثبات والاستقرار كالعلم والتيقن والبيان، تفع بعده الثقيلة دون الخفيفة، وفعل للزلزلة والاضطراب كالطمع والخوف والرجاء، فلا يكون بعده إلا الخفيفة الناصبة للمضارع، وفعل يقع على وجهين كحسب: تارة تكون بمعنى
245
طمع فتنصب، وتارة بمعنى علم فترفع، فإن رفع هنا كان الحسبان بمعنى العلم عندهم لقوة عنادهم، وإن نصب كان بمعنى الطمع لأنهم عالمون بأن قتلهم لهم خطأ، فتنزل القراءتان على فريقين - والله أعلم، وأيضاً فقراءة الرفع تفيد تأكيد حسبانهم المفيد لعدم خوفهم بزيادة عماهم ﴿فعموا﴾ أي فتسبب عن إدلالهم إدلال الولد والمحبوب جهلاً منهم وحماقة بظنهم أنهم لا تنالهم فتنة أنهم وُجِد عماهم العمى الذي لا عمى في الحقيقة سواه، وهو انطماس البصائر
﴿فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ [الحج: ٤٦] حتى في زمن موسى عليه السلام ﴿وصموا﴾ أي بعده وبعد يوشع عليهما السلام، لأن الصمم أضر من العمى، فصاروا كمن لا يهتدي إلى سبيل أصلاً، لأنه لا بصر له بعين ولا قلب ولا سمع ﴿ثم تاب الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ﴿عليهم﴾ أي فرجعوا إلى الحق وتكرر لهم ذلك ﴿ثم عموا﴾ أي في زمن المسيح عليه السلام ﴿وصموا﴾ أي بعده.
ولما كان الإتيان بالضمير مفهماً لأن ذلك عمهم كلهم، أعلم سبحانه أن ذلك ليس كذلك بقوله: ﴿كثير منهم﴾ إلا أن سوقه للعبارة هذا المساق يدل على أن من لم يكفر منهم كان مزلزلاً غير راسخ القدم في الهدى - والله أعلم، وربما دل عليه قوله: ﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿بصير بما يعملون *﴾ أي وإن دق وإن كانوا
246
يظنون أنهم أسسوا عملهم على علم، وقد مضى في قوله «من لعنه الله وغضب عليه» ما يشهد لهذا من عبادتهم بعلا الصنم وغيره من الأصنام مرة بعد مرة.
ولما أخبر تعالى بفساد أعمالهم، دل على ذلك بقوله مستفتحاً مبيناً من حال النصارى ما بين من حال اليهود، ومؤكداً لختم آية التبليغ بما ينقض دعواهم في البنوة والمحبة: ﴿لقد كفر﴾ أي ستر ما دل عليه النقل وهدى إليه العقل ﴿الذين قالوا إن الله﴾ أي على ما له من نعوت الجلال والجمال ﴿هو المسيح﴾ فبين بصيغة فعيل - التي لا مانع من أن تكون للمفعول - بُعْدَه عما ادعوه فيه، ثم أوضح ذلك بقوله: ﴿ابن مريم﴾ أيضاحاً لا خفاء معه.
ولما كانت دعوى الاتحاد الذي هو قول اليعقوبية أشد في الكفر وأنفى للإله من دعوى التثليث الذي هو قول النسطورية والملكية القائلين بالأقانيم، قدمها وبين تعالى أنهم خالفوا فيها أمر المسيح الذي ادعوا أنه الإله فقال: ﴿وقال﴾ أي قالوا هذا الذي كفروا به والحال أنه قال لهم ﴿المسيح﴾ ضغطه عليهم ودعاء إلى ما هو الحق ﴿يا بني إسرائيل﴾ أي الذي كان يتشرف بعبادة الله وتسميته بأنه عبده ﴿اعبدوا الله﴾ أي الملك الأعظم الذي كل شيء تحت قهره، فأمرهم بأداء الحق لأهله مذكراً لهم بعظمته، ثم ذكرهم بإحسانه وأنه وإياهم في ذلك شرع
247
واحد، فقال مقدماً لما يتعلق به لأنه أهم لإنكارهم له ﴿ربي وربكم﴾ فلم يطيعوا الإله الحق ولا الذي ادعوه إلهاً، فلا أضل منهم ولا أسفه، قال أبو حيان في النهر: وهذا الذي ذكره الله تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به، وهو قول المسيح: يا معشر بني المعمودية - وفي رواية: يا معشر الشعوب - قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلى إلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم - انتهى. وقد أسلفت أنا في آل عمران وغيرها عن الإنجيل كثيراً من شواهد ذلك، ويأتي في هذه السورة وغيرها كثير منه.
ولما أمرهم بما يفهم منه الإخلاص لله تعالى في العبادة لما ذكر من جلاله وأن ما سواه مربوب، ولأنه أغنى الأغنياء، فمن أشرك به شيئاً لم يعتد له بعبادة، علل ذلك بقوله: ﴿إنه من يشرك﴾ أي الآن أو بعد الآن في زمن من الأزمان ﴿بالله﴾ أي الذي تفرد بالجلال في عبادة أو فيما هو مختص به من صفة أو فعل ﴿فقد حرم الله﴾ أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ﴿عليه الجنة﴾ أي منعه من دخولها منعاً عظيماً متحتماً.
248
ولما كان المنع من دار السعداء مفهماً لكونه في دار الأشقياء، صرح به فقال: ﴿ومأواه﴾ أي محل سكناه ﴿النار﴾ ولما جرت عادة الدنيا بأن من نزل به ضيم يسعى في الخلاص منه بأنصاره وأعوانه، نفى ذلك سبحانه مظهراً للوصف المقتضي لشقائهم تعليلاً وتعميماً فقال: ﴿وما للظالمين﴾ أي لهم لظلمهم ﴿من أنصار *﴾ لا بفداء ولا بشفاعة ولا مقاهرة بمجاهرة ولا مساترة، لأن من وضع عمله في غير موضعه فكان ماشياً في الظلام، لا تمكنه أصلاً مقاومة من هو في أتم ضياء، وهذا على التهديد على الكفر فلا يصح أن يكون على مطلق المعصية ولو كانت كبيرة، فبطل قول المعتزلة.
ولما انقضى هذا النقض، وقدمه لأنه كما مضى أشد، أتبعه إبطال دعوى التثليث بقوله مبدلاً من تلك النتيجة نتيجة أخرى: ﴿لقد كفر الذين قالوا﴾ بجرأة على الكلام المتناقض وعدم حياء ﴿إن الله﴾ أي على ما له من العظمة التي منها الغنى المطلق ﴿ثالث﴾ أي واحد ﴿ثلاثة﴾ أي كلهم آلهة، وأما القائل بأنه ثالث بالعلم فلا يكفر.
ولما أعلم بكفرهم، أشار إلى إبطاله كما أشار إلى إبطال الأول كما سلف بما لا يخفى على أحد، تحقيقاً لتلبسهم بمعنى الكفر الذي هو ستر ما هو ظاهر فقال: ﴿وما﴾ وأغرق في النفي كما هو الحق واقتضاه المقام فقال: ﴿من إله إلا إله واحد﴾ أي قالوا ذلك والحال أنه لا يصح
249
ولا يتصور في العقل أن يكون الإله متعدداً لا تحقيقاً ولا تقديراً بوجه من الوجوه، لا يكون إلا واحداً بكل اعتبار، وهو الله تعالى لا غيره، وقد بين عيسى عليه السلام في الإنجيل الذي بين أظهرهم أنه لا يصح أن يكون الإله إلا واحداً - بالمعتمد من أدلة ذلك عند محققي أهل الأصول وهو برهان التمانع المشار إليه في كتابنا بقوله تعالى ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] فقال مترجمهم في إنجيل متى: حينئذ أتى إليه - أي عيسى عليه لاسلام - بأعمى أخرس له شيطان، فأبرأه حتى أنه تكلم وأبصر، فبهت الجمع كلهم وقالوا: لعل هذا هو ابن داود! فسمع الفريسيون فقالوا: هذا لا يخرج الشياطين إلا بباعل زبول رئيس الشياطين، فلما علم مكرهم قال لهم: كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت ينقسم لا يثبت، فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم فكيف يقوم ملكه؟ فإن كنت أنا أخرج الشياطين بباعل زبول فأبناؤكم بما تخرجونهم! من أجل هذا هم يكونون عليكم، وإن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد قربت منكم ملكوت الله، وكيف يستطيع حد أن يدخل بيت القوي ويخطف متاعه إلا أن يربط القوي أولاً، حينئذ ينهب بيته. وقال مرقس: وأما الكتبة الذين أتوا من يروشليم فقالا: إن بعل زبول معه، وباركون الشياطين يخرج الشياطين؛ فدعاهم وقال لهم: كيف
250
يقدر شيطان أن يخرج شيطاناً! وكل مملكة تنقسم لا تثبت تلك المملكة، فإذا اختلف أهل البيت لا يثبت ذلك البيت، وإن كان الشيطان الذي يقاوم بقيته وينقسم فلن يقدر أن يثبت، لكن له انقضاء، لا يقدر أحد أن يدخل بيت القوي وينتهب بيته إلا أن يربطه أولاً وينتهب متاعه الحق أقول لكم! إن كل شيء يغفر لبني الناس من الخطايا والتجديف الذي يجدفونه، والمجدفين على روح القدس ليس يغفر لهم إلى لأبد، بل يحل بهم العقاب الدائم، لأنهم يقولون: إن معه روحاً نجساً. قال متى: من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق، من أجل هذا أقول لكم: إن كل خطيئة وتجديف يترك للناس، والتجديف على روح القدس لا يترك، ومن يقل كلمة على ابن الإنسان يترك له، والذي يقول على روح القدس لا يترك له في هذا الدهر ولا في الآتي، إما أن تصيروا الشجرة الجيدة وثمرتها جيدة، وإما أن تصيروا الشجرة الرديئة وثمرتها رديئة، لأن من الثمرة تعرف الشجرة، يا أولاد الأفاعي! كيف تقدرون أن تتكلموا بالصلاح وأنتم أشرار! إنما يتكلم الفم من فضل ما في القلب، الرجل الصالح من كنزه الصالح يخرج الصلاح، والرجل الشرير من كنزه الشرير يخرج الشر، أقول لكم: إن كل كلمة يتكلم بها الناس بطالة يعطون عنها جواباً في يوم
251
الدين، لأنك من كلامك تبرّر، ومن كلامك يحكم عليك.
وفي إنجيل لوقا: وفيما هو يتكلم إذا رفعت امرأة من الجمع صوتها وقالت: طوبى لبطن التي حملتك، ولثدي التي أرضعتك، فقال لها: مهلاً! طوبى لمن يسمع كلام الله ويحفظه - انتهى. حينئذ أجابه قوم من الكتبة والفريسين قائلين: نريد يا معلم أن ترينا آية أجابهم وقال لهم: الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطي آية إلا آية يونان النبي؛ قال لوقا: فكما كان في يونان آية لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الإنسان لهذا الجيل آية - انتهى. رجال نينوى يقومون في الحكم ويحاكمون هذا الجيل، لأنهم تابوا بكريزة يونان - وقال لوقا: بإنذار يونان - وهاهنا أفضل من يونان ملكة التيمن تقوم في الحكم مع هذا الجيل وتحاكمه، لأنها أتت من أقصى الأرض لتسمع من حكمة سليمان، وههنا أفضل من سليمان، إن الروح النجس إذا خرج من الإنسان يأتي أمكنة ليس فيها ماء، يطلب راحة فلا يجد، فيقول حينئذ: أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه، فيأتي فيجد المكان فارغاً مكنوساً مزيناً، فيذهب حينئذ ويأخذ معه سبعة أرواح أخر شراً منه ويأتي ويسكن هناك، فتصير آخرة ذلك الإنسان شراً من أوليته، وهكذا يكون لهذا الجيل الشرير - انتهى. والتجديف هو الكفر بالنعم، ويونان:
252
يونس عليه السلام، والكريزة - بينها لوقا بأنها الإنذار، والتيمن: اليمن، والأركون - بضم الهمزة والكاف بينهما راء مهملة ساكنة: الكبير، ويروشليم - بفتح التحتانية وضم المهملة ثم شين معجمة: بيت المقدس، وباعل زبول - لا تصح أصلاً، وأما الدليل على عدم شركة كل من عيسى وأمه عليهما السلام بخصوصهما فسيأتي تقريره بقوله تعالى ﴿كانا يأكلان الطعام﴾ [المائدة: ٧٥] والمراد من ذلك كله أنه متى دخلت الشركة أتى النقص فعلاً أو إمكاناً، ومن اعترته شائبة نقص لم يصح كونه إلهاً.
ولما أخبر أنهم كفروا، وأشار إلى نقض قولهم، كان أنسب الأشياء بعده أن يعطف عليه ترهيبهم ثم ترغيبهم فقال تعالى: ﴿وإن لم ينتهوا﴾ أي الكفرة بجميع أصنافهم ﴿عما يقولون﴾ أي من هاتين المقالتين وما داناهما ﴿ليمسن﴾ أي مباشرة من غير حائل ﴿الذين كفروا﴾ أي داموا على الكفر، وبشر سبحانه بأنه يتوب على بعضهم بقوله: ﴿منهم عذاب أليم﴾.
253
ولما كان من شأن العاقل أنه لا يقدم على باطل، فإن وقع ذلك منه وشعر بنوع ضرر يأتي بسببه بادر إلى الإقلاع عنه، تسبب عن هذا الإنذار - بعد بيان العوار - الإنكارُ عليهم في عدم المبادرة إلى التوبة إيضاحاً
253
لأن معنى كفروا: داموا عليه، فقال: ﴿أفلا يتوبون﴾ أي يرجعون بعد هذا الكفر الذي لا أوضح من بطلانه ولا أبين من فساده والوعيد الشديد ﴿إلى الله﴾ أي المتصف بكل وصف جميل ﴿ويستغفرونه﴾ أي يطلبون منه غفران ما أقدموا عليه من العار البين العوار؛ ولما كان التقدير: فالله تواب حكيم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ ويجوز أن يكون التقدير: والحال أن المستجمع لصفات الكمال أزلاً وأبداً ﴿غفور﴾ أي بليغ المغفرة، يمحو الذنوب فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ﴿رحيم *﴾ أي بالغ الإكرام لمن أقبل إليه.
ولما أبطل الكفر كله بإثبات أفعاله من إرساله وإنزاله وغير ذلك من كماله، وأثبت التوحيد على وجه عام، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بالإبطال، فكان ذلك دليلاً على وجه عام، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بالإبطال فكان ذلك دليلاً خاصاً بعد دليل عام، فقال تعالى على وجه الحصر في الرسلية رداً على من يعتقد فيه الإلهية واصفاً له بصفتين لا يكونان إلا لمصنوع مربوب: ﴿ما المسيح﴾ أي الممسوح بدهن القدس المطهر المولود لأمه ﴿ابن مريم إلا رسول﴾ وبين أنه ما كان بدعاً ممن كان قبله من إخوانه بقوله: ﴿قد خلت من قبله الرسل﴾ أي فما من خارقة له، وإلا وقد كان مثلها أو أعجب منها لمن قبله كآدم عليه السلام في خلقه من تراب، وموسى عليه السلام في قلب العصى
254
حية تسعى - ونحو ذلك.
ولما كفروا بأمه أيضاً عليهما السلام بين ما هو الحق في أمرها فقال: ﴿وأمه صدّيقة﴾ أي بليغة الصدق في نفسها والتصديق لما ينبغي أن يصدق، فرتبتها تلي رتبة الأنبياء، ولذلك تكون من أزواج نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة. وهذه الآية من أدلة من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية، فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها في معرض الرد على من قال بإلهيتهما إشارة إلى بيان ما هو الحق في اعتقاد ما لهما من أعلى الصفات، وأنه من رفع واحداً منها فرق ذلك فقد أطراه، ومن نقصه عنه فقد ازدراه، فالقصد العدل بين الإفراط والتفريط باعتقاد أن أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة، وأكمل صفات أمه الصديقية.
ولما كان المقام مقام البيان عن نزولهما عن رتبة الإلهية، ذكر أبعد الأوصاف منها فقال: ﴿كانا يأكلان الطعام﴾ وخص الأكل لأنه مع كونه ضعفاً لازماً ظاهراً هو أصل الحاجات المعترية للإنسان فهو تنبيه على غيره، ومن الأمر الجلي أن الإله لا ينبغي أن يدنو إلى جنابه عجز أصلاً، وقد اشتمل قوله تعالى ﴿وقال المسيح﴾ وقوله ﴿كانا يأكلان الطعام﴾ [المائدة: ٧٥] على أشرف أحوال الإنسان وأخسها، فأشرفها عبادة الله، وأخسها الاشتغال عنها بالأكل الذي هو مبدأ الحاجات.
255
ولما أوضح ما هو الحق في أمرهما حتى ظهر كالشمس بُعدُهما عما أدعوه فيهما، أتبعه التعجب من تمام قدرته على إظهار الآيات وعلى الإضلال بعد ذلك البيان فقال: ﴿انظر كيف نبين لهم الآيات﴾ أي نوضح إيضاحاً شافياً العلامات التي من شأنها الهداية إلى الحق والمنع من الضلال؛ ولما كان العمى عن هذا البيان في غاية البعد، أشار إليه بأداة التراخي فقال: ﴿ثم انظر أنَّى﴾ أي كيف ومن أين؛ ولما كان العجب قبولهم للصرف وتأثرهم به، لا كونه من صارف معين، بنى للمفعول قوله: ﴿يؤفكون *﴾ أي يصرفون عن الحق وبيان الطريق صرفَ من لا نور له أصلاً من أي صارف كان، فصرفهم في غاية السفول، وبيان الآيات في غاية العلو، فبينهما بون عظيم.
ولما نفى عنهما الصلاحية لرتبة الإلهية للذات، أتبعها نفي ذلك من حيث الصفات، فقال منكراً مصرحاً بالإعراض عنهم إشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً للإقبال عليهم: ﴿قل﴾ أي للنصارى أيها الرسول الأعظم ﴿أتعبدون﴾ ونبه على أن كل شيء دونه، وأنهم اتخذوهم وسيلة إليه بقوله: ﴿من دون الله﴾ ونبه بإثبات الاسم الأعظم على أن له جميع الكمال، وعبر عما عبدوه بأداة ما لا يعقل تنبيهاً على أنه سبحانه هو الذي
256
أفاض عليه ما رفعه عن ذلك الحيز، ولو شاء لسلبه عنه فقال: ﴿ما لا يملك لكم ضراً﴾ أي من نفسه فتخشوه ﴿ولا نفعاً﴾ أي فترجوه، ليكون لكم نوع عذر أو شبهة، ولا هو سميع يسمع كل ما يمكن سمعه بحيث يغيث المضطر إذا استغاث به في أي مكان كان ولا عليم يعلم كل ما يمكن علمه بحيث يعطي على حسب ذلك، وكل ما يملك من ذلك فبتمليك الله له كما ملككم من ذلك ما شاء.
ولما نفى عنه ما ذكر تصريحاً وتلويحاً، أثبته لنفسه المقدسة كذلك فقال: ﴿والله﴾ أي والحال أن الملك الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى والكمال كله ﴿هو﴾ أي خاصة ﴿السميع العليم *﴾ وهو وحده الضار النافع، يسمع منكم هذا القول ويعلم هذا المعقد السيىء، وإنما قرن بالسميع العليم، دون البصير لإرادة التهديد لمن عبد غيره، لأن العبادة قول أو فعل، ومن الفعل ما محله القلب وهو الاعتقاد، ولا يدرك بالبصر بل بالعلم، والآية - كما ترى - من الاحتباك: دل بما أثبته لنفسه على سبيل القصر على نفيه في الجملة الأولى عن غيره، وبما نفاه في الجملة الأولى عن غيره على إثباته له - والله الموفق.
257
ولما قامت الأدلة على بطلان قول اليهود ثم على بطلان مدعى النصارى، ولم يبق لأحد علة، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينهى الفريقين عن الغلو بالباطل في أمر عيسى عليه السلام: اليهود
257
بإنزاله عن رتبته، والنصارة برفعه عنها بقوله تعالى: ﴿قل يا أهل الكتاب﴾ أي عامة ﴿لا تغلوا﴾ أي تجاوزوا الحد علواً ولا نزولاً ﴿في دينكم﴾.
ولما كان الغلو ربما أطلق على شدة الفحص عن الحقائق واستنباط الخفي من الأحكام والدقائق من خبايا النصوص، نفى ذلك بقوله: ﴿غير الحق﴾ وعرّفه ليفيد أن المبالغة في الحق غير منهي عنها، وإنما المنهي عنه تجاوز دائرة الحق بكمالها، ولو نكر لكان من جاوز حقاً إلى غيره واقعاً في النهي، كما جاوز الاجتهاد في الصلاة النافلة إلى الجد في العلم النافع، ولو قيل: باطلاً، لأوهم أن المنهي عنه المبالغة في الباطل، لا أصله ومطلقه.
ولما نهاهم أن يضلوا بأنفسهم، نهاهم أن يقلدوا في ذلك غيرهم فقال: ﴿ولا تتبعوا﴾ أي فاعلين فعل من يجتهد في ذلك ﴿أهواء قوم﴾ أي هَوَوا مع ما لهم من القوة، فكانوا أسفل سافلين، والهوى لا يستعمل إلا في البشر ﴿قد ضلوا﴾ ولما كان ضلالهم غير مستغرق للزمان الماضي، أدخل الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي من قبل زمانكم هذا عن منهاج العقل فصبروا على ضلالهم وأنسوا بما تمادوا عليه في محالهم ﴿وأضلوا﴾ أي لم يكفهم ضلالُهم في أنفسهم حتى أضلوا غيرهم ﴿كثيراً﴾ أي من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى
258
ظن حقاً ﴿وضلوا﴾ أي بعد بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنابذة الشرع ﴿عن سواء﴾ أي عدل ﴿السبيل *﴾ أي الذي لا سبيل في الحقيقة غيره، لأن الشرع هو الميزان القسط والحكم العدل، وهذا إشارة إلى أنهم إن لم ينتهوا كانوا على محض التقليد لأسلافهم الذين هم في غاية البعد عن النهج وترك الاهتداء بنور العلم، وهذا غاية في التبكيت، فإن تقليدهم لو كان فيما يشبه الحق كان جهلاً، فكيف وإنما هو تقليد في هوى.
ولما نهاهم عن ذلك وقبحه عليهم. علله محذراً منه بقوله تعالى بانياً للمفعول، لأن الفاعل معروف بقرينة من هو على لسانهما: ﴿لعن﴾ ووصفهم بما نبه على علة لعنهم بقوله: ﴿الذين كفروا﴾ وصرح بنسبتهم تعييناً لهم وتبكيتاً وتقريعاً فقال: ﴿من بني إسرائيل﴾ وأكد هذا اللعن وفخمه بقوله: ﴿على لسان داود﴾ أي الذي كان على شريعة موسى عليه السلام، وذلك باعتدائهم في السبت فصاروا قردة ﴿وعيسى ابن مريم﴾ أي الذي نسخ شرع موسى عليه السلام، بكفرهم بعد المائدة فمسخوا خنازير، لأنهم خالفوا النبيين معاً، فلا هم تعبدوا بما دعاهم إليه داود عليه السلام من شرعهم الذي هم مدعون التمسك به، وعارفون
259
بأن ما دعاهم إليه منه حقاً، ولا هم خرجوا عنه إلى ما أمروا بالخروج إليه على لسان موسى عليه السلام في بشارته به متقيدين بطاعته، فلم تبق لهم علة من التقيد به ولا التقيد بحق دعاهم إليه غيره، فعلم قطعاً أنهم مع الهوى كما مضى، ولم ينفعهم مع نسبتهم إلى واحدة من الشريعتين نسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام، فإنه لا نسب لأحد عند الله دون التقوى لا سيما في يوم الفصل إذ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
ولما أخبر بلعنهم وأشار إلى تعليله بكفرهم، صرح بتعليله بقوله: ﴿ذلك﴾ أي اللعن التام ﴿بما﴾ أي بسبب ما ﴿عصوا﴾ أي فعلوا في ترك أحكام الله فعل العاصي على الله ﴿وكانوا يعتدون *﴾ أي كانت مجاوزة الحدود التي حدها الله لهم خلقاً.
ذكر الإشارة إلى لعنهم في الزبور والإنجيل، قال في المزمور السابع والسبعين من الزبور: أنصت يا شعبي لوصاياي، قربوا أسماعكم إلى قول فمي، فإني أفتح بالأمثال فمي، وأنطق بالسرائر الأزلية التي سمعناها وعرفناها وأخبرنا آباؤنا بها ولم يخفوها عن أبنائهم ليعرفوا الجيل الآتي تسابيح الرب وقوته وعجائبه التي صنعها، أقام شهادته في يعقوب
260
وجعل ناموساً في إسرائيل كالذي أوصى آباءنا ليعلموا أبناءهم، لكيما يخبر الجيل الآخر البنين الذين يولدون ويقومون، ويعلمون أيضاً بنيهم أن يجعلوا توكلهم على الله ولا ينسوا أعمال الرب، ويتبعوا وصاياه لئلا يكونوا كآبائهم الجيل المنحرف المخالف الخلف الذي لم يثق قلبه ولم يؤمن بالله المفرج عنه، بنو إفرام الذين أوتروا ورفعوا عن قسيهم وانهزموا في يوم القتال لأنهم لم يحفظوا عهد الرب ولم يشاؤوا أن يسيروا في سبله، ونسوا حسن أعماله وصنائعه التي أظهرها قدام آبائهم، العجائب التي صنعها بأرض مصر في مزارع صاعان، فلق البحر وأجازهم وأقام المياه كالزقاق، هداهم بالنهار في الغمام وفي الليل أجمع بمصابيح النار، فلق صخرة في البرية وسقاهم منها كاللجج العظيمة، أخرج الماء من الحجر فجرت المياه كجري الأنهار، وعاد الشعب أيضاً في الخطيئة، وأسخطوا العلي حيث لم يكن ماء، جربوا الله في قلوبهم بمسألة الطعام لنفوسهم، وقذفوا على الله وقالوا: هل يقدر أن يصنع لنا مائدة في البرية، لأنه ضرب الصخرة فجرت المياه وفاضت الأودية، هل يستطيع أن يعطينا خبزاً أو يعد مائدة لشعبه، سمع الرب فغضب واشتعلت النار في يعقوب، وصعد الرجزُ على إسرائيل لأنهم لم يؤمنوا بالله ولا رجوا خلاصه، فأمر السحاب من فوق
261
وانفتحت أبواب السماء ليشبعوا، أهاج ريح التيمن من السماء وأتى بقوة العاصف، وأنزل اللحم مثل التراب وطير السماء ذات الأجنحة مثل رمل البحار، يسقطن في محالهم حول خيامهم، فأكلوا وشبعوا جداً، أعطاهم شهوتهم ولم يحرمهم إرادتهم، فبينما الطعام في أفواههم إذ غضب الله نزل عليهم فقتل في كثرتهم وصرع في مختاري إسرائيل، ومع هذا كله أخطؤوا إليه أيضاً ولم يؤمنوا بعجائبه، فنيت بالباطل أيامهم، وتصرمت عاجلاً سنوهم، فحين قتلهم رغبوا إلى الله وعادوا وابتكروا إليه وذكروا أن الله معينهم وأن الله العلي مخلصهم، أحبوه بأفواههم وكذبوه بألسنتهم، ولم تخلص له قلوبهم ولم يؤمنوا بعهده، وهو رحيم رؤوف، يغفر ذنوبهم ولا يهلكهم، ويرد كثرة سخطه عنهم ولا يبعث كل رجزه، وذكر أنهم لحم وروح يذهب ولا يعود، مراراً كثيرة أسخطوه في البرية وأغضبوه في أرض ظامئة، وعادوا وجربوا الله وأسخطوا قدوس إسرائيل، ولم يذكروا يده في يوم نجاهم من المضطهدين - انتهى.
هذا بعض ما في الزبور، وأما الإنجيل فطافح بذلك، منه ما في
262
إنجيل متى، قال: وانتقل يسوع من هناك وجاء إلى عبر الجليل، وصعد إلى الجبل وجلس هناك، وجاء إليه جمع كبير معهم خرس وعمى وعرج وعسم وآخرون كثيرون، فخروا عند رجليه فأبرأهم، وتعجب الجمع لأنهم نظروا الخرس يتكلمون والصم يسمعون والعرج يمشون والعمى يبصرون، ومجدوا إله إسرائيل، وإن يسوع دعا تلاميذه وقال لهم: إني أتحنن على هذا الجمع، لأن لهم معي ثلاثة أيام ههنا، وليس عندهم ما يأكلون، ولا أريد أطلقهم صياماً لئلا يضيعوا في الطريق، قال مرقس: لأن منهم من جاء من بعيد - انتهى. قال له التلاميذ: من أين نجد من خبز القمح في البرية ما يشبع هذا الجمع؟ فقال لهم يسوع: كم عندكم من الخبز؟ فقالوا: سبعة أرغفة ويسير من السمك، فأمر الجمع أن يجلس على الأرض وأخذ السبع خبزات والسمك وبارك وكسر وأعطى تلاميذه، وناول التلاميذ الجمع، فأكل جميعهم وشبعوا ورفعوا فضلات الكسر سبع قفاف مملوءة، وكان الذين أكلوا نحو أربعة آلاف رجل سوى النساء والصبيان، وأطلق الجمع وصعد السفينة وجاء إلى تخوم مجدل - وقال مرقس: إلى نواحي مابونا - وجاء الفريسيون
263
والزنادقة يجربونه ويسألونه أن يريهم آية من السماء، فأجابهم يسوع قائلاً: إذا كان المساء قلتم: إن السماء صاحية - لاحمرارها، وبالغداة تقولون: اليوم شتاء - لاحمرار جو السماء العبوس، أيها المراؤون! تعلمون آية هذا الزمان، الجيل الشرير الفاسق يطلب آية، ولا يعطى إلا آية يونان النبي - وتركهم ومضى، ثم جاء التلاميذ إلى العبر ونسوا أن يأخذوا خبزاً - قال مرقس: ولم يكن في السفينة إلا رغيف واحد - وإن يسوع قال لهم: انظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين والزنادقة - وقال مرقس: وخمير هيرودس - ففكروا قائلين: إنا لم نجد خبزاً، فعلم يسوع فقال لهم: لماذا تفكرون في نفوسكم يا قليلي الأمانة؟ إنكم ليس معكم خبز، أما تفهمون ولا تذكرون الخمس خبزات لخمسة آلاف وكم سلاً أخذتم؟ والسبع خبزات لأربعة آلاف، وكم قفة أخذتم؟ لماذا لا تفهمون؟ لأني لم أقل لكم من أجل الخبز، حينئذ فهموا أنه لم يقل لهم أن يتحرزوا من خمير الخبز، لكن من تعليم الزنادقة والفريسيين، وقال لوقا: تحرزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء، لأنه ليس خفي إلا سيظهر، ولا مكتوم إلا سيعلم، الذي تقولونه في الظلام سيسمع في النور، والذي وعيتموه في الآذان سوف ينادى به على السطوح،
264
أقول لكم: يا أحبائي لا تخافوا ممن يقتل الجسد، وبعد ذلك ليس له أن يفعل أكثر، خافوا ممن إذا قتل له سلطان أن يلقى في نار جهنم - وسيأتي بقية الإشارة إلى لعنهم في سورة الصف إن شاء الله تعالى، والعسم جمع أعسم - بمهملتين، وهو من في يده أو قدمه اعوجاج أو يده يابسة.
265
ولما علل تعالى لعنهم بعصيانهم وغلوهم في الباطل، بينه مخصصاً للعلماء منهم بزيادة تهديد، لأنهم مع كونهم على المنكر لا ينهون غيرهم عنه، مع أنهم أجدر من غيرهم بالنهي، فصاروا عليّ منكرين شديدي الشناعة، وسكوتهم عن النهي مغوٍ لأهل الفساد ومغرٍ لهم ولغيرهم على الدخول فيه والاستكبار منه فقال تعالى: ﴿كانوا لا يتناهون﴾ أي لا ينهى بعضهم بعضاً، وبين إغراقهم في عدم المبالاة بالتنكير في سياق النفي فقال: ﴿عن منكر﴾.
ولما كان الفعل ما كان من الأعمال عن داهية من الفاعل سواء كان عن علم أو لا، عبر به إشارة إلى أن لهم في المناكر غرام من غلبته الشهوة، ولم يبق لهم نوع علم، فقال: ﴿فعلوه﴾ ؛ ولما كان من طبع الإنسان النهي عن كل ما خالفه طبعاً أو اعتقاداً، لا سيما إن تأيد بالشرع، فكان لا يكف عن ذلك إلا بتدريب النفس عليه لغرض
265
فاسد أداه إليه، أكد مقسماً معبراً بالفعل الذي يعبر به عما قد لا يصحبه علم ولا يكون إلا عن داهية عظيمة فقال: ﴿لبئس ما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿يفعلون *﴾ إشارة إلى أنهم لما تكررت فضائحهم وتواترت قبائحهم صاروا إلى حيز ما لا يتأتى منه العلم.
ولما أخبر بإقرارهم على المناكر، دل على ذلك بأمر ظاهر منهم لازم ثابت دائم مقوض لبنيان دينهم، فقال موجهاً بالخطاب لأصدق الناس فراسة وأوفرهم علماً وأثبتهم توسماً وفهماً: ﴿ترى كثيراً منهم﴾ أي من أهل الكتاب؛ ولما كان الإنسان لا ينحاز إلى حزب الشيطان إلا بمنازعة الفطرة الأولى السليمة، أشار إلى ذلك بالتفعل فقال: ﴿يتولون﴾ أي يتبعون بغاية جهدهم ﴿الذين كفروا﴾ أي المشركين مجتهدين في ذلك مواظبين عليه، وليس أحد منهم ينهاهم عن ذلك ولا يقبحه عليهم، مع شهادتهم عليهم بالضلال هم وأسلافهم إلى أن جاء هذا النبي الذي كانوا له في غاية الانتظار وبه في نهاية الاستبشار، وكانوا يدعون الإيمان به ثم خالفوه، فمنهم من استمر على المخالفة ظاهراً وباطناً، ومنهم من ادعى أنه تابع واستمر على المخالفة باطناً، فكانت موالاته للمشركين دليلاً على كذب دعواه ومظهرة لما أضمره من المخالفة وأخفاه.
ولما كان ذلك منهم ميلاً مع الهوى بغير دليل أصلاً قال:
266
﴿لبئس ما قدمت﴾ أي تقديم النزل للضيف ﴿لهم أنفسهم﴾ أي التي من شأنها الميل مع الهوى ثم بين المخصوص بالذم - وهو ما قدمتُ - بقوله: ﴿إن سخط الله﴾ أي وقع سخطه بجميع ما له من العظمة ﴿عليهم﴾ ولما كان من وقع السخط عليه يمكن أن يزول عنه، قال مبيناً أن مجرد وقوعه جدير بكل هلاك: ﴿وفي العذاب﴾ أي الكامل من الأدنى في الدنيا والأكبر في الآخرة ﴿هم خالدون *﴾.
ولما كان هذا دليلاً على كفرهم، دل عليه بقوله: ﴿ولو﴾ أي فعلوا ذلك مع دعواهم الإيمان والحال أنهم لو ﴿كانوا﴾ أي كلهم ﴿يؤمنون﴾ أي يوجد منهم إيمان ﴿بالله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿والنبي﴾ أي الذي له الوصلة التامة بالله، ولذا أتبعه قوله: ﴿وما أنزل إليه﴾ أي من عند الله أعم من القرآن وغيره إيماناً خالصاً من غير نفاق ﴿ما اتخذوهم﴾ أي المشركين مجتهدين في ذلك ﴿أولياء﴾ لأن مخالفة الاعتقاد تمنع الوداد، فمن كان منهم باقياً على يهوديته ظاهراً وباطناً، فالألف في «النبي» لكشف سريرته للعهد، أي النبي الذي ينتظرونه ويقولون: إنه غير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو للحقيقة أي لو كانوا يؤمنون بهذه الحقيقة - أي حقيقة النبوة - ما والوهم، فإنه لم يأت نبي إلا بتكفير المشركين - كما أشار إلى ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله «الأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد»
267
كما سيأتي قريباً في حديث أبي هريرة، يعني - والله أعلم - أن شرائعهم وإن اختلفت في الفروع فهي متفقة في الأصل وهو التوحيد، ومن كان منهم قد أظهر الإيمان فالمراد بالنبي في إظهار زيغه وميله وحيفه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه نهى عن موالاة المشركين، بل عن متاركتهم، ولم يرض إلا بمقارعتهم ومعاركتهم.
ولما أفهمت الشرطية عدم إيمانهم، استثنى منها منبهاً بوضع الفسق موضع عدم الإيمان على أنه الحامل عليه فقال: ﴿ولكن كثيراً منهم فاسقون﴾ أي متمكنون في خلق المروق من دوائر الطاعات.
268
ولما دل كالشمس ميلهُم إلى المشركين دون المؤمنين على أنهم في غاية العداوة لهم، صرح تعالى بذلك على طريق الاستنتاج، فقال دالاً على رسوخهم في الفسق: ﴿* لتجدن أشد الناس﴾ أي كلهم ﴿عداوة للذين آمنوا﴾ أي أظهروا الإقرار بالإيمان فكيف بالراسخين فيه ﴿اليهود﴾ قدمهم لأنهم أشد الفريقين لأنه لا أقبح من ضال على علم ﴿والذين أشركوا﴾ لما جمعهم من الاستهانة بالأنبياء هؤلاء جهلاً وأولئك عناداً وبغياً، فعرف أن من صدق في إيمانه لا يواليهم بقلبه ولا بلسانه، وأنهم ما اجتمعوا على الموالاة إلا لاجتماعهم في أشدّية العداوة لمن
268
آمن، فهذه الآية تعليل لما قبلها، كأنه قيل: هب أنهم لا يؤمنون بالله والنبي، وذلك لا يقتضي موادة المشركين فلِمَ والوهم حينئذ؟ فقيل: لأن الفريقين اجتمعوا في أشدية العداوة للذين آمنوا.
ولما أخبر تعالى بأبعد الناس مودة لهم، أخبر بضدهم فقال: ﴿ولتجدن أقربهم﴾ أي الناس ﴿مودة للذين آمنوا﴾ أي أوجدوا الإيمان بالقلب واللسان ﴿الذين قالوا﴾ وفي التوريك على قولهم إشارة إلى أنهم ما كانوا على حقيقة النصرانية ﴿إنا نصارى﴾ أي لقلة اهتمامهم بالدنيا بمجرد قولهم ذلك ولو لم يكونوا عريقين في الدين وإقبالهم على علم الباطن، ولذلك علله بقوله: ﴿ذلك بأن منهم قسيسين﴾ أي مقبلين على العلم، من القس، وهو ملامة الشيء وتتبعه ﴿ورهباناً﴾ أي في غاية التخلي من الدنيا؛ ولما كان التخلي منها موجباً للبعد من الحسد، وهو سبب لمجانبة التكبر قال: ﴿وأنهم لا يستكبرون *﴾ أي لا يطلبون الرفعة على غيرهم ولا يوجدونها.
ولما كان ذلك علة في الظاهر ومعلولاً في الباطن لرقة القلب قال:
269
﴿وإذا سمعوا﴾ أي أتباع النصرانية ﴿ما أنزل إلى الرسول﴾ أي الذي ثبتت رسالته بالمعجز، فكان من شأنه أن يبلغ ما أنزل إليه للناس ﴿ترى أعينهم﴾ ولما كان البكاء سبباً لامتلاء العين بالدمع وكان الامتلاء سبباً للفيض الذي حقيقته السيلان بعد الامتلاء، عبر بالمسبب عن السبب فقال: ﴿تفيض من الدمع﴾ أصله: يفيض دمعها ثم تفيض هي دمعاً، فهو من أنواع التمييز، ثم علل الفيض بقوله: ﴿مما عرفوا من الحق﴾ أي وليس لهم غرض دنيوي يمنعهم عن قبوله، ثم بين حالهم في مقالهم بقوله: ﴿يقولون ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا ﴿آمنا﴾ أي بما سمعنا ﴿فاكتبنا﴾.
ولما كان من شأن الشاهد إحضار القلب وإلقاء السمع والقيام التام بما يتلى عليه ويندب إليه قال: ﴿مع الشاهدين *﴾ أي أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة، فإن تقويتنا على ذلك ليست إلا إليك ﴿وما﴾ أي ويقولون: ما، أي أيّ شيء حصل أو يحصل ﴿لنا﴾ حال كوننا ﴿لا نؤمن بالله﴾ أي الذي لا كفوء له ولا خير إلا منه ﴿وما﴾ أي وبما ﴿جاءنا من الحق﴾ أي الأمر الثابت الذي مهما عرض على الواقع طابقه الواقع سواء كان حالاً أو ماضياً أو آتياً.
ولما كانوا يهضمون أنفسهم، عبروا بالطمع الذي لا نظر معه لعمل
270
فقالوا: ﴿ونطمع أن يدخلنا ربنا﴾ أي بمجرد إحسانه، لا بعمل منا، ولجريهم في هذا المضمار عبروا بمع دون «في» قولهم: ﴿مع القوم الصالحين *﴾ هضماً لأنفسهم وتعظيماً لرتبة الصلاح.
ولما ذكر قولهم الدال على حسن اعتقادهم وجميل استعدادهم، ذكر جزاءهم عليه فقال: ﴿فأثابهم الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿بما قالوا﴾ أي جعل ثوابهم على هذا القول المستند إلى خلوص النية الناشئ عن حسن الطوية ﴿جنات تجري﴾ ولما كان الماء لو استغرق المكان أفسد، أثبت الجار فقال: ﴿من تحتها الأنهار﴾ ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال: ﴿خالدين فيها﴾.
ولما كان التقدير: لإحسانهم، طرد الأمر في غيرهم فقال: ﴿وذلك﴾ أي الجزاء العظيم ﴿جزاء المحسنين *﴾ أي كلهم، واختلفوا في هذه الواقعة بعد اتفاقهم على أنها في النجاشي وأصحابه، وذلك مبسوط في شرحي لنظمي للسيرة النبوية، فمن ذلك أنه لما قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من مهاجرة الحبشة مع أصحابه رضي الله عنهم قدم معهم سبعون رجلاً بعثهم النجاشي رضي الله عنه وعن الجميع وفداً إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
271
عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام، وهم بحيرا الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى! فأنزل الله فيهم هذه الآية ﴿لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا﴾ [المائدة: ٨٢]- إلى آخرها، ذكر ذلك الواحدي في أسباب النزول بغير سند، ثم أسند عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: ﴿ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً﴾ [المائدة: ٨٢] قال: بعث النجاشي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خيار أصحابه ثلاثين رجلاً، فقرأ عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يس فبكوا، فنزلت فيهم هذه الآية. وإذا نظرت مكاتبات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للملوك ازددت بصيرة في صدق هذه الآية، فإنه ما كاتب نصرانياً إلا آمن، أو كان ليناً ولو لم يسلم كهرقل والمقوقس وهوذة بن علي وغيرهم، وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم، وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غاية الفظاظة ككسرى فإنه مزق كتابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يجز رسوله بشيء، وأما اليهود فكانوا جيران الأنصار ومواليهم
272
وأحبابهم، ومع ذلك فأحوالهم في العداوة غاية، كما هو واضح في السير، مبين جداً في شرحي لنظمي للسيرة، وكان السر في ذلك - مع ما تقدم من باعث الزهد - أنه لما كان عيسى عليه السلام أقرب الأنبياء زمناً من زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان المنتمون إليه ولو كانوا كفرة أقرب الأمم مودة لاتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى ذلك يشير ما رواه الشيخان في الفضائل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، الأنبياء أولاد علات - وفي رواية: أبناء، وفي رواية: إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وليس بيني وبينه، وفي رواية: وليس بيني وبين عيسى - نبي.
وفي رواية لمسلم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة، قالوا: كيف يا رسول الله! قال: الأنبياء إخوة من علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، فليس بيننا نبي».
273
ولما ذكر سبحانه وتعالى جزاء المطيعين المبادرين إلى الإذعان ترغيباً، ذكر جزاء من لم يفعل فعلهم ترهيباً فقال: ﴿والذين كفروا﴾ أي ستروا ما أوضحته له عقولهم من الدلالة على صحة ما دعتهم إليه الرسل ﴿وكذبوا﴾ أي عناداً ﴿بآياتنا﴾ أي بالعلامات المضافة لعظمها إلينا ﴿أولئك﴾ أي البعداء من الرحمة ﴿أصحاب الجحيم *﴾ أي الذين لا ينفكون
273
عنها، لا غيرهم من العصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم.
ولما مدح سبحانه الرهبان، وكان ذلك داعياً إلى الترهب، وكانت الرهبانية حسنة بالذات قبيحة بالعرض، شريفة في المبدأ دنية في المآل، فإنها مبنية على الشدة والاجتهاد في الطاعات والتورع عن أكثر المباحات، والإنسان مبني على الضعف مطبوع على النقائص، فيدعوه طبعه ويساعده ضعفه إلى عدم الوفاء بما عاقد عليه، ويسرع بما له من صفة العجلة إليه، فيقع في الخيانة كما قال تعالى: ﴿فما رعوها حق رعايتها﴾ [الحديد: ٢٧] عقب ذلك بالنهي عنها في هذا الدين والإخبار عنه بأنه بناه على التوسط رحمة منه لأهله ولطفاً بهم تشريفاً لنبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونهاهم عن الإفراط فيه والتفريط فقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي وجد منهم الإقرار بذلك ﴿لا تحرموا﴾ أي تمنعوا أنفسكم بنذر أو يمين أو غيرهما تصديقاً لما أقررتم به، ورغبهم في امتثال أمره بأن جعله موافقاً لطباعهم ملائماً لشهواتهم فقال: ﴿طيبات ما﴾ أي المطيبات وهي اللذائذ التي ﴿أحل الله﴾ وذكر هذا الاسم الأعظم مرغب في ذلك، فإن الإقبال على المنحة يكون على مقدار المعطي، وأكد ذلك بقوله: ﴿لكم﴾ أي وأما هو سبحانه فهو منزه عن الأغراض، لا ضر يلحقه ولا نفع، لأن له الغنى المطلق.
ولما أطلق لهم ذلك، حثهم على الاقتصاد، وحذرهم من مجاوزة الحد
274
إفراطاً وتفريطاً فقال: ﴿ولا تعتدوا﴾ فدل بصيغة الافتعال على أن الفطرة الأولى مبنية على العدل، فعدولها عنه لا يكون إلا بتكلف، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لاستبعاد أن ينهى عن الإمعان في العبادة: ﴿إن الله﴾ أي وهو الملك الأعظم ﴿لا يحب المعتدين *﴾ أي لا يفعل فعل المحب من الإكرام للمفرطين في الورع بحيث يحرمون ما أحللت، ولا للمفرطين فيه الذين يحللون ما حرمت، أي يفعلون فعل المحرم من المنع وفعل المحلل من التناول، وما ذكر من سبب نزول الآية واضح في ذلك؛ روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء وإني حرمت عليّ اللحم، فنزلت: ﴿لا تحرموا ما أحل الله لكم﴾ ونزلت: ﴿وكلوا مما رزقكم الله﴾
[المائدة: ٨٨] «. وأخرجه الترمذي في التفسير من جامعه وقال: حسن غريب، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلاً. وقال الواحدي: وتبعه عليه البغوي: قال المفسرون:»
جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف فرق الناس وبكوا، فاجتمع عشرة من الصحابة رضي الله عنهم في بيت عثمان بن مظعون
275
الجمحي، وهم أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبّوا المذاكير؛ فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لهم: «ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله! وما أردنا إلا الخير، فقال: إني لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا. وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، ومن رغب عن سنتي فليس مني؛ ثم جمع الناس فخطبهم فقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا! أما! إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، واعبدوا الله
276
ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع»، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله! فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ [المائدة: ٨٩، والبقرة: ٢٢٥]، ولا تعارض بين الخبرين لإمكان الجمع بأن يكون الرجل لما سمع تذكير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل، ولو لم يجمع صح أن يكون كل منهما سبباً، فالشيء الواحد قد يكون له أسباب جمة، بعضها أقرب من بعض، فمن الأحاديث الواردة في ذلك ما روى البغوي بسنده من طريق ابن المبارك في كتاب الزهد عن سعد بن مسعود «أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ائذن لنا في الاختصاء، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس منا من خصي ولا اختصى، إن خصاء أمتي الصيام، فقال: يا رسول الله! ائذن لنا في السياحة، فقال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله. فقال: يا رسول الله! ائذن لنا في الترهب، فقال: إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً لصلاة»
277
وللشيخين والترمذي والنسائي والدارمي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أيضاً قال: «أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو أذن له - وفي رواية: ولو أجاز له - التبتل لاختصينا» وللدارمي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أيضاً قال: «لما كان من أمر عثمان بن مظعون رضي الله عنه الذي كان ممن ترك النساء بعث إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا عثمان! إني لم أومر بالرهبانية، أرغبت عن سنتي؟ قال: لا يا رسول الله! قال: إن من سنتي أن أصلي وأنام وأصوم وأطعم وأنكح وأطلق، فمن رغب عن سنتي فليس مني، يا عثمان! إن لأهلك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، قال سعد: فوالله لقد كان أجمع رجال من المؤمنين على أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن هو أقر عثمان على ما هو عليه أن نختصي فنتبتل» وقال شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف: وروى الطبراني من طريق ابن جريج عن مجاهد قال: «أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح» ومن طريق ابن جريج عن عكرمة «أن عثمان بن مظعون وعلي
278
بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالماً مولى أبي حذيفة في جماعة رضي الله عنهم تبتلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾ - الآية، فبعث إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا» وللترمذي عن سمرة رضي الله عنه ان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن التبتل.
وقرأ قتادة: ﴿ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية﴾ وللنسائي عن عائشة رضي الله عنها نحوه وأشار إليه الترمذي. وللطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً. يقول: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» ومنها ما روى الشيخان عن عبد الله
279
رضي الله عنه أنه قال: «كنا نغزو مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس لنا شيء - وفي رواية: نساء، وفي رواية: كنا ونحن شباب - فقلنا: يا رسول الله! ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا عبد الله ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾ » الآية.
ومنها ما روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله! إني رجل شاب، وإني أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء - قال النسائي: أفاختصي - فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر- وقال النسائي: أو دع» ومنها ما روى الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي الله عنهن يسألون عن عبادة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي رواية مسلم والنسائي أن نفراً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألوا أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عمله
280
في السر - فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً؛ وفي رواية: وقال بعضهم لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش؛ فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام كذا وكذا! وفي رواية: فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له! لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» والمبهمون في الحديث - قال شيخنا في مقدمة شرحه للبخاري - هم ابن مسعود وأبو هريرة وعثمان بن مظعون، وسيأتي مفرّقاً ما يشير إلى ذلك، يعني ما قدمته أنا، قال: وقيل: هم سعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب، وفي مصنف عبد الرزاق من طريق سعيد بن المسيب أن منهم علياً وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وقال شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف: إن هذا أصلُ ما رواه الواحدي عن المفسرين، وللشيخين والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما
281
أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم»، وفي رواية: «ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» ولأبي داود عن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم» وللإمام أحمد في المسند عن أنس رضي الله عنه والحاكم في علوم الحديث في فن الغريب - وهذا لفظه - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض عبادة الله إليك، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى» المتين: الصلب الشديد، والإيغال: المبالغة، والمنبت - بنون وموحدة وفوقانية مشددة هو الذي انقطع ظهره، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا؛ وفي بعض الروايات: والقصد القصد تبلغوا» ولمسلم وابن ماجه - وهذا لفظه - عن حنظلة الكاتب التميمي الأسيدي رضي الله عنه قال: «كنا
282
عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرنا الجنة والنار حتى كانا رأي العين، فقمت إلى أهلي وولدي فضحكت ولعبت، قال: فذكرت الذي كنا فيه، فخرجت فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: نافقت نافقت! فقال أبو بكر: إنا لنفعله، فذهب حنظلة فذكره للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا حنظلة! لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم أو على طرقكم، يا حنظلة! ساعة وساعة» ولفظ مسلم من طرق جمعت متفرقها عن حنظلة - وكان من كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكرنا بالنار والجنة كانا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً، قال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» وما ذاك «؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا رأي
283
عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة وساعة - ثلاث مرات «» وفي رواية: قال: «كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوعظنا فذكرنا النار - وفي رواية: الجنة والنار - ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة! فقال: مه؟ فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل، فقال: يا حنظلة! ساعة وساعة، فلو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق»
ومن هنا تبين لك مناسبة أول المجادلة لآخر الحديد التي كاع في معرفتها الأفاضل، وكع عن تطلبها لغموضها الأكابر الأماثل، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك وإيضاح ما فيه من لطيف المسالك، ومن هذه الآية وقع الالتفات إلى قوله تعالى: ﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام﴾ [الأنعام: ١] وقوله تعالى: ﴿قل أحل لكم الطيبات﴾ [المائدة: ٤] وما أحسن تصديرها
284
بيا أيها الذين آمنوا - كما صدر أول السورة به، وقد مضى بيان جميع ما مضى في الوفاء بالعقود، فكان كأنه تعالى قال: أوفوا بالعقود، فلا تتهاونوا بها فتنقضوها، ولا تبالغوا فيها فتكونوا معتدين فتضعفوا، فإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، بل سددوا وقاربوا، والقصد القصد تبلغوا، وقال ابن الزبير بعد قوله: ﴿ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم﴾ [المائدة: ١٤] ثم فصل للمؤمنين أفعال الفريقين - أي اليهود والنصارى - ليتبين لهم فيما نقضوا، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى: ﴿لتجدن أشد الناس عداوة﴾ [المائدة: ٨٢]. ثم نصح عباده وبين لهم أبواباً منها دخول الامتحان، وهي سبب في كل الابتلاء، فقال: ﴿لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا﴾ [المائدة: ٨٧] فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم شارعين لأنفسكم وظالمين - انتهى. و ﴿ما أحل﴾ شامل لكل ما كانوا أرادوا أن يتورعوا عنه من المآكل والملابس والمناكح والنوم وغير ذلك.
285
ولما كان الحال لما ألزموا به أنفسهم مقتضياً للتأكيد، أمر بالأكل بعد أن نهى عن الترك ليجتمع على إباحة ذلك الأمر والنهيُ فقال: ﴿وكلوا﴾ ورغبهم فيه بقوله: ﴿مما رزقكم الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا يرد عطاؤه.
ولما كان الرزق يقع على الحرام، قيده بعد القيد بالتبعيض بقوله: ﴿حلالاً﴾ ولما كان سبحانه قد جعل الرزق شهياً، وصفه
285
امتناناً وترغيباً فقال: ﴿طيباً﴾ ويجوز أن يكون قيداً محذراً مما فيه شبهة تنبيهاً على الورع، ويكون معنى طيبه تيقن حله، فيكون بحيث تتوفر الدواعي على تناوله ديناً توفّرها على تناول ما هو نهاية في اللذة شهوة وطبعاً، وأن يكون مخرجاً لما تعافه النفس مما أخذ في الفساد من الأطعمة لئلا يضر، قال ابن المبارك: الحلال ما أخذ من جهته، والطيب ما غذّي ونميّ، فأما الطين والجوامد وما لا يغذي فمكروه إلا على جهة التداوي، وأن يكون مخرجاً لما فوق سد الرمق في حالة الضرورة، ولهذا وأمثاله قال: ﴿واتقوا الله﴾ أي الملك الذي له الجلال والإكرام من أن تحلوا حراماً أو تحرموا حلالاً، ثم وصفه بما يوجب رعي عهوده والوقوف عند حدوده فقال: ﴿الذي أنتم به مؤمنون *﴾ أي ثابتون على الإيمان به، فإن هذا الوصف يقتضي رعي العهود، وخص سبحانه الأكل، والمراد جميع ما نهي عن تحريمه من الطيبات، لأنه سبب لغيره من المتمتعات، فلما نزلت - كما نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما - هذه الآية قالوا: يا رسول الله! وكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه - كما تقدم، فأنزل الله تعالى: ﴿لا يؤاخذكم الله﴾ أي على ما له من تمام الجلال ﴿باللغو﴾ وهو ما يسبق إليه اللفظ من غير قصد ﴿في أيمانكم﴾ على أني لم أعتمد على
286
سبب النزول في المناسبة إلا لدخوله في المعنى، لا لكونه سبباً، فإنه ليس كل سبب يدخل في المناسبة - كما بينته في أول غزوة أحد في آل عمران، وإنما كان السبب هنا داخلاً في مناسبة النظم، لأن تحريم ما أحل يكون تارة بنذر وتارة بيمين، والنذر في المباح - وهو مسألتنا - لا ينعقد وكفارته كفارة يمين، فحينئذ لم تدع الحاجة إلا إلى التعريف بالأيمان وأحكامها، فقسمها سبحانه إلى قسمين: مقصود وغير مقصود، فأما غير المقصود فلا اعتبار به، وأما المقصود فقسمان: حلف على ماض، وحلف على آت، فأما الحلف على الماضي فهو اليمين الغموس التي لا كفارة لها عند بعض العلماء، وسيأتي في آية الوصية، وأما الحلف على الآتي - وهو الذي يمكن التحريم به - فذكر حكمه هنا بقوله تعالى: ﴿ولكن يؤاخذكم﴾.
ولما كان مطلق الحلف الذي منه اللغو يطلق عليه عقد لليمين، أعلم أن المؤاخذة إنما هي بتعمد القلب، وهو المراد بالكسب في الآية الأخرى، فعبر بالتفعيل في قراءة الجماعة، والمفاعلة على قراءة ابن عامر تنبيهاً على أن ذلك هو المراد من قراءة حمزة والكسائي بالتخفيف فقال ﴿بما عقدتم الأيمان﴾ أي بسبب توثيقها وتوكيدها وإحكامها بالجمع
287
بين اللسان والقلب، سواء كان على أدنى الوجوه كما تشير إليه قراءة التخفيف، أو على أعلاها كما تشير إليه قراءة التشديد، فلا يحل لكم الحنث فيها إلا بالكفارة بخلاف اللغو فإنه باللسان فقط، فلا عقد فيه فضلاً عن تعقيد، و «ما» مصدرية.
ولما أثبت المؤاخذة سبب عنها قوله: ﴿فكفارته﴾ أي الأمر الذي يستر النكث والحنث عن هذا التعقيد، ويزيل أثره بحيث تصيرون كأنكم ما حلفتم ﴿إطعام عشرة مساكين﴾ أي أحرار مساكين، لكل مسكين ربع صاع، وهو مدمن طعام، وهو رطل وثلث ﴿من أوسط ما﴾ كان عادة لكم أنكم ﴿تطعمون أهليكم﴾ أي من أعدله في الجودة والقدر كمية وكيفية، فهو مد جيد من غالب القوت، سواء كان من الحنطة أو من التمر أو غيرهما.
ولما بدأ بأقل ما يكفي تخفيفاً ورحمة، عطف على الإطعام ترقياً قوله: ﴿أو كسوتهم﴾ أي بثوب يغطي العورة من قميص أو إزار أو غيرهما مما يطلق عليه اسم الكسوة ﴿أو تحرير﴾ أي إعتاق ﴿رقبة﴾ أي مؤمنة سليمة عما يخل بالعمل - كما تقدم في كفارة القتل - حملاً لمطلق الكفارات على ذلك المقيد، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما استأذنه أحد في إعتاق رقبة في كفارة إلا اختبر إيمانها، هذا ما على المكلف على
288
سبيل التخيير من غير تعيين. والتعيين إليه إذا كان واجداً للثلاثة أو لأحدها، والإتيان بأحدها مبرئ من العهدة، لأن كل واحد من الثلاثة بعينه أخص من أحدها على الإبهام، والإتيان بالخاص يستلزم الإتيان بالعام ﴿فمن لم يجد﴾ أي واحداً منها فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه مؤنته ﴿فصيام﴾ أي فالكفارة صيام ﴿ثلاثة أيام﴾ ولو متفرقة.
ولما تم ذلك. أكده في النفوس وقرره بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العدل الحسن الذي ذكر ﴿كفارة أيمانكم﴾ أي المعقدة ﴿إذا حلفتم﴾ وأردتم نكثها سواء كان ذلك قبل الحنث أو بعده.
ولما كان التقدير: فافعلوا ما قدرتم عليه منه، عطف عليه لئلا تمتهن الأيمان لسهولة الكفارة قوله: ﴿واحفظوا أيمانكم﴾ أي فلا تحلفوا ما وجدتم إلى ذلك سبيلاً، ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم، فإنه سبحانه عظيم، ومن أكثر الحلف وقع في المحذور ولا بد، وإذا حلفتم فلا تحنثوا دون تكفير، ويجوز للمكفر الجمع بين هذه الخصال كلها واستشكل، وحلُّه بما قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في التلويح في بحث أو: والمشهور في الفرق بين التخيير والإباحة أنه يمنتع في التخيير الجمع ولا يمتنع في الإباحة، لكن الفرق هاهنا أنه لا يجب في الإباحة الإتيان بواحد وفي التخيير يجب، وحينئذ إن كان الأصل فيه الحظر وثبت
289
الجواز بعارض الأمر - كما إذا قال: بع من عبيدي هذا أو ذاك - يمتنع الجمع ويجب الاقتصار على الواحد.
لأنه المأمور به. وإن كان الأصل فيه الإباحة ووجب بالأمر واحد - كما في خصال الكفارة - يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية، وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة - انتهى.
ولما اشتملت هذه الآيات من البيان على ما يدهش الإنسان كان كأنه قيل: هل يبين كل ما يحتاج إليه هكذا؟ فنبه من هذه الغفلة بقوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا البيان العظيم الشأن ﴿يبين الله﴾ أي على ما له من العظمة ﴿لكم آياته﴾ أي أعلام شريعته وأحكامه على ما لها من العلو بإضافتها إليه.
ولما اشتمل ما تقدم من الأحكام والحِكَم والتنبيه والإرشاد والإخبار بما فيها من الاعتبار على نِعَم جسيمة وسنن جليلة عظيمة، ناسب ختمُها بالشكر المُربى لها في قوله على سبيل التعليل المؤذن بقطعها إن لم توجد العلة: ﴿لعلكم تشكرون *﴾ أي يحصل منكم الشكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية.
290
ولما تم بيان حال المأكل وكان داعية إلى المشرب، احتيج إلى بيانه، فبين تعالى المحرم منه. فعلم أن ما عداه مأذون في التمتع به،
290
وذلك محاذٍ في تحريم شيء مقترن باللازم بعد إحلال آخر لما في أول السورة من تحريم الميتة وما ذكر معها بعد إحلال بهيمة الأنعام وما معها، فقال تعالى مذكراً لهم بما أقروا به من الإيمان الذي معناه الإذعان: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا به. ونبههم على ما يريد العدو بهم من الشر بقوله تعالى: ﴿إنما الخمر﴾ وهي كل ما أسكر سواء فيه قليله وكثيره، وأضاف إليها ما واخاها في الضرر ديناً ودنيا وفي كونه سبباً للخصام وكثرة اللغط المقتضي للحلف والإقسام تأكيداً لتحريم الخمر بالتنبيه على أن الكل من أفعال الجاهلية، فلا فرق بين شاربها والذابح على النصب والمعتمد على الأزلام فقال: ﴿والميسر﴾ أي الذي تقدم ذكره في البقرة ﴿والأنصاب والأزلام﴾ المتقدم أيضاً ذكرُهما أول السورة، والزلم: القدح لا ريش له - قاله البخاري؛ وحكمة ترتيبها هكذا أنه لما كانت الخمر غاية في الحمل على إتلاف المال، قرن بها ما يليها في ذلك وهو القمار، ولما كان الميسر مفسدة المال، قرن به مفسدة الدين وهي الأنصاب، ولما كان تعظيم الأنصاب شركاً جلياً إن عبدت، وخفياً إن ذبح عليها دون عبادة، قرن بها نوعاً من الشرك الخفي وهو الاستقسام بالأزلام: ثم أمر باجتناب الكل إشارة وعبارة على أتم وجه فقال: ﴿رجس﴾ أي قذر أهل لأن يبعد عنه بكل اعتبار حتى عن ذكره سواء كان عيناً أو معنى، وسواء كانت الرجسية في الحس أو المعنى،
291
ووحد الخبر للنص على الخمر والإعلام بأن أخبار الثلاثة حذفت وقدرت، لأنها أهل لأن يقال في كل واحد منها على حدتها كذلك ولا يكفي عنها خبر واحد على سبيل الجمع؛ ثم زاد في التنفير عنها تأكيداً لرجسيتها بقوله: ﴿من عمل الشيطان﴾ أي المحترق البعيد، ثم صرح بما اقتضاه السياق من الاجتناب فقال: ﴿فاجتنبوه﴾ أي تعمدوا أن تكونوا عنه في جانب آخر غير جانبه. وأفرد لما تقدم من الحِكَم، ثم علل بما يفهم أنه لا فوز بشيء من المطالب مع مباشرتها فقال: ﴿لعلكم تفلحون *﴾ أي تظفرون بجميع مطالبكم، روى البخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء» وفي رواية: «نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب» وفي رواية عنه: «سمعت عمر على منبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب - وفي رواية: من الزبيب - والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل» وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال:
292
حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس! فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل» وفي رواية عنه: «حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً، وعامة خمرنا البسر والتمر» قال الأصبهاني: وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام.
ولما كانت حكمة النهي عن الأنصاب والأزلام قد تقدمت في أول السورة، وهي أنها فسق، اقتصر على بيان علة النهي عن الخمر والميسر إعلاماً بأنهما المقصودان بالذات، وإن كان الآخرينَ ما ضما إلا لتأكيد تحريم هذين - كما تقدم، لأن المخاطب أهل الإيمان، وقد كانوا مجتنبين لذينك، فقال مؤكداً لأن الإقلاع عما حصل التمادي في المرون عليه يحتاج إلى مثل ذلك: ﴿إنما يريد الشيطان﴾ أي بتزيين الشرب والقمار لكم ﴿أن يوقع بينكم العداوة﴾.
ولما كانت العداوة قد تزول أسبابها، ذكر ما ينشأ عنها مما إذا استحكم تعسر أو تعذر زواله، فقال: ﴿والبغضاء في الخمر والميسر﴾ أي تعاطيهما لأن الخمر تزيل العقل، فيزول المانع من إظهار الكامن من الضغائن والمناقشة والمحاسدة، فربما أدى ذلك إلى حروب طويلة وأمور مهولة، والميسر يذهب المال فيوجب ذلك الإحنة على من سلبه ماله ونغص عليه أحواله.
ولما ذكر ضررهما في الدنيا، ذكر ضررهما في الدين فقال:
293
﴿ويصدكم عن ذكر الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا إله لكم غيره ولا كفوء له، وكرر الجار تأكيداً للأمر وتغليظاً في التحذير فقال: ﴿وعن الصلاة﴾ أما في الخمر فواضح، وأما في الميسر فلأن الفائز ينسى ببطر الغلبة، والخائب مغمور بهمه، وأعظم التهديد بالاستفهام والجملة الاسمية الدالة على الثبات بعد التأكيد بالحصر والضم إلى فعل الجاهلية وبيان الحِكَم الداعية إلى الترك والشرور المنفرة عن الفعل فقال: ﴿فهل أنتم منتهون *﴾ أي قبل أن يقع بكم ما لا تطيقون.
ولما كان ذلك مألوفاً لهم محبوباً عندهم، وكان ترك المألوف أمرّ من ضرب السيوف، أكد دعوتهم إلى اجتنابه محذراً من المخالفة بقوله عاطفاً على ما تقديره: فانتهوا: ﴿وأطيعوا الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا شريك له ولا أمر لأحد سواه، أي فيما أمركم به من اجتناب ذلك، وأكد الأمر بإعادة العامل فقال: ﴿وأطيعوا الرسول﴾ أي الكامل في الرسلية في ذلك، وزاد في التخويف بقوله: ﴿واحذروا﴾ أي من المخالفة، ثم بلغ الغاية في ذلك بقوله: ﴿فإن توليتم﴾ أي بالإقبال على شيء من ذلك، وأشار بصيغة التفعل إلى أن ذلك إنما يعمل بمعالجة من النفس للفطرة الأولى، وعظم الشأن في ابتداء الجزاء بالتنبيه
294
بالأمر بالعلم فقال: ﴿فاعلموا﴾ أنكم لم تضروا إلا أنفسكم، لأن الحجة قد قامت عليكم، ولم يبق على الرسول شيء لأنكم علمتم ﴿أنما على رسولنا﴾ أي البالغ في العظمة مقداراً يجل عن الوصف بإضافته إلينا ﴿البلاغ المبين *﴾ أي البين في نفسه الموضح لكل من سمعه ما يراد منه لا غيره، فمن خالف فلينظر ما يأتيه من البلاء من قِبَلنا، وهذا ناظر إلى قوله:
﴿بلغ ما أنزل إليك من ربك﴾ [المائدة: ٦٧] فكأنه قيل: ما عليه إلا ما تقدم من إلزامنا له به من البلاغ، فمن اختار لنفسه المخالفة كفر، والله لا يهدي من كان مختاراً لنفسه الكفر.
295
ولما كانوا قد سألوا عند نزول الآية عما من شأن الأنفس الصالحة الناظرة للورع المتحرك للسؤال عنه، وهو من مات منهم وهو يفعلهما، قال جواباً لذلك السؤال: ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا﴾ أي تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات جناح﴾ فبين سبحانه أن هذا السؤال غير وارد لأنهم لم يكونوا منعوا منهما، وكانوا مؤمنين عاملين للصالحات متقين لما يسخط الرب من المحرمات، وقد بين ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك،
295
فأنزل الله تعالى على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿يسئلونك عن الخمر والميسر﴾ [البقرة: ٢١٩]، فقال الناس: لم يحرم علينا، إنما قال: إن فيهما إثماً، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين المغرب فخلط في قراءته، فأنزل الله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى﴾ [النساء: ٤٣] فكانوا يشربونها حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، فنزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام﴾ [المائدة: ٩٠]، فقالوا: انتهينا يا رب! وقال الناس: يا رسول الله! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجساً من مل الشيطان! فأنزل الله ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح﴾ [المائدة: ٩٣]، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم» ولا يضر كونه من رواية أبي معشر وهو ضعيف لأنه موافق لقواعد الدين، وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: «كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة رضي الله عنه وما شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، وإذا منادٍ ينادي: ألا! إن الخمر قد حرمت، فقال لي أبو طلحة رضي الله عنه: اخرج فاهرقها،
296
فهرقتها، فقال بعض القوم: قد قتل فلان وفلان وهي في بطونهم؟ فأنزل الله تعالى ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح﴾ على أنه لو لم يرد هذا السببُ كانت المناسبة حاصلة، وذلك أنه تعالى لما أباح الطيب من المأكل وحرم الخبيث من المشرب، نفى الجناح عمن يأكل ما أذن فيه أو يشرب عدا ما حرمه. فأتى بعبارة تعم المأكل والمشرب فقال: ﴿فيما طعموا﴾ أي مأكلاً كان أو مشرباً، وشرط ذلك عليهم بالتقوى ليخرج المحرمات فقال: ﴿إذا ما اتقوا﴾ أي أوقعوا جميع التقوى التي تطلب منهم فلم يطعموا محرماً.
ولما بدأ بالتقوى وهي خوف الله الحامل على البعد عن المحرمات، ذكر أساسها الذي لا تقبل إلا به فقال: ﴿وآمنوا﴾ ولما ذكر الإقرار باللسان، ذكر مصداقه فقال: ﴿وعملوا﴾ أي بما أداهم إليه اجتهادهم بالعلم لا اتفاقاً ﴿الصالحات ثم اتقوا﴾ أي فاجتنبوا ما جدد عليهم تحريمه ﴿وآمنوا﴾ أي بأنه من عند الله، وأن الله له أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وهكذا كلما تكرر تحريم شيء كانوا يلابسونه.
ولما كان قد نفى الجناح أصلاً ورأساً، شرط الإحسان فقال: ﴿ثم اتقوا وأحسنوا﴾ أي لازموا التقوى إلى أن أوصلتهم إلى مقام المراقبة، وهي الغنى عن رؤية غير الله، فأفهم ذلك أن من لم يبلغ
297
رتبة الإحسان لا يمتنع أن يكون عليه جناح مع التقوى والإيمان، يكفر عنه بالبلايا والمصائب حتى ينال ما قدر له مما لم يبلغه عمله من درجات الجنان، ومما يدل على نفاسة التقوى وعزتها أنه سبحانه لما شرطها في هذا العموم، حث عليها عند ذكر المأكل بالخصوص - كما مضى فقال «واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون»، وهذا في غاية الحث على التورع في المأكل والمشرب وإشارة إلى أنه لا يوصل إلى مقام الإحسان إلا به - والله الموفق؛ ولما كان التقدير: فإن الله يحب المتقين المؤمنين، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿يحب المحسنين﴾.
ولما ذكر ما حرم من الطعام في كل حال، وكان الصيد ممن حرم في بعض الأوقات، وكان من أمثل مطعوماتهم، وكان قد ذكر لهم بعض أحكامه عقب قوله: ﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام﴾ ﴿وأحل لكم الطيبات﴾ أخذ هنا في ذكر شيء من أحكامه، وابتدأها - لأنهم خافوا على من مات منهم على شرب الخمر قبل تحريمها بأنه يبتليهم لتمييز الورع منهم من غيره - بالصيد في الحال التي حرمه عليهم فيها كما ابتلى إسرائيل في السبت، فكان ذلك سبباً لجعلهم قردة، ومنَّ سبحانه على الصحابة من هذه الأمة بالعصمة عند بلواهم بياناً لفضلهم على من سواهم، فقال تعالى منادياً لهم
298
بما يكفّهم ذكره عن المخالفة: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أوقعوا الإيمان ولو على أدنى وجوهه، فعم بذلك العالي والداني ﴿ليبلونكم الله﴾ أي يعاملكم معاملة المختبر في قبولكم تحريم الخمر وغيره المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وذكر الاسم الأعظم إشارة بالتذكير بما له من الجلال إلى أن له أن يفعل ما يشاء، وأشار إلى تحقير البلوى تسكيناً للنفوس بقوله: ﴿بشيء من الصيد﴾ أي الصيد في البر في الإحرام، وهو ملتفت إلى قوله: ﴿هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله﴾ [المائدة: ٦٠] وشارح لما ذكر أول السورة في قوله ﴿غير محلي الصيد وأنتم حرم﴾، وما ذكر بعد المحرمات من قوله: ﴿فكلوا مما أمسكن عليكم﴾
[المائدة: ٤]، ووصف المبتلى به بوصف هو من أعلام النبوة فقال: ﴿تناله أيديكم﴾ أي إن أردتم أخذه سالماً ﴿ورماحكم﴾ إن أردتم قتله، ثم ذكر المراد من ذلك وهو إقامة الحجة على ما يتعارفه العباد بينهم فقال: ﴿ليعلم الله﴾ أي وهو الغني عن ذلك بما له من صفات الكمال التي لا خفاء بها عند أحد يعلم هذا الاسم الأعظم ﴿من يخافه بالغيب﴾ أي بما حجب به من هذه الحياة الدنيا التي حجبتهم عن أن يعرفوه حق معرفته سبحانه، والمعنى أنه يخرج بالامتحان ما كان من أفعال العباد في عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فيصير تعلق العلم به تعلقاً شهودياً كما كان تعلقاً غيبياً لتقوم بذلك الحجة على الفاعل في مجاري عاداتهم، ويزداد من
299
له اطلاع على اللوح المحفوظ من الملائكة إيماناً ويقيناً وعرفاناً، وقد حقق سبحانه معنى هذه الآية فابتلاهم بذلك عام الحديبية حتى كان يغشاهم الصيد في رحالهم ويمكنهم أخذه بأيديهم.
ولما كان هذا زاجراً في العادة عن التعرض لما وقعت البلوى به وحاسماً للطمع فيه بمن اتسم بما جعل محط النداء من الإيمان، سبب عنه قوله: ﴿فمن اعتدى﴾ أي كلف نفسه مجاوزة الحد في التعرض له؛ ولما كان سبحانه يقبل التوبة عن عباده، خص الوعيد بمن استغرق الزمان بالاعتداء فأسقط الجار لذلك فقال: ﴿بعد ذلك﴾ أي الزجر العظيم ﴿فله عذاب أليم *﴾ بما التذَّ من تعرضه إليه لما عرف بالميل إلى هذا أنه إلى ما هو أشهى منه كالخمر وما معها أميل.
300
ولما أخبرهم بالابتلاء صرح لهم بما لوح إليه بذكر المخافة من تحريم التعرض لما ابتلاهم به، فقال منوِّهاً بالوصف الناهي عن الاعتداء: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وذكر القتل الذي هو أعم من الذبح إشارة إلى أن الصيد - لما عنده من النفرة المانعة من التمكن من ذبحه - يحبس بأي وجه كان من أنواع القتل فقال: ﴿لا تقتلوا الصيد﴾ أي لا تصطادوا ما يحل أكله من الوحش، وأما غير المأكول فيحل قتله، فإنه لاحظ للنفس في قتله إلا الإراحة من أذاه المراد بالفسق في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خمس في الدواب فواسق، لا جناح على من قتلها في حل ولا حرم» وذكر منهن السبع العادي، فدل الحكم برفع الجناح عقب الوصف بالفسق
300
على أنه علة الإباحة، ولا معنى لفسقها إلا أذاها ﴿وأنتم حرم﴾ أي محرومون أو في الحرم.
ولما كان سبحانه عالماً بأنه لا بد أن يوافق موافق تبعاً لأمره ويخالف مخالف موافقة لمراده، شرع لمن خالف كفارة تخفيفاً منه على هذه الأمة ورفعاً لما كان على من كان من قبلها من الآصار، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن انتهى فله عند ربه أجر عظيم: ﴿ومن قتله منكم متعمداً﴾ أي قاصداً للصيد ذاكراً للإحرام إن كان محرماً، والحرم إن كان فيه عالماً بالتحريم.
ولما كان هذا الفعل العمد موجباً للإثم والجزاء، ومتى اختل وصف منه كان خطأ موجباً للجزاء فقط، وكان سبحانه قد عفا عن الصحابة رضي الله عنهم العمد الذي كان سبباً لنزول الآية كما في آخرها، لم يذكره واقتصر على ذكر الجزاء فقال: ﴿فجزاء﴾ أي فمكافأة ﴿مثل ما قتل﴾ أي أقرب الأشياء به شبهاً في الصورة لا النوع، ووصف الجزاء بقوله: ﴿من النعم﴾ لما قتله عليه، أي عليه أن يكافئ ما قتله بمثله، وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، هذا على قراءة الجماعة بإضافة «جزاء» إلى «مثل»، وأما على قراءة الكوفيين ويعقوب بتنوين «جزاء» ورفع «مثل» فالأمر واضح.
301
ولما كان كأنه قيل: بما تعرف المماثلة؟ قال: ﴿يحكم به﴾ أي بالجزاء؛ ولما كانت وجوه المشابهة بين الصيد وبين النعم كثيرة، احتاج ذلك إلى زيادة التأمل فقال: ﴿ذوا عدل منكم﴾ أي المسلمين، وعن الشافعي أن الذي له مثل ضربان: ما حكمت فيه الصحابة، وما لم تحكم فيه، فما حكمت فيه لا يعدل إلى غيره لأنه قد حكم به عدلان فدخل تحت الآية، وهم أولى من غيرهم لأنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل؛ وما لم يحكموا به يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين، فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام، فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه؛ فإن كان القتل خطأ جاز أن يكون الفاعل أحد الحكمين، وإن كان عمداً فلا، لأنه يفسق به.
ولما كان هذا المثل يساق إلى مكة المشرفة على وجه الإكرام والنسك رفقاً بمساكينها، قال مبيناً لحاله من الضمير في «به» :﴿هدياً﴾ ولما كان الهدي هو ما تقدم تفسيره، صرح به فقال: ﴿بالغ الكعبة﴾ أي الحرم المنسوب إليها، وإنما صرح بها زيادة في التعظيم وإعلاماً بأنها هي المقصودة بالذات بالزيارة والعمارة لقيام ما يأتي ذكره، تذبح الهدي بمكة المشرفة ويتصدق به على مساكين الحرم، والإضافة لفظية لأن الوصف
302
بشبه «يبلغ» فلذا وصف بها النكرة.
ولما كان سبحانه رحيماً بهذه الأمة، خيرها بين ذلك وبين ما بعد فقال: ﴿أو﴾ عليه ﴿كفارة﴾ هي ﴿طعام مساكين﴾ في الحرم بمقدار قيمة الهدي، لكل مسكين مد ﴿أو عدل ذلك﴾ أي قيمة المثل ﴿صياماً﴾ في أيّ موضع تيسر له، عن كل مد يوم، فأو للتخيير لأنه الأصل فيها، والقول بأنها للترتيب يحتاج إلى دليل.
ولما كان الأمر مفروضاً في المتعمد قال معلقاً بالجزاء، أي فعليه أن يجازي بما ينقص المال أو يؤلم الجسم ﴿ليذوق وبال﴾ أي ثقل ﴿أمره﴾ وسوء عاقبته ليحترز عن مثل ما وقع فيه؛ ولما كان هذا الجزاء محكوماً به في دار العمل التي لا يطلع أهلها بمجرد عقولهم فيها على غيب، ولا يعرفون عاقبة أمر إلاّ تخرصاً، طرد الحكم في غير المتعمد لئلا يدعي المتعمد أنه مخطئ، كل ذلك حمى لحرمة الدين وصوناً لحرمة الشرع وحفظاً لجانبه ورعاية لشأنه، ولما كان قد مضى منهم قبل نزولها من هذا النوع أشياء، كانوا كأنهم قالوا: فكيف نصنع بما أسلفنا؟ قال جواباً: ﴿عما سلف﴾ أي تعمده، أي لكم من ذلك، فمن
303
حفظ نفسه بعد هذا فاز ﴿ومن عاد﴾ إلى تعمد شيء من ذلك ولو قل؛ ولما كان المبتدأ متضمناً معنى الشرط، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بالسببية فقال: ﴿فينتقم الله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿منه﴾ أي بسبب عوده بما يستحقه من الانتقام.
ولما كان فاعل ذلك منتهكاً لحرمة الإحرام والحرم، وكان التقدير: فالله قادر عليه، عطف على ذلك ما اقتضاه المقام من الإتيان بالاسم الأعظم ووصف العزة فقال: ﴿والله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا تداني عظمتَه عظمةٌ ﴿عزيز﴾ لا يغلب ﴿ذو انتقام *﴾ ممن خالف أمره.
304
ولما كان هذا عاماً في كل صيد، بين أنه خاص بصيد البر فقال: ﴿أحل لكم صيد البحر﴾ أي اصطياده، أي الذي مبناه غالباً على الحاجة، والمراد به جميع المياه من الأنهار والبرك وغيرها ﴿وطعامه﴾ أي مصيده طرياً وقديداً ولو كان طافياً قذفه البحر، وهو الحيتان بأنواعها وكل ما لا يعيش في البر، وما أكل مثله في البر.
ولما أحل ذلك ذكر علته فقال: ﴿متاعاً لكم﴾ أي إذا كنتم مسافرين أو مقيمين ﴿وللسيارة﴾ أي يتزودونه إلى حيث أرادوا من البر أو البحر، وفي تحليل صيد البحر حال الابتلاء من النعمة على هذه الأمة ما يبين فضلها على من كان قبلها ممن جعل صيد البحر له محنة يوم الابتلاء -
304
ولله الحمد، والظاهر أن المراد بصيد البحر الفعل، لأن ثَمَّ أمرين: الاصطياد والأكل، والمراد بيان حكمهما، فكأنه أحل اصطياد حيوان البحر، وأحل طعام البحر مطلقاً ما اصطادوه وما لم يصطادوه، سواء كانوا مسافرين أو مقيمين، وذلك لأنه لما قدَّم تحريم اصطياد ما في البر بقوله ﴿لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم﴾ [المائدة: ٩٥] أتبعه بيان إحلال اصطياد مصيد البحر في حال تحريم ذلك، ثم أتبعه بيان حرمة مصيد البر بقوله: ﴿وحرم عليكم صيد البر﴾ أي اصطياده وأكل ما صيد منه لكم وهو ما لا عيش له إلاّ فيه، وما يعيش فيه وفي البحر، فإن صيدَ للحلال حل للمحرم أكله، فإنه غير منسوب إليه اصطياده بالفعل ولا بالقوة ﴿ما دمتم حرماً﴾ لأن مبنى أمره غالباً في الاصطياد والأكل مما صيد على الترف والرفاهية، وقد تقدم أيضاً حرمة اصطياد مصيد البر وحرمة الأكل مما صيد منه، وتكرر ذلك بتكرر الإحرام في آية ﴿غير محلي الصيد﴾ [المائدة: ١] وآية ﴿لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم﴾ [المائدة: ٩٥] فلا يعارضه مفهوم ﴿ما دمتم حرماً﴾ [المائدة: ٩٦] وعبر بذلك ليكون نصاً في الحرمة في كل جزء من أجزاء وقت الإحرام إلى تمام التحلل - والله أعلم، ولا يسقط الجزاء بالخطأ والجهل كسائر محظورات الإحرام.
ولما كان الاصطياد بحشر المصيد إلى حيث يعجز عن الخلاص
305
منه، وكانت حالة الإحرام أشبه شيء بحالة الحشر في التجرد عن المخيط والإعراض عن الدنيا وتمتعاتها، ختم الآية بقوله عطفاً على ما تقديره: فلا تأكلوا شيئاً منه في حال إحرامكم: ﴿واتقوا الله﴾ أي الذي له الأمر كله في ذلك وفي غيره من الاصطياد وغيره ﴿الذي إليه تحشرون *﴾ ليكون العرض عليه نصبَ أعينكم فتكونوا مواظبين على طاعته محترزين عن معصيته.
ولما كان الإحرام وتحريم الصيد فيه إنما هو لقصد تعظيم الكعبة، بين تعالى حكمة ذلك وأنه كما جعل الحرم والإحرام سبباً لأمن الوحش والطير جعله سبباً لأمن الناس وسبباً لحصول السعادة دنيا وأخرى، فقال مستأنفاً بياناً لحكمة المنع في أول السورة من استحلال من يقصدها للزيارة: ﴿جعل الله﴾ أي بما له من العظمة وكمال الحكمة ونفوذ الكلمة ﴿الكعبة﴾ وعبر عنها بذلك لأنها مأخوذة من الكعب الذي به قيام الإنسان وقوامه، وبيّنها مادحاً بقوله: ﴿البيت الحرام﴾ أي الممنوع من كل جبار دائماً الذي تقدم في أول السورة أني منعتكم من استحلال من يؤمّه ﴿قياماً للناس﴾ أي في أمر معاشهم ومعادهم لأنها لهم كالعماد الذي يقوم به البيت، فيأمن به الخائف ويقوى فيه الضعيف ويقصده التجار والحجاج والعمّار فهو عماد الدين والدنيا.
ولما ذكر ما به القوام من المكان، أتبعه ذلك من الزمان فقال: ﴿والشهر الحرام﴾ أي الذي يفعل فيه الحج وغيره يأمن فيه الخائف.
306
ولما ذكر ما به القوام من المكان والزمان، أتبعه ما به قوام الفقراء من شعائره فقال: ﴿والهدي﴾ ثم أتبعه أعزَّه وأخصه فقال: ﴿والقلائد﴾ أي والهدي العزيز الذي يقلد فيذبح ويقسم على الفقراء، وفي الآية التفات إلى ما في أول السورة من قوله ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام﴾ [المائدة: ٢]- فقوانينُها أن من قصدها في شهر الحرام لم يتعرض له أحد ولو كان قتل ابنه، ومن قصدها في غيره ومعه هدي قلده أو لم يقلده أو لم يكن معه هدي وقلد نفسه من لَحاء شجر الحرم لم يعرِض له أحد حتى أن بعضهم يلقي الهدي وهو مضطر فلا يعرض له ولو مات جوعاً، وسواء في ذلك صاحبه وغيره لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيمها، لأنه تعالى جبل العرب على الشجاعة ليفتح بهم البلاد شرقاً وغرباً ليظهرعموم رسالة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلزم من ذلك شدة حرصهم على القتل والغارات، وعلم أن ذلك إن دام بهم شَغلَهم عن تحصيل ما يحتاجون إليه لعيشهم، فأدى إلى فنائهم، فجعل بيته المكرم وما كان من أسبابه أماناً يكون به قوام معاشهم ومعايشهم، فكان ذلك برهاناً ظاهراً على أن الإله عالم بجميع المعلومات وأن له الحكمة البالغة.
307
ولما أخبر بعلة التعظيم لما أمر بتعظيمه من نظم أمور الناس، ذكر علة ذلك الجعل فقال: ﴿ذلك﴾ أي الجعل العظيم الذي تم أمره على ما أراد جاعله سبحانه ﴿لتعلموا﴾ أي بهذا التدبير المحكم ﴿أن الله﴾ أي الذي له الكمال كله الذي جعل ذلك ﴿يعلم ما في السماوات﴾ فلذلك رتبها ترتيباً فصلت به الأيام والليالي، فكانت من ذلك الشهور والأعوام، وفصّل من ذلك ما فصل للقيام المذكور ﴿وما في الأرض﴾ فلذلك جعل فيها ما قامت به مصالح الناس وكف فيه أشدهم وأفتكهم عن أضعفهم وآمن فيه الطير والوحش، فيؤدي ذلك من له عقل رصين وفكر متين إلى أن يعلم أن فاعل ذلك من العظمة ونفوذ الكلمة بحيث يستحق الإخلاص في العبادة وأن يمتثل أمره في إحلال ما أحل من الطعام وتحريم ما حرم من الشراب وغير ذلك.
ولما ذكر هذا العلم العظيم، ذكر ما هو أعم منه فقال: ﴿وأن﴾ أي ولتعلموا أن ﴿الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً الذي فعل ذلك فتم له ﴿بكل شيء عليم *﴾ وإلاّ لما أثبت جميع مقتضيات ذلك ونفى جميع موانعه حتى كان، ولقد اتخذ العرب - كما في السيرة الهشامية وغيرها - طواغيت، وهي بيوت جعل لها سدنة وحجاباً وهدايا أكثروا منها، وعظمت كل قبيلة ما عندها أشد تعظيم وطافوا به فلم يبلغ
308
شيء منها ما بلغ أمر الكعبة المشرفة ولا قارب، ليحصل العلم بأنه سبحانه لا شيء مثله ولا شريك له.
309
ولما أنتج هذا كله أنه على كل شيء قدير لأنه بكل شيء عليم، وكانت هذه الآية - كما تقدم - ناظرةً إلى أول السورة من آية ﴿لا تحلوا شعائر الله﴾ [المائدة: ٢] وما بعدها أتم نظر، ذكر سبحانه ما اكتنف آية ﴿حرمت عليكم الميتة﴾ [المائدة: ٣] من الوعيد الذي ختم به ما قبلها والوعد الذي ختمت هي به في هذه الآية على ترتيبه، سائقاً له مساق النتيجة والثمرة لما قبله، بياناً لأن من ارتكب شيئاً من هذه المنهيات كان حظه، فقال محذراً ومبشراً لأن الإيمان لا يتم إلاّ بهما: ﴿اعلموا أن الله﴾ أي الذي له المعظمة كلها الذي نهاه عنها ﴿شديد العقاب﴾ فليكن عباده على حذر منه، وأن من أوقعه في شيء منها القدر، ثم فتح له التوفيقُ بابَ الحذر، فكفر فيما فيه كفارة وتاب، كان مخاطباً بقوله: ﴿وأن﴾ أي واعلموا أن ﴿الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام مع كونه شديد العقاب ﴿غفور رحيم *﴾ يقبل عليه ويمحو زلله ويكرمه، فكان اكتناف أسباب الرجاء سابقاً للإنذار ولاحقاً معلماً بأن رحمته سبقت غضبه وأن العقاب إنما هو لإتمام رحمته، قال ابن الزبير: ثم قال ﴿جعل الله الكعبة﴾ [المائدة: ٩٧]- فنبه على سوء العاقبة في منع البحث على التعليل وطلب الوقوف على ما لعله مما استأثر الله بعلمه، ومن هذا الباب أتى على بني إسرائيل في
309
أمر البقرة وغير ذلك؛ وجعل هذا التنبيه إيماء، ثم أعقبه بما يفسره ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء﴾ [المائدة: ١٠١]- ووعظهم بحال غيرهم في هذا، وأنهم سألوا فأعطوا ثم امتحنوا، وقد كان التسليم أولى لهم، فقال تعالى ﴿قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين﴾ [المائدة: ١٠٢] ثم عرّف عباده أنهم إذا استقاموا فلن يضرهم خذلان غيرهم ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾ [المائدة: ١٠٥]- انتهى.
ولما رغب سبحانه ووهب، علم أنه المجازى وحده، فأنتج ذلك أنه ليس إلى غيره إلاّ ما كلفه به، فأنتج ذلك ولا بد قوله: ﴿ما على الرسول﴾ أي الذي من شأنه الإبلاغ ﴿إلا البلاغ﴾ أي بأنه يحل لكم الطعام وغيره ويحرم عليكم الخمر وغيرها، وليس عليه أن يعلم ما تضمرون وما تظهرون ليحاسبكم عليه ﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿يعلم ما تبدون﴾ أي تجددون إبداءه على الاستقرار ﴿وما تكتمون *﴾ من إيمان وكفر وعصيان وطاعة وتعمد لقتل الصيد وغيره ومحبة للخمر وغيرها وتعمق في الدين بتحريم الحلال من الطعام والشراب وغيره إفراطاً وتفريطاً، لأنه الذي خلقكم وقدّر ذلك فيكم في أوقاته، فيجازيكم على ما في نفس الأمر، من عصي أخذه بشديد العقاب، ومن أطاعه منحه حسن الثواب، وأما الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يحكم إلاّ بما يعلمه مما تبدونه ما لم أكشف له الباطن وآمره فيه بأمري، وهذه أيضاً ناظرة إلى قوله تعالى
310
﴿بلّغ ما أنزل إليك من ربك﴾ [المائدة: ٦٧].
ولما سلب سبحانه العلم عن كل أحد وأثبته لنفسه الشريفة، أنتج ذلك أنه لا أمر لغيره ولا نهي ولا إثبات ولا نفي، فأخذ سبحانه يبين حكمة ما مضى من الأوامر في إحلال الطعام وغيره من الاصطياد والأكل من الصيد وغيره والزواجر عن الخمر وغيرها بأن الأشياء منها طيب وخبيث، وأن الطيب وإن قل خير من الخبيث وإن كثر، ولا يميز هذا من ذاك إلاّ الخلاق العليم، فربما ارتكب الإنسان طريقة شرعها لنفسه ظانّاً أنها حسنة فجرته إلى السيئة وهو لا يشعر فيهلك، كالرهبانية التي كانوا عزموا عليها والخمر التي دعا شغفُهم بها إلى الإنزال فيها مرة بعد أخرى إلى أن أكد فيها هنا أشد تأكيد، وحذر فيها أبلغ تحذير، فقال تعالى صارفاً الخطاب إلى أشرف الورى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إشارة إلى أنه لا ينهض بمعرفة هذا من الخلق غيرُه: ﴿قل لا يستوي الخبيث﴾ أي من المطعومات والطاعمين ﴿والطيب﴾ أي كذلك، فإن ما يتوهمونه في الكثرة من الفضل لا يوازي النقصان من جهة الخبيث.
ولما كان الخبيث من الذوات والمعاني أكثر في الظاهر وأيسر قال: ﴿ولو أعجبك كثرة الخبيث﴾ والخبيث والطيب منه جسماني ومنه روحاني، وأخبثهما الروحاني وأخبثه الشرك، وأطيب الطيب الروحاني وأطيبه معرفة الله وطاعته، وما يكون للجسم من طيب أو خبث
311
ظاهر لكل أحد، فما خالطه نجاسة صار مستقذراً لأرباب الطباع السليمة، وما خالط الأرواح من الجهل صار مستقذراً عند الأرواح الكاملة المقدسة، وما خالطه من الأرواح معرفةُ الله فواظب على خدمته أشرق بأنوار المعارف الإلهية وابتهج بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطيب لا يستويان في العالم الروحاني كذلك لا يستويان في العالم الجسماني، والتفاوت بينهما في العالم الروحاني أشد، لأن مضرة خبث الجسماني قليلة، ومنفعة طيبه يسيرة، وأما خبث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة، وطيب الروحاني منفعته جليلة دائمة، وهي القرب من الله والانخراط في زمرة السعداء، وأدلّ دليل على إرادة العصاة والمطيعين قوله: ﴿فاتقوا الله﴾ أي اجعلوا بينكم وبين ما يسخط الملك الأعظم الذي له صفات المال من الحرام وقايةً من الحلال لتكونوا من قسم الطيب، فإنه لا مقرب إلى الله مثلُ الانتهاء عما حرم - كما تقدم الإشارة بقوله: ﴿ثم اتقوا وأحسنوا﴾ [المائدة: ٩٣] ويزيد المعنى وضوحاً قوله ﴿يا أولي الألباب﴾ أي العقول الخالصة من شوائب النفس فتؤثروا الطيب وإن قل في الحبس لكثرته في المعنى على الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى ﴿لعلكم تفلحون *﴾ أي لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب، وحينئذ ظهر كالشمس مناسبة تعقيبها
312
بقوله على طريق الاستئناف والاستنتاج: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أعطوا من أنفسهم العهد على الإيمان الذي معناه قبول جميع ما جاء به مَنْ وقع به الإيمان ﴿لا تسئلوا عن أشياء﴾ وذلك لأنهم إذا كانوا على خطر فيما يسرعون وفيما به ينتفعون من المآكل والمشارب وغيرها من الأقوال والأفعال فهم مثله فيما عنه يسألون سواء سألوا شرعه أو لا، لأنه ربما أجابهم من لا يضره شيء إلى ما فيه ضررهم مما سألوه، فإنهم لا يحسنون التفرقة بين الخبيث والطيب كما فعل بأهل السبت حيث أبوا الجمعة وسألوه، فاشتد اعتناقها حينئذ بقوله:
﴿إن الله يحكم ما يريد﴾ [المائدة: ١] وبقوله: ﴿ما على الرسول إلا البلاغ﴾ [المائدة: ٩٩] فكان كأنه قيل: فما بلغكم إياه فخذوه بقبول وحسن انقياد، وما لا فلا تسألوا عنه، وسببُ نزولها - كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه «أنهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحفوه بالمسألة، فغضب فصعد المنبر فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم - وشرح يكرر ذلك، وإذ جاء رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال: يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله عنه فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد
313
رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن. وفي آخره: فنزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾ » وللبخاري في التفسير عن أنس أيضاً قال: «خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فغطى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوههم، لهم حنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت ﴿لا تسئلوا عن أشياء﴾ » الآية. وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان قوم يسألون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء﴾ حتى فرغ من الأية كلها» ولابن ماجه مختصراً وللحافظ أبي القاسم بن عساكر في الموافقات فيما أفاده المحب الطبري في مناقب العشرة وأبي يعلى في مسنده مطولاً عن أنس رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غضبان ونحن نرى أن معه جبرئيل عليه السلام حتى صعد المنبر - وفي رواية: فخطب الناس - فقال: سلوني! فوالله لا تسألوني عن شيء اليوم إلا أخبرتكم وفي رواية: أنبأتكم به - فما رأيت يوماً كان أكثر باكياً منه، فقال رجل: يا رسول الله - وفي رواية: فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله - إنا كنا
314
حديث عهد بجاهلية، من أبي؟ قال: أبوك حذافة - لأبيه الذي كان يدعى له - وفي رواية: أبوك حذافة الذي تدعى له - فقام إليه آخر فقال: يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار؟ فقال: في النار، فقام إليه آخر فقال: يا رسول الله! أعلينا الحج كل عام؟ - وفي رواية: في كل عام - فقال: لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها عذبتم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً - وفي رواية: رسولاً - لا تفضحنا بسرائرنا - وفي رواية: فقام إليه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إنا كنا حديث عهد بجاهلية فلا تبد علينا سرائرنا، أتفضحنا بسرائرنا - اعف عنا عفا الله عنك، فسرى عنه، ثم التفت إلى الحائط فذكر بمثل الجنة والنار» وللإمام أحمد ومسلم والنسائي والدارقطني والطبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطب - وفي رواية: خطبنا - رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
«يا أيها الناس! إن الله قد فرض عليكم الحج حجوا»، فقال رجل - وفي رواية النسائي: «فقال الأقرع بن حابس التميمي -: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال: من السائل؟ فقال: فلان، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي نفسي بيده! لو قلت: نعم، لوجبت، ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون، ولكن حجة واحدة» - وفي رواية الدارقطني والطبري: «
315
ولو وجبت ما أطقتموها، ولو لم تطيقوها» - وفي رواية الطبري: «ولو تركتموه - لكفرتم»، فأنزل الله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾ ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فآتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه - وفي رواية: فاجتنبوه» وهذا الحديث له ألفاظ كثيرة من طرق شتى استوفيتها في كتابي «الاطلاع على حجة الوداع» ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردها إلى شيء واحد لما تقدم عند قوله تعالى: ﴿لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾ من أن الأمر الواحد قد تعدد أسبابه، بل وكل ما ذكر من أسباب تلك وما أشبهه كقوله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال﴾ [النساء: ٧٧]- الآية، يصلح أن يكون سبباً لهذه، وروى الدارقطني في آخر الرضاع من سننه عن أبي ثعلبة الخشني وفي آخر الصيد عن أبي الدرداء رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» وقال أبو الدرداء: «فلا تكلفوها، رحمة من ربكم فاقبلوها» وأخرج حديث أبي الدرداء أيضاً الطبراني.
316
ولما كان الإنسان قاصراً عن علم ما غاب، فكان زجره عن الكشف عما يسوءه زجراً له عن كل ما يتوقع أن يسوءه، قال تعالى: ﴿إن تبد﴾ أي تظهر ﴿لكم﴾ بإظهار عالم الغيب لها ﴿تسؤكم﴾ ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أن هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفاً من عواقبه - قال: ﴿وإن تسئلوا عنها﴾ أي تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها ﴿حين ينزل القرآن﴾ أي والملك حاضر ﴿تبد لكم﴾ ولما كان ربما قال: فما له لا يبديها سئل عنها أم لا؟ قال: ﴿عفا الله﴾ بما له من الغنى المطلق والعظمة الباهرة وجميع صفات الكمال ﴿عنها﴾ أي سترها فلم يبدها لكم رحمة منه لكم وإراحة عما يسوءكم ويثقل عليكم في دين أو دنيا؛ ولما كانت صفاته سبحانه أزلية، لا تتوقف لواحدة منها على غيرها، وضع الظاهر موضع المضمر لئلا يختص بما قبله فقال نادباً من وقع منه ذنب إلى التوبة: ﴿والله﴾ أي الذي له مع صفة الكمال صفة الإكرام ﴿غفور﴾ أزلاً وأبداً يمحو الزلات عيناً وأثراً ويعقبها بالإكرام على عادة الحكماء ﴿حليم *﴾ أي لا يعجل على العاصي بالعقوبة.
317
ولما نهى عن السؤال عنها ليتعرف حالها، علل ذلك بأن غيرهم عرف أشياء وطلب أن يعطاها، إما بأن سأل غيره ذلك، وإما بأن شرعها
317
وسأل غيره أن يوافقه عليها وهو قاطع بأنها غاية في الحسن فكانت سبب شقائه فقال: ﴿قد سألها﴾ يعني أمثالها، ولم يقل: سأل عنها، إشارة إلى ما أبدته ﴿قوم﴾ أي أولو عزم وبأس وقيام في الأمور.
ولما كان وجود القوم فضلاً عن سؤالهم لم يستغرق زمان القبل، أدخل الجار فقال: ﴿من قبلكم﴾ ولما كان الشيء إذا جاء عن مسألة جديراً بالقبول لا سيما إذا كان من ملك فكيف إذا كان من ملك الملوك. فكان رده في غاية البعد، عبر عن استبعاده بأداة العبد في قوله: ﴿ثم أصبحوا بها﴾ أي عقب إتيانهم إياها سواء من غير مهلة ﴿كافرين *﴾ أي ثابتين في الكفر، هذا زجر بليغ لأن يعودوا لمثل ما أرادوا من تحريم ما أحل لهم ميلاً إلى الرهبانية والتعمق في الدين المنهي عنه بقوله: ﴿لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾ [المائدة: ٨٧].
ولما فرغ من زجرهم عن أن يشرعوا لأنفسهم أو يسألوه عن أن يشرع لهم وأن يسألوا مَنْ رحمهم بابتدائهم بهذا الشرع عن شيء من الأشياء اعتماداً على أنه ما ابتدأ بذلك إلا وهو غير مخف عنهم شيئاً ينفعهم ولا مبد لهم شيئاً يضرهم لأنه بكل شيء عليم - كما تقدم التنبيه على ذلك، قال معللاً بختام الآية التي قبلها: ﴿ما جعل الله﴾ أي الذي له صفات الكمال فلا يشرع شيئاً إلا وهو على غاية الحكمة، وأغرق
318
في النفي بقوله: ﴿من بحيرة﴾ وأكد النفي بإعادة النافي فقال: ﴿ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام﴾ دالاً بذلك على أن الإنسان قد يقع في شرعه لنفسه على الخبيث دون الطيب، وذلك لأن الكفار شرعوا لأنفسهم هذا وظنوا أنه من محاسن الأعمال، فإذا هو مما لا يعبأ الله به بل ومما يعذب عليه، لكونه أوقعهم فيما كانوا معترفين بأنه أقبح القبائح وهو الكذب، بل في أقبح أنواعه وهو الكذب على ملك الملوك، ثم صار لهم ديناً، وصاروا أرسخ الناس فيه وهو عين الكفر، وهم معترفون بأنه ما شرعه إلا عمرو بن لحي وهو أول من غير دين إبراهيم - كما رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن عمْراً أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي» ورواه عبد بن حميد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وفي آخره: «وكان عمرو بن لحي أول من حمل العرب على عبادة الأصنام»
ورواه البخاري في المناقب من صحيحه ومسلم في صفة النار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيّب السوائب» قال ابن هشام في السيرة:
319
والبحيرة عندهم الناقة تشق أذنها فلا يركب ظهرها ولا يجزّ وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف أو يتصدق به وتهمل لآلهتهم. وروى البخاري في المناقب ومسلم في صفة النار عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس، والسائبة التي كانوا يسيّبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء. وكذا رواه البخاري أيضاً في التفسير وقال: والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثنى بعد بأنثى. وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر وقال البرهان السفاقسي في إعرابه: قال أبو عبيد: وهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، في الآخر. ذكر، شقوا أذنها وخلو سبيلها لا تركب ولا تحلب - وقيل غير ذلك، وقال أبو حيان في النهر: قال ابن عباس: السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق، وكان الرجل يسيب من ماله شيئاً فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل، والوصيلة قال ابن عباس - إنها الشاة تنتج سبعة أبطن، فإن كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء، وإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً،
320
وإن كان ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء، فإذا ماتت اشترك الرجال والنساء فيها. وقال ابن هشام: والحامي الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر، حمى ظهره فلم يركب ظهره ولم يجزّ وبره وخلى في إبله يضرب فيها لا ينتفع منه بغير ذلك. وقال السفاقسي: قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم - واختاره أبو عبيدة والزجاج -: هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيقولون: قد حمى ظهره، فيسيبونه لأصنامهم فلا يحمل عليه شيء.
ولما كانوا قد حرموا هذه الأشياء، وكان التحريم والتحليل من خواص الإله، وكان لا إله إلا الله، كان حكمهم عليها بالحرمة نسبة لذلك إلى الله سبحانه كذباً، فقال تعالى بعد أن نفى أن يكون جعل شيئاً من ذلك: ﴿ولكن الذين كفروا﴾ أي ستروا ما دل عليه عقلهم من أن الله ما جعل هذا، لأنهم لا وصول لهم إليه سبحانه وعز شأنه، فلذلك قال: ﴿يفترون﴾ أي يتعمدون بجعل هذه الأشياء من تحريم وتحليل ﴿على الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿الكذب﴾ فيحرمون ما لم يحرمه
321
ويحللون ما لم يحلله ﴿وأكثرهم﴾ أي هؤلاء الذين جعلوا هذه الأشياء ﴿لا يعقلون *﴾ أي لا يتجدد لهم عقل، وهم الذين ماتوا على كفرهم.
ثم لما حرموا هذه الأشياء اضطروا إلى تحليل الميتة فحرموا الطيب وأحلوا الخبيث. ولما اتخذوه ديناً واعتقدوه شرعاً ومضى عليه أسلافهم، دعتهم الحظوظ والأنفة من نسبة آبائهم إلى الضلال والشهادة عليهم بالسفه إلى الإصرار عليه وعدم الرجوع عنه بعد انكشاف قباحته وبيان شناعته حتى أفنى أكثرهم السيف ووطأتهم الدواهي، فوطأت أكتافهم وذللت أعناقهم وأكنافهم، فقال تعالى دالاً على ختام الآية التي قبله من عدم عقلهم: ﴿وإذا قيل لهم﴾ أي من أيّ قائل كان ولو أنه ربهم، بما ثبت من كلامهم بالعجز عنه أنه كلامه ﴿تعالوا﴾ أي ارفعوا أنفسكم عن هذا الحضيض السافل ﴿إلى ما أنزل الله﴾ أي الذي لا أعظم منه، وقد ثبت أنه أنزله بعجزكم عنه ﴿وإلى الرسول﴾ أي الذي من شأنه لكونه سبحانه أرسله أن يبلغكم ما يحبه لكم ويرضاه ﴿قالوا حسبنا﴾ أي يكفينا ﴿ما وجدنا عليه آباءنا﴾.
ولما كانوا عالمين بأنه ليس في آبائهم عالم، وأنه من تأمل أدنى تأمل عرف أن الجاهل لا يهتدي إلى شيء، قال منكراً عليهم موبخاً لهم:
322
﴿أولو﴾ أي يكفيهم ذلك إذا قالوا ذلك ولو ﴿كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً﴾ أي من الأشياء حق علمه لكونهم لم يأخذوه عن الله بطريق من الطرق الواصلة إليه، ولما كان من لا يعلم قد يشعر بجهله فيتعلم فيهتدي فيصير أهلاً للاقتداء به، وقد لا يشعر لكونه جهله مركباً فلا يجوز الاقتداء به، بين أنهم من أهل هذا القسم فقال: ﴿ولا يهتدون *﴾ أي لا يطلبون الهداية فلا توجد هدايتهم إلى صواب، لأن من لا يعلم لا صواب له، لأنه ليس للهدى آلة سوى العلم، وأدل دليل على عدم هدايتهم أنهم ضيعوا الطيب من أموالهم فاضطرهم ذلك إلى أكل الخبيث من الميتة، وأغضبوا بذلك خالقهم فدخلوا النار، فلا أقبح مما يختاره لنفسه المطبوع على الكدر، ولا أحسن مما يشرعه له رب البشر، وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في سورة النساء ﴿إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً﴾ [المساء: ١١٧] إلى قوله: ﴿ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام﴾ [النساء: ١١٩] فالتفت حينئذ إلى قوله: ﴿رجس من عمل الشيطان﴾ أيّ التفات.
ولما كان المانع لهم من قبول الهدى كون ذلك تسفيهاً لآبائهم، فيعود ضرراً عليهم يُسبَّون به على زعمهم، أعلم الله المؤمنين أن مخالفة الغير في قبول الهدى لا تضرهم أصلاً، بأن عقب آية الإنكار عليهم في التقيد بآبائهم لمتابعتهم لهم في الكفر بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي عاهدوا ربهم ورسوله على الإيمان ﴿عليكم أنفسكم﴾ أي الزموا هدايتها
323
وإصلاحها؛ ولما كان كأنه قيل: إنا ننسب بآبائنا، وننسب إليهم، فربما ضرتنا نسبتنا إليهم عند الله كما جوز أكثم بن الجون الخزاعي أن يضره شبه عمرو ابن لحي به حتى سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فقال:
«لا، إنك مؤمن وهو كافر» - كما في أوائل السيرة الهشامية عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكان ذلك ربما وقف بأحد منهم عن الإسلام قال: ﴿لا يضركم من ضل﴾ أي من المخالفين بكفر أو غيره بنسبتكم إليه ولا بقول الكفار: إنكم سفهتم آراءكم، ولا بغير ذلك من وجوه الضرر، وحقق هدايتهم بشارة لهم بأداة التحقيق فقال مفهماً لوجود الضرر عند فقد الهداية: ﴿إذا اهتديتم﴾ أي بالإقبال على ما أنزل الله وعلى الرسول حتى تصيروا علماء وتعملوا بعلمكم فتخالفوا من ضل، فإن كان موجوداً فبالاجتهاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بحسب الطاقة، فإن لم يستطع رده انتظر به يوم الجمع الأكبر والهول الأعظم، وإن كان مفقوداً فبمخالفته في ذلك الضلال وإن كان أقرب الأقرباء وأولى الأحباء، وإلا كان الباقي أسفه من الماضي، وقد كان لعمري أحدهم لا يتبع أباه إذا كان سفيهاً في أمر دنياه عاجزاً عن
324
تحصيلها ولا يتحاشى عن مخالفته في طريقته بل يعد الكدح في تحصيلها والتعمق في اقتناصها وحسن السعي في تثميرها ولطف الحيلة في توسيعها من معالي الأخلاق وإصالة الرأي وجودة النظر على أن ذلك ظل زائل وعرض تافه، فكيف لا يخالفه فيما به سعادته الأبدية وحياته الباقية ويأخذ بالحزم في ذلك ويشمر ذيله في أمره ويسهر ليله في إعمال الفكر وترتيب النظر فيما أمره الله بالنظر فيه حتى يظهر له الحق فيتبعه، وينهتك لديه الباطل فيجتنبه، ما ذاك إلا لمجرد الهوى، وقد كان الحزم العمل بالحكمة التي كشفها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» وروى مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير أحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا - وقال ابن ماجه: ولا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا - فإن» لو «تفتح عمل الشيطان»، وفي بعض طرق الحديث: «ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل» يعني: والله! اعمل عمل الحزمة فأوسع النظر حتى لا تترك أمراً يحتمل أن ينفعك ولا يضرك إلا أخذت به، ولا تدع أمراً يحتمل أن يضرك
325
ولا ينفعك إلا تجتنبه، فإنك إن فعلت ذلك وغلبك القضاء والقدر لم نجد في وسعك أمراً تقول: لو أني فعلته أو تركته، ولكنك تقول: قدر الله وما شاء فعل، بخلاف ما إذا لم تنعم النظر وعملت عمل العجزة فإنك حتماً تقول: لو أني فعلت كذا وكذا، لأن الشيطان يفتح لك تلك الأبواب التي نظر فيها الحازم، فيكثر لك من «لو» لأنها مفتاح عمله، وليس في الآية ما يتعلق به من يتهاون في الأمر بالمعروف كما يفعله كثير من البطلة؛ روى أحمد في المسند عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه
«أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له في أمر رآه: يا أبا عامر! ألا غيرت؟ فتلا هذه الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾، فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: أين ذهبتم؟ إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم» وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحارث وأحمد بن منيع وأبو يعلى «أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن
326
يعمهم الله بعقابه. قال البغوي: وفي رواية: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لكم» والله الموفق.
ولما حكم الله تعالى - وهو الحكم العدل - أنه لا ضرر عليهم من غيرهم بشرط هداهم، وكان الكفار يعيرونهم، قال مؤكداً لما أخبر به ومقرراً لمعناه: ﴿إلى الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا شريك له، لا إلى غيره ﴿مرجعكم﴾ أي أنتم ومن يعيركم ويهددكم وغيرهم من جميع الخلائق ﴿جميعاً فينبئكم﴾ أي يخبركم إخباراً عظيماً مستوفى مستقصى ﴿بما كنتم تعملون *﴾ أي تعمداً جبلة وطبعاً، ويجازي كل أحد بما عمل على حسب ما عمل. ولا يؤاخذ أحداً بما عمل غيره ولا بما أخطأ فيه أو تاب منه، وليس المرجع ولا شيء منه إلى الكفار ولا معبوداتهم ولا غيرهم حتى تخشوا شيئاً من غائلتهم في شيء من الضرر.
327
ولما خاطب سبحانه أهل ذلك الزمان بأنه نصب المصالح العامة كالبيت الحرام والشهر الحرام، وأشار بآية البحيرة وما بعدها إلى أن أسلافهم لا وفّروا عليهم مالهم ولا نصحوا لهم في دينهم، وختم ذلك بقهره للعباد بالموت وكشف الأسرار يوم العرض بالحساب على النقير والقطمير والجليل والحقير؛ عقب ذلك بآية الوصية إرشاداً منه سبحانه
327
إلى ما يكشف سريرة مَنْ خان فيها علماً منه سبحانه أن الوفاء في مثل ذلك يقل وحثاً لهم على أن يفعلوا ما أمر سبحانه به لينصحوا لمن خلفوه بتوفير المال ويقتدي بهم فيما ختم به الآية من التقوى والسماع والبعد من الفسق والنزاع، فقال تعالى منادياً لهم بما عقدوا به العهد بينهم وبينه من الإقرار بالإيمان: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أخبروا عن أنفسهم بذلك ﴿شهادة بينكم﴾ هو كناية عن التنازع والتشاجر لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند ذلك، وسبب نزول الآية قد ذكره المفسرون وذكره الشافعي في الأم فقال: أخبرني أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك «أن رجلين نصرانيين من أهل دارين أحدهما تميمي والآخر يماني، صحبهما مولى لقريش في تجارة فركبوا البحر، ومع القرشي مال معلوم قد علمه أولياؤه من بين آنية وبز ورِقَةٍ فمرض القرشي فجعل وصيته إلى الداريين
328
فمات، وقبض الداريان المال فدفعاه إلى أولياء الميت، فأنكر القوم قلة المال فقالوا للداريين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به، فهل باع شيئاً أو اشترى فوضع فيه؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا، قالوا: فإنكما خنتمانا، فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأنزل الله عز وجل ﴿يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم﴾ [المائدة: ١٠٦] فلما نزلت أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاما بعد الصلاة، فحلفا بالله رب السماوات: ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به، فلما حلفا خلي سبيلهما، ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت فأخذوا الداريين فقالا: اشتريناه منه في حياته، فكُذِّبا وكُلِّفا البينة فلم يقدرا عليها، فرفعوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله عز وجل ﴿فإن عثر﴾ - يعني إلى آخرها» ثم ذكر وقت الشهادة وسببها فقال: ﴿إذا حضر﴾ وقدم المفعول تهويلاً - كما ذكر في النساء - لأن الآية نزلت لحفظ ماله فكان أهم، فقال: ﴿أحدكم الموت﴾ أي أخذته أسبابه الموجبة لظنه.
329
ولما كان الإيصاء إذ ذاك أمراً متعارفاً، عرف فقال معلقاً بشهادة كما علق به ﴿إذا﴾ أو مبدلاً من ﴿إذا﴾ لأن الزمنين واحد: ﴿حين الوصية﴾ أي إن أوصى، ثم أخبر عن المبتدأ فقال: ﴿اثنان﴾ أي شهادة بينكم في ذلك الحين شهادة اثنين ﴿ذوا عدل منكم﴾ أي من قبيلتكم العارفين بأحوالكم ﴿أو آخران﴾ أي ذوا عدل ﴿من غيركم﴾ أي إن لم تجدوا قريبين يضبطان أمر الوصية من كل ما للوصي وعليه، وقيل: بل هما الوصيان أنفسهما احتياطاً بجعل الوصي اثنين، وقيل: آخران من غير أهل دينكم، وهو خاص بهذا الأمر الواقع في السفر للضرورة لا في غيره ولا في غير السفر؛ ثم شرط هذه الشهادة بقوله: ﴿إن أنتم ضربتم﴾ أي بالأرجل ﴿في الأرض﴾ أي بالسفر، كأن الضرب بالأرجل لا يسمى ضرباً إلا فيه لأنه موضع الجد والاجتهاد ﴿فأصابتكم﴾ وأشار إلى أن الإنسان هدف لسهام الحدثان بتخصيصه بقوله: ﴿مصيبة الموت﴾ أي أصابت الموصي المصيبةُ التي لا مفر منها ولا مندوحة عنها.
ولما كان قد استشعر من التفصيل في أمر الشهود مخالفة لبقية الشهادات، فكان في معرض السؤال عن الشهود: ماذا يفعل بهم؟ قال مستأنفاً: ﴿تحبسونهما﴾ أي تدعونهما إليكم وتمنعونهما من التصرف لأنفسهما لإقامة ما تحملاه من هذه الواقعة وأدائه؛ ولما كان المراد إقامة اليمين
330
ولو في أيسر زمن، لا استغراق زمن البعد بالحبس، أدخل الجار فقال: ﴿من بعد الصلاة﴾ أي التي هي أعظم الصلوات؛ فكانت بحيث إذا أطلقت معرفة انصرفت إليها وهي الوسطى وهي العصر، ثم ذكر الغرض من حبسهما فقال: ﴿فيقسمان بالله﴾ أي الملك الذي له تمام القدرة وكمال العلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا، فإن كانا مسلمين فلا يمين، وعن غيره، إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما، وإن كان الوصيين فلا؛ ثم شرط لهذا الحلف شرطاً فقال اعتراضاً بين القسم والمقسم عليه: ﴿إن ارتبتم﴾ أي وقع بكم شك فيما أخبرا به عن الواقعة؛ ثم ذكر المقسم عليه بقوله: ﴿لا نشتري به﴾ أي هذا الذي ذكرناه ﴿ثمناً﴾ أي لم نذكره ليحصل لنا به عرض دنيوي وإن كان في نهاية الجلالة، وليس قصدنا به إلا إقامة الحق ﴿ولو كان﴾ أي الوصي الذي أقسمنا لأجله تبرئة له ﴿ذا قربى﴾ أي لنا، أي إن هذا الذي فعلناه من التحري عادتنا التي أطعنا فيها ﴿كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله﴾ [النساء: ١٣٥]- الآية، لا أنه فعلنا في هذه الواقعة فقط ﴿ولا نكتم شهادة الله﴾ أي هذا الذي ذكرناه لم نبدل فيه لما أمر الله به من حفظ الشهادة وتعظيمها، ولم نكتم شيئاً وقع به الإشهاد، ولا نكتم فيما يستقبل شيئاً نشهد به لأجل الملك الأعظم المطلع على السرائر كما هو مطلع على الظواهر؛ ثم علل ذلك بما لقنهم إياه ليكون آخر كلامهم، كل ذلك تغليظاً وتنبيهاً
331
على أن ذلك ليس كغيره من الأيمان، فقال تذكيراً لهم وتحذيراً من التغيير: ﴿إنا إذاً﴾ أي إذا فعلنا شيئاً من التبديل أو الكتم ﴿لمن الآثمين * فإن﴾ ولما كان المراد مجرد الاطلاع بني للمفعول قوله: ﴿عثر﴾ أي اطلع مطلع بقصد أو بغير قصد؛ قال البغوي: وأصله الوقوع على الشيء أي من عثرة الرجل ﴿على أنهما﴾ أي الشاهدين إن أريد بهما الحقيقة أو الوصيين ﴿استحقا إثماً﴾ أي بسبب شيء خانا فيه من أمر الشهادة ﴿فآخران﴾ أي من الرجال الأقرباء للميت ﴿يقومان مقامهما﴾ أي ليفعلا حيث اشتدت الريبة من الإقسام عند مطلق الريبة ما فعلا ﴿من الذين استحق﴾ أي طلب وقوع الحق بشهادة من شهد ﴿عليهم﴾ هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة حفص بالبناء للفاعل، المعنى: وجد وقوع الحق عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته.
ولما كان كأنه قيل: ما منزلة هذين الآخرين من الميت؟ فقيل: ﴿الأوليان﴾ أي الأحقان بالشهادة الأقربان إليه العارفان بتواطن أمره، وعلى قراءة أبي بكر وحمزة بالجمع، كأنه قيل: هما من الأولين أي في الذكر وهم أهل الميت، فهو نعت للذين استحق ﴿فيقسمان﴾ أي هذان الآخران ﴿بالله﴾ أي الملك الذي لا يقسم إلا به لما له من كمال العلم وشمول القدرة ﴿لشهادتنا﴾ أي بما يخالف شهادة الحاضرين للواقعة ﴿أحق من شهادتهما﴾ أي أثبت، فإن تلك إنما ثباتها في الظاهر، وشهادتنا ثابتة في نفس الأمر وساعدها الظاهر بما عثر عليه من الريبة
332
﴿وما اعتدينا﴾ أي تعمدنا في يميننا مجاوزة الحق ﴿إنا إذاً﴾ أي إذا وقع منا اعتداء ﴿لمن الظالمين *﴾ أي الواضعين الشيء في غير موضعه كمن يمشي في الظلام، وهذا إشارة إلى أنهم على بصيرة ونور مما شهدوا به، وذلك أنه لما وجد الإناء الذي فقده أهل الميت وحلف الداريان بسببه أنهما ما خانا طالبوهما، فقالا: كنا اشتريناه منه، فقالوا: ألم نقل لكما: هل باع صاحبنا شيئاً؟ فقلتما: لا، فقالا: لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم فرفعوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر فقام اثنان من أقارب الميت فحلفا على الإناء، فدفعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهما، لأن الوصيين ادعيا على الميت البيع فصار اليمين في جانب الورثة لأنهم أنكروا، وسمي أيمان الفريقين شهادة كما سميت أيمان المتلاعنين شهادة - نبه على ذلك الشافعي، وكان ذلك لما في البابين من مزيد التأكيد.
ولما تم هذا على هذا الوجه الغريب، بين سبحانه سرَّه فقال: ﴿ذلك﴾ أي الأمر المحكم المرتب هذا الترتيب بالأيمان وغيرها ﴿أدنى﴾ أي أقرب ﴿أن﴾ أي إلى أن ﴿يأتوا﴾ أي الذين شهدوا أولاً ﴿بالشهادة﴾ أي الواقعة في نفس الأمر ﴿على وجهها﴾ من غير أدنى ميل بسبب أن يخافوا من الحنث عند الله بعد هذا التغليظ ﴿أو يخافوا﴾ إن لم يمنعهم الخوف من الله ﴿أن ترد﴾ أي تثنى وتعاد
333
﴿أيمان﴾ أي من الورثة ﴿بعد أيمانهم﴾ للعثور على ريبة فيصيروا بافتضاحهم مثلاً للناس، قال الشافعي: وليس في هذا رد اليمين، فما كانت يمين الداريين على ما ادعى الورثة من الخيانة، ويمين ورثة الميت على ما ادعى الداريان مما وجد في أيديهما وأقرا أنه مال الميت وأنه صار لهما من قِبَله، فلم تقبل دعواهما بلا بينة، فأحلف وارثاه، قال: وإذا كان هذا كما وصفت فليست الآية ناسخة ولا منسوخة لأمر الله بإشهاد ذوي عدل ومن نرضى من الشهداء، هذا ما اقتضى إيلاؤها لما قبلها، وقد نزعها إلى مجموع هذه السورة مَنازع منها ما تقدم من ذكر القتل الذي هو من أنواع الموت عند قصة بني آدم وما بعدها، ثم تعقيب ذلك بالجهاد الذي هو من أسباب الموت، وقوله تعالى:
﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس﴾ [المائدة: ٤٥]، ثم ذكره أيضاً في قوله تعالى: ﴿يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم﴾ [المائدة: ٥٤] وقد جرت السنة الإلهية بذكر الوصية عقب مثل ذلك في البقرة، ولم يذكر عقب واحدة من الآيات المذكورة لزيادتها على آية البقرة بمنازع منها الحلف، فناسب كونها بعد آية الأيمان، ومنها تغليظ الحلف والخروج به عما يشاكله من القسم على المال بكونه في زمان مخصوص بعد عبادة مخصوصة، فناسب ذكرها بعد تغليظ أمر الصيد في حال مخصوص وهو الإحرام والخروج به عن أشكاله من الأحوال وبعد تغليظ جزائه والخروج به عن أشكاله من الكفارات وتغليظ أمر المكان المخصوص وهو الكعبة والخروج
334
بها عن أشكالها من البيوت، وكذا تغليظ الزمان المخصوص وهو الشهر الحرام والخروج به عن أشكاله من الأزمنة. وكل ذلك لقيام أمر الناس وإصلاح أحوالهم، وهكذا آية الوصية وما خرج من أحكامها عن أشكاله كله لقيام الأمور على السداد وإصلاح المعاش والمعاد، وهي ملتفتة إلى أول السورة إذا هي من أعظم العهود، والوفاءُ بها من أصعب الوفاء، وإلى قوله تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى﴾ [المائدة: ٢] وإلى قوله تعالى: ﴿كونوا قوامين لله شهداء بالقسط﴾ [المائدة: ٨] انظر إلى ختمها بقوله: ﴿إن الله خبير بما تعملون﴾ وإلى كون هذه في سياق الإعلام بأن الله عالم بالخفيات، وقوله: - عطفاً على ما تقديره: فالزموا ما أمرتكم به وأرشدتكم إليه تفلحوا: ﴿واتقوا الله﴾ أي ذا الجلال والإكرام إلى آخرها - ملتفت إلى قوله: ﴿وميثاقه الذي واثقكم به﴾ [المائدة: ٧]- الأية، أي خافوا الله خوفاً عظيماً يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية لئلا تحلفوا كاذبين أو تخونوا أدنى خيانة ﴿واسمعو﴾ أي الموعظة سمع إجابة وقبول ذاكرين لقولكم ﴿سمعنا وأطعنا﴾ [البقرة: ٢٨٥] فإن الله يهدي المتمسكين بالميثاق ﴿والله﴾ أي الذي له الكمال كله وتمام الحكمة وكمال العزة والسطوة ﴿لا يهدي القوم﴾ أي لا يخلق الهداية في قلوب الذين لهم قدرة على
335
ما يحاولونه الفاسقين *} أي الذين هم خارجون، أي من عادتهم ذلك على وجه الرسوخ، فهم أبداً غير متقيدين بقيد ولا منضبطين بدائرة عقد ولا عهد.
336
ولما كان فيها إقامة الشهود وحبسهم عن مقاصدهم حتى يفرغوا من هذه الواقعة المبحوث فيها عن خفايا متعلقة بالموت والتغليظ بالتحليف بعد صلاة العصر، وكانت ساعة يجتمع فيها الناس وفريقا الملائكة المتعاقبين فينا ليلاً ونهاراً مع أنها ساعة الأصيل المؤذنة بهجوم الليل وتقوّض النهار حتى كأنه لم يكن ورجوع الناس إلى منازلهم وتركهم لمعايشهم، وكانت عادته سبحانه بأنه يذكر أنواعاً من الشرائع والتكاليف، ثم يتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء وإما بشرح أحوال القيامة، ليصير ذلك مؤكداً لما تقدم من التكاليف، ولا ينتقل من فن إلى آخر إلا بغاية الإحكام في الربط، عقبها تعالى بقوله: ﴿يوم يجمع الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة ﴿الرسل﴾ أي الذين أرسلهم إلى عباده بأوامره ونواهيه إشارة إلى تذكر انصرام هذه الدار وسرعة هجوم ذلك بمشاهدة هذه الأحوال المؤذنة به وبأنه يوم يقوم فيه الأشهاد، ويجتمع فيه العباد، ويفتضح فيه أهل الفساد - إلى غير ذلك من الإشارات لأرباب البصائر والقلوب، والظاهر أن «يوم» ظرف للمضاف المحذوف الدال عليه الكلام، فإن من المعلوم أنك إذا قلت: خف من
336
فلان، فإن المعنى: خَف من عقابه ونحو ذلك، فيكون المراد هنا: واتقوا غضب الله الواقع في ذلك اليوم، أي اجعلوا بينكم وبين سطواته في ذلك اليوم وقايةً، أو يكون المعنى: اذكروا هذه الواقعة وهذا الوقت الذي يجمع فيه الشهود ويحبس المعترف والجحود يوم الجمع الأكبر بين يدي الله تعالى ليسألهم عن العباد ويسأل العباد عنهم ﴿فيقول﴾ أي للرسل تشريعاً لهم وبياناً لفضلهم وتشريفاً للمحق من أممهم وتبكيتاً للمبطل وتوبيخاً للمُفْرط منهم والمفرّط.
ولما كان مما لا يخفى أصلاً أنهم أجيبوا، ولا يقع فيه نزاع ولا يتعلق بالسؤال عنه غرض، تجاوز السؤال إلى الاستفهام من نوع الإجابة فقال: ﴿ماذا أجبتم﴾ أي أيّ إجابة أجابكم من أرسلتم إليهم؟ إجابة طاعة أو إجابة معصية.
ولما كان المقصود من قولهم بيان الناجي من غيره، وكانت الشهادة في تلك الدار لا تنفع إلا فيما وافق فيه الإضمار الإظهار، فكانت شهادتهم لا تنفع المشهود له بحسن الإجابة إلا أن يطابق ما قاله بلسانه اعتقاده بقلبه ﴿قالوا﴾ نافين لعلمهم أصلاً ورأساً إذا كان موقوفاً على شرط هو من علم ما غاب ولا علم لهم به ﴿لا علم لنا﴾ أي على الحقيقة لأنا لا نعلم إلا ما شهدناه، وما غاب عنا أكثر، وإذا كان الغائب قد يكون مخالفاً للمشهود، فما شهد ليس بعلم، لأنه غير مطابق
337
للواقع، ولهذا عللوا بقولهم: ﴿إنك أنت﴾ أي وحدك ﴿علام الغيوب *﴾ أي كلها، تعلمها علماً تاماً فكيف بما غاب عنا من أحوال قومنا! فكيف بالشهادة! فكيف بما شهدنا من ذلك! وهذا في موضع قولهم: أنت أعلم، لكن هذا أحسن أدباً، فإنهم محوا أنفسهم من ديوان العلم بالكلية، لأن كل علم يتلاشى إذا نسب إلى علمه ويضمحل مهما قرن بصفته أو اسمه.
ولما كان سؤاله سبحانه للرسل عن الإجابة متضمناً لتبكيت المبطلين وتوبيخهم، وكان أشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ أهل الكتاب، لأن تمردهم تعدى إلى رتبة الجلال بما وصفوه سبحانه به من اتخاذ الصاحبة والولد، ومن ادعاء الإلهية لعيسى عليه السلام لما أظهر من الخوارق التي دعا بها إلى الله مع اقترانها بما يدل على عبوديته ورسالته لئلا يهتضم حقه أو يُغلى فيه، مع مشاركتهم لغيرهم في أذى الرسل عليهم السلام بالتكذيب وغيره، وكان في الآية السالفة ذكر الآباء وما آثروا للأبناء، ذكر أمر عيسى عليه السلام بقوله مبدلاً من قوله: ﴿يوم يجمع الله﴾ معبراً بالماضي تذكيراً بما لذلك اليوم من تحتم الوقوع، وتصويراً لعظيم تحققه، وتنبيهاً على أنه لقوة قربه كأنه
338
قد وقع ومضى: ﴿إذ قال الله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال ﴿يا عيسى﴾ ثم بينه بما هو الحق من نسبه فقال: ﴿ابن مريم﴾.
ولما كان ذلك يوم الجمع الأكبر والإحاطة بجميع الخلائق وأحوالهم في حركاتهم وسكناتهم، وكان الحمد هو الإحاطة بأوصاف الكمال، أمره بذكر حمده سبحانه على نعمته عنده فقال: ﴿اذكر نعمتي عليك﴾ أي في خاصة نفسك، وذكر ما يدل للعاقل على أنه عبد مربوب فقال: ﴿وعلى والدتك﴾ إلى آخره مشيراً إلى أنه أوجده من غير أب فأراحه مما يجب للآباء من الحقوق وما يورثون أبناءهم من اقتداء أو اهتداء وإقامة بحقوق أمه، فأقدره - وهو في المهد - على الشهادة لها بالبراءة والحصانة والعفاف، وكل نعمة أنعمها سبحانه عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي نعمة أمه ديناً ودنيا.
ولما ذكر سبحانه هذه الأمة المدعوة من العرب وأهل الكتاب وغيرهم بنعمه عليهم في أول السورة بقوله: ﴿اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه﴾ [المائدة: ٧]، ﴿واذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم﴾ [المائدة: ١١]، وكانت هذه الآيات من عند ﴿لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾ [المائدة: ٨٧] كلها في النعم، أخبرهم أنه يذكّر عيسى عليه السلام بنعمه في يوم الجمع إشارة إلى أنهم إن لم يذكروا نعمه في هذه الدار دار العمل بالشكر، ذكروها حين يذكّرهم بها في ذلك اليوم قسراً بالكفر، ويا لها فضيحةً في ذلك الجمع
339
الأكبر والموقف الأهول! وليتبصّر أهل الكتاب فيرجعوا عن كفرهم بعيسى عليه السلام: اليهودُ بالتقصير في أمره، والنصارى بالغلو في شأنه وقدره.
ولما كان أعظم الأمور التنزيه، بدأ به كما فعل بنفسه الشريفة في كلمة الدخول إلى الإسلام، ولما كان أعظم ذلك تنزيهه أمه عليها السلام وتصحيح ما خرق لها من العادة في ولادته، وكان أحكم ما يكون ذلك بتقوية روحه حتى يكون كلامه طفلاً ككلامه كهلاً، قدمه فقال معلقاً قارناً بكل نعمة ما يدل على عبوديته ورسالته، ليخزي من غلا في أمره أو قصّر في وصفه وقدره: ﴿إذ أيدتك﴾ أي قويتك تقوية عظيمة ﴿بروح القدس﴾ أي الطهر الذي يحيي القلوب ويطهرها من أوضار الآثام، ومنه جبرئيل عليه السلام، فكان له منه في الصغر حظ لم يكن لغيره؛ قال الحرالي: وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام ثم استأنف تفسير هذا التأييد فقال: ﴿تكلم الناس﴾ أي من أردت من عاليهم وسافلهم ﴿في المهد﴾ أي بما برأ الله من أمك وأظهر به كرامتك وفضلك.
ولما ذكر هذا الفضل العظيم، أتبعه خارقاً آخر، وهو إحياؤه
340
نفسه وحفظُه جسدَه أكثر من ألف سنة لم يدركه الهرم؛ فإنه رفع شاباً وينزل على ما رفع عليه ويبقى حتى يصير كهلاً، وتسويةُ كلامه في المهد بكلامه في حال بلوغ الأشدّ وكمال العقل خرقاً لما جرت به العوائد فقال: ﴿وكهلاً﴾ ولما ذكر هذه الخارقة، أتبعها روح العلم الرباني فقال: ﴿وإذ علمتك الكتاب﴾ أي الخط الذي هو مبدأ العلم وتلقيح لروح الفهم ﴿والحكمة﴾ أي الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم ﴿والتوراة﴾ أي المنزلة على موسى عليه السلام ﴿والإنجيل﴾ أي المنزل عليك.
ولما ذكر تأييده بروح الروح، أتبعه تأييده بإفاضة الروح على جسد لا أصل له فيها فقال: ﴿وإذ تخلق من الطين﴾ أي هذا الجنس ﴿كهيئة الطير بإذني﴾ ثم سبب عن ذلك قوله: ﴿فتنفخ فيها﴾ أي في الصورة المهيأة ﴿فتكون﴾ أي تلك الصورة التي هيأتها ﴿طيراً بإذني﴾ ثم بإفاضة روح ما على بعض جسد، إما ابتداء في الأكمة كما في الذي قبله، وإما إعادة كما في الحادث العمى والبرص بقوله: ﴿وتبرئ الأكمة والأبرص﴾.
ولما كان من أعظم ما يراد بالسياق توبيخ من كفر به كرر قوله: ﴿بإذني﴾ ثم برد روح كامل إلى جسدها بقوله:
341
﴿وإذ تخرج الموتى﴾ أي من القبور فعلاً أو قوة حتى يكونوا كما كانوا من سكان البيوت ﴿بإذني﴾ ثم بعصمة روحه ممن أراد قتله بقوله: ﴿وإذ كففت بني إسرائيل عنك﴾ أي اليهود لما هموا بقتلك؛ ولما كان ذلك ربما أوهم نقصاً استحلوا قصده به، بين أنه قصد ذلك كعادة الناس مع الرسل والأكابر من أتباعهم تسلية لهذا النبي الكريم والتابعين له بإحسان فقال: ﴿إذ جئتهم بالبينات﴾ أي كلها، بعضها بالفعل والباقي بالقوة لدلالة ما وجد عليه من الآيات الدالة على رسالتك الموجبة لتعظيمك ﴿فقال الذين كفروا﴾ أي غطوا تلك البينات عناداً ﴿منهم إن﴾ أي ما ﴿هذا إلا سحر مبين *﴾ ثم بتأييده بالأنصار الذين أحيى أرواحهم بالإيمان وأجسادهم باختراع المأكل الذي من شأنه في العادة حفظ الروح، وذلك في قصة المائدة وغيرها فقال: ﴿وإذ أوحيت﴾ أي بإلهام باطناً وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهراً ﴿إلى الحواريين﴾ أي الأنصار ﴿أن آمنوا بي وبرسولي﴾ أي الذي أمرته بالإبلاغ يعني إبلاغ الناس ما آمرهم به، ثم استأنف مبيناً لسرعة أجابتهم لجعله محبباً إليهم مطاعاً فيهم بقوله: ﴿قالوا آمنا﴾.
ولما كان الإيمان باطناً فلا بد في إثباته من دليل ظاهر، وكان
342
في سياق عدّ النعم والطواعية لوحي الملك الأعظم دلوا عليه بتمام الانقياد، ناسب المقام زيادة التأكيد بإثبات النون الثالثة في قولهم: ﴿واشهد بأننا﴾ بخلاف آل عمران ﴿مسلمون *﴾ أي منقادون أتم انقياد، فلا اختيار لنا إلا ما تأمرنا به، وانظر ما أنسب إعادة «إذ» عند التذكير بروح كامل حساً أو معنى وحذفها عند الناقص، فأثبتها عند التأييد بها في أصل الخلق وفي الكمال الموجب للحياة الأبدية وفي تعليم الكتاب وما بعده المفيض لحياة الأبد على كل من تخلّق بأخلاقه وفي خلق الطير وهو ظاهر وهكذا إلى الآخر.
ذكرُ شيء مما عزي إليه من الحكمة في الإنجيل: قال متى: وكان يسوع يطوف المدن والقرى ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل الأمراض والأوجاع، ثم قال: فلما سمع يوحنا في السجن بأعمال المسيح أرسل إليه اثنين من تلاميذه قائلاً: أنت هو الآتي أم نترجى آخر؟ قال لوقا: وفي تلك الساعة أبرأ كثيراً من الأمراض والأوجاع والأرواح الشريرة ووهب النظر لعميان كثيرين، فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأعلما يوحنا بما رأيتما وسمعتما، العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص يتطهرون والصم يسمعون
343
والموتى يقومون والمساكين يبشرون، فطوبى لمن لا يشك فيّ! فلما ذهب تلميذا يوحنا بدأ يسوع يقول للجمع من أجل يوحنا: لماذا خرجتم إلى البرية تنظرون - قال لوقا: قصبة تحركها الريح - أم لماذا خرجتم تنظرون؟ إنساناً لابساً لباساً ناعماً؟ إن اللباس الناعم يكون في بيوت الملوك، قال لوقا: فإن الذين عليهم لباس المجد والتنعم هم في بيوت الملوك - انتهى. لكن لماذا خرجتم تنظرون؟ نبياً؟ نعم، أقول لكم: إنه أفضل من هذا الذي كتب من أجله: هوذا أنا مرسل ملكي أمام وجهك ليسهل طريقك قدامك، الحق أقول لكم! إنه لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمد، والصغير في ملكوت السماء أعظم منه، وجميع الشعب الذي سمع والعشارون شكروا الله حيث اعتمدوا من معمودية يوحنا، فأما الفريسيون والكتاب فعلموا أنهم رفضوا أمر الله لهم إذ لم يعتمدوا منه؛ قال متى: ثم قال: من له أذنان سامعتان فليسمع! بماذا أشبه هذا الجيل؟ يشبه صبياناً جلوساً في الأسواق، يصيحون إلى أصحابهم قائلين: زمّرنا لكم فلم ترقصوا، ونحنا لكم فلم تبكوا، جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب، فقالوا: معه جنون، جاء ابن الإنسان
344
يأكل ويشرب، فقالوا: هذا إنسان أكول شرّيب خليل العشارين والخطأة، فتبررت الحكمة من بنيها، حينئذ بدأ يعيّر المدن التي كان فيها أكثر قواته، لأنهم لم يتوبوا، ويقول: الويل لك يا كورزين! والويل لك يا بيت صيدا! لأن القوات اللاتي كنّ فيكما قديماً لو كنّ في صور وصيدا لتابوا بالمسوح والرماد، لكن أقول لكم: إن لصور وصيدا راحة في يوم الدين أكثر منكن، وأنت يا كفرناحوم لو ارتفعت إلى السماء ستهبطين إلى الجحيم، لأنه لو كان في سدوم هذه القوات التي كانت فيك إذن لثبتت إلى اليوم، وأقول لكم أيضاً: إن أرض سدوم تجد راحة يوم الدين أكثر منك.
ثم قال: وانتقل يسوع من هناك ودخل إلى مجمعهم وإذا رجل هناك يده يابسة - وقال لوقا: يده اليمنى يابسة - فسألوه قائلين: هل يحل أن يشفى في السبت؟ فقال لهم: أي إنسان منكم يكون له خروف، يسقط في حفرة في السبت، ولا يمسكه ويقيمه؟ فبكم أحزي الإنسان أفضل من الخروف، فإذن جيد هو فعل الخير في السبت؛ وقال لوقا: فقال للرجل اليابس اليد: قف في الوسط، فقام، وقال لهم يسوع: أسألكم ماذا يحل أن يعمل في السبت؟ خير أم شر؟ نفس تخلص أم تهلك؟ فسكتوا؛ قال متى: حينئذ قال للإنسان: أمدد يدك، فمدها فصحت
345
مثل الأخرى، فخرج الفريسيون - قال مرقس: مع أصحاب هيرودس - متوامرين في إهلاكه، فعلم يسوع وانتقل من هناك وتبعه جمع كثير، فشقى جميعهم، وأمرهم أن لا يظهروا ذلك لكي يتم ما قيل في أشعيا النبي القائل: ها هوذا فتاي الذي هويت، وحبيبي الذي به سررت، أضع روحي عليه ويخبر الأمم بالحكم، لا يماري ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته في الشوارع، قصبة مرضوضة لا تكسر، وسراج مطفطف لا يطفأ حتى يخرج الحكم في الغلبة، وعلى اسمه تتكل الأمم؛ ثم قال: وفي ذلك اليوم خرج يسوع من البيت وجلس جانب البحر، فاجتمع إليه جمع كبير حتى أنه صعد إلى السفينة وجلس، وكان الجمع كله قياماً على الشطّ، وكلهم بأمثال كثيرة قائلاً: ها هو ذا خرج الزارع ليزرع، وفيما هو يزرع سقط البعض على الطريق، فأتى الطير وأكله - وقال لوقا: فديس وأكله طائر السماء - وبعض سقط على الصخرة حيث لم يكن له أرض كثيرة، وللوقت شرق إذ ليس له عمق أرض، ولما أشرقت الشمس احترق، وحيث لم يكن له أصل يبس، وبعض سقط في الشوك فطلع الشوك وخنقه؛ وقال مرقس: فخنقه بعلوه عليه فلم يأتي بثمرة؛
346
وقال متى: وبعض سقط في الأرض الجيدة فأعطى ثمره، للواحد مائة وللآخر ستين وللآخر ثلاثين - قال لوقا: فلما قال هذا نادى: من له أذنان سامعتان فليسمع - فتقدم إليه تلاميذه وقالوا له: لماذا تكلمهم بالأمثال؟ فأجابهم وقال: أنتم أعطيتم معرفة سرائر ملكوت السماوات - وقال لوقا: فقال لهم: لكم أعطي علم سرائر ملكوت الله - وأولئك لم يعطوا، ومن كان له يعطي ويزاد، ومن ليس له فالذي له يؤخذ منه - وقال لوقا: والذي ليس له ينزع منه الذي يظن أنه له - فلهذا أكلمهم بالأمثال، لأنهم يبصرون فلا يبصرون، ويسمعون فلا يسمعون ولا يفهمون، لكي تتم فيهم نبوة أشعيا لقائل: سمعاً يسمعون فلا يفهمون، ونظراً ينظرون فلا يبصرون، لقد غلظ قلب هذا الشعب، وثقلت آذانهم عن السماع، وغمضوا أعينهم لكيلا يبصروا بعيونهم ولا يسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم، فأما أنتم فطوبى لعيونكم! لأنها تنظر، ولآذانكم! لأنها تسمع؛ وقال لوقا: ومثل الزرع هذا هو كلام الله؛ وقال متى: كل من يسمع كلام الملكوت ولا يفهم يأتي الشرير فيخطف ما يزرع في قلبه، هذا الذي زرع على الطريق، والذي زرع على الصخرة هو الذي يسمع الكلام وللوقت يقبله بفرح، وليس له فيه أصل، لكن في زمان يسير، إذا حدث ضيق أو طرد فللوقت يشك -
347
وقال مرقس: بسبب الكلمة فيشكون للوقت: وقال لوقا: وهم إنما يؤمنون إلى زمان التجربة، وفي زمان التجربة يشكون - والذي يزرع في الشوك فهو الذي يسمع الكلام فيخنق الكلام فيه؛ وقال لوقا: فتغلب عليهم هموم هذا الدهر وطلب الغنى؛ وقال مرقس: ومحبة الغنى وسائر الشهوات التي يسلكونها، فتخنق الكلمة فلا تثمر فيهم؛ وقال متى: فيكون بغير ثمرة، والذي زرع في الأرض الجيدة هو الذي يسمع الكلام ويتفهم ويعطي ثمره؛ وقال لوقا: وأما الذي وقع في الأرض الصالحة فهم الذين يسمعون الكلمة بقلب جيد فيحفظونها ويثمرون بالصبر؛ قال متى: للواحد مائة وللآخر ستين وللآخر ثلاثين.
وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً: يشبه ملكوت السماوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع زواناً في وسط القمح ومضى، فلما نبت القمح ظهر الزوان، فجاء عبيد رب البيت فقالوا له: يا سيد! أليس زرعاً جيداً زرعت في حقلك! فمن أين صار فيه زوان؟ فقال لهم: عدو فعل هذا، فقال عبيده: تريد أن نذهب فنجمعه؟ فقال لهم: لا، لئلا تنقلع معه الحنطة، دعوهما ينبتان جميعاً إلى زمان الحصاد،
348
وأقول للحصادين: أولاً اجمعوا الزوان فشدوه حزماً ليحرق، فأما القمح فاجمعوه إلى أهرائي. وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً: يشب ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله، لأنها أصغر الزراريع كلها - وقال مرقس: وهي أصغر الحبوب التي على الأرض - فإذا طالت صارت أكبر من جميع البقول وتصير شجرة - وقال مرقس: وصنعت أغصاناً عظاماً؛ وقال لوقا: فنمت وصارت شجرة عظيمة - حتى أن طائر السماء يستظل تحت أغصانها.
وكلمهم بمثل آخر وقال لهم: يشبه ملكوت السماوات خميراً أخذته امرأة وعجنته في ثلاثة أكيال دقيق فاختمر الجميع؛ وقال مرقس: وكان يقول لهم: هل يوقد سراج فيوضع تحت مكيال أو سرير، لكن على منارة؛ وقال لوقا: ليس أحد يوقد سراجاً فيغطيه، ولا يجعله تحت سرير، لكن يضعه على منارة فيرى نوره كل من يدخل؛ قال مرقس: كذلك ليس خفي إلا سيظهر، ولا مكتوم إلا سيعلن؛ وقال لوقا: سراج الجسد العين، فإذا كانت عينك بسيطة فجسدك كله نير، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً أحرص أن لا يكون النور الذي فيك ظلاماً، فإن كان جسدك كله نيراً وليس فيه جزء مظلم فإنه يكون كاملاً نيراً، كما أن السراج ينير لك بلمع ضيائه؛ وقال مرقس: من له أذنان سامعتان فليسمع، وقال لهم: انظروا ماذا تسمعون، فبالكيل الذي تكيلون يكال لكم - وتزادون أيها السامعون لأن الذي له يعطي ومن ليس
349
عنده فالذي عنده يؤخذ منه، وقال: يشبه ملكوت الله إنساناً يلقي زرعه على الأرض وينام، ويقوم ليلاً ونهاراً والزرع ينمو ويطول وهو لا يعلم، أولاً أعشب وبعد ذلك سَنُبل، ثم يمتلئ السنبل حتى إذا انتهت الثمرة حينئذ يضع المنجل إذ قد دنا الحصاد؛ قال متى: هذا كله قاله يسوع للجموع ليتم ما قيل في النبي القائل: أفتح فاي بالأمثال وأنطق بالخفيات من قبل أساس العالم. حينئذ ترك الجمع وجاء إلى البيت فجاء إليه تلاميذه وقالوا: فسر لنا مثل زوال الحقل، أجاب: الذي زرع الزرع الجيد هو ابن الإنسان، والحقل هو العالم، والزرع الجيد هو بنو الملكوت، والزوان هو بنو الشر، والعدو الذي زرعه هو الشيطان، والحصاد هو منتهى الدهر، والحصادون هم الملائكة، فكما أنهم يجمعون الزوان أولاً، وبالنار يحرق، هكذا يكون منتهى هذا الدهر، يرسل ملائكته ويجمعون من مملكته كل الشوك وفاعلي الإثم، فيلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، حينئذ يضيء الصديقون مثل الشمس في ملكوت أبيهم، من له أذنان سامعتان فليسمع. ويشبه ملكوت السماوات كنزاً مُخفىّ في حقل وجده إنسان فخبأه، ومِن فرحه مضى وباع كل شيء واشترى ذلك الحقل. وأيضاً يشبه ملكوت السماوات إنساناً تاجراً بطلب الجوهر الفاخر الحسن. فوجد درة كثيرة الثمن فمضى وباع
350
كل ماله واشتراها. وأيضاً يشبه ملكوت السماوات شبكة ألقيت في البحر فجمعت من كل جنس، فلما امتلأت أطلعوها إلى الشّط فجلسوا وجمعوا الخيار في الأوعية، والرديء رموه خارجاً، هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان، تخرج الملائكة ويميزون الأشرار من وسط الصديقين.
ويلقونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. فلما أكمل يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك وجاء إلى بلدته وكان يُعلِّم في مجامعهم حتى أنهم بهتوا وقالوا: من أين له هذه الحكمة والقوة! وقال مرقس: من أين له هذا التعليم وهذه الحكمة التي أعطيها والقوات التي تكون على يديه - انتهى. أليس هذا ابن النجار؟ وقال لوقا: وكان جميعهم يشهدون له ويتعجبون من كلام النعمة الذي كان يخرج من فمه، وكانوا يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟ انتهى. أليس أمه تسمى مريم وإخوته يعقوب ويوسا وسمعان ويهودا؟ أليس هو وأخواته عندنا جميعاً؟ فمن أين له هذا كله؟ وكانوا يشكون فيه، فإن يسوع قال لهم: لا يهان نبي إلا في بلدته وبيته؛ وقال مرقس: ليس يهان نبي إلا في بلدته وعند أنسابه وبيته؛ وقال لوقا: فقال لهم: لعلكم تقولون لي هذا المثل: أيها الطبيب! اشف نفسك والذي سمعنا
351
أنك صنعته في كفرناحوم افعله أيضاً ههنا في مدينتك، فقال لهم: الحق أقول لكم، إنه لا يقبل نبي في مدينته، الحق أقول لكم، إن الأرامل كثيرة كنّ في إسرائيل في أيام إليا إذ أغلقت السماء ثلاث سنين وستة أشهر، وصار جوع عظيم في الأرض كلها، ولم يرسل إلياء إلى واحدة منهن إلا أرملة في صارفة صيدا، وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل على عهد اليشع النبي ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان الشامي، فامتلأ جميعهم غضباً عندما سمعوا هذا وأخرجوه خارج المدينة، وجاؤوا به إلى أعلى الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه ليطرحوه إلى أسفل، فأما هو فجاز وسطهم ومضى، ونزل إلى كفرناحوم مدينة في الجليل، وكان يعلمهم في السبت وبهتوا من تعليمه لأن كلامه كان بسلطان. وقال في موضع آخر: وجاء إليه ناس من الفريسيين وقالوا له: اخرج فاذهب من ههنا فإن ثيرودس يريد ليقتلك، فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب: إني هوذا أخرج الشياطين وأتم الشفاء اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أكمل، وينبغي أن أقيم
352
اليوم وغداً، وفي اليوم الآتي أذهب، لأنه ليس يهلك نبي خارجاً عن يروشليم، أيا يروشليم! أيا يروشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها! كم من مرة أردت أن أجمع بنيك مثل الدجاجة التي تجمع فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا، هوذا أترك بيتكم خراباً، فسمع هيرودس رئيس الربع بجميع ما كان فتحير، لأن كثيراً كانوا يقولون: إن يوحنا قام من الأموات، وآخرون يقولون: إن إليا ظهر، وآخرون يقولون: نبي من الأولين قام، فقال هيرودس: أنا قطعت رأس يوحنا فمن هو الذي نسمع عنه هذا، وطلب أن يبصره؛ وفي إنجيل متى: وفي ذلك الزمان سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع فقال لغلمانه: هذا هو يوحنا المعمدان، وهو قام من الأموات من أجل هذه القوات التي يعمل بها.
قوله: المعمد، من أعمده - إذا غسله في ماء المعمودية، قوله: تبررت، أي صارت برية بالنسبة إليهم، قوله: يعيّر المدن، أي يذكر ما أوجب لها العار، قوله: القوات جمع قوة وهي المعجزات هنا، قول: الذي هويت، يعني أحببت حباً شديداً، ولفظ الهوى الظاهر أنه يفهم نقصاً فلا يحل في شرعنا إطلاقه على الله تعالى، قوله: مطفطف، أي مملوء إلى رأسه، لا يزال كذلك، قوله: شرق - وزن: فرح، أي ضعف، من:
353
شرق بريقه، وشرقت الشمس - إذا ضعف ضوءها، قوله: أتون وهو وزن تنور وقد يخفف: أخدود الجيار والجصاص، قوله: بسيطة، أي على الفطرة الأولى، قوله: يروشليم - بتحتانية ومهملة وشين معجمة: بيت المقدس، قوله: ملكوت أبيهم، تقدم ما فيه غير مرة.
354
ولما كان من المقصود بذكر معجزات عيسى عليه السلام تنبيه الكافر ليؤمن، والمؤمن ليزداد إيماناً، وتسلية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوبيخ اليهود المدعين أنهم أبناء وأحباء - إلى غير ذلك مما أراد الله، قرعت به الأسماع، ولم يتعلق بما يجيب به يوم القيامة عند أمره بذلك غرض فطوي؛ ولما كان أجلّ المقاصد تأديب هذه الأمة لنبيها عليه السلام لتجلّه عن أن تبدأه بسؤال أو تقترح عليه شيئاً في حال من الأحوال، ذكر لهم شأن الحواريين في اقتراحهم بعدما تقدم من امتداحهم بِعَدِّهم في عداد أولي الوحي ومبادرتهم إلى الإيمان امتثالاً للأمر ثم إلى الإشهاد على سبيل التأكيد بتمام الانقياد وسلب الاختيار، فقال معلقاً ب «قالوا آمنا» مقرباً لزمن تعنتهم من زمن إيمانهم، مذكراً لهذه الأمة بحفظها على الطاعة، ومبكتاً لبني إسرائيل بكثرة تقلبهم وعدم تماسكهم إبعاداً لهم عن درجة المحبة فضلاً عن البنوة، وهذه القصة قبل قصة الإيحاء إليهم فتكون «إذ» هذه
354
ظرفاً لتلك، فيكون الإيحاء إليهم بالأمر بالإيمان في وقت سؤالهم هذه بعد ابتدائه، ويكون فائدته حفظهم من أن يسألوا آية أخرى كما سألوا هذه بعدما رأوا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الآيات: ﴿إذ قال﴾ وأعاد وصفهم ولم يضمره تنصيصاً عليهم لبُعد ما يذكر من حالهم هذا من حالهم الأول فقال: ﴿الحواريون﴾ وذكر أنهم نادوه باسمه واسم أمه فقالوا: ﴿يا عيسى ابن مريم﴾ ولم يقولوا: يا رسول الله ولا يا روح الله، ونحو هذا من التبجيل أو التعظيم ﴿هل يستطيع ربك﴾ بالياء مسنداً إلى الرب وبالتاء الفوقانية مسنداً إلى عيسى عليه السلام ونصب الرب، ومعناهما واحد يرجع إلى التهييج والإلهاب بسبب الاجتهاد في الدعاء بحيث تحصل الإجابة، وتكون هذه العبارة أيضاً للتلطف كما يقول الإنسان لمن يعظمه: هل تقدر أن تذهب معي إلى كذا؟ وهو يعلم أنه قادر، ولكنه يكنى بذلك عن أن السائل يحب ذلك ولا يريد المشقة على المسؤول ﴿أن ينزل﴾ أي الرب المحسن إليك ﴿علينا مائدة﴾ وهي الطعام، ويقال أيضاً: الخوان إذا كان عليه الطعام، والخوان شيء يوضع عليه الطعام للأكل، هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص، وهي من ماده -
355
إذا أعطاه وأطعمه.
ولما كان هذا ظاهراً في أنها سماوية، صرحوا به احترازاً عما عوَّدهم به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أنه يدعو بالقليل من الطعام فيبارك فيه فيمده الله فيكفي فيه القيام من الناس فقالوا: ﴿من السماء﴾ أي لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدمنا من الأمم.
ولما كان المقصود من هذا وعظنا وإرشادنا إلى أن لا نسأل نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، اكتفاء بما يرحمنا به ربنا الذي رحمنا بابتدائنا بإرساله إلينا لإيصالنا إليه سبحانه، وتخويفاً من أن نكون مثل من مضى من المقترحين الذين كان اقتراحهم سببَ هلاكهم؛ دل على ذلك بالنزوع من أسلوب الخطاب إلى الغيبة فقال مستأنفاً إرشاداً إلى السؤال من جوابهم: ﴿قال﴾ ولم يقل: فقلت ﴿اتقوا الله﴾ أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم الذي له الكمال وقاية تمنعكم عن الاجتراء على الاقتراح ﴿إن كنتم مؤمنين *﴾ أي بأنه قادر وإني رسوله، فلا تفعلوا فعل من وقف إيمانه على رؤية ما يقترح من الآيات.
ولما كانت المعجزات إنما تطلب لإيمان من لم يكن آمن، وكان في هذا الجواب أتم زجر لهم، تشوف السامع إلى جوابهم فقيل:
356
لم ينتهوا بل ﴿قالوا﴾ إنا لا نريدها لأجل إزالة شك عندنا بل ﴿نريد﴾ مجموع أمور: ﴿أن نأكل منها﴾ فإنا جياع؛ ولما كان التقدير: فتحصل لنا بركتها، عطف عليه: ﴿وتطمئن قلوبنا﴾ أي بضم ما رأينا منها إلى ما سبق من معجزاتك من غير سؤالنا فيه ﴿ونعلم﴾ أي بعين اليقين وحقه أن قد صدقتنا} أي في كل ما أخبرتنا به ﴿ونكون عليها﴾ وأشاروا إلى عمومها بالتبعيض فقالوا: ﴿من الشاهدين *﴾ أي شهادة رؤية مستعلية عليها بأنها وقعت، لا شهادة إيمان بأنها جائزة الوقوع ﴿قال عيسى﴾ ونسبه زيادة في التصريح به تحقيقاً ولأنه لا أب له وتسفيهاً لمن أطراه أو وضع من قدره فقال: ﴿ابن مريم اللهم﴾ فافتتح دعاءه بالاسم الأعظم ثم بوصف الإحسان فقال: ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا ﴿أنزل علينا﴾ وقدم المقصود فقال: ﴿مائدة﴾ وحقق موضع الإنزال بقوله: ﴿من السماء﴾ ثم وصفها بما تكون به بالغة العجب عالية الرتب فقال: ﴿تكون﴾ أي هي أو يوم نزولها ﴿لنا عيداً﴾ وأصل العيد كل يوم فيه جمع، ثم قيد بالسرور فالمعنى: نعود إليها مرة بعد مرة سروراً بها، ولعل منها ما يأتي من البركات حين ترد له عليه السلام - كما في الأحاديث الصادقة، ويؤيد ذلك قوله مبدلاً من «لنا» :﴿لأولنا وآخرنا﴾.
357
ولما ذكر الأمر الدنيوي، أتبعه الأمر الديني فقال: ﴿وآية منك﴾ أي علامة على صدقي ﴿وارزقنا﴾ أي رزقاً مطلقاً غير مقيد بها؛ ولما كان التقدير: فأنت خير المسؤولين، عطف عليه قوله: ﴿وأنت خير الرّازقين *﴾ أي فإنك تغني من تعطيه وتزيده عما يؤمله ويرتجيه بما لا ينقص شيئاً مما عندك، ولا تطلب منه شيئاً غير أن ينفع نفسه بما قويته عليه من طاعتك بذلك الرزق ﴿قال الله﴾ أي الملك المحيط علماً وقدرة.
358
ولما كان ظاهر سؤالهم من الاستفهام عن الاستطاعة للاضطراب وإن كان للإلهاب، أكد الجواب فقال: ﴿إني منزلها عليكم﴾ أي الآن بقدرتي الخاصة بي ﴿فمن يكفر بعد﴾ أي بعد إنزالها ﴿منكم﴾ وهذا السياق معشر بأنه يحصل منهم كفر، وقد وجد ذلك حتى في الحواريين على ما يقال في يهودا الإسخريوطي أحدهم الذي دل على عيسى عليه السلام، فألقى شبهه عليه، ولهذا خصه بهذا العذاب فقال: ﴿فإني أعذبه﴾ أي على سبيل البتّ والقطع ﴿عذاباً لا أعذبه﴾ أي مثله أبداً فيما يأتي من الزمان ﴿أحداً من العالمين *﴾ وفي هذا أتم زاجر لهذه الأمة عن اقتراح الآيات، وفي ذكر قصة المائدة في هذه السورة التي افتتحت بإحلال المآكل واختتمت بها أعظم تناسب، وفي ذلك كله إشارة إلى تذكير هذه الأمة بما أنعم عليها بما أعطى نبيها من المعجزات ومنَّ عليها به من حسن الاتباع، وتحذير من كفران هذه النعم
358
المعددة عليهم، وقد اختلف المفسرون في حقيقة هذه المائدة وفي أحوالها؛ قال أبو حيان: وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير» انتهى. قلت: ثم صحح الترمذي وقفه على عمار وقال: لا نعلم للحديث المرفوع أصلاً، غير أن ذلك لا يضره لكونه لا يقال من قِبَل الرأي، ولا أعلم أحداً ذكر عماراً فيمن أخذ عن أهل الكتاب، فهو مرفوع حكماً، وهذا الخبر يؤكد أن الخبر في الآية على بابه، فيدفع قول من قال: إنها لم تنزل، لأنهم لما سمعوا الشرط قالوا: لا حاجة لنا بها، لأن خبره تعالى لا يخلف ولا يبدل القول لديه، وهذا الرزق الذي من السماء قد وقع مثله لآحاد الأمة؛ روى البيهقي في أواخر الدلائل عن أبي هريرة قال: كانت امرأة من دوس يقال لها أم شريك أسلمت في رمضان، فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلقيت رجلاً من اليهود فقال: ما لك يا أم شريك؟ قالت: أطلب رجلاً يصحبني إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال:
359
فتعالي فأنا أصحبك، قالت: فانتظرني حتى أملأ سقائي ماءً، قال: معي ماء ما لا تريدين ماءً، فانطلقت معهم فساروا يومهم حتى أمسوا، فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشى وقال: يا أم شريك! تعالي إلى العشاء! فقالت: اسقني من الماء فإني عطشى، ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب، فقال لها: لا أسقيك حتى تهودي! فقالت: لا جزاك الله خيراً! غربتني ومنعتني أن أحمل ماء، فقال: لا والله لا أسقيك منه قطرة حتى تهودي، فقالت: لا والله لا أتهود أبداً بعد إذ هداني الله للإسلام؛ فأقبلت إلى بعيرها فعقلته ووضعت رأسها على ركبته فنامت، قالت: فما أيقظني إلا برد دلو قد وقع على جبيني، فرفعت رأسي فنظرت إلى ماء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فشربت حتى رويت، ثم نضحت على سقائي حتى ابتل ثم ملأته، ثم رفع بين يديّ وأنا أنظر حتى توارى عني في السماء، فلما أصبحت جاء اليهودي فقال: يا أم شريك! قلت: والله قد سقاني الله، قال: من أين أنزل عليك؟ من السماء؟ قلت: نعم، والله لقد أنزل الله عليّ من السماء ثم رفع
360
بين يدي حتى توارى عني في السماء؛ ثم أقبلت حتى دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقصت عليه القصة، فخطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليها نفسها فقالت: يا رسول الله! لست أرضي نفسي لك ولكن بضعي لك فزوجني من شئت، فزوجها زيداً وأمر لها بثلاثين صاعاً وقال: كلوا ولا تكيلوا، وكان معها عكة سمن هدية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت لجارية لها: بلغي هذه العكة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قولي: أم شريك تقرئك السلام، وقولي: هذه عكة سمن أهديناها لك، فانطلقت بها الجارية إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذوها ففرغوها، وقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علقوها ولا توكوها، فعلقوها في مكانها، فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمناً، فقالت: يا فلانة! أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فقالت: قد والله انطلقت بها كما قلت، ثم أقبلت بها أضربها ما يقطر منها شيء ولكنه قال: علقوها ولا توكوها، فعلقتها في مكانها، وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءة فأكلوا منها حتى فنيت، ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعاً لم ينقص منه شيء، قال: وروي
361
ذلك من وجه آخر، ولحديثه شاهد صحيح عن جابر رضي الله عنه.
وروي بإسناده عن أبي عمران الجوني أن أم أيمن هاجرت من مكة إلى المدينة وليس معها زاد، فلما كانت عند الروحاء وذلك عند غيبوبة الشمس عطشت عطشاً شديداً، قالت: فسمعت هفيفاً شديداً فوق رأسي، فرفعت رأسي فإذا دلو مدلى من السماء برشاء أبيض، فتناولته بيدي حتى استمسكت به، قالت: فشربت منه حتى رويت، قالت: فلقد أصوم بعد تلك الشربة في اليوم الحار الشديد الحر ثم أطوف في الشمس كي أظمأ فما ظمئت بعد تلك الشربة. قال: وفي الجهاد عن البخاري عن أبي هريرة قال: «بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة رهط سرية عيناً، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم - فذكر الحديث حتى قال: فابتاع خبيباً - يعني ابن عدي الأنصاري - بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً، فأخبرني عبيد الله بن عياض أن ابنة الحارث قالت: والله ما رأيت أسيراً قط
362
خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق من الله رزق خبيباً»
الحديث. ومن الأمر الجلي أن عيسى عليه السلام بعد أمر الله تعالى له بذكر هذه النعم يقول في ذلك الجمع فيذكرها ويذكر المقصود من التذكير بها، وهو الثناء على المنعم بها بما يليق بجلاله، فيحمد ربه تعالى بمحامد تليق بذلك المقام في ذلك الجمع، فمن أنسب الأمور حينئذ سؤاله - وهو المحيط علماً بمكنونات الضمائر وخفيات السرائر إثر التهديد لمن يكفر - عما كفر به النصارى، فلذلك قال تعالى عاطفاً على قوله ﴿إذا قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك﴾ [المائدة: ١١٠] ﴿وإذ قال الله﴾ أي بما له من صفات الجلال والجمال مشيراً إلى ما له من علو الرتبة بأداة النداء: ﴿يا عيسى بن مريم﴾ وذلك تحقيقاً لأنه عمل بمقتضى النعمة وتبكيتاً لمن ضل فيه من النصارى وإنكاراً عليهم ﴿أأنت قلت للناس﴾ أي الذين أرسلت إليهم من بني إسرائيل، وكأنه عبر بذلك لزيادة التوبيخ لهم، لكونهم اعتقدوا ذلك وفيهم الكتاب، فكأنه لا ناس غيرهم ﴿اتخذوني﴾ أي كلفوا أنفسكم خلاف ما تعتقدونه بالفطرة الأولى في الله بأن تأخذوني ﴿وأمي إلهين﴾.
363
ولما كانت عبادة غير الله - ولو كانت على سبيل الشرك - مبطلة لعبادة الله، لأنه سبحانه أغنى الأغنياء، ولا يرضى الشرك إلا فقير، قال: ﴿من دون الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له، فيكون المعنى: اتخذوا تألهنا سلماً تتوصلون به إلى الله، ويجوز أن يكون المعنى على المغايرة، ولا دخل حينئذ للمشاركة.
ولما كان من المعلوم لنا في غير موضع أنه لم يقل ذلك، صرح به هنا توبيخاً لمن أطراه، وتأكيداً لما عندنا من العلم، وتبجيلاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يبدي من الجواب، وتفضيلاً بالإعلام بأنه لم يحد عن طريق الصواب، بل بذل الجهد في الوفاء بالعهد، وتقريعاً لمن قال ذلك عنه وهو يدعي حبه واتباعه عليه السلام وتخجيلاً لهم، فلما تشوفت لجوابه الأسماع وأصغت له الآذان، وكان في ذكره من الحكم ما تقدمت الإشارة إليه، ذكره سبحانه قائلاً: ﴿قال﴾ مفتتحاً بالتنزيه ﴿سبحانك﴾ أي لك التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص، ودل بالمضارع على أن هذا القول لا يزال ممنوعاً منه فقال: ﴿ما يكون لي﴾ أي ما ينبغي ولا يصح أصلاً ﴿أن أقول﴾ أي في وقت من الأوقات ﴿ما ليس لي﴾ وأغرق في النفي كما هو حق المقام فقال: ﴿بحق﴾.
ولما بادر عليه السلام إعظاماً للمقام إلى الإشارة إلى نفي ما سئل
364
عنه، أتبعه ما يدل على أنه كان يكفي في الجواب عنه: أنت أعلم، وإنما أجاب بما تقدم إشارة إلى أن هذا القول تكاد السماوات يتفطرن منه ومبادرة إلى تبكيت من ادّعاه له، فقال دالاً على أنه لم يقنع بما تضمن أعظم المدح لأن المقام للخضوع: ﴿إن كنت قلته﴾ أي مطلقاً للناس أو حدثت به نفسي ﴿فقد علمته﴾ وهو مبالغة في الأدب وإظهار الذلة وتفويض الأمر كله إلى رب العزة؛ ثم علل الإخبار بعلمه بما هو من خواص الإله فقال: ﴿تعلم﴾ ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات، وكان القول يطلق على النفس، فإذا انتفى انتفى اللساني، قالك ﴿ما في نفسي﴾ أي وإن اجتهدت في إخفائه، فإنه خلقك، وما أنا له إلا آلة ووعاء، فكيف به إن كنت أظهرته.
ولما أثبت له سبحانه ذلك، نفاه عن نفسه توبيخاً لمن ادعى له الإلهية فقال مشاكلة: ﴿ولا أعلم ما في نفسك﴾ أي ما أخفيته عني من الأشياء؛ ثم علل الأمرين كليهما بقوله: ﴿إنك أنت﴾ أي وحدك لا شريك لك ﴿علام الغيوب *﴾.
ولما نفى عن نفسه ما يستحق النفي ودل عليه، أثبت ما قاله لهم على وجه مصرح بنفي غيره ليكون ما نسب إليه من دعوى الإلهية منفياً مرتين: إشارة وعبارة، فقال معبراً عن الأمر بالقول مطابقة للسؤال،
365
وفسر بالأمر بياناً لأن كل ما قاله من مباح أو غيره دائر على الأمر من حيث الاعتقاد بمعنى أن المخاطب بما قاله الرسول مأمور بأن يعتقد فيه أنه بتلك المنزلة، لا يجوز أن يعتقد فيه أنه فوقها ولا دونها، يعبد الله تعالى بذلك: ﴿ما قلت لهم﴾ أي ما أمرتهم بشيء من الأشياء ﴿إلا ما أمرتني به﴾ ثم فسره دالاً بشأن المراد بالقول الأمر بالتعبير في تفسيره بحرف التفسير بقوله: ﴿أن اعبدوا﴾ أي ما أمرتهم إلا بعبادة ﴿الله﴾ أي الذي لم يستجمع نعوت الجلال والجمال أحد غيره؛ ثم أشار إلى أنه كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنعمه فقال: ﴿ربي وربكم﴾ أي أنا وأنتم في عبوديته سواء، وهذا الحصر يصح أن يكون للقلب على أن دون بمعنى غير، وللإفراد على أنها بمعنى سفول المنزلة، وهو من بدائع الأمثلة.
ولما فهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا السؤال أن أتباعه غلوا في شأنه، فنزه الله سبحانه وعز شأنه من ذلك وأخبره بما أمر الناس به في حقه سبحانه من الحق، اعتذر عن نفسه بما يؤكد ما مضى نفياً وإثباتاً فقال: ﴿وكنت عليهم﴾ أي خاصة لا على غيرهم.
ولما كان سبحانه قد أرسله شاهداً، زاد في الطاعة في ذلك إلى أن بلغ جهده كإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال معبراً
366
بصيغة المبالغة: ﴿شهيداً﴾ أي بالغ الشهادة، لا أرى فيهم منكراً إلا اجتهدت في إزالته ﴿ما دمت فيهم﴾ وأشار إلى الثناء على الله بقوله: ﴿فلما توفيتني﴾ أي رفعتني إلى السماء كامل الذات والمعنى مع بذلهم جهدهم في قتلي ﴿كنت أنت﴾ أي وحدك ﴿الرقيب﴾ أي الحفيظ القدير ﴿عليهم﴾ لا يغيب عليك شيء من أحوالهم، وقد منعتهم أنت أن يقولوا شيئاً غير ما أمرتهم أنا به من عبادتك بما نصبت لهم من الأدلة وأنزلت عليهم على لساني من البينات ﴿وأنت على كل شيء﴾ أي منهم ومن غيرهم حيوان وجماد ﴿شهيد *﴾ أي مطلع غاية الاطلاع، لا يغيب عنك شيء منه سواء كان في عالم الغيب أو الشهادة، فإن كانوا قالوا ذلك فأنت تعلمه دوني، لأني لما بعدت عنهم في المسافة انقطع علمي عن أحوالهم.
367
ولما كان هذا الذي سلف كله سؤالاً وجواباً وإخباراً حمد الله تعالى وثناء عليه بما هو أهله بالتنزيه له والاعتراف بحقه والشهادة له بعلم الخفايا والقدرة والحكمة وغير ذلك من صفات الجلال والجمال، وكان هذا السؤال يفهم إرادة التعذيب للمسؤول عنهم مشيراً إلى الشفاعة فيهم على وجه الحمد لله سبحانه وتعالى والثناء الجميل عليه لأن العذاب ولو للمطيع عدل، والعفو عن المعاصي بأيّ ذنب كان فضل
367
مطلقاً، وغفران الشرك ليس ممتنعاً بالذات، قال: ﴿إن تعذبهم﴾ أي القائلين بهذا القول ﴿فإنهم عبادك﴾ أي فأنت جدير بأن ترحمهم ولا اعتراض عليك في عذابهم لأن كل حكمك عدل ﴿وإن تغفر لهم﴾ أي تمح ذنوبهم عيناً وأثراً ﴿فإنك أنت﴾ أي خاصة أنت ﴿العزيز﴾ فلا أحد يعترض عليك ولا ينسبك إلى وهن ﴿الحكيم *﴾ فلا تفعل شيئاً إلا في أعلى درج الإحكام، لا قدرة لأحد على تعقيبه ولا الاعتراض على شيء منه.
ولما انقضى جوابه عليه الصلاة والسلام على هذا الوجه الجليل، تشوف السامع إلى جواب الله له، فقال تعالى مشيراً إلى كون جوابه حقاً ومضمونه صدقاً، منبهاً على مدحه حاثاً على ما بنيت عليه السورة من الوفاء بالعقود: ﴿قال الله﴾ أي الملك المحيط بالجلال والإكرام جواباً لكلامه ﴿هذا﴾ أي مجموع يوم القيامة؛ ولما كان ظهور الجزاء النافع هو المقصود قال: ﴿يوم﴾ هذا على قراءة الجماعة بالرفع، وقراءة نافع بالنصب غير منون أيضاً لإضافته إلى متمكن بمعنى: هذا الذي ذكر واقع؛ أو قال الله هذا الذي تقدم يوم ﴿ينفع الصادقين﴾ أي العريقين في هذا الوصف نفعاً لا يضرهم معه شيء ﴿صدقهم﴾ أي الذي كان لهم في الدنيا وصفاً ثابتاً، فحداهم على الوفاء بما عاهدوا عليه، فكأنه قيل: ينفعهم بأيّ شيء؟ فقال: ﴿لهم جنات﴾ أي هي من ريّ الأرض الذي يستلزم زكاء الشجر وطيب الثمر بحيث ﴿تجري﴾ ولما كان تفرق المياه في
368
الأراضي أبهج، بعض فقال: ﴿من تحتها الأنهار﴾ ولما كان مثل هذا لا يريح إلا إذا دام قال: ﴿خالدين فيها﴾ وأكد معنى ذلك بقوله: ﴿أبداً﴾.
ولما كان ذلك لا يتم إلا برضى المالك قال: ﴿رضي الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿عنهم﴾ أي بجميع ما له من الصفات، وهو كناية عن أنه أثابهم بما يكون من الراضي ثواباً متنوعاً بتنوع ما له من جميع صفات الكمال والجمال؛ ولما كان ذلك لا يكمل ويبسط ويجمل إلا برضاهم قال: ﴿ورضوا عنه﴾ يعني أنه لم يدع لهم شهوة إلا أنالهم إياها، وقال ابن الزبير بعدما أسلفته عنه: فلما طلب تعالى المؤمنين بالوفاء فيما نقض به غيرهم، وذكّرهم ببعض ما وقع فيه النقض وما أعقب ذلك فاعله، وأعلمهم بثمرة التزام التسليم والامتثال، أراهم جل وتعالى ثمرة الوفاء وعاقبته، فقال تعالى
﴿وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أنت قلت للناس﴾ [المائدة: ١١٦] إلى قوله - ﴿هذا يوم ينفع الصادقين﴾ - إلى آخرها. فيحصل من جملتها الأمر بالوفاء فيما تقدمها وحالُ من حاد ونقض، وعاقبة من وفى، وأنهم الصادقون، وقد أمرنا أن نكون معهم ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾ [التوبة: ١١٩]- انتهى.
ولما كان سبحانه قد أمرهم أول السورة بالوفاء شكراً على ما أحل لهم في دنياهم، ثم أخبر أنه زاد الشاكرين منهم ورقاهم إلى أن أباحهم أجلّ
369
النفائس في أخراهم، ووصف سبحانه هذا الذي أباحه لهم إلى أن بلغ في وصفه ما لا مزيد عليه، أخذ يغبطهم به فقال: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي لا غيره ﴿الفوز العظيم *﴾.
ولما كان هذا الذي أباحه لهم وأباحهم إياه لا يكون إلا بأسباب لا تسعها العقول، ولا تكتنه بفروع ولا أصول، علل إعطاءه إياه وسهولته لديه بقوله مشيراً إلى أن كل ما ادعيت فيه الإلهية مما تقدم في هذه السورة وغيرها بعيد عن ذلك، لأنه ملكه وفي ملكه وتحت قهره: ﴿الله﴾ أي الملك الذي لا تكتنه عظمته ولا تضعف قدرته، لا لغيره ﴿ملك السماوات﴾ بدأ بها لأنها أشرف وأكبر، وآياتها أدل وأكثر ﴿والأرض﴾ على اتساعهما وعظمهما وتباعد ما بينهما ﴿وما فيهن﴾ أي من جوهر وعرض.
ولما كان ذلك أنهى ما نعلمه، عمم بقوله: ﴿وهو على كل شيء﴾ أي من ذلك وغيره من كل ما يريد ﴿قدير *﴾ فلذلك هو يحكم ما يريد لأنه هو الإله وحده، وهو قادر على إسعاد من شاء وإشقاء من شاء، وإحلال ما شاء وتحريم ما شاء، والحكم بما يريد ونفع الصادقين الموفين بالعقود الثابتين على العهود، لأن له ملك هذه العوالم وما فيها مما ادعى فيه الإلهية من عيسى وغيره، والكل بالنسبة إليه أموات،
370
بل موات جديرون بأن يعبر عنهم ب «ما» لا ب «من»، فمن يستحق معه شيئاً ومن يملك معه ضراً أو نفعاً! وقد انطبق آخر السورة على أولها كما ترى أي انطباق، واتسقت جميع آياتها أخذاً بعضها بحجز بعض أيّ اتساق؛ فسبحان من أنزل هذا القرآن على أعظم البيان! مخجلاً لمن أباه من الأمم، معجزاً لأصحاب السيف والقلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
371
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهمُ آدم والأم حواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة وأعظمُ خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهمُ في أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرىء ما كان يحسنه وللرجال علىلأفعال أسماء
وضد كل امرىء ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً فالناس موتى وأهل العلم أحياء