تفسير سورة الهمزة

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الهمزة من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة الهمزة
أهداف سورة الهمزة
( سورة الهمزة مكية، وآياتها ٩ آيات، نزلت بعد سورة القيامة )
فكرة السورة
تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول، وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة، صورة اللئيم الصغير النفس، الذي يؤتي المال فتستطير نفسه به، حتى ما يطيق نفسه، ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة، القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار : أقدار الناس، وأقدار المعاني، وأقدار الحقائق. كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء، لا يعجز عن دفع شيء، حتى دفع الموت، وتخليد الحياة.
ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال، يعده ويستلذ تعداده، وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس، وهمزهم ولمزهم، وانتقاص قدرهم، وتحقير شأنهم. وهي صورة لئيمة من صور النفوس البشرية حين تخلو من المروءة. والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة، وقد نهى القرآن عن السخرية واللمز في مواضع شتى، إن أن ذكرها هنا بهذا التشنيع، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجاه المؤمنين، فجاء الرد عليها في صورة الردع والتهديد والوعيد.
أسباب النزول
قال عطاء والكلبي : نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم، وبخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويطعن فيه في وجهه.
وقال محمد بن إسحاق صاحب السيرة : ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف.
مع آيات السورة
١- ويل لكل همزة لمزة. ويل وعذاب شديد لكل سبّاب عيّاب، ينتقص الناس بالإشارة والحركة، والقول والفعل.
وبناء الصفة على فعلة يفيد كثرة وقوع الفعل، وجريانه مجرى العادة.
وعن مجاهد وعطاء : الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة الذي يغتاب من خلفه إذا غاب.
٢- الذي جمع مالا وعدّده. إن الذي دعا هذا وأمثاله إلى الحط من أقدار الناس، ظنه الخاطئ بأن جمع المال، والمبالغة في عدّه والمحافظة عليه، مما يرفع قدره، ويضمن له منزلة رفيعة، يستطيع بها أن يطلق لسانه في أعراض الناس، وأن يؤذيهم بالقول والفعل.
٣- يحسب أن ماله أخلده. إن حبه للمال أنساه الموت والمآل فهو يأنس بماله، ويظن أن هذا المال الذي أجهد نفسه في جمعه، وبخل به حتى على نفسه، ويحميه من الموت ويورثه الخلود.
٤- كلاّ لينبذنّ في الحطمة. لقد قابل القرآن بين كبريائه وتعاليه على الناس، وبين جزائه في الحطمة التي تحطم كل ما يلقى إليها، فتحطم كيانه وكبريائه.
٥- وما أدراك ما الحطمة. سؤال للتهويل والتعظيم، أي : أي شيء أعلمك بها ؟ فإن هذه الحطمة مما لا يحيط بها عقلك، ولا يقف على كنهها علمك، ولا يعرف حقيقتها إلا خالقها سبحانه وتعالى.
٦- نار الله الموقدة. إنها النار التي تنسب إلى الله الذي خلقها، وهي موقدة لا تخمد أبدا، ثم وصف هذه النار بعدة صفات فيها تناسق تصويري يتفق مع أفعال ( الهمزة اللمزة ).
٧- التي تطّلع على الأفئدة. إنها تصل إلى الفؤاد الذي ينبعث منه الهمز واللمز، وهي تتغلب على الأفئدة وتقهرها، فتدخل في الأجواف حتى تصل إلى الصدور فتأكل الأفئدة، والقلب أشد أجزاء الجسم تألما، فإذا استولت عليه النار فأحرقته فقد بلغ العذاب بالإنسان غايته.
والنار لا تصل إلى الفؤاد إلا بعد أن تأكل الجلود واللحوم والعظام، ثم تصل إلى القلوب، والأفئدة موطن الإحساس والاعتقاد، ومن لكمات عمر بن الخطاب للكفار :( حرق الله قلوبكم ). أي : أصابكم بأشد ألوان المحن والألم.
٨- إنها عليهم مؤصدة. إنها مطبقة عليهم لا يخرجون منها، ولا يستطيعون الفرار أو الهرب.
قال تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها... ( الحج : ٢٢ ).
٩- في عمد ممدّدة. العمد جمع عمود وهو معروف، والممددة : المطولة، أي أنه أطبقها عليهم وأغلقها في عمد طويلة، تمد على أبوابها بعد أن تؤصد، وهو تصوير لشدة الإطباق وإحكامه، وتأكيد اليأس من الخلاص.
قال مقاتل : إن الأبواب أطبقت عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح.
اللهم أجرنا من النار، ومن عذاب النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، بفضلك وكرمك يا عزيز يا غفار.
مقاصد السورة
١- من الناس من يرى مثله الأعلى جمع المال والتعالي على العباد، وهو نموذج سيء.
٢- الويل والعذاب ينتظران كل عيّاب وسبّاب.
٣- المال نعمة من الله، ولكن العمل الصالح هو الوسيلة النافعة.
٤- البخيل بالمال المتعالي على العباد له نار متقدة تحرق جسمه وتصل إلى فؤاده.
٥- هذه النار مغلقة عليه يظل حبيسا فيها أبد الآبدين.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ ويل لكل همزة لمزة ١ الذي جمع مالا وعدّده ٢ يحسب أنّ ماله أخلده ٣ كلاّ لينبذنّ في الحطمة ٤ وما أدراك ما الحطمة ٥ نار الله الموقدة ٦ التي تطّلع على الأفئدة ٧ إنها عليهم مؤصدة ٨ في عمد ممدّدة ٩ ﴾
المفردات :
ويل : خزي وهلاك وعذاب، وهو لفظ لا يستعمل إلا في الذم والقبح.
همزة : من ينتقص الناس بالقول.
لمزة : من يؤذي الناس بالفعل، فكلاهما طعّان عيّاب.
التفسير :
تمهيد :
ترسم سورة الهمزة صورة زرية لرجل عيّاب ينتقص الناس، ويعيبهم بالقول والإشارة.
التفسير :
١- ويل لكل همزة لمزة.
عذاب شديد لكل همّاز يعيب الناس، ويغضّ من أقدارهم، وينتقص من هممهم في حضورهم أو في غيبتهم، يفعل ذلك بالقول أو بالإشارة.
قال ابن عباس : همزة لمزة. طعّان عيّاب.
وقال الربيع بن أنس : الهمزة. يهمزه في وجهه. واللمزة : من خلفه.
وسئل ابن عباس مرة أخرى عن ( اللمزة اللمزة ) فقال : هو المشّاء بالنميمة، المفرّق بين الجمع، المغري بين الإخوان.
وقيل : نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم.
وقيل نزلت في أمية بن خلف، كان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبه.
وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم ويغضّ من قدره الشريف.
ولا يستبعد أن تكون قد نزلت في مجموعة، منها هؤلاء الثلاثة الذين دأبوا على السخرية والاستهزاء بالفضلاء، مع اليقين بأن اللفظ عام، يشمل كل من تنطبق عليه هذه الصفات، فالعبرة عموم اللفظ لا بخصوص السبب.
تمهيد :
ترسم سورة الهمزة صورة زرية لرجل عيّاب ينتقص الناس، ويعيبهم بالقول والإشارة.
المفردات :
الذي جمع مالا وعدده : شغف بجمع المال وعده والتكاثر فيه، لا ينفقه ولا ينتفع به.
التفسير :
٢- الذي جمع مالا وعدّده.
إنه حريص على جمع المال، وعلى عدّه مرة بعد أخرى، حبا له وشغفا به، وتهالكا عليه، وقيل : جعله أصنافا وأنواعا، كعقار ونقود وماشية، أو جعله عدة لمصائب الأيام وكوارث الدهر.
تمهيد :
ترسم سورة الهمزة صورة زرية لرجل عيّاب ينتقص الناس، ويعيبهم بالقول والإشارة.
المفردات :
يحسب : يظن.
أخلده : ضمن له الخلود في الدنيا.
التفسير :
٣- يحسب أنّ ماله أخلده.
يظن الجاهل أن ماله سيدوم له أبد الدهر، فنسى الموت والآخرة، والثواب والعقاب، ولم يؤدّ زكاة هذا المال، ولم يتبيّن الحقيقة، وهي أن مالك ما أنفقته في وجوه الخير والنفع، ورعاية الفقراء والمحتاجين، فهذا هو المال النافع، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، أما ما تتركه في الدنيا، ولم تكن أديت حق الله فيه فهو مال وارثك.
فهناك من يملك المال، وهناك من يملكه المال، أما من يملك المال فهو من يتقي الله في ماله بالزكاة وصلة الرحم، والعطف على الفقراء ومساعدة المحتاجين، أما من يملكه المال فهو النموذج المذكور في هذه السورة، الذي يجعل المال كل عدّته، وينسى الموت والحساب، ويظن أن ما عنده من المال قد حفظ له حياته التي هو فيها، وأوصدها عليه فهو لا يفارقها إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيء الأعمال.
تمهيد :
ترسم سورة الهمزة صورة زرية لرجل عيّاب ينتقص الناس، ويعيبهم بالقول والإشارة.
المفردات :
لينبذن : ليطرحن.
الحطمة : من أسماء النار لتحطيم المعذبين فيها.
التفسير :
٤- كلاّ لينبذنّ في الحطمة.
أي : ليرتدع هذا الهمزة اللمزة، كانز المال المعجب به، المنشغل بتعديده، فهو ليس مالكا للمال، بل هو عابد للمال، أو مملوك للمال، إن هذا النموذج الرديء سيرمى وينبذ نبذ النواة في جهنم، التي تحطم كل ما يلقى فيها وتلتهمه، لذلك سمّيت بالحطمة.
تمهيد :
ترسم سورة الهمزة صورة زرية لرجل عيّاب ينتقص الناس، ويعيبهم بالقول والإشارة.
التفسير :
٥- وما أدراك ما الحطمة.
تفخيم لشأنها، وتعظيم لأهوالها، أي : ما أعلمك بها ؟ إنها لا يحيط بها إلا الذي خلقها، إنها الحطمة التي تحطم العظام، وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب.
تمهيد :
ترسم سورة الهمزة صورة زرية لرجل عيّاب ينتقص الناس، ويعيبهم بالقول والإشارة.
المفردات :
الموقدة : المستعرة.
التفسير :
٦- نار الله الموقدة.
هي نار الله، المسعّرة بأمره وإرادته، ليست كسائر النيران، فإنها لا تخمد أبدا، إنها تتلمظ غيظا وغضبا على من عصى الله.
قال تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا. ( الكهف : ٥٣ ).
وروى الترمذي، عن أبي هريرة مرفوعا، والأصح أنه موقوف : أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمةi.
تمهيد :
ترسم سورة الهمزة صورة زرية لرجل عيّاب ينتقص الناس، ويعيبهم بالقول والإشارة.
المفردات :
تطلع على الأفئدة : القلوب التي استقرت فيها العقائد الفاسدة.
التفسير :
٧- التي تطّلع على الأفئدة.
أي : التي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب فتحرقها.
قال الشيخ محمد عبده :
وقد قيل : إن معنى الاطلاع ههنا المعرفة والعلم، أي أن هذه النار تعرف ما في الأفئدة، فتأخذ من تعرفهم أهلا لها من أهل الوجدان الخبيث، والنار التي تعرف من يستحق العذاب بها لا تكون من النيران المعروفة لنا في الدنيا بالضرورةii.
وقال محمد بن كعب : تأكل كل شيء من جسده، حتى إذا بلغت فؤاده، حذو حلقة، ترجع على جسدهiii.
تمهيد :
ترسم سورة الهمزة صورة زرية لرجل عيّاب ينتقص الناس، ويعيبهم بالقول والإشارة.
المفردات :
مؤصدة : مغلقة مطبقة.
التفسير :
٨- إنها عليهم موصدة.
إنها مغلقة على الكفار، ومطبقة عليهم، لا يستطيعون الخروج منها لو أرادوا ذلك.
قال تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها... ( السجدة : ٢٠ ).
تمهيد :
ترسم سورة الهمزة صورة زرية لرجل عيّاب ينتقص الناس، ويعيبهم بالقول والإشارة.
المفردات :
في عمد ممددة : قيل : هي القيود والأثقال، وقيل : العمد التي تتخذ لإيصاد أبواب جهنم على من فيها.
التفسير :
٩- في عمد ممدّدة.
أي : هم موثوقون في سلاسل وأغلال، تشد بها أيديهم وأرجلهم بعد إطباق أبواب جهنم عليهم، ثم إن إطباق الأبواب عليهم وإغلاقها يعقبه وضع أعمدة طويلة ممتدة على أبوابها، هو تصوير لشدة الإطباق وإحكامه، وتأكيد لليأس من الخلاص.
اللهم أجرنا من النار، ومن عذاب النار، ومن كل عمل يقربنا إلى النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، بفضلك وكرمك يا عزيز يا غفار.
***
تم تفسير سورة ( الهمزة ) منتصف ليلة الإثنين ١٩ من ربيع الأول ١٤٢٢ ه، الموافق ١١/٦/٢٠٠١ م.
والحمد لله حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه، كما يرضى ربنا ويحب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
i أوقد على النار ألف سنة :
رواه الترمذي في صفة جهنم ( ٢٥٩١ ) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت قم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ).
وقال الترمذي : حدثنا سويد أخبرنا عبد الله بن المبارك عن شريك عن عاصم عن أبي صالح أو رجل آخر عن أبي هريرة نحوه ولم يرفعه : قال أبو عيسى : حديث أبي هريرة في هذا موقوفا أصح، ولا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن أبي بكير عن شريك.
ii تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده دار ومطابع الشعب ص ١١٨.
iii مختصر تفسير ابن كثير ٣/٦٧٥.
Icon