ﰡ
(وهي مكية حروفها ألف وثلاثة وخمسون كلماتها مائتان وأربعون آياتها ٣١)
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١ الى ٣١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤)إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤)
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩)
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
القراآت
سلاسلا بالتنوين والوقف بالألف: أبو جعفر ونافع وعلي وأبو بكر وحماد وهشام سَلاسِلَ في الحالين: ابن كثير وحمزة وخلف وسهل ويعقوب يصلون بغير ألف
بهمزتين. عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء: أبو جعفر ونافع وحمزة والمفضل الباقون:
بفتح الياء وضم الهاء خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ بالرفع فيهما وإستبرق بالخفض: ابن كثير والمفضل وأبو بكر وحماد. الآخرون: بالخفض فيهما وما يشاؤن على الغيبة: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو
الوقوف:
مَذْكُوراً هـ أَمْشاجٍ لا قد قيل يوقف عليه لئلا يوهم أن نَبْتَلِيهِ صفة له لأنه حال من خَلَقْنَا أي خلقناه مريدين ابتلاءه والوهم المذكور زائل لأن ضمير المفعول في نَبْتَلِيهِ واحد والأمشاج جمع. بَصِيراً هـ كَفُوراً هـ سَعِيراً هـ كافُوراً هـ ج لاحتمال أن يكون عَيْناً بدلا تَفْجِيراً هـ مُسْتَطِيراً هـ شُكُوراً هـ قَمْطَرِيراً هـ سُرُوراً هـ ج عَلَى الْأَرائِكِ ط لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف زَمْهَرِيراً هـ ج لما يعرف في التفسير تَذْلِيلًا هـ كانت قوارير هـ لا وقيل: بوقف عليه وليس به لأن الثانية بدل من الأولى تَقْدِيراً هـ زَنْجَبِيلًا هـ ج لما مر في كافُوراً سَلْسَبِيلًا هـ ج مُخَلَّدُونَ هـ بناء على أن حَسِبْتَهُمْ صفة الولدان والظرف عارض مَنْثُوراً هـ كَبِيراً هـ وَإِسْتَبْرَقٌ ك لاختلاف الجملتين مع أن وجه الحال في الواو واضح أي وقد حلوا فِضَّةٍ ج لأن الواو يحتمل الحال والاستئناف وهذا أولى لإفراد هذه النعمة العظيمة عن سائر النعم طَهُوراً هـ ط مَشْكُوراً هـ تَنْزِيلًا هـ ج للآية مع الفاء أَوْ كَفُوراً هـ أَصِيلًا هـ ج لما ذكرنا طَوِيلًا هـ ثَقِيلًا هـ أَسْرَهُمْ ج تَبْدِيلًا هـ تَذْكِرَةٌ ج سَبِيلًا هـ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ط حَكِيماً هـ والوصل أوجه بناء على أن الجملة صفة فِي رَحْمَتِهِ ط أَلِيماً هـ
التفسير:
اتفقوا على أن «هل» هاهنا وفي «الغاشية» بمعنى «قد» وهذا ما ذهب إليه سيبويه قال: وإنما تفيد معنى الاستفهام حيث تفيده لتقدير الهمزة، وإنما حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة، وإنما حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة، جواز إظهارها مع «هل» كقوله:
سائل فوارس يربوع بشدتنا | أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم؟ |
جئتك أقضي حقك أي لأقضي حقك. والمعنى جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه. ثم أخبر أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة أوضح له بواسطة أن آتاه العقل السليم سبيل
والمراد بالشكر الإقرار بالله وبالكفر إنكاره حتى لا يكون بين الفريقين واسطة. ويجوز أن يريد بالشاكر المطيع وبأهل الكفر كل من سواه كان كفرانه مطلقا وهو الكافر بالله، أو ببعض المعاصي وهو الفاسق. قوله سَلاسِلَ من قرأه بالتنوين فإنه صرفه لمناسبة. قال الأخفش: سمعنا من العرب صرف جميع مالا يصرف وهذه لغة الشعراء اضطروا إليه في الشعر فجرت ألسنتهم بذلك في النثر أيضا. وقيل: إنه مختص بهذه الجموع لأنها أشبهت الآحاد ولهذا جاز «صواحبات يوسف». وجوز في الكشاف أن يكون هذا التنوين بدلا من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف، ومثله وارِيرَ
فيمن قرأ بالتنوين، والاعتاد الإعداد، والسلاسل للأرجل والأغلال للأيدي والأبرار جمع برّ وبار. عن الحسن: هم الذين لا يؤذون الذّر مِنْ كَأْسٍ أي إناء فيه الشراب. وقال ابن عباس ومقاتل: هو الخمر بعينها، والمزاج ما يمزج به، والكافور اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعم الكافور ولا مضرته، والمضاف محذوف ماء كافور.
والحاصل أن ذلك الشراب يكون ممزوجا بماء هذا العين قيل: «كان» زائدة والأظهر أنها مفيدة ولكنها مسلوبة الدلالة على المضي كقوله وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: ١٧] عن قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك. وقيل: يخلق فيه رائحة الكافور وبياضه وبرده فكأنها مزجت بالكافور. قال جار الله: فقوله عَيْناً على هذين القولين بدل من محل كَأْسٍ على تقدير حذف مضاف كأنه قال: يشربون خمرا خمر عين، أو نصب على الإختصاص. ولا خلاف بين العلماء أن عباد الله في الآية مختص بالمؤمنين الأبرار فغلب على ظنهم أن العباد المضاف إلى اسم الله سبحانه مخصوص في اصطلاح القرآن بالأخيار، وعلى هذا يسقط استدلال المعتزلة بقوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: ٧] كما مر في أول الزمر. وإنما قال أولا يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ وآخرا يَشْرَبُ بِها لأن الكأس هي مبدأ شربهم وأما العين فإنما يمزجون بها شرابهم فالباء بمعنى «مع» مثل «شربت الماء بالعسل»
يروى عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله ﷺ في ناس معه فقال: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن أبرأهما الله يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهما شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة منها صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم يا أهل محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما. فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه. ووقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين إلى رسول الله ﷺ فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم. وقام وانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد لصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فاقرأه السورة.
ويروى أن السائل في الليالي جبرائيل أراد بذلك ابتلاءهم بإذن الله سبحانه.
ووصفهم الله سبحانه بالخوف من أهوال القيامة في موضعين أولا في قوله وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي مكروهه مستطيرا فاشيا منتشرا من استطار الحريق، ومنه الفجر المستطير وأصله من طار. والغرض أنه تسع مكاره ذلك اليوم جميع المكلفين حتى الأنبياء يقولون: نفسي
إلا نبينا محمد فإنه يقول «أمتي أمتي»
والسموات يتفطرن والكواكب ينتثرن إلى غير ذلك من المكاره والأهوال.
ولا ينافي هذا أمن المسلمين في الآخرة على ما قال لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء:
١٠٣] وثانيا في قوله إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً وإذا كان حال أهل بيت النبي ﷺ أو حال الأبرار على العموم في الخوف من الله إلى هذه الغاية فغيرهم أولى بالخوف. وأما الضمير في حُبِّهِ فللطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه كقوله لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
[آل عمران: ٩٢] وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر:
٩] وقال الفضيل بن عياض: أي على حب الله عز وجل نظير الآية قوله وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: ١٧٧] ومعنى المسكين واليتيم قد عرف مرارا، وأما الأسير فعن سعيد بن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. وعن أبي سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون.
وسمى رسول الله ﷺ الغريم أسيرا فقال «غريمك أسيرك فأحسن أسيرك» وقد سمى الزوجة أسيرا أيضا فقال «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم»
أي أسراء.
عن الحس: كان رسول الله ﷺ يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه.
وعند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. والإحسان إليهم في الحال إلى أن يرى الإمام فيهم ما يرى من قتل أو من أو فداء أو استرقاق، لا ينافي احتمال حكم الإمام عليهم بالقتل في المآل لأن سد خلتهم بالإطعام واجب على الفور وذلك يحتمل التراخي كما في حق من يلزمه القصاص ولم يكن له مال. ثم هذا الإطعام يجب أولا على الإمام فإن لم يفعله وجب على المسلمين. قال قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك فأخوك المسلم أحق أن تطعمه. ثم الإطعام ليس بواجب على التعيين ولكن الواجب مواساتهم بأي وجه كان. وإنما عبر عن ذلك بالإطعام لأن سبب النزول كان كذلك، ولأن المقصود الأعظم من أنواع الإحسان الطعام الذي به قوام البدن. يقال: أكل فلان مال فلان إذا أتلفه بأي وجه كان، وإن لم يكن بالأكل نفسه. قوله إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لرضاه خاصة. ولا بد من إضمار القول. ثم إن هذا القول يجوز أن يكون منهم باللسان منعا للسائل عن المجازاة بمثله، أو بالشكر ليقع إطعامهم خالصا لله. ويجوز أن يكون بنطق الحال. قال مجاهد: إما إنهم ما تكلموا بذلك ولكن الله علم ذلك منهم فكشف عن نيتهم وأثنى عليهم. وفيه تنبيه على ما ينبغي أن يكون عليه المطعم بل كل عامل من إخلاص عمله لله. عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا. والشكور مصدر كالكفور ولو فتحت أولهما عاد المعنى مبالغة في شاكر وكافر. قوله إِنَّا نَخافُ ظاهره أنه تعليل للإطعام ويجوز أن يكون تعليلا لعدم إرادة المجازاة. ووصف اليوم بالعبوس مجاز وذلك بطريقين أحدهما: أن يشبه في ضرره وشدته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل. والثاني أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء.
يروى أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران.
والقمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله بلاء وأصله الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه.
وفي الحديث «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر».
وعن ثعلب أن الزمهرير هو القمر بلغة طي واشتقاقه من الزهر، والمراد أن الجنة لضيائها لا تحتاج إلى شمس ولا قمر. قوله وَدانِيَةً ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج أنه معطوف على مُتَّكِئِينَ كما تقول في الدار عبد الله متكئا ومرسلة عليه الحجال، وإن جعلنا قوله لا يَرَوْنَ حالا صارت الأحوال ثلاثا والتقدير.
وجزاهم متكئين فيها على الأرائك غير رائين فيها هواء مؤذيا ودانية عليهم الظلال. ودخلت الواو في الثالثة للدلالة على الاجتماع كأنه قيل: وجزاهم جنة متكئين فيها على الأرائك جامعين فيها بين البعد عن الحر والبرد وبين الدنو من الظلال. ويجوز أن يكون دانِيَةً معطوفا على جَنَّةً لأنهم وصفوا بالخوف. وقد قال سبحانه وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: ٤٦] والتقدير: وجزاهم جنة أخرى دانية عليهم ظلالها. وقوله لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً من باب «علفتها تبنا وماء باردا» وذلك لأن الزمهرير لا يرى أي ولا ينالون زمهريرا وإن أريد بالشمس نكاية شعاعها وحرها فمعنى لا يرون لا ينالون، ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح في الدنيا وهو الضوء النوراني فإنه لا شمس هناك، فمعنى دنو الظلال أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة وقد أكد هذا المعنى بقوله وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي لا تمتنع على قطافها كيف شاؤا. وقال ابن قتيبة: ذللت أي أدنيت من قولهم «حائط ذليل» إذا كان قصيرا قال البراء ابن عازب: من أكل قائما لم يؤذه، ومن أكل جالسا ومضجعا أمكنه. وحين وصف طعامهم
٨٢] أي تكونت قوارير بتكوين الله والمراد تفخيم تلك الخلقة العجيبة الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. والضمير في قَدَّرُوها إما لأهل الجنّة أي إنها جاءت كما قدروا في أنفسهم حسب شهوتهم وحاجتهم، وإما للطائفين أي قدروا شرابها على مقدار ري كل أحد من غير زيادة ونقصان. وقريب منه قول مجاهد: لا تنقص ولا تفيض. وقال الربيع بن أنس: إن تلك الأواني تكون مقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها. قوله وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً أي في الجنة إناء مملوأ من الخمر، ويجوز أن يكون الضمير للأواني، والكأس الخمر نفسها والعرب تحب طعم الزنجبيل في المشروب وتستلذه ولذلك وصف الله مشروبهم في الآخرة بذلك. قال ابن عباس: وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم. أما السلسبيل فقد قال ابن الأعرابي: لم أسمعه إلا في القرآن. وقال الأكثرون اشتقاقه من السلاسة. يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ فكأن الباء واللام زيدتا للمبالغة حتى صارت الكلمة خماسية. ويرد عليه أن الباء ليست من حروف الزيادة. قال الزجاج: السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة. والفائدة في تسميتها بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته ولكن ليس فيها اللذاع الذي هو مناف للسلاسة.
وقد نسب إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه سل سبيلا إليها.
ووجه أن صحت الرواية بأنها حينئذ جملة سميت بها مثل «تأبط شرا» وسبب التسمية في الأصل أنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالإيمان والعمل الصالح. وفي بعض شعر المتأخرين:
سل سبيلا فيها إلى راحة النف | س براح كأنها سلسبيل |
كأن صغرى وكبرى من فواقعها | حصباء در على أرض من الذهب |
والمعنى أن الرائي أينما وجد الرؤية لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم وَمُلْكاً كَبِيراً أي واسعا هنيئا. و «ثم» ظرف مكان أشير به إلى الجنة.
روي أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام.
وقيل: الملك الكبير هو الذي لا زوال له. وقيل: هو أنه إذا أراد شيئا كان. ومنهم من حمله على التعظيم وهو أن يأتي الرسول بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ولا يدخل عليه رسول رب العزة وإن كان من الملائكة المقربين إلا بعد الاستئذان قاله الكلبي: وقال أهل العرفان: الملك الكبير هو اللذات الحقيقية والمعارف الإلهية والأسرار الربانية التي تستحقر عندها اللذات البدنية. وعن علي أنه قرأ مُلْكاً كَبِيراً بفتح الميم وكسر اللام هو الله. من قرأ عالِيَهُمْ بسكون الياء فعلى أنه مبتدأ وثِيابُ سُندُسٍ خبر أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس.
ومن قرأ بالنصب فعلى أنه ظرف بمعنى فوق فيكون خبرا مقدما. ويجوز أن يكون نصبا على الحال من ضمير الأبرار أي ولقاهم نضرة وسرورا. حال ما يكون عاليهم ثياب سندس. أو يطوف عليهم أي على الأبرار ولدان حال ما يكون عاليهم ثياب سندس. ويحتمل أن يكون العامل رَأَيْتَ والمضاف محذوف والتقدير رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس.
من قرأ خُضْرٌ بالرفع فظاهر، ومن قرأ بالجر فعلى الجوار أو على أنه صفة سندس بالاستقلال لأنه جنس فكان في معنى الجمع كما يقال: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض. وأما الرفع في إِسْتَبْرَقٌ فللعطف على ثياب، والجر للعطف على سندس.
وكلاهما ظاهر. قوله وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ إن كان الضمير للولدان فلا إشكال لأن أساور المخدومين تكون من ذهب كما قال سبحانه في مواضع يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف: ٣١] وأساور الخدام تكون من فضة. وإن كان الضمير للأبرار فلا إشكال
أولى لأن زيادة الشرّ شرّ. ولهذا قال الفراء: لا تطع واحدا منهما سواء كان آثما أو كفورا. ولو كان العطف بالواو كان نصا في النهي عن طاعتهما معا، ولا يلزم منه النهي عن طاعة كل منهما على الانفراد. وقد خص بعض المفسرين فقال: الآثم هو عتبة لأنه كان متعاطيا لأنواع الفسوق. والكفور هو الوليد لأنه كان شديد الشكيمة في الكفر.
يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولدا. وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالا. فقرأ عليهم رسول الله من أول «حم السجدة» إلى قوله فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فانصرفا عنه. وقال أحدهما: ظننت أن الكعبة ستقع.
وقال الحسن: الآثم هو المنافق، والكفور مشركو العرب، أمره بالصبر على التكاليف مطلقا. ثم قسمها إلى نهي وأمر على هذا الترتيب لأن التخلية مقدمة على التحلية. أما النهي فقد مر، وأما الأمر فأوله ذكر الله ولا سيما في الصلاة أول النهار وآخره وهو المراد بقوله بُكْرَةً وَأَصِيلًا ويشمل صلوات الفجر والظهر والعصر وأول الليل وهو المراد بقوله وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي وفي بعض الليل فصل له يعني صلاة المغرب والعشاء وأوسطه وهو المعنى بقوله وَسَبِّحْهُ أي وتهجد له طويلا من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه كما مر في «المزمل». ثم شرع في توبيخ المتمردين عن طاعته مستحقرا إياهم قائلا إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الدار الْعاجِلَةَ ونعميها الزائل وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا أي شديدا كقوله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ١٨٧] ثم بين كمال قدرته قائلا نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا
أي ربطهم وتوثيقهم ومنه أسر الرجل إذا أوثق بالقد وبه سمى القد أسرا. والمعنى ركبناهم تركيبا محكما وتقنا مفاصلهم بالأعصاب والربط والأوتار حسب ما يحتاجون إليه في التصرف لوجوه الحوائج وَإِذا شِئْنا أهلكناهم بالنفخة وبَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ في شدة الأسر عند النفخة الثانية. وقال جار الله: قيل معناه بدلنا غيرهم ممن يطيع وحقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: ٣٨] ممن يطيع إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم: ١٩] قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف لأن كل واحد من «إذا» «وإن» حرف الشرط. قلت: ما ذكره جار الله ليس طعنا في القرآن وإنما هو طعن في نفس ذلك القول بناء على أن «إذا» لا تستعمل إلا فيما كان مقطوع الوقوع كالإماتة بالنفخة الأولى والإحياء في النشأة الأخرى. أما الإهلاك على سبيل الاستئصال فذلك غير مقطوع به فلهذا ألا يحسن تفسير اللفظ به وتعين التفسير الأول، والمبادرة بالاعتراض قبل الفهم التام ليس من دأب العلماء المتقين فعجب من مثله ذلك. قوله إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ قد مر في «المزمل» والمقصود من إعادته أن هذه السورة بما فيها من الترتيب الأنيق تبصرة للمتأملين المتخذين إلى كرامة الله سبيلا بالطاعة والانقياد، وفيه دليل للقدري. وفي قوله وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إلى آخر السورة دليل للجبري والتوفيق بينهما مفوض إلى فهم أهل التوفيق وقدمنا فيه التحقيق. وانتصب الظَّالِمِينَ بفعل يفسره معنى أعد أو وعدت ونحوهما أوعد، وبالله التوفيق وإليه المصير والمآب.