تفسير سورة الهمزة

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الهمزة من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

١٠٤- سورة الهمزة
مكية، وآيها تسع.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الهمزة
مكية، وآيها تسع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الهمزة (١٠٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أي لكل من يطعن في أعراض الناس ويغتابهم أصله من الهمز بمعنى الكسر، ومن اللمز بمعنى الطعن، الحقيقيين. ثم استعيرا لذلك ثم صارا حقيقة عرفية فيه. قال زياد الأعجم:
تدلى بودّ إذا لاقيتني كذبا وإن أغيّب فأنت الهامز اللّمزة
وبناء (فعلة) يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها، لأنه من صيغ المبالغة والآية عني بها من كان مع المشركين بمكة، همازا لمازا. كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ [المطففين:
٢٩- ٣٠]، وقوله: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم: ١١] الآيات، فالسبب، وإن يكن خاصّا، إلا أن الوعيد عام، يتناول كل من باشر ذلك القبيح. وسرّ وروده عامّا، ليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه.
الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ أي أحصى عدده ولم ينفقه في وجوه البر.
قال الإمام: أي أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس، هو جمعه المال وتعديده. أي عده مرة بعد أخرى، شغفا به وتلذذا بإحصائه. لأنه لا يرى عزّا ولا شرفا ولا مجدا في سواه. فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة، بحيث يكون كل ذي فضل ومزية دونه. فهو يهزأ به ويهمزه ويلمزه. ثم لا يخشى أن تصيبه عقوبة على الهمز واللمز وتمزيق العرض. لأن غروره بالمال أنساه الموت وصرف عنه ذكر المآل فهو يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن أن ماله الذي جمعه وأحصاه، وبخل بإنفاقه، مخلده في الدنيا، فمزيل عنه الموت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الهمزة (١٠٤) : الآيات ٤ الى ٩]
كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨)
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩)
كَلَّا أي فليرتدع عن هذا الحسبان، فإن الأمر ليس كما ظن. بل لا بد أن يفارق هذه الحياة إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيّئ الأعمال، كما قال: لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ أي ليلقين وليقذفن يوم القيامة في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها. أي تكسره، وكلمة (النبذ) تفيد التحقير والتصغير وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ استفهام عنها لتهويل أمرها. كأنها ليست من الأمور التي تدركها العقول نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ أي هي النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه، لأنه هو منشئها في عالم لا يعلمه سواه.
قال أبو السعود: وفي إضافتها إليه سبحانه، ووصفها بالإيقاد، من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ قال ابن جرير: أي التي يطلع ألمها ووهجها على القلوب والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى. حكي عن العرب سماعا (متى طلعت أرضنا) و (طلعت أرضي) بلغت.
وقال الزمخشري: يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب. ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى يمسه. فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه!! ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة. أو تطالع، على سبيل المجاز معادن موجبها إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي مغلقة مطبقة لا مخلص لهم منها فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ صفة لمؤصدة، أو حال من الضمير المجرور. وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله: والمعنى أنه يؤكد يأسهم من الخروج، وتيقنهم بحبس الأبد، فتؤصد عليهم الأبواب، وتمدد على العمد، استيثاقا في استيثاق. ويجوز أن يكون المعنى أنها عليهم مؤصدة، موثقين في عمد ممددة، مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص.
و (المقاطر) جمع (مقطرة) بالفتح، وهي جذع كبير فيه خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم (وتقطر) أي يجعل كلّ بجنب آخر و (عمد) قرئ بضم العين والميم وفتحهما.
قال ابن جرير: وهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من
540
القراء. ولغتان صحيحتان. والعرب تجمع العمود عمدا وعمدا، بضم الحرفين وفتحهما، كما تفعل في جمع إهاب تجمعه أهبا وأهبا.
تنبيه:
قال القاشاني في بيان آفات رذيلتي الهمز واللمز اللتين نزلت في وعيدهما السورة، ما مثاله: الهمز أي الكسر من أعراض الناس واللمز أي الطعن فيهم، رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكبر. لأنهما يتضمنان الإيذاء وطلب الترفع على الناس. وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس، ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها.
فينسب العيب والرذيلة إليهم، ليظهر فضله عليهم. ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة.
فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية.
ثم قال: وفي قوله تعالى: وَعَدَّدَهُ إشارة أيضا إلى الجهل. لأن الذي جعل المال عدة للنوائب، لا يعلم أن نفس ذلك المال يجر إليه النوائب. لاقتضاء حكمة الله تفريقه في النائبات، فكيف يدفعها؟ وكذا في قوله: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي لا يشعر أن المقتنيات المخلدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسانية الباقية، لا العروض والذخائر الجسمانية الفانية ولكنه مخدوع بطول الأمل، مغرور بشيطان الوهم عن بغتة الأجل. والحاصل أن الجهل الذي هو رذيلة القوة الملكية، أصل جميع الرذائل، ومستلزم لها. فلا جرم أنه يستحق صاحبه المغمور فيها، العذاب الأبديّ المستولي على القلب المبطل لجوهره.
541
Icon