تفسير سورة الأحقاف

تفسير آيات الأحكام للسايس
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس .
لمؤلفه محمد علي السايس .

من سورة الأحقاف
قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
قدمنا لك في سورة لقمان [١٤] ما فيه كفاية في تفسير الآية الأولى وفي بيان ما تشتمل من أحكام، وخلاف العلماء في مدة الرضاع، ومستندهم الذي يستندون إليه في تدعيم آرائهم، ونحن من أجل ذلك لا نعيده، وإن احتجت إلى شيء منه فارجع إليه هناك، وإنما نذكر هنا ما لم يرد له ذكر هناك.
الكره: بفتح الكاف وضمها المشقة كالضّعف والضّعف بالفتح والضم. ومن ظريف ما يقولون في بيان المفردات هنا: أنّ المشقة تكون بعد الحمل بقليل لا وقت الحمل، بل حين يثقل الولد في بطنها، وكأنّهم ظنّوا أنّ القرآن يحدّد وقت المشقة.
وهذا الموضع لبيان المتاعب التي تتجشمها الأمّ أثناء الحمل، حتى يكون ذلك مرقّقا للولد على أمه، فالمدار أن يكون تعب في أثناء الحمل. وقد يسبق الكره ثقل الولد، بل هو الواقع الكثير، فإنّ الوالدات يتحمّلن كثيرا من المتاعب في أيام الوحم، فيمتنعن من الطعام ومن الشراب، ويعفن كل شيء.
وقوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً غاية لمحذوف، تقديره فعاش أو طالت حياته، حتى إذا بلغ أشده.
والأشد: القوة، وبلوغه استحكامه، وذلك يكون بكماله في القوة المادية والعقلية. وبلوغ الأربعين سنة قيل: هو وقت بلوغ الأشد، وذلك هو الوقت الذي يكتمل فيه الخلق، وتقوى متانته، ولذلك قيل: إنّه لم ينبأ نبيّ قبل الأربعين، وإن كان بعض العلماء على خلافه، مستدلا بما ورد في شأن عيسى ويحيى من مثل: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) [مريم: ٣٠]. ومن مثل: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: ١٢].
686
ويرى ابن العربي أنّه يجوز بعث الصبي، ولكنه لم يقع، وتأوّل الأدلة على أنّها إخبار عمّا سيكون، لا عمّا وقع بالفعل، قال: ومثله كثير في القرآن.
على أنّه لا مانع من أن تبقى الآيات على ظاهرها، ويكون ذلك على خلاف الغالب في الأنبياء.
قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ.
أوزعه بالشيء: أغراه به، فأوزع فهو موزع، أي مغرى إذا أغراه غيره، والمراد هنا حمله على سلوك سبيل الشكر والتوفيق إلى السير فيه.
والمراد بالنعمة التي أنعم الله بها عليه وعلى والديه، قيل: نعمة الدين، وقيل:
كلّ ما في الإنسان من نعمة وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ [النمل: ١٩] معطوف على أَنْ أَشْكُرَ والعمل الصالح المرضي ما يكون سالما من غوائل عدم القبول وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اجعل الصلاح يسير فيها، ويمشي خلالها، ويتفشّى فيها، ويرسخ، حتى يكون لها خلقا وطبعا. وأصلح: أصله يتعدى بنفسه، وإنما عدّي بالحرب (في) لإفادة الرسوخ والسريان إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ من جميع الذنوب والآثام وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنفسهم إليك، المنقادين لك، الخاضعين لربوبيتك.
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا. هذا إشارة إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ وجمعه باعتبار أفراده الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف المذكورة، من معرفة حقوق الوالدين، والرجوع إلى الله بسؤال التوفيق للشكر، إلى آخر ما في الآية، وهو إيذان بأنّ هذه الأوصاف هي صفات الإنسانية الكاملة، من اتصف بها فهو الإنسان، وأصحابها هم الذين يكرمهم الله، فيتقبل عنهم ما قدموا من صالح العمل وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فيعفو عنها، إذ هي تتلاشى بجانب الحسنات إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: ١١٤] وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ الذي وعدهم الله به في كتبه وعلى لسان أنبيائه، والله منجز ما وعد.
687
Icon