ﰡ
﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) ﴾
﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ﴾ [أَظَنَّ النَّاسُ] (٢)، ﴿أَنْ يُتْرَكُوا﴾ بِغَيْرِ اخْتِبَارٍ وَلَا ابْتِلَاءٍ، ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ [أَيْ: بِأَنْ يَقُولُوا] (٣)، ﴿آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ لَا يُبْتَلَوْنَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ؟ كلا لنختبرنهم ليبَّين الْمُخَلِصَ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ إِقْرَارٌ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى تُهَاجِرُوا، فَخَرَجُوا عَامِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَاتَّبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ (٤).
(٢) ساقط من "أ".
(٣) ساقط من "ب".
(٤) عزاه السيوطي في الدر: (٦ / ٤٤٩) لعبد بن حميد، وابن جرير الطبري، ٢٠ / ١٢٩، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وذكره الواحدي في الأسباب ص (٣٩٣). قال ابن عطية في "المحرر الوجيز": (١٢ / ١٩٩). "وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب وفي هذه الجماعة، فهي بمعناها باقية في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله تعالى والاختبار باق في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك، وإذا اعتبرنا أيضا كل موضع، ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن، ولكن التي تشبه نازلة المؤمنين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر".
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤) ﴾
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ نُشِرَ بِالْمِنْشَارِ وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، وَابْتُلِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِفِرْعَوْنَ فَكَانَ يَسُومُهُمْ سوء العذاب ٦٦/ب، ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا، ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الصَّادِقِينَ مِنَ الْكَاذِبِينَ حَتَّى يُوجِدَ مَعْلُومَهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَلَيَرَيَنَّ اللَّهُ. وَقِيلَ: لَيَمِيزَنَّ اللَّهُ كَقَوْلِهِ: "لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ" (الْأَنْفَالِ-٣٨).
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ يَعْنِي الشِّرْكَ، ﴿أَنْ يَسْبِقُونَا﴾ يُعْجِزُونَا وَيَفُوتُونَا، فَلَا نَقْدِرُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ بِئْسَ مَا حَكَمُوا حِينَ ظَنُّوا ذَلِكَ.
(٢) ذكره الواحدي في الأسباب ص (٣٩٣)، وقال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف" ص (١٢٧) :"ذكره الثعلبي عن مقاتل.." ثم قال: "وسنده إلى مقاتل في أول كتابه. وفي "الدلائل" لابن أبي شيبة من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: "أول من استشهد يوم بدر مهجع مولى عمر".
﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَمُقَاتِلٌ: مَنْ كَانَ يَخْشَى الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ. وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ كَانَ يَطْمَعُ فِي ثَوَابِ اللَّهِ، ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ يَعْنِي: مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكَائِنٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ أَوْ يَأْمُلُهُ فَلْيَسْتَعِدَّ لَهُ، وَلْيَعْمَلْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ، كَمَا قَالَ: "فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا" الْآيَةَ (الْكَهْفِ-١١٠)، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ له ثوابه، و"الجهاد": هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الشِّدَّةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ لَنُبْطِلَنَّهَا، يعني: حتى تصبر بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُعْمَلْ، وَالتَّكْفِيرُ: إِذْهَابُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَهُوَ الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: نُعْطِيهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلُوا وَأَحْسَنَ، كَمَا قَالَ: "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا" (الْأَنْعَامِ-١٦٠).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ أَيْ: بِرًّا بِهِمَا وَعَطْفًا عَلَيْهِمَا، مَعْنَاهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ بِوَالِدَيْهِ مَا يَحْسُنُ. نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالَّتِي فِي سُورَةِ لُقْمَانَ (الْآيَةُ ١٥)، وَالْأَحْقَافِ (الْآيَةُ ١٥) فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ أَبُو إِسْحَاقَ الزُّهْرِيُّ، وَأُمُّهُ حَمْنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ -لَمَّا أَسْلَمَ، وَكَانَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ، قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَحْدَثْتَ؟ وَاللَّهِ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ، أَوْ أَمُوتَ فَتُعَيَّرَ بِذَلِكَ أَبَدَ الدَّهْرِ، وَيُقَالُ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ. ثُمَّ إِنَّهَا مَكَثَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ [وَلَمْ
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (١٠) ﴾
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ﴾ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ، وَقِيلَ: فِي مَدْخَلِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ الْجَنَّةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ أَصَابَهُ بَلَاءٌ مِنَ النَّاسِ افْتَتَنَ، ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ أَيْ: جَعَلَ أَذَى النَّاسِ وَعَذَابَهُمْ كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: جَزِعَ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَأَطَاعَ النَّاسَ كَمَا يُطِيعُ اللَّهَ مَنْ يَخَافُ عَذَابَهُ، هَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالَا هُوَ الْمُنَافِقُ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ رَجَعَ عَنِ الدِّينِ وَكَفَرَ. ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ أَيْ: فَتْحٌ وَدَوْلَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ: ﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ عَلَى عَدُوِّكُمْ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا أُكْرِهْنَا حَتَّى قُلْنَا مَا قُلْنَا، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ:
(٢) ذكره الواحدي ص (٣٩٤) والثعلبي، والواقدي هكذا بغير سند، والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص بغير هذا السياق، في كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، برقم (١٧٤٨) : ٤ / ١٨٧٧. وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول للوادعي ص (١١٣).
(٣) أخرجه المصنف في شرح السنة: ١٠ / ٤٤ من رواية النواس بن سمعان، والطبراني في الكبير، وأخرجه الطيالسي ص (١١٥) والإمام أحمد: ٥ / ٦٦ وصححه الحاكم: ٣ / ٤٤٣ من رواية عمران بن حصين، وأخرجه الإمام أحمد من رواية ابن مسعود أيضا.
﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٢) ﴾
﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صَدَقُوا فَثَبَتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْبَلَاءِ، ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ بِتَرْكِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ مِنَ النَّاسِ أَوْ مُصِيبَةٌ فِي أَنْفُسِهِمِ افْتَتَنُوا (١). وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى بَدْرٍ (٢)، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ" (النِّسَاءِ-٩٧). وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ رَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى مَكَّةَ (٣). وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَاتُ الْعَشْرُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَاهُنَا مدنية، وباقي السور مَكِّيَّةٌ (٤).
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا مِنْ قَوْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ ومقاتل: قاله أو سُفْيَانَ لِمَنْ آمَنَ مِنْ قُرَيْشٍ، "اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا": دِينَنَا وَمِلَّةَ آبَائِنَا، وَنَحْنُ الْكُفَلَاءُ بِكُلِّ تَبِعَةٍ مِنَ اللَّهِ تُصِيبُكُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ أَوْزَارَكُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَفْظُهُ أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ جَزَاءٌ (٥) مَجَازُهُ: إِنِ اتَّبَعْتُمْ سَبِيلَنَا حَمَلْنَا خطاياكم، كقوله: "فليقله الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ" (طه-٣٩). وَقِيلَ: هُوَ جَزْمٌ عَلَى الْأَمْرِ، كَأَنَّهُمْ أَمَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فِيمَا قَالُوا مِنْ حَمْلِ خَطَايَاهُمْ.
(٢) انظر: الطبري: ٢٠ / ١٢٣، أسباب النزول للواحدي ص (٣٩٦).
(٣) انظر: الطبري: ٢٠ / ١٣٣.
(٤) معاني القرآن للنحاس: ٥ / ٢١٤، ورواه الطبري أيضا عن قتادة في الموضع السابق، وراجع فيما سبق تعليق (١) في أول السورة ص (٢٣١).
(٥) قال في معاني القرآن (٢ / ٣١٤) : هو أمر فيه تأويل الجزاء، وأنشد بيت دثار بن شيبان النمري:
فقلت ادعي وأدع فإن أندى | لصوت أن ينادي داعيان |
﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ﴾ أَوْزَارَ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ، ﴿وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ أَيْ: أَوْزَارَ مَنْ أَضَلُّوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ أَوْزَارِهِمْ. نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ" (النَّحْلِ-٢٥). ﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ فَغَرِقُوا، ﴿وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُشْرِكُونَ.
﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ يَعْنِي مِنَ الْغَرَقِ، ﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾ يَعْنِي السَّفِينَةَ ﴿آيَةً﴾ أَيْ: عِبْرَةً، ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ فَإِنَّهَا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى الْجُودِيِّ مُدَّةً مَدِيدَةً. وَقِيلَ: جَعَلْنَا عُقُوبَتَهُمْ لِلْغَرَقِ عِبْرَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: ٦٧/أبُعِثَ نُوحٌ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَبَقِيَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشُوا، وَكَانَ عُمْرُهُ أَلْفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ، ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ أَطِيعُوا اللَّهَ وَخَافُوهُ، ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾ أَصْنَامًا، ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ تَقُولُونَ كَذِبًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: تَصْنَعُونَ أَصْنَامًا بِأَيْدِكُمْ فَتُسَمُّونَهَا آلِهَةً، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَرْزُقُوكُمْ، ﴿فَابْتَغُوا﴾ فَاطْلُبُوا، ﴿عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ فَأُهْلِكُوا، ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ كَيْفَ يَخْلُقُهُمُ ابْتِدَاءً نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْبَعْثِ ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ فَانْظُرُوا إِلَى دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ كَيْفَ بَدَأَ خَلْقَهُمْ، ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ أَيْ: ثُمَّ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهَا يُنْشِئُهَا نَشْأَةً ثَانِيَةً بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَمَا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ إِحْدَاثُهَا مُبْدِءًا لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِنْشَاؤُهَا مُعِيدًا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: ﴿النَّشَأَةَ﴾ بِفَتْحِ الشِّينِ مَمْدُودَةً حَيْثُ وَقَعَتْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِ الشِّينِ مَقْصُورَةً نَظِيرُهَا الرَّأْفَةُ وَالرَّآفَةُ. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ تُرَدُّونَ.
﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِ: "وَلَا فِي السَّمَاءِ" وَالْخِطَابُ مَعَ الْآدَمِيِّينَ وَهُمْ لَيْسُوا فِي السَّمَاءِ؟.
قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ وَلَا مَنْ فِي السَّمَاءِ بِمُعْجِزٍ، كَقَوْلِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:
فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ | وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ |
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ﴾ بِالْقُرْآنِ وَبِالْبَعْثِ، ﴿أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾ جَنَّتِي، ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي تَذْكِيرِ أَهْلِ مَكَّةَ وَتَحْذِيرِهِمْ، وَهِيَ مُعْتَرَضَةٌ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾ وَجَعَلَهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يُصَدِّقُونَ.
﴿وَقَالَ﴾ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: "مَوَدَّةُ" رَفْعًا بِلَا تَنْوِينٍ، "بَيْنِكُمْ" خَفْضًا بِالْإِضَافَةِ عَلَى مَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا هِيَ مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ، ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ثُمَّ تَنْقَطِعُ وَلَا تَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ. وَنَصَبَ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ: "مَوَدَّةَ" مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ بِوُقُوعِ الِاتِّخَاذِ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "مَوَدَّةً" مَنْصُوبَةً مُنَوَّنَةً "بَيْنَكُمْ" بِالنَّصْبِ، مَعْنَاهُ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ هَذِهِ الْأَوْثَانَ مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَتَوَارَدُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا وَتَتَوَاصَلُونَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا. ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ تَتَبَرَّأُ الْأَوْثَانُ مِنْ عَابِدِيهَا، وَتَتَبَرَّأُ الْقَادَةُ مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَتَلْعَنُ الْقَادَةَ، ﴿وَمَأْوَاكُمُ﴾ جَمِيعًا الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ، ﴿النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾
﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ يَعْنِي: صَدَّقُهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ ابْنَ أَخِيهِ، ﴿وَقَالَ﴾ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ، ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ فَهَاجَرَ مِنْ كُوثَى، وَهُوَ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ، إِلَى حَرَّانَ ثُمَّ إِلَى الشَّامِ، وَمَعَهُ لُوطٌ وَامْرَأَتُهُ سَارَّةُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ نَسْلِهِ، ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾ وَهُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ فَكُلُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْوَلَدُ الصَّالِحُ، وَقِيلَ: هُوَ أَنَّهُ رَأَى مَكَانَهُ فِي الْجَنَّةِ، ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أَيْ: فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلَ آدَمَ وَنُوحٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: "أَئِنَّكُمْ" بِالِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى اسْتِفْهَامِ الثَّانِيَةِ، ﴿لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ وَهِيَ إِتْيَانُ الرِّجَالِ، ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾
﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْفَاحِشَةَ بِمَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسَافِرِينَ، فَتَرَكَ النَّاسُ الْمَمَرَّ بِهِمْ. وَقِيلَ: تَقْطَعُونَ سَبِيلَ النَّسْلِ بِإِيثَارِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ النَّادِي، وَالنَّدَى، وَالْمُنْتَدَى: مَجْلِسُ الْقَوْمِ وَمُتَحَدَّثُهُمْ. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سَهْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي لِأُمِّي أَبُو الْحَسَنِ الْمَحْمُودِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَنَّ بِشْرَ بْنَ مُعَاذٍ حَدَّثَهُمْ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، أَخْبَرَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أَمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ [عَنْ أُمِّ هَانِئٍ] (١) قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ قُلْتُ: مَا الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَهُ؟ قَالَ: "كَانُوا يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطُّرُقِ وَيَسْخَرُونَ بِهِمْ" (٢).
(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة العنكبوت: ٩ / ٤٩-٥٠ وقال: "هذا حديث حسن، إنما نعرفه من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك" وصححه الحاكم على شرط الشيخين: ٢ / ٤٠٩، ووافقه الذهبي، وأخرجه الإمام أحمد: ٦ / ٣٤١ والطبري: ٢٠ / ١٤٥.
قال السيوطي في الدر (٦ / ٤٦٠) :"أخرجه الفريابي، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت"، وابن جرير، وابن المنذر، وابن ابي حاتم، والشاشي في مسنده، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في "الشعب"، وابن عساكر".
﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) ﴾
(٢) عزاه السيوطي (٦ / ٤٦١) للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق".
(٣) وهو مروي أيضا عن ابن عباس ومجاهد. وانظر الدر المنثور: ٦ / ٤٦١، زاد المسير: ٦ / ٢٦٩. وقال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية (٣ / ٤١٢) : أي: يفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها، لا ينكر بعضهم على بعض شيئا من ذلك" ثم ذكر القوال في معنى هذا المنكر. ورجح الطبري (٢٠ / ١٤٦) قول من قال: معناه: وتحذفون في مجالسكم المارة بكم، وتسخرون منهم، لما ذكر من الرواية بذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أم هانئ.
﴿قَالَ﴾ لُوطٌ: ﴿رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ بِتَحْقِيقِ قَوْلِي فِي الْعَذَابِ.
﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾ مِنَ اللَّهِ بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، ﴿قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ يَعْنِي قَوْمَ لُوطٍ، وَالْقَرْيَةُ سَدُومُ، ﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾
﴿قَالَ﴾ إِبْرَاهِيمُ لِلرُّسُلِ: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا﴾ يَعْنِي: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ (١) ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ﴾
﴿وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٣٧) ﴾
﴿وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا﴾ ظَنَّ أَنَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ، ﴿سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ﴾ بِمَجِيئِهِمْ ﴿ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ﴾ قَوْمِكَ عَلَيْنَا، ﴿وَلَا تَحْزَنْ﴾ بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُمْ، ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَيَعْقُوبُ: "مُنْجُوكَ" بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ.
﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، ﴿عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا﴾ عَذَابًا، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: الْخَسْفُ وَالْحَصْبُ، ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾
﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا﴾ مِنْ قَرْيَاتِ لُوطٍ، ﴿آيَةً بَيِّنَةً﴾ عِبْرَةً ظَاهِرَةً، ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يَتَدَبَّرُونَ الْآيَاتِ تَدَبُّرَ ذَوِي الْعُقُولِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْآيَةُ الْبَيِّنَةُ: آثَارُ مَنَازِلِهِمُ الْخَرِبَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْحِجَارَةُ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا أَبْقَاهَا اللَّهُ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ ظُهُورُ الْمَاءِ الْأَسْوَدِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ (١).
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ أَيْ: وَأَرْسَلَنَا إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ أَيْ: وَاخْشَوْا، ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾
﴿وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ أَيْ: وَأَهْلَكْنَا عَادًا وَثَمُودًا، ﴿وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ﴾ يَا أَهْلَ مَكَّةَ، ﴿مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ مَنَازِلِهِمْ بِالْحِجْرِ وَالْيَمَنِ، ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَقَتَادَةُ: كَانُوا مُعْجَبِينَ فِي دِينِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى، وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ (١)، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مُسْتَبْصِرِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانُوا عُقَلَاءَ ذَوِي بَصَائِرَ (٢).
﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ أَيْ: أَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ، ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بِالدَّلَالَاتِ، ﴿فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ أَيْ: فَائِتِينَ مِنْ عَذَابِنَا.
﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾ قوم لوط، و"الحاصب": الرِّيحُ الَّتِي تَحْمِلُ الحصباء، وهي الحصاه الصِّغَارُ، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾ يَعْنِي ثَمُودَ، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ يَعْنِي قَارُونَ وَأَصْحَابَهُ، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ يَعْنِي: قَوْمَ نُوحٍ، وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (٣).
(٢) معاني القرآن: ٢ / ٢١٣ ورجحه القرطبي أيضا: ١٣ / ٣٤٤.
(٣) يقول تعالى ذكره: ولم يكن الله ليهلك هؤلاء الأمم -الذين أهلكهم- بذنوب غيرهم، فيظلمهم بإهلاكه إياهم بغير استحقاق، بل إنما أهلكهم بذنوبهم، وكفرهم بربهم، وجحودهم نعمه عليهم، مع تتابع إحسانه عليهم، وكثرة أياديه عندهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بتصرفهم في نعم ربهم، وتقلبهم في آلائه، وعبادتهم غيره، ومعصيتهم من أنعم عليهم. تفسير الطبري: ٢٠ / ١٥٢.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، يَرْجُونَ نَصْرَهَا وَنَفْعَهَا، ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ لِنَفْسِهَا تَأْوِي إِلَيْهِ، وَإِنَّ بَيْتَهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْوَهَاءِ، لَا يَدْفَعُ عَنْهَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا، وَكَذَلِكَ الأوثان لا تمللك لعباديها نَفْعًا وَلَا ضَرًّا. ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَعَاصِمٌ: "يَدْعُونَ" بِالْيَاءِ لِذِكْرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ﴾ الْأَشْبَاهُ وَالْمَثَلُ: كَلَامٌ سَائِرٌ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الْآخِرِ بِالْأَوَّلِ، يُرِيدُ: أَمْثَالَ الْقُرْآنِ الَّتِي شَبَّهَ بِهَا أَحْوَالَ كُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَحْوَالِ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ﴿نَضْرِبُهَا﴾ نُبَيِّنُهَا، ﴿لِلنَّاسِ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: لِكُفَّارِ مَكَّةَ، ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ أَيْ: مَا يَعْقِلُ الْأَمْثَالَ إِلَّا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ بَرْزَةَ، أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ قَالَ: "الْعَالِمُ مَنْ عَقِلَ عَنِ اللَّهِ فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنَبَ سَخَطَهُ" (١).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: للحق وإظهار لِلْحَقِّ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ فِي خَلْقِهَا، ﴿لَآيَةً﴾ لَدَلَالَةً ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ عَلَى قُدْرَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ.
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ الْفَحْشَاءُ: مَا قُبِّحَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْمُنْكَرُ: مَا لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الصَّلَاةِ مُنْتَهَى وَمُزْدَجَرٌ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، فَمَنْ لَمْ تَأْمُرْهُ صَلَاتُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ بِصَلَاتِهِ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا (١).
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَصَلَاتُهُ وَبَالٌ عَلَيْهِ (٢). وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَا يَدَعُ شَيْئًا مِنَ الْفَوَاحِشِ إِلَّا رَكِبَهُ، فَوُصِفَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالُهُ فَقَالَ: "إِنَّ صَلَاتَهُ تَنْهَاهُ يَوْمًا"
انظر: مجمع الزوائد: ٢ / ٢٥٨، الكافي الشاف ص (١٢٧-١٢٨)، سلسلة الأحاديث الضعيفة: ٢ / ٤١٤-٤١٥ برقم (٩٨٥)، الدر المنثور: ٦ / ٤٦٤، و٤٦٥، تفسير ابن كثير: ٣ / ٤١٥-٤١٦. هذا، ومن شأن الصلاة عندما يقيمها المسلم ويؤدي فرضها وحدودها كما ينبغي، ويتدبر فيها وفيما يتلوه من القرآن أن تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر؛ وذلك لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة، والصلاة تشغل كل بدن المصلي، فإذا دخل في صلاته وخشع وأخبت لربه واذكر أنه واقف بين يديه وأنه مطلع عليه ويراه، صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى وظهرت على جوارحه هيبتها، وإن حصل أو بدر منه شيء يخالف ذلك فصلاته لن تزيده بعدا عن الله ومن يصلي خير ممن لا يصلي، انظر: تفسير القرطبي: ١٣ / ٣٤٨.
(٢) أخرجه الطبري عن الحسن موقوفا: ٢٠ / ١٥٥، ومن طريق أخرى مرفوعا مرسلا، وعن قتادة موقوفا من كلامه. قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف (١٢٨) : أخرجه عبد الرزاق والطبري والبيهقي في "الشعب" من مرسل الحسن. انظر: الدر المنثور: ٦ / ٤٦٦.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالصَّلَاةِ الْقُرْآنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ" (الْإِسْرَاءِ-١١٠)، أَيْ: بقراءتك، وأراد ٦٨/أأَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ، فَالْقُرْآنُ يَنْهَاهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (٣). أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ اللَّيْلَ كُلَّهُ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، قَالَ: "سَتَنْهَاهُ قِرَاءَتُهُ" (٤).
وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَلَانَا يُصَلِّي بِالنَّهَارِ وَيَسْرِقُ بِاللَّيْلِ، فَقَالَ: "إِنَّ صَلَاتَهُ لَتَرْدَعُهُ" (٥). قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أَيْ: ذِكْرُ اللَّهِ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ الْقُشَيْرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ بِبَغْدَادَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ الْحُسَيْنُ بْنُ صَفْوَانَ الْبَرْدَعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا،
(٢) نقل ابن كثير هذا القول عن حماد بن أبي سليمان: ٣ / ٤١٦، ونقل معناه مطولا عن ابن عون، وهو قول الكلبي وابن جريج كما في البحر المحيط: ٧ / ١٥٣ والمحرر الوجيز: ١٢ / ٢٢٦. ورد ابن عطية هذا القول فقال: وهذه عجمة، وأين هذا مما رواه أنس بن مالك (كما في التعليق السابق).
(٣) أخرجه الطبري عن ابن عمر: ٢٠ / ١٥٤، ورجح القول الأول: أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإن قال قائل: وكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر إن لم يكن معنيا بها ما يتلى فيها؟.
قيل: تنهى من كان فيها، فتحول بينه وبين إتيان الفواحش، لأن شغله بها يقطعه عن الشغل بالمنكر، ولذلك قال ابن مسعود: من لم يطع صلاته لم يزدد من الله إلا بعدا، وذلك أن طاعته لها: إقامته إياها بحدودها، وفي طاعته لها مزدجر عن الفحشاء والمنكر.
(٤) رواه البزار من طريق زياد البكائي، وأبو يعلى من طريق أبي إسحاق الفزاري، كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر. قال البزار: اختلف فيه على الأعمش، فقيل: عنه أيضا عن أبي سفيان عن جابر. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. انظر: الكافي الشاف ص (١٢٨)، مجمع الزوائد: ٢ / ٢٥٨، الفتح السماوي ٢ / ٨٩٧-٨٩٨.
(٥) أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة: ٢ / ٤٤٧ بلفظ "... سينهاه ما يقول"، والبزار، وإسحاق، وأبو يعلى كلهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال الهيثمي: رجال الصحيح. انظر: الكافي الشاف ص (١٢٨)، المجمع ٢ / ٢٥٨، الفتح السماوي: ٢ / ٨٩٧.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ، الْعِبَادِ أَفْضَلُ، دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِنَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ أَوْ يَخْتَضِبَ دَمًا، لَكَانَ الذَّاكِرُ اللَّهَ كَثِيرًا أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً" (٢). وَرُوِّينَا أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ" (٣).
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيُّ، أَخْبَرَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ الْعَيْشِيُّ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، يَعْنِي: (ابْنَ زُرَيْعٍ)، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ،
(٢) أخرجه الترمذي في الدعوات: ٩ / ٣١٥-٣١٦، وقال: "هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث دراج"، والإمام أحمد: ٣ / ٧٥، والمصنف في شرح السنة: ٥ / ١٧ وأشار المنذري في الترغيب إلى تضعيفه وقال: ورواه البيهقي مختصرا: ٢ / ٣٩٦، وفيه ابن لهيعة وقد اختلط، ودراج في حديثه عن أبي الهيثم ضعف.
(٣) أخرجه الترمذي عن عبد الله بن بسر في الدعوات، باب ما جاء في فضل الذكر: ٩ / ٣١٤-٣١٥ وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم في المستدرك: ١ / ٤٩٥ ووافقه الذهبي، وابن حبان ص (٥٧٦) من موارد الظمآن، والإمام أحمد في المسند: ٤ / ١٨٨، ١٩٠، وأبو نعيم في الحلية: ٦ / ١١١، والمصنف في شرح السنة: ٥ / ١٦ وإسناده صحيح.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ الصَّلْتِ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعَتُ الْأَغَرَّ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ" (٢). وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ" أَيْ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَفْضَلُ مِنْ ذَكْرِكُمْ إِيَّاهُ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (٣)، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (٤)، وَيُرْوَى ذَلِكَ مَرْفُوعًا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٥). وَقَالَ عَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ"، قَالَ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ تَبْقَى مَعَهُ مَعْصِيَةٌ. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ.
(٢) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على قراءة القرآن، برقم (٢٧٠٠) : ٤ / ٢٠٧٤، والمصنف في شرح السنة: ٥ / ١٠-١١.
(٣) عزاه السيوطي: (٦ / ٤٦٦) للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم -وصححه- والبيهقي في "شعب الإيمان". وهو أيضا قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم ورجح ابن عطية (١٢ / ٢٢٧-٢٢٨) أن المعنى: ولذكر الله أكبر، على الإطلاق، أي: هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر. فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يبفعل في غير الصلاة، لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذكر مراقب...
(٤) انظر: الدر المنثور: ٦ / ٤٦٧.
(٥) عزاه السيوطي لابن السني، وابن مردويه، والديلمي ٦ / ٤٦٦، وما عزاه للديلمي مشعر بالضعف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ لَا تُخَاصِمُوهُمْ، ﴿إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أَيْ: بِالْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ بِآيَاتِهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى حُجَجِهِ وَأَرَادَ مَنْ قَبِلَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ أَيْ: أَبَوْا أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وَنَصَبُوا الْحَرْبَ، فَجَادِلُوهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ،
﴿وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ" (٢). أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا العذافري، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ أَبَاهُ أَبَا نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ وَمُرَّ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ"، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّهَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تَصْدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ" (٣).
(٢) أخرجه البخاري في التوحيد، باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها: ١٣ / ٥١٦، والمصنف في شرح السنة: ١ / ٢٦٨. وانظر: الدر المنثور: ٦ / ٤٦٩.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: ١١ / ١١٠، وأبو داود في العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب: ٥ / ٢٤٥، وصححه ابن حبان ص (٥٨) من موارد الظمآن، وأخرجه الطبراني في الكبير: ٢٢ / ٣٤٩-٣٥١، والبيهقي في السنن: ٢ / ١٠، والإمام أحمد في المسند: ٤ / ١٣٦، وأخرجه ابن سعد، وابن أبي شيبة، وإسحاق.
وأصله في البخاري مختصرا من حديث أبي هريرة (التعليق السابق) وانظر: الكافي الشاف ص (١٢٨)، الفتح السماوي: ٢ / ٨٩٨-٨٩٩، الدر المنثور: ٦ / ٤٦٩. هذا، وللإمام الحافظ ابن كثير كلمات بشأن الإسرائليات والحديث عن أهل الكتاب منثورة في تفسيره، وقد جمعها الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمة مختصره "عمدة التفسير": (١ / ١٤-١٩) ينبغي مراجعتها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أَيْ: كَمَا أَنْزَلْنَا إِلَيْهِمُ الْكُتُبَ، ﴿أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ يَعْنِي: مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَأَصْحَابَهُ، ﴿وَمِنْ هَؤُلَاءِ﴾ يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ وَهُمْ مُؤْمِنُوا أَهْلِ مَكَّةَ ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ﴾ ٦٨/ب، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ عَرَفُوا أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، فَجَحَدُوا. قَالَ قَتَادَةُ: الْجُحُودُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ.
﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ﴾ قبل ما أنزل إِلَيْكَ الْكِتَابَ، ﴿وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ وَلَا تَكْتُبُهُ، أَيْ: لَمْ تَكُنْ تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ قَبْلَ الْوَحْيِ، ﴿إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ يَعْنِي لَوْ كُنْتَ تَكْتُبُ أَوْ تَقْرَأُ الْكُتُبَ قَبْلَ الْوَحْيِ لَشَكَّ الْمُبْطِلُونَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَقْرَؤُهُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَيَنْسَخُهُ مِنْهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "الْمُبْطِلُونَ" هُمُ الْيَهُودُ، وَمَعْنَاهُ: إِذًا لَشَكُّوا فِيكَ وَاتَّهَمُوكَ، وَقَالُوا إِنَّ الَّذِي نَجِدُ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى ذَلِكَ النَّعْتِ (١).
ومن زعم من متأخري الفقهاء -كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه- أنه عليه الصلاة والسلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله... فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: ثم أخذ فكتب. وهذه محمولة على الرواية الأخرى: ثم أمر فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي وتبرءوا منه.. وإنما أراد الرجل -أعني الباجي- فيما يظهر عنه: أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخبارا عن الدجال: "مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية: "ك ف ر، يقرؤها كل مؤمن". وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له. وانظر أيضا: "الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر" تأليف أحمد بن حجر آل بن علي. وراجع فيما سبق: ٣ / ٢٨٨، المحرر الوجيز لابن عطية: ١٢ / ٢٣١.
﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الْقُرْآنَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، ﴿فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ حَمَلُوا الْقُرْآنَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَتَادَةُ: بَلْ هُوَ -يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-ذُو آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ فِي كُتُبِهِمْ (١)، ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾
﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ كَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: "آيَةٌ" عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ" لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ الْقَادِرِ عَلَى إِرْسَالِهَا إِذَا شَاءَ أَرْسَلَهَا، ﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أُنْذِرُ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ بِالنَّارِ، وَلَيْسَ إِنْزَالُ الْآيَاتِ بِيَدِي.
﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ﴾ هَذَا الْجَوَابُ لِقَوْلِهِ: "لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ" قَالَ: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [يَعْنِي: أَوَلَمَ يَكْفِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ] (٢)، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، ﴿لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ: تَذْكِيرًا وَعِظَةً لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ بِهِ.
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا﴾ أَنِّي رَسُولُهُ وَهَذَا الْقُرْآنُ كِتَابُهُ، ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ، ﴿وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
لأن قوله تعالى: "بل هو آيات بينات... " بين خبرين من إخبار الله عن رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو بأن يكون خبرا عنه أولى من أن يكون خبرا عن الكتاب الذي قد انقضى الخبر عنه قبل.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "أ".
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ قَالَ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ (١) ﴿وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا وَعَدْتُكَ أَنِّي لَا أُعَذِّبُ قَوْمَكَ وَلَا أَسْتَأْصِلُهُمْ وَأُؤَخِّرُ عَذَابَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: "بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ" (الْقَمَرِ-٤٦)، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُدَّةُ أَعْمَارِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا صَارُوا إِلَى الْعَذَابِ، وَقِيلَ: يَوْمَ بَدْرٍ، ﴿لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ﴾ يَعْنِي: الْعَذَابَ وَقِيلَ الْأَجَلُ، ﴿بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بِإِتْيَانِهِ.
﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ أَعَادَهُ تَأْكِيدًا، ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ جَامِعَةٌ لَهُمْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ منهم إلا بدخلها.
﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ يَعْنِي: إِذَا غَشِيَهُمُ الْعَذَابُ أَحَاطَتْ بِهِمْ جَهَنَّمُ، كَمَا قَالَ: "لهم من جنهم مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ" (الْأَعْرَافِ-٤١)، ﴿وَيَقُولُ ذُوقُوا﴾ قَرَأَ نَافِعٌ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: "وَيَقُولُ" بِالْيَاءِ، أَيْ: وَيَقُولُ لَهُمُ الْمُوَكَّلُ بِعَذَابِهِمْ: ذُوقُوا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِأَمْرِهِ نُسِبَ إِلَيْهِ، ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: جَزَاءَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي ضُعَفَاءِ مُسْلِمِي مَكَّةَ، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ فِي ضِيقٍ بِمَكَّةَ مِنْ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ فَاخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ، إِنَّ أَرْضِيَ -يَعْنِي الْمَدِينَةَ-وَاسِعَةٌ آمِنَةٌ (٢). قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ أَرْضِيَ الْمَدِينَةَ وَاسِعَةٌ فَهَاجِرُوا وَجَاهِدُوا فِيهَا (٣). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا عُمِلَ فِي أَرْضٍ بِالْمَعَاصِي فَاخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّ أَرْضِيَ وَاسِعَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا أُمِرْتُمْ بِالْمَعَاصِي فَاهْرُبُوا فَإِنَّ أَرْضِيَ وَاسِعَةٌ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يُعْمَلُ فِيهَا
(٢) انظر: البحر المحيط: ٧ / ١٥٧، القرطبي: ١٣ / ٣٥٧، زاد المسير: ٦ / ٢٨١.
(٣) أخرجه الطبري: ٢١ / ٩.
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) ﴾
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ خَوَّفَهُمْ بِالْمَوْتِ لِيُهَوِّنَ عَلَيْهِمُ الْهِجْرَةَ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مَيِّتٌ أَيْنَمَا كَانَ فَلَا تُقِيمُوا بِدَارِ الشِّرْكِ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ، ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ فَنَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: "يُرْجَعُونَ بِالْيَاءِ".
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالثَّاءِ سَاكِنَةً مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، يُقَالُ: ثَوَى الرَّجُلُ إِذَا أَقَامَ، وَأَثْوَيْتُهُ: إِذَا أَنْزَلْتُهُ مَنْزِلًا يُقِيمُ فِيهِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا، أَيْ: لَنُنْزِلَنَّهُمْ، ﴿مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا﴾ عَلَالِيَ، ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾
﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ عَلَى الشَّدَائِدِ وَلَمْ يَتْرُكُوا دِينَهُمْ لِشِدَّةٍ لَحِقَتْهُمْ، ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ يَعْتَمِدُونَ.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ وَقَدْ آذَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ: "هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ"، فَقَالُوا: كَيْفَ نَخْرُجُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ لَنَا بِهَا دَارٌ وَلَا مَالٌ، فَمَنْ يُطْعِمُنَا بِهَا وَيَسْقِينَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ﴾ (٣) ذَاتِ حَاجَةٍ إِلَى غِذَاءٍ، ﴿لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ أَيْ: لَا تَرْفَعُ رِزْقَهَا مَعَهَا وَلَا تَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ مِثْلَ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ، ﴿اللَّهُ، يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾
(٢) أخرجه الطبري عنه: ٢١ / ١٠، ورجح القول الأول، لدلالة قوله تعالى: "فإياي فاعبدون" على ذلك، وأن ذلك هو أظهر معنييه، وذلك أن الأرض إذا وصفها بسعة، فالغالب من وصفه إياها بذلك أنها لا تضيق جميعها على من ضاق عليه منها موضع، لا أنه وصفها بكثرة الخير والخصيب.
(٣) ذكره ابن الجوزي عن ابن عباس دون سند: ٦ / ٢٨٢، والقرطبي: ١٣ / ٣٦٠، وفيه الحديث الضعيف الآتي.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّقَّاقُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زُرَارَةَ الرَّقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَطُوفِ الْجَرَّاحُ بْنُ مِنْهَالٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بن أبي ٦٩/أرَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٢) يَلْقُطُ الرُّطَبَ بِيَدِهِ وَيَأْكُلُ، فَقَالَ: كُلْ يَا ابْنَ عُمَرَ، قُلْتُ: لَا أَشْتَهِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَكِنِّي أَشْتَهِيهِ، وَهَذِهِ صُبْحٌ رَابِعَةٌ مُنْذُ لَمْ أُطْعَمْ طَعَامًا وَلَمْ أَجِدْهُ، فَقُلْتُ إِنَّا لِلَّهِ، اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ لَوْ سَأَلْتُ رُبِّيَ لَأَعْطَانِي مِثْلَ مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَلَكِنْ أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا فَكَيْفَ بِكَ يَا ابْنَ عُمَرَ إِذَا عَمَّرْتَ وَبَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَةٍ وَيَضْعُفُ الْيَقِينُ، فَنَزَلَتْ (٣) ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ (٤).
(٢) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٣) عزاه السيوطي: (٦ / ٤٧٥) لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر بسند ضعيف. وأخرجه الواحدي في أسباب النزول ص (٣٩٦-٣٩٧). قال الحافظ ابن كثير: (٣ / ٤٢١) :"هذا حديث غريب، وأبو العطوف الجزري ضعيف". وقال القرطبي: (١٣ / ٣٦٠) :"وهذا ضعيف، يضعفه أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخر لأهله قوت سنتهم، (اتفق البخاري ومسلم عليه) وكانت الصحابة يفعلون ذلك، وهم القدوة وأهل اليقين والأئمة لمن بعدهم من المتقين المتوكلين". وقال الشوكاني في "فتح القدير" (٤ / ٢١٣) :"وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة. وفي إسناده أبو العطوف الجزري وهو ضعيف".
(٤) أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في معيشة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهله: ٧ / ٢٦، وقال: "هذا حديث غريب. وقد روى هذا غير جعفر بن سليمان عن ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلا"، وصححه ابن حبان برقم (٢١٣٩) ص (٥٢٥) من موارد الظمآن. والمصنف في شرح السنة: ١٣ / ٢٥٣، وقال المناوي في "فيض القدير" (٥ / ١٨٣) : وسند الحديث جيد. ولا ينافي هذا الحديث ما سبق من أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدخر لعياله قوت سنة، فهو كان لا يدخر لنفسه صلى الله عليه وإنما كان يدخر لغيره كأهله، أو يملكهم ذلك ويقسمه لهم أسوة بغيرهم فيما كان يقسم للمسلمين مما أفاء الله عليه. والله أعلم.
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (٣).
﴿اللَّهُ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (٤).
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ، ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ وَقِيلَ: قُلِ الْحَمْدُ لله على
(٢) أخرجه الحاكم: ٢ / ٤، والمصنف في شرح السنة: ١٤ / ٣٠٣-٣٠٤، وعزاه في المشكاة: (٣ / ١٤٥٨) للبيهقي في شعب الإيمان وله شواهد من حديث جابر والمطلب ساقها المصنف في شرح السنة والحاكم في المستدرك، فيتقوى الحديث بها.
(٣) أي: فأنى يصرفون عمن صنع ذلك، فيعدلون عن إخلاص العبادة له. الطبري: ٢١ / ١١.
(٤) يقول تعالى ذكره: الله يوسع من رزقه لمن يشاء من خلقه، ويضيق فيقتر لمن يشاء منهم، يقول: فأرزاقكم وقسمتها بينكم ايها الناس بيدي دون كل أحد سواي، أبسط لمن شئت منها، وأقتر على من شئت... (إن الله بكل شيء عليم) يقول: إن الله عليم بمصالحكم، ومنهم لا يصلح له إلا البسط في الرزق، ومن لا يصلح له إلا التقتير عليه، وهو عالم بذلك. الطبري: ٢١ / ١٢.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ اللَّهْوُ هُوَ: الِاسْتِمْتَاعُ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا، وَاللَّعِبُ: الْعَبَثُ، سُمِّيَتْ بِهِمَا لِأَنَّهَا فَانِيَةٌ. ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ أَيْ: الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ الْبَاقِيَةُ، وَ"الْحَيَوَانُ": بِمَعْنَى الْحَيَاةِ، أَيْ: فِيهَا الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ، ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ فَنَاءَ الدُّنْيَا وَبَقَاءَ الْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ﴾ وَخَافُوا الْغَرَقَ، ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ وَتَرَكُوا الْأَصْنَامَ، ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ عِنَادِهِمْ وَأَنَّهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ يُقِرُّونَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى كَشْفِهَا هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ، فَإِذَا زَالَتْ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رَكِبُوا الْبَحْرَ حَمَلُوا مَعَهُمُ الْأَصْنَامَ فَإِذَا اشْتَدَّتْ بِهِمُ الرِّيحُ أَلْقَوْهَا فِي الْبَحْرِ وَقَالُوا يَا رب يَا رب.
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ هَذَا لَامُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، كَقَوْلِهِ: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ" (فُصِّلَتْ-٤٠)، أَيْ: لِيَجْحَدُوا نِعْمَةَ اللَّهِ فِي إِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ، ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: سَاكِنَةَ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: "لِيَكْفُرُوا"، ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ وَقِيلَ: مَنْ كَسَرَ اللَّامَ جَعَلَهَا لَامَ كَيْ وَكَذَلِكَ فِي لِيَكْفُرُوا، وَالْمَعْنَى لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ إِلَّا الْكُفْرُ وَالتَّمَتُّعُ بِمَا يَتَمَتَّعُونَ به في العالجة مِنْ غَيْرِ نَصِيبٍ فِي الْآخِرَةِ.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ يَعْنِي الْعَرَبَ، يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَهْلُ مَكَّةَ آمِنُونَ، ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ﴾ بِالْأَصْنَامِ وَالشَّيْطَانِ، ﴿يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ بِمُحَمَّدٍ وَالْإِسْلَامِ، ﴿يَكْفُرُونَ﴾
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فَزَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالْفَوَاحِشِ، ﴿أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ﴾ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، ﴿لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، مَعْنَاهُ: أَمَا لِهَذَا الْكَافِرِ الْمُكَذِّبِ مَأْوًى فِي جَهَنَّمَ.
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ الَّذِينَ جَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ لِنُصْرَةِ دِينِنَا، ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ لَنُثَبِّتَنَّهُمْ عَلَى مَا قَاتَلُوا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَنَزِيدَنَّهُمْ هُدَىً كَمَا قَالَ: "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى" (مريم-٧٦)، وقيل: لنوقفنهم لِإِصَابَةِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَالطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمَةُ هِيَ الَّتِي يُوصَلُ بِهَا إِلَى رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فَانْظُرُوا مَا عَلَيْهِ أَهْلُ (١) الثُّغُورِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ وَقِيلَ: الْمُجَاهَدَةُ هِيَ الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ مُخَالَفَةُ الْهَوَى. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ الْعَمَلِ بِهِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِي إِقَامَةِ السُّنَّةِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ الْجَنَّةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِي طَاعَتِنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ ثَوَابِنَا. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ فِي دُنْيَاهُمْ وَبِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ فِي عُقْبَاهُمْ.