تفسير سورة الأعلى

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآيات: (١- ١٩) [سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١ الى ١٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)
التفسير:
قوله تعالى:
«سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» «اسم ربك» أي الاسم الذي يدل على ذات الله سبحانه وتعالى، ولله سبحانه وتعالى أسماء كثيرة، ذكرها فى القرآن الكريم، كما ذكرها النبي الكريم، فى حديث رواه البخاري، وهو قوله صلوات الله وسلامه عليه «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا..»
1527
وأسماء الله تعالى، هى صفاته الموصوف بها، وهى وإن كانت مما قد نصف به ذواتنا، من العلم، والسمع، والبصر، والقدرة، وغيرها، إلا أن لله سبحانه كمال هذه الصفات، كمالا مطلقا، على حين أن ما نتداوله نحن من هذه الصفات هو فى حدود وجودنا المحدود، فيقال فلان حفيظ، وعليم، وقادر، وكريم، وهو فى هذه الصفات كائن بشرى محدود، واتصافه بها إنما هو بالإضافة إلى غيره، ممن هو أقل منه حفظا، أو علما، أو قدرة، أو كرما..
فالتسبيح باسم الله، هو ذكره سبحانه بكل ما له من الأسماء الحسنى، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (١٨٠: الأعراف) والمراد بالتسبيح باسم الله، هو التسبيح لذاته سبحانه وتعالى.. ولكن الذات العلية لا يمكن تصورها، وإنما الذي يمكن تصوره- مهما بالغنا فى هذا التصور- هو ما تتصف به الذات من صفات الكمال التي تتجلى فى أسمائه الحسنى.
وقوله تعالى «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» هو مما نذكره من صفات الله سبحانه وتعالى، حين نذكر اسمه الكريم: «الخالق».. فإذا ذكرنا اسم الله هذا، ذكرنا منه أن الله سبحانه هو المتفرد بالخلق، لا يشاركه أحد فيما خلق فى السماء أو فى الأرض.. وهو سبحانه الذي سوّى ما خلق، فأقام كل مخلوق على أتم صورة له وأكملها، كما أقام من هذه المخلوقات جميعها صورة مسوّاة محكمة للوجود كله «ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت» (٣: الملك) وقوله تعالى:
«وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى»
1528
أي وهو سبحانه الذي قدّر لكل مخلوق ما هو مناسب له، ملائم لوجوده، محتفظ له بمكانه بين المخلوقات.. «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (٥٠: طه) فكل مخلوق، من إنسان، أو حيوان، أو نبات، أو جماد- ميسر لما خلق له.. كما فى الحديث الشريف: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» قوله تعالى:
«وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» ومن آثار الخالق سبحانه وتعالى، أنه أخرج من الأرض ما يأكل منه الناس والأنعام.. فكل ما على الأرض من نبات، هو مرعّى للناس، وللحيوان، وأنه إذا كان الإنسان بعقله قد أدخل الصنعة على هذا المرعى، فاتخذ من الحبّ خبزا، ومن الفاكهة شرابا- فإن ذلك لا يخرج بهذا النبات عن أن يكون مرعى لنا وللأنعام، يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، وَالْجِبالَ أَرْساها، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» (٣٠- ٣٣ النازعات) فالناس والأنعام سواء أمام هذه المائدة الممدودة من فضل الله.
وقوله تعالى: «فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» - إشارة إلى أن هذا المرعى الأخضر، لا يثبت على حال واحدة، بل إنه يتنقل من حال إلى حال، فيتحول من الحياة والخضرة، إلى الجفاف، والموات، فيكون «غثاء» أي هشيما «أحوى» أي أسمر اللون، بعد أن يلوّحه الجفاف، ويذهب منه ماء الحياة الذي كان يسرى فى كيانه.. وهذا من إبداع القدرة، التي تبدي وتعيد.
قوله تعالى:
«سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى».
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه ﷺ فى أول السورة أن يسبح باسمه، وأن يذكره، وذلك بتلاوة آيات
1529
الله التي يتلقاها وحيا من ربه، فإن خير ذكر لله، هو بتلاوة آياته سبحانه وتعالى، ولهذا كان أول ما تلقاه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من ربه، هو قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» فهو مثل قوله تعالى:
«سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى».
ولما كانت هذه السورة- سورة الأعلى- من أوائل ما نزل من القرآن، فقد كان النبي الكريم يحرص أشد الحرص على أن يحفظ حفظا موثّقا كلّ ما يتلقى من وحي.. فلما حمى الوحى وبدأت آيات الله تنزيل عليه تباعا، خشى أن يثقل على حافظته حفظ ما يوحى إليه، ولهذا كان يسمع الآية من جبريل عليه السلام فيعيد تكرارها على لسانه حتى يثبت حفظها فى قلبه، فنزل عليه قوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»
(١٦- ١٩: القيامة).. ثم جاء قوله تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ».. وذلك ليقطع على النبىّ كل خاطر يخطر له من أن شيئا مما نزل عليه من آيات الله، يكون فى معرض النسيان يوما ما..
وفى قوله تعالى: «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» - إشارة إلى أن هذا الحكم المطلق المؤيد بعدم النسيان، هو رهن بمشيئة الله، وأن مشيئة الله مطلقة لا يقيدها شىء..
فلو شاء سبحانه أن يذهب بما حفظ النبىّ من آيات الله لذهب به، ولكنه، سبحانه لم يشأ، فهى مشيئة مقيدة بمشيئة، وكلا المشيئتين من الله، وإلى الله.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ»
1530
(٨٦: الإسراء) ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ هذه المشيئة! وبذلك يظل النبىّ مع هذا الوعد الكريم من ربه، على ثقة واطمئنان، بأن ما يتلقى من آيات ربه، سيكون محفوظا فى صدره، ثم هو فى الوقت نفسه لا يخلى نفسه من معاناة الحفظ، والتلاوة، ومراجعة ما حفظ، وذلك ليعطى وجوده حقه من الطلب والمعاناة، وإلا- وحاشاه- كان أشبه بآلة مسجلة، تملأ، ثم تدار، لتفرغ ما ملئت به..
ولهذا كان من بعض حكمة الله سبحانه فى نزول القرآن منجما، ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى: «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» وذلك بمعايشة كلمات الله، وقتا كافيا، تقرّ فيه فى صدر النبىّ، وتثبت بالحفظ، والمراجعة والمعاناة..
والدليل على ما ذهبنا إليه، ما ثبت من تاريخ القرآن، من أن النبىّ عليه الصلاة والسلام، كان يعرض على جبريل كلّ عام ما نزل عليه من القرآن، فلما كانت السنة التي توفى فيها النبىّ، عرض على جبريل القرآن كله، مرتين، وقيل ثلاث مرات، وذلك لتأكيد ما حفظ النبىّ وتوثيقه..
وهذا يعنى أن سنن الله الكونية- وهى من مشيئته وحكمته- قائمة أبدا، وأن الأخذ بالأسباب مطلوب فى كل حال، ومع كل مخلوق، حسب وجوده فى عالمه..
وقوله تعالى: «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى» هو تأكيد لهذا الوعد مع الاستثناء، وأن الله سبحانه، الذي وعد النبىّ بألا ينسى ما يحفظ، هو عالم الجهر والسر، وهو سبحانه الذي يملك خطرات النفوس، وخلجات الصدور، فيتصرف فيها كيف يشاء..
وقوله تعالى:
«وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى»..
1531
أي والله سبحانه وتعالى لا يشقّ عليك أيها النبىّ، ولا يكلفك ما لا تطيق، فهو ميسر لك أمرك جميعه، ومن أولى دلائل اليسر أنه أعانك على حفظ القرآن وتثبيته فى صدرك، فلا يذهب شىء منه.. ومن تيسيره عليك أنه جعل الشريعة التي أنت داع إليها وقائم بها شريعة يسر وسماحة، لا حرج فيها، ولا إعنات، كما يقول سبحانه: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ».. (٧٨: الحج) قوله تعالى:
«فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى»..
أي وبهذه الشريعة السمحاء ادع الناس إليها، وذكّر بها، ووجه القلوب والعقول إلى الله بها..
وقوله تعالى: «إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» - إشارة إلى أن يذكّر النبىّ ما وجد للذكرى نفعا، والذكرى لا تخلو من نفع أبدا، فإنها إذا لم تجد فى الناس من يستجيب لها، وينتفع بها، فإنها واجدة فيهم أيضا من يستجيب وينتفع، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» (٥٥: الذاريات).
وهذا يعنى أن النبىّ ﷺ لا يتخلّى عن مهمة التذكير أبدا..
فقيد الأمر بالتذكير، بنفع الذكرى قيد لازم، ومن لزوم هذا القيد أن يكون النبىّ مذكّرا بدعوته دائما، لأن مع كل ذكرى نفعا، وما دام النفع معها، فهى مطلوبة من النبىّ أبدا، وهو مذكر أبدا..
وقد اضطرب المفسرون فى تأويل هذه الآية، وفى تأويل القيد الوارد عليها فى هذا الشرط: «إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى»، وبدا لهم من ذلك أن النبىّ لا يذكّر إلا فى حال يكون فيها للذكرى نفع، فإن لم يكن فيها نفع، فلا تذكير!! والنبىّ مطلوب منه أن يذكّر دائما نفعت الذكرى أو لم تنفع.. فكيف يتفق
1532
هذا الدوام، مع هذا القيد، وهو التذكير فى حال النفع وحده؟
وقد ذهب المفسرون مذاهب شتى فى حل هذا الإشكال، وخرجوه على وجوه قلّبت فيها مذاهب النحو، واللغة، على جميع وجوهها، دون أن يحصلوا من ذلك على طائل، نستريح له ونطمئن إليه..
وقد رأيت كيف كانت نظرتنا إلى الآية.. فلعلك تجد فيها ما تطمئن إليه وتستريح له..
قوله تعالى:
«سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى»..
هو إشارة إلى أن الذكرى على أية حال نافعة، وأنه سيذكر بها من يخشى الله سبحانه وتعالى.. وأنه لن تخلو الإنسانية ممن يخشى الله ويتقيه، ويفتح قلبه للهدى المرسل فى آياته..
قوله تعالى:
«وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى»..
وهذا هو الوجه الآخر من الذكرى، وهو الوجه الذي لا يكون فيه منها نفع للأشقياء الذين غلبت عليهم شقوتهم، فحرموا التهدى إلى الهدى..
ووصف النار بأنها الكبرى- إشارة إلى أنها ليست كنار الدنيا مع شدة ضرامها، وقسوة حرارتها، وإنما هى نار تأكل نار الدنيا، فى شدة ضرامها، وقسوة حرارتها.
وقوله تعالى: «ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» - إشارة إلى أن الأشقياء الذين
1533
يلقون فى هذه النار، سيخلدون فيها، وهو خلود فى عذاب شديد- وقانا الله شره- وأن الحياة فى هذا العذاب ليست حياة يجد فيها الحي طعما للحياة، وليست موتا يستريح فيه من هذه الحياة.. فلا هو فى الأحياء، ولا فى الأموات، إنه فى حياة متلبسة بالموت، وفى موت ملبس بالحياة: «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» وهذا أقسى ألوان الحياة وأشدها..
قوله تعالى:
«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى»..
الذين لا تنفعهم الذكرى، هم الأشقياء الذين غلبت عليهم شقوتهم فلم تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق.. فكان مصيرهم النار، لا يموتون فيها ولا يحيون.. ذلك، على حين قد أفلح من تزكى، أي تطهر من أوضار الكفر والضلال، فآمن بالله، وذكر اسم ربه، وأقام الصلاة.
وقوله تعالى: «وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» - إشارة إلى أن الصلاة مرتبة على ذكر الله، فمن لم يذكر الله سبحانه، ويستحضر جلاله وعظمته فيما يذكر من أسمائه وصفاته- لا يخشع قلبه لله، ولا يصلّى له..
وفى ذكر الصلاة على أنها الأثر المترتب على ذكر الله- إشارة إلى أن الصلاة، بما فيها من ولاء، وخشوع، وركوع، وسجود، هى أكمل الوسائل وأعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، ومن هنا كانت رأس العبادات..
وملاك الطاعات.. وهى شريعة كل نبى، ودعوة كل رسول إلى قومه، بعد الإيمان بالله.. فيقول سبحانه عن إسماعيل: «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» (٥٥: مريم) ويقول سبحانه على لسان عيسى:
«وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (٣١: مريم).
وفى ذكر الله سبحانه وتعالى بالربوبية من بين أسمائه الكريمة كلها-
1534
إشارة إلى أن الذي يذكر الإنسان اسمه، هو مرييه، ومنشئه، والمنعم عليه بالإيجاد، والخلق على هذه الصورة السوية.
قوله تعالى:
«بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى».
هو إضراب عن هذا الخبر: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» - حيث لم يستجب له معظم الناس، ولم يدخل فيه أكثرهم، إذ قد آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وشغلوا بها عن ذكر الله، وإقامة الصلاة على تمامها وكمالها، فى إخلاص، وخشوع، وإخلاء القلب لها من هموم الحياة وشواغلها..
فإن الصلاة إذا لم تستوف أركانها، ولم يدخل فيها المصلى بعد ذكر الله، واستحضار جلاله وعظمته- كانت مجرد حركات، يخشع لها قلب، ولا تنتعش بها روح!! إنها إن لم تكن نفاقا مع الناس، كانت نفاقا مع الإنسان ونفسه واختيانا من الإنسان للأمانة التي اؤتمن عليها، ليؤديها إلى روحه، وقلبه، غذاء وضياء! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى وصف المنافقين: «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا»
(١٤٢:
النساء).
وهؤلاء الذين قصروا فى ذكر الله، وفى الصلاة القائمة على ذكر الله، قد بخسوا أنفسهم، لأنهم آثروا الفانية على الباقية، اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى».
قوله تعالى:
«إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى».
الإشارة هنا إلى ما تحدثت به الآيات السابقة، من أن من آثر الحياة
1535
الدنيا، واستغواه غيّها وضلالها، فإن النار مأواه، وأن من ذكر اسم ربه فصلى، فإنه من أهل الفوز والفلاح- فهذا الذي تحدثت به الآيات هو من الحقائق الكبرى الخالدة، التي حملتها كتب الأنبياء السابقين، ومنهم إبراهيم وموسى..
وفى اختيار إبراهيم وموسى من بين الأنبياء والرسل، إشارة إلى أن إبراهيم هو أبو الأنبياء، وشريعته من الشرائع الأولى، وعلى امتدادها جاءت شريعة موسى، ثم شريعة الإسلام..
(٨٨) سورة الغاشية
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الذاريات..
عدد آياتها: ست وعشرون آية.
عدد كلماتها: اثنتان وتسعون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وواحد وثمانون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «الأعلى» بالحديث عن الآخرة، وعن أنها الحياة الخالدة الباقية، التي تستحق أن يعمل الإنسان لها، ويؤثرها على الدنيا، إيثار الحقّ على الباطل، والعظيم على الحقير، والباقي على الفاني.. ولكن حب الدنيا قد غلب على أكثر الناس، فصرفوا همهم كله إلى الدنيا، ولم يعطوا الحياة الآخرة شيئا من وجودهم، فجاءوا إلى يوم القيامة، مفلسين معدمين، ليس فى أيديهم زاد لها، بل كل ما يحملون هو أوزار وآثام، وضلالات.. فكان الحديث
1536
Icon