تفسير سورة الأنبياء

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب تفسير الشعراوي المعروف بـتفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1418 هـ

والاقتراب: إما أن يكون زمناً أو مكاناً، فإذا كانت المسألة في مسافات قلنا: اقترب للناس حسابهم يعني مكانه. وإذا كانت للزمن قلنا: اقترب زمنه. فالاقتراب: دُنُو الحدث من ظرفية زماناً أو مكاناً.
والحق سبحانه حينما يُعبِّر بالماضي ﴿اقترب﴾ [الأنبياء: ١] يدل على أن ذلك أمر لازم وسيحدث ولا بُدَّ، والبشر حينما يتحدثون عن أمر مقبل يقولون: يقترب لا اقتربَ؛ لأن اقتربَ هكذا بالجزم والحكم بأنه حدثَ فعلاً لا يقولها إلا الله الذي يملك الأحداث ويقدر
9471
عليها، أما الإنسان فلا يملك الأحداث، ولا يستطيع الحكم على شيء لا يملكه بعد أن يتلفظ بهذا اللفظ.
ومثال ذلك في قوله تعالى: ﴿أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ... ﴾ [النحل: ١] فلا يُقال لك: لا تستعجل شيئاً إلا إذا كان لم يحدث بَعْد: فكيف - إذن - جمع بين الماضي ﴿أتى... ﴾ [النحل: ١] والمستقبل ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ..﴾ [النحل: ١].
قالوا: أنت ممنوع أن تحكم بمُضيٍّ على أمر مستقبل؛ لأنك لا تملك نفسك، ولا تملك ظروف المستقبل، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله... ﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤].
لا بُدَّ أن تُردف هذا القول بالمشيئة؛ لأن قولك «سأفعل ذلك غداً» قضيةٌ يدعوك للفعل والقدرة التي تُعينك أن تفعل.
وهذه كلها عناصر لا تملك أنت شيئاً منها، وربما جاء غَدٌ فتغيَّر عنصر من هذه العناصر، وحال بينك وبين ما تريد، فينبغي أن تُبرِّيء نفسك من احتمال الكذب فتقول: إن شاء الله وتردُّ الأمر إلى القادر عليه الذي يملك كل هذه العناصر، وكأن ربك يُعلِّمك ألا تكون كاذباًَ.
لذلك نجد أن اللغة قد راعتْ قدرة المتكلم، ووضعتْ له الزمن المناسب، فإنْ علمتَ حدوث العفل قُلْ بالماضي: حضر فلان، انتهت القضية، فإنْ علمتَ أنه توجه للحضور واستعدَّ له قُلْ: سيحضر فلان أي قريباً، أو سوف يحضر أي: بعد ذلك.
9472
هذا الذي يناسب قدرة البشر. أما الحق سبحانه فيملك زمام الأشياء وتوجيهها، وكلّ شيء مرهون بأمره التكويني، فإنْ قال للأمر المستقبل: أتى أو اقترب فصدِّق؛ لأنه لا شيء يُخرج الأمر عن مراده تعالى، وهو وحده الذي يملك الانفعال لكلمة كُنْ، فإنْ قالها فَقد انتهتْ المسألة.
لذلك يقول سبحانه: ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... ﴾ [الأنبياء: ١] بصيغة الماضي ولم يقل: يقترب أو سيقترب؛ لأن المتكلم هو الله.
وقد ورد الماضي (قترب) أيضاً في قوله تعالى: ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر﴾ [القمر: ١].
وفي قوله تعالى ﴿واسجد واقترب﴾ [العلق: ١٩] فاقترب غير قَرُب، قرُب: يعني دنا، أما اقترب أي: دنا جداً حتى صار قريباً منك.
والحساب: كلمة تُطلَق إطلاقات عِدّة، فالحساب أنْ تحسب الشيء بالأعداد جمعاً، أو طرحاً، أو ضَرْباً، وتدير حصيلة لك أو عليك، فإنْ كانت لك فأنت دائن، وإنْ كانت عليك فأنت مدين.
أو تربط المسبِّبات بأسبابها.
وهناك أمور تأتي بغير حساب، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] فهذه مسألة لا تستطيع ضبطها، والله لا يُسأل: أعطاني زيادة أم نقصاناً.
أما الحساب في ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... ﴾ [الأنبياء: ١] فيقتضي مُحَاسباً هو الله عَزَّ وَجَلَّ، ومُحاسَباً هم الناس، ومُحَاسَباً عليه وهي الأعمال والأحداث التي أحدثوها في دنياهم، وهذه قسمان: قسم قبل أنْ يُكلَّفوا، وقسم بعد أن كُلِّفوا.
9473
ما كان قبل التكليف وسِنِّ البلوغ لا يحاسبنا الله عليه، إنما تركنا نمرح ونرتع في نعمه سبحانه دون أن نسأل عن شيء، أما بعد البلوغ فقد كلَّفنا بأشياء تعود علينا بالخير، وألزمنا المنهج الذي يضمن سعادتنا «بافعل» و «لا تفعل» وهذا يقتضي أن نحاسب، فعلنا، أم لم نفعل.
إذن: المسألة حساب، ليست جُزَافاً، جماعة في الجنة وجماعة في النار، وقوله سبحانه في الحديث القدسي: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي» بِناءً على علمه تعالى بما يُؤدُّونه وقت الحساب، ففي علم الله ما فعلوا وما تركوا.
ولا تنْسَ أن المحاسب في هذا الموقف هو الله، فإنْ كان الحساب في الخير عاملك بالفضل والزيادة كما يشاء سبحانه؛ لذلك يضاعف الحسنات، وإنْ كان الحساب في الشر كان على قَدْره دون زيادة، كما قال تعالى: ﴿جَزَآءً وِفَاقاً﴾ [النبأ: ٢٦].
وما دام المحاسب هو الله سبحانه وتعالى، وهو لا ينتفع بما يقضيه على الخَلْق، فمن رحمته بِنَا ونعمته علينا أنْ حذَّرنا من أسباب الهلاك، ولم يأخذنا على غَفْلة، ولم يفاجئنا بالحساب على غِرّة، إنما أبان لنا التكاليف، وأوضح الحلال والحرام، وأخبرنا بيوم الحساب لسنتعدَّ له، فلا نسير في الحياة على هوانا.
فقال سبحانه: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧ - ٨].
9474
فمن رحمته تعالى بعابده أنْ وعدهم هذا الوعد، وعرفهم هذا الميزان وهم في سَعَة الدنيا، وإمكان تدارك الأخطاء، واستئناف التوبة والعمل الصالح، من رحمته بنا أنْ يعِظَنا هذه الموعظة ويكررها على أسماعنا ليلَ نهارَ.
إذن: ما أخذنا ربنا على غِرَّة، ولم تُفاجئْنا القيامة بأهوالها، فمن الآن اعلم ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... ﴾ [الأنبياء: ١] وما دام الأمر كذلك فعلى الإنسان أن يُقَدِّر قَدْر الاقتراب، ومتى سينتقل إلى يوم الحساب، ولا تظن أن عُمرك هو عمر الدنيا منذ خلقها الله، إنما عمرك ودنياك على قَدْر مُكْثك فيها، وهو مُكْث مظنون غير مُتيقَّن، فمن الخَلْق من عمَّر دهراً، ومنهم مَنْ مات في بطن أمه. إذن: لا تُؤجِّل لأنك لا تدري، أيمهلك الأجل حتى تتوب؟ أم يُعاجلك فتُؤخذ بذنبك؟
والحق سبحانه يقول: ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... ﴾ [الأنبياء: ١] مع أن الساعة مازالت بعيدة، وبيننا وبين القيامة مَا لا يعلمه إلا الله.
فكيف ذلك؟
قالوا: لأن الحساب إنما يكون على الأعمال، والأعمال لها وقت هو الدنيا، فَمنْ مات فقد انقطع عمله، واقترب وقت حسابه؛ لأن المدة التي يقضيها في القبر لا يشعر بها، فكأنها ساعة من نهار.
فإنْ قُلْت: من الناس مَنْ يعيش مائة عام، ومائة وخمسين عاماً. نقول: هذا شيء ظنيّ لا نضمنه، والإنسان عُرضة للموت في أيِّ لحظة لسبب أو دون سبب.
ونلحظ في قوله تعالى: ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... ﴾ [الأنبياء: ١] فقال (للنَّاسِ) مع أن الحساب لهم وعليهم، فهل معنى (للناس)
9475
أي: لمصلحتهم؟ لا يبدو ذلك؛ لأنه قال بعدها: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ١].
إذن: الحساب ليس في مصلحتهم إنما الحساب عليهم، إذن: كيف يكون ف مثل هذا السياق ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... ﴾ [الأنبياء: ١] ما دام الأمر على الكفار؟ كان المفروض أن يقول: اقترب على الناس حسابهم.
نقول: هذا إذا أخذتَ اللام للحساب، إنما اللام هنا للاقتراب، لا للحساب، أي: اقترب من الناس، إنما الحساب لهم أو عليهم، هذه مسألة أخرى.
وقوله: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ١] الغفلة معناها: زحزحة الشيء عن بال الواجب أَلاَّ يزحزح عنه، فكان الواجب أنْ يتذكره ولا يغفل عنه، والغفلة غير النسيان؛ لأن الغفلة أن تهمل مسألة كان يجب ألاَّ تهمل، وألاَّ تغيب عن بالك، أما النسيان فخارج عن إرادتك.
وغفلتهم هنا عن أصل وقمة الدين، وهو الإيمان بالألوهية، فإن آمنتَ بالألوهية فالغفلة عن الأحكام التي جاء بها الدين، وهذه هي المعاصي، والكلام هنا عن الكافرين بدليل قوله بعدها: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ... ﴾ [الأنبياء: ٢] والغفلة عن الربِّ الأعلى مثلها الغفلةَ عن حكم الرب الأعلى، وفَرْق ين غَفْلة وغَفْلة.
وقد حدَّثَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صحابته عن هذه الغفلة، كما روى سيدنا حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. حدثنا (أن الأمانة نزلت في جِذَرْ قلوب الرجال)
9476
والأمانة هي الإيمان الحق بالله، أي: حَلَّ الإيمان، واستقر في القلب، ونطقنا بالشهادة (ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السُّنة) ثم حدَّثنا عن رَفْع الأمانة فقال: (ينام الرجل النومة، فتُقبض الأمانة من قلبه) أي: يغفل (فيظل أثرها مثل أثر الوكت) الوكت: مثل سيجارة مثلاً تقع على الجلد فلسعته، فيتغير لونه (ثم ينام النومة) أي: مرة أخرى (فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل) والمجل: جمرة النار (فنفط فتراه منتبراً عالياً، وليس به شيء) أي: انتفخ (فيصبح الناس) أي: بعد رفع الأمانة (يتابعون فلا يكاد يوجد أحد منهم يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً) لندرة الأمانة بين الناس.
ثم يقول الراوي: (وقد مر عليَّ زمان ما كنت أبالي أيكُم بايعت، فلئن كان مسلماً ليردنَّه عليَّ دينه) يعني: إنْ غشَّني في شيء أو حدث خطأ ما في البيع (ولئن كان يهودياً أو نصرانياً ليردنَّه عليَّ ساعيه) أي: الناس المكلفون بمراقبة الأسواق، وهم أهل الحِسْبة، فإنْ رأَوْا عِشّاً منعوه، وردوا إلى صاحب الحق حقه (وأما الآن فأنا لا أكاد أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً) فإنْ كان هذا في أيامهم فما بال أيامنا؟
وصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «الناس كإبل مائة لا تجد فيها
9477
راحلة» أي: رَغْم كثرتها لا تجد فيها جملاً يحمل رَحْلك ويحملك.
وفي رواية أخرى: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عوداً» أي: كنسج الحصير، عُوداً بعد عود، حتى تتم الحصيرة، ثم يكون الرَّان على القلب.
فغفْلة هؤلاء غَفْلة عن القمة، وعن الألوهية، لا عن التكاليف؛ لأنهم ليسوا مؤمنين بالمكلّف سبحانه.
وقوله تعالى: ﴿مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ١] تدل على الافتعال أي: أنهم مفتعلون هذا الإعراض؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ....﴾.
9478
أي: ذكر من القرآن ﴿مُّحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: ٢] يعني: يسمعونه جديداً لأول مرة ﴿إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنبياء: ٢] لا يعطونه اهتماماً، ولا يُلْقون له بالاً، وهم يتعمدون هذا، ويُوصِي بعضهم
9478
بعضاً به ويُحرّضون عليه، كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى حكاية عنهم: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: ٢٦].
إنهم يخافون إنْ سمعوا القرآن أنْ يتأثروا به فيؤمنوا؛ لذلك لا تسمعوه، بل شَوِّشوا عليه حتى لا يسمعه أحد في هدوء واطمئنان فيؤمن به. وهذا يعني أن هذا العمل في مصلحتهم؛ لأنهم لا يستطيعون رَدَّ حُجَج القرآن ولا الثبات أمام إعجازيته ولا بلاغته ولا تأثيره على النفوس، فهُمْ لا يملكون إلاَّ أنْ يصرفوا الناس عن سماعه، والتشويش عليه، حتى لا يتمكّن من الأسماع، وينفذ إلى القلوب، فيخالطها الإيمان.
واللعب: أن تشغل نفسك بعمل لا قَصْدَ فيه لغاية، كما يأخذ الطفل الصغير كراسة أخيه، ويعبث فيها بالقلم دون نظام ودون هدف.
وهناك أيضاً اللهو: وهو عمل مقصود لغاية، لكن هذه الغاية تضعها أنت لنفسك، أو يضعها غيرك ممَّنْ يريد أنْ يُفسِدك بها، إذن: هو عمل مقصود وله غاية، ليس مجرد (شخبطة) كمَنْ ينشغل مثلاً برسم بعض الصور للتسلية، أو ينشغل بحلِّ الكلمات المتقاطعة، فهي أعمال لا فائدة منها.
أما العمل النافع الذي ينبغي أن ينشغل الإنسان به فهو الذي يضعه لك مَنْ هو أعلى منك، وأنْ يكون حكيماً مُحباً لك، وهذه المواصفات لا تجدها إلا في الإله، لذلك كل ما يُلهِيك عَمَّا يضعه لك إلهك فهو لَهْو؛ لأنه شَغَلك عما هو أهَمّ.
لذلك يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ... ﴾ [محمد: ٣٦].
9479
فاللعب في مرحلة الطفولة، بل نأتي نحن باللُّعب ونقول للطفل: العب، إنما اللهو أن تنشغلَ بعمل مقصود وله غاية لكنها تلهيك عن غاية أسمى هي التي وضعها لك الحكيم القادر الأعلى منك المحبّ لك.
إذن: منتهي اللهو واللعب أن يلعبوا عند سماع القرآن، فلم يستمعوا له، حتى على أنه لهو له غاية، إنما على أنه لَعِبٌ لا غاية له ولا فائدةَ منه؛ لأن غايته ضارّة.
واللعب وإنْ كان مُباحاً في فترة ما قبل البلوغ، إنما القلوب يجب أن تُربَّى على أنْ تلتفت إلى الله عَزَّ وَجَلَّ الخالق الرازق في هذه الفترة المبكرة من حياة الإنسان، وهذه مهمة الأب، فإنْ أتى لولده بطعام أو شراب يقول أمام الولد الصغير: ربنا رزقنا به. وهكذا في كل أمور الحياة يسند الأمر إلى الله وينبه الولد الصغير: قل: بسم الله قل: الحمد لله.
وهكذا تُربِّى في الولد مواجيده على اليقين بالله القوي، وإنْ كان الولد لا يراه فإنه يرى آثاره ونِعَمه.
ويرى أباه الذي يتعهده، ويأتي له بكل شيء لا يتصيّد المجد لنٌفسه، إنما ينسب كل شيء إلى الله.
فأبوه - وهو المثل الأعلى له - يزحزح هذه المسائل عنه وينسبها لله، فيتربى وجدانُ الولد على الإيمان. فإذا لم يُرَبَّ الولد هذه التربية تسلل إلى نفسه اللَّهْو واللَّعِب.
وسبق أن قلنا: إن كُلَّ فعل من الأفعال لا بُدَّ أنْ ينشأ عن مَوْجدة من المواجيد، ولا ينشأ الفعل دون مَوجدة إلا فعل المجنون، والقلوب هي التي تُوجِّه الجوارح، ولو لم تكُنْ القلوب لاهية ما لعبت الجوارح.
9480
لذلك سيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حينما دخل على رجل يعبث بذقنه هو يصلي - كما يفعل الكثيرون - قال: لو خشعَ قلبُ هذا لخشعتْ جوارحه. فحركة الجوارح دليل على انشغال القلب؟ لذلك يقول تعالى بعدها: ﴿لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى... ﴾.
9481
ويا ليت كلاً منهم يفعل هذا الفعل في نفسه، إنما يتآمرون جميعاً على الحق ليفسدوه باللعب واللهو ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى... ﴾ [الأنبياء: ٣] أي: يتناجَوْن في الإثم، ويُسِرُّونه يعني: يجعلونه سِراً. والنَّجْوى أو التناجي: خَفْضِ الصوت، كما جاء في قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ... ﴾ [المجادلة: ٧].
فلا تظنوا أنكم مستورون عن الله، أو تُخْفون عنه شيئاً. وتلاحظ في ارتقاءات العدد في هذه الآية أنها لم تذكر اثنين، فبدأت من العدد ثلاثة؛ لأنه عادةً لا تكون النجوى بين الاثنين، إنما تكون بين الثلاثة، حيث يتناجى اثنان حتى لا يسمع الثالث.
كما أنها لم تذكر الأعداد بالترتيب، فلم تَقُلْ مثلاً: ولا أربعة إلا هو خامسهم؛ ذلك لأن الآية لا تقصد الترتيب العددي، إنما تعطيك مجرد أمثلة ونماذج من الأعداد.
9481
وكذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول... ﴾ [المجادلة: ٨].
وما داموا يُخْفون كلاماً ويُسِرُّونه، فلا بُدَّ أنه مخالف للفطرة السليمة، ولو كان حقّاً لَقالُوه علانية، فالنجْوى دليلُ اتهامهم في العقل، وفي القلب، وفي كل شيء.
أما قوله تعالى في شأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً... ﴾ [المجادلة: ١٢].
وهل كان الصحابة يُحدِّثون الرسول سرَّاً؟ لا بل هنا إشارة أخرى أوضحها قوله تعالى: ﴿لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً... ﴾ [النور: ٦٣].
فالمراد ألاّ نرفع أصواتنا في حضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يحدث مِنّا حين يُكلِّم بعضنا بعضاً، بل نُكلِّمه كلام المهيب، ونلتزم معه الأدب والخشوع.
وقوله تعالى: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ..﴾ [الأنبياء: ٣] هل (الذين) هنا هي الفاعل لأسرُّوا؟ القاعدة النحوية: إذا تقدم أكلوا على الفاعل لقال: وأَسَرَّ الذين ظلموا، إنما جاء الفاعل (واو الجماعة) ثم الاسم الموصول (الذين) بعدها فليست هي الفاعل، وليست هذه من لغات العرب الصحيحة.
فكأن سائلاً سأل: ومَن الذي أسَرَّ؟ فأجاب: (الّذِينَ ظَلَمُوا)
9482
وكلمة (ظَلَمُوا) عامة في الظلم، فقد ظلموا أنفسهم أولاً؛ لأن ظلمهم عائد عليهم بالعذاب، وظُلْم نفسه ناشيء من أنه ظلم الحق الأعلى ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
ثم ظلم الناس في أمور أخرى وفي حقوق لهم، لكن جاءتْ (ظلموا) عامة؛ لأن الظلم الواحد سيشمل كل أنواع الظلم، وما دام قد وصل به الأمر إلى أنْ ظَلَم الله فلا غرابةَ أنْ يظلم ما دونه تعالى.
فما النجوى التي أسرَّهَا القوم؟ ومَنْ أخبر رسول الله بها؟
النجوى قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: ٨].
فكيف عرف محمد هذه المقولة، وقد قالوها في أنفسهم وأسرُّوها؟ ألم يكُن على هؤلاء أن يتنبَّهوا: كيف عرف محمد مقولتهم؟ وأن الذي أخبره بما يدور هو ربُّه الإله الأعلى، الذي لا تَخْفى عليه خافية، كان عليهم أن يلتفتوا إلى رب محمد، الله الإله الحق الذي يعلم خَبْءَ كل شيء فيرتدعوا عَمَّا هم فيه، وبدل أنْ يشغلوا عقولهم بمسائل الشرك ينتهوا بها إلى الإيمان.
ومما جاء في تناجيهم ﴿هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ..﴾ [الأنبياء: ٣] إذن: أنكروا أن يكون رسولاً لأنه بشر، والرسول لا بُدَّ أن يكون ملكاً ﴿أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٣] فسمُّوا القرآن سحْراً، لأنهم يروْنَ السحر يُفرِّق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه ﴿وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٣] أن القرآن يفعل مثل هذا.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء... ﴾.
9483
كأن سائلاً قال: من أين لك يا محمد بكل هذا وقد أسرّه القوم؟ ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض... ﴾ [الأنبياء: ٤] فلا تَخْفى عليه خافية ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ [الأنبياء: ٤] السميع لما يُقال ويُسر العليم بما يُفعل، فالأحداث أقوال وأفعال.
ومما قالوه أيضاً: ﴿بَلْ قالوا أَضْغَاثُ... ﴾.
(بَلْ) تعني أنهم تمادَوْا، ولم يكتفو بما قالوا، بل قالوا أيضاً ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ [الأنبياء: ٥] وأضغاث: جمع ضِغْث، وهو الحزمة من الحشيش مختلفة الأشكال، كما جاء في قصة أيوب عليه السلام: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ... ﴾ [ص: ٤٤] أي حزمة من أعواد الحشيش.
ووردْت أيضاً في رُؤْيا عزيز مصر: ﴿قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ﴾ [يوسف: ٤٤].
وقوله ﴿بَلِ افتراه... ﴾ [الأنبياء: ٥] أي تمادَوْا فقالوا: تعمد كذبه واختلافه ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ... ﴾ [الأنبياء: ٥] إذن: أقوالهم واتهاماتهم لرسول الله متضاربة في ماهية ما هو؟ وهذا دليل تخبطهم، فمرة ينكورن أنه من البشر، ومرة يقولون: ساحر، ومرة يقولون: مفتر، والآن يقولون: شاعر!!
وقد سبق أنْ فنَّدنا كل هذه الاتهامات وقلنا: إنها تحمل في
9484
طياتها دليل كذبهم وافترائهم على رسول الله.
ثم يقولون: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون﴾ [الأنبياء: ٥] كأن آية القرآن ما أقنعتْهم، فلم يكتفُوا بها، ويطلبون آية أخرى مثل التي جاء بها السابقون، والقرآن يردّ عليهم في هذه المسألة: لو أنهم سيؤمنون إذا جاءتهم الآية التي اقترحوها لأنزلناهم عليهم، إنما السوابق تؤكد أنهم لنْ تؤمنوا مهما جاءتهم من الآيات، وهذا من أسباب العذاب.
وقد أوضح الحق سبحانه أنه لن يُعذَّبهم ما دام فيهم رسول الله؛ لذلك لم يُجِبْهم إلى ما طلبوا من الآيات؛ لأن الله تعالى لا يُخلف وعْدَه، فإنْ جاءتهم الآية فلم يؤمنوا بها لا بُدَّ أنْ يُنزِل بهم العذاب؛ لذلك يقول تعالى بعدها: ﴿مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ... ﴾.
9485
إذن: هذه التجربة مَرَّت مع غيرهم من الأمم السابقة، وهم كأمثالهم من السابقين لو أنزلنا عليهم الآية ما آمنوا، كما لم يؤمن سابقوهم ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً... ﴾.
الحق - تبارك وتعالى - يردُّ على اعتراضهم على بشرية الرسول وطلبهم أن يكون الرسول ملكاً، كما قالوا في موضع آخر: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا... ﴾ [التغابن: ٦].
يعني: هم مثلنا، وليسوا أفضل منَّا، فكيف يهدوننا؟ ﴿وهل الرسول يهديكم ببشريته؟ أم بشيء جاءه من أعلى؟ هل منهجه من عنده؟
الرسول ليس مُصلِحاً اجتماعياً، إنما هو مُبلِّغ عن الله ربي وربكم. وقد سبقت السوابق فيمَنْ قبلكم أن يكون الرسول بشراً {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ... ﴾
[الأنبياء: ٧] ولو أرسلنا إليهم مِلَكَاً لجاءكم الرسول مَلَكاً. ﴿فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٧] وهم اليهود والنصارى، ماذا أرسلنا إليهم أرجالاً أم ملائكة؟
ذلك لأن المفروض في النبي أن يكون قدوة لقومه وأُسْوة، مُبلِّغَ منهج، وأُسْوةَ سلوك، منهج يحققه عن الله، ثم يُطبِّقه على نفسه، فهو لا يحمل الناس على أمر هو عنه بنَجْوة، إنما هو أُسْوتهم وقُدْوتهم، وشرط أساسي في القدوة أنْ يتحد فيها الجنس: المتأسِّي مع المتأسِّي به.
فلو رأيت مثلاً في الغابة أسداً يصول ويجول ويفترس، هل تفكر في يوم ما أن تكون أسداً؟ هل تأخذ الأسد لك أُسْوة؟} لا، لأنه يُشترط في أُسْوتك أن يكون من جنسك، فإذا رأيتَ فارساً على جواده يصول ويجول ويضرب في الأعداد يميناً وشمالاً، لا شكَّ أنك تود أن تكون مثله.
9486
كذلك إذا جاء النبي مَلَكاً، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤْمرون، إنما نحن بشر، ولو جاءنا الرسول ملكاً لجاءنا في صورة بشرية.
يقول تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٥].
ويردُّ الحق سبحانه عليهم: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩]. وهكذا تظل الشبهة موجودة.
إذن: لا يمكن أن يكون الرسول للبشر إلا من البشر. ونعم، محمد بشر لكن بشر يُوحَى إليه، كما جاء في الحديث الشريف: «يرد عليَّ - يعني من الحق الأعلى - فأقول: أنا لست كأحدكم، ويُؤخَذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم».
وقوله: ﴿فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٧] أي: إنْ كنتم في شكٍّ من هذه المقولة فاسألوا أهل الذكر من السابقين: اليهود والنصارى أهل الكتاب.
وقال: ﴿إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٧] لأنها مسألة عِلْمُها مشكوك فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً... ﴾.
9487
﴿جَعَلْنَاهُمْ..﴾ [الأنبياء: ٨] أي: الرسل ﴿جَسَداً... ﴾ [الأنبياء: ٨] يعني: شيئاً مصبوباً جامداً لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، إنما هم بشر يأكلون ويشربون كأيّ بشر، ويمشون في الأسواق، ويعيشون حياة البشر العادية ﴿وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٨] فليس الخلود من صفة البشر وقد تابعوا الرسل، وعَلِموا عنهم هذه الحقيقة، وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠].
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد... ﴾.
وهذه سُنة من سُنَن الله في الرسل أنْ يَصْدقهم وعده، وهل رأيتم رسولاً عانده قومه وحاربوه واضطهدوه، وكانت النهاية أن انتصروا عليه؟
ألم يقل الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ [الصافات: ١٧١ - ١٧٣].
وكان صِدْق الوعد أن أنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلكنا المسرفين والمسرفون هم الذين تجاوزوا الحدَّ المعروف. فنهاية الرسل جميعاً النُّصْرة من الله، والوفاء لهم بما وعدهم. ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً... ﴾.
الحق سبحانه يخاطب المكذِّبين للنبي: ما أنزلتُ إليكم آية بعيدة عن معرفتكم، إنما أرسلتُ إليكم رسولاً بآية من جنس ما نبغتُم فيه،
9488
ولما نزل فهمتموه وعرفتم مراميه، بدليل أن في القرآن ألفاظاً تُستقبل بالغرابة ولم تعترضوا أنتم عليها، ولم تُكذِّبوا محمداً فيها مع أنكم تتلمسون له خطأ، وتبحثون له عن زلة.
فمثلاً لما نزلتْ (الم) ما سمعنا أحداً منهم قال: أيها المؤمنون بمحمد، إن محمداً يدَّعي أنه أتى بكتاب مُعْجز فاسألوه: ما معنى (ألم) ؟ مما يدل على أنهم فهموها وقبلوها، ولم يجدوا فيها مَغْمزاً في رسول الله؛ لأن العرب في لغتهم وأسلوبهم في الكلام يستخدمون هذه الحروف للتنبيه.
فالكلام سفارة بين المتكلَّم والسامع، المتكلِّم لا يُفَاجأ بكلامه إنما يعدّه ويُحضره قبل أن ينطق به، أمّا السامع فقد يُفَاجأ بكلام المتكلم، وقد يكون غافلاً يحتاج إلى مَنْ يُوقِظه ويُنبِّهه حتى لا يفوته شيء.
وهكذا وُضِعَتْ في اللغة أدوات للتنبيه، إنْ أردتَ الكلام في شيء مهم تخشى أنْ يفوتَ منه شيء تُنبِّه السامع، ومن ذلك قول عمرو ابن كلثوم:
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبِحينَا...
9489
وقول آخر:
أَلاَ أنعِمْ صَبَاحاً أُيُّها الطَّلَلُ البَالي وَهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كَانَ في العَصْر الخالي
إذن: (ألا) هنا أداة للتنبيه فقط يعني: اسمعوا وانتبهوا لما أقول.
وكذلك أسلوب القرآن: ﴿ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: ٦٢] ﴿أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ... ﴾ [هود: ٥].
إذن: عندما نزل القرآن عليهم فهموا هذه الحروف، وربما فهموا منها أكثر من هذا، ولم يردُّوا على رسول الله شيئاً من هذه المسائل مع حرصهم الشديد على نقده والأخذ عليه.
وقوله تعالى: ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ..﴾ [الأنبياء: ١٠] الذكر: سبق أنْ أوضحنا أن الذكر يُطلق بمعنى: القرآن، أو بمعنى: الكتب المنزّلة، أو بمعنى: الصِّيت والشرف. أو بمعنى: التذكير أو التسبيح والتحميد.
والذكر هنا قد يُرَاد به تذكيرهم بالله خالقاً، وبمنهجه الحق دستوراً، ولو أنكم تنبهتم لما جاء به القرآن لعرفتُم أن الفطرة تهدي إليه وتتفق معه، ولعرفتم أن القرآن لم يتعصّب ضدكم، بدليل أنه أقرَّ بعض الأمور التي اهتديتم إليها بالفطرة السليمة ووافقكم عليها.
ومن ذلك مثلاً الدِّيَة في القتل هي نفس الدية التي حدَّدها القرآن، مسائل الخطبة والزواج والمهر كانت أموراص موجودة أقرها القرآن،
9490
كثيرون منهم كانوا يُحرِّمون الخمر ولا يشربونها، هكذا بالفطرة، وكثيرون كانوا لا يسجدون للأصنام، إذن: الفطرة السليمة قد تهتدي إلى الحق، ولا تتعارض ومنهجَ الله.
أو: يكون معنى ﴿ذِكْرُكُمْ... ﴾ [الأنبياء: ١٠] شرفكم وصيْتكم ومكانتكم ونباهة شأنكم بين الأمم؛ لأن القرآن الذي نزل للدنيا كلها نزل بلغتكم، فكأن الله تعالى يثني عقول الناس جميعاً، ويثني قلوبهم للغتكم، ويحثّهم على تعلّمها ومعرفتها والحديث بها ونشرها في الناس، فمَنْ لم يستطع ذلك ترجمها، وأيُّ شرف بعد هذا؟!
وقوله تعالى: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠] أفلا تُعملِون عقولكم وتتأملون أن خيركم في هذا القرآن، فإنْ كنتم تريدون خُلقاً وديناً ففي القرآن، وإنْ كنتم تريدون شرفاً وسُمعة وصيتاً ففي القرآن، وأيُّ شرف بعد أن يقول الناس: النبي عربي، والقرآن عربي؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾.
9491
قصمنا: القَصْم هو الكَسْر الذي لا جَبْرَ فيه، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يضع أمام أعينهم القُرَى المكذِّبة الظالمة، ليأخذوا منها عِبْرة وعِظَة، فليس بِدَعاً أنْ نقصم ظهور المكذِّبين، بل لها سوابق كثيرة في التاريخ.
9491
لذلك قال: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا... ﴾ [الأنبياء: ١١] وكم هنا خبرية تفيد الكثرة التي لا تُعَدُّ، فأحذروا إنْ لويتُم أعناقكم أَنْ يُنزِل بكم ما نزل بهم.
وقوله: ﴿وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾ [الأنبياء: ١١] أي: خَلف بعدهم خَلْف آخرون. ﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ... ﴾.
9492
أي: حين أحسُّوا العذاب ﴿إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ [الأنبياء: ١٢] حتى لا يلحقهم العذاب. والركْضُ: الجَرْى السريع بهَرْولة، والأصل فيه: رَكْضُ الدابة. يعني: ضَرْبها برِجلْه كي تُسرع. ومنها: ﴿اركض بِرِجْلِكَ... ﴾ [ص: ٤٢] يعني: اضرب الأرض برِجلْك لِتُخرج الماء ﴿هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: ٤٢].
وفي هذه الآية مَلْمحٌ من ملامح الإعجاز القرآني، فقد أصاب أيوبَ عليه السلام مرضٌ في جلده، وأراد له ربُّه - عَزَّ وَجَلَّ - الشفاء. فقال له: اضرب الأرض برِجْلك تُخرج لك ماءً بارداً، منه مُغْتَسل ومنه شراب، فالماء هنا دواء يعالج أمرين: يعالج الظاهر والباطن.
وآفةُ المعالجين أنهم إذا رأوا مثلاً البثور والدمامل في الجلد يعالجونها بالمراهم التي يندمِلُ معها الجُرْح، لكنها لا تعالج أسباب الظاهرة من الداخل، أما العلاج الإلهي فمغتسلٌ لعلاج الظاهرة، وشرابٌ لعلاج أسباب الظاهرة في الجوف.
9492
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا... ﴾.
9493
الحق - سبحانه وتعالى - في قصة هؤلاء المكذِّبين قدَّم الغاية من العذاب، فقال: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ... ﴾ [الأنبياء: ١١] ثم فصَّل القَصمْ بأنهم لما أحسًّوا العذاب تركوا قريتهم، وأسرعوا هاربين أنْ يلحقهم العذاب، وهنا يقول لهم: لا تركضوا وعودوا إلى مساكنكم، وإلى ما أُترِفْتم فيه.
والتُّرفُ: هو التنعُّم نقول: ترف الرجل يترف مثل: فرح يفرَح أي: تنعَّم، فإذا زِيدتْ عليها همزة فقيل: أترف الرجل فمعناها: أخذ نعيماً وأبطره.
ومنها أيضاً: أترفَهُ الله يعني: غرَّه بالنعيم؛ ليكون عقاباً له.
فقوله هنا ﴿إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ..﴾ [الأنبياء: ١٣] من أترافه الله يعني: أعطاهم نعيماً لا يؤدون حقَّه، فيجرّ عليهم العذاب. لكن ما دام أن الله تعالى يريد بهم العذاب، فلماذا يُنعِّمهم؟
قالوا: فَرْق بين عذاب واحد وعذابين: العذاب أن تُوقع على إنسان شيئاً يؤلمه، أما أن تُنعِّمه وترفعه ثم تعذبه، فقد أوقعتَ به عذاباً فوق عذاب.
وقد مثَّلْنا لذلك بأن إنْ أردت أَنْ تُوقِع عدوك لا توقعه من فوق حصيرة مثلاً، إنما ترفعه إلى أعلى ليكون أشدَّ عليه وآلمَ له.
9493
ومن ذلك قَوْلُ القرآن ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ... ﴾ [الأنعام: ٤٤] أعطيناهم الصحة والمال والجاه والأرض والدُّور والقصور ﴿حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] وهكذا يكون أَخذْه أليماً شديداً، فعلى قَدْر ما رفعهم الله على قَدْر ما يكون عذابهم.
ومَلْمَح آخر في قوله تعالى: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الأنعام: ٤٤] لا لهم كما في: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ [الفتح: ١] فليس هذا كله في صالحهم، بل هو وَبَال عليهم، فلا تغترُّوا بها، فقد أعطاها الله لهم، وهم سيَبَطْرون بها، فتكون سببَ عذابهم.
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ١٣] أي: عودوا إلى مساكنكم وقصوركم وما كنتم فيه من النعيم، لعل أحداً يمرُّ بكم فيسألكم: أين ما كنتم فيه من النعيم؟ أين ذهب؟ لكن ما هم فيه الآن من الخزي سيُخرس ألسنتهم، ولن يقولوا شيئاً مما حدث، إنما سيكون قولهم وسلوكهم. ﴿قَالُواْ ياويلنآ... ﴾.
9494
لما أحسَّ المكذِّبون بأْسَ الله وعذابه حاولوا الهرب ليُفوِّتوا العذاب، فقال لهم: ارجعوا إلى ما كنتم فيه، فلن يُنجيكم من عذاب الله شيء، ولا يفوت عذاب الله فائت، فلما وجدوا أنفسهم في هذا الموقف لم يجدوا شيئاً إلا الحسرة فتوجَّهوا إلى أنفسهم ليقرعوها، ويحكموا عليها بأنها تستحق ما نزل بها.
فقولهم: ﴿ياويلنآ... ﴾ [الأنبياء: ١٤] ينادون على العذاب، كما تقول (يا بؤسي) أو (يا شقائي) وهل أحد ينادي على العذاب أو
9494
البُؤْس أو الشقاء؟ الإنسان لا ينادي إلا على ما يُفرِح.
فالمعنى: يا ويلتي تعالى، فهذا أوانك، فلن يشفيه من الماضي إلا أنْ يتحسَّر عليه، ويندم على ما كان منه. فالآن يتحسَّرون، الآن يعلمون أنهم يستحقون العذاب ويلومون أنفسهم.
﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٤] ظالمين لأنفسنا بظلمنا لربنا في أننا كفرنا به، كما قال في آية أُخْرى: ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله... ﴾ [الزمر: ٥٦].
9495
قوله تعالى: ﴿فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ... ﴾ [الأنبياء: ١٥] أي: قولهم: ﴿قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٤] فلم يقولوها مرة واحدة سرقة عواطف مثلاً، إنما كانت ديدنهم، وأخذوها تسبيحاً: يا ويلنا إنا كنا ظالمين، يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فلا شيءَ يشفي صدورهم إلا هذه الكلمة يُردِّدونها. كما يجلس المرجم يُعزِّي نفسه نادماً يقول: أنا مُخطيء، أنا أستحق السجن، أنا كذا وكذا.
وقوله تعالى: ﴿حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ﴾ [الأنبياء: ١٥] الحصيد: أي المحصود وهو الزرْع بعد جمعه ﴿خَامِدِينَ﴾ [الأنبياء: ١٥] الخمود من أوصاف النار بعد أنْ كانت مُتأجِّجة مشتعلة ملتهبة صارت خامدة، ثم تصير تراباً وتذهب حرارتها. كأن الحق - سبحانه وتعالى - يشير إلى حرارتهم في عداء الرسول وجَدَلهم وعنادهم معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد خمدتْ هذه النار وصارتْ تراباً.
9495
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء... ﴾.
9496
ربنا - سبحانه وتعالى - يعطينا المثل الأعلى في الخلْق؛ لأن خَلْق السماوات والأرض مسألة كبيرة: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس... ﴾ [غافر: ٥٧] فالناس تُولَد وتموت وتتجدد، أمّا السماء والأرض وما بينهما من نجوم وكواكب فهو خلْق هائل عظيم منضبط ومنظوم طوال هذا العمر الطويل، لم يطرأ عليه خَلَل أو تعطُّل.
والحق سبحانه لا يمتنُّ بخَلْق السماء والأرض وما بينهما؛ لأنها أعجب شيء، ولكن لأنها مخلوقة للناس ومُسخَّرة لخدمتهم، فالسماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وهواء ومطر وسحاب والأرض وما عليها من خَيْرات، بل وما تحتها أيضاً ﴿وَمَا تَحْتَ الثرى﴾ [طه: ٦].
الكل مخلوق لك أيها الإنسان، حتى ما تتصوره خادماً لغيرك هو في النهاية يصبُّ عندك وبين يديك، فالجماد يخدم النبات، والنبات يخدم الحيوان، وكلهم يخدمون الإنسان.
فإنْ كان الإنسان هو المخدوم الأعلى في هذا الكون فما عمله هو؟ وما وظيفته في كون الله؟ فكل ما دونك له مهمة يؤديها فما مهمتك؟ إذن: إنْ لم يكن لك مهمة في الحياة فأإنت أتفه من الحيوان، ومن النبات، حتى ومن الجماد، فلا بُدَّ أنْ تبحثَ لك عن عمل يناسب سيادتك على هذه المخلوقات.
ثم هل سخَّرْتَ هذه المخلوقات لنفسك بنفسك، أم سخَّرها الله وذلَّلها لخدمتك؟ فكان عليك أن تلتفت لمن سخَّر لك هذه المخلوقات
9496
وهي أقوى منك، ألك قدرة على السماء؟ أتطول الشمس والقمر؟
﴿إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً﴾ [الإسراء: ٣٧].
إذن: كان يجب عليك أن تبحث بعقلك فيمَنْ سخَّر لك هذا كله، كان عليك أنْ تهتدي إلى الخالق للسماء والأرض وما بينهما، لأنه سبحانه ما خلقها عبثاً، ولا خلقها للعب، إنما خلقها من أجلك أنت.
لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، خلقتُ الأشياء من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عمن أنت له».
فالكون مملوك لك، وأنت مملوك لله، فلا تنشغل بالمملوك لك عن المالك لك.
فما الحكمة من خَلْق السماء والأرض وما بينهما؟ الحكمة أن هذه المخلوقات لولاها ما كُنَّا نستدل على القوة القادرة وراء خَلْق هذه الأشياء، وهو الخالق سبحانه، فهي - إذن - لإثبات صفات الجلال والجمال لله عَزَّ وَجَلَّ. فلو ادَّعَى أحد أنه شاعر - ولله المثل الأعلى - نقول له: أين القصيدة التي قلتها؟ فلا نعرف أنه شاعر إلا من خلال شِعْره وآثاره التي ادَّعاها. وهي دعوى دون دليل؟!
وقد خلق الله هذا الخَلْق من أجلك، وتركك تربَع فيه، وخلقه مقهوراً مُسيَّراً، فالشمس ما اعترضتْ يوماً على الشروق، والقمر والنجوم والمطر والهواء والأرض والنبات كلها تعطي المؤمن والكافر والطائع والعاصي؛ لأنها تعملبالتسخير، لا بالإرادة والاختيار.
أما الإنسان هو المخلوق صاحب الاختيار في أن يفعل أو لا يفعل.
9497
ولو نظرتَ إلى هذا الكون لأمكنك أنْ تُقسِّمه إلى قسمين: قسم لا دَخْلَ لك فيه أبداً، وهذا تراه منسجماً في نظامه واستقامته وانضباطه، وقسم تتدخل فيه، وهذا الذي يحدث فيه الخَلَل والفساد.
قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٣٨ - ٤٠].
فالكَوْن من حولك يسير بأمر خالقه، منضبط لا يتخلف منه شيء، فلو أخذتَ مثلاً سنة كاملة ٣٦٥ يوماً، ثم حاولتَ أنْ تعيدها في عام آخر لوجدتَ أن الشمس طلعتْ في اليوم الأول من نفس المكان، وفي اليوم الثاني من نفس مكان اليوم الثاني، وهكذا بدقة متناهية، سبحان خالقها.
لذلك؛ فالذين يضعون التقويم لمعرفة الأوقات يضعون تقويم ثلاث وثلاثين سنة يُسجِّلون دورة الفلك، ثم يتكرر ما سجَّلوه بانضباط شديد، ومن ذلك مثلاً إذا حدَّد العلماء موعد الكسوف أو الخسوف أو نوعه جزئي أو حَلْقي، فإذا ما تابعته وجدته منضبطاً تماماً في نفس موعده، وهذا دليل على انضباط هذا الكون وإحكامه؛ لأنه لا تدخلُّ لنا فيه أبداً.
9498
وفي المقابل انظر إلى أيِّ شيء للإنسان فيه تدخّل: فمثلاً نحن يكيل بعضنا لبعض، ويزن بعضنا لبعض، ويقيس بعضنا لبعض، ويخبز بعضنا لبعض، ويبيع بعضنا لبعض.. الخ انظر إلى هذه العلاقات تجدها - إلاّ ما رحم الله - فاسدة مضطربة، ما لم تَسِرْ على منهج الله، فإن سارت على منهج الله استقامت كاستقامة السماء والأرض.
إذن: كلما رأيتَ شيئاً فاسداً شيئاً قبيحاً فاعلم أن الإنسان وضع أنفه فيه.
وكأن الخلق - عَزَّ وَجَلَّ - يقول للإنسان: أنت لستَ أميناً حتى على نفسك، فقد خلقتُ لك كل هذا الكون، ولم يشذ منه شيء، ولا اختلَّتْ فيه ظاهرة، أمّا أنت - لأنك مختار - فقد أخللْتَ بنفسك وأتعبتها.
فاعلم أن المسائل عندي أنا آمَنُ لك، فإذا أخذتُك من دنيا الأسباب إلى الآخرة وإلى المسبِّب، فأنا أمين عليك أُنعمك نعيماً لا تعبَ فيه ولا نصبَ ولا شقاء، وإنْ كنت تخدم نفسك في الدنيا، فأنا أخدمك في الآخرة، وأُلبِّي لك رغبتك دون أن تُحرِّك أنت ساكناً.
إذن: لو أنني شغلت نفسي بمَنْ يملكني وهو الله تعالى لاستقام لي ما أملكه.
فهذا الكون وهذا الإيجاد خلقه الله لخدمة الإنسان، فلماذا؟ كأن الحق - سبحانه وتعالى - يقول: لأنِّي يكفيني من خلقي أن يشهدوا مختارين أنه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وإنْ كانت المخلوقات قد شهدتْ هذه الشهادة مضطرة، فالعظمة أن يشهد المختار الذي يملك أنْ يشهد أو لا يشهد.
9499
كما أنني بعد أنْ أنعمتُ عليك كلَّ هذه النعم أنزلتُ إليك منهجاً بافعل كذا ولا تفعل كذا، فإنْ أطعتَ أثبتك، وإنْ عصيت عاقبتك، وهذه هي الغاية من خَلْق السماء والأرض، وأنها لم تُخلَق لعباً.
وهذا المنهج تعرفه من الرسل، والرسل يعرفونه من الكتاب. فلو كذَّبْتَ بالرسل لم تعرف هذه الأحكام ولم تعرف المنهج، وبالتالي لا نستطيع أنْ نثيب أو نعاقب، فيكون خَلْقُ السماء والأرض بدون غاية.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً... ﴾.
9500
فلو أردنا اللهو لفعلناه، فنحن نقدر على كل شيء، وقوله: ﴿إِن كُنَّا فَاعِلِينَ... ﴾ [الأنبياء: ١٧] تدل على أن ذلك لن يحدث.
فمعنى اللهو هو أن تنصرف إلى عمل لا هدف له ولا فائدة منه، فالإنسان اللاهي يترك الأمر المهم ويذهب إلى الأمر غير المهم، فاللهو واللعب حركتان من حركات الجوارح، ولكنها حركات لا مقصد لها إلا الحركة في ذاتها، فليس لها هدف كمالي نسعي له في الحركة، ولذلك فاللهو واللعب دون هدف يسمى عَبَثاً.
9500
وهذا يمتنع في حق الله سبحانه وتعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل... ﴾.
9501
ما دام أنهم فعلوا اللهو واللعب، وخانوا نِعَم الله في السماء والأرض فليعلموا أن هذا الحال لن يستمر، فالحق سبحانه يُملي للباطل ويُوسع له حتى يزحف ويمتد، حتى إذا أخذه أخْذ عزيز مقتدر، وقذف عليه بالحق.
فقوله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل..﴾ [الأنبياء: ١٨] القذف: الرَّمْي بشدة مثل القذائف المدمرة ﴿فَيَدْمَغُهُ..﴾ [الأنبياء: ١٨] يقال: دمغه أي: أصاب دماغه. والدماغ أشرف أعضاء الإنسان ففيه المخ، وهو ميزان المرء، فإنْ كان المخ سليماً أمكن إصلاح أيِّ عطل آخر، أما إنْ تعطل المخ فلا أملَ في النجاة بعده.
لذلك جعل الحق - سبحانه وتعالى - عَظْمة الدماغ أغوى عظام الجسم لتحفظ هذا العضو الهام، والأطباء لا يحكمون على شخص بالموت - مثلاً - إذا توقف القلب؛ لأن القلب يجري له تدليك معين فيعود إلى عمله كذلك التنفس، أما إنْ توقف المخ فقد مات صاحبه، فهو الخلية الأولى والتي تحتفظ بآخر مظاهر الحياة في الجسم؛ لذلك يقولون: موت إكلينيكي.
وللمخ يصل خلاصة الغذاء، وهو المخدوم الأعلى بين الأعضاء،
9501
فالجسم يأخذ من الغذاء ما يكفي طاقته الاحتراقية في العمل، وما زاد على طاقته يُختزَن على شكل دهون يتغذّى عليها الجسم، حين لا يوجد الطعم، فإذا ما انتهى الدُّهْن تغذَّى على اللحم، ثم على العَظْمِ لِيُوفِّر للمخ ما يحتاجه، فهو السيد في الجسم، ومن بعده تتغذّى باقي الأعضاء.
إذن: كل شيء في الجسم يخدم المخ؛ لأنه أَعْلَى الأعضاء، أما النبات مثلاً فيخدم أسفله، فإذا جَفَّ الماء في التربة ولم يجد النبات الغذاءَ الكافي يتغذى على أعلاه فيذبل أولاً، ثم تتساقط الأوراق، ثم تجفّ الفروع الصغيرة، ثم الجذع، ثم الجذر.
ومن ذلك قول سيدنا زكريا عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً... ﴾ [مريم: ٤] فالعَظْم آخر مخزَن للغذاء في الجسم، فَوهَنُ العظم دليل على أن المسألة أوشكتْ على النهاية.
إذن: فقوله تعالى: ﴿فَيَدْمَغُهُ... ﴾ [الأنبياء: ١٨] أي: يصيبه في أهم الأعضاء وسيدها والمتحكم فيها، لا عضو آخر يمكن أنْ يُجبر؛ لذلك يقول بعدها ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ... ﴾ [الأنبياء: ١٨] زاهق: يعني خارج بعنف.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: ١٨] يعني: أيها الإنسان المغتَرّ بلججه وعناده في الباطل، ووقف بعقله وقلبه ليصادم الحق، سنقذف بالحق على باطلك، فنصيب دماغه فيزهق، ساعتها ستقول: يا ويلتي كما سبق أنْ قالوا: ﴿قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٤] حينما يباشرون العذاب.
ومعنى: ﴿تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: ١٨] تكذبون كذباً افترائياً، كما لو رأيت شخصاً جميلاً، فتقول: وجهه يَصِفُ الجمال، يعني: إنْ كنت
9502
تريد وَصْفاً للجمال، فانظر إلى وجهه يعطيك صورة للجمال، كما جاء في قوله تعالى:
﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب... ﴾ [النحل: ٦٢] يعني: إنْ أردت أنْ تعرف الكذب بعينه، فاسمع كلامهم وما قالتْه ألسنتهم.
كما يقولون: حديث خرافة، وأصل هذه المقولة رجل اسمه خرافة، كان يقول: أنا عندي سهم إنْ أطلقُته على الظَّبي يسير وراءه، فإن التفت يميناً سار وراءه، فإنْ ذهب شمالاً ذهب وراءه، فإنْ صعد الجبل صعد وراءه، فإنْ نزل نزل وراءه. وكأن سهمه صاروخ مُوجَّه كالذي نراه اليوم!! فسار كلامه مثالاً يُضرب للكذب.
لذلك قال الشاعر:
حَدِيثُ خُرَافَةٍ يا أُمَّ عَمْرو... فإنْ أردتَ تعريفاً للكذب فأنا لا أُعرِّفه لك بأنه قوْلٌ لا يوافق الواقع، إنما اسمع إلى كلامهم، فهو أصدق وَصْف للكذب؛ لأنه كذب مكشوف مفضوح.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام: ١٠٠] أي: يكذبون ويفترون على الله.
وقد يقول قائل: لماذا يُملِي الله للباطل حتى يتمرَّد ويعلو، ثم يعلو عليه الحق فيدمغه؟
9503
نقول: الحكمة من هذا أنْ تتم الابتلاءات، والناس لا نتعشق الحق إلا إذا رأتْ بشاعة الباطل، ولا تعرف منزلة العدل إلا حين ترى بشاعة الظلم، وبضدها تتميز الأشياء، كما قال الشاعر:
فَالوجْهُ مِثْلُ الصبُّحْ مُبيضٌ... وَالشَّعْر مِثْلُ الليْلِ مُسْودُ
ضِدَّان لَمَّا استْجمْعاً حَسْناً... والضِّدُّ يُظهِرُ حُسْنَه الضِّدُ
إذن: لا نعرف جمال الحق إلا بقُبْح الباطل، ولا حلاوة الإيمان إلا بمرارة الكفر. ﴿وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض... ﴾.
9504
سبق أن أخبر الحق سبحانه أنه خلق السماء والأرض وما بينهما، وهذا ظَرْف، فما المظروف فيه؟ المظروف فيه هم الخَلْق، وهم أيضاً لله: ﴿وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض... ﴾ [الأنبياء: ١٩] وإنْ كان من الخَلْق مَنْ ميَّزه الله بالاختيار يؤمن أو يكفر، يطيع أو يعصي، فإنْ كان مختاراً في أمور التكليف فهو مقهورة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا... ﴾ [الأحزاب: ٧٢].
9504
فاختارت التسخير على الاختيار الذي لا طاقة لها به.
أما الإنسان فقد دعاه عقله إلى حملها وفضَّل الاختيار، ورأى أنه سيُوجه هذه الأمانة التوجيه السليم ﴿وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ [الأحزاب: ٧٢].
فوصفه رَبُّه بأنه كان في هذا العمل ظلوماً جهولاً؛ لأنه لا يدري عاقبة هذا التحمل. فإنْ قلتَ: فما ميزة طاعة السماوات والأرض وهي مضطرة؟ نقول: هي مضطرة باختيارها، فقد خيَّرها الله فاختارت الاضطرار.
وقوله: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ... ﴾ [الأنبياء: ١٩] أي ليسوا أمثالكم يكذبون ويكفرون، بل هم في عبادة دائمة لا تنقطع، والمراد هنا الملائكة؛ لأنهم ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].
﴿وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩] من حسر: يعني ضَعُفَ وكَلّ وتعب وأصابه الملل والإعياء.
ومنه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٤] أي: كليل ضعيف، لا يَقْوي على مواجهة الضوء الشديد كما لو واجهت بعينيك ضوءَ الشمس أو ضوء سيارة مباشر، فإنه يمنعك من الرؤية؛ لأن الضوء الأصل فيه أن نرى به ما لا نراه.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون... ﴾ [النساء: ١٧٢] لأن عِزَّهم في هذه المسألة.
9505
﴿يُسَبِّحُونَ الليل... ﴾.
9506
فهؤلاء الملائكة يعبدون الله ويسبحونه، لا يصيبهم ضَعْف، ولا يصيبهم فُتُور، ولا يشعرون بالملل من العبادة والتنزيه له سبحانه: فالملائكة لا تتكبر عن عبادته والخضوع له.
والحق سبحانه يقول: ﴿إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦].
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿أَمِ اتخذوا آلِهَةً..﴾.
أي: فما لهم أعرضوا عن كل هذه الحقائق؟ ألهم آلهة غيري وأنا خالق السماء والأرض، وهي لي بمَنْ فيها من الإنس والجن والملائك’؟ فالجميع عَبْد لي يُسبِّح بحمدي، فما الذي أعجبهم في غيري فأعرضوا عني، وانصرفوا إليه؟ أهو أحسن مني، أو أقرب إليهم مني؟
كأن الحق - تبارك وتعالى - يستنكر انصرافهم عن الإله الحق الذي له كل هذا الملك، وله كل هذه الأيادي والنِّعَم.
وقوله تعالى: ﴿هُمْ يُنشِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢١] أي: لهم قدرة على إحياء الموتى وبَعثْهم. وشيء من هذا كله لم يحدث؛ لأنه: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ... ﴾.
فمَع انصرافكم عن الإله الحق الذي له مًُلْك السماء والأرض، وله تُسبِّح جميع المخلوقات، لا يوجد إله آخر ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا... ﴾ [الأنبياء: ٢٢] أي: ما زال الكلام مرتبطاً بالسماء والأرض ﴿لَفَسَدَتَا... ﴾ [الأنبياء: ٢٢] السماء والأرض، وهما ظرفان لكلِّ شيء من خَلْق الله.
ومعنى ﴿إِلاَّ الله... ﴾ [الأنبياء: ٢٢] إلا: أداة استثناء تُخرِج ما بعدها عن حكم ما قبلها كما لو قلتَ: جاء القوم إلا محمد، فقد أخرجتَ محمداً عن حكم القوم وهو المجيء، فلو أخذنا الآية على هذا المعنى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا... ﴾ [الأنبياء: ٢٢] يعني: لو كان هناك آلهة، الله خارج عنها لفسدت السماوات والأرض.
إذن: ما الحال لو قلنا: لو كان هناك آلهة والله معهم؟ معنى ذلك أنها لا تفسد. فإلا إنْ حققت وجود الله، فلم تمنع الشَّركة مع الله، وليس هذا مقصود الآية، فالآية تقرر أنه لا إله غيره.
إذن: (إلا) هنا ليست أداةَ استثناء. إنما هي اسم بمعنى (غير) كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ... ﴾ [هود: ٣٦].
فالمعنى: لو كان فيهما آلهة موصوفة بأنها غير الله لَفسدتَا، فامتنع أن يكون هناك شريك.
وهناك آية أخرى: ﴿قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٤٢].
الحق - سبحانه وتعالى - يعطينا القسمة العقلية في القرآن: فلنفرض جدلاً أن هناك آلهة أخرى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا
9507
يَقُولُونَ إِذاً..} [الإسراء: ٤٢] أي: لو حدث هذا ﴿لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٤٢].
السبيل: الطريق، أي طلبوا طريقاً إلى ذي العرش أي: إلى الله، لماذا؟ إما ليجادلوه ويصاولوه، كيف أنه أخذ الألوهية من خلف ظهورهم، وإمّا ليتقربوا إليه ويأخذوا ألوهية من باطنه، وقوة في ظل قوته، كما أعطى الله تعالى قوة فاعلة للنار مثلاً من باطن قوته تعالى، فالنار لا تعمل من نفسها، ولكن الفاعل الحقيقي هو الذي خلق النار، بدليل أنه لو أراد سبحانه لَسِلَبها هذه القدرة، كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩].
وقوله: ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ... ﴾ [المؤمنون: ٩١] وهذه الآية الكريمة وأمثالها تثبت أنه سبحانه موجود وواحد.
أما على اعتبار أن (إلا) استثناء فهي تثبت أنه موجود، إنما معه شريك، وليس واحداً. فهي - إذن - اسم بمعنى غير، ولما كانت مبنية بناء الحروف ظهر إعرابها على ما بعدها (لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ) فيكون إعراب (غيرُ) إعرابَ (إلا) الذي ظهر على لفظ الجلالة (الله).
لكن، لماذا تفسد السماء والأرض إنْ كان فيهما آلهة غير الله؟
قالوا: لأنك في هذه المسألة أمام أمرين: إما أن تكون هذه الآلهة مستوية في صفات الكمال، أو واحد له صفات الكمال والآخر له صفة نقص. فإنْ كان لهم صفات الكمال، اتفقوا على خَلْق الأشياء أم اختلفوا؟
9508
إنْ كانوا متفقين على خَلْق شيء، فهذا تكرار لا مُبرِّر له، فواحد سيخلق، والآخر لا عملَ له، ولا يجتمع مؤثران على أثر واحد.
فإن اختلفوا على الخَلْق: يقول أحدهم: هذه لي. ويقول الآخر: هذه لي، فقد علا بعضهم على بعض.
أما إنْ كان لأحدهم صفة الكمال، وللآخر صفة النقص، فصاحب النقص لا يصحّ أن يكونَ إلهاً. وهكذا الحق - سبحانه وتعالى - يُصرِّف لنا الأمثال ويُوضِّحها ليجلي هذه الحقيقة بالعقل وبالنقل: لا إله إلا الله، واتخاذ آلهة معه سبحانه أمر باطل.
كذلك يردُّ على الذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل مَنْ قالوا: العزيرُ ابن الله ومَنْ قالوا: المسيح ابن الله. ومَن اتخذوا الملائكة آلهة من دون الله: ﴿أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ..﴾ [الإسراء: ٥٧].
إن هؤلاء الذين تدعُونهم مع الله يطلبون إليه وسيلة، ويتقرّبون إليه سبحانه، وينظرون أيّهم أقرب إلى الله من الآخر، فكيف يكونون آلهة؟
ثم يقول تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش... ﴾ [الأنبياء: ٢٢] أي: تنزيهاً لله عَمَّا قال هؤلاء: ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٢] أي: يُلحِدون ويكذبون ويفترون.
والعرش: هو السرير الذي يجلس عليه الملك، وهو علامة الملْك والسيطرة، كما في قوله تعالى عن ملكة سبأ على لسان الهدهد: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣] فحين يقول سبحانه ﴿رَبِّ العرش﴾ [الأنبياء: ٢٢] ينصرف
9509
إلى عرشه تعالى، الذي لا يعلو عليه، ولا ينازعه عَرْش آخر. ثم يقول الحق سبحانه عن ذاته سبحانه: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا... ﴾.
9510
فالله تعالى لا يُسأل عما يفعل؛ لأن السائلَ له مراتب مع المسئول، والعادة أن يكون المسئول في مرتبة أَدْنى من السائل؛ لذلكلا احدَ يسأل الله تعالى عَمَّا يفعل، أمّا هو سبحانه فيسأل الناس.
لذلك قال بعض الظرفاء: الدليل على أن الله لا شريك له، خَلْقه لفلان، لأنه له كان له شريك كان عارضه في هذه المسألة.
إذن: لا أحدَ أعلى من الله، حتى يسأله: لِمَ فعلتَ كذا وكذا؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ... ﴾.
طالما اتخذوا من دون الله آلهة فهاتوا البرهان على صِدْقها، كما أن الله تعالى - وهو الإله الحق - أتى بالبراهين الدامغة على وجوده، وعلى قدرته، وعلى وحدانيته، وعلى أحديته، فهاتوا أنتم أيضاً ما لديكم، أم أنها آلهة لا أدلةَ لها ولا برهانَ عليها، فلم تنزل كتاباً، ولا أرسلتْ رسولاً، ولا جاءت بمنهج.
فأين هم إذن؟ إذا لم يكونوا على دراية بما يحدث، فهي آلهة غافلة لا يصح أنْ يحتلوا هذه المنزلة، وإنْ كانوا على دراية فلمَ لَمْ
9510
يُجابهوا الحقائق ويدافعوا عن أنفسهم؟ إذن: هم ضعفاء عن هذه المواجهة.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ... ﴾ [الأنبياء: ٢٤] أي: هاتوا الدليل على وجود آلهة غير الله، والبرهان: التدليل بإيجاد الكون على هذا النظام البديع، فهل سمعتم أن إلهاً آخر قال: أنا الذي أوجدتُ؟ هل أرسل رسولاً بآية؟
إذن: هذا كلام كذب وافتراء واختلاق من عند أنفسكم؛ لأنكم لستم أهلَ علم في شيء، ولا يعني هذا عدمَ وجود العلم، إنما العلم موجود، ولكنكم مُعرِضون عن سماعه: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٤].
كأن للحق سمات يعلم بها، فَمنْ أقبل على معرفة الحق وجده، أما مَنْ أعرض عن المعرفة، فمن أين له أنْ يعرف؟ إذن: فالحق موجود ولو التمسوه لوجدوه وعرفوه، وأمسكوا بالدليل عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ....﴾.
9511
إذن: فقضية التوحيد واضحة منذ بداية الرسالات إلى خاتمها، الكل جاء بقول لا إله إلا الله قضية مشتركة بين جميع رسالات السماء.
وقوله تعالى: ﴿مِن رَّسُولٍ..﴾ [الأنبياء: ٢٥] (منْ) هنا للشمول والتعميم، يعني: كل أفراد الرسل، كلّ مَنْ يُقَال له رسول. فلو قال لك شخص: ما عندي مال، لا يمنع هذا القول أن يكون عنده قليل
9511
من المال، قروش مثلاً لا يُقال لها مال، فإنْ قال لك: ما عندي من مال فقد نفى وجود جنس المال من بداية ما يقال له مال، ما عندي حتى مليم واحد.
إذن: ما جئتم به من مسألة الشرك بالله أو إنكاره عَزَّ وَجَلَّ مسألة جديدة (موضة) طلعتُم علينا بها. ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن....﴾.
9512
قوله: ﴿سُبْحَانَهُ... ﴾ [الأنبياء: ٢٦] أي: تنزيهاً له أنْ يكون له ولد، فقُلْ: إنْ كان له، فله عباد مكرمون وهم الملائكة.
ومن صفات هؤلاء العباد المكرمين الذين هم الملائكة أنهم: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول... ﴾.
ومع أنهم عباد مكرمون إنما لا يسبقونه بالقول، فلا يقولون ما لم يقُلْه ولا يتقدمون عليه بقول حتى إنْ وافق مراد الله، ولا يفعلون ما لم يأمر به، وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة لبعض آفات المجتمع، فمن آفات المجتمع أن ترى العظماء المكرمين إلا أنهم يصنعون لأنفسهم سلطة زمنية من باطنهم، فيقولون ما لم يَقُلْه ربهم عَزَّ وَجَلَّ، ويفعلون ما لم يأمر به، ويُقدِّمون أوامرهم على أوامره.
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٧] أي: يأتمرون بأمره، فإنْ أمر فعلوا، وإنْ نَهَى تركوا.
9512
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ... ﴾.
9513
الكلام هنا عن العباد المكرمين من الملائكة، فَمَع أن الله أكرمهم وفضَّلهم، إلا أنه لم يتركهم دون متابعة ومراقبة، إنما يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولم تُترك لهم مسألة الشفاعة يُدخلون فيها مَنْ أحبوا إنما ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى... ﴾ [الأنبياء: ٢٨].
أي: لمن ارتضاه الله وأحبه، فإياكم أنْ تفهموا أنكم حين تقولون: الملائكة بنات الله، أو تعبدونهم من دون الله أنهم يكونون لكم شفعاء عند الله؛ لأنهم لا يشفعون إلا لمنْ أحبّه الله، وارتضاه من أهل الإيمان، فلا تظن أنهم ﴿عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦] أي: مُدلَّلُون يفعلون ما يحلو لهم، لا، إنهم مع ذلك ملتزمون بحدودهم لا يتعدونها، فما أكرمتهم كل هذا الإكرام إلا لأنهم مطيعون ملتزمون.
وهم مع هذه الطاعة ﴿مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٨] فليسوا مع هذا الإكرام مطمئنين آمنين، بل مشفقون خائفون وجلون من خشية الله ولذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ... ﴾.
أي: على فَرْض أنْ قال أحدهم هذا القول، إذن: هذا كلام لم يحدث، ولا يمكن أنْ يُقال منهم ﴿فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين﴾ [الأنبياء: ٢٩] لماذا؟ لأنهم أخذوا الظُّلم في أعلى مراتبة وعنُفوانه وطغيانه، ظلم في مسألة القمة ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
لذلك يُهدّدهم، مع أنهم ملائكة ومكرمون، لكن إنْ بدر من أحدهم هذا القول فجزاؤه جهنم، وفي هذا اطمئنان للخَلْق أجمعين.
بعد ذلك أراد الحق - سبحانه وتعالى - أنْ يُدلِّل على هذه الوحدانية التي أكَّدها في كلامه السابق، والوحدانية في طَيِّها الأحدية، لأن هناك فَرْقاً بينهما، وليسا مترادفين كما يظن البعض، فواحد وأحد وَصفْان لله عَزَّ وَجَلَّ ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] وقال: ﴿الواحد القهار﴾ [الرعد: ١٦].
فالواحد أي: الفرد الذي لا يُوجد له نظير، وهذا الواحد في ذاته أحد أي: ليس له أجزاء، فالواحدية تمنع أنْ يُوجد فَرْد مثله، والأحدية تمنع أن يكون في ذاته مُكوّناً من أجزاء؛ لأنه سبحانه لو كوّن من أجزاء لصار كل جزء محتاجاً في وجوده إلى الجزء الآخر، فلا احتياج له في وجوده ليكوِّن كله، إذنْ: فلا هو كليّ، ولا هو جزئي.
فاختار سبحانه للتدليل آيات الكون الموجودة والمشهودة التي لا يمكن أنْ ينكرها أحد؛ لأنها آيات مُرتّبة واضحة ونافعة في الوقت نفسه، فقد يكون المرئي واضحاً لكن لا حاجة لك فيه - فالإنسان يشعر بمنفعة الشمس لو غابت عنه، ويشعر بمنفعة المطر إن امتنعت السماء عن المطر.. إلخ.
9514
فمشهودية هذه الآيات تقتضي الالتفات إليها، والنفعية فيها تقتضي أيضاً الالتفات إليها، حتى وهي غائبة عنك، فتنظر وتتطلع إلى عودتها من جديد.
فيقول الحق سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات... ﴾.
9515
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا... ﴾ [الأنبياء: ٣٠] يعني: أعميتْ أبصارهم، فلم ينظروا إلى هذا الكون البديع الصنع المحكم الهندسة والنظام، فيكفروا بسبب أنهم عَمُوا عن رؤية آيات الله. وهكذا كما رأيت الهمزة بعد الواو والفعل المنفي.
لكن كيف يقول الحق سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا..﴾ [الأنبياء: ٣٠] والحديث هنا عن السماء والأرض، وقد قال تعالى: ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً﴾ [الكهف: ٥١] ؟
فهذه مسألة لم يشهدها أحد، ولم يخبرهم أحد بها، فكيف يروْنَها؟
سبق أن تكلمنا عن الرؤية في القرآن، وأن لها
9515
استعمالات مختلفة: فتارة تأتي بمعنى: نظر أي: بصرية. وتأتي بمعنى: علم، ففي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾ [الفيل: ١].
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يَرَ هذه الحادثة ولم يشهدها؛ لأنه وُلِد في نفس عامها، فالمعنى: ألم تعلم، فلماذا عَدلَ السياق عن الرؤية البصرية إلى الرؤية العلمية، مع أن رؤية العين هي آكد الرُّؤى، حتى أنهم يقولون: ليس مع العَيْن أيْن؟
قالوا: لأن الله تعالى يريد أن ينبه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنت صحيح لم ترهَا بعينيك، لكن ربك أخبرك بهان وإخبار الله أصدق من رؤية عينيك، فإذا أخبرك الله بشيء فإخبار الله أصدقُ من رؤية العين، فالعين يمكن أنْ تخدعك، أو ترى بها دون أنْ تتأمل. أما إخبار الله لك فصادقٌ لا خداعَ فيه.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً﴾ [مريم: ٨٣].
لكن، كيف تمَّتْ الرؤية العلمية لهم في مسألة خَلْق السماوات والأرض؟
قالوا: لأن الإنسان حين يرى هذا الكون البديع كان يجب عليه ولو بغريزة الفضول أنْ يتساءلَ: من أين جاء هذا الكون العجيب؟ والإنسان بطبعه يلتفت إلى الشيء العجيب، ويسأل عنه، وهو لا يعنيه ولا ينتفع به، فما بالُكَ إنْ كان شيئاً نافعاً له؟
إذن: كان عليهم أن ينظروا: مَنِ الذي نبَّأَ رسول الله بهذه المسألة؟ خاصة وقد كانوا يسألون عنها، وقد جاءهم رسول الله
9516
بمعجزة تُثبِت صدقه في البلاغ عن الله، وتُخبرهم بما كانوا يبحثون عنه، وما دام الكلام من الله فهو صدق: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً﴾ [النساء: ١٢٢].
وقد نزل القرآن في جزيرة العرب كفار عُبَّاد أصنام، وفيها اليهود وبعض النصارى، وهما أهل الكتاب يؤمنون بإله وبرُسُل وبكتب، حتى إنهم كانوا يجادلون الكفار الوثنيين يقولون لهم: لقد أطلّ زمان نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
ومع ذلك، لما جاءهم ما عرفوا من الحق كفروا به، والتحموا بالكفار، وكوَّنوا معهم جبهة واحدة، وحزباً واحداً، ما جمعهم إلا كراهية النبي، وما جاء به من الدين الحق، وما أشبهَ هذا بما يفعله الآن كُلٌّ من المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي من اتحاد ضد الإسلام.
إذن: بعد أنْ جاء الإسلام أصبح أهلُ الكتاب والكفار ضد الإسلام في خندق واحد، وكان الكفار يسمعون من أهل الكتاب، وفي التوراة كلام عن خَلْق السماء والأرض يقول: إن الله أول ما خلق الخَلْق خلق جوهرة، ثم نظر إليها نظرَ الهيبة فحصل فيها تفاعل وبخار ودخان، فالدخان صعد إلى أعلى فكوَّنَ السماء، والبقية ظلتْ فكوَّنت الأرض.
9517
وهكذا كان لديهم طرف من العلم عن مسألة الخَلْقِ؛ لذلك قال الله عنهم: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا... ﴾ [الأنبياء: ٣٠].
وقد كان للمستشرقين كلام حول قوله تعالى: ﴿كَانَتَا رَتْقاً﴾ [الأنبياء: ٣٠] قالوا: السماوات جمع، والأرض كذلك جنس لها جمع، فالقاعدة تقتضي أنْ نقول: كُنَّ رتقاً بضمير الجمع. وصاحب هذا الاعتراض لم يَدْر أن الله سبحانه وتعالى نظر إلى السماء كنوع والأرض كنوع، فالمراد هنا السماوةي والأرضية وهما مُثنَّى.
وفي القرآن نظائر كثيرة لهذه المسألة؛ لأن القرآن جاء بالأسلوب العربي المبنيّ على الفِطنة والذكاء ومُرونة الفهم. فخُذْ مثلاً قوله تعالى: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا... ﴾ [الحجرات: ٩].
فلم يقُلْ حسْب الظاهر: اقتتلتَا؛ لأن الطائفة وإنْ كانت مفرداً إلا أنها تحوي جماعة، والقتال لا يكون بين طائفة وطائفة، إنما بين أفراد هذه وأفراد هذه، فالقتال ملحوظ فيه الجمع ﴿اقتتلوا... ﴾ [الحجرات: ٩] فإذا ما جِئْنا للصُّلْح لا يتم بين هؤلاء الأفراد، وإنما بين ممثَل عن كل طائفة، فالصُّلْح لا يتم بين هؤلاء الأفراد، وإنما بين ممثل عن كل طائفة، فالصُّلْح قائم بين طرفين؛ لذلك يعود السياق للتثنية. ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل﴾ [الحجرات: ٩].
والرَّتْق: الشيء الملتحم الملتصق، ومعنى ﴿فَفَتَقْنَاهُمَا..﴾ [الأنبياء: ٣٠] أي: فَصلَنْاهما وأزَحْنَا هذا الالتحام، وما ذُكِر في التوراة من أن الله تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إليها في هَيْبة، فحصل لها كذا
9518
وكذا في القرآن له ما يؤيده في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً... ﴾ [فصلت: ١١].
والعلماء ساعةَ يستقبلون الآية الكونية لهم فيها مذاهب اجتهادية مختلفة؛ لأنها تتعرَّض لحقيقة الكون، وهذا أمر قابل للخلاف، فكلُّ واحد منهم يأخذ منه على قَدْر ثقافته وعِلْمه.
فالعربي القديم لم يكُنْ يعرف كثيراً عن الظواهر الكونية، لا يعرف الجاذبية، ولا يعرف كُروية الأرض ولا حركتها، فلو أن القرآن تعرَّض لمثل هذه الأمور التي لا يتسع لها مداركه وثقافته فلربما صرفه هذا الكلام الذي لا يفهمه، ولك أنْ تتصوَّر لو قلتَ له مثلاً: إن الأرض كرة تدور بنا بما عليها من بحار وجبال الخ.
والقرآن بالدرجة الأولى كتاب منهج «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» لذلك كلُّ ما يتعلق بهذا المنهج جاء واضحاً لا غموض فيه، أمَّا الأمور الكونية التي تخضع لثقافات البشر وارتقاءاتهم الحضارية فقد جاءت مُجْملةً تنتظر العقول المفكرة التي تكشف عن هذه الظواهر واحدةً بعد الأخرى، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا مجرد إشارة، وعلى العقول المتأمّلة أنْ تُكمِلَ هذه المنظومة.
وقد كان لعلماء الإسلام موقفان في هذه المسألة، كلاهما ينطلق من الحب لدين الله، والغرام بكتابه، والرغبة الصادقة في إثبات صدْق ما جاء به القرآن من آيات كونية جاء العلم الحديث ليقول بها الآن، وقد نزل بها القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان.
الموقف الأول: وكان أصحابه مُولعين بأنْ يجدوا لكل اكتشاف جديداً شاهداً من القرآن ليقولوا: إن القرآن سبق إليه وأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صادق في بلاغه عن الله.
9519
الموقف الثاني: أما أصحاب الموقف الآخر فكانوا يتهيَّبون من هذه المسألة خشية أن يقولوا بنظرية لم تثبت بَعْد، ويلتمسون لها شاهداً من كتاب الله، ثم يثبُت بطلانها بعد أنْ ربطوها بالقرآن.
والموقف الحق أن هناك فرقاً بين نظرية علمية، وحقيقة علمية، فالنظرية مسألة محلّ بحث ومحلّ دراسة لم تثبت بَعْد؛ لذلك يقولون: هذا كلام نظري أي: يحتاج إلى ما يؤيده من الواقع، أمّا الحقيقة العلمية فمسألة وقعتْ تحت التجربة، وثبت صدقها عملياً ووثقنا أنها لا تتغير.
فعلينا - إذن - أَلاَّ نربط القرآن بالنظرية التي تحتمل الصدق أو الكذب، حتى لا يتذبذب الناس في فَهْم القرآن، ويتهمونا أننا نُفسِّر القرآن حَسْب أهوائنا. أمّا الحقيقة العلمية الثابتة فإذا جاءت بحيث لا تُدفَع فلا مانعَ من ربطها بالقرآن.
من ذلك مسألة كروية الأرض، فعندما قال بها العلماء اعترض كثيرون وأثاروها ضجة وألَّفوا فيها كتباً، ومنهم مَنْ حكم بكفر مَنْ يقول بذلك؛ لأن هذه المسألة لم ينص عليها القرآن. فلما تقدم العلم، وتوفرتْ له الأدلة الكافية لإثبات هذه النظرية، فوجدوا الكواكب الأخرى مُدوَّرة كالشمس والقمر، فلماذا لا تكون الأرض كذلك؟!
كذلك إذا وقفتَ مثلاً على شاطئ البحر، ونظرتَ إلى مركب قادم من بعيد لا ترى منها إلا طرفَ شراعها، ولا ترى باقي المركب إلا إذا اقتربتْ منك، عَلامَ يدلُّ ذلك؟ هذا يدل على أن سطح الأرض ليس مستوياً، إنما فيه تقوُّس وانحناء يدل على كُرويتها.
فلما جاء عصر الفضاء، وصعد العلماء للفضاء الخارجي، وجاءوا للأرض بصور، فإذا بها كُروية فعلاً، وهكذا تحولتْ النظرية
9520
إلى حقيقة علمية لا تُدفع، ولا جدال حولها، ومَنْ خالفها حينما كانت نظرية لا يسعه الآن إلاّ قبولها والقول بها.
وما قلناه عن كُروية الأرض نقوله عن دورانها، ومَنْ كان يصدق قديماً أن الأرض هي التي تدور حول الشمس بما عليها من مياه ومَبانٍ وغيره؟ ولك أن تأخذَ كوزاً ممتلئاً بالماء، واربطه بخيط من أعلى، ثم أَدِرْه بسرعة من أسفل إلى أعلى، تلاحظ أن فوهة الكوز إلى أسفل دون أنْ ينسكب الماء، لماذا؟ لأن سرعة الدوران تفوق جاذبية الأرض التي تجذب الماء إليها، بدليل أنك إذا تهاونتَ في دوران الكوز يقع الماء من فُوهته، ولا بُد من وجود تأثير للجاذبية، فجاذبية الأرض هي التي تحتفظ بالماء عليها أثناء دورانها.
أما أن نلتقط نظرية وليدة في طََوْر البحث والدراسة، ثم نفرح بربطها بالقرآن كما حدث أوائل العصر الحديث والنهضة العلمية، حين اكتشف العلماءُ المجموعةَ الشمسية، وكانت في بدايتها سبعة كواكب فقط مُرتّبة حسب قُرْبها من الشمس في المركز: عطارد، فالزهرة، فالأرض، فالمريخ، فالمشتري، فزُحَل، فأورانوس.
وهنا أسرع بعض علمائنا الكبار - منهم الشيخ المراغي - بالقول بأنها السماوات السبع، وكتبوا في ذلك بحوثاً، وفي القرآن الذي سبق إلى هذا. ومرَّتْ الأيام، واكتشف العلماء الكواكب الثامن (نبتون)، ثم التاسع.
إذن: رَبْط النظرية التي لم تتأكد بَعْد علمياً بالقرآن خطأ كبير، ومن الممكن إذا توفَّر لهم أجهزة أحدث ومجاهر أكبر - كما يقول بعض علماء الفضاء - لاكتشفوا كواكب أخرى كثيرة، لأن مجموعتنا الشمسية هذه واحدة من مائة مليون مجموعة في المجرة التي نسميها (
9521
سكة التبَّانة)، والإغريق يسمونها (الطريق اللبني).
وهذه الكواكب التي نراها كبيرة وعظيمة، لدرجة تفوق تصورات الناس، فالشمس التي نراها هذه أكبر من الأرض بمليون وربع مليون مرة، وهناك من الكواكب ما يمكنه ابتلاع مليون شمس في جوفه. والمسافة بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية، وتُحسب الدقيقة الضوئية بأن تُضرب في ستين ثانية، الثانية الواحدة السرعة فيها ١٨٦ ألف ميل يعني: ثلاثمائة ألف كيلومتر.
أما المسافة بين الأرض والمرأة المسلسلة فقد حسبوها بالسنين الضوئية لا الدقائق، فوجدوها مائة سنة ضوئية، أما الشِّعْري الذي امتنَّ الله به في قوله ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى﴾ [النجم: ٤٩] فهو أبعد من ذلك. وهذه الكواكب والأفلاك كلها في السماء الدنيا فقط، فما دَخْل هذا بالسماوات السبع التي تحدثوا عنها؟!
لذلك حاول كثيرون من عُشَّاق هؤلاء العلماء أن يمحوا هذه المسألة من كتبهم، حتى لا تكون سُبَّة في حقِّهم وزلّة في طريقهم العلمي.
كذلك من النظريات التي قالوا بها وجانبتْ الصواب قولهم: إن المجموعة الشمسية ومنها الأرض تكوَّنت نتيجة دوران الشمس وهي كتلة ملتهبة، فانفصل عنها بعض (طراطيش)، وخرج منها بعض الأجزاء التي بردتْ بمرور الوقت، ومنها تكونت الأرض، ولما بردتْ
9522
الأرض أصبحتْ صالحة لحياة النبات، ثم الحيوان، ثم الإنسان بدليل أن باطن الأرض ما يزال ملتهباً حتى الآن. وتتفجر منه براكين كبركان (فيزوف) مثلاً.
والقياس العقلي يقتضي أن نقول: إذا كانت الأرض قطعة من الشمس وانفصلت عنها، فمن الطبيعي أن تبرد مع مرور الزمن وتقلّ حرارتها حتى تنتهي بالاستطراق الحراري، إذن: فهذه نظرية غير سلمة، وقولكم بها يقتضي أنكم عرفتم شيئاً عن خَلْقِ السماواتِ والأرضِ ما أخبر الله به، وقد قال تعالى:
﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض..﴾ [الكهف: ٥١].
ثم يقول في آية جامعة ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً﴾ [الكهف: ٥١].
والمضلّ هو الذي يأخذ بيدك عن الحقيقة إلى الباطل، وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة إلى ما سيكون من أقوال مُضلِّلة في هذه المسألة تقول: حدث في الخلق كيت وكيت.
والواجب علينا أن نأخذ هذه التفاصيل من الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - وأن نقف عند هذا الحد، لأن معرفتك بكيفية الشيء ليست شرطاً لانتفاعك به، فأنت تنتفع بمخلوقات الله وإن لم تفهم كيف خُلِقَتْ؟ وكيف كانت؟ انتفعنا بكروية الأرض وبالشمس وبالقمر دون أن نعرف شيئاً عنها، ووضع العلماء حسابات للكسوف وللخسوف والأوقات قبل أن تكتشف كروية الأرض.
فالرجل الأميّ الذي لا يعلم شيئاً يشتري مثلاً «التليفزيون» ويتعلم كيفية تشغيله والانتفاع به، دون أنْ يعلم شيئاً عن تكوينه أو كيفية عمله ونَقْله للصورة وللصوت.. إلخ. فخُذْ ما في الكون من
9523
جمال وانتفع به كما خلقه الله لك دون أن تخوض في أصل خَلْقه وكيفية تكوينه، كما لو قُدِّم لك طعام شهيّ أتبحثُ قبل أن تأكل: كيف طُهِي هذا الطعام؟!
وقد تباينتْ آراء العلماء حول هذه الآية ومعنى الرَّتْق والَتْق، فمنهم مَنْ قال بالرأي الذي قالتْه التوراة، وأنها كانت جوهرة نظر الله إليها نظرة المهابة، وحدث لها كذا وكذا، وتكوَّنت السماء والأرض.
ومنهم مَنْ رأى أن المعنى خاصٌّ بكل من الأرض والسماء، كل على حِدَة، وأنهما لم يكونا أبداً ملتحمتين، واعتمدوا على بعض الآيات مثل قوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً﴾ [عبس: ٢٤ - ٢٨].
وفي موضع آخر قال: ﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: ١١ - ١٢].
فالمراد - إذن - أن الأرض وحدها كانت رَتْقاً، فتفجرت بالنبات، وأن السماء كانت رتْقاً فتفجرت بالمطر، فشقَّ الله السماء بالمطر، وشَقّ الأرض بالنبات الذي يصدعها: ﴿والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع﴾ [الطارق: ١١ - ١٢].
وقال عن السماء: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام... ﴾ [الفرقان: ٢٥]
9524
على اعتبار أن السماء كُلُّ ما علاك فأظلّك، فيكون السحاب من السماء.
نفهم من هذا الرأي أن الفَتْق ليس فَتْقَ السماء عن الأرض، إنما فتق كل منهما على حِدَة، وعلى كل حال هو فَهْم لا يُعطي حكماً جديداً، واجتهاد على قَدْر عطاء العقول قد تُثبته الأيام، وقد تأتي بشيء آخر، المهم أن القوليْن لا يمنع أحدُهما الآخر.
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ... ﴾ [الأنبياء: ٣٠] قال أصحاب التأويل الثاني: ما دام ذكر هنا الماء، فلا بُدَّ أن له صلة بالرَّتْق والفَتْق في كل من الأرض والسماء.
ونلحظ أن الآية لم تَقُلْ: كل شيء حيَّا، إنما ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ... ﴾ [الأنبياء: ٣٠] وقد استدلوا بها على أن الحيَّ المراد به الحياة الإنسانية التي نحياها، ولم يفطنوا إلى أن الماء داخلٌ في تكوين كل شيء، فالحيوان والنبات يحيا على الماء فإنْ فَقَد الماء مات وانتهى، وكذلك الأدنى من الحيوان والنبات فيه مائية أيضاً، فكُلُّ ما فيه لمعة أو طراوة أو ليونة فيه ماء.
فالمعنى ﴿كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ..﴾ [الأنبياء: ٣٠] أي: كل شيء مذكور موجود.
والتحقيق العلمي أن لكل شيء حياةً تناسبه، وكل شيء فيه ماء، بدليل قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ... ﴾ [الأنفال: ٢٤].
والحق سبحانه يخاطبهم وهم أحياء، إذن: يحييكم أي: حياة أخرى لها قيمة؛ لأن حياتكم هذه قصاراها الدنيا، إنما استجيبوا لحياة أخرى خالدة هي حياة الآخرة.
9525
وسمُيِّ الشيء الذي يتصل بالمادة، فتدبّ فيها الحياة روحاً، فقال: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي... ﴾ [الحجر: ٢٩].
وسُمِّي المنهج الذي ينزل من السماء لهداية الأرض روحاً، وسُمّي الملَك الذي ينزل به روحاً؛ لأنه يعطينا حياة دائمة باقية، لا فناء لها، وهكذا يتم الإرتقاء بالحياة.
فإذا نزلنا أدنى من ذلك وجدنا للحيوان حياة، وللنبات حياة، فالحيوان يُنْفَق ويموت، والنبات إنْ منعتَه الماء جَفَّ وذَبُل وانتهى. أما الجماد فله حياة أيضاً، بدليل قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... ﴾ [القصص: ٨٨].
فوَصَف كل ما يقال له شيء بأنه هالك، والهلاك ضد الحياة، فلا بُدَّ أن تكون له حياة، ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... ﴾ [الأنفال: ٤٢] فالحياة ضِدُّها الهلاك.
إذن: فكل شيء في المخلوقات حتى الجماد له حياة، وفي تكوينه مائية، كما قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ... ﴾ [الأنبياء: ٣٠].
ويختتم سبحانه هذه الآية بقوله: ﴿أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٠] يعني: أعَمُوا عن هذه الآيات التي نُبِّهوا إليها، وامتنعوا عن الإيمان؟ يعني: أعَمُوا عن هذه الآيات التي نُبِّهوا إليها، وامتنعوا عن الإيمان؟ فكان يجب عليهم أنْ يتفتوا إلى هذه الآيات العجيبة والنافعة لهم، كيف والبشر الآن يقفون أمام مخترع أو آله حديثة أو حتى لُعبة تبهرهم فيقولون: مَنْ فعل هذه؟ ويُؤرِّخون له ولحياته، وتخرَّج في كلية كذا... إلخ.
فمن الأَوْلى أنْ نلتفتَ إلى الخالق العظيم الذي أبدع لنا هذا الكون، فالانصراف - إذن - عن آيات الله والإعراض عنها حالة غير طبيعية لا تليق بأصحاب العقول.
9526
يقول الحق سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الأرض... ﴾.
9527
الرواسي: الجبال جمع رَاس يعني: ثابت، وقد عبر عنها أيضاً بالأوتاد، فقال: ﴿والجبال أَوْتَاداً﴾ [النبأ: ٧] شبّه الجبال بالنسبة للأرض بالأوتاد بالنسبة للخيمة.
ثم يذكر عِلَّة ذلك: ﴿أَن تَمِيدَ بِهِمْ... ﴾ [الأنبياء: ٣١] أي: مخافة أن تميل وتضطرب وتتحرك بهم، ولو أنها مخلوقة على هيئة الثبوت ما كانت لتميد أو تتحرك، وما احتاجت لأن يُثبِّتها بالجبال؛ لذلك قال تعالى: ﴿وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب... ﴾ [النمل: ٨٨].
فليس غريباً الآن أن نعرف أن للجبال حركة، وأنْ كنا لا نراها؛ لأنها ثابتة بالنسبة لموقعك منها؛ لأنك تسير بنفس حركة سيرها، كما لو أنك وصاحبك في مركب، والمركب تسير بكما، فأنت لا تدرك حركة صاحبك لأنك تتحرك بنفس حركته.
وقد شبَّه الله حركة الجبال بمرِّ السحاب، فالسحاب لا يمرُّ بحركة ذاتية فيه، إنما يمرُّ بدفْع الرياح، كذلك الجبال لا تمرُّ بحركة ذاتية إنما بحركة الأرض كلها، وهذا دليل واضح على حركة الأرض.
ثم يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً... ﴾ [الأنبياء: ٣١] أي من حكمة الله أنْ جعل لنا في الأرض سُبُلاً نسير فيها، فلو أن الجبال كانت كتلة تملأ وجه الأرض ما صَلُحَتْ لحياة البشر وحركتهم
9527
فيها، فقال ﴿فِجَاجاً سُبُلاً... ﴾ [الأنبياء: ٣١] أي: طرقاً واسعة في الوديان، والأماكن السهلة. وفي موضع آخر قال: ﴿لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً﴾ [نوح: ٢٠].
ومعنى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا... ﴾ [الأنبياء: ٣١] يصح في الجبال أو في الأرض، ففي كل منهما طرق يسلكها الناس، وهي في الجبال على شكل شِعَأب ووديان.
ثم يذكر سبحانه عِلَّة ذلك، فيقول: ﴿لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [الأنبياء: ٣١] والهداية هنا تحتَمل معنيين: يهتدون لخالقها ومكوِّنها، ويستدلون بها على الصانع المبدع سبحانه، أو يهتدون إلى البلاد والأماكن والاتجاهات، وقديماً كانوا يتخذون من الجبال دلائل وإشارات ويجعلونها علامات، فيصفون الأشياء بمواقعها من الجبال، فيقولون: المكان الفلاني قريب من جبل كذا، وعلى يمين جبل كذا، وقد قال شاعرهم:
خُذَا بَطْنَ هِرْشَي أو قَفَاهَا فَإنَّهُ كِلاَ جَانِبَي هَرْشَي لَهُنَّ طَريقُ
فالهداية هنا تشمل هذا وذاك، كما في قوله تعالى: ﴿وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: ١٦] أي: يهتدون إلى الطرق والاتجاهات، وكان العربي يقول مثلاً: اجعل الثُّريَا عن يمينك أو النجم القطبي، أو سهيل أو غيرها، فكانوا على علم بمواقع هذه النجوم ويسيرون على هَدْيها.
9528
أو: يهتدون إلى أن للنجوم علاقة بحياة الإنسان الحيِّ، وقديماً كانوا يقولون: فلان هَوَى نَجْمه، كأن لكل واحد منا نجماً في السماء له علاقة ما به، وهذه يعرفها بعض المختصين، وربما اهتدوا من خلالها إلى شيء، شريطة أن يكونوا صادقين أمناء لا يخدعون خَلْق الله.
ويُؤيِّد هذا قوله تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٥ - ٧٦] أي: لو كنتم على معرفة بها لعلمتُم أن للنجوم دوراً كبيراً وعظيماً في الخَلْق.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً... ﴾.
9529
سمَّي السماء سقفاً؛ لأن السماء كل ما علاَك فأظلّك، وفرْقٌ بين سقف من صنع البشر يعتمد على أعمدة ودعائم.. الخ، وسقف من صُنْع الخالق العظيم، سقف يغطي الأرض كلها ومحفوظ بلا أعمدة، سقف مَسْتوٍ لا نتوءَ ولا فتور.
والسماء أخذتْ دوراً تكوينياً خصَّها الله به كما خَصَّ آدم عليه السلام، فالخَلْق جميعاً خُلِقوا بكُنْ من أب وأم، أمّا آدم فقد خُلق خلقاً مباشراً بيد الله سبحانه، لذلك قال تعالى: ﴿قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ... ﴾ [ص: ٧٥] وهذا شرف كبير لآدم.
وكذلك قال في خَلْق السماء: ﴿والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ... ﴾ [الذاريات: ٤٧].
9529
وفي آية أخرى قال سبحانه: ﴿والسمآء ذَاتِ الحبك... ﴾ [الذاريات: ٧] يعني: محبوكة ومحكمة، والحبكة معناها أن ذراتها التي لا تُدرَك ملتحمة مع بعضها، ليس التحاماً كلياً إنما التحام ذرات؛ لذلك ترى السماء ملساء؛ ولذلك قال عنها الخالق عَزَّ وَجَلَّ: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ [النازعات: ٢٨].
ولك أن تلاحظ صنعة البشر إذا أراد أحدنا أنْ يبنيَ مثلاً، أو يصنع سقفاً، فالبناء يُبنى بمنتهى الدقة، ومع ذلك ترى طوبة بارزة عو طوبة، فيأتي عامل المحارة فيحاول تسوية الجدار، ويزنه بميزان الماء، ومع ذلك نجد في الجدار تعاريج، ثم يأتي عامل الدهانات، فيحاول إصلاح مثل هذه العيوب فيعد لها معجوناً ويكون له في الحائط دور هام.
وبعد أن يستنفد الإنسان كل وسائله في إعداد بيته كما يحب تأتي بعد عدة أيام، فترى الحق - سبحانه وتعالى - يُعدِّل على الجميع، ويُظهر لهم عيوب صنعتهم مهما بلغتْ من الدِّقة بقليل من الغبار ينزل عمودَياً فيرُيك بوضوح ما في الحائط من عيوب.
وإذا كانت صنعتة البشر تختلف باختلاف مهارة كل منهم وحَذَقة في عمله، فما بالك إنْ كان الصانع هو الله الذي يبني ويُسوِّي ويُزيِّن؟ ﴿الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ... ﴾ [الملك: ٣].
وانظر إلى أمهر الصُّناع الآن، يُسوِّي سقفاً لعدة حجرات،
9530
ويستخدم مادة واحدة ويُلوِّنها بلون واحد، لا بُدَّ أن تجد اختلافاً من واحدة للأخرى، حتى إنْ خلط العامل اللون مرة واحدة لكل الحجرات يأتي اللون مختلفاً، لماذا؟ لأنه حين يأخذ من هذا الخليط تجد ما يتبقى أكثر تركيزاً، فإذا لم يكمل العمل في نفس اليوم تجد ما تبقّى إلى الغد يفقد كمية من الماء تؤثر أيضاً في درجة اللون.
ومعنى: ﴿مَّحْفُوظاً... ﴾ [الأنبياء: ٣٢] أي: في بنية تكوينه؛ لأنه مُحْكَم لا اختلاف فيه، ولا يحفظ إلا الشيء النفيس، تحافظ عليه لنفاسته وأصالته. لكن من أيّ شيء يحفظه الله؟ يحفظها أن تمور، يحفظها أن تقع على الأرض إلا بإذنه. ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [الحج: ٦٥].
وقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ... ﴾
[الروم: ٢٥].
إذن: في خَلْق السماء عظمة خَلْق، وعظمة تكوين، وعظمة صيانة تناسب قدرته تعالى، وإنْ كانت لا تحتاج إلى صيانة لأنها صنعتنا.
ومن المسائل التي بيَّنها لنا الحق - سبحانه وتعالى - في أمر السماء مسألة استراق السمع، فكانت الشياطين قبل الإسلام تسترق السمع، لكن بعد رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاء الحق سبحانه ألاَّ يدلس على دعوته بسماع شيطان يُوحِي إلى أعدائه، فمنع الجن من استراق السمع بالشُّهُب، فقال سبحانه:
9531
﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ﴾ [الحجر: ١٦ - ١٨].
ثم يقول سبحانه: ﴿وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٢] كأن للسماء آيات خاصة بها، ففي الكون آيات كثيرة، وللسماء آياتها، فالشمس والقمر والنجوم والأفلاك من آياتها.
وبعد ذلك نسمع من رجال الأرصاد أن من كواكب السماء ما لم يَصِلْنا ضوؤه منذ خلق الله الأرض حتى الآن، مع أن سرعة الضوء ثلثمئة ألف كيلومتر في الثانية، ويمكن أن نفهم هذا في ضوء قوله تعالى: ﴿والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: ٤٧].
لذلك يعطينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صورة تقريبية لهذه المسألة، حتى لا نُرهق أنفسنا بالتفكير فيها: «ما السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة لملْك الله إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة».
ومع ذلك لما صعد رواد الفضاء للقمر سارع بعض علمائنا من منطلق حُبِّهم للإسلام وإخلاصهم للقرآن بالقول بأنهم صعدوا للسماء، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن: ٣٣].
والمراد هنا: سلطان العلم الذي مكَّنَهم من الصعود.
لكن ما داموا نفذوا بِسلطن العلمِ، فلماذا قال بعدها: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ﴾ [الرحمن: ٣٥] إذن
9532
السلطان المراد ليس هو سلطان العلم كما يظنون، إنما المراد سلطان مِنِّى، بإذني وإرادتي.
ولو كان الأمر كما يقولون لقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أخبرهم بالمعراج: كيف تقول ذلك يا محمد وربك هو القائل: ﴿يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن: ٣٣].
إذن: المراد هنا سلطان من الله تعالى هو سبحانه الذي يأذن بهذه المسألة، فتُفتّح له أبواب السماء.
ثم ما علاقة القمر بالسماء؟ والكلام عن النفاذ من أقطار السماوات، وأين القمر من السماء؟ إن المسافة بين الأرض والقمر سنتان ضوئيتان، فالقمر - إذن - ما هو إلا ضاحية من ضواحي الأرض، كالمعادي مثلاً بالنسبة للقاهرة، فأَيُّ سماء هذه التي يتحدثون عنها؟!
وقوله تعالى: ﴿مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٣] سبق أن تحدّثنا عن الإعراض، وهو الانصارف عن الشيء مِنْ أعرض يعني: أعطاه ظهره.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل....﴾.
9533
الحق - سبحانه وتعالى - يمتنّ ببعض خَلْقه، ولا يمتن الله إلا
9533
بشيء عظيم ونعمة من نعمه على عباده، ومن ذلك الليل والنهار، وقد أقسم سبحانه بهما في قوله تعالى: ﴿والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى﴾ [الليل: ١ - ٢] وقال: ﴿والضحى والليل إِذَا سجى﴾ [الضحى: ١ - ٢] فالليل والنهار آيتان متكاملتان، ليستا متضادتين، فالأرض خلقها الله ليعمرها خليفته فيها: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا... ﴾ [هود: ٦١].
أي: طلب منكم عمارتها بما أعطاكم الله من مُقوِّمات الحياة، فالعقل المدبر، والجوارح الفاعلة، والقوة، والمادة كلها مخلوقة لله تعالى، وما عليك إلا أنْ تستخدم نِعَم الله هذه في عمارة أرضه، فإذا ما تَمَّتْ الحركة في النهار احتاج الجسم بعدها إلى الراحة في الليل.
لذلك كان النوم آية عُظْمى من آيات الله للإنسان تدلّ على أن الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - أمين على النفس أكثر من صاحب النفس.
لذلك نرى البعض مِنّا يُرهِق نفسه في العمل، ولا يعطي لجسده راحته الطبيعية، إلى أنْ يصيرَ غير قادر على العمل والعطاء، وهنا يأتي النوم كأنه رادع ذاتيٌّ فيك يُجبرك على الراحة، ويدقُّ لك ناقسو الخطر: أنت لست صالحاً الآن للعمل، ارحم نفسك وأعطها حقَّها من الراحة، فإنْ حاولتَ أنت أنْ تنام قبل وقت النوم يتأبَّى عليك ولا يطاوعك، أما هو فإنْ جاء أخذك من أعتى المؤثرات. وغلبك على كل شيء فتنام حتى على الحصى.
وفي المثل العربي: (فراش المتعبَ وطيء، وطعام الجائع هَنِيء) أي: هين ينام الإنسان المتعَب المجهد ينام، ولو على
9534
الحصى، ولو دون أيِّ وسائل للراحة، ومع ذلك ينام نَوْمه مريحة.
وفي المثَل أيضاً: (النوم ضيف، إنْ طلبتَه أعْنَتَكَ، وإنْ طلبك أراحك) والحق سبحانه يُحدِّثن عن آية النوم في موضع آخر: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار﴾ [الروم: ٢٣].
وهنا احتياط ومَلْحظ، فإنْ كان النوم بالليل للسكن وللراحة، فهناك مَنْ يعملون بالليل، فينامون بالنهار كالحرّاس ورجال الشرطة والخبازين وغيرهم، وهؤلاء لا مانعَ أن يناموا بالنهار ليسايروا حركة الحياة.
ثم يقول تعالى: ﴿والشمس والقمر... ﴾ [الأنبياء: ٣٣] نعم هناك آيات أخرى كثيرة في كَوْن الله، لكن أوضحها وأشهرها: الشمس والقمر فهما تحت المشاهدة ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٣] فالليل والنهار والشمس والقمر يدور كُلٌّ منهم خَلْف الآخر ويخلقه، كما قال سبحانه: ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً... ﴾ [الفرقان: ٦٢].
وكلمة ﴿يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٣] تعبير قرآني دقيق للأداء الحركي، وهي مأخوذة من سبحة السمك في الماء حيث يسبح السمك في ليونة الماء بحركة انسيابية سهلة؛ لأن الحركة لقطع المسافات إما حركة إنسيابية، وإما حركة قفزية.
وتلاحظ هاتين الحركتين في عقارب الساعة، فلو لاحظت عقرب الثواني مثلاً لوجدّتَه يتحرّك حركة قفزية، يعني: ينطلق من الثبات إلى الحركة إلى الثبات، فالزمن فيه جزء للحركة وجزء للسكون.
أما عقرب الدقائق فيسير بحركة إنسيابية مستمرة، كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة، وهكذا تكون سُبْحة السمك، ومنها قوله تعالى: ﴿والسابحات سَبْحاً﴾ [النازعات: ٣].
9535
وكذلك تكون حركة الظل: ﴿أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل... ﴾ [الفرقان: ٤٥] وأيضاً حركة نمو الطفل، فلو أدَمَْتَ النظر إلى طفلك الصغير لا تكاد تلاحظ عليه مظاهر النمو، وكأنه لا يكبر أمام عينيك، أمّا لو غِبْتَ عنه مثلاً عدة شهور يمكن أن تلاحظ نُموه؛ ذلك لأن النمو حركة مُوزّعة على كل ثانية في الزمن؛ لا أن النمو يتجمع ثم يظهر فجأة ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ... ﴾.
9536
ذلك لأن الكفار حاولوا قتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإلقاء حجر عليه من مكان عالٍ وهكذا يتخلَّصون منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكانوا يتمنون ذلك، فيخاطبه ربه: يا محمد لست بدعاً من الرسل ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠].
وهذه سُنَّة الله في خَلْقه، بل موتك يا محمد لنسرع لك بالجزاء على ما تحمّلْته من مشاقِّ الدعوة، وعناء الحياة الدنيا.
لذلك «لما خُيِّر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الموت قال:» بل الرفيق الأعلى «أما نحن فنتشبث بالحياة، ونطلب امتدادها.
9536
فقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد... ﴾ [الأنبياء: ٣٤] فأنت كغيرك من البشر قبلك، أما مَنْ بعدك فلن يخلدوا بعد موت ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ [الأنبياء: ٣٤] فلا يفرحوا بموتك؛ لأنهم ليسوا خالدين من بعدك. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم... ﴾.
9537
إذن: فالموت قضية كونية عامة، وهي في حقيقتها خَيْر، فإنْ كانوا أخياراً نُعجِّل لهم جزاءهم عند الله، وإنْ كانوا أشراراً فقد أراحَ اللهُ منهم البلاد والعباد.
لكن، كيف يُذَاق الموت؟ الذَّوْق هنا يعني إحساسَ الإنسان بالألم من الموت، فإنْ مات فعلاً يستحيل أن يذوق، أما قبل أن يموت فيذوق مقدمات الموت، والشاعر يقول:
وَالأَسَى بَعْد فُرْقَةِ الرُّوحِ عَجْزٌ وَالأسَى لاَ يكُونُ قَبْل الفِرَاقِ
فعلى أيِّ شيء يحزن الإنسان بعد أن يموت؟ ولماذا الحزن قبل أن يموت؟
فالمراد - إذن - ذائقةٌ مقدمات الموت، التي يعرف بها أنه ميت، فالإنسان مهما كان صحيحاً لا بُدّ أنْ يأتي عليه وقت يدرك أنه لا محالةَ ميت، ذلك إذا بلغت الروح الحلقوم، كما قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق﴾ [القيامة: ٢٦ - ٢٨] فالموت في هذه الحالة أمر مقطوع به.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً... ﴾ [الأنبياء: ٣٥] أي: نختبركم، والإبتلاء لا يُذَمُّ في ذاته، إنما تذم غية الابتلاء:
9537
أينجح فيه أم يفشل؟ كما نختبر الطلاب، فهل الاختبار في آخر العام شَرٌّ؟ لكن هل الحق سبحانه في حاجة لأنْ يختبر عباده ليعلم حالهم؟ الحق يختبر الخَلْق لا ليعلم، ولكن ليقيم عليهم الحجة.
والمخاطب في ﴿وَنَبْلُوكُم... ﴾ [الأنبياء: ٣٥] الجميع: الغني والفقير، والصحيح والسقيم، والحاكم والمحكوم.. إلخ.
إذن: كلنا فتنة، بعضنا لبعض: فالغنيّ فتنة للفقير، والفقير فتنة للغني، كيف؟ الفقير: هل يصبر على فقره ويرضى به؟ هل سيحقد على الغني ويحسده، أم يقول: بسم الله ما شاء الله، اللهم بارك له، وأعطني من خَيْرك؟ والغني: هل يسير في ماله سَيْراً حسناً، فيؤدي حقَّه وينفق منه على المحتاجين؟
وهكذا، يمكنك أنْ تُجري مثل هذه المقابلات لتعلم أن الشر والخير كلاهما فتنة واختبار، ينتهي إما بالنجاح وإما بالفشل؛ لذلك يقول بعدها: ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥] لنجازي كُلاّ على عمله، فإنْ حالفك التوفيق فَلَكَ الأجر والمكافأة، وإنْ أخفقت فَلَكَ العقوبة، فلا بُدَّ أن تنتهي المسألة بالرجوع إلى الله.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ... ﴾.
9538
هذا خطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن واقعٍ حدثَ له مع الكفار: ﴿وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً... ﴾ [الأنبياء: ٣٦] و (إنْ) هنا ليست شرطية، إنما للنفي كما في قوله تعالى: ﴿الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ... ﴾ [المجادلة: ٢] أي: ما أمهاتهم إلا اللائي ولَدْنهم.
فالمعنى: إذا رآك الذين كفروا لا يتخذونك إلا هُزُواً، أي: يهزأون بك، لكن ما وَجْه الهُزْو هنا؟
قولهم: ﴿أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ... ﴾ [الأنبياء: ٣٦] أي: يعيبها ويسبُّها، ويقول عنها: إنها باطلة ومعنى ﴿أهذا... ﴾ [الأنبياء: ٣٦] كأنهم يستقلّونه، ويستقلّون أنْ يقول هذا عن آلهتهم.
والذكر قد يكون بالخير، وقد يكون بالشر، فإنْ ذكرك صديق تتوقع أنْ يذكرك بخير، وإنْ ذكرك عدو تتوقع أنْ يذكرك بشرٍّ، وطالما أن محمداً سيذكر آلهتهم، فلا بُدَّ أنه سيذكرها بشرٍّ، والشر الذي ذكره محمد عن آلهتكم أنها أصنام وحجارة لا تضرُّ ولا تنفع. ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ... ﴾ [فاطر: ١٤].
ثم يقول تعالى: ﴿وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٦] فكيف تتعجبون وتغضبون أنْ يسُبّ محمد آلهتكم الباطلة، وأنتم تسبُّون الإله الحق، وتكفرون به، ونلحظ أن السياق ذكر الضمير العائد عليهم مرتين: ﴿وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٦] ليؤكد أن ذلك حدث منهم.
9539
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ... ﴾.
9540
معنى: ﴿مِنْ عَجَلٍ... ﴾ [الأنبياء: ٣٧] أي: مُتعجِّلاً كأن في طينته عجلة، والعجلة أن تريد الشيء قبل نُضْجه، وقبل أوانه، وقد يتعجَّل الإنسان الخير، وهذا أمر جائز، أما أنْ يتعجّل الشر فهذا هو الحمق بعينه والغباء، ألم يقولوا لرسول الله: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأنبياء: ٣٨].
ألم يقولوا: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢].
إذن: تعجَّل هؤلاء العذاب؛ لأنهم غير مؤمنين به، لا يُصدِّقون أن شيئاً من هذا سيحدث؛ لذلك يردُّ عليهم: ﴿سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾ [الأنبياء: ٣٧] وخاطب نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [غافر: ٧٧].
أي: سنريك فيهم آياتنا، وسترى ما وعدناهم من العذاب، فإنْ قبضناك إلينا فسترى ما ينزل بهم في الآخرة.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد... ﴾.
وهذا استبطاء منهم لِوَعْد الله بالآخرة والعَرْض عليه سبحانه، وأن سيُعذِّبهم بالنار التي تُنضج جلوددهم، ويُبدِّلهم الله جلوداً غيرها.. إلخ؛ لأنهم لا يُصدِّقون هذا ولا يؤمنون به، وسبق أنْ قالوا لرسول الله: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٩٢].
ثم يقول تعالى: ﴿لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ... ﴾.
أي: لو يعلمون ما يحدث لهم في هذا الوقت حين لا يستطيعون دَفْع النار عن وجوههم، وذَكر الوجه بالذات لأنه أشرف أعضاء الإنسان وأكرمها؛ لذلك إذا أصابك أذىً في وجهك تحرص على إزالته بيدك، وأنت لم تفعل أكثر من أنك نقلْتَ الأذى من وجهك إلى يدك، لماذا؟ لأن الوجه عزيز عليك، لا تقبل إهانته، ولا تتحمَّل عليه أيَّ سوء.
فقوله تعالى: ﴿لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار... ﴾ [الأنبياء: ٣٩] دلاَلة على إهانتهم ﴿وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ... ﴾ [الأنبياء: ٣٩] لأنها تأتيهم من كل مكان: ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ..﴾ [الأنبياء: ٣٩] أي: لا يجدون مَنْ ينقذهم، أو يأخذ بأيديهم ويدفع عنهم.
حتى الشيطان الذي أغواهم في الدنيا سيتبرّأ منهم يوم القيامة، ويقول: ﴿مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: ٢٢] وأصرخه: أزال سبب صراخه، والهمزة في أصرخه تسمى
9541
همزة إزالة، تقول: صرخ فلان إذا وقع عليه ما هو فوق طاقته واحتماله، فيصرخ صرخةً يستدعي بها مَنْ يغيثه ويُعينه، فإنْ أجابه وأزال ما هو فيه فقد أصرخه، يعني: أزال سبب صراخه. فالمعنى: لا أدافع عنكم، ولا تدافعون عني، ولا أنقذكم من العذاب، ولاتنقذونني.
وفي موضع آخر: ﴿كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين﴾ [الحشر: ١٦] فحظُّ الشيطان أنْ يُوقِعك في المعصية، ثم يتبرأ منك.
فما جواب (لو) هنا؟ المعنى: لو يعلم الذين كفروا الوقت الذي لا يكفُّون فيه النار عن وجوههم، ولا عن ظهورهم ولا يُنصرون لكفّوا عما يُؤدِّي بهم إلى ذلك، وانتهَوْت عن أسبابه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ... ﴾.
9542
أي: القيامة، والبغتة: نزول الحدث قبل توقعه لذلك ﴿فَتَبْهَتُهُمْ... ﴾ [الأنبياء: ٤٠] من البهت: أي: الدهشة والحيرة، فإذا ما باغتتهم القيامة يندهشون ويتحيرون ماذا يفعلون؟ وأين يفرون؟
والبغتة تمنع الاستعداد والتأهُّب، وتمنع المحافظة على النفس. ومن ذلك ما كانوا يفعلونه أوقات الحروب من صافرات الإنذار التي تُنبّه الناس إلى حدوث غارة مثلاً، فيأخذ الناس استعدادهم، ويلجئون إلى المخابئ، أمَّا إن داهمهم العدو فجأة فلن يتمكنوا من
9542
ذلك، ولن يجدوا فرصة للنجاة من الخطر.
ومن البَهْت قوله تعالى في قصة الذي حَاجَّ إبراهيم عليه السلام في ربه: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ... ﴾ [البقرة: ٢٥٨].
وقوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٠] أي: لا يُمهَلُون ولا يُؤخَّرون، فليست المسألة تهديداً وننصرف عنهم إلى وقت آخر، إنما هي الأَخْذة الكُبْرى التي لا تُرَدُّ عنهم ولا تُؤخَّر.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ... ﴾.
9543
سبق أنْ خاطب الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: ﴿وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً..﴾ [الأنبياء: ٣٦] لذلك يُسلِّيه هنا: لست بدعاً من الرسل، فَخُذْ هذه المسألة بصدر رَحْب، فلقد استهزئ بالرسل من قبلك فلا تحزن، فسوف يحيق بهم ما صنعوا، ويجدون عاقبة هذا الاستهزاء.
كما جاء في قصة نوح عليه السلام: ﴿وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ... ﴾ [هود: ٣٨] فيردُّ نوح: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ [هود: ٣٨] أي: انتظروا النهاية، وسوف ترون!!.
ومعنى: ﴿فَحَاقَ... ﴾ [الأنبياء: ٤١] أي: حَلَّ ونزل بقسوة ﴿بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأنبياء: ٤١].
9543
وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ﴾ [المطففين: ٢٩ - ٣١] أي: مسرورين فرحين، وهذا دليل على لُؤْمهم ورذالة طباعهم، فلم يكتفوا بالاستهزاء، وإنما يحكونه وينبجحون به. ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: ٣٢ - ٣٦].
هل استطعنا أنْ نُجازيهم بما عملوا؟ نعم يا ربّ.
ولا ننسى أن استهزاء الكفار بأهل الحق استهزاء موقوت بوقته في الدنيا، أمّا استهزاء الله بهم فاستهزاء أبديّ لا نهايةَ له. ويجب هنا أن نتنبه لهذه المسألة، فكثيراً ما يتعرض أهل الإيمان للاستهزاء وللسخرية من أهل الباطل، وهؤلاء الذين يسخرون منهم لأجلهم يصون الله لهم الحياة ويدفع عنهم العذاب، كما جاء في الحديث القدسي: «فلولا أطفال رُضَّع، وشيوخ رُكّع، وبهائم رُتَّع لصببتُ عليكم العذاب صباً».
فحين ترى تقياً، فإذا لم تشكره على تقواه وتقتدي به فلا أقلَّ من أنْ تدعَه لحاله، لا تهزأ به، ولا تسخر منه؛ لأن في وجوده
9544
استبقاءً لحياتك وأَمْنِكَ، وأقل ما يمكنك أنْ تُقيِّم به التقى: يكفيك منه أن أمنتَ شرَّه، فلن يعتدي عليك، ولن ترى منه شيئاً يسؤوك.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار... ﴾.
9545
أي: يرعاكم ويحفظكم، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يُجري مقارنة بين إنعامه سبحانه على عباده وما يقابلونه به من جحود ونكران وكفران، أنتم تكفرون بالله وتُؤذُون الصالحين من عباده وتسخرون منهم، وهو سبحانه الذي ﴿يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار... ﴾ [الأنبياء: ٤٢] أي: كلاءة صادرة من الله الرحمن.
كما في قوله تعالى: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله... ﴾ [الرعد: ١١] فليس المراد أنهم يحفظونه من أمر الله الذي أراده الله فيه؛ لأن الحِفْظَ صادر من الله، والحفَظة مكلّفون من قبله تعالى بحفظكم، وليس تطوُّعاً منهم. وكلاءة الله لك وحفْظه إياك في النهار وفي الليل وأنت نائم عليك حَفَظة يحفظونك، ويدفَعون عنك الأذى.
وكثيراً ما نسمع أن بعض الناس قام من نومه فوجد ثعباناً في فراشه، ولم يُصِبْه بسوء، وربما فزع لرؤيته فأصابه مكروه بسبب هذا الخوف، وهو لا يعلم أن الثعبان لا يؤذيه طالما أنه لم يتعرَّض له، وهذا من عجائب هذه المخلوقات أنها لا تؤذيك طالما لا تؤذيها. إذن: لا أحدَ يرقبك ويحفظك في نومك مِمَّا يُؤذيك إلا الحق سبحانه.
وكلاءة الله لكم لا تقتصر على الحِفْظ من المعاطب، فمن كلاءته سبحانه أن يمدّكم بمقوّمات الحياةَ، فالشمس بضوئها، والقمر
9545
بنوره، والأرض بنباتها، والسماء بمائها. ومع هذا تكفرون به، وتسخرون من رسله وأهل طاعته؛ لذلك يقول بعدها: ﴿بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٢] وما كان يصحّ أنْ يغيبَ ذِكْره تعالى عنهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا... ﴾.
9546
أَلَهم آلهة أخرى تمنعهم من الإيمان بالله؛ هؤلاء الآلهة لا يستطيعون نَصْر أنفسهم، وكيف ينصرون أنفسهم، وهي أصنام من حجارة نحتَها عُبَّادها على أشكال اختاروها؟ كيف ينصرون أنفسهم، ولو أطاحت الريح بأحدهم لاحتاج لمَنْ يرفعه ويقيمه؟
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٣] كانوا قديماً في البادية، إذا فعل أحدهم ذنباً، أو فعل فَعْله في إحدى القبائل، واحتاج إلى المرور عليهم في طريقه يذهب إلى واحد قويٍّ يصاحبه في مشواره، ويحميه منهم إلى أنْ يمرَّ على ديارهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ [الشعراء: ١٤].
فالمراد: يصحبه كي يحميه بهذه الصُّحْبة وينجو من العذاب، فهؤلاء لن نكون في صُحْبتهم لننجيهم، ولا أحدَ يستطيع أن يصحبهم لينجيهم من عذابنا، لا هذه ولا تلك.
9546
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ... ﴾.
9547
أي: أنهم مكثوا فترة طويلة من الزمن يتقلَّبون في نعَم الله، لكن انظروا ماذا حدث لهم بعد ذلك، فخذوا منهم عبرةً: ﴿أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا..﴾ [الروم: ٩].
ومع ذلك أُخذوا أَخْذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ [الأنعام: ٦].
ثم يقول سبحانه: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ... ﴾ [الأنبياء: ٤٤].
وفي موضع آخر: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب﴾ [الرعد: ٤١].
9547
وهذه آية من الآيات التي وقف عندها بعض علماءنا من النبيين من بعمليات القرآن، فلما أعلن العلماء أن الأرض بيضاوية، لشكل، وليست كاملة الاستدارة، يعني: أقطارها مختلفة بالنسبة لمركزها، سارع بعضهم من منطلق الغَيْرة على دين الله ومحاولة إثبات صِدْق القرآن، وأنه سبق إلى ذِكْر هذه المسألة فقالوا: لقد ذكر القرآن هذا الإكتشاف في قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ... ﴾ [الأنبياء: ٤٤] يعني: من ناحية خط الاستواء، لا من ناحية القطبين.
وغفل هؤلاء أن الآية تقول: ﴿نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ..﴾ [الأنبياء: ٤٤] لا من طرفها، فالنقص من جميع الأطراف، فمِثْل هذه الأقوال تفتح الباب للطعن في القرآن والخوْض فيه.
ونتساءل ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ... ﴾ [الأنبياء: ٤٤] رأي هنا علمية أم بصرية؟ لو قلنا: إنها بصرية فهذه ظاهرة لم تُعْرَف إلا في القرن العشرين، ولم ينتبه لها أحد قبل ذلك، إذن: فهي ليست بصرية. وأيضاً ليست علمية، فلم تصل هذه المعلومة إلى هؤلاء، ولم يكُنْ العرب حينذاك أمةَ علم، ولا أمة ثقافة، ولاشيء من ذلك أبداً. فإذا ما استبعدنا هذا التفسير، فما المعنى المناسب؟
نقول: إنْ كانت رأي بصرية، فقد رأوا هذه الظاهرية في الأمم السابقة، وقد كانوا يصادمون دين الله ويحاربونه؛ لأنه جاء ليقضي على سلطتهم الزمنية، ويجعل الناس سواء، ومع ذلك كان الدين ينتشر كل يوم وتزيد رقعته وتقلّ رُقعة الكفر.
فالمعنى: ننقص أرض الكفر إما من الناس، أو من العمائر التي تُهدم وتخرب بالزلازل والخسف وغيره، فننقص الأرض، وننقص
9548
الناس، وننقص مظاهر العمران في جانب الكفر، وهذا النقص هو نفسه الزيادة في أرض الإيمان. وهذه الظاهرة حدثت في جميع الرسالات.
فإنْ قال قائل: كيف نقبل هذا التفسير، وزيادة أرض الإيمان لم تحدث إلا بعد الهجرة، والآية مكية؟ تقول: كَوْن الآية مكية لا يقدح في المعنى هنا، فليس من الضروري أن يَروْا ذلك في أنفسهم، ويكفي أنْ يروها في الأمم السابقة، كما جاء في قوله تعالى:
﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ﴾ [الصافات: ١٣٧].
وقال: ﴿وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد﴾ [الفجر: ٩ - ١٢].
وإن اعتبرنا (رأي) علمية، فقد علموا ذلك من أهل الكتاب ممَّنْ تحالفوا معهم، فما حدث للأمم السابقة سيحدث لكم.
وقوله تعالى: ﴿أَفَهُمُ الغالبون﴾ [الأنبياء: ٤٤] يعني: أفلم يشاهدوا أنَّا ننقص الأرض من أطرافها، أم أن هذا لم يحدث، وهم الغالبون؟ أيهما الغالب: رسل الله، أم الكافرون؟ الإجابة أنهم غُلِبوا واندحروا، فقال تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ [الصافات: ١٧٣] وقال: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا... ﴾ [غافر: ٥١]
ويخاطب الحق سبحانه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي... ﴾.
9549
أي: أن رسول الله ما أبلغكم بشيء من عند نفسه، إنما كل ما جاء به من وعد ووعيد فهو من عند الله، وأنتم أنفسكم تؤكدون على بشريته، نعم هو بشر لا يعلم شيئاً كما تقولون، وهذه تُحسَب له لا عليه، إنما ربه يوحي إليه.
فلو قال محمد: إنما أنذركم.. لكان لكم حق أنْ تتشكَّكوا، إنما القائل هو الله، وأنا مجرد مُبلِّغ عن الله الذي يملك أعِنَّة الأحداث، فإذا قال بوجود حدث فلا بُدَّ أنْ يقع.
ثم يقول تعالى: ﴿وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٥]
وحاسّة السمع هي أول معلوميات الإنسان، وأول حواسه عملاً، وقبل أن يتكلم الطفل لا بُدَّ أنْ يسمع أولاً، لينطق ما سمعه؛ لأن السمع هو الإدراك الأول المصاحب لتكوين الإدراكات، والأذن - كما قلنا - تسبق العين في أداء مهمتها.
لذلك قدّمه الحق سبحانه، فقال: ﴿إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: ٣٦].
والسمع هو الآلة التي لا تتعطّل عن مهمتها، حتى ولو كان الإنسان نائماً؛ لأن به يتم الاستدعاء؛ لذلك لما أراد الحق سبحانه أنْ يُنيم أهل الكهف هذه المدة الطويلة ضرب على آذانهم، وعطّل عندهم حاسة السمع حتى لا تُزعجهم أصوات الطبيعة خارج الغار، فقال: ﴿فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً﴾ [الكهف: ١١].
ومعنى: ﴿وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء... ﴾ [الأنبياء: ٤٥] صحيح أنهم يسمعون، وآلة السمع عندهم صالحة للعمل، إلا أنه سماعٌ لا فائدة
9550
منه، ففائدة السمع أنْ تستجيب لمن يُحدِّثك، فإذا لم تستجِبْ فكأنك لم تسمع، وإذا أمرت العامل مثلاً بشيء فتغافل عنه تقول له: أأنت أطرش؟ ولذلك سماهم القرآن: صُماً.
وقوله تعالى: ﴿إِذَا مَا يُنذَرُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٥] أي: لَيْتهم يتغافلون عن نداء عادي، إنما يتغافلون وينصرفون ﴿إِذَا مَا يُنذَرُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٥] حين يُخوِّفهم عذاب الله، والإنذار والتحذير أَوْلَى ما يجب على الإنسان الاهتمام به، ففيه مصلحته، ومن الغباء ألاَّ يهتم به، كما لو أنذرتَ إنساناً وحذَّرْتَه من مخاطر طريق، وأن فيه ذئاباً أو أُسُوداً أو ثعابين أو قطاعَ طريق، فلا يهتم بكلامك، ولا يحتاط للنجاة بنفسه.
وقلنا: إن الإنذار: أنْ تخبر بشرٍّ قبل أوانه ليستعد لتلافيه، لا أنْ تنذره ساعة الحادث فلا يجد فرصة.
إذن: المسألة ليست طبيعية في التكوين، إنما توجيه إدراكات، كأنْ تكلِّم شخصاً في أمر لا يعجبه، فتجده «أذن من طين، وأذن من عجين» ينصرف عنك كأنه لم يسمع شيئاً، كأحدهم لما قال لصاحبه: فيك مَنْ يكتم السر؟ قال: نعم سِرُّك في بير، قال: أعطني عشرة جنيهات، فردَّ عليه: كأنِّي لم أسمع شيئاً!!!
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ... ﴾.
9551
الآن فقط تنبهتم ووَعَيْتُم؟ الآن بعد أن مسَّكم العذاب؟
ومعنى: ﴿مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ... ﴾ [الأنبياء: ٤٦] أي: مساً ولمساً خفيفاً، والنفخة: هي الريح الليئة التي تحمل إليك آثارَ الأشياء دون حقيقتها، كأن تحمل لك الريحُ رائحة الورود مثلاً، هي لا تحمل لك الوورد نفسها، إنما رائحتها، وتظل الورود كما هي.
كذلك هذه المسَّة من العذاب، إنها مجرد رائحة عذاب، كما نقول لفح النار الذي نشعر به، ونحن بعيدون عنها.
والنفحة: اسم مرَّة أي: تدل على حدوثها مرة واحدة، كما تقول: جلس جَلسة أي: مرة واحدة، وهذا أيضاً دليل على التقليل. (فمسَّتْهُمْ) تقليل و (نَفْحَة) تقليل، وكونها مرة واحدة تقليل آخر، ومع ذلك يضجُّون ويجأرون، فما بالك إنْ نزل بهم العذاب على حقيقته، وهو عذاب أبديّ؟!
وقوله تعالى: ﴿لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٦] الآن ينطقون، الآن يقولون كلمة الحق التي طالما كتموها، الآن ظهرتْ حساسية الإدراك لديهم، فمن أقلِّ القليل ومن رائحة العذاب يجأؤون، وأين كان هذا الإدراك، وهذه الحساسية من قبل؟ إذن: المسألة - كما قلنا - ليست طبيعة تكوين، إنما توجيه إدراكات.
وقولهم: ﴿ياويلنآ... ﴾ [الأنبياء: ٤٦] إحساس بما هم مُقبلون عليه، وهذا القول صادر عن مواجيد في النفس وفي الذِّهْن قبل أن ينطق بالكلمة، ثم يُقرُّون على أنفسهم ويعترفون: ﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٦].
9552
﴿وَنَضَعُ الموازين... ﴾.
9553
نقلهم الحق سبحانه من إنكار وتكذيب وتسفيه كلام الرسول، وعدم الإيمان بالوحي، وصَمِّ آذانهم عن الخير إلى مسألة الحساب والميزان القسط، فلماذا هذه النَّقْلة؟ ليُنبههم ويلفت أنظارهم إلى أن هذا الكلام الذي قابلتموه بالتكذيب والتشكيك كان لمصلحتكم، وأن كل شيء محسوب، وسوف يُوزَن عليكم ويُحْصَى، وكأنه ينصحهم، فما تزال رحمانية الله بهم وحِرْصه على نجاتكم.
وكلمة (موازين) جمع: ميزان، وهو آلة نُقدِّر بها الأشياء من حيث كثافتها، لأن التقدير يقع على عدة أشياء: على الكثافة بالوزن، وعلى المسافات بالقياس.. الخ، وقد جعلوا لهذه المعايير ثوابت، فمثلاً: المتر صنعوه من البلاتين حتى لا يتآكل، وهو موضوع الآن - تقريباً - في باريس، وكذلك الياردة. وجعلوا للوزن معايير من الحديد: الكيلو والرطل.. إلخ.
وقديماً كانوا يَزِنُون قطعةً من الحجارة تساوي كيلو مثلاً، ويستعملونها في الوزن؛ لأن لها مرجعاً، لكن هذه القطعة تتآكل من كثرة الاستعمال، فلا بُدَّ من تغييرها.
9553
وهنا تكلَّم عن الشيء الذي يَوزَن، ولم يذكر المعايير الأخرى، قالوا: لأن الأشياء التي لها كثافة هي الأكثر، وكاوا يختبرون الأولاد يقولون: كيلو الحديد أثقل، أم كيلو القطن؟ فالولد ينظر إلى القطن فيراه هَشَّاً مُنتفِشاً فيقول: القطن، والقطن أزيد من الحديد في الحجم، لكن كثافته يمكن أن تستطرق، فنُرقّق القطن إلى أن يتحول إلى مساحة طول وعرض. إذن: العُمْدة في التقدير: الثقل.
وفي موضع آخر قال تعالى: ﴿والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان﴾ [الرحمن: ٧] فهل هي موازين متعددة، أم هو ميزان واحد
الخَلْق جميعاً سيُحاسبون مرة واحدة، فلن يقفوا طابوراً ينتظر كل منهم دَوْره، بل في وقت واحد؛ لذلك لما سُئِل الإمام على - كرَّم الله وجهه: كيف يُحاسب الله الخَلْق جميعاً في وقت واحد؟ قال: كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد. فالمسألة صعبة بالنسبة لك، إنما سهلة ميسورة للحق سبحانه.
والقِسْط: صفة للموازين، وهي مصدر بمعنى عدل، كما تقول في مدح القاضي: هذا قاضٍ عادل. أي: موصوف بالعدل، فإذا أردتَ المبالغة تقول: هذا قاضٍ عَدْل، كأنه هو نفسه عَدْل أي (معجون بالعدل) ؛ لذلك نقول في أسماء الحق سبحانه: الحكم العدل. ولا نقول: العادل.
وهذه المادة (قسط) لها دور في اللغة، فهي من الكلمات المشتركة التي تحمل المعنى وضده، مثل (الزوج) تُطلق على
9554
الرجل والمرأة، و (العَيْن) تطلق على العين: العين الباصرة، وعلى عين الماء، وعلى الجاسوس، وعلى الذهب والفضة.
كذلك (القِسْط) نقول: القِسْط بالكسر مثل: حِمْل بمعنى العدل من قَسَط قِسْطَاً. ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ [المائدة: ٤٢] ونقول: القَسْط بالفتح يعني: الظلم من قسط قُسوطاً وقَسْطاً، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ [الجن: ١٥] أي: الجائرون الظالمون.
والقِسْط بمعنى العدل إذا حكم بالعدل أولاً وبداية، لكن أقسط يعني كان هناك حكم جائر فعدَّله إلى حكم بالعدل في الاستئناف.
ومن هذه المادة أيضاً قوله تعالى: ﴿ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله... ﴾ [الأحزاب: ٥] فأقسط هنا: أفعل تفضيل، تدل على أن حكم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مسألة زيد كان عَدْلاً وقِسْطاً، إنما حكم ربه تعالى هو أقسط وأعدل.
ومعلوم من قصة زيد بن حارثة أنه فضَّل رسول الله واختاره على أهله، وكان طبيعياً أنْ يكافئه رسول الله على محبته وإخلاصه ويُعوِّضه عن أهله الذين آثر عليهم رسولَ الله، وكانت المكافأة أن سماه زيد بن محمد.
إذن: الحق سبحانه عدل لرسوله، لكن عدل له العدل لا الجوْر، وعَدْل الله أَوْلى من عدل محمد لذلك قال: ﴿أَقْسَطُ عِندَ الله... ﴾ [الأحزاب: ٥] أما عندكم أنتم فقد صنع محمد عَيْن العَدْل.
وقوله تعالى: ﴿ادعوهم لآبَآئِهِمْ..﴾ [الأحزاب: ٥] جاء ليبطل التبني؛ ليكون ذلك مقدمة لتشريع جديد في الأسرة والزواج والمحارم وأمور كثيرة في شرع الله لا تستقيم في وجود هذه
9555
المسألة، وإلاّ فكيف سيكون حال الأسرة حين يكبر المتنبنّي ويبلغ مَبلْلَ الرجال؟ وما موقفه من الزوجة ومن البنت، وهو في الحقيقة غريب عن الأسرة؟
ومسألة الموازين هذه من المسائل التي وجد فيها المستشرقون تعارضاً في ظاهر الآيات، فجعلوا منها مَأخَذاً على كتاب الله، من ذلك قولهم بالتناقض بين الآيتين: ﴿وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة... ﴾ [الأنبياء: ٤٧] وقوله تعالى: ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً﴾ [الكهف: ١٠٥] حيث أثبت الميزان في الأولى، ونفاه في الثانية.
وقلنا: إن هؤلاء معذورون؛ لأنهم لا يملكون الملكَة اللغوية التي تمكِّنهم من فَهْم كلام الله. ولو تأملنا اللام في ﴿نُقِيمُ لَهُمْ... ﴾ [الكهف: ١٠٥] لا نحلَّ هذا الإشكال، فاللام للملك والانتفاع، كما يقولون في لغة البنوك: له وعليه. والقرآن يقول: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت... ﴾ [البقرة: ٢٨٦].
فالمعنى: ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً﴾ [الكهف: ١٠٥] أي: وزناً في صالحهم، إنما نقيم عليهم وندينهم. كذلك نجد أن كلمة الوزن تُستعمل في اللغة إمَّا لوزن الماديّ، أو لوزن المعنى، كما نقول: فلان لا وَزْنَ له في الرجال.
وعلى هذا يكون المعنى: أنهم لا وَزْنَ لذواتهم ومادتهم، إنما الوزن لأعمالهم، فلا نقول: كان من الأعيان، كان أصله كذا وكذا، وهذه المسألة واضحة في قصة ابن نوح عليه السلام: ﴿قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ... ﴾ [هود: ٤٦].
فالنبوة هنا بُنوّة عمل وإيمان، لا بُنوة ذات.
9556
وقد ظَنَّ الكفار والعصاة أن لهم وَزْناً عند الله، ومنزلة ستكون لهم في الآخرة، كما كانت لهم في الدنيا، كما جاء في قصة صاحب الجنتين الذي قال لأخيه متباهياً مفتخراً. ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾
[الكهف: ٣٤ - ٣٦].
لكن هيهات أنْ يكون لهم وَزْنٌ في الآخرة، فالوزن في القيامة للأعمال، لا للأعيان.
إذن: المعنى لا نقيم لذواتهم، إنما نزن أعمالهم؛ لذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقرابته: «لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأحسابكم».
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً» فالذوات والأحساب والأنساب لا قيمة لها في هذا الموقف.
وقوله تعالى: ﴿فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً... ﴾ [الأنبياء: ٤٧] مع أن القاعدة: ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ..﴾ [البقرة: ١٩٤] وهؤلاء قد ظلموا الحق سبحانه ظُلْماً عظيماً حين أشركوا به، وظلموا رسول الله لما قالوا عنه: ساحر، وكاذب ومجنون، ومع ذلك فلن نردّ هذا الاعتداء بمثله بظلمهم.
9557
وقوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا... ﴾ [الأنبياء: ٤٧] والخردل: مثال للصِّغَر، للدلالة على استقصاء كل شيء، ولا يزال الخردل هو المقياس العالمي للكيلو، فقد وجدوا حَبَّ الخردل مُتَساوياً في الوزن، فأخذوا منه وحدة الكيلو الآن، وقد أتى بها القرآن منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان.
ومعنى: ﴿أَتَيْنَا بِهَا... ﴾ [الأنبياء: ٤٧] أي: لهم أو عليهم، فإنْ كانت لهم علموا أنَّ الله لا يظلمهم، ويبحث لهم عن أقلِّ القليل من الخير، وإنْ كانت عليهم علموا أن الله يستقصي كل شيء في الحساب، وحَبّة الخردل تدل على صِغَرها على الجحم، وكلمة مثقال تدل على الوزن، فجمع فيها الحجم والوزن.
ثم يُعقِّب سبحانه على هذه المسألة: ﴿وكفى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧] فلا أحد يُجيد هذه المسألة ويُدقِّقها كما نفعل نحن، فليست عندنا غفلة بل دِقَّة وضبَطْْ لمعايير الحساب.
ولا تظن أن مسألة الحساب والميزان مسألة سهلة يمكن أن تصل فيها إلى الدقة الكاملة مهما أخذتَ من وسائل الحيطة، فأنت بشر لا تستطيع أنْ تزِنَ الوزن المضبوط؛ لأن المعيار الحديد الذي تزن به عُرْضة في استعماله للزيادة أو النقصان.
فقد يتراكم عليه الغبار ويقع عليه مثلاً نقطة زيت، وبمرور الوقت يزيد المعيار ولو شيئاً ضيئلاً، وهذا في صالح الموزون له، وقد يحدث العكس فينقص الميزان نتيجة الملامسة للأشياء، ولك أن تنظر مثلاً إلى (أكرة) الباب تراها لامعةً على خلاف ما حولها. إذن: أي ملامسة أو احتكاك للأشياء يُنقصها.
حتى في الموازين الحديثة التي تضمن لك أقصى درجات الدقة
9558
فبشرية الإنسان لا يمكن أن تُعطى الدقة المتناهية، وهذا معنى ﴿وكفى بالله حَسِيباً﴾ [الأحزاب: ٣٩] ﴿وكفى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧] لأن معياره تعالى لا يختلف، ولا ينسى شيئاً، ولا يغفل عن شيء.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى....﴾.
9559
يريد الحق - تبارك وتعالى - أن يُسلِّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويُخفِّف عنه مَا لاقاه من قومه، فيذكر له نماذج من إخوانه أُولِي العزم من الرسل الذين اضطهدهم أقوامهم، وآذوهم ليُسهِّل على رسول الله مهمته، فلا يصده إيذاء قومه عن غايته نحو ربه.
فبدأ بموسى - عليه السلام - لأنه من أكثر الرسل الذين تعبوا في دعوتهم، فقد تعب موسى مع المؤمنين به فضلاً عن الكافرين به، فقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان... ﴾ [الأنبياء: ٤٨] لأن رسالتهما واحدة، وهم فيها شركاء: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً... ﴾ [القصص: ٣٤] وقال: ﴿اشدد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي﴾ [طه: ٣١ - ٣٢].
والفرقان: هو الفارق القوي بين شيئين؛ لأن الزيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى، كما تقول: غفر الله لفلان غفراناً،
9559
وتقول: قرأت قراءة، وقرأة قرآناً، فليست القراءة واحدة، ولا كل كتاب يُقرأ.
والفرقان من أسماء القرآن: ﴿تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان: ١].
فالفرقان - إذن - مصدر يدلُّ على المبالغة، تقول: فرَّق تفريقاً وفرقاناً، فزيادة الألف والنون تدل على زيادة في المعنى، وأن الفَرْق في هذه المسألة فَرْق جليل وفَرْق واضح؛ لأن كونك تُفرِّق بين شيئين يترتب على ذلك خطورة في تكوين المجتمع وخطورة في حركة الحياة، فهذا فرقان؛ لذلك سَمَّي القرآن فرقاناً؛ لأنه يُفرِّق بين الحق والباطل.
ومن الفرقان، قوله تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً... ﴾ [الأنفال: ٢٩] وتقوى الله لا تكون إلا بتنفيذ أوامره وتعاليمه الواردة في القرآن الذي نزل على محمد، والفرقان هنا يعني: نور تُفَرِّق به بين الأشياء وتُميِّز به بين المتشابهات.
وعلى قَدْر ما تتقي الله باتباع الفرقان الأول يجعل لكم الفرقان الثاني، وتتكوَّن لديكم فراسة المؤمن وبصيرته، وتنزل عليكم الإشراقات التي تُسعِف المؤمن عندما يقع في مأزق.
ألاَ تراهم يقولون: فلان ذكي، فلان حاضر البديهة. أي: يستحضر الأشياء البعيدة وينتفع بها في الوقت الحاضر، وهذا من توفيق الله له، ونتيجة لبصيرته وفراسته، وكانت العرب تضرب
9560
المثل في الفراسة والذكاء بإياس بن معاوية حتى قال الشاعر:
إقْدامُ عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتِمِ في حِلْمِ أَحنَفَ في ذَكَاءِ إيَاسِ
ويُرْوَى أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور لما أراد أنْ يحج بيت الله في آخر مرة، بلغه أن سفيان الثوري يتناوله ونتقده ويتهمه بالجور، فقال: سوف أحج هذا العم، وأريد أنْ أراه مصلوباً في مكة، فبلغ الخبر أهل مكة، وكان سفيان الثوري يقيم بها في جماعة من أصحابه من المتصوفة وأهل الإيمان، منهم سفيان بن عيينة والفضيل بن عياض، وكانا يُدلِّلان الثوري ويعتزان به.
وفي يوم كان الثلاثة في المسجد والثوري مُسْتَلْقٍ بين صاحبيه يضع رأسه في حِجْر أحدهما، ورِجلْيهْ في حِجْر الآخر، وقد بلغهم خبر المنصور ومقالته، فتوسل ابنُ عيينة والفضيل للشيخ الثوري: يا سفيان لا تفضحنا واختفِ حتى لا يراك، فلو تمكَّن منك المنصور ونفذ فيك تهديده فسوف يَضعف اعتقاد الناس في المنسوبين إلى الله.
وهنا يقول الثوري: والذي نفسي بيده لن يدخلها، وفعلاً دخل المنصور مكة من ناحية الحجون، فعثرت به الدابة، وهو على مشارف مكة فوقع وأُصيب بكسر فمات لساعته. ودخل المنصور مكة محمولاً وأتَوْا به إلى المسجد الحرام حيث صلى عليه الثوري.
9561
هذا هو الفرقان والنور والبصيرة وفراسة المؤمن الذي يرى بنور الله، ولا يصدر في أمر من أموره إلا على هَدْيه.
ويُروى أن المهدي الخليفة العباسي أيضاً دخل الكعبة، فوجد صبياً صغيراً في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره يلتف حوله أربعمائة شيخ كبير من أصحاب اللحي والهَيْبة والوقار، والصبي يُلْقِي عليهم درساً، فتعجب المهدي وقال: أُفٍّ لهذه السعانين يعني الذقون، أمَا كان فيهم مَنْ يتقدم؟! ثم دنا من الصبي يريد أن يُقرِّعه ويؤنِّبه فقال له: كم سِنّك يا غلام؟ فقال الصبي: سني سِنُّ أسامة بن زيد حينما ولاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إمارة جيش فيه أبو بكر وفيه عمر، فقال له المهدي - معترفاً بذكائه وأحقيقته لهذا الموقف: بارك الله فيك.
فالفرقان - إذن - لا تُستعمل إلا للأمور الجليلة العظيمة، سواء ما نزل على موسى، أو ما نزل على محمد، إلا أن الفرقان أصضبح عَلَماً على القرآن، فهناك بين العلم والوصف، فكل ما يُفرِّق بين حَقٍّ وباطل تصفه بأنه فرقانٌ، أمّا إنْ سُمِّي به ينصرف إلى القرآن.
والمتأمل في مادة (فَرَق) في القرآن يجد أن لها دوراً في قصة موسى عليه السلام، فأول آية من آياته: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر... ﴾ [البقرة: ٥٠].
والفَرْق أنْ تفصل بين شيء مُتصل مع اختلاف هذا الشيء، وفي علم الحساب يقولون: الخَلْط والمزج، ففَرْق بين أن تفصل بين أشياء مخلوطة مثل برتقال وتفاح وعنب، وبين أنْ تفصلها وهي مزيج من العصير، تداخل حتى صار شيئاً واحداً.
إذن: ففَرْق البحر لموسى - عليه السلام - ليس فَرْقاً بل فرقاناً،
9562
لأن أعظم ألوان الفروق أن تَفرِق السائل إلى فِرْقيْن، كل فِرق كالطود العظيم، ومَنْ يقدر على هذه المسألة إلا الله؟
ثم يقول تعالى: ﴿وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٨] أي: نوراً يهدي الناس إلى مسالك حياتهم دون عَطَب، وإلاَّ فكيف يسيرون في دروب الحياة؟ فلو سار الإنسان على غير هدى فإمّا أنْ يصطدم بأقوى منه فيتطحم هو، وإمّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه، فالضياء - إذن - هام وضروري في مسيرة الإنسان، وبه يهتدي لحركة الحياة الآمنة ويسعي على بينة، فلا يَتْعب، ولا يُتعِب الآخرين.
﴿وَذِكْراً... ﴾ [الأنبياء: ٤٨] أي: يذكِّر ويُنبِّه الغافلين، فلو تراكمتْ الغفلات تكوَّنَ الران الذي يحجب الرؤية ويُعمى البصيرة، لذلك لما شبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غفلة الناس قال: «تُعْرَض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً».
وفي رواية «عوذاً عوذاً» أي يستعيذ بالله أن يحدث هذا لمؤمن، فهل رأيتَ صانع الحصير حينما يضمُّ عُوداً إلى عُود حتى يُكوِّن الحصير؟ كذلك تُعرَض علينا الفتن، فإنْ جاء التذكير في البداية أزال ما عندك من الغفلة فلا تتراكم عليك الغفلات.
«فأيُّما قلب أُشْرِبها - يعني قَبلَها - العود تلو العود - نُكتَتْ فيه نكتة سوداء، وأيُّما قلب أنكرها نُكتَتْ فيه نكتة بيضاء، حتى تكون
9563
على قلبين - صدق رسول الله - على أبيض مثل الصفا لا تضرُّه فتنة، ما دامت السماوات والأرض. أو على أسود كالكوز مُجَخِّياً - يعني منكُوساً - لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً».
قالوا: فذلك هو الرَّانُ الذي يقول الله فيه: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤] والذكر هو الذي يُجلِّي هذا الران.
﴿وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٨] ومن صفاتهم أنهم: ﴿الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب... ﴾
9564
الخشية: الخوف بتعظيم ومهابة، فقد تخاف من شيء وأنت تكرهه أو تحتقره. فالخشية كأنْ تخاف من أبيك أو من أستاذ كأن يراك مُقصِّراً، وتخجلل منه أنْ يراك على حال تقصير. فمعنى الخوف من الله: أن تخاف أن تكون مُقصِّراً فيما طُلِب منك، وفيماً كلَّفك به؛ لأن مقاييسه تعالى عالية، وربما فاتكَ من ذَلك شيء.
وفي موضع آخر يشرح الحق سبحانه هذه المسألة، فيقول: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء... ﴾ [فاطر: ٢٨] لماذا؟ لأنهم الأعلم بالله وبحكمته في كونه، وكلما تكشَّفَتْ لهم حقائق الكون وأسراره ازدادوا لله خشية، ومنه مهابة وإجلالاً؛ لذلك قال عنهم: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ... ﴾ [النحل: ٥٠] أي: أعلى منهم وعلى رؤوسهم، لكن بِحُبٍّ ومهابة.
ومعنى: ﴿بالغيب... ﴾ [الأنبياء: ٤٩] أنهم يخافون الله، مع أنهم
9564
لا يَروْنه بأعينهم، إنما يَرَوْنَه في آثار صُنْعه، أو بالغيب يعني: الأمور الغيبية التي لا يشاهدونها، لكن أخبرهم الله بها فأصبحت بَعْد إخبار الله كأنها مشهدٌ لهم يروْنَها بأعينهم.
أو يكون المعنى: يخشون ربهم في خَلَواتِهم عن الخَلْق، فمهابة الله والأدب معه تلازمهم حتى في خَلْوتهم وانفرادهم، على خلاف مَنْ يُظهِر هذا السلوك أمام الناس رياءً، وهو نمرود في خَلْوته.
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٩] والإشفاق بمعنى الخوف أيضاً، لكنه خَوْفَ يصاحبه الحذر مما تخاف، فالخوف من الله مصحوب بالمهابة، والخوف من الساعة مصحوب بالحذر منها، مخافة أنْ تقوم عليهم قبل أنْ يُعِدوا أنفسهم لها إعداداً كاملاً يُفرحهم بجزاء الله ساعة يلقوْنَه. ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ... ﴾.
9565
أي: كما جاءت التوراة ﴿ذِكْراً... ﴾ [الأنبياء: ٤٨] كذلك القرآن الذي نزل عليك يا محمد (ذكر)، لكنه ﴿ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ..﴾ [الأنبياء: ٥٠] يقولون: هذا شيء مبارك يعني: فيه البركة، والبركة في الشيء أنْ يعطي من الخير فوق ما يتوقع فيه.
كما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسقي صحابته من قَعْب واحد من اللبن،
9565
ويُطعِم الجيش كله من الطعام اليسير القليل. وتسمعهم يقولون: فلان راتبة ضئيل، ومع ذلك يعيش هو وأولاده في كذا وكذا فنقول: لأن الله تبارك له في هذا القليل.
فمعنى ﴿ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ... ﴾ [الأنبياء: ٥٠] أي: فيه من الخير فوق ما تظنون، فإياك أنْ تقولوا: إنه كتاب أحكام وتكاليف فحسْب، فالقرآن فيه صفة الخلود، وفيه من الأسرار ما لا ينتهي، فبركته تشمل جميع النواحي وجميع المجالات إلى أنْ تقوم الساعة. فمهما رددنا آياته نجدها جميلة مُوحِية مُعبّرة. فكل عصر يأتي بجديد، لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقَضي عجائبه فهو مبارك لأن ما فيه من الخير يتجاوز عصر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكل العصور والأعمار والقرون فيعطي كل يوم سراً جديداً من أسرار قائله سبحانه.
إذن: فالقرآن ﴿ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ... ﴾ [الأنبياء: ٥٠] لأن ما فيه من وجوه الخير سيتجاوز العصر الذي نزل فيه، ويتجاوز كل الأعمار وكل القرون، فيعطي كل يوم لَوْناً جديداً من أسرار قائله والمتكلِّم به؛ لذلك يتعجّب بعدها من إنكار القوم له: ﴿أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٥٠] أَمِثْل هذا الكلام يُنكر؟
وسبق أنْ أوضحنا أقوالهم في القرآن.
منهم مَنْ قال: سحر. ومنهم من قال: شعر. ومنهم من قال
9566
كذب وأساطير الأولين، وهذا كله إفلاس في الحُجَّة، وتصيُّد لا معنى له، ودليل على تضارب أفكارهم.
ألم يقولوا هم أنفسهم: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] إذن: هم يعرفون صِدْق القرآن ومكانته، وأنه من عند الله، ولا يعترضون عليه في شيء، إنما اعتراضهم على مَنْ جاء بالقرآن، وفي هذا دليل على أنهم ليست عندهم يقظة في تغفيلهم.
وتأمل: ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ..﴾ [الأنبياء: ٥٠] ولم يقل: هذا القرآن، كأنه لا يُشار إلا إلى القرآن. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ... ﴾.
9567
نلاحظ أن الحق سبحانه بدأ تسليته لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذِكْر طرف من قصة موسى، ثم ثنَّى بقصة إبراهيم، مع أن إبراهيم عليه السلام سابقٌ لموسى، فلماذا؟ لأن موسى له صِلَة مباشرة باليهود وقريب منهم، وكان اليهود معه أهلَ جَدَل وعناد.
ومعنى ﴿رُشْدَهُ... ﴾ [الأنبياء: ٥١] الرُّشْد: اهتداء العقل إلى الأكمل في الصلاح والأعلى في الخير، بحيث لا يأتي بعد الصلاح فسادٌ، ولا بعد الخير شر، ولا يُسلمك بعد العُلو إلى الهبوط، هذا هو الرُّشْد. أما أنْ يجرَّك الصلاح الظاهر إلى فساد، أو يُسلِمَك اليخر إلى شر، فليس في ذلك رُشْدٌ.
9567
والآن نسمعهم يتحدثون عن الفنون الجميلة، ويستميلون الناس بشعارات برّاقة أعجبتْ الناس حتى وصلت بهم الجرأة إلى أنْ قالوا عن الرقص: فنٌّ راقٍ وفنّ جميل.. سبحان الله، الرقص كما قلتم لو أنه فعلاً راقٍ وجميل، وظل كذلك إلى آخر الطريق، ولم ينحدر إلى شيء قبيح وهابط، ماذا يحدث حين يجلس الرجل أمام راقصة تُبدِي من مفاتنها وحركاتها ما لا تُحسنه زوجته في البيت؟ كم بيوت خَرِبَتْ وأُسرَ تهدمت بسبب راقصة، فأيُّ رقيٍّ؟ وأيُّ جمال في هذا الفن؟!
لذلك؛ فالإمام علي - كرَّم الله وجهه - لخَّص هذه المسألة فقال: «لا شَرَّ في شَرٍّ بعده الجنة، ولا خيرَ في خير بعده النار».
إذن: على الإنسان أن ينتبه إلى الرُّشْد الذي هو اهتداء العقل إلى الصالح الأعلى أو إلى الكمال الأعلى أو الخير الأعلى. وهذا الرُّشْد له اتجاهان: رُشْد البِنْية، ورُشْد المعنى.
رُشْد البِنْية وهو اكتمال تكوين الإنسان بحيث يُؤدِّي كل جهاز فيه وظيفته، وهذا لا يكون إلا بعد سِنِّ البلوغ، وقد جعل الخالق سبحانه استواء الأعضاء التناسلية دليلاً على اكتمال هذا الرُّشْد حين يصير المرء قادراً على إنجاب مثله.
وهذا واضح في الثمار حيث لا يحلو مذاقها إلا بعد نضجها واكتمال بذرتها لتكون صالحة للإنبات إذا زرعتها، وهذا من حكمة الخالق - سبحانه وتعالى - فنأكل الثمرة ونستبقي نوعها ببذرتها الصالحة، أما لو استوت الثمرة للأكل قبل نُضْج بذرتها لأكلنا الثمار الموجودة ولم نستبق نوعها فتنقرض.
لذلك، من حكمة الله أيضاً أن الثمرة إذا استوتْ ونضجَتْ ولم تجد مَنْ يقطفها تسقط من تلقاء نفسها، وتُجدِّد دورتها في الحياة.
9568
ولأمر ما جعل الله التكليف بعد البلوغ، فلو كلّفك قبل البلوغ لوجدتَ في التكاليف نَهْياً عن بعض الأمور التي لا تعرفها ولا تدركها، وقد تعترض على ربك: كيف أفعل يا ربّ وقد جاءتني هذه الغريزة ففعلتْ بي كذا وكذا.
ولكل آلة وجهاز في جسم الإنسان رُشْد يناسبه، ونمو يناسب تكوينه، فمثلاً عَيْن الطفل وفمه وأصابع يده كلها تنمو نمواً مناسباً لتكوين الطفل.
أما الأسنان ففيها حكمة بالغة من الخالق عَزَّ وَجَلَّ، فقد جعل للطفل في المرحلة التي لا يستطيع فيها تنظيفَ أسنانه بنفسه، ولا حتى يستطيع غيره تنظيفها جعل له (طقماً) احتياطياً من الأسنان، يصاحبه في صِغَره تُسمَّى الأسنان اللبنية، حتى إذا ما شَبَّ وكَبر واستطاع أنْ يُنَظّف أسنانه بنفسه أبدله الله (طَقْماً) آخر يصاحبه طوال عمره.
وهناك رُشْد أعلى، رُشْد فكري معنوي، رُشْد يستوي فيه العقل والتفكير ويكتمل الذِّهنْ الذي يختار ويُفَاضل بين البدائل، فقد يكتمل للمرء رُشْد البُنياني الجسماني دون أنْ يكتملَ عقله وفِكْره، وفي هذه الحالة لا نُمكِّنه من التصرف حتى نختبره، لنعلم مدى إحسانه للتصرف فيما يملك، فإنْ نجح في الاختبار فَلْنُعْطِه المال الذي له، يتصرف فيه كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ... ﴾ [النساء: ٦] أي: لا تنتظر حتى يكبر، ثم تعطيه
9569
ماله، يفعل فيه ما يشاء دون خِبْرة ودون تجربة، إنما تختبره وتَشْركه في خِضَمِّ الحياة ومعتركها، فيشبّ مُتمرِّساً قادراً على التصرف السليم.
وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ... ﴾ [النساء: ٥] لأنهم إن بلغوا الرشْد البدنيّ فلم يبلغوا الرُّشد العقلي، وإياك أن تقول: هو ماله يتصرف فيه كما يشاء، فليس للسفيه مال بدليل: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ... ﴾ [النساء: ٥] ولم يقُلْ: أموالهم، فهو مالُكَ تحافظ عليه كأنه لك، وأنت مسئول عنه أمام الله، ولا يكون مال السَّفيه له إلا إذا أحسنَ التصرف فيه.
ومن الرُّشْد ما سماه القرآن الأشُدّ: ﴿حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ... ﴾ [الأحقاف: ١٥].
والأشُدُّ هو: التسامي في الرُّشْد وقال هنا (أربعين سنة) مع أننا ذكرنا أن الإنسان يبلغ رُشْد البِنْية ورُشْد العقل بعد سِنَِّ البلوغ في الخامسة عشرة تقريباً، إذن: مَنْ لم يرشُدْ حتى الأربعين فلا أملَ فيه، والنار أَوْلَى به؛ لأنه حين يكفر أو ينحرف عن الطريق في عنفوانه شبابه وقوته نقول: شراسة الشباب والشهوة والمراهقة، إلى آخر هذه الأعذار فإذا ما بلغ الأربعين فما عذره؟
وإذا لم يتلقَّ مبادئ الرُّشْد في صِغَره وفي شبابه، فلا شَكَّ أنه سيجد في أحداث الحياة طوال أربعين سنة واقعاً يُرشده قَهْراً عنه،
9570
حيث يرى أعماله وعواقبها وأخطاءه وسقطاته، وينبغي أنْ يأخذ منها درساً عملياً نظرياً في الرُّشْد.
ومن ذلك ما نسمعه من مصطلحات معاصرة يقولون «الرشد السياسي» ويقولون «ترشيد الاستهلاك»، ما معنى هذه المصطلحات؟ معناها أن أحداث الحياة وتجاربها وعدم الرُّشْد في مسيرتهم عضَّت الناس، وألجأتْهم إلى التفكير في ترشيد يُذهب هذا الفساد.
إذن: فالرُّشْد للذات والترشيد للغير كما نفعل في ترشيد استهلاك القمح مثلاً وكنا نعلف به المواشي، حتى أصبحنا لا نجده؛ لذلك بدأنا في ترشيد استهلاك رغيف الخبز وصِرْنا نقسمه أربعة أقسام، ونأكل بحساب، ولا نهدر شيئاً، وما يتبقى يتبقى نظيفاً نأكله في وَجْبة أخرى.
وقد لا يكون عند الخباز نفسه ترشيد، فيُخرج الرغيف قبل استوائه فتجده عجيناً، كله لبابة، فتأتي ربة البيت الواعية فتفتح الرغيف قبل وضعه على المائدة، وتُخرِج منه هذه البابة، وتجمعها ثم تُحمِّصها في الفرن، وتصنع منها طعاماً آخر.
وما يقال في «ترشيد الخبز» يقال في «ترشيد الماء»، وقد أمرنا رسول الله بترشيد استهلاك الماء حتى في الوضوء الذي هو قربي إلى الله.
هذا الرُّشْد الذي وصفنا رُشْد كل عاقل غير الرسل، وهو أنه يهتدي إلى قضايا حياته، ويتصرّف فيها تصرفاً سليماً، إنما مقتضى نتيجة هذا الصلاح في الدنيا، أما الرسل فلهم رُشْد آخر، رُشْد أعلى للدنيا وللآخرة، وهذه هبة من الله للرسل.
9571
قال تعالى في حَقٍّ إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ... ﴾ [الأنبياء: ٥١] وكأن رُشْد إبراهيم لا يخضع لهذه القواعد، ولا يرتبط ببلوغ، ولا نبوة، بل هو رُشْد سابق لأوانه منذ أنْ كان صغيراً يتأمل في النجوم ويبحث عن ربه: ﴿فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٧٧ - ٧٨].
فكان - عليه السلام - مُؤهِّلاً للرسالة منذ صِغَره، ولما أُرسل ونُبِّيء ظهرتْ مواهب رُشْده حين أُلقِي في النار، وجاءه جبريل - عليه السلام - يعرض عليه المساعدة، فيقول إبراهيم: أما إليك فلا. وهذه أول بشائر الرشد الفكري والعقدي عند إبراهيم.
وفي حَقِّه قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ... ﴾ [البقرة: ١٢٤] أي: اختبره في أشياء فأتمهُنَّ وأتى بِهنّ على أكمل وجه، منها: أنه طلب منه أنْ يرفعَ قواعد البيت، وكان يلفي أن يرفع إبراهيم قواعد البيت إلى ما تطول يده، إنما إبراهيم قواعد البيت إلى ما تطول يده، إنما إبراهيم عليه السلام كان حريصاً أنْ يتم الأمر على أكمل وجه، فيفكر ويحتال في أنْ يأتيَ بحجر ويقف عليه ليرفع البناء بمقدار الحجر، ويساعده ولده الصغير إسماعيل فيناوله الحجارة، لكن الولد الصغير تتزحلق قدماه حينما يرفع الحجارة لأبيه، فيحتال على هذا الأمر فيحفر في الحجر على قَدْر قدميه حتى يثبت، وهاتان القدمان نشاهدهما حتى الآن في حِجْر إسماعيل.
إذن: كان عنده عِشْق لللتكاليف وحِرْص على إتمامها.
9572
وقوله تعالى: ﴿وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٥١] هذا واضح في قوله تعالى: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ... ﴾ [الأنعام: ١٢٤]. ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ... ﴾.
9573
أي: اذكر يا محمد، إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه ﴿مَا هذه التماثيل... ﴾ [الأنبياء: ٥٢].
والتماثيل: جمع تمثال، وهو مأخوذ من مِثْل أو مَثَل، ومِثْل الشيء يعني: شبيهه ونظيره، وكانوا يعمدون إلى الأشياء التي لها جِرْم ويُصورِّونها على صورة أشياء مخلوقة لله تعالى، كصورة الإنسان أو الحيوان، من الحجر أو الحديد أو الخشب أو غيرها ويُسمُّونه تمثالاً، ويُقيمونه ليعبدوه.
وكانوا يبالغون في ذلك: فهذا من الحجر، وهذا من المرمر، وهذا صغير، وهذا كبير، وقد يضعون في عينيه خرزتين ليظهر للرائي أن له نظراً، وهي ألوان من التفنن في هذه الصناعة.
فإبراهيم - عليه السلام - يقول مستنكراً لأبيه وقومه ﴿مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ [الأنبياء: ٥٢].
فالاستفهام هنا على غير حقيقته، بل هو استفهام إنكاري يحمل لهجة الاستهزاء والسخرية والتقريع، ولا بد أنه ألقى عليهم هذا السؤال بشكل أدائي يُوحي بالتقريع.
وسبق أنْ تحدّثنا في معنى (أبيه) هنا وقلنا: المراد عَمُّه،
9573
بدليل قوله في موضع آخر: ﴿لأَبِيهِ آزَرَ... ﴾ [الأنعام: ٧٤] فقد بدأ المسألة بأبيه أو عمه، وهو أقرَبُ الناس إليه، يريد أن يطمئنَ الناسُ إلى ما يدعو إليه، وأنه خير، وإلا ما بدأ بأبيه.
وأيضاً لأن القوم قد لا يكونُ لهم في نفسه تأثير هَيْبة أو حُبٍّ إنما الهيبة والحب موجود بالنسبة لأبيه أو لعمه، ومع ذلك لم تمنعه هذه الهيبة أنْ يُسقِّه كلامهم وأفعالهم الباطلة، كما جاء في قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ [التوبة: ٢٤].
وقد وقف المفسرون عند اللام في قوله تعالى: ﴿لَهَا عَاكِفُونَ﴾ [الأنبياء: ٥٢] مع أن المعنى: يعكفون على عبادتها، كما جاء في آية أخرى: ﴿فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ... ﴾ [الأعراف: ١٣٨] وهنا جاءت باللام؛ لذلك قال بعضهم: اللام هنا بمعنى على، فلماذا عدَل عن علي إلى اللام؟
ولو تنبَّهنا لمعطيات الألفاظ ﴿لَهَا عَاكِفُونَ﴾ [الأنبياء: ٥٢] نقول: الاعتكاف: هو الإقامة. فلان عاكف في المسجد يعني: على الإقامة في المسجد، فكلمة عاكفون وحدها تعطي معنى (على) أي: لصالح هذه الآلهة. أمّا اللام فلشيء آخر، اللام هنا لام الملكية والنفعية. وذكروا لها مثالاً آخر في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ... ﴾ [الأنبياء: ١٠٤].
السِّجل هو: القرطاس والورق الذي نكتب فيه، ومنه قولهم: نُسجِّل كذا يعني: نكتبه في السِّجل أو الورق لتحفظ، ومعنى
9574
﴿لِلْكُتُبِ... ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] يعني: الشيء المكتوب، فكأن المعنى: نطوي الورق على ما كُتِب فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا... ﴾.
9575
إذن: لا حُجَّة لهم في عبادتهم لهذه التماثيل التي صنعوها وأقاموها بأنفسهم، إلا أنهم رَأَوْا آباءهم يعبدونها، فحُجَّتهم التقليد الأعمى، ولو كان عندهم حجة لذاتية العمل لَقالُوها.
وفي موضع آخر قالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣] إذن: نعيب عليهم هذا التقليد ونعيب على آبائهم أيضاً، فكيف يكون رَدُّ إبراهيم إذن؟
وكلمة ﴿عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٣] هنا تعبير عن أن عبادتهم لهم عبادة عن غير فَهْم، لأن العبادة طاعة عباد لأوامر معبوده، فبماذا أمرتهم الأصنام؟
ثم يقول الحق سبحانه عن إبراهيم أنه قال لقومه: ﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ... ﴾.
أراد أنْ يُرشِّد هذا السِّفَه فقال: أنتم في ضلال؛ لأنكم قلّدتم في الإيمان، والإيمان لا يكون بالتقليد، وآباؤكم لأنهم اخترعوا هذه المسألة وسَنُّوهَا لكم.
ومن العجيب أنْ يُقلِّدوا آباءهم في هذه المسألة بالذات دون غيرها، وإلاَّ فَمن الذي يظل على ما كان عليه أبوه، ونحن نرى كُلَّ جيل يأتي بجديد مِمَّا لم يكُنْ معروفاً للجيل السابق.
9575
لذلك يقولون: الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم، فلكُل زمن وَضْعه وارتقاءاته، وأنت تتحكم في ولدك ما دام صغيراً، فيأكل الولد ويشرب ويلبس حَسْب ما تحب أنت، فإذا ما شبَّ وكَبِر صارتْ له شخصيته الخاصة وفِكْره المستقِلّ، فيختار هو مَأكله ومَلْبسه، والكلية التي يدخلها، وربما انتقدكَ في بعض الأمور.
إذن: هؤلاء قلَّدوا آباؤهم في هذه المسألة دون غيرها، فلماذا مسألة الإيمان بالذات تتمسَّكون فيها بالتقليد؟ ولو أن كُلَّ جيل جاء صورة طِبْق الأصل لسابقه لما تغيَّر وَجْه الحياة، ففي هذا دلالة على أن لكل جيل ذاتيته المستقلة وفِكْره الخاص.
لقد قلَّد هؤلاء آباءهم في هذه العبادة دون غيرها من الأمور؛ لأنها عبادة وتديُّن بلا تكليف، وآلهة بلا منهج، لا تُضيِّق عليهم في شيء، ولا تمنعهم شيئاً مما أَلِفُوه من الشهوات، فهو تديُّن بلا تَبِعة.
لذلك؛ فالحق سبحانه يردُّ عليهم في أسلوبين مختلفين، فمرة يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠].
وفي موضع آخر يقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: ١٠٤].
ونلحظ أن عَجُزَ الآيتين مختلف، فمرة: ﴿لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً... ﴾ [البقرة: ١٧٠] ومرة: ﴿لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً... ﴾ [المائدة: ١٠٤] فلماذا؟
قالوا: لأن عَجُزَ كل آية مناسب لصَدْرها، وصَدْر الآيتين مختلف، ففي الأولى قالوا: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ... ﴾ [البقرة: ١٧٠]
9576
فيمكن أن نتبع هذا أو هذا، دون أنْ يقصروا أنفسهم على شيء واحد.
وفي الثانية قالوا: ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ... ﴾ [المائدة: ١٠٤] يعني: يكفينا، ولا نريد زيادة عليه، فَقصَروا أنفسهم على ما وجدوا عليه آباؤهم.
لذلك قال في عَجُز الأولى: ﴿لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً... ﴾ [البقرة: ١٧٠] وفي عَجُز الثانية ﴿لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً... ﴾ [المائدة: ١٠٤] لأن العاقل هو الذي يهتدي إلى الأمر بذاته.
أمّا الذي يعلم فيعلم ما عَقِله هو، وما عَقِله غيره، إذن: فدائرة العلم أوسع من دائرة العقل؛ لأن العقل يهتدي للشيء بذاته، أمَّا العلم فيأخذ اهتداء الآخرين.
فكان ردُّهم: ﴿قالوا أَجِئْتَنَا... ﴾.
9577
يعني: أهذا الكلام يا إبراهيم جدٌّ؟ أم أنك تَهْزِر معنا؟ كأنهم يستبعدون أن يكون كلام إبراهيم جِدّاً؛ لأنه بعيد عن مداركهم. ﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات... ﴾.
يردّ إبراهيم: لقد جئتكم بالحق الذي يقول: إن هذه الأصنام لا تُعبد، بل الذي يستحق العبادة هو الله ربُّ السماوات والأرض: ﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ... ﴾ [الأنبياء: ٥٦] ف (بل) تُضرب عما قبلها، وتُثبِت الحكم لما بعدها
9577
﴿الذي فطَرَهُنَّ... ﴾ [الأنبياء: ٥٦] يعني: خَلق السماوات والأرض والأصنام، وكل ما في الوجود.
﴿وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين﴾ [الأنبياء: ٥٦] والشاهد هو الذي اهتدى إلى الحق، كأنه رَأْى العَيْن، وليس مع العين أَيْن، واهتدى إلى الدليل على هذا الحق، فقال: أنا شاهد على أن ربكم ربّ السماوات والأرض ومعي الدليل على هذه الحقيقة. ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ... ﴾.
9578
بعد ما حدث منهم من لجج وجدال بالباطل أقسم إبراهيم عليه السلام ﴿وتالله... ﴾ [الأنبياء: ٥٧] والتاء هنا للقسم ﴿لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ... ﴾ [الأنبياء: ٥٧] وهل الأصنام تُكَاد؟ أم أن المراد: لأكيدنكم في أصنامكم؟ فالأصنام كمخلوق من مخلوقات الله تُسبِّح لله، وتشكر إبراهيم على هذا العمل.
وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى حين تكلَّم بلسان الأحجار في غار حراء وغار ثور، حيث كانت الحجارة تَغَارُ وتحسد حِراء؛ لأن المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يتعبَّد به قبل البَعْثة، فحِراء شاهدُ تعبُّد لرسول الله يزهو بهذه الصحبة، فلما نزل رسول الله بغار ثور عند الهجرة فرح ثور؛ لأنه صار في منزلة حراء:
9578
لأن الله قال: ﴿وَقُودُهَا الناس والحجارة... ﴾ [البقرة: ٢٤].
قَدْ تَجَنَّوْا جَهْلاً كما قَدْ... تَجنَّوْهُ علَى ابْنِ مرْيَم والحَوارِي
لِلْمُغَالِي جَزَاؤُهُ والمغالَي فِيهِ... تٌنجيهِ رَحْمةُ الغَفَّار
إذن: فتحطيم الأصنام ليس كَيْداً للأصنام، بل لعُبَّادها الذين يعتقدون فيها أنها تضرُّ وتنفع، وكأن إبراهيم - عليه السلام - يقيم لهؤلاء الدليل على بطلان عبادة الأصنام، الدليل العملي الذي لا يُدْفَع وكأن إبراهيم يقول بلسان الحال: حين أُكسِّر الأصنام إنْ كنتُ على باطل فليمنعُوني وليردّوا الفأْسَ من يدي، وإنْ كنتُ على حق تركوني وما أفعل.
وقوله تعالى: ﴿بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٧] أي: بعد أنْ تنصرفوا عنها. يعني: على حين غَفْلة منهم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً... ﴾.
9579
ونلحظ هنا أن السياق القرآني يحذف ما يُفهم من الكلام، كما في قصة سليمان - عليه السلام - والهدهد: ﴿اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل: ٢٨] وحَذْف ما كان من الهدهد ورحلته إلى بلقيس، وإلقائه الكتابَ إليها، وأنها أخذتْه وعرضتْه على مستشاريها: ﴿قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٢٩].
ومعنى ﴿جُذَاذاً... ﴾ [الأنبياء: ٥٨] أي: قطعاً متناثرة وحطاماً،
9579
بعد أنْ كانت هياكل مجتمعة ﴿إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ..﴾ [الأنبياء: ٥٨] أي: أنه تركه فلم يحطمه، وقد كانوا يضعون الأصنام على هيئة خاصة و (ديكور)، بحيث يكون الكبير في الوسط، وحوله الأصنام الصغيرة يعني: كأن له سيطرةً عليهم ومنزلة بينهم، وكانوا يضعون في عينه الزبرجد، حتى يُخيَّل لمَنْ يراه أنه ينظر إليه.
وقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٥٨] فيسألونه عَمَّا حدث لأولاده الآلهة الصغار، ولماذا لم يدافع عنهم خاصةً وقد وجدوا الفأْس على كتفه؟ ﴿قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا... ﴾.
9580
أي: لما ذهبوا إلى المعبد الذي يعبدون فيه أصنامهم وجدوها مُحطمة فقالوا: ﴿مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٥٩] لأنه اعتدى على الآلهة السليمة وكسَّرها.
إذن: هذه الآلهة لا تستطيع أنْ تدفع عن نفسها الضر، وكان عليهم أنْ يتنبّهوا إلى هذه المسألة، كيف يقبَلُون عبادتها، ولو أوقعت الريحُ أحدهم لكسرته، فيحتاج الإله إلى مَنْ يُصلِح ذراعه ويُرمِّمه ويُقيمه في مكانه، فأيُّ ألوهية هذه التي يدافعون عن حقوقها؟!
أي: تطوع بعضهم وقالوا هذا، وكان للقوم يوم مُحدّد يذهبون
9580
فيه إلى معبدهم ومكان أصنامهم، ويأخذون طعامهم وشرابهم، ويبدو أنه كان يَوْمَ عيد عندهم، وقد استعدّ آزر لهذا اليوم، وأراد أنْ يأخذ معه إبراهيم لعلَّ الآلهة تجذبه فيهتدي وينصرف عَمَّا هو فيه.
لكن إبراهيم عليه السلام ادّعى أنه مريض، لا يستطيع الخروج معهم، فقال ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩] وعندها عزم إبراهيم على تحطيم أصنامهم وقال: ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٧] سمعه بعض القوم فأخبرهم بأمره.
﴿قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ... ﴾ [الأنبياء: ٦٠] والذكْر هنا يعني بالشر بالنسبة لهم، ﴿يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: ٦٠] يعني: اسمه إبراهيم، أو حين نناديه نقول: يا إبراهيم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ... ﴾.
9581
ومعنى ﴿على أَعْيُنِ الناس... ﴾ [الأنبياء: ٦١] يعني: على مَرْأىً منهم ليشاهدوه بأعينهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ [الأنبياء: ٦١] أي: يشهدون ما نُوقِعه به من العذاب حتى لا يجترئ أحد آخر أنْ يفعل هذه الفِعْلة، ويكون عبرةً لغيره. ﴿قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ... ﴾.
هنا أيضاً كلام محذوف: فأتَوْا به، ثم سألوه هذا السؤال، والاستفهام ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا﴾ [الأنبياء: ٦٢] استفهام عن الفاعل؛
9581
لأن الفعلَ وضاح لا يحتاج إلى استفهام؛ لذلك لم يقُلْ: أفعلتَ هذا يا إبراهيم، بل اهتم بالفاعل: ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا..﴾ [الأنبياء: ٦٢] كما تقول: أبنيتَ الدار التي كنت تنوي بناءها؟ فهذا استفهام عن الفِعْل، إنما أأنت بنيت الدار، فالمراد الفاعل. ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ... ﴾.
9582
وكأنه يريد أنْ ينتزعَ منهم الإقرار بأن هذا الكبير لا يفعل شيئاً، فيُواجههم: فلماذا - إذن - تعبدونهم؟
وقَوْل إبراهيم ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا... ﴾ [الأنبياء: ٦٣] فيه توبيخ وتبكيت لهم، حيث رَدَّ الأمر إلى مَنْ لا يستطيعه ولا يتأتّى منه، وقد ضرب الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثلاً لذلك برجل جميل الخطِّ، وآخر لا يُحسِن الكتابة، فيرى الأخيرُ لوحة جميلة، فيقول للأول: أأنت كاتب هذه اللوحة؟ فيقول: لا بل أنت الذي كتبتَها!! تبكيتاً له وتوبيخاً.
ثم يُصرِّح إبراهيم لهم بما يريد: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣] وهم لن يسألوهم؛ لأنهم يعرفون حقيقتهم. ﴿فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ... ﴾.
أي: تنبّهوا وعادوا إلى عقولهم، ونطقوا بالحق: ﴿إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون﴾ [الأنبياء: ٦٤] يعني: بعبادتكم هذه الأصنام، وأنتم تعلمون أنها لا تنفع ولا تضرُّ، ولا ترى ولا تتكلم.
هكذا واجهوا أنفسهم بهذه الحقيقة وكشفوا عن بطلان هذه
9582
العبادة، لكن هذه الصحوة ستكون على حسابهم، وخسارتهم بها ستكون كبيرة، هذه الصحوة ستُفقِدهم السُّلْطة الزمنية التي يعيشون في ظلها، وينتفعون من ورائها بما يُهدَي للأصنام؛ لذلك سرعان ما يتراجعون ويعودون على أعقابهم بعد أن غلبهم الواقع وتذكَّروا ما تجرُّه هذه الصحوة. ﴿ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ... ﴾.
9583
فبعد أنْ جابهوا أنفسهم بالحق ﴿نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ... ﴾ [الأنبياء: ٦٥] والنكسة: أن الأعلى يأتي في الأسفل، وأنتم تعلمونها طبعاً!! ورجعوا يقولون له نفس حجته عليهم: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٥] وهذا هو التغفيل بعينه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ... ﴾.
يعني: لا ينفعكم بشيء إنْ عبدتموه ولا يضرّكم بشيء إنْ تركتم عبادته. ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ... ﴾.
أفٍّ: اسم فعل بمعنى أتضجر، فليس اسماً، ولا فعلاً، ولا حرفاً، إنما (أف) اسمٌ مدلوله فعل، ففيه من الاسمية، وفيه من الفعلية؛ لذلك يسمونها «الخالفة» لأن كلام العرب يدور على اسم أو فعل أو حرف، مثل هيهات: اسم فعل بمعنى بَعُدَ. فإبراهيم - عليه السلام - يعبِّر بهذه الكلمة (أُفٍّ) عن ضيقه وتضجُّره ممَّا يفعل قومه من عبادة الأصنام من دون الله. ﴿قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا... ﴾.
ونلحظ قولهم ﴿حَرِّقُوهُ..﴾ [الأنبياء: ٦٨] بالتضعيف الدالّ على المبالغة، ولم يقولوا مثلاً: احْرٍقوه، وقد اجتمعوا على هذا الفعل فبنَوْا بناءً وضعوا فيه النار، ومكثوا أربعين يوماً يسجرونها بكل ما يمكن أن يشتعل، وبذلك اشتدت حرارة النار، حتى إن الطير الذي يمرُّ فوق هذه النار كان يسقط مشوياً من شدة حرها.
والدليل على ذلك أنهم لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار لم يستطيعوا الاقتراب منها لشدة لَفْحها، فصنعوا له منِجنيقاً لِيُلْقُوه به في النار من بعيد.
وقولهم: ﴿وانصروا آلِهَتَكُمْ... ﴾ [الأنبياء: ٦٨] حسب اعتقادهم كأن المعركةَ بين إبراهيم والآلهة، والحقيقة أن الآلهة التي يعبدونها مع إبراهيم وليست ضده، فالمعركة - إذن - بين إبراهيم وبين عُبَّاد الأصنام.
9584
وقولهم: ﴿إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٦٨] يعني: إنْ فعلتم شيئاً بإبراهيم فَحرِّقوه.
ثم يقول الحق سبحانه عن إنجائه لإبراهيم - عليه السلام - من هذه المَحْرقَة: ﴿قُلْنَا يانار كُونِي... ﴾.
9585
جاء هذا الأمر من الحق الأعلى سبحانه؛ ليخرق بالمعجزة نواميس الكون السائدة، ولا يخرق الناموسَ إلا خالقُ الناموس، كما قلنا في قصة موسى عليه السلام: الماء قانونه السيولة والاستطراق، ولا يسلبه هذه الخاصية إلا خالقه؛ لذلك فَرَقه لموسى فُرْقاناً - كما قلنا - كلُّ فِرْق كالطَّوْد العظيم، فلا يُعطّل قانون الأشياء إلا خالقها؛ لأن الأشياء لم تُخلق لتكون لها القدرة على قيُّومية نفسها، بل مخلوقة تُؤدِّي مهمة، والذي خلقها للمهمة هو القادر أنْ يسلبَها خواصّها.
وفَرْق بين فِعْل العبد وفِعْل الحق سبحانه: فلو أنَّ في يدك مسدساً، وأنت تُحسِن التصويب، وأمامك الهدف، ثم أطلقتَ تجاه الهدف رصاصة، أَلَكَ تحكُّمٌ فيها بعد ذلك؟ أيمكن أنْ تأمرها أن تميلَ يميناً أو شمالاً؟
لكن الحق سبحانه يتحكّم فيها، ويُسيِّرها كيف يشاء، فالحق سبحانه خلق النار وخلق فيها خاصية الإحراق، وهو وحده القادر على سَلْب هذه الخاصية منها، فتكون ناراً بلا إحراق، فليس للنار قيومية بذاتها.
9585
لذلك يقول البعض: بمجرد أنْ صدر الأمر: ﴿يانار كُونِي بَرْداً وسلاما... ﴾ [الأنبياء: ٦٩] انطفأت كل نار في الدنيا، فلما قال: ﴿على إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩] أصبح الأمر خاصاً بنار إبراهيم دون غيرها، فاشتعلت نيران عدا هذه النار. ونلحظ أن الحق سبحانه قيَّد بَرْداً بسلام؛ لأن البرد المطلق يؤذي.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً... ﴾.
9586
والمراد بالكيد هنا مسألة الإحراق، ومعنى الكيد: تدبير خفيّ للعدو حتى لا يشعر بما يُدبَّر له، فيحتاط للأمر، والكيد يكون لصالح الشيء، ويكون ضده، ففي قوله تعالى: ﴿كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ... ﴾ [يوسف: ٧٦].
أي: لصالحه فلم يقُلْ: كِدْنا يوسف إنما كِدْنا له، وقالوا في الكيد: إنه دليل ضعف وعدم قدرة على المواجهة، فالذي يُدبِّر لغيره، ويتآمر عليه خُفْية ما فعل ذلك إلاّ لعدم قدرته على مواجهته.
لذلك يقولون: أعوذ بالله من قبضة الضعيف، فإنِّي قويٌّ على قبضة القوى. فإذا ما تمكّن الضعيف من الفرصة لا يدعها؛ لأنه لا يضمنها في كل وقت، أما القوى فواثق من قوته يستطيع أن ينال خَصْمه في أيِّ وقت، ومن هنا قال الشاعر:
كَمْ حَسَدْنَا حِرَاءَ حِينَ تَرَى الرُّوحَ أميناً يغزُوك بالأَنْوارِ
فَحِرَاءُ وثَوْرٌ صَارَا سَواءً بهِمَا تشفع لدولةِ الأحْجَارِ
عَبَدُونَا ونحْنُ أعبَدُ لله مِنَ القائِمينَ بالأسْحَارِ
تخِذُوا صَمْتَنَا عليْنَا دَليلاً فَغدَوْنا لَهُمْ وقُودَ النَّارِ
9586
لذلك استدلوا على ضعف النساء بقوله تعالى: ﴿ِإِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٨] وما دام أن كيدهن عظيم، فضعفُهن أيضاً عظيم أو حتى أعظم.
ثم قول تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين﴾ [الأنبياء: ٧٠] والأخسرون جمع أخسر، على وزن أفعل؛ ليلد على المبالغة في الخُسْران، وقد كانت خسارتهم في مسألة حَرْق إبراهيم من عِدَّة وجوه: أولاً أن إبراهيم عليه السلام لم يُصِبْه سوء رغم إلقائه في النار، ثم إنهم لم يَسْلَموا من عداوته، وبعد ذلك سيجازون على فِعْلهم، هذا في الآخرة، فأيُّ خُسْران بعد هذا؟
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى... ﴾.
9587
﴿وَنَجَّيْنَاهُ... ﴾ [الأنبياء: ٧١] يعني: كان هناك شرٌّ يصيبه، وأذىً يلحق به، فنجّاه الله منه، وهذه النجاة مستمرة، فبعد أنْ أنجاه الله من النار أنجاه أيضاً مِمَّا تعرَّض له من أَذَاهم.
﴿وَلُوطاً... ﴾ [الأنبياء: ٧١] وكان لوط عليه السلام ابنَ أخ إبراهيم ﴿إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] أي: قلنا لإبراهيم: اترك هذه الأرض - وهي أرض بابل من العراق - واذهب إلى الأرض المقدسة بالشام، وخُذْ معك ابن أخيك، فبعد أنْ نجاهما الله لم يتركهما في هذا المكان، بل اختار لهما هذا المكان المقدس.
والأرض حينما تُوصَف يُراد بها أيضاً مُحدَّدة مخصوصة، فإذا لم تُوصَف فتطلق على الأرض عامة إلا أن يعينها سياق الحال، فمثلاً لما قال أخو يوسف: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي... ﴾ [يوسف: ٨٠]
9587
فالسياق يُوضِّح لنا أنها أرض مصر.
لكن قوله: ﴿وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض... ﴾ [الإسراء: ١٠٤] فلم تُعيَّن، فدلَّ ذلك على أنها الأرض عامة، اسكنوا كُلَّ الأرض، يعني: تبعثروا فيها، ليس لكم فيها وطن مستقل، كما قال في آية أخرى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً... ﴾ [الأعراف: ١٦٨].
فإذا أراد الله تجمعوا من الشتات ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة... ﴾ [الإسراء: ١٠٤] أي: المرة التي سينتصرون فيها ﴿جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ [الإسراء: ١٠٤] وهكذا يتجمَّعون في مكان واحد، فيسْهُلُ القضاء عليهم.
ومعنى ﴿بَارَكْنَا فِيهَا... ﴾ [الأنبياء: ٧١] البركة قد تكون مادية أو معنوية، وهي الزروع والثمار والأنهار والخيرات، أو بركة معنوية، وهي بركة القِيَم في الأرض المقدسة، وهي أرض الأنبياء، ومعالم النبوة والرسالات.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ... ﴾.
9588
يعطينا الحق سبحانه هنا لقطةً من قصة إبراهيم لكن بعيدة عَمّا نحن بصدده من الحديث عنه، فقد وهب الله لإبراهيم إسحق لما دعا الله قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين﴾ [الصافات: ١٠٠] مع أنه كان عنده
9588
إسماعيل، لكن إسماعيل من هاجر، وقد تحركت مشاعر الغَيْرة لدى سارة، ووجدت في نفسها ما تجده النساء في مسألة الولد، وكيف يكون لإبراهيم ولد من هاجر التي زوَّجتها له دون أن يكون لها مِثْله.
لذلك ألحَّتْ سارة على إبراهيم أن يدعو الله أنْ يرزقها الولد، فدعا إبراهيم ربه، وأراد الحق سبحانه أن يجيب إبراهيم، وأن يُحقِّق له له ما ترجوه زوجته، لكن أراد أن يعطيه هذا الولد في ملحظ عقدي يُسجَّل ولا يزول عن الأذهان أبداً، ويظلُّ الولد مقترناً بالحادثة.
فبداية قصة إسحق لما أمر الله نبيه إبراهيم في الرؤيا أن يذبح ولده إسماعيل، فأخبره برؤياه: ﴿يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى... ﴾ [الصافات: ١٠٢].
أراد إبراهيم أنْ يُشرك ولده معه في هذا الاختبار، وألاَّ يأخذه على غِرَّة حتى لا تتغير نفسه نحو أبيه فيكرهه وهو لا يعلم ما حدث، وأراد أيضاً ألاَّ يحرم ولده من الثواب والأجر على هذه الطاعة وهذا الصبر على البلاء.
أما إسماعيل فمن ناحيته لم يعارض، ولم يقُلْ مثلاً: يا أبت هذه مجرد رؤيا وليست وحياً، وكيف نبني عليها، بل نراه يقول: ﴿ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ﴾ [الصافات: ١٠٢] ولم يقُلْ: أفعل ما تقول، فما دام الأمر من الله فافعل ما أمرتَ به ﴿ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ [الصافات: ١٠٢].
﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا... ﴾ [الصافات: ١٠٣] أي: هما معاً إبراهيم وإسماعيل ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ... ﴾ [الصافات: ١٠٣] يقال: تله يعني جعل رأسه على
9589
التل، وهو المكان المرتفع من الأرض، و ﴿لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: ١٠٣] يعني: جعل جبهته مباشرة للأرض، بحيث يذبحه من قفاه، وهذا هو الذَّبْح العاجل المثمر.
﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ... ﴾ [الصافات: ١٠٤ - ١٠٥] وما دُمْتَ صدّقْتَ الرؤيا، فلكَ جزاء الإحسان؛ لأنك أسرعتَ بالتنفيذ مع أنها رؤيا، كان يمكنه أن يتراخى في تنفيذها، لكنه بمجرد أن جاء الأمر قام وولده بتنفيذه.
إذن: الحق سبحانه لا يريد من عبده إلا أنْ يُسلِّم بقضائه، وصدق القائل:
وَضَعِيفَةً فَإِذَا أَصَابَتْ فُرْصَة قتلتْ كَذلِكَ قْدْرَةُ الضِّعفَاءِ
سَلِّم لربِّكَ حُكْمَهُ فلحكمةٍ يَقْضِي هـ حتى تستريح وتنْعماً
واذْكُرْ خليلَ اللهِ في ذَبْحِ ابنهِ إذ قال خالقه فلما أسلمَا
لذلك لا يرفع الله قضاءٌ يقضيه على خلقه إلا إذا رُضيَ به، فلا أحدَ يجبر الله على شيء، وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثَل الأعلى - بالأب حين يدخل، فيجد ولده على أمر يكرهه، فيزجره أو يضربه ضربة خفيفة، تُعبِّر عن غضبه، فإنْ خضع الولد لأبيه واستكان عاد الوالد عطوفاً حانياً عليه وربما احتضنه وصالحه، أمّا لو عارض الولد وتبجَّح في وجه والده فإنه يشتد عليه ويُضاعِف له العقوبة، وتزداد قسوته عليه.
وهكذا الحال مع إبراهيم ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠٧] ففدينا له إسماعيل، ليس هذا وفقط بل ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ... ﴾ [الصافات: ١١٢] ثم زاده بأنْ جعل إسحق أيضاً نبياً مثل إسماعيل، هذه هي مناسبة الكلام عن إسحق ويعقوب.
9590
هنا يقول تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً..﴾ [الأنبياء: ٧٢] والنافلة: الزيادة، وقط طلب من ربه ولداً من الصالحين، فبشَّره الله بإسحق ومن بعده يعقوب وجميعهم أنبياء؛ لذلك قال ﴿نَافِلَةً... ﴾ [الأنبياء: ٧٢] يعني: أمر زائد عما طلبتَ؛ فإجابة الدعاء بإسحق، والزيادة بيعقوب، وسرور الإنسان بولده كبير، وبولد ولده أكبر، كما يقولون: «أعز من الوِلْد وِلْد الولد» والإنسان يضمن بقاء ذِكْره في ولده، فإن جاء ولد الولد ضَمِن ذِكْره لجيل آخر.
والهبة جاءت من الله؛ لأن المرأة لم تكُنْ صالحة للإنجاب، بدليل قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ [الذاريات: ٢٩] فردَّ عليها: ﴿قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله... ﴾ [هود: ٧٣] أي: أنه سبحانه قادر على كل شيء.
ويقولالحق سبحانه: ﴿وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٢] فالحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية، ومبالغة في الإكرام، ثم يمتن الله على الجميع بأن يجعلهم صالحين، ويجعلهم أنبياء، كما قال في آية أخرى: ﴿وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾ [مريم: ٤٩]. ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا... ﴾.
9591
أئمة: ليس المقصود بالإمامة هنا السُّلْطة الزمنية من باطنهم، إنما إمامة القدوة بأمر الله ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا..﴾ [الأنبياء: ٧٣] فهم لا يصدرون في شيء إلا على هُدًى من الله.
وقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات... ﴾ [الأنبياء: ٧٣] أي: يفتح لهم أبواب الخير ويُيسِّر لهم ظروفه؛ لأن الموفّق الذي يتوفر لديه الاستعداد للخير يفتح الله له مصارف الخير ويُعينه عليه.
﴿وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة..﴾ [الأنبياء: ٧٣] وإقامة الصلاة هي: عَيْن الخيرات كلها؛ لأن الخيرات نعمة، لكن إقامة الصلاة حضرة في جانب المنعم سبحانه، فالصلاة هي خَيْر الخَيْر.
ومع ذلك نجد مَنْ يتشاغل عن الصلاة، ويعتذر بالعمل وعدم الوقت.. الخ وكلها أعذار واهية، فكنتُ أقول لبعض هؤلاء: بالله عليك لو احتجتَ دورة المياه أتجد وقتاً أم لا؟ يقول: أجد الوقت، فلماذا - إذن - تحتال في هذه المسألة وتدبر الوقت اللازم، ولا تحتال في وقت الصلاة؟
وربك عَزَّ وَجَلَّ لو علم منك أنك تُجيب نداءه لَسهَّل لك الإجابة وقد رأينا الحق سبحانه يُسخِّر لك حتى الكافر ليعينك على أمر الصلاة.
ففي إحدى سفرياتنا إلى بلجيكا رأينا أن أولاد المسلمين هناك لا يدرسون شيئاً من الدين الإسلامي في المدارس، بل يُدرِّسون لهم الدين المسيحي، فطلبنا مقابلة وزير المعارف عندهم، وتكلمنا معه في هذا الأمر، وكانت حُجَّتنا أنكم قبلتُم وجود هؤلاء المسلمين في بلادكم لحاجتكم إليهم، وإسهامهم في حركة حياتكم، ومن مصلحتكم أن يكون عند هؤلاء المسلمين دين يراقبهم قبل مراقبتكم أنتم، وأنتم أوّلُ
9592
المستفيدين من تدريس الدين الإسلامي لأولاد المسلمين.
وفعلاً في اليوم التالي أصدروا قراراً بتدريس الدين الإسلامي في مدارسهم لأولاد المسلمين؛ ذلك لأن الإسلام دين مثمر، ودين إيجابي تضمنه وتأمنه.
فلأهمية الصلاة ذكرها الحق سبحانه في أول أفعال الخيرات، وفي مقدمتها، فقمّة الخيرات أنْ تتواجد مع الإله الذي يهبُكَ هذه الخيرات.
﴿وَإِيتَآءَ الزكاة... ﴾ [الأنبياء: ٧٣] والزكاة تطبيق عمليٌّ للاستجابة لله حين تُخرج جزءاً من مالك لله، والصلاة دائماً ما تُقرَن بالزكاة، فالعلاقة بينهما قوية، فالزكاة تضحية بجزء من المال، والمال في الحقيقة نتيجة العمل، والعمل فرع الوقت، أما الصلاة فهي تضحية بالوقت ذاته.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٣] أي: مطيعين لأوامرنا، مجتنبين لنواهينا، فالعبادة طاعة عباد لمعبوده.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً... ﴾.
9593
﴿وَلُوطاً... ﴾ [الأنبياء: ٧٤] جاءتْ منصوبة؛ لأنها معطوفة على قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ... ﴾ [الأنبياء: ٥١] وأيضاً: آتينا لوطاً رشده. والحُكْم: يعني الحكمة، وأصله من الحكمة التي تُوضَع في حنك الفَرَس؛ لأن الفَرس قد يشرد بصاحبه أو يتجه إلى جهة غير مرادة لراكبه؛ لذلك يوضع في حنكه اللجام أو الحَكمة، وهي قطعة من الحديد لها طرفان، يتم توجيه الفرس منهما يميناً أو شمالاً.
ومن ذلك الحِكْمة، وهي وَضْع الشيء في موضعه، ومنه الحُكْمْ، وهو: وضع الحقَ في مَوْضعه من الشاكي أو المشكو أي: الخصمين.
﴿وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً..﴾ [الأنبياء: ٧٤] وفرْقٌ بين العلْم والحكم: العلم أن تُحقِّق وتعرف، أمَّا الحكم فسلوك وتطبيق لما تعلم، فالعلم تحقيق والحكم تطبيق.
ثم يقول تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث... ﴾ [الأنبياء: ٧٤] فقد نجَّى الله إبراهيم عليه السلام من النار، وكذلك نجَّى لوطاً من أهل القرية التي كانت تعمل الخبائث، والخبائث في قوم لوط معروفة.
لذلك يقول بعدها: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٤] ورجل السَّوءْ هو الذي يسوء كل مَنْ يخالطه، لا يسوء البعض دون البعض، فكل مَنْ يخالطه أو يحتكّ به يسؤوه.
9594
والفسْق: الخروج عن أوامر التكليف، وهذا التعبير ككُلِّ التعابير القرآنية مأخوذ من واقعيات الحياة عند العرب، فأصل الفِسْق من فَسقَتِ الرُّطبة عن قشرتها حين تستوي البلحة فتنفصل عنها القشرة حتى تظهر منها الرُّطبة، وهذه القشرة جُعلَتْ لتؤدي مهمة، وهي حِفْظ الثمرة، كذلك نقول في الفسق عن المنهج الديني الذي جاء ليؤدي مهمة في حياتنا، فمَنْ خرج عنه فهو فاسق.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ... ﴾.
9595
كيف؟ ألسنا جميعاً في رحمة الله؟ قالوا: لأن هناك رحمة عامة لجميع الخَلْق تشمل حتى الكافر، وهناك رحمة خاصة تعدي الرحمة منه إلى الغير، وهذه يعنُون بها النبوة، بدليل قول الله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] فردَّ الله عليهم: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ... ﴾ [الزخرف: ٣٢] أي: النبوة: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا..﴾ [الزخرف: ٣٢].
فكيف يقسمون رحمة الله التي هي النبوة، وهي قمة حياتهم، ونحن نقسم لهم أرزاقهم ومعايشهم في الدنيا؟
فمعنى ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ... ﴾ [الأنبياء: ٧٥] أي: في رَكْب النبوة ﴿إِنَّهُ مِنَ الصالحين﴾ [الأنبياء: ٧٥] أي: للنبوة، والله أعلم حيث يجعل رسالته، لكن قمة هذه الرحمة جاءت في النبي الخاتم والرسول الذي لا يُستْدرك عليه برسول بعده؛ لذلك خاطبه ربه بقوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
فالرسل قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا رحمة لأممهم، أمّا محمد فرحمة لجميع العالمين.
9595
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن رسول آخر من أولى العزم من الرسل: ﴿وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ... ﴾.
9596
قوله تعالى: ﴿وَنُوحاً... ﴾ [الأنبياء: ٧٦] مثلما ثلنا في ﴿وَلُوطاً... ﴾ [الأنبياء: ٧٤] أي: آتيناه هو أيضاً رُشْده ﴿إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ... ﴾ [الأنبياء: ٧٦] والنداء في حقيقته: طلبُ إقبال، فإنْ كان من أعلى لأدنى فهو نداء، وإنْ كان من مُسَأوٍ لك فهو التماس، فإنْ كان من أدنى لأعلى فهو دعاء، فحين تقول يا رب: الياء هنا ليست للنداء بل للدعاء.
وحين تمتحن تلميذاً تقول له: أعرب: رَبِّ اغفر لي، فلو كان نبيهاً يقول: ربّ مدعو. والتقدير يا رب، ومن قال: منادى نسامحه لأنه صحيح أيضاً، فالياء في أصلها للنداء، لكنه غير دقيق في الأداء. كذلك في: اغفر لي، إنْ قال فِعْل أمر نعطيه نصف الدرجة، أما إن قال دعاء فَلَهُ الدرجة الكاملة.
فماذا قال نوح عليه السلام في ندائه؟ المراد قوله: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦] فاستجاب الله لنبيه نوح عليه السلام: ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ [الأنبياء: ٧٦] والمراد بالكرب ما لبثه نوح في دعوة قومه من عمر امتد ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما تحمَّله في سبيل دعوته من عَنَتٍ ومشقّة قال الله فيها:
9596
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً﴾ [نوح: ٧ - ٩].
ثم لما أمره الله بصناعة الفُلك أخذوا يسخرون منه: ﴿وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ..﴾ [هود: ٣٨]
إذن: استجاب الله دُعَاءه ونداءه ﴿فاستجبنا لَهُ... ﴾ [الأنبياء: ٧٦] وفي موضع آخر: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون﴾ [الصافات: ٧٥] فوصف الحق سبحانه إجابته لنوح ب (نِعْم) الدالة على المدح.
فهل يعني ذلك أن هناك مَنْ يكون بِئْس المجيب؟ قالوا: نعم إذا سألته شيئاً فأجابك إليه وهو شَرٌّ لك، أمَّا الحق سبحانه فهو نِعْم المجيب؛ لأنه لا يُجيبك إلا بما هو صالح ونافع لك، فإنْ كان في دعائك شَرٌّ ردَّه لعلمه سبحانه أنه لن ينفعك.
وكأن الحق الأعلى سبحانه يقول لك: أنا لستُ موظفاً عندك، أجيبك إلى كُلِّ ما تطلب، إنما أنا قيُّوم عليك، وقد تدعو بما تظنّه خيراً لك، وأعلم بأزلية عِلْمي أن ذلك شر لا خيرَ فيه، فيكون الخير لك أَلاَّ أجيبك؛ لأنني نِعْمَ المجيب.
وهَبْ أن الله تعالى يجيب كُلاً منّا إلى ما يريد، فكيف حال الأم التي تغضب مثلاً من وحيدها، وفي لحظة الغضب والثورة تدعو عليه فتقول مثلاً: (إلهي أشرب نارك) ؟ فالحق - تبارك وتعالى - حين يردُّ مِثْل هذا الدعاء هو نِعْم المجيب؛ لأنه نِعْم المانع.
9597
لذلك يقول تعالى: ﴿وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً﴾ [الإسراء: ١١] أي: يدعو ويُلِحُّ في الدعاء بما يظنُّه خَيْراً، وهو ليس كذلك. ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم... ﴾.
9598
مازالت الآيات تقصُّ علينا طرفاً مُوجزاً من رَكْب النبوات، ونحن في سورة الأنبياء، وحينما نتأمل هذه الآية نجد أن الله تعالى يُعذَّب بالماء كما يُعذِّب بالنار، مع أنهما ضِدَّانِ لا يلتقيان، فلا يقدر على هذه المسألة إلا خالقهما سبحانه وتعالى.
وقصة غَرَق قوم نوح وأهل سبأ بعد انهيار سَدِّ مأرب أحدثَا عقدة عند أهل الجزيرة العربية، فصاروا حين يروْنَ الماء يخافون منه ويبتعدون عنه، حتى إذا احتاجوا الماء يذهبون إلى مكان بعيد يملأون قِرَبهم، ذلك لعلمهم بخطر الطوفان، وأنه لا يُصَدُّ ولا يردُّه عنهم شيء.
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن نبيين من أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ... ﴾.
يحكمان تعني أن هناك خصومة بين طرفين، والحرْث: إثارة الأرض وتقليب التربة؛ لتكون صالحة للزراعة، وقد وردتْ كلمة الحرث أيضاً في قوله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الحرث والنسل... ﴾ [البقرة: ٢٠٥].
والحرْث ذته لا يهلك، إنما يهلك ما نشأ عنه من زُروع وثمار، فسمَّى الزرع حَرْثاً؛ لأنه ناشيء عنه، كما في قوله تعالى أيضاً: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ... ﴾ [آل عمران: ١١٧].
لكن، لماذا سَمَّي الحرْث زَرْعاً، مع أن الحَرْث مجرد إعداد الأرض للزراعة؟ قالوا: لُيبيِّن أنه لا يمكن الزرع إلا بحرْث؛ لأن الحرْث إهاجة تُرْبة الأرض، وهذه العملية تساعد على إدخال الهواء للتربة وتجفيفها من الماء الزائد؛ لأن الأرض بعد عملية الريِّ المتكررة يتكوَّن عليها طبقة زَبَدية تسدُّ مسَام التُّربة، وتمنع تبخُّر المياه الجوفية التي تُسبِّب عطباً في جذور النبات.
لذلك، ليس من جَوْدة التربة أن تكون طينية خالصة، أو رملية خالصة، فالأرض الطينية تُمسك الماء، والرملية يتسرَّب منها الماء، وكلاهما غير مناسب للنبات، أما التربة الجيدة، فهي التي تجمع بين هذه وهذه، فتمسح للنبات بالتهوية اللازمة، وتُعطيه من الماء على قَدْر حاجته.
9599
لذلك سَمَّي الزرْع حَرْثاً؛ لأنه سببُ نمائه وزيادته وجَوْدته، وليُلفت أنظارنا أنه لا زَرْع بدون حَرْث، كما جاء في قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون﴾ [الواقعة: ٦٣ - ٦٤].
ففي هذه المسألة إشارة إلى سُنَّة من سُنَن الله في الكون، هي أنك لا بُدَّ أن تعمل لتنال، فربُّك وخالقك قدَّم لك العطاء حتى قبل أنْ تُوجد، وقبل أن يُكلِّفك بشيء، ومكثت إلى سنِّ البلوغ، تأخذ من عطاء الله دون أنْ تُحاسبَ على شيء من تصرفاتَك.
وكذلك الأمر في الآخرة سيعطيك عطاءً لا ينتهي، دون أن تتعب في طلبه، هذا كُلُّه نظير أنْ تطيعه في الأمور الاختيارية في سِنِّ التكليف.
إذن: لقد نِلْتَ قبل أن تعمل، وستنال في الآخرة كذلك بدون أنْ تعمل، فلا بُدَّ لك من العمل بين بدايتك ونهايتك لتنال الثمرة.
لذلك، في الحديث الشريف يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَعْطُوا الأجير أجره قبل أنْ يجفَّ عَرَقُه» ما دام قد عمل فقد استحق الأجر، والأمر كذلك في مسألة الحرث.
ثم يقول تعالى: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم... ﴾ [الأنبياء: ٧٨] هذه خصومة بين طرفين، احتكما فيها لداود عليه السلام: رجل عنده زرع، وآخر عنده غنم، فالغنم شردتْ في غفلة من صاحبها فأكلتْ الزرع، فاشتكى صاحبُ الزرع صاحبَ الغنم لداود، فحكم في هذه
9600
القضية بأن يأخذَ صاحبُ الزرع الغنَم، وربما وجد سيدنا داود أن الزرع الذي أتلفتْه الغنم يساوي ثمنها.
فحينما خرج الخَصْمان لقيهما سليمان - عليه السلام - وكان في الحادية عشرة من عمره، وعرف منهما حكومة أبيه في هذه القضية، فقال: (غير هذا أرفق بالفريقين) فسمَّي حُكْم أبيه رِفْقاً، ولم يتهمه بالجَوْر مثلاً، لكن عنده ما هو أرفق.
فلما بلغت مقالته لأبيه سأله: ما الرِّفق بالفريقين؟ قال سليمان: نعطي الغنم لصاحب الزرع يستفيد من لبنها وأصوافها، ونعطي الأرض لصاحب الغنم يُصلحها حتى تعود كما كانت، ساعتها يأخذ صاحب الغنم غنمه، وصاحب الزرع زَرْعه.
ومعنى ﴿نَفَشَتْ... ﴾ [الأنبياء: ٧٨] نقول: نفش الشيء أي: أخذ حَجْماً فوق حَجْمه، كما لو أخذتَ مثلاً قطعة من الخبز أو البقسماط ووضعتَها في لبن أو ماء، تلاحظ أنها تنتفش ويزداد حجمها نقول: انتفشت، كما نقول لمن يأخذ حجماً أكثر من حجمه: «أنت نافش ريشك».
وقوله تعالى: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨] أي مراقبين.
9601
يقول الحق سبحانه: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا... ﴾.
9602
فداود وسليمان - عليهما السلام - نبيان، لكل منهما مكانته، وقد أعطاهما الله حُكْماً وعلماً، ومع ذلك اختلف قولهما في هذه القضية، فما توصَّل إليه سليمان لا يقدح في عِلْم داود، ولا يطعن في حُكْمه.
وما أشبه حُكْم كُلٍّ من داود وسليمان بمحكمة درجة أولى، ومحكمة درجة ثانية، ومحكمة النقْض، ومحكمة الاستئناف، وإياك أن تظن أن محكمة الاستئناف حين تردُّ قضاء درجة أولى أنها تطعن فيها.
فهذا مثل قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ... ﴾ [الأنبياء: ٧٩] فجاء بحكْم غير ما حكَم به أبوه؛ لذلك فالقاضي الابتدائي قد يحكم في قضية، ويتم تأجيلها إلى أنْ يترقى إلى قاضي استئناف، فيقرأ نفس القضية لكن بنظرة أخرى، فيأتي حُكْمه غير الأول.
ثم يقول تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير... ﴾ [الأنبياء: ٧٩] حينما جمع السياق القرآني بين داود وسليمان أراد أنْ يُبيِّن لنا طَرفاً مِمَّا وهبهما الله، فقوله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ... ﴾ [الأنبياء: ٧٩] مظهر من مظاهر امتيازه، وهنا يُبيِّن مَيْزةً لداود عليه السلام: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير... ﴾ [الأنبياء: ٧٩].
والتسخير: قَهْر المسَخّرل على فعل لا يستطيع أنْ ينفكَّ عنه،
9602
وليس مختاراً فيه، ونلحظ هنا الارتقاء من الأَدْنى إلى الأعلى: أولاً: سخّر الجبال وهي جماد، ثم الطير وهي أرْقَى من الجماد، لكن إنْ تصوَّرْنا التسبيح من الطير؛ لأنه حَيٌّ، وله روح، وله حركة وصوت مُعبّر، فكيف يكون التسبيح من الجبال الصماء؟
بعض العلماء حينما يستقبلون هذه الآية يأخذونها بظواهر التفسير، لا بُعمْق ونظر في لُبِّ الأشياء، فالجبال يروْنها جامدة، ليس لها صوت مُعبّر كما للطير؛ لذلك يعجبون من القول بأن الجبال تُسبِّح، فكيف لها ذلك وهي جمادات؟
لكن؛ ما العجب في ذلك، وأنت لو قُمْتَ بمَسْح شامل لأجناس الناس الأرض، واختلاف لغاتهم وألسنتهم وأشكالهم وألوانهم بحسْب البيئات التي يعيشون فيها، فالناس مختلفون في مثل هذه الأمور متفقون فقط في الغرائز، فالجوع والعطش والخوف والضحك والعواطف كلها غرائز مشتركة بين جميع الأجناس، وهذه الغرائز المشتركة ليس فيها اختيار.
ألم تَرَ إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى﴾ [النجم: ٤٣] فما دام أنه سبحانه الذي يُضحِك، والذي يُبكِي، فلن نختلف في هذه الأمور.
فالكلام - إذن - من الأشياء التي يختلف فيها الناس، وهذا الاختلاف ليس في صوت الحروف، فالحروف هي هي، فمثلاً حين ننطق (شرشل) ينطقها أهل اللغات الأخرى كذلك: شين وراء وشين ولام، فنحن - إذن - متحدون في الحروف، لكن نختلف في معاني الأشياء.
9603
وقد يعزّ على بعض الحناجر أن تنطقَ ببعض الحروف بطبيعة تكوينها، فغيْر العربي لا ينطق الضاد مثلاً، فليس عندهم إلا الدال، أما في العربية فعندنا فَرْق بين الدال المرقّقة والضاد المفخّمة، وفرْق بين السين والثاء، وبين الزاي والذال، وبين الهمزة والعَيْن، لذلك نجد غير العربي يقول في (على) : ألي، فليس له قدرة على نُطْق العين، وهو إنسان ناطق بلغة ومُتكلِّم.
فإذا كنا - نحن البشر - لا يفهم بعضُنا لغاتِ بعض، فهذا عربي، وهذا إنجليزي، وهذا فرنسي.. إلخ فإذا لم تتعلم هذه اللغة لا تفهمها.
ومعلوم أن اللغة بنت المحاكاة وبنت السماع، فما سمعتْه الأذن يحكيه اللسان، والأبكم الذي لا يتكلم كان أصمَّ لا يسمع، والطفل ينطق بما سمع، فلو وُضِع الطفل الإنجليزي في بيئة عربية لنطق بالعربية.. وهكذا.
فلماذا نعجب حين لا نفهم لغة الطَّيْر أو لغة الجمادات، وهي أشياء مختلفة عنّا تماماً، فلا يعني عدم فَهْمِنا للغاتهم أنهم ليست لهم لغة فيما بينهم يتعارفون عليها ويُعبِّرون بها.
إذن: لا تستبعد أنْ يكونَ للأجناس الأَدْنى منك لغات يتفاهمون بها وأنت لا تفهمها، بدليل أن الله تعالى أعطانا صورة من لغات الطير، وهذه يعلمها مَنْ علَّمه الله، كما امتنَّ الله على سليمان وعلَّمه لغة الطير، ففهم عنها وخاطبها.
وقد حكة الحق سبحانه وتعالى عنه: ﴿ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ... ﴾ [النمل: ١٦] ولولا أن الله علَّمه لغة الطير ما عَلِمها.
9604
وها هو الهدهد يقول لسليمان عليه السلام لما تفقَّد الطير، ولم يجد الهدهد فتوعَّده: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: ٢٢].
ونلحظ هنا دِقَّة سليمان - عليه السلام - في استعراض مملكته، فلم يترك شيئاً حتى الهدهد، ونلحظ أدبه في قوله: ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾ [النمل: ٢٠] فقد اتهم نظره وشَكَّ أولاً، فربما الهدهد يكون موجوداً، ولم يَرَهُ سليمان.
وانظر إلى قَوْل الهدهد للملك: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ... ﴾ [النمل: ٢٢] ثم معرفته الدقيقة بقضية التوحيد والعقائد: ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله... ﴾ [النمل: ٢٤].
ويعترض الهدهد على هذا الشرك، ويردُّ عليه بشيء خاص به، وبظاهر تُهمه: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض... ﴾ [النمل: ٢٥].
فاختار الهدهد مسألة إخراج الخبْء؛ لأن منه طعامه، فلا يأكل من ظاهر الأرض، بل لا بُدَّ أنْ ينبشَ الأرض، ويُخرِج خبأها ليأكله.
وكذلك النمل، وهو أقلُّ من الهدهد، فقد كان للنملة مع سليمان لغة، وكلام، وفَهْم عنها: ﴿حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا... ﴾ [النمل: ١٩].
9605
إذن: كان الكلام للنمل، لكنْ فَهمه سليمان؛ لذلك قال: ﴿رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ... ﴾ [النمل: ١٩].
ذلك لأننا لا نفهم هذه اللغات إلا إذا فَهَّمنا الله إياها.
ومع هذا حينما وقف العلماء أمام هذه الآية ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ... ﴾ [الأنبياء: ٧٩] قالوا: يعني تسبيح دلالة، فهي بحالها تدلُّ على الخالق سبحانه، وليس المراد التسبيح على حقيقته، وأَوْلى بهم أنْ يعترفوا لها بالتسبيح؛ لكنه تسبيح لا نفهمه نحن، كما قال تعالى:
﴿ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤].
والآن نرى في طموحات العلماء السَّعْي لعمل قاموس للغة الأسماك ولغة بعض الحيوانات، ولا نستبعد في المستقبل عمل قاموس للغة الأحجار والجمادات، وإلا فكيف ستكون ارتقاءات العلم في المستقبل؟ وهذه حقيقة أثبتها القرآن تنتظر أن يكتشفها العلم الحديث.
والمزيّة التي أعطاها الله تعالى لنبيه داود - عليه السلام - ليستْ في تسبيح الجبال؛ لأن الجبال تُسبِّح معه ومع غيره، إنما الميزة في أنها تُردِّد معه، وتوافقه التسبيح، وتجاوبه، فحين يقول داود: سبحان الله تردد وراءه الجبال: سبحان الله، وكأنهم جميعاً (كورس) يردد نشيداً واحداً.
وليس معنى الجماد أنه جامد لا حياةَ فيه، فهو جماد من حيث صورة تكوينه، ولو تأمَلتَ المحاجر في طبقات الأرض لوجدت بين الأحجار حياة وتفاعلاً وحركةً منذ ملايين السنين، ونتيجة هذه الحركة يتغير لَوْنُ الحجر وتتغير طبيعته، وهذا دليل الحياة فيها، انظر مثلاً لو دهنتَ الحجرة لَوْناً معيناً تراه يتغير مع مرور الزمن، إذن: في هذه الجمادات حياة، لكن لا ندركها.
9606
وسبق أن أشرنا إلى أن الذين يقولون في معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه سبَّح الحصى في يده. أن هذه المقولة غير دقيقة تحتاج إلى تنقيح عقلي، فالحجر مُسبِّح في يد رسول الله، وفي يد أبي جهل، إذن: قل: إن المعجزة هي أن رسول الله سمع تسبيح الحصى في يده.
فما من شيء في كون الله إلا وله حياة تناسبه، وله لغة يُسبِّح الله بها، أدركناها أم لم ندركها؛ لأن الكلام فرع وجود حياة، وكل شيء في الوجود له حياة، فعلبة الكبريت هذه التي نستعملها يقول العلماء: إن بين ذراتها تفاعلات تكفي لإدارة قطار حول العالم. هذه التفاعلات دليل حركة وحياة.
ألم يقُلْ الحق سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... ﴾ [القصص: ٨٨].
فكلُّ ما يقال له شيء - إلا وَجْه الله - هالك، والهلاك يعني أن فيه حياةً؛ لأن الهلاك ضد الحياة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... ﴾ [الأنفال: ٤٢].
فكُلُّ شيء في الوجود له حياة بقانونه، وليس من الضروري أن تسمع الكلام حتى تعترف بوجوده، فهناك مثلاً لغة الإشارة، وهي لغة مفهومة ومُعبِّرة، أَلاَ ترى مثلاً إلى الخادم ينظر إليه سيده مجرد نظرة يفهم منها ما يريد أنْ يُقدِّمه للضيف مثلاً.
البحارة لهم إشارات يتعارفون عليها ويتفاهمون بها. جهاز التلغراف لَوْن من ألوان الأداء ووسيلة من وسائل التفاهم، إذن: الأداء والبيان ليس من الضروري أنْ يتمّ بالكلام المسموع، إنما تتفاهم الأجناس ويُكلِّم بعضها بعضاً كلّ بلغته، فإذا أراد الله أن يفيض عليك من إشراقاته أعطاك من البصيرة والعلم ما تفهم به فقدت غيرك من الأجناس.
9607
لذلك يقول تعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ... ﴾ [النور: ٤١] والتنوين هنا دالٌّ على التعميم، فلكل شيء صلاته التي تناسبه، وتسبيحه الذي يناسب طبيعته.
والحق - سبحانه وتعالى - حين يعرض قضية التسبيح والخضوع والقَهْر من المخلوقات جميعاً لله يأتي الكلام عاماً في كل الأجناس بلا استثناء، إلا في الكلام عن الإنسان، فإن التسبيح والخضوع خاصٌّ ببعض الناس.
اقرأ قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب... ﴾ [الحج: ١٨] هكذا بلا استثناء، أمّا في الإنسان، فقال: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ [الحج: ١٨].
ثم يقول تعالى: ﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] نعم، الحق سبحانه خالق كل شيء، وفاعل كل شيء، لكن مع ذلك يؤكد هذه الحقيقة حتى لا نتعجب من تسبيح الطير والجماد، فالله هو الفاعل، وهو المانح والمحرك.
ثم يقول الحق سبحانه عن داود عليه السلام: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ... ﴾.
9608
﴿وَعَلَّمْنَاهُ... ﴾ [الأنبياء: ٨٠] العِلْم نقل قضية مفيدة في الوجود من عالم بها إلى جاهل بها، والإنسان دائماً في حجة إلى معرفة وتعلُّم، لأنه خليفة الله في الأرض، ولن يؤدي هذه المهمة إلا بحركة واسعة بين الناس، هذه الحركة تحتاج إلى فَهْم ومعرفة وتفاعل وتبادل معارف وثقافات، فمثلاً تشكيل الحديد يحتاج إلى تسخين حتى يصير لَيِّناً قابلاً للتشكيل، الماء لا بُدَّ أنْ نغليَه لكذا وكذا.. إلخ.
وقضايا العلم التي تحتاجها حركة الإنسان في الأرض نوعان: نوع لم يأمن الله فيه الخَلْق على أنفسهم، فجاء من الله بالوحي، حتى لا يكون للعقل مجال فيه، ولا تختلف حوله الأهواء والرغبات، وهذا هو المنهج الذي نزل يقول لك: افعل كذا، ولا تفعل كذا.
لكن الأمور التي لا تختلف فيها الأهواء، بل تحاول أن تلتقي عليها وتتسابق إليها، وربما يسرق بعضهم من بعض، هذه الأمور تركها الحق - سبحانه - لعمل العقول وطموحاتها، وقد يلهم فيها بالخاطر أو بالتعلم، ولو من الأدنى كما تعلَّم ابن آدم (قابيل) من الغراب، كيف يواري سوأة أخيه، فقال سبحانه: ﴿فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ... ﴾ [المائدة: ٣١].
والقضية العلمية قد يكون لها مقدمات في الكون حين نُعمِل فيها العقل، ونُرتِّب بعض الظواهر على بعض، نتوصل منها إلى حقائق علمية، وقد تأتي القضية العلمية بالتجربة، أو بالخاطر يقذفه الله في قَلْب الإنسان.
فقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ... ﴾ [الأنبياء: ٨٠] يصح أن نقول: كان هذا التعليم بالوحي، أو بالتجربة أو الإلقاء في الرَّوْع، وهذه الصنعة لم تكن معروفة قبل داود عليه السلام.
9609
واللَّبوس: أبلغ وأحكم من اللباس، فاللباس من نفس مادة (لبس) هي الملابس التي تستر عورة الإنسان، وتقيه الحر والبرد، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر... ﴾ [النحل: ٨١].
أما في الحرب فنحتاج إلى حماية أكبر ووقاية أكثر من العادية التي نجدها في اللباس، في الحرب نحتاج إلى ما يقينا البأس، ويحمينا من ضربات العدو في الأماكن القاتلة؛ لذلك اهتدى الناس إلى صناعة الخوذة والدرع لوقاية الأماكن الخطرة في الجسم البشري، وتتمثل هذه في الرأس والصدر، ففي الرأس المخ، وفي الصدر القلب، فإن سِلَمَتْ هذه الأعضاء فما دونها يمكن مداوته وجَبْره.
إذن: اللبوس أبلغ وأكثر حماية من اللباس؛ لأن مهمته أبلغ من مهمة اللباس، وكانت قبل داود مَلْساء يتزحلق السيف عليها، فلما صنعها داود جعلها مُركَّبة من حلقات حتى ينكسر عليها السيف؛ لذلك قال تعالى بعدها: ﴿لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ... ﴾ [الأنبياء: ٨٠] أي: تحميكم في حَرْبكم مع عدوكم، وتمنعكم وتحوطكم.
إذن: ألهمنا داود عليه السلام، فأخذ يُفكِّر ويبتكر، وكل تفكير في ارتقاء صَنْعه إنما ينشأ من ملاحظة عيب في صَنْعة سابقة،
9610
فيحاول اللاحق تلافي أخطاء السابق، وهكذا حتى نصلَ إلى شيء لا عَيْبَ فيه، أو على الأقل يتجنب عيوب سابقة؛ لذلك يُسمُّونه (آخر موديل).
ثم يقول تعالى: ﴿فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٨٠] شاكرون على نعمة الله الذي يرعاكم ويحفظم في المآزق والمواقف الصعبة، واختار سبحانه موقف البأس أمام العدو؛ ليعطينا إشارة إلى ضرورة إعداد المؤمن لمواجهة الكافر، والأخذ بأسباب النجاة إذا تمَّتْ المواجهة.
وفي آية أخرى يقول سبحانه: ﴿وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: ٢٥].
فليست مهمة الحديد في الحياة أنه ينفع الناس فحسْب، إنما له مهمة قتالية أيضاً؛ لذلك قال: ﴿وَأَنزَلْنَا الحديد... ﴾ [الحديد: ٢٥] كما قال: ﴿نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن... ﴾ [الإنسان: ٢٣] فإنْ كان القرآن للهداية فالحديد يُؤيِّد هذه الهداية، حيث نضرب به على أيدي الكافرين العاصين، ونحمي به صدور المؤمنين المصدِّقين؛ لذلك قال ﴿وَأَنزَلْنَا... ﴾ [الحديد: ٢٥] أي: من أعلى مع أنه خارج من الأرض.
إذن: مسألأة الحديد في الأرض نعمة كبيرة من نِعَم الله علينا، بها نحفظ أنفسنا من العدو، فالحق - سبحانه وتعالى - خلق الخَلْق ولم يتركه هكذا يُدبِّر أمره، إنما خلقه ووضع له قانون حمايته وصيانته، وهذا يستحقّ مِنّا الشكر الدائم الذي لا ينقطع.
ثم ينتقل السياق من الكلام عن داود إلى ابنه سليمان عليهما السلام، فيقول الحق سبحانه:
9611
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً... ﴾.
9612
لا شكّ أن سليمان - عليه السلام - قد استفاد بما علَّم الله به أباه داود، وأخذ من نعمة الله على أبيه، وهنا يزيده ربه - تبارك وتعالى - أموراً يتميز بها، منها الريح العاصفة أي: القوية الشديدة ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا... ﴾ [الأنبياء: ٨١] وكأنها مواصلات داخلية في مملكته من العراق إلى فلسطين.
وفي موضع آخر قال: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص: ٣٥ - ٣٦].
ؤُخَأء: أي: هيّنة ليّنة ناعمة، وهنا قال ﴿عَاصِفَةً... ﴾ [الأنبياء: ٨١] فكأن الله تعالى جمع لهذه الريح صفة السرعة في (عاصفة) وصفة الراحة في (رخاء)، وهاتان صفتان لا يقدر على الجمع بينهما إلا الله، فنحن حين تُسْرِع بنا السيارة مثلاً لا تتوفر لنا صِفَة الراحة والاطمئنان، بل يفزع الناس ويطلبون تهدئة السرعة.
أما ريح سليمان فكانت تُسرع به إلى مراده، وهي في الوقت نفسه مريحة ناعمة هادئة لا تُؤثِّر في تكوينات جسمه، ولا تُحدث له رجَّة أو قوة اندفاع يحتاج مثلاً إلى حزام أمان، فمَنْ يقدر على
9612
الجمع بين هذه الصفات إلا الله القابض الباسط، الذي يقبض الزمن في حق قوم ويبسطه في حق آخرين.
ومعنى: ﴿بَارَكْنَا فِيهَا... ﴾ [الأنبياء: ٨١] أي: بركة حِسِّية بما فيها من الزروع والثمار والخِصْب والخيرات، وبركة معنوية حيث جعل فيها مهابط الوحي والنبوات وآثار الأنبياء.
وليس تسخير الريح لسليمان أنها تحمله مثلاً، كما رأينا في (السينما) بساط الريح الذي نراه يحمل شيئاً ويسير به في الهواء، أو: أنها كانت تُسيِّر المراكب في البحار، إنما المراد بتسخيرها له أن تكون تحت مراده، وتأتمر بأمره، فتسير حيث شاء يميناً أو شمالاً، فهي لا تهٌُبُّ على مرادات الطبيعة التي خلقها الله عليها، ولكن على مراده هو.
وإنْ كانت هذه الريح الرُّخَاء تحمله في رحلة داخلية في مملكته، فهناك من الرياح ما يحمله في رحلات وأسفار خارجية، كالتي قال الله تعالى عنها: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ... ﴾ [سبأ: ١٢] فيجوب بها في الكون كيف يشاء ﴿حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص: ٣٦].
ثم يقول تعالى: ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨١] أي عندنا علْم نُرتِّب به الأمور على وَفْق مرادنا، ونكسر لمرادنا قانون الأشياء فَنُسيِّر الريح كما نحب، لا كما تقتضيه الطبيعة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ... ﴾.
9613
فبعد أنْ سخَّر الله له الريح سخَّر له الشياطين ﴿يَغُوصُونَ لَهُ... ﴾ [الأنبياء: ٨٢] والغَوْصُ: النزول إلى أعماق البحر؛ ليأتوه بكنوزه ونفائسه وعجائبه التي ادخرها الله فيه ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك... ﴾ [الأنبياء: ٨٢] أي: مما يُكلِّفهم به سليمان من أعمال شاقة لا يقدر عليها الإنسان، وقد شرحت هذه الآية في موضع آخر: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ... ﴾ [سبأ: ١٣] فأدخل مرادات العمل في مشيئته.
والمحاريب جمع محراب، وهو مكان العبادة كالقِبْلة مثلاً، والجِفَان: جمع جَفْنة، وهي القَصْعة الكبيرة الواسعة التي تكفي لعدد كبير، والقدور الراسيات أي: الثابتة التي لا تنقل من مكان لآخر وهي مبنية.
وقد رأينا شيئاً من هذا في الرياض أيام الملك عبد العزيز رَحِمَهُ اللَّهُ، وكان هذا القدْر من الاتساع والارتفاع بحيث إذا وقف الإنسان ماداً ذراعيه إلى أعلى لا يبلغ طولها، وفي الجاهلية أشتهرت مثل هذه القدور عند ابن جدعان، وعند مطعم بن عدي.
أما التماثيل فهي معروفة، والموقف منها واضح منذ زمن إبراهيم عليه السلام حينما كسَّرها ونهي عن عبادتها، وهذا يردُّ قول مَنْ قال بأن التماثيل كانت حلالاً، ثم فُتِن الناس فيها، فعبدوها من دون الله فَحرِّمت، إذن: كيف نخرج من هذا الموقف؟ وكيف يمتنّ الله على نبيه سليمان أن سخر له من يعملون التماثيل وهي مُحرَّمة؟
نقول: كانوا يصنعون له التماثيل لا لغرض التعظيم والعبادة،
9614
إنما على هيئة الإهانة والتحقير، كأن يجعلوها على هيئة رجل جبار، أو أسد أضخم يحمل جزءاً من القصر أو شرفه من شرفاته، أو يُصوِّرونها تحمل مائدة الطعام.. الخ. أي أنها ليست على سبيل التقديس.
ثم يقول تعالى: ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٢] حافظين للناس المعاصرين لهذه الأعمال يروْنَ البشر، والبشر لا يرَوْنَهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ... ﴾ [الأعراف: ٢٧].
أما سليمان عليه السلام فكان يرى الجنَّ ويراقبهم وهم يعملون له، وفي قصته: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ... ﴾ [سبأ: ١٤].
وفي هذا دليل على أن الجن لا يعلمون الغيب؛ لذلك قال تعالى: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين﴾ [سبأ: ١٤].
ويُقال: إن سليمان - عليه السلام - بعد أنْ امتنَّ الله عليه، وأعطاه مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، أخذ هؤلاء الجن وحبسهم في القماقم حتى لا يعملوا لأحد غيره.
هذه مجرد لقطة من قصة سليمان، ينتقل السياق منها إلى أيوب عليه السلام: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ... ﴾.
9615
(نَأديَ) : قلنا النداء لمثلك طلب إقبال، أما بالنسبة لله تعالى فهو بمعنى الدعاء، فمعنى ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ... ﴾ [الأنبياء: ٨٣] أي: دعاه وناداه بمطلوب هو: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين... ﴾ [الأنبياء: ٨٣] والضُّر: ابتلاء من الله في جسده بمرض أو غيره.
أما الضرَّ بفتح الضاد، فهو إيذاء وابتلاء في أي شيء آخر غير الجسد، ولا مانع أن يمرض الأنبياء لكن بمرض غير مُنفِّر.
لكن، كيف ينادي أيوب عليه السلام ربه ويتوجع ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضر... ﴾ [الأنبياء: ٨٣] أليس في علم الله أن أيوبَ مسَّه الضرُّ؟ وهل يليق بالنبي أنْ يتوجّع من ابتلاء الله؟
نعم، يجوز له التوجُّع؛ لأن العبد لا يَشْجَعُ على ربه؛ لذلك فإن الإمام علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما دخل عليه رجل يعوده وهو يتألم من مرضه ويتوجع، فقال له: أتتوجَّع وأنت أبو الحسن؟ فقال: أنا لا أشجع على الله يعني: أنا لست فتوة أمام الله.
ألا ترى أنه من الأدب مع مَنْ يريد أن يُثبِت لك قوته فيمسك بيدك مثلاً، ويضغط عليها لتضجّ وتتألم، أليس من الأدب أن تطاوعه فتقول: آه وتُظهِر له ولو مجاملة أنه أقوى منك؟
ومعنى: ﴿وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ [الأنبياء: ٨٣] ساعةَ أنْ ترى جَمْعاً في صفة من الصفات يُدخِل الله فيه نفسه مع خَلْقه، كما في: ﴿أَرْحَمُ الراحمين﴾ [الأنبياء: ٨٣] و ﴿أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤] و ﴿خَيْرُ الماكرين﴾ [آل عمران: ٥٤] فاعلم أن الله تعالى يُثبِت نفس الصفة لعباده، ولا يبخسهم حقهم.
9616
فالرحمة من صفات البشر، كما جاء في الحديث الشريف: «الراحمون يرحمهم الرحمن».
وفي «ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء».
فالرحمة تخلُّق بأخلاق الحق سبحانه، «والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:» تخلَّقوا بأخلاق الله «».
إذن: للخَلْق صفة الرحمة، لكن الله هو أرحم الراحمين جميعاً؛ لأن رحمته تعالى وسعَتْ كل شيء. كما قلنا في صفة الخَلْق: فيمكنك مثلاً أن تصنع من الرمل كوباً، وتُخرِِجه إلى الوجود، وتنتفع به، لكن أخَلْقك للكوب كخَلْق الله؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا... ﴾.
9617
استجاب الله لأيوب فيما دعا به من كَشْف الضُّر الذي أصابه،
9617
وأعطاه زيادة عليه ونافلة لم يَدْعُ بها، حيث كان في قِلَّة من الأهل، وليس له عِزْوة.
﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ... ﴾ [الأنبياء: ٨٤] ليعلم كلُّ عابد أخلص عبادته لله تعالى، أنه إذا مسَّه ضُرٌّ أو كَرْب ولجأ إلى الله أجابه الله إلى ما يريد، وأعطاه فوق الإجابة نافلة أخرى، وكأن ما حدث لنبي الله أيوب نموذج يجب أن يُحْتَذَى. ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ... ﴾.
9618
قلنا: إن سورة الأنبياء لا تذكر قصَصاً كاملاً للأنبياء، إنما تعطينا طَرَفاً منها، وهنا تذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل بالاسم فقط.
ثم يقول تعالى: ﴿كُلٌّ مِّنَ الصابرين﴾ [الأنبياء: ٨٥] كأن الصبر في حَدِّ ذاته حيثية يُرسل الله من أجلها الرسول، ولنتأمل الصبر عند إسماعيل، وكيف أنه صبر على أنْ يذبحه أبوه برؤيا رآها، فأيُّ صبر أعظم من هذا؟
ثم يعيش في صِغَره - وحتى كبر - في وَادٍ غير ذي زرع، ويتحمل مشاق هذه البيئة الجافة المجْدِبة، ويخضع لقول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة..﴾ [إبراهيم: ٣٧].
وكأن في خروجه من هذه الأرض وطلبه لأرض أخرى فيها النعيم
9618
والزروع والثمار تأبّياً على إقامة الصلاة؛ لذلك نراه يُفضّل البقاء في هذا المكان، ويزهد في نعيم الدنيا الذي يتمتع به غيره امتثالاً لأمر الله.
وتكون النتيجة أنْ أعطاه الله ما هو خَيْر من الزروع والثمار، أعطاه عطاءً يفخر به بين جميع الأنبياء، هو أنه جعل من نسله النبي الخاتم محمد بن عبد الله، وأيُّ ثمرة أحسن من هذه؟
وإدريس: وهو من الجيل الخامس من أولاد آدم عليه السلام، وبعض العلماء يقولون هو «أوزوريس»، ونحن لا نقول إلا ما قاله القرآن (إدريس) وأهل السير يقولون: إن نبي الله إدريس أول مَنْ علّمه الله غزل الصوف وخياطة الملابس، وكانوا قبلها يسترون عوراتهم بقطع الجلود.
وهو أول مَن استخدم النجوم لمعرفة الاتجاهات والأحوال، وأول مَنْ خط بالقلم، هذه يُسمُّونها أوليات إدريس.
وذا الكفل: الكِفْل هو الحظ والنصيب، فلماذا سُمِّي «ذو الكفل» ؟ ذو الكفل ابن أيوب عليه السلام، ويظهر أن أولاد أيوب كانوا كثيرين، إنما اختص الله ذا الكفل بالرسالة، وكان هذا حظه دون غيره من أبناء أيوب؛ لذلك سُمِّي «ذو الكفل».
9619
وقد جاءت هذه المادة (كَفَل) أيضاً في قوله الحق سبحانه وتعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ... ﴾ [الحديد: ٢٨].
جاءت هذه الآية بعد الكلام عن عيسى - عليه السلام - والذين آمنوا به واتبعوه، يقول تعالى: يا مَنْ آمنتم بالرسل السابقين، وآخرهم عيسى - عليه السلام - آمنوا بالرسول الخاتم ليكون لكم كفلان أي: نصيبان وحظَّان من رحمةَ الله، نصيبٌ لإيمانكم بعيسى، ومَنْ سبقه من الرسل، ونصيبٌ لإيمانكم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ثم يقول تعالى في وصفهم ﴿كُلٌّ مِّنَ الصابرين﴾ [الأنبياء: ٨٥] فوصف كلّ الأنبياء بالصبر؛ لأنهم تعرَّضوا لأنواع الاضطهاد والإيذاء والأهوال في سبيل دعوتهم، وصبروا على هذا كله. ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا... ﴾.
9620
والرحمة هنا بمعنى النبوة، وهي أمر عظيم وعطاء كبير، فإنْ تحمّلوا في سبيله بعض المتاعب، فلا غضاضةَ في ذلك: ﴿وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ... ﴾.
«ذو النون» : هو سيدنا يونس بن متى صاحب الحوت، والنون من أسماء الحوت، وجمعه (نينان) كحوت وحيتان؛ لذلك
9620
سُمِّيَ به، وقد أُرسل يونس عليه السلام إلى أهل (نِينَويَ) من أرض الموصل بالعراق.
وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعداس: «أنت من بلد النبي الصالح: يونس ابن متّى».
والنون أيضاً اسم لحرف من حروف المعجم، لكن قد يوافق اسمُ الحرف اسماً لشيء آخر، كما في (ق) وهو اسم جبل، وكذلك السين، فهناك نهر اسمه نهر السين، وهكذا تصادف أسماء الحروف أسماء أشياء.
وقوله تعالى: ﴿إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً... ﴾ [الأنبياء: ٨٧] مادة (غضب) نأخذ منها الوصف للمفرد. نقول: غاضب وغضبان، أمّا (مغاضب) فتعطي معنى آخر؛ لأنها تدل على المفاعلة، فلا بُدَّ أن أمامك شخصاً آخر، أنت غاضب وهو غاضب، مثل: شارك فلان فلاناً.
لكن في أصول اللغة رجحنا جانب الفاعلية في أحدهما، والمفعُولية في الآخر، كما نقول: شارك زيدٌ عَمْراً، فالمشاركة حدثتْ منهما معاً، لكن جانب الفاعلية أزيد من ناحية زيد، فكلُّ واحد منهما فاعل مرة ومفعول أخرى.
واللغة أحياناً تلحظ هذه المشاركة؛ فتُحمِّل اللفظ المعنيين معاً: الفاعل والمفعول، كما جاء في قَوْل الشاعر العربي الذي يصف السير في أرض معقربة، والتي إذا سرْت فيها دون أنْ تتعرض للعقارب فإنها تسالمك ولا تؤذيك، فيقول:
9621
قَدْ سَالَم الحياتُ مِنْه القَدَمَا الأفْعُوانَ والشُّجاعَ القَشْعَمَا
أي: أنه سَالَم الحيات، فالحيات سالمتْه، فالمسالمة منهما معاً، لكن غلب جانب الحيات فجاءت فاعلاً؛ لأن إيذاءَها أقوى من إيذائه، فلما أبدل من الحيات (الأفعوان والشجاع القشعما) وهما من أسماء الحيات كان عليه أنْ يأتي بالبدل مرفوعاً تابعاً للمبدل منه، إلا أنه نصبه فقال: الأُفْعَوانَ والشجاعَ القشعمَا؛ لأنه لاحظ في جانب الحيات أنها أيضاً مفعولٌ.
فَمِمَّ غضب ذو النون؟ غضب لأن قومه كذبوه، فتوعدهم إنْ لم يتوبوا أنْ يُنزل بهم العذاب، وأتى الموعد ولم ينزل بهم ما توعدهم به، فخاف أنْ يُكذِّبوه، وأن يتجرَّأَوا عليه، فخرج من بينهم مغاضباً إلى مكان آخر، وهو لا يعلم أنهم تابوا فأخّر الله عذابهم، وأجّل عقوبتهم.
وفي آية أخرى يُوضِّح الحق سبحانه هذا الموقف: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ﴾ [يونس: ٩٨].
أي: لم يحدث قبل ذلك أنْ آمنتْ قرية ونفعها إيمانها إلا قرية واحدة هي قوم يونس، فقد آمنوا وتابوا فأجّل الله عذابهم.
إذن: خرج يونس مُغاضِباً لا غاضباً؛ لأن قومه شاركوه، وكانوا سبب غضبه، كما حدث في مسألة هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
9622
هاجر من مكة لكنه لم يهْجرهَا، فسُمِّيَتْ هجرة؛ لأن أهل مكة هجروا رسول الله أولاً، وهجروا دعوته وألجئوه أيضاً إلى الهجرة وتَرْك مكة، فهم طرف في الهجرة وسببٌ لها.
لذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مخاطباً مكة: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منكِ ما خرجْتُ».
وقد أخذ المتنبي هذا المعنى، وعبَّر عنه بقوله: وقوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ... ﴾ [الأنبياء: ٨٧] البعض ينظر في الآية نظرةً سطحية، فيقولون: كيف يظن يونس أن الله لن يقدر عليه؟ وهذا الفَهْم ناشيء عن جَهْل باستعمالات اللغة، فليس المعنى هنا من القدرة على الشيء والسيطرة، ولو استوعبتَ هذه المادة في القرآن (قَدَرَ) لوجدت لها معنى آخر، كما في قوله تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله... ﴾ [الطلاق: ٧] معنى قُدِر عليه رزقه يعني: ضُيِّق عليه.
ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ... ﴾ [الإسراء: ٣٠]
9623
وقوله سبحانه تعالى: ﴿فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: ١٥ - ١٦].
إذن: فقوله: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ... ﴾ [الأنبياء: ٨٧] أي: أن يونس لما خرج من بلده مُغاضباً لقومه ظنَّ أن الله لن يُضيِّق عليه، بل سيُوسِّع عليه ويُبدله مكاناً أفضل منها، بدليل أنه قال بعدها ﴿فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧] يريد منه سبحانه تنفيس كربته، وتنفيس الكربة لا يكون إلا بصفة القدرة له.
فكيف يستقيم المعنى لو قلنا: لن يقدر عليه بمعنى: أن الله لا يقدر على يونس؟
إذن: المعنى: لن يُضيِّق عليه؛ لأنه يعلم أنه رسول من الله، وأن ربه لن يُسلْمه، ولن يخذله، ولن يتركه في هذا الكرب.
وقد وُجدَتْ شبهة في قصة يونس - عليه السلام - في قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٤٣ - ١٤٤].
فكيف يلبث في بطن الحوت إلى يوم يُبعثون، مع أن يونس سيموت، وسيأتي أجَل الحوت ويموت هو أيضاً، أم أن الحوت سيظل إلى يوم القيامة يحمل يونس في بطنه؟
9624
وفات هؤلاء نظرية الاحتواء في المزيجات، كما لو أذبتَ قالباً من السكر في كوب ماء، فسوف تحتوي جزئيات الماء جزئيات السكر، والأكثر يحتوي الأقل، فقالب السكر لا يحتوي الماء، إنما الماء يحتوي السكر.
فلو مات الحوت، ومات في بطنه يونس - عليه السلام - وتفاعلت ذراتهما وتداخلتْ، فقد احتوى الحوتُ يونسَ إلى أن تقوم الساعة، وعلى هذا يظل المعنى صحيحاً، فهو في بطنه رغم تناثر ذراتهما. ﴿فاستجبنا لَهُ... ﴾.
9625
استجاب الله نداء يونس - عليه السلام - ونجَّاه من الكرب ﴿وكذلك نُنجِي المؤمنين﴾ [الأنبياء: ٨٨] إذن: فهذه ليست خاصة بيونس، بل بكل مؤمن يدعو الله بهذا الدعاء ﴿وكذلك... ﴾ [الأنبياء: ٨٨] أي: مثل هذا الإنجاء نُنْجي المؤمنين الذين يفزعون إلى الله بهذه الكلمة: ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧] فيُذهِب الله غَمَّه، ويُفرِّج كَرْبه.
لذلك يقول ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ثوِّروا القرآن» يعني: أثيروه ونقِّبوا في آياته لتستخرجوا كنوزه وأسراره.
9625
وكان سيدنا جعفر الصادق من المثوِّرين للقرآن المتأملين فيه، وكان يُخرِج من آياته الدواء لكل داء، ويكون كما نقول (روشتة) لكل أحوال المؤمن.
والمؤمن يتقلّب بين أحوال عدة منها: الخوف سواء الخوف أنْ يفوته نعيم الدنيا، أو الخوف من جبار يهدده، وقد يشعر بانقباض وضيق في الصدر لا يردي سببه وهذا هو الغَمُّ، وقد يتعرض لمكر الماكرين، وكَيْد الكائدين، وتدبير أهل الشر.
هذه كلها أحوال تعتري الإنسان، ويحتاج فيها لمَنْ يسانده ويُخرجه مما يعانيه، فليس له حَوْل ولا قوة، ولا يستطيع الاحتياط لكل هذه المسائل.
وقد تراوده بهجة الدنيا وزُخْرفها، فينظر إلى أعلى مِمّا هو فيه، ويطلب المزيد، ولا نهايةَ لطموحات الإنسان في هذه المسألة، كما قال الشاعر:
إذَا ترحلْتَ عَنْ قَوْمٍ وقَدْ قَدَرُوا ألاَّ تُفارِقَهُمْ فالراحِلُون هُمُ
تَمُوتُ مع المرْءِ حَاجَاتُه وتَبْقَى لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِي
والناس تحرص دائماً على أن تستوعب نِعَم الحياة وراحتها، وهم في ذلك مُخْطِئون؛ لأن تمام الشيء بداية زواله، كما قال الشاعر:
إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُه تَرقَّبْ زَوَالاً إذَا قيلَ تَم
لأن الإنسان ابنُ أغيار، ولا يدوم له حال من صحة أو مرض، أو غِنيً أو فقر، أو حزن أو سرور، فالتغيُّر سِمَة البشر، وسبحان مَنْ لا يتغير، إذن: فماذا بعد أنْ تصل إلى القمةَ، وأنت ابنُ أغيار؟
ونرى الناس يغضبون ويتذمرون إنْ فاتهم شيء من راحة الدنيا ونعيمها، أو انتقصتهم الحياة شيئاً؟ وهم لا يدرون أن هذا النقص
9626
هو الذي يحفظ عليك النعمة، ويدفع عنك عيون الحاسدين فيُسلِّم لك ما عندك.
فتجد مثلاً أسرة طيبة حازتْ اهتمام الناس واحترامهم، غير أن بها شخصاً شريراً سِّيئاً، يعيب الأسرة، فهذا الشخص هو الذي يدفع عنها عُيون الناسِ وحَسَدهم.
وقد أخذ المتنبي هذا المعنى، وعبَّر عنه في مدحه لسيف الدولة، فقال:
شَخَصَ الأنَامُ إِلَى كَمَالِكَ فَاستْعِذ مِنْ شَرِّ أعيُنهم بِعَيْبٍ وَاحِدٍ
نعود إلى (روشته) سيدنا جعفر الصادق التي استخلصها لنا من كتاب الله، كما يستخلص الأطباء الدواءَ والعقاقير من كتب الحكماء:
يقول: عجبتُ لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله تعالى: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ [آل عمران: ١٧٣] فإنِّي سمعت الله
9627
بعقبها يقول: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء..﴾ [آل عمران: ١٧٤].
وعجبتُ لمَنْ اغتمَّ، ولم يفزع إلى قوله تعالى: ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول: ﴿فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين﴾ [الأنبياء: ٨٨].
وعجبتُ لمن مُكِرَ به، ولم يفزع إلى قوله تعالى: ﴿وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله﴾ [غافر: ٤٤] فإني سمعت الله بعقبها يقول: ﴿فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ... ﴾ [غافر: ٤٥].
وعجبتُ لمن طلب الدنيا وزينتها، ولم يفزع إلى قوله تعالى: ﴿مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله... ﴾ [الكهف: ٣٩] فإنِّ سمعت الله بعقبها يقول: ﴿فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ... ﴾ [الكهف: ٤٠].
وهكذا يجب على المؤمن أن يكون مُطْمئناً واثقاً من معيّة الله، ويضع كما نقول (في بطنه بطيخة صيفي) ؛ لأنه يفزع إلى ربه بالدعاء المناسب في كل حال من هذه الأحوال، وحين يراك ربك تلجأ إليه وتتضرع، وتعزو كل نعمة في ذاتك أو في أهلك أو في مالك وتنسبها إلى الله، وتعترف بالمنعِم سبحانه فيعطيك أحسنَ منها.
ثم يُحدِّثنا الحق سبحانه عن نبي آخر من أنبيائه، فيقول تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ... ﴾.
9628
لقد بلغ زكريا - عليه السلام - من الكبر عتياً، ولم يرزقه الله الولد، فتوجه إلى الله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً﴾ [مريم: ٤ - ٥].
9628
فلما بشَّره الله بالولد تعجَّب؛ لأنه نظر إلى مُعْطيات الأسباب، كيف يرزقه الله الولد، وقد بلغ من الكِبَر عتياً وامرأته عاقر، فأراد أن يُؤكّد هذه البُشْرى: ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ [مريم: ٨ - ٩].
يُطمئنُ الله تعالى نبيَّه زكريا: اطرح الأسباب الكونية للخَلْق؛ لأن الذي يُبشِّرك هو الخالق.
وقد تعلَّم زكريا من كفالته لمريم أن الله يُعطي بالأسباب، ويعطي إن عزَّتْ الأسباب، وقد تباري أهل مريم في كفالتها، وتسابقوا في القيام بهذه الخدمة؛ لأنهم يعلمون شرفها ومكانتها؛ لذلك أجروا القرعة على مَنْ يكفلها فأتوا بالأقلام ورموْها في البحر فخرج قلم زكريا، ففاز بكفالة مريم: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤].
وإجراء القرعة لأهمية هذه المسألة، وعِظَم شأنها، والقرعة إجراء للمسائل على القَدَر، حتى لا تتدخّل فيها الأهواء.
فلما كفَل زكريا مريم كان يُوفِّر لها ما تحتاج إليه، ويرعى شئونها، وفي أحد الأيام دخل عليها، فوجد عندها طعاماً لم يأْتِ
9629
به: ﴿قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧].
وهنا مَلْخظ وإشارة إلى ضرورة متابعة ربِّ الأسرة لأسرته، فإذا ما رأى في البيت شيئاً لم يأْتِ به فليسأل عن مصدره، فربما امتدت يد الأولاد إلى ما ليس لهم، إنه أصل لقانون «من أين لك هذا؟» الذي نحتاج إلى تطبيقه حين نشكّ.
التقط زكريا إجابة مريم التي جاءتْ سريعة واثقة، تدل على الحق الواضح الذي لا يتلجلج: ﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧].
نعم، هذه مسألة يعرفها زكريا، لكنها لم تكُنْ في بُؤْرة شعوره، فقد ذكَّرْته بها مريم: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء﴾ [آل عمران: ٣٨].
أي: ما دام الأمر كذلك، فَهَبْ لي ولداً يرثُ النوبة من بعدي. ثم يذكر حيثيات ضَعْفه وكِبَر سِنَّه، وكوْنَ امرأته عاقراً، وهي حيثيات المنع لا حيثيات الإنجاب؛ لأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب وبغير أسباب.
وهكذا، استفاد زكريا من هذه الكلمة، واستفادتْ منها مريم كذلك فيما بعد، وحينما جاءها الحَمْل في المسيح بدون الأسباب الكونية.
وهنا يدعو زكريا ربه، فيقول: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين﴾ [الأنبياء: ٨٩] أي: لا أطلب الولد ليرث مُلْكي من بعدي، فأنت خير الوارثين ترِثُ الأرضَ والسماء، ولك كل شيء.
9630
﴿فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا... ﴾.
9631
فلم تكُنْ استجابة الله لزكريا أنْ يهبه الولد حال كِبَره وكوْن امرأته عاقراً، إنما أيضاً سماه، ولله تعالى سِرٌّ في هذه التسمية؛ لأن الناس أحرار في وَضْع الأسماء للمُسمّيات كما قلنا فلا مانع أن نسمي فتاة زنجية (قمر) ؛ لأن الاسم يخرج عن معناه الأصلي، ليصير عَلَماً على هذا المسمى. إذن: هناك فَرْق بين الاسم وبين المسمَّى.
وقد نُسمِّي الأسماء تفاؤلاً أن يكونوا كذلك، كالذي سمَّي ولده يحيى، ويظهر أنه كان يعاني من موت الأولاد؛ لذلك قال:
فَسمَّيْتُه يَحيى ليحيى فَلَم يكُنْ لِرَدِّ قَضَاءِ اللهِ فيه سَبيلُ
أي: سمَّيْته يحي أَملاً في أن يحيا، لكن هذا لم يردّ عنه قضاء الله.
وكذلك لما سمَّي عبد المطلب محمداً قال: سمَّيته محمداً ليُحمد في الأرض وفي السماء.
9631
لكن، حين يُسمِّى يحيى مَنْ يملك الحياة ويملك الموت، فلا بُدَّ أن يكون اسماً على مُسمَّى، ولا بُدَّ له أن يحيا، حتى إنْ مات يموت شهيداً، لتتحقق له الحياة حتى بعد الموت.
ومعنى: ﴿وَوَهَبْنَا..﴾ [الأنبياء: ٩٠] أي: أعطيناه بدون قانون التكوين الإنساني، وبدون أسباب.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ... ﴾ [الأنبياء: ٩٠] فبعَد أنْ كانت عاقراً لا تلد أجرينا لها عملية ربانية أعادتْ لها مسألة الإنجاب؛ لأن المرأة تلد طالما فيها البويضات التي تكوِّن الجنين، فإذا ما انتهتْ هذه البويضات قد أصبحت عقيماً، وهذه البويضات في عنقود، ولها عدد مُحدَّد أشبه بعنقود البيض في الدجاجة؛ لذلك يسمون آخر الأولاد «آخر العنقود».
إذن: وُجِد يحيى من غير الأسباب الكونية للميلاد؛ لأن المكوِّن سبحانه أراد ذلك.
لكن، لماذا لم يقُلْ لزكريا أصلحناك؟ قالوا: لأن الرجل صالح للإنجاب ما دام قادراً على العملية الجنسية، مهما بلغ من الكِبَر على خلاف المرأة المستقبِلة، فهي التي يحدث منها التوقُّف.
وأصحاب العُقْم وعدم الإنجاب نرى فيهم آيات من آيات الله، فنرى الزوجين صحيحين، أجهزتُهما صالحة للإنجاب، ومع ذلك لا ينجبان، فإذا ما تزوج كل منهما بزوج آخر ينجب؛ لأن المسألة ليست (آليّة)، بيل وراء الأسباب الظاهرة إرادة الله ومشيئته.
لذلك يقول تعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً... ﴾ [الشورى: ٤٩ - ٥٠].
9632
ثم تُوضِّح الآيات سبب وعِلَّة إكرام الله واستجابته لنبيه زكريا - عليه السلام: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٠]
هذه صفات ثلاث أهَّلَتْ زكريا وزوجته لهذا العطاء الإلهي، وعلينا أن نقف أمام هذه التجربة لسيدنا زكريا، فهي أيضاً ليستْ خاصة به إنما بكل مؤمن يُقدِّم من نفسه هذه الصفات.
لذلك، أقول لمن يُعاني من العقم وعدم الإنجاب وضاقتْ به أسباب الدنيا، وطرق باب الأطباء أن يلجأ إلى الله بما لجأ به زكريا - عليه السلام - وأهله ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٠] خذوها (روشتة) ربانية، ولن تتخلف عنكم الاستجابة بإذن الله.
لكن، لماذا هذه الصفة بالذات: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات..﴾ [الأنبياء: ٩٠] ؟
قالوا: لأنك تلاحظ أن أصحاب العُقْم وعدم الإنجاب غالباً ما يكونون بُخَلاء مُمْسِكين، فليس عندهم ما يُشجِّعهم على الإنفاق، فيستكثرون أن يُخرجوا شيئاً لفقير؛ لأنه ليس ولده.
فإذا ما سارع إلى الإنفاق وسارع في الخيرات بشتى أنواعها، فقد تحدَّى الطبيعة وسار ضدها في هذه المسألة، وربما يميل هؤلاء الذين ابتلاهم الله بالعُقْم إلى الحقد على الآخرين، أو يحملون ضغينة لمن ينجب، فإذا طرحوا هذا الحقد ونظروا لأولاد الآخرين على أنهم أولادهم، فعطفوا عليهم وسارعوا في الخيرات، ثم توجَّهوا إلى الله بالدعاء رَغَباً ورَهَباً، فإن الله تعالى وهو المكوِّن الأعلى يخرق لهم النواميس والقوانين، ويرزقهم الولد من حيث لا يحتسبون.
ومعنى: ﴿وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٠] يعني: راضين بقدرنا
9633
فيهم، راضين بالعُقْم على أنه ابتلاء وقضاء، ولا يُرفع القضاء عن العبد حتى يرضى به، فلا ينبغي للمؤمن أنْ يتمرَّد على قدر الله، ومن الخشوع التطامن لمقادير الخَلْق في الناس.
9634
ولك أن تسأل: لماذا يأتي ذِكْر السيدة مريم ضمن مواكب النبوة؟ نقول: لأن النبوة اصطفاء الله لنبي من دون خَلْق الله، وكوْنه يصطفي مريم من دون نساء العالمين لتلد بدون ذكورة، فهذا نوع من الاصطفاء، وهو اصطفاء خاص بمريم وحدها من بين نساء العالمين؛ لأن اصطفاء الأنبياء تكرَّر، أمّا اصطفاء مريم لهذه المسألة فلم يتكرر في غيرها أبداً.
وقوله تعالى: ﴿والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا..﴾ [الأنبياء: ٩١] يعني: عَفَّتْ وحفظتْ فَرْجها، فلم تمكِّن منها أحداً.
ومعنى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا..﴾ [الأنبياء: ٩١] يعني:
9634
مسألة خاصة به، خارجة على قانون الطبيعة، فليس في الأمر ذكورة أو انتقاء، إنما النفخة التي نفخها الله في آدم، فجاءت منها كل هذه الأرواح، هي التي نفخها في مريم، فجاءت منها روح واحدة. فالروح هي نفسها التي قال الله فيها: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي..﴾ [الحجر: ٢٩].
ثم يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩١] يعني: شيئاً عجيباً في الكون، والعجيبة فيها أن تلدَ بدون ذكورة، والعجيبة فيه أن يُولَد بلا أب، فكلاهما آية لله ومعجزة.
ثم يقول الحق سبحانه بعد سَرْد لقطات من موكب الأنبياء:
﴿إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً..﴾.
9635
الأمة: الجماعة يجمعها رباط واحد من أرض أو مُلك مَلِك أو دين، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ..﴾ [الزخرف: ٢٢] يعني: على دين.
فالمراد: هذه أمتكم أمةٌ حال كَوْنها أمةً واحدة، لا اختلافَ فيها والرسل جميعاً إنما جاءوا ليتمموا بناءً واحداً، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلاّ
9635
وُضِعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين».
والمعنى أن به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تتم النبوة وتختم.
وتُطلَق الأمة على الرجل الذي يجمع خصال الخير كلها؛ لأن الله تعالى بعثر خصال الخير في الخَلْق، فليس هناك مَنْ هو مَجْمع مواهب وفضائل، إنما في كل منا ميزةٌ وفضيلةٌ في جانب من الجوانب؛ ليتكامل الناس ويحتاج بعضهم إلى بعض، ويحدث الترابط بين عناصر المجتمع، هذا الترابط يتم إمَّا بحاجات تطوُّعية، أو حاجات اضطرارية.
فلو تعلَّم الناس جميعاً وتخرجوا في الجامعة فَمنْ للمِهَن والحِرَف الأخرى؟ مَنْ سيكنس الشوارع، ويقضي مثل هذه الأمور؟ لو تعطلتْ مجاري الصرف الصحي، أيجتمع هؤلاء الدكاترة والأساتذة لإصلاحها، ولو أصلحوها مرة فهذا تطوُّع.
أمّا المصالح العامة فلا تقوم على التطوع إنما تقوم على الحاجة والاضطرار، ولولا هذه الحاجة لما خرجَ عامل الصرف الصحي في الصباح إلى هذا العمل الشاقّ المنفّر، لكن كيف وفي رقبته مسئولية أُسْرة وأولاد ونفقات؟
وسبق أنْ قُلْنا: ينبغي ألاَّ يغترَّ المرء بما عنده من مواهب ومميزات، ولا يتعالى بها على خَلْق الله، وعليه أنْ يسأل عَمَّا عند الآخرين من مواهب يحتاج هو إليها، ولا يؤديها بنفسه.
إذن: الحاجة هي الرابطة في المجتمع، ولو كانَ التطوّع
9636
والتفضّل فلن نحقق شيئاً، فلو قلنا للعامل: تفضل بكنس الشارع لوجدَ ألْفَ عذر يعتذر به، أما إنْ كان أولاده سيموتون جوعاً إن لم يعمل فلا شكَّ أنه سيُسرع ويُبادر.
فالحقيقة أن كل فرد في المجتمع لا يخدم إلا نفسه، فكما تنفع الآخرين تنتفع بهم؛ لذلك إياك أنْ تحسد صاحب التفوق على تفوّقه في أمر من الأمور؛ لأن تفوقه في النهاية عائد عليك.
وكما نقول هذه المسائل في أمور الدنيا نقولها في أمور الآخرة، حين نرى صاحب التديُّن، وصاحب الخُلق والالتزام لا نهزأ به ولا نسخر منه، كما يحلو للبعض؛ لأن صلاحه سيعود عليك، وسوف تنتفع بتديُّنه واستقامته ولعلنا نُرزَق بسبب هؤلاء.
وقد يكون في البيت الواحد فُتوات وأذكياء ومتعلمون وفيهم مُعوَّق أو مجنون أو مجذوب، فترى الجميع يحتقرونه، ويُهوِّنون من شأنه، أو تراه منبوذاً بين هؤلاء مُبْعَداً، لا يشرُف بمعرفته أحد، وربما يعيشون جميعاً في ظِلِّه ويُرزَقون كرامة له.
وكثيراً ما نرى الناس يغضبون وينقمون على قضاء الله إن رزقهم بمولود فيه عيب أو إعاقة، ووالله لو رضيتَ به وتقبلْتَ قضاء الله فيه، لكان هو الظل الظليل لك.
فهؤلاء خُلِقوا هكذا لحكمة، حتى لا نتمرد على صَنْعة الله في كَوْنه، وحتى يشعر أهل النعمة والسلامة والصحة بفضل عليهم، ولنعلم أن الله تعالى لا يسلب شيئاً من عبده إلاّ وقد أعطاه عِوَضاً عنه.
ولك أن تلاحظ مثلاً أحوال الناس المجاذيب الذين تراهم في أيِّ
9637
مكان مُهملين يستقلهم الناس، وينفرون من هيئتهم الرثّة، ومع ذلك ترى أصحاب الجاه والسلطان إذا نزلتْ بهم ضائقة وأعيَتْهم الأسباب يلجئون لمثل هؤلاء المجاذيب يلتمسون منهم البركة والدعاء، وهذا في حَدِّ ذاته أسمى ما يمكن أن يتطلع إليه أهل الجاه وأهل السلطان والنفوذ، أن تكون كلمتهم مسموعةً وأمرهم مُطاعاً، وأن يلجأ الناس إليهم كما لجئوا إلى هذا المجذوب المسكين.
فإذا ما أجرى الله الخير على يد هذا الشيخ المجذوب ترى السيد العظيم يتمحك فيه، ويدعوه إلى طعامه، ويدفع عنه أذى الناس ويحتضنه، لأنه جرَّب وعلم أن لديه فيضاً من فيض الله وكرامة يختص الله بها مَنْ يشاء من عباده، ونحن جميعاً عباد الله ليس فينا مَنْ هو ابن لله، أو بينه وبين الله قرابة.
وإنْ كان العقل هو أعزّ ما يعتز به الإنسان، وهو زينته وحليته، فلك أن تنظر إلى المجنون الذي فقد العقل، وحُرِم هذه الآلة الغالية، وترى الناس يشيرون إليه: هذا مجنون، نعم هو مجنون، لكن انظر إلى سلوكه: هل رأيتم مجنوناً يسرق؟ هل رأيتم مجنوناً يزني؟ هل رأيتم مجنوناً انتحر؟
إذن: مع كونه مجنوناً إلا أنه مدرك لنفسه تماماً؛ لأن خالقه عَزَّ وَجَلَّ وإنْ سلبه العقل إلا أنه أعطاه غريزة تحكمه كما تحكم الغريزة الحيوان، وهل رأيتم حماراً ألقى بنفسه مثلاً أمام القطار؟
إذن: علينا ألاَّ نُحقِّر هؤلاء، وألاَّ نستقل بهم فقد عوَّضهم الله عما سلبه منهم، ومنّا مَنْ يسعى ليصل إلى ما وصلوا هم إليه ولا يستطيع، ومَنْ مِنّا لا يتمنى أن يكون مثل هذا المجذوب الذي يتمسَّح الناس فيه، ويطلبون منه البركة والدعاء؟ وأيُّ عظمة يطلبها الإنسان
9638
فوق هذا؟ ويكفي هذا أنه لا يُسأَلُ عَمّا يفعل في الدنيا، ولا يُسْأَل كذلك في الآخرة.
نعود إلى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً..﴾ [الأنبياء: ٩٢] فمن معاني أمة: الرجل الذي جمع خصال الخير كلها؛ لذلك وصف الله نبيه إبراهيم بأنه أمة، فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً..﴾ [النحل: ١٢٠].
يعني: جمع من خصال الخير مَا لا يوجد إلا في أمة كاملة.
والأمة لا تكون واحدة، إلا إذا صدر تكوينها المنهجي عن إله واحد، فلو كان تكوينها من متعدد لذهب كُلُّ إله بما خلق، ولعلاَ بعضهم على بعض، ولفسد الحال.
إذن: كما قال سبحانه: ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض..﴾ [المؤمنون: ٧١].
فلا تكون الأمة واحدة إلا إذا استقبلت أوامرها من إله واحد وخضعت لمعبود واحد، فإنْ نسيتْ هذا الإله الواحد تضاربتْ وتشتتتْ.
وكأن الحق سبحانه يقول: أنتم ستجربون أمة واحدة، تسودون بها الدنيا وتنطلق دعوتكم من أمة أمية لا تعرف ثقافة، ولا تعرف علماً، ولم تتمرس بحكم الأمم؛ لأنها كانت أمة قبلية، لكل قبيلة قانونها وسيادتها وقيادتها.
ثم ينزل لكم نظام يجمع الدنيا كلها بحضاراتها، نظام يطوي تحت جناحه حضارة فارس وحضارة الروم ويُطوِّعها، ولو أنكم أمة
9639
مثقفة لقالوا قفزة حضارية، إنما هذه أمة أمية، ونبيها أيضاً أُمِّي إذن: فلا بُدَّ أن يكون المنهج الذي جاء به ليسلب هذه الحضارات عِزَّها ومجدَها منهجاً أعلى من كل هذه المناهج والحضارات.
ثم يقول تعالى: ﴿وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون﴾ [الأنبياء: ٩٢] أي: التزموا بمنهجي لتظلوا أمة واحدة، واختار صفة الربوبية فلم يقُلْ: إلهكم؛ لأن الرب هو الذي خلق ورزق وربى، أمّا الإله فهو الذي يطلب التكاليف.
فالمعنى: ما دُمْتُ أنا ربكم الذي خلقكم من عَدَم، وأمدكم من عُدْم، وأنا القيوم على مصالحكم، أكلؤكم بالليل والنهار، وأرزق حتى العاصي والكافر بي، فأنا أوْلَى بالعبادة، ولا يليق بكم أن أصنع معكم هذا كله وتذهبون إلى إله غيري، هذا منطق العقل السليم، وكما يقولون (اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي).
ومن العبادة أن تطيع الله في أمره ونَهيْه؛ لأن ثمرة هذه الطاعة عائدة عليك بالنفع، فلله تعالى صفات الكمال الأزليّ قبل أنْ يخلق مَنْ يطيعه، فطاعتك لن تزيد شيئاً في مُلْك الله، ومعصيتك لن تنتقص منه شيئاً. إذن: فالأمر راجع إليك، وربك يُثيبك على فعل هو في الحقيقة لصالحك.
لكن، هل سمع الناس هذا النداء وعملوا بمقتضاه، فكانوا أمة واحدة كهذه الأمة التي أدخلتْ الدنيا في رحاب الإسلام في نصف قرن؟ هذه الأمة التي ما زلنا نرى أثرها في البلاد التي تمردتْ على العروبة، وعلى لغة القرآن، ومع ذلك هم مسلمون على لغاتهم وعلى حضارتهم، إن الدين الذي يصنع هذا، والأمة الواحدة التي تحمَّلتْ هذه المسئولية ما كان ينبغي أن نتخلى عنها.
9640
والسؤال: هل بقيت الأمة الواحدة؟ تجيب الآيات: ﴿وتقطعوا أَمْرَهُمْ..﴾.
9641
أي: صاروا شيعاً وأحزاباً وجماعات وطوائف، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ..﴾ [الأنعام: ١٥٩].
لماذا، لست منهم في شيء؟ لأنهم يقضون على واحدية الأمة، ولا يقضون على واحدية الأمة إلا إذا اختلفتْ، ولا تختلف الأمة إلا إذا تعددتْ مناهجها، هنا ينشأ الخلاف، أمَّا إنْ صدروا جميعاً عن منهج واحد فلن يختلفوا.
وما داموا قد تقطعوا أمرهم بينهم، فصاروا قِطَعاً مختلفة، لكل قطعة منهج وقانون، ولكل قطعة تكاليف، ولكل قطعة راية، وكأن آلهتهم متعددة، فهل سيُتركون على هذا الحال، أم سيعودون إلينا في النهاية؟
﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٣] إذن: أنتم أمة واحدة في الخَلْق من البداية، وأمة واحدة في المرجع وفي النهاية، فلماذا تختلفون في وسط الطريق؟
إذن: الاختلاف ناشىء من اختلاف المنهج، وكان ينبغي أن يكون واضع المنهج واحداً. وقد جاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خَاتَماً للرسالات، وجاءت شريعته جامعة لمزايا الشرائع السابقة، بل وتزيد عليها المزايا التي تتطلبها العصور التي تلي بعثته.
فكان المفروض أن تجتمع الأمة المؤمنة على ذلك المنهج الجامع
9641
المانع الشامل، الذي لا يمكن أن يستدرك عليه، وبذلك تتحقق وحدة الأمة، وتصدر في تكليفاتها عن إله واحد، فلا يكون فيها مَدْخَل للأهواء ولا للسلطات الزمنية أو الأغراض الدنيئة.
لذلك، إذا تعددت الجماعات التي تقول بالإسلام وتفرقت نقول لهم: كونوا جماعة واحدة، وإلا فالحق مع أيِّ جماعة منكم؟! لأن الله تعالى خاطب نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: ﴿إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٥٩].
ولا يتفرق الداعون لدعوة واحدة إلا باتباع الأهواء والأغراض، أما الدين الحق فهو الذي يأتي على هوى السماء، موافقاً لما ارتضاه الله تعالى لخَلْقه.
لقد انفضَّ المؤمنون عن الجامع الذي يجمعهم بأمر الله، فانفضت عنهم الوحدة، وتدابروا حتى لم يَعُدْ يجمعهم إلا قَوْلُ «لا إله إلا الله محمد رسول الله» أما مناهجهم وقوانينهم فقد أخذوها من هنا أو من هناك، وسوف تعضهم هذه القوانين، وسوف تخذلهم هذه الحضارات، ويرون أثرها السيء، ثم يعودون في النهاية إلى الإسلام فهو مرجعهم الوحيد، كما نسمع الآن نداء لا حَلَّ إلا الإسلام.
نعم، الإسلام حَلٌّ للمشاكل والأزمات والخلافات والزعامات، حَلٌّ للتعددية التي أضعفتْ المسلمين وقوَّضَتْ أُخوَّتهم التي قال الله فيها: ﴿واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً..﴾ [آل عمران: ١٠٣].
ووالله، لو عُدْنا إلى حبل الله الواحد فتمسَّكنا به، ولم تلعب بنا الأهواء لَعُدْنا إلى الأمة الواحدة التي سادتْ الدنيا كلها.
9642
إذن: ﴿إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٣] أي: في الآخرة للحساب، وأنا أقول يا رب.. لعل هذا الرجوع يكون في الدنيا بأنْ تعضَّنا قوانين البشر، فنفزع إلى الله ونعود إليه من جديد، فيعود لنا مجدنا، ويصْدُق فينا قَوْل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء».
ويُعزِّز هذا الفهم ويُقوِّي هذا الرجاء قول الله تعالى بعدها: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ..﴾.
9643
الحق - سبحانه وتعالى - يستأنف معنا العظة بالعمل الصالح ليعطينا الأمل لو رجعنا إلى الله، والدنيا كلها تَشهد أن أيَّ مبدأ باطل، أو شعار زائف زائل يُزخرفون به أهواءهم لا يلبث أنْ ينهار ولو بَعْد حين، ويتبين أصحابه أنه خطأ ويعدلون عنه.
ومثال ذلك الفكر الشيوعي الذي ساد روسيا منذ عام ١٩١٧ وانتهكت في سبيله الحرمات، وسفكتْ الدماء، وهدمتْ البيوت، وأخذت الثروات، وبعد أن كانت أمة تصدر الغذاء لدول العالم أصبحت الآن تتسول من دول العالم، وهم أول مَنْ ضَجَّ من هذا الفكر وعانى من هذه القوانين.
وقوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ..﴾ [الأنبياء: ٩٤] ربط العمل الصالح بالإيمان، لأنه مُنطلَق المؤمن في كُلِّ ما يأتي وفي كُلِّ ما يدع؛ لينال بعمله سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
أمّا مَنْ يعمل الصالح لذات الصلاح ومن منطلق الإنسانية
9643
والمروءة، ولا يخلو هذا كله في النهاية عن أهواء وأغراض، فليأخذ نصيبه في الدنيا، ويحظى فيها بالتكريم والسيادة والسُّمْعة، وليس له نصيب في ثواب الآخرة؛ لأنه فَعَل الخير وليس في باله الله.
والحق سبحانه يعطينا مثالاً لذلك في قوله تعالى: ﴿الذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ..﴾ [النور: ٣٩].
يعني: فوجئ بوجود إله يحاسبه ويجازيه، وهذه مسألة لم تكُنْ على باله، فيقول له: عملتَ ليقال وقد قيل. وانتهت المسألة؛ لذلك يقول تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ..﴾ [الشورى: ٢٠] أي: نعطيه أجره في عالم آخر لا نهاية له ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠].
لأنه عَمِلَ للناس، فليأخذ أجره منهم، يُخلِّدون ذكراه، ويُقيمون له المعارض والتماثيل.. الخ.
وقوله تعالى: ﴿فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ..﴾ [الأنبياء: ٩٤] يعني: لا نبخسه حَقَّه ولا نجحد سَعْيه أبداً ﴿وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٤] نسجِّل له أعماله ونحفظها، والمفروض أن الإنسان هو الذي يُسجِّل لنفسه، فإنْ سجَّل لك عملَك ربُّك الذي يُثيبك عليه، وسجَّله على نفسه، فلا شكَّ أنه تسجيل دقيق لا يبخسك مثقال ذرة من عملك.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ..﴾.
9644
﴿حَرَامٌ..﴾ [الأنبياء: ٩٥] يعني: ممتنع: لا يجب أن يكون، والقرية: أي قرية أهلكناها؛ لأنها كذَّبَتْ الرسل، ووقفتْ منهم موقف اللَّدَد والعناد والمعارضة، فأهلكها الله بذنوبها في الدنيا، أيُعقَلُ بعد هذا أن نتركها في الآخرة من غير أنْ نأخذها بذنوبها؟
لا بُدَّ - إذن - أن ترجع إلينا في الآخرة لنحاسبها الحساب الدائم الخالد، فلا نكتفي بحساب الدنيا المنتهي.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ..﴾.
وردتْ قصة يأجوج ومأجوج في آخر سورة الكهف، حينما سُئِلَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الرجل الجوَّال الذي طاف الأرض، فنزلت: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً﴾ [الكهف: ٨٣].
وقد تكلم العلماء في ذي القرنين، منهم مَنْ قال: هو قورش ومنهم مَنْ قال هو: الإسكندر الأكبر. والقرآن لا يعنيه الشخص وإلاَّ لَذكره باسمه، فالقرآن لا يُؤرِّخ له، لا يقيم له تمثالاً، إنما يريد التركيز على الأوصاف التي تعني الحق وتعني الخَلْق.
فيكفي أن نعلم أنه إنسان مكَّنَه الله في الأرض. يعني: أعطاه من أسباب القوة وأسباب المهابة والسيطرة، وأعطاه من كُلِّ مُقوِّمات
9645
القوة: أعطاه المال والعلم والجيوش، فلم يكتف بذلك كله، بل ﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ [الكهف: ٨٥] يعني: أخذ بالأسباب التي تؤدِّي إلى الخير.
وسبق أنْ تحدثنا عن تشخيص البطل في قصص القرآن؛ لأن القرآن لا يُؤرِّخ للشخصية، ولا يُعطى لها خصوصية، وإنما يريدها عامة لتكون مثلاً يُحتذَى، ويتم بها الاعتبار، وتُحدِث الأثر المراد من القصة.
فما يعنينا في قصة ذي القرنين أنه رجل مُكِّن في الأرض، وكان من صفاته كذا وكذا، وما يعنينا من أهل الكهف أنهم فتية آمنوا بربهم وتمسَّكوا بدينهم وعقيدتهم وضَحَّوْا في سبيلها، لا يهمنا الأشخاص ولا الزمان ولا المكان ولا العدد.
لذلك؛ أبهم القرآن كل هذه المسائل، فأيّ فتية، في أيّ زمان، وفي أيِّ مكان، وبأيِّ أسماء يمكن أن يقفوا هذا الموقف الإيماني، ولو شخَّصناهم وعيَّناهم لَقالَ الناس: إنها حادثة خاصة بهؤلاء، أو أنهم نماذج لا تتكرر؛ لذلك أبهمهم القرآن ليكونوا عبرة وأُسْوة تسير في الزمان كله.
كذلك، لما أراد القرآن أنْ يضرب مثلاً للذين كفروا ذكر امرأة نوح وامرأة لوط ولم يُعيِّنهما، وكذلك ضرب مثلاً للذين آمنوا بامرأة فرعون ولم يذكر مَنْ هي، فالغرض من ضَرْب هذه الأمثال ليس الأشخاص، إنما لنعلم أن للمرأة حريةَ العقيدة واستقلاليةَ الرأي، فليست هي تابعة لأحد، بدليل أن نوحاً ولوطاً لم يتمكَّن كل منهما من هداية امرأته.
9646
وفرعون الكافر الذى ادَّعَى الألوهية، لم يستطع أن يمنع زوجته من الإيمان، وهي قالت: ﴿رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين﴾ [التحريم: ١١].
إذن: ما يعنينا في قصة «ذي القرنين» أن الله مكَّن له في الأرض وأعطاه كُلَّ أسباب القوة والسيطرة؛ لذلك ائتمنه أنْ يكونَ ميزاناً للخير وللحق، وفوَّضَهُ أن يقضي في الخَلْق بما يراه من الحق والعدل. ﴿حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ [الكهف: ٨٦].
لأننا مكَّنَّاه وفوَّضناه، فاستعمل التمكين في موضعه، وأخذ الأمانة بحقَِّها، فقال:
﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً﴾ [الكهف: ٨٧] أي: نُعذِّبه على قَدْر مقدرتنا، ثم يُرَدُّ إلى ربه فيُعذِّبه على قَدْر قدرته تعالى. ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾ [الكهف: ٨٨]
وهكذا يكون دستور الحياة من الحاكم الممكَّن في الخَلْق، دستور الثواب والعقاب الذي تستقيم به أمور البلاد والعباد، فحين يرى تقصيراً لا بُدَّ أنْ يأخذ على يد صاحبه مهما تكُنْ منزلته، لا يخافه ولا ينافقه ولا يخشى في الله لومة لائم، وإنْ رأى المحسن المجتهد يُثيبه ويكافئه.
وهذا القانون نراه في مجتمعنا يكاد يكون مُعطّلاً بين العاملين، فاختلط الحابل بالنابل، وتدهورتْ الأمور، ودخلت بيننا مقاييس
9647
أخرى للثواب وللعقاب ما أنزل الله بها من سلطان، فانقلبتْ الموازين، حيث تبجح الكسالى، وأُحْبِط المجدُّون المحسنون. ﴿حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً﴾ [الكهف: ٩٠].
هذا كُلُّ ما أخُبر الله به، ويبدو أنه وصل في تجواله العام إلى بلاد تظل الشمس بها مشرقة ثلاثة أو ستةَ أشهر لا تغرب؛ لذلك لم يجد لهم من دون الشمس ستْراً يسترها أيْ ظلمة ﴿حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾ [الكهف: ٩٣].
ومع ذلك احتال أن يفهم منهم، ويخاطبهم؛ لحرصه على نفعهم وما يصلحهم، وهذه صفة الحاكم المؤمن حين يُمكَّن في الأرض، وتُعطَى له أسباب القيادة، ويُفوَّض في خَلْق الله، ولو لم يكُنْ حريصاً على نفعهم لوجد العذر في كونه لا يفهم منهم ولا يفهمون منه.
فلما توصلوا إلى لغة مشتركة، ربما هي لغة الإشارة التي نتفاهم بها مع الأخرس مثلاً: ﴿قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً﴾ [الكهف: ٩٤].
ثم أمرهم أن يأتوا بقطَع الحديد، فأشعل فيها النار حتى احمرَّت فقال ﴿آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ [الكهف: ٩٦] وهكذا صنع لهم السدَّ الذي يحميهم من هؤلاء القوم، فلم يَقصُر نفعه لهم على هذه القضية ذاتها، إنما نفعهم نَفْعاً يعطيهم الخير والقوة في ألاَّ يتعرضوا لمثلها
9648
بعد ذلك، عملاً بالحكمة التي تقول: لا تعطني سمكة، ولكن علمني كيف أصطاد.
ذلك لأنه أشركهم في العمل؛ ليشعروا بأهميته ويتمسكوا بالمحافظة عليه وصيانته، وإذا ما تعرضوا لمثل هذا الموقف لا ينتظرون مَنْ يصنع لهم.
هذا هو النموذج الذي تُقدِّمه قصة «ذي القرنين» وهو نموذج صالح لكل الزمان ولكل المكان ولكل حاكم مكَّنه الله في الأرض، وألقى بين يديه أزِمّة الأمور، وفي حديث أفضل العمل يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق».
وقد تضاربتْ الأقوال حول: مَنْ هم يأجوج ومأجوج، فمنْ قائل: هم التتار.
وآخر قال: المغول. وآخر قال: هم الحتيت، أو السرديال، أو قبائل الهُونْ.
ولو كان في تحديدهم فائدة لعيَّنهم القرآن، إنما المهم من قصتهم أنهم قوْمٌ مفسدون في الأرض لا يتركون الصالح على صلاحه، فإذا ما تصدَّى لهم الممكَّن في الأرض فعليه أن يحول بينهم وبين هذا الإفساد في غيرهم، وعلينا نحن ألاَّ نُفسِد الصالح كهؤلاء، إنما نترك الصالح على صلاحه، بل ونزيده صلاحاً.
وفي بناء ذي القرنين للسد دروس يجب أنْ يعيها أولو الأمر الذين يتوَّلْون مصالح الخَلْق، من هذه الدروس أنه لم يقف عند طلبهم
9649
في بناء سدٍّ يمنع عنهم أذى عدوهم، إنما اجتهد وترقَّى بالمسألة إلى ما هو أفضل لهم، فالسدُّ الأصمّ المتماسك كقطعة واحدة يسهل هَدْمه أو النفاذ منه؛ لذلك قال: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ [الكهف: ٩٥].
لقد طلبوا سداً وهو يقول: رَدْماً، لقد رقّى لهم الفكرة، وأراد أن يصنع لهم سداً على هيئة خاصة تمتصّ الصدمات، ولا تؤثر في بنائه؛ لأنه جعل بين الجانبين رَدْماً كأنه سوسته تُعطِي السدّ نوعاً من المرونة. وهكذا يجب أن يكون المؤمن عند تحمُّل مسئولية الخَلْق.
ولما عرضوا عليه المال نظير عمله أبى، وقال: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ..﴾ [الكهف: ٩٥] أي: عندي المال الكثير من عطاء الله لكن أعينوني بما لديكم من قوة. إذن: زكاة القوة أنْ تمنع الفساد من الغير.
نعود إلى قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ..﴾ [الأنبياء: ٩٦] فلها علاقة بقوله تعالى: ﴿وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ..﴾ [الأنبياء: ٩٣] فتقطّع أهل الخير وتفرُّقهم يُجرِّئ عليهم أصحاب الفساد، وأقل ما يقولونه في حقِّهم أنهم لو كانوا على خير لنفعوا أنفسهم، فدعُوكم من كلامهم، وهكذا يفُتُّ أهل الباطل في عَضُدِ أهل الحق، ويصرفون الناس عنهم.
﴿حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ..﴾ [الأنبياء: ٩٦] يعني: جاءت عناصر الفساد والفتنة في الكون، وعناصر الفساد والفتنة لا تتمكن ولا تجد الفرصة والسلطة الزمنية إلا إذا غفل أهل الحق وتفرقوا فلم يردوهم، ويأخذوا على أيديهم.
9650
ويأجوج ومأجوج هم أهل الفساد في كل زمان ومكان، فجنكيزخان الذي هدم أول ولاية إسلامية في خوارزم، وكان عليها الملك قطب أرسلان، ثم جاء من ذريته الثالثة هولاكو الذي دخل بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية وخربَّها وقتل أهلها حتى سالتْ الدماء، وألقى بالكتب الإسلامية في النهر حتى كانت قنطرة يعبرون عليها. هؤلاء الذين نُسمِّيهم التتار.
إذن: فالقرآن قَصَّ علينا من التاريخ القديم قصة يأجوج ومأجوج أيام ذي القرنين، ثم رأيناهم في حياتنا الإسلامية، وشاء الله أن يستفيد المسلمون من هجمات هؤلاء البرابرة، وأن تتجمع ولاياتهم ويصدُّوا هجمات التتار على أرض مصر بقيادة قطز والظاهر بيبرس، وهما مثالان للممكَّنين في الأرض، مع أنهما من المماليك.
هذه الهجمات التترية للمفسدين في الأرض كانت هجمات همجية وحشية، وقد تجمَّع أحفاد هؤلاء من يأجوج ومأجوج العصر الحديث في هجمات مدنية تغزونا بحضارتها، إنهم الصليبيون الذين انهزموا أمام وحدة المسلمين بقيادة صلاح الدين.
وهكذا على مرِّ التاريخ ننتصر إذا كنا أمة واحدة، ونُهزَم إذا تفرّقنا وتقطّعنا أمماً وأحزاباً، وهذه حقائق تُثبِت صِدْق القرآن فيما وجَّهنا إليه من الوحدة وعدم التفرق.
ثم يقول تعالى: ﴿وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٦].
الحدب: المكان المرتفع، نقول: فلان أحدب الظهر يعني: في ظهره منطقة مرتفعة، وكذلك هؤلاء المفسدون أتوْا من أماكن مرتفعة في هضبة شمال الصين. ومعنى ﴿يَنسِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٦] يعني: يسرعون، ومنه نقول: انسلَّ القماش؛ لأن القماش مُكوَّن من سُدى
9651
ولُحمة، يعني خيوط طولية وخيوط عرضية، تتداخل فتكوِّن القماش، فنسل القماش أن تنزع خيوط العرض وتفكّ تداخلها مع خيوط الطول، ولا تُنزع خيوط الطول لأنها دائماً مُحكَمة بثَنْى السُّدَى على اللحمة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿واقترب الوعد الحق فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ..﴾.
9652
فكوْنُ أهل الفساد يأتون مُسْرِعين من كل حَدب وصَوْب إلا أن فسادهم لن يطول، فقد اقتربت القيامة، قال تعالى: ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر﴾ [القمر: ١].
وقال: ﴿أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ..﴾ [النحل: ١].
وهذا تنبيه للغافل، وتحذير للباغي من أهل الفساد، وتطمين ورجاء للمظلومين المستضعفين المعتدَى عليهم: اطمئنوا فقد قرب وقت الجزاء.
﴿واقترب الوعد الحق..﴾ [الأنبياء: ٩٧] والوعد الحق أي: الصادق الذي يملك صاحبه أن يُنفّذه، فقد تَعِد وعداً ولا تملك تنفيذه فهو وَعْد، لكنه وَعْد باطل، فالوعد يختلف حَسْب مروءة الواعد وإمكانياته وقدرته على إنفاذ ما وعد به.
9652
لكن مهما كانت عندك من إمكانيات، ومهما ملكتَ من أسباب التنفيذ، أتضمن أن تُمكِّنك الظروف والأحوال من التنفيذ؟ ولا يملك هذا كله إلا الله عَزَّ وَجَلَّ، فإذا وعد حقق ما وعد به، فالوعد الحق - إذن - هو وعد الله.
وحين يقول الحق سبحانه: ﴿واقترب الوعد الحق..﴾ [الأنبياء: ٩٧] فتنبه ولا تَقِسْ الدنيا بعمرها الأساسي، إنما قِسْ الدنيا بعمرك فيها، فهذه هي الدنيا بالنسبة لك، ولا دَخْلَ لك بدنيا غيرك، فإذا كنتَ لا تعلم متى تفارق دنياك فلا شَكَّ أن عمرك قريب، واقترب الوعد الحق بالنسبة لك.
وكذلك مدة مُكْثِك في قبرك إلى أن تقوم الساعة ستمر عليكِ كساعة من نهار، كما قال سبحانه: ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار..﴾ [يونس: ٤٥].
ولو تنَّبه كل مِنّا إلى إخفاء الله لأجله، لعلم أن في هذا الإخفاء أعظمَ البيان، فحين أخفاه ترقبناه في كل طَرْفة عَيْن، وتنفُّس نَفَسٍ؛ لذلك يقولون: «مَنْ مات قامت قيامته»، لأن القيامة تعنى الحساب والجزاء على الأعمال، ومَنْ مات انقطع عمله، وطُويَتْ صحيفته.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ..﴾ [الأنبياء: ٩٧] وَعْد الله هنا هو القيامة، وهي تفاجئنا وتأتينا بغتة؛ لذلك نقول في (فَإذَا) أنها الفجائية، كما تقول: خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب،
9653
يعني: فوجئت به، وهكذا ساعةَ تقوم الساعة سوف تُفَاجِئ الجميع، لا يدري أحد ماذا يفعل.
لذلك يقول سبحانه: ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ..﴾ [الأنبياء: ٩٧] وشخوص البصر يأتي حين ترى شيئاً لا تتوقعه، ولم تحسب حسابه، فتنظر مُنْدهِشاً يجمد جفنُك الأعلى الذي يتحرك على العين، فلا تستطيع حتى أنْ ترمش أو تطرف.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار﴾ [إبراهيم: ٤٢].
وإذا أردتَ أن ترى شُخوص البصر فانظر إلى شخص يُفَاجأ بشئ لم يكُنْ في باله، فتراه - بلا شعور وبغريزته التكوينية - شاخصَ البصر، لا ينزل جفنه.
ثم يقولون: ﴿ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا..﴾ [الأنبياء: ٩٧] فلم يقتصر الموقف على شخوص البصر إنما تتحرك أيضاً أدوات الإدراك فيقول اللسان: ﴿ياويلنا﴾ وهذا نداء للويل أي: جاء وقتُك فلم يَعُدْ أمامهم إلا أنْ يقولوا: يا عذاب هذا أوانك فاحضر.
والويل: هو الهلاك السريع ينادونه، فهل يطلب الإنسان الهلاكَ، ويدعو به لنفسه؟ نقول: نعم، حين يفعل الإنسان الفعلَ ويجد عواقبه السيئة، وتواجهه الحقيقة المرّة يميل إلى تعذيب نفسه، أَلاَ تسمع مثل هؤلاء يقولون: أنا أستحق.. أنا أستاهل الضرب.. ؟ إنه لَوْم النفس وتأنيبها على ما كان منها، فهي التي أوقعتْه في هذه الورطة.
9654
لذلك يقول سبحانه: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [الزخرف: ٦٧].
فلماذا لا يُؤنِّب نفسه، ويطلب لها العذاب، وهي التي أردتْه في التهلكة، ففي هذا الموقف تنقلب موازينهم التي اعتادوها في الدنيا، فالأصدقاء في الشر وفي المعصية هم الآن الأعداء.
﴿قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا..﴾ [الأنبياء: ٩٧] لم يكن هذا الموقف في بالنا، ولم نعمل له حساباً، والغفلة: أنْ تدرأ عن بالك ما يجب أن يكون على بالك دائماً.
لكن، أيّ غفلة هذه والله - عَزَّ وَجَلَّ - يُذكِّرنا بهذا الموقف في كل وقت من ليل أو نهار، ألاَ ترى أنه سبحانه سَمَّى القرآن ذِكْراً ليزيح عنّا هذه الغفلة، فكلما غفلتَ ذكّرك، وهزَّ مواجدك، وأثار عواطفك.
إذن: المسألة ليست غفلة؛ لذلك نراهم يستدركون على كلامهم، فيقولون: ﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٧] لأنهم تذكَّروا أن الله تعالى طالما هَزَّ عواطفهم، وحرَّك مواجيدهم ناحية الإيمان، فلم يستجيبوا.
لذلك اعترفوا هنا بظلمهم، ولم يستطيعوا إنكاره في مثل هذا الموقف، فلم يعُدْ الكذب مُجْدِياً، ولعلّهم يلتمسون بصدقهم هذا نوعاً من الرحمة، ويظنون أن الصدق نافعهم، لكن هيهات.
وكأن الحق سبحانه يحكي عنهم هذه المواجهة حين تفاجئهم القيامة بأهوالها، فتشخص لها أبصارهم، ويقول بعضهم ﴿ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا..﴾ [الأنبياء: ٩٧] فيردّ عليهم إخوانهم: أيّ غفلة هذه، وقد كان الله يُذكِّرنا بالقيامة وبهذا الموقف في كل وقت ﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٧].
9655
و (بَلْ) حرف إضراب عن الكلام السابق، وإثبات للكلام اللاحق، وهكذا يُراجِعون أنفسهم، ويُواجِه بعضهم بعضاً، لكن بعد فوات الأوان.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله..﴾.
9656
فالذين اتخذتموهم آلهة من دون الله من الأصنام والأوثان والشمس والقمر والأشجار سيسبقونكم إلى جهنم لنقطع عليكم أيَّ أمل في النجاة؛ لأنهم حين يروْنَ العذاب ربما تذكّروا هؤلاء، وفكَّروا في اللجوء إليهم والاستنجاد بهم، لعلّهم يُخرِجِونهم من هذا المأزق، وقد سبق أنْ قالوا عنهم: ﴿هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله..﴾ [يونس: ١٨] وقالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى..﴾ [الزمر: ٣].
لذلك، يجمعهم الله جميعاً في جهنم ليقطع عنهم الآمال، ويبدو خجل المعبود وخيبة العابد؛ لأنه جاء النارَ فوجد معبوده قد سبقه إليها.. لكن، هل هذا الكلام على إطلاقه فقد عبد الكفارُ الأصنامَ، ومنهم مَنْ عبدوا عيسى عليه السلام، ومنهم مَنْ عبدوا عُزَيْراً، ومنهم مَنْ عبدوا الملائكة، فهل سيُجمع هؤلاء أيضاً مع عابديهم في النار؟
لو قُلْنا بهذا الرأي فدخولهم النار مثلما دخلها إبراهيم، فجمع الله له النار والسلامة في وقت واحد، ويكون وجودهم لمجرد أنْ يراهم
9656
عابدوهم، ويعلموا أنهم لا ينفعونهم.
ومعنى ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ..﴾ [الأنبياء: ٩٨] الحصب مثل: الحطب، وهو كل ما تُوقَد به النار أياً كان خشباً أو قَشاً أو بترولاً أو كهرباء، وفي آية أخرى: ﴿وَقُودُهَا الناس والحجارة..﴾ [التحريم: ٦] لذلك فإن النار نفسها تشتاق للكفار، وتنتظرهم، وتتلهّف عليهم كما يقول تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ [ق: ٣٠] وقوله تعالى: ﴿إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ..﴾ [الملك: ٧ - ٨] وقوله تعالى: ﴿أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] الورود هنا بمعنى: الدخول والمباشرة، لا كالورود في الآية الأخرى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا..﴾ [مريم: ٧١].
9657
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا..﴾.
9658
لأنهم سيدخلون فيجدون آلهتهم أمامهم؛ لينْقطِع أملهم في شفاعتهم التي يظنونها، كما قال تعالى في شأن فرعون: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار..﴾ [هود: ٩٨] فرئيسهم وفُتوتهم يتقدمهم، ويسبقهم إلى النار، فلو لم يكُنْ أمامهم لظنوا أنه ينقذهم من هذا المأزق. ولو كان هؤلاء آلهة - كما تدَّعون - ما وردوا النار.
ومعنى: ﴿وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٩] لأن المعروف عن النار أنها تأكل ما فيها، ثم تنتهي، أما هذه النار فلا نهايةَ لها، فكلما نضجَتْ جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها، وهكذا تظل النار مُتوقِّدة لا تنطفئ. ومعنى ﴿كُلٌّ..﴾ [الأنبياء: ٩٩] أي: العابد والمعبود.
معلوم أن الزفير هو الخارج من عملية التنفس، فالإنسان يأخذ في الشهيق الأكسجين، ويُخرِج في الزفير ثاني أكسيد الكربون، فنلحظ أن التعبير هنا اقتصر على الزفير دون الشهيق؛ لأن الزفير هو الهواء الساخن الخارج، وليس في النار هواء للشهيق، فكأنه لا شهيقَ لهم، أعاذنا الله من العذاب.
﴿وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٠].
وهذه من الآيات التي توقف عندها المستشرقون، لأن هناك آياتٍ أخرى تُثبت لهم في النار سَمْعاً وكلاماً. كما في قوله سبحانه:
9658
﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ [الأعراف: ٤٤]
نعم، هم يسمعون، لكن لا يسمعون كلاماً يَسُرُّ، إنما يسمعون تبكيتاً وتأنيباً، كما في قوله تعالى: ﴿ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين﴾ [الأعراف: ٥٠].
9659
بعد أن ذكر سبحانه جزاء الكافرين في النار ذكر المقابل، وذِكْر المقابل يوضح المعنى، اقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٣ - ١٤].
ويقول: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً..﴾ [التوبة: ٨٢] لذلك تظل المقارنة حيَّة في الذِّهْن.
ومعنى: ﴿سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى..﴾ [الأنبياء: ١٠١] الحُسْنى: مؤنث الأحسن، تقول: هذا حَسَن، وهذه حسنة، فإنْ أردتَ المبالغة تقول: هذا أحسن، وهذه حُسْنى. مثل: أكبر وكُبْرى. ومعنى: ﴿سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى..﴾ [الأنبياء: ١٠١] أنهم من أهل الطاعة، ومن أهل الجنة، فهكذا حُكْم الله لهم، وقد أخذ الله تعالى جزءاً من خَلْقه
9659
وقال: «هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي».
ولا تقُلْ: ما ذنب هؤلاء؟ لأنه سبحانه حكم بسابق عِلْمه بطاعة هؤلاء، ومعصية هؤلاء.
وقوله: ﴿أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠١] أي: مبعدون عن النار.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشتهت..﴾.
9660
حسيس النار: أزيزها، وما ينبعث منها من أصوات أول ما تشتعل ﴿وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٢] فلم يقُلْ مثلاً: وهم بما اشتهتْ أنفسهم، إنما ﴿فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ..﴾ [الأنبياء: ١٠٢] كأنهم غارقون في النعيم ممَّا اشتهتْ أنفسهم، كأن شهوات أنفسهم ظرف يحتويهم ويشملهم. وهذا يُشوِّق أهل الخير والصلاح للجنة ونعيمها، حتى نعمل لها، ونُعِد العُدَّة لهذا النعيم.
وسبق أن قلنا: إن الإنسان يتعب في أول حياته، ويتعلم صنعة، أو يأخذ شهادة لينتفع بها فيما بعد ويرتاح في مستقبل حياته، وعلى قَدْر تعبك ومجهودك تكون راحتك، فكل ثمرة لا بُدَّ
9660
لها من حَرْث ومجهود، والله عَزَّ وَجَلَّ لا يُضيع أجرَ مَنْ أحسن عملاً.
وكنا نرى بعض الفلاحين يقضي يومه في حقله، مهملَ الثياب، رثَّ الهيئة، لا يشغله إلا العمل في زرعه، وآخر تراه مُهنْدماً نظيفاً يجلس على المقهى سعيداً بهذه الراحة، وربما يتندر على صاحبه الذي يُشقِى نفسه في العمل، حتى إذا ما جاء وقت الحصاد وجد العامل ثمرة تعبه، ولم يجد الكسول غير الحسرة والندم.
إذن: ربك - عَزَّ وَجَلَّ - أعطاك الطاقة والجوارح، ويريد منك الحركة، وفي الحركة بركة، فلو أن الفلاح جلس يُقلِّب في أرضه ويُثير تربتها دون أنْ يزرعها لَعوَّضه الله وأثمر تعبه، ولو أن يجد شيئاً في الأرض ينتفع به مثل خاتم ذهب أو غيره.
وترف الإنسان وراحته بحسب تَعبه في بداية حياته، فالذي يتعب ويعرق مثلاً عَشْر سنين يرتاح طوال عمره، فإنٍْ تعب عشرين سنة يرتاح ويرتاح أولاده من بعده، وإنْ تعِب ثلاثين سنة يرتاح أحفاده وهكذا.
وترَف المتعلم يكون بحسب شهادته: فهذا شهادة متوسطة، وهذا عُلْيا، وهذا أخذ الدكتوراة، ليكون له مركز ومكانة في مجتمعه.
لكن مهما أعدَّ الإنسان لنفسه من نعيم الحياة وترفها فإنه نعيم بقّدْر إمكانياته وطاقاته؛ لذلك ذكرنا أننا حين سافرنا إلى سان فرانسيسكو رأينا أحد الفنادق الفخمة وقالوا: إن الملك فيصل - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان ينزل فيه، فأردنا أنْ نتجوّل فيه، وفعلاً أخذنا بما فيه مظاهر الترف والأُبهة وروعة الهندسة، وكان معي ناس من عِلْية القوم فقلتُ لهم: هذا ما أعدّه العباد للعباد، فما بالكم بما أعدَّه رب العباد للعباد؟
9661
فإذا ما رأيتَ أهل النعيم والترف في الدنيا فلا تحقد عليهم؛ لأن نعيمهم يُذكِّرك ويُشوِّقك لنعيم الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر..﴾.
9662
ذلك لأنهم في نعيم دائم لا ينقطع، وعطاء غير مجذوذ، لا يفوتك بالفقر ولا تفوته بالموت؛ لذلك: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر..﴾ [الأنبياء: ١٠٣] وأيُّ فزع مع هذه النعمة الباقية؟ أو: لا يحزنهم فزع القيامة وأهوالها.
وقوله: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٣] فقد صَدَقكم الله وَعْده، وأنجزَ لكم ما وعدكم به من نعيم الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ..﴾.
أي: ما يحدث من عذاب الكفار وتنعيم المؤمنين سيكون {يَوْمَ
9662
نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ..} [الأنبياء: ١٠٤] و (يَوْمَ) : زمن وظَرْف للأحداث، فكأن ما يحدث للكافرين من العذاب والتنكيل، وما يحدث للمؤمنين من الخلود في النعيم يتم في هذا اليوم.
والسجل: هو القرطاس، والورق الذي نكتب فيه يُسمَّى سجلاً؛ ولذلك الناس يقولون: نسجل كذا، أي: نكتبه في ورقة حتى يكون محفوظاً، والكتاب: هو المكتوب.
والحق سبحانه يقول في آية أخرى: ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ..﴾ [الزمر: ٦٧] يطويها بقدرته؛ لأن اليمين عندنا هي الفاعلة في الأشياء، ولكن لا نأخذ الطي أنه الطي المعروف، بل نأخذه في إطار ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..﴾ [الشورى: ١١].
وقوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ..﴾ [الأنبياء: ١٠٤] يدلنا على أن الحق سبحانه يتكلم عن الخَلْق الأول و ﴿نُّعِيدُهُ..﴾ تدل على وجود خَلْق ثَان.
إذن: فقوله تعالى في موضع آخر: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: ٤٨] دليل على أن الخَلْق الأول خَلْق فيه الأسباب وفيه المسبّب، فالحق سبحانه أعطاك في الدنيا مُقوِّمات الحياة من: الشمس والقمر والمطر والأرض والماء.... الخ، وهذه أمور لا دَخْل لك فيها، وكل ما عليك أنْ تستخدمَ عقلك الذي خلقه الله في الترقي بهذه الأشياء والترف بها.
9663
أما في الخلق الثاني فأنت فقط تستقبل النعيم من الله دون أَخْذ بالأسباب التي تعرفها في الدنيا؛ لأن الآخرة لا تقوم بالأسباب إنما بالمسبِّب سبحانه، وحين ترى في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر تعلم أن فِعْل ربك لك أعظم من فِعْلك لنفسك.
ومهما ارتقتْ أسباب الترف في الدنيا، ومهما تفنَّن الخَلْق في أسباب الراحة والخدمة الراقية، فقصارى ما عندهم أن تضغط على زِرٍّ يفتح لك الباب، أو يُحضِر لك الطعام أو القهوة، لكن أتحدَّى العالم بما لدية من تقدُّم وتكنولوجيا أنْ يُقدم لي ما يخطر ببالي من طعام أو شراب، فأراه أمامي دون أنْ أتكلم؛ لأن هذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ.
فقوله: ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ..﴾ [الأنبياء: ١٠٣] فالمعنى ليستْ مجرد إعادته كما كان، إنما نعيده على أَرْقى وأفضل مما كان بحيث يصل بك النعيم أنْ يخطرَ الشئ ببالك فتجده بين يديك، بل إنَّ المؤمن في الجنة يتناول الصنف من الفاكهة فيقول: لقد أكلْتُ مثل هذا من قبل فيُقال له: ليس كذلك بل هو أفضل مما أكلْتَ، وأهنأ مما تذوقتَ. فلو تناولتَ مثلاً تفاح الدنيا تراه خاضعاً لنوعية التُّرْبة والماء والجو المحيط به والمبيدات التي لا يستغني عنها الزرع هذه الأيام... إلخ. أمّا تفاح الآخرة فهو شيء آخر تماماً، إنه صَنْعة ربانية وإعداد إلهيّ.
وكأن الحق سبحانه يلفت عباده إلى أن عنايته بهم أفضل من
9664
عنايتهم بأنفسهم؛ لأنه سبحانه أوْلَى بنا من أنفسنا، ولكي نعلم الفرق بين الشيء في أيدينا والشيء في يده عَزَّ وَجَلَّ.
ثم يقول تعالى: ﴿وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] أي: لا يُخرِجنا شيء عمَّا وعدنا به، ولا يخالفنا أحد.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ..﴾.
9665
والكَتْب: التسجيل، لكن علم الله أزليٌّ لا يحتاج إلى تسجيل، إنما التسجيل من أجلنا نحن حتى نطمئن، كما لو أخذتَ من صاحبك قَرْضاً وبينكما ثقة، ويأمن بعضكم بعضاَ، لكن مع هذا نكتب القَرْض ونُسجِّله حتى تطمئن النفس.
ومعنى: ﴿كَتَبْنَا فِي الزبور..﴾ [الأنبياء: ١٠٥] الزبور: الكتاب الذي أُنزِل على نبي الله داود، ومعنى الزبور: الشيء المكتوب، فإنْ أطلقتَها على عمومها تُطلَق على كل كتاب أنزله الله، ومعنى: ﴿مِن بَعْدِ الذكر..﴾ [الأنبياء: ١٠٥] الذِكْر: يُطلَق مرة على القرآن، ومرة على الكتب السابقة. وما دام الزَبور يُطلَق على كل كتاب أنزله الله فلا بُدَّ أن للذكر معنى أوسع؛ لذلك يُطلَق الذكر على اللوح المحفوظ، لأنه ذكْر الذكْر، وفيه كل شيء.
فمعنى: ﴿كَتَبْنَا فِي الزبور..﴾ [الأنبياء: ١٠٥] أي: في الكتب التي
9665
أُنزلَتْ على الأنبياء ما كتبناه في اللوح المحفوظ، أو ما كتبناه في الزبور، لا أنّ سيدنا داود أعطاه الله فوق ما أعطى الآخرين.
ومعنى: ﴿مِن بَعْدِ الذكر..﴾ [الأنبياء: ١٠٥] هذه تدل على أن واحداً أسبق من الآخر، نقول: القرآن هو كلام الله القديم، ليس في الكتب السماوية أقدم منه، والمراد هنا ﴿مِن بَعْدِ الذكر..﴾ [الأنبياء: ١٠٥] بعدية ذِكْرية، لا بعدية زمنية.
فما الذي كتبه الله لداود في الزبور؟ كتب له ﴿أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون﴾ [الأنبياء: ١٠٥] كلمة الأرض إذا أُطلقَتْ عموماً يُراد بها الكرة الأرضية كلها.
وقد تُقيَّد بوصف معين. كما في: ﴿الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ..﴾ [المائدة: ٢١].
وفي: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض..﴾ [يوسف: ٨٠] أي: التي كان بها.
وهنا يقول تعالى: ﴿أَنَّ الأرض..﴾ [الأنبياء: ١٠٥] أي: الأرض عموماً ﴿يَرِثُهَا..﴾ أي: تكون حقاً رسمياً لعبادي الصالحين. فأيُّ أرض هذه؟ أهي الأرض التي نحن عليها الآن؟ أم الأرض المبدلة؟
ما دُمْنَا نتكلّم عن بَدْء الخَلْق وإعادته، فيكون المراد الأرض المبدلَة المعادة في الآخرة، والتي يرثها عباد الله الصالحون، والإرْث هنا كما في قوله تعالى: ﴿تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ٤٣].
9666
فعن مَنْ ورثوا هذه الأرض؟
الحق سبحانه وتعالى حينما خلق الخَلْق أعدَّ الجنة لِتسعَ كلَّ بني آدم إنْ آمنوا، وأعدَّ النار لتسع كُلَّ بني آدم إنْ كفروا، فليس في المسألة زحام على أيِّ حال. فإذا ما دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، ودخل أهلُ النارِ النارَ ظلَّتْ أماكن أهل النار في الجنة خالية فيُورثها الله لأهل الجنة ويُقسِّمها بينهم، ويُفسح لهم أماكنهم التي حُرِم منها أهل الكفر.
أو نقول: الأرض يُراد بها أرض الدنيا. ويكون المعنى أن الله يُمكِّن الصالح من الأرض، الصالح الذي يَعْمُرها ولو كان كافراً؛ لأن الله تعالى لا يحرم الإنسان ثمار عمله، حتى وإنْ كان كافراً، يقول تعالى ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾
[الشورى: ٢٠].
لكن عمارة الكفار للأرض وتمكينهم للحضارة سَرْعان ما تنزل بهم النكبات، وتنقلب عليهم حضارتهم، وها نحن نرى نكبات الأمم المرتقية والمتقدمة وما تعانيه من أمراض اجتماعية مستعصية، فليست عمارة الأرض اقتصاداً وطعاماً وشراباً وترفاً. ففي السويد - مثلاً - وهي من أعلى دول العالم دَخْلاً ومع ذلك بها أعلى نسبة انتحار، وأعلى نسبة شذوذ، وهذه هي المعيشة الضَّنْك التي تحدَّث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى﴾ [طه: ١٢٤]
فالضَّنْك لا يعني فقط الفقر والحاجة، إنما له صور أخرى كثيرة.
9667
إذن: لا تَقِسْ مستوى التحضُّر بالماديات فحسب، إنما خُذْ في حُسبانك كُلَّ النواحي الأخرى، فمَنْ أتقن النواحي المادية الدنيوية أخذها وترف بها في الدينا، أمّا الصلاح الديني والخُلقي والقِيَمي فهو سبيل لترف الدنيا ونعيم الآخرة.
وهكذا تشمل الآية: ﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون﴾ [الأنبياء: ١٠٥] الصلاح المادي الدنيوي، والصلاح المعنوي الأخروي، فإنْ أخذتَ الصلاح مُطلقاً بلا إيمان، فإنك ستجد ثمرته إلى حين، ثم ينقلب عليك، فأين أصحاب الحضارات القديمة من عاد وثمود والفراعنة؟
إن كُلَّ هذه الحضارات مع ما وصلتْ إليه ما أمكنها أن تحتفظ لنفسها بالدوام، فزالتْ وبادتْ.
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد﴾ [الفجر: ٦ - ١٠].
إنها حضارات راقية دُفِنَتْ تحت أطباق التراب، لا نعرف حتى أماكنها. أمّا إنْ أخذت الصلاح المعنوي، الصلاح المنهجي من الله عَزَّ وَجَلَّ فسوف تحوز به الدنيا والآخرة؛ ذلك لأن حركة الحياة تحتاج إلى منهج يُنظِّمها: افعل كذا ولا تفعل كذا. وهذا لا يقوم به البشر أمّا ربُّ البشر فهو الذي يعلم ما يُصلحهم ويُشرِّع لهم ما يُسعدهم.
إن منهج الله وحده هو الذي يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بالحلال والحرام، وعلينا نحن التنفيذ، وعلى الحكام وأولياء الأمر الممسكين بميزان العدل أنْ يراقبوا مسألة التنفيذ هذه، فيُولُّوا مَنْ يصلُح للمهمة، ويقوم بها على أكمل وجه، وإلا فسد حال المجتمع، الحاكم
9668
يُشرف ويُراقِب، يُشجِّع العامل ويُعاقب الخامل، ويضع الرجل المناسب في مكانه المناسب.
فعناصر الصلاح في المجتمع: علماء يُخططون، وحكام يُنفّذون، ويديرون الأمور، وكلمة حاكم مأخوذة من الحكَمة (بالفتح) وهي: اللجام الذي يكبح الفَرس ويُوجِّهها.
لذلك جاء في الحديث الشريف: «مَنْ ولَّى أحداً على جماعة، وفي الناس خير منه لا يشم رائحة الجنة».
لماذا؟ لأن ذلك يُشيع الفساد في الأرض، ويُثبِّط العزائم العالية والهمم القوية حين ترى مَنْ هو أقلّ منك كفاءة يتولّى الأمر، وتُستبعد أنت.
أما حين تعتد كِفَة الميزان فسوف يجتهد كُلٌّ مِنّا ليصل إلى مكانه المناسب.
إذن: مهمة الحكام وولاة الأمر ترقية المجتمع، فلا نقول لحاكم مثلاً يُعِدُّ لنا طعاماً، أو يصنع لنا آلة، فليستْ هذه مهمته، ولقد رأينا أحد الأمراء وكان له أرض يزرعها، يتولاها أحد الموظفين يقولون له (الخُولي) ومهمة الخولي الإشراف والمراقبة.
وفي يوم جاء الأمير ليباشر أرضه ويتفقد أحوالها في صُحْبة الخولي، وفي أثناء جولتهما بالأرض رأى الخولي قناةً ينسابُ منها الماء حتى أغرق الزرع فنزل وسَدَّ القناة بنفسه.
وعندها غضب الأمير وفصله من عمله؛ لأنه عمل بيده في حين أن مهمته الإشراف ولديه من العمال مَنْ يقوم بمثل هذا العمل.
9669
لكن لماذا هذه النظرة في إدارة الأعمال؟ قالوا: لإنك إنْ عملتَ بيدك فأنت واحد، لكن إنْ أشرفتَ فيمكن أنْ تُشرِف على آلاف من العمال. ومن هنا جاءت مسألة التخصُّص في الأعمال.
وعلى الحاكم ووليّ الأمر أنْ يحافظ على منهج الله، ويتابع تطبيق الناس له، فيقف أمام أي فساد، ويأخذ على يد صاحبه، ويثيب المجتهد العامل، كما جاءَ في قوله تعالى في قصة القرنين: ﴿قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾ [الكهف: ٨٧ - ٨٨].
ذلك، لأن الله تعالى يزَعُ بالسلطان مَا لا يزع بالقرآن، ولو تركنا أهل الفساد والمنحرفين لجزاء القيامة لفسد المجتمع، لا بُدَّ من قوة تصون صلاح المجتمع، وتضرب على أيدي المفسدين، لا بُدَّ من قوة تمنع مَنْ يتجرؤون علينا ويطالبون بتغيير نظامنا الإسلامي.
لذلك يقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] لا بُدَّ أن يعلم العدو أن لديك الرادعَ الذي يَردعه إنِ اعتدى عليك أو حاول إفساد صلاح المجتمع.
لذلك، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول في الحديث إن السهم الذي يُرمى في سبيل الله، لكل مَنْ شارك في إعداده ورمية جزء من الثواب، فالذي قطعه من الشجرة والذي براه، والذي وضعه في القوس ورمى به؛ لأن في ذلك صيانةً للحق وصيانة للصلاح حتى يدوم، ولا يفسده أحد.
9670
والمسئولية هنا لا تقتصر على الحكام وولاة الأمر، إنما هي مسئولية كل فرد فيمن ولي أمراً من أمور المسلمين، كما جاء في الحديث: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته: فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بَعْلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته».
وعلى العامل ألاّ ينظرَ إلى مراقبة صاحب العمل، وليكُنْ هو رقيباً على نفسه، والله عَزَّ وَجَلَّ يراقب الجميع، وقد جاء في الحديث القدسي
«» إن كنتم تعتقدون أَنِّي لا أراكم فالخَلل في إيمانكم، وإنْ كنتم تعتقدون أَنِّي أراكم فَلِمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟ «.
والمتأمل في حركة الحياة يجدها متداخلة، فمثلاً لو أردتَ بناء بيت، فالهندسة حركة، والبناء حركة، والكهرباء حركة، والنجارة حركة، وهكذا.. ، فلو قلنا: إن هذا العمل يتكون من مائة حركة مثلاً، فإنك لا تملك منها إلا حركة واحدة هي عملك الذي تتقنه، والباقي حركات لغيرك، فإنْ أخلصتَ فيما للناس عندك ألهمهم الله أنْ يخلصوا لك ولو عن غير قصد، فأنت أخلصتَ وأتقنتَ حركة واحدة، وأخلص الناس لك في تسع وتسعين حركة.
واعلم أن الخواطر والأفكار بيد الله سبحانه، فإنْ راقبتَ الله فيما للناس عندك راقبهم الله لك فيما لك عندهم، وكفاك مُؤْنة المراقبة، فقد يصنع لك الصانع شيئاً، ويريد أنْ يغشَّك فيه فيحول الله بينه وبين
9671
هذا؛ ربما يجلس معه أحد معارفه فيستحي أن يغش أمامه، أو لا يجد الشيء الذي يغشك به، أو غير ذلك من الأسباب التي يُسخِّرها الله لك، فيتقن لك الصانع صَنْعته، ولو رَغْماً عن إرادته.
إذن: إن أردتَ صلاحَ أمرك فأصلح أمور الآخرين.
ومن الأساسيات التي نُصلح بها ونرث الأرض أن ننظر إلى الناس جميعاً على أنهم سواسية، لا فضلَ لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، فليس فينا مَنْ هو ابن لله عَزَّ وَجَلَّ، وليس منا مَنْ بينه وبين الله قرابة، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ..﴾ [الحجرات: ١٣].
والإسلام لا يعرف الطبقية إلا في إتقان العمل، فقيمة كل امرئ ما يُحسِنه، وقد ضربنا لذلك مثلاً، وما نزال نذكره مع أنه لرجل غير مسلم، إنه رجل فرنسي كان نقيباً للعمال، وكان يدافع عن حقوقهم، ويطلب لهم زيادة الدَّخْل من ميزانية الوزارة، فلما تولى منصب الوزارة وتولى المسئولية عدلَ عَمَّا كان يطالب به، فضجَّ العمال، وأراد أحدهم أنْ يغيظه فقال له: اذكر يا معالي الوزير أنك كنت في يوم من الأيام ماسح أحذية، فما كان من الرجل إلا أن قال: نعم.. لكني كنت أجيدها.
وسبق أن ذكرنا أن الله تعالى وزَّعَ المواهب والقدرات بين خَلْقه، فساعة ترى نفسك مُميزاً على غيرك في شيء فلا تغتر به، وابحثْ فيما مُيّز به عنك غيرُك؛ لأننا جميعاً عند الله سواء، لا يحابي أحداً على أحد، فأنت مُميز بعلمك أو قوتك، وغيرك أيضاً مُميز في سعادته مع أهله أو في أمانته وثقة الناس به، أو في رضاه بما قسم له أو في مقدرته على نفسه ورضاه بالقليل، وقد يُميَّز الواحد مِنَّا بالولد الصالح الذي يكون مِطْواعاً لأبيه، وقُرة عَيْن له.
9672
إذن: هذه مسألة مُقدّرة محسوبة؛ لأن ربك سبحانه قيُّوم عليك، لا تخفى عليه منك خافية، وحين يُميّز بعضنا على بعض إنما ليدكّ فينا الغرور والكبرياء، وينزع من قلوبنا الحِقْد والغلَّ، وهكذا يتوازن المجتمع، ولا يكون التميز مثار حقدٍ؛ لأن تميزَ غيرك لصالحك، وسيعود عليك.
والحق - سبحانه وتعالى - يُحدِّثنا عن يوم القيامة، وكيف أن الشمس ستدنو من الرؤوس، ويشتدّ بالناس الكرب، إلا هؤلاء الذين يُظلُّهم الله يوم لا ظل إلا ظله، ذلك لأنهم كانوا مظلة أمان في الدنيا، فأظلهم الله في الآخرة.
كما جاء في الحديث الشريف: «سبعة يُظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه مُعلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه».
نعم، لقد صنع هؤلاء بسلوكهم القويم مظلَّة أمانٍ في الكون، فاستحقوا مظلَّة الله في الآخرة. وبمثل هؤلاء يتوازن المجتمع المسلم ويَرْقَى إلى القمة، هذا المجتمع الذي نريده هو مجتمع غنيّه متواضع، وفقيره كريم شريف، وشابُّه طائع.
يقول رب العزة سبحانه في الحديث القدسي: «» أحب ثلاثة وحُبِّي لثلاثة أشدُّ - فهؤلاء ستة نقسمهم إلى قسمين - أحب الفقير
9673
المتواضع، وحُبِّي للغني المتواضع أشد - لأن عنده أسبابَ الكبر ومع ذلك يتواضع - وأحب الغنيِّ الكريم وحُبِّي للفقير الكريم أشدّ، وأحب الشيخ الطائع وحبي للشاب الطائع أشدُّ «
وأكره ثلاثة وكُرْهي لثلاثة أشد: أكره الغني المتكبر، وكُرْهي للفقير المتكبر أشدّ، وأكره الفقير البخيل، وكُرْهي للغني البخيل أشد، وأكره الشاب العاصي وكرهي للشيخ العاصي أشد «.
هؤلاء اثنا عشر نوعاً: ستة في المحبوبية، وستة في المكروهية، وكلما التزمنا بتطبيق هذا المنهج وجدنا مجتمعاً راقياً من الدرجة الأولى.
9674
البلاغ: الشيء المهم الذي يجب أن يعلمه الناس؛ لذلك حين ينشغل الناس بالحرب، وينتظرون أخبارها تأتيهم على صورة بلاغات، يقولون: بلاغ رقم واحد، لأنه أمر مهم.
فقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً..﴾ [الأنبياء: ١٠٦] أي: أن ما جاء به القرآن هو البلاغ الحق، والبلاغ الأعلى الذي لم يترك لكم عذراً، ولا لغفلتكم مجالاً، ولا لمستدرك أنْ يستدرك عليه في شيء. فهو مُنتْهى ما يمكن أنْ أخبركم به.
وهو بلاغ لمن؟ ﴿لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٦] أي: يتلقفون مُرادَ الله لينفذوه، سواء أكان أمراً أمْ نَهياً.
وما دام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاتَم الرسل، وبعثتُه للناس كافة، وللزمن كله إلى أنْ تقوم الساعة. وقد جاء الرسل السابقون عليه لفترة زمنية
9674
محددة، ولقوم بعينهم، أما رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجاءتْ رحمةً للعالمين جميعاً؛ لذلك لا بُدَّ لها أنْ تتسعَ لك أقضية الحياة التي تعاصرها أنت، والتي يعاصرها خَلَفُك، وإلى يوم القيامة.
ومعنى: العالمين، كُلُّ ما سوى الله عَزَّ وَجَلَّ: عالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الجماد، وعالم الحيوان، وعالم النبات. لكن كيف تكون رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحمةً لهم جميعاً؟
قالوا: نعم، رحمة للملائكة، فجبريل - عليه السلام - كان يخشى العاقبة حتى نزل على محمد قوله تعالى: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ﴾ [التكوير: ٢٠] فاطمأن جبريل عليه السلام وأَمِن.
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحمة للجماد؛ لأنه أمرنا بإماطة الأذى عن الطريق. وهو رحمة بالحيوان. وفي الحديث الشريف: «ما من مسلم يزرع زَرْعاً، أو يغرس غَرْساً فيأكلَ منه طيْرٌ أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة».
وحديث المرأة التي دخلتْ النار في هِرَّة حبستْها، فلا هي أطعمتْها وسقتْها، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاش الأرض.
وحديث الرجل الذي دخل الجنة؛ لأنه سقى كلباً كان يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فنزل الرجل البئر وملأ خُفَّه فسقى الكلب، فشكر الله له وغفر له، لأنه نزل البئر وليس معه إناء يملأ به الماء،
9675
فاحتال للأمر، واجتهد ليسقي الكلب.
وهكذا نالتْ رحمة الإسلام الحيوان والطير والإنسان، ففي الدين مبدأ ومنهج يُنظِّم كل شيء ولا يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة الناس؛ لذلك فهو رحمة للعالمين.
فقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] يعني أن كل ما يجيء به الإسلام داخل في عناصر الرحمة.
ثم يقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ... ﴾.
9676
فالوحدانية هي أول رحمة بنا، أن نكون كلنا سواء، ليس لنا إلا إله واحد، هذه من أعظم رحمات الله أن نعبده وحده لا شريكَ له، فعبادته تُغنينا عن عبادة غيره، ولو كانت آلهةً متعددة لأصابتنا الحيرة بين إله يأمر، وإله ينهى.
لذلك؛ فالحق - سبحانه وتعالى - يطلب منا أنْ نعتزّ وأنْ نفخَر بهذه الوحدانية، وبهذه الألوهية، وفي هذا يقول الشاعر الإسلامي محمد إقبال:
9676
فسجودك لله وتعفير وجهك له سبحانه يحميك من السجود لغيره، ولولا سجودك لله لَسجدت لكل مَنْ هو أقوى منك، فعليك - إذن - أن تعتز بعبوديتك لله؛ لأنها تحميك من العبودية لغيرك من البشر، وحتى لا يقول لك شخص أنت عبد، نعم أنا عبد لكن لستُ عبداً لك، فعبد غيرك حُرٌّ مثلك.
وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً في هذه المسألة في قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾ [الزمر: ٢٩] فهل يستوي عبد لعدة أسياد يتجاذبونه في وقت واحد، وهم مع ذلك مختلفون بعضهم مع بعض، وعبد سَلَمَاً لسيد واحد؟
وهكذا، نحن جميعاً عبيد لله - عَزَّ وَجَلَّ - حين نخضع لا نخضع إلا له سبحانه، فلا أخضع لك ولا تخضع أنت لي؛ لذلك يقولون «اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم» لأنه أمر من أعلى، من السماء، لا دَخْلَ لأحد فيه.
لذلك؛ فالعبودية تُكره حين تكون عبوديةً للبشر، لأن عبودية البشر للبشر يأخذ السيد خير عبده، أما العبودية لله فيأخذ العبد خير سيده.
والشاعر يقول:
والسُّجود الذِي تَجْتويِه مِنْ أُلُوفِ السُّجودِ فِيهِ نَجَاةُ
حَسْبُ نفسي عِزاً بأنِّي عَبْدٌ يحتفي بي بلاَ مواعيدَ رَبُّ
هُوَ في قُدْسِه الأعزِّ ولكِنْ أنا أَلْقَى متى وأيْنَ أُحِبُّ
ولك أنْ تقارن بين مقابلة عظيم من عظماء الدنيا، ومقابلة ربك عَزَّ وَجَلَّ. فإنْ أردتَ الدخولَ على أحد هؤلاء لا بُدَّ أن تطلب المقابلة،
9677
ويا ترى تقبل أم ترفض، وإنْ قبلت فلا تملك من عناصرها شيئاً، فالزمان، والمكان، وموضوع الكلام. كلها أمور يحددها غيرك.
أما إن أردتَ مقابلة ربك - عَزَّ وَجَلَّ - فما عليك إلا أنْ تتوضأ وترفع يديك قائلاً: الله أكبر بعدها ستكون في معية الله، وقد اخترتَ أنت الزمان، والمكان، وموضوع الحديث، وإنهاء اللقاء.
أَلاَ ترى كيف امتنَّ الله تعالى على رسوله في رحلة «الإسراء والمعراج» بأنْ وصفه بالعبودية له سبحانه، فقال: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] إذن: جاء قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ..﴾ [الأنبياء: ١٠٨] بعد قوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] ليدلنا: أن دعوة الله لنا إلى عبادة إله واحد ترحمنا من عبوديتنا بعضنا لبعض.
ثم يُرغِّبنا الحق سبحانه في هذه العبودية، فيقول: ﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٨] كما تحث ولدك المتكاسل أن يكون مثلَ زميله الذي تفوَّق، وأخذ المركز الأول، فتقول له: ألا تذاكر وتجتهد حتى تكون مثله؟
وهكذا في ﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٨] أي: مسلمون لله؛ لأن مصلحتكم في الإسلام وعزّكم في عبوديتكم لله.
9678
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ [الأنبياء: ١٠٩] يعني: أعرضوا وانصرفوا ﴿فَقُلْ آذَنتُكُمْ..﴾ [الأنبياء: ١٠٩] مادة: أذن ومنها الأذان تعني الإعلام بالشيء، والأصل في الإعلام كان في الأًذُن بالكلام، حيث لم يكُنْ عندهم قراءة وكتابة، فاعتمد الإعلام على الكلام، والسماع بالأذن، فمعنى: ﴿آذَنتُكُمْ..﴾ [الأنبياء: ١٠٩] أعلمتُكم وأخبرتُكم.
وقوله تعالى: ﴿على سَوَآءٍ..﴾ [الأنبياء: ١٠٩] يعني: جاء الإعلام لكم جميعاً لم أخصّ أحداً دون الآخر، فأنتم في الإعلام سواء، لا يتميز منكم أحد على أحد؛ لذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحرص على إبلاغ الجميع، فيقول: «نضَّر الله امْراً سمع مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع» وهكذا يشيع الخيْر ويتداول بين الجميع.
﴿فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ..﴾ [الأنبياء: ١٠٩] فلم أُعْلِم قوماً دون قوم، ولم أُسْمِع أُذناً دون أُذن، وجعلت من كمال الإيمان أن يخبر السامع مَنْ لم يسمع؛ لأنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ثم يُنبِّههم إلى أمر الساعة: ﴿وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٩] فانتبهوا وخُذوا بالكم، واحتاطوا، فلا أدري لعلَّ الساعةَ تكون قريباً، ولعلها تفاجئكم من قبل أنْ أُنهي كلامي معكم.
لذلك؛ لما سألوا أحد الصالحين: فِيمَ أفنيتَ عمرك؟ قال: «
9679
أفنيت عمري في أربعة أشياء: علمت أني لا أخلو من نظر الله طَرْفة عين فاستحييتُ أنْ أعصيه، وعلمتُ أن لي رزْقاً لا يتجاوزني قد ضمنه الله لي فقنعتُ به، وعلمتُ أن عليَّ دَيْناً لا يؤديه عني غيري فاشتغلتُ به، وعلمتُ أن لي أَجَلاً يبادرني فبادرتُه».
إذن: فالمراد: استعدوا لهذه المسألة قبل أن تفاجئكم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول..﴾.
9680
وما دام ربك - عَزَّ وَجَلَّ - يعلم الجهر ويعلم السرَّ وأخْفى، فإياك أنْ تنافق؛ لأننا ننهاك عن النفاق مع البشر، فمن باب أَوْلى أن ننهاك عن نفاق ربك سبحانه الذي يعلم سِرَّك كما يعلم علانيتك، وقصارى أمر البشر أنْ يُراقبوا علانيتك. لذلك، فإن كل احتياطات أهل الإجرام التخفِّي عن أعين الدولة، والهرب من مراقبة الشرطة، لكن كيف التخفي عن نظر الله وعلمه؟
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾ [الأنبياء: ١١٠] يُعلّمنا الأدب حتى فيما نكتم، فالأدب في الجهر من باب أَوْلَى، ونحن مؤمنون بأن الله سبحانه غَيْب غير مشهد، وهَبْ أنك في بيتك تعلم كل شيء فيه؛ لأنه مشهد لك، أمّا ما كان خارج البيت فهو غَيْب عنك لا تعلمه، أمّا الحق سبحانه فهو غَيْب يعلم كل مَشْهد وكل غيب.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ..﴾.
أي: لعل الإمهال وبقاءكم دون عذاب وتباطؤ الساعة عنكم فتنةٌ واختبار، يا ترى أتُوفَّقون وتفوزون في هذا الاختبار، كما قال سبحانه في موضع آخر: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٥٥].
وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨].
وقوله تعالى: ﴿وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾ [الأنبياء: ١١١] أي: لن يدوم هذا النعيم وهذا المتاع؛ لأن له مدة موقوتة.
ثم يقول الحق سبحانه في ختام سورة الأنبياء: ﴿قَالَ رَبِّ احكم بالحق وَرَبُّنَا الرحمن..﴾.
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احكم بالحق..﴾ [الأنبياء: ١١٢] كما دعا بذلك الرسل السابقون: ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين﴾ [الأعراف: ٨٩].
9681
وهل يحكم الله سبحانه إلا بالحق؟ قالوا: الحق سبحانه يُبيِّن لنا؛ لأننا عِشْنا في الدنيا ورأينا كثيراُ من الباطل، فكأننا لأول مرة نسمع الحكم بالحق.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: ١١٢] أي: المستعان على تُجرمون فيه من نسبتنا إلى الجنون، أو إلى السحر.. الخ.
وتلاحظ أن الحق سبحانه في آيات سورة الأنبياء تكلم عن طَيِّ السماء كطيِّ السجل للكتب، ثم قال: ﴿لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ..﴾ [الأنبياء: ١١١] ﴿وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾ [الأنبياء: ١١١]، ثم قال: ﴿رَبِّ احكم بالحق..﴾ [الأنبياء: ١١٢] هذا كله ليُقرِّب لنا مسألة الساعة وقيامها، ويُعِدُّنا لاستقبال «سورة الحج».
9682
Icon