تفسير سورة المائدة

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢) }
شرح الكلمات:
﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ : العقود: هي العهود التي بين العبد والرب تعالى وبين العبد وأخيه والوفاء بها: عدم نكثها والإخلال بمقتضاها.
﴿بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ١﴾ : هي الإبل والبقر والغنم.
﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ : أي: محرمون بحج أو عمرة.
﴿شَعَائِرَ اللهِ﴾ : جمع شعيرة، وهي هنا مناسك الحج والعمرة وسائر أعلام دين الله تعالى.
﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ : رجب وهو شهر مضر الذي كانت تعظمه.
﴿الْهَدْيَ﴾ : ما يُهدى للبيت والحرم من بهيمة الأنعام.
﴿الْقَلائِدَ﴾ : جمع قلادة ما يقلد الهدي، وما يتقلده الرجل من لحاء شجر الحرم ليأمن.
﴿آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ : قاصديه يطلبون ربح تجارة أو رضوان الله تعالى.
﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ٢﴾ : أي: من إحرامكم.
﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ : أي: لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا عليهم.
﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ : أي: لأجل أن صدوكم.
﴿الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ : البر: كل طاعة لله ورسوله. والتقوى: فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى عنه الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
١ سميت البهيمة: بهيمة؛ لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، ومنه باب مبهم، أي: مغلق، وليل بهيم: لا يميز ما فيه من الظلام. وقولهم في الشجاع من الرجال: بهمة؛ لأنه لا يدري من أين يؤتى.
٢ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ الإجماع على أن الأمر هنا للإباحة وليس للوجوب، وهذه قاعدة أصولية كل أمر بعد حظر، فهو للإباحة.
586
﴿الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ : الإثم: سائر الذنوب، والعدوان: الظلم وتجاوز الحدود.
﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ : أي: عقابه شديد لا يطاق ولا يحتمل.
معنى الآيتين:
ينادي الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: يا من آمنتم بي وبرسولي ووعدي ووعيدي ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ١﴾ فلا تحلوها وبالعهود فلا تنكثوها، فلا تتركوا واجباً ولا ترتكبوا منهياً، ولا تحرموا حلالاً ولا تحلو حراماً أحللت لكم بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم إلا ما يتلى عليكم وهي الآتية في آية: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ٢... ﴾ فلا تحرموها وحرمت عليكم الصيد وأنتم حرم٣ فلا تحلوه. وسلموا الأمر لي فلا تتنازعوا فيما أحل وأحرم فإني أحكم ما أريد. هذا ما تضمنته الآية الأولى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ٤﴾.
أما الآية الثانية فقد تضمنت أحكاماً بعضها نُسخ العمل به وبعضها محكم يعمل به إلى يوم الدين، فمن المحكم والواجب العمل به تحريم شعائر الله، وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب، ونهى وحرم. فلا تستحل بترك واجب، ولا بفعل محرم، ومن ذلك مناسك الحج والعمرة. ومن المنسوخ الشهر الحرام فإن القتال كان محرماً في الأشهر الحرم ثم نسخ بقول الله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ الآية، ومن المنسوخ أيضاً: هدي المشركين وقلائدهم والمشركون أنفسهم فلا يسمح لهم بدخول الحرم ولا يقبل منهم هدي، ولا يجيرهم من القتل تقليد أنفسهم بلحاء شجر الحرم ولو تقلدوا شجر الحرم كله. هذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ٥ وَلا الْقَلائِدَ٦ وَلا آمِّينَ
١ قال الحسن: يعني عقود الدين، وهو ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة كراء، ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير، وكذلك ما عاهد عليه الله تعالى من نذر وسائر التكاليف الشرعية وما خرج من عقد على شريعة الله رد وحل، ولا وفاء فيه.
٢ وما حرم بالسنة، وهو كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطيور لثبوت ذلك في الصحاح.
٣ أما إذا حلوا من إحرامهم فالصيد حلال، كما هو في غير الإحرام إلا ما كان من صيد الحرم فإنه حرام في الإحرام والإحلال.
٤ هذه الجملة تقتضي تسليم الأمر لله، فلا اعتراض عليه فيما يحل ويحرم وهو كذلك.
٥ الهدي: ما يهدى إلى الحرم، ومن خصائصه: أنه يشعر وذلك يجرح سنامه من الجهة اليمنى حتى يسيل الدم، وبذلك يعلم أنه هدي، وقال: بالإشعار كافة الفقهاء إلا أبا حنيفة، ولاموه وعنفوا عليه لتركه السنة الصحيحة في الإشعار.
٦ يحرم بيع الهدي إذا أشعر وقلت لأنه أصبح كالوقف لله تعالى، ومعنى التقليد: أن يوضع في عنقه قلادة يعلم بها أنه هدي، وهذا يكون في الغنم لأنها لا تشعر.
587
الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً}. والمراد بالفضل: الرزق بالتجارة في الحج، والمراد بالرضوان: ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضى الله ليبارك لهم في أرزاقهم ويحفظهم في حياتهم.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ خطاب للمؤمنين أذن لهم في الاصطياد الذي كان محرماً وهم محرمون إذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم. وقوله تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ ينهي عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدورهم يوم الحديبية عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن الله تعالى لهم فيه، وهو قتالهم إن قاتلوا وتركهم إن تركوا. ثم أمرهم تعالى بالتعاون على البر والتقوى، أي: على أداء الواجبات والفضائل، وترك المحرمات والرذائل، ونهاهم عن التعاون عن ضدها، فقال عز وجل: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ١ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ٢ وَالْعُدْوَانِ﴾. ولما كانت التقوى تعم الدين كله فعلاً وتركاً أمرهم بها، فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ بالإيمان به ورسوله وبطاعتهما في الفعل والترك، وحذرهم من إهمال أمره بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فاحذروه بلزوم التقوى.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- وجوب الوفاء بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد والمحافظة على العقود التي بين العبد وأخيه العبد لشمول الآية ذلك.
٢- إباحة أكل لحوم الإبل والبقر والغنم إلا الميتة منها.
٣- تحريم الصيد في حال الإحرام وحليته بعد التحلل من الإحرام وهو صيد البر لا البحر٣.
٤- وجوب احترام شعائر الدين كلها أداء لما وجب أداؤه، وتركاً لما وجب تركه.
٥- حرمة الاعتداء مطلقاً على الكافر.
٦- وجوب التعاون بين المؤمنين على إقامة الدين، ورحمة تعاونهم على المساس به.
١ في البر، وهو فعل الخير رضا الناس وفي التقوى رضا الله، ومن جمع بين رضا الناس ورضا الله فقد جمع الخير كله وتمت سعادته في دنياه وآخرته.
٢ أي: ولا تعانوا على فعل الإثم من سائر كبائر الذنوب والفواحش ولا على الظلم والاعتداء إذ كلاهما مما حرم الله تعالى.
٣ لأن صيد البحر حلال في الإحرام وغيره لقوله تعالى: ﴿وَأُحِلّ لَكمْ صَيْد البَحْر ما دُمْتم حُرما﴾ الآية من آخر هذه السورة.
588
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الْمَيْتَةُ﴾ : ما مات من بهيمة الأنعام حتف أنفه، أي: بدون تذكية١.
﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ : أي: ما ذكر عليه اسم غير اسم الله تعالى، مثل المسيح، أو الولي، أو صنم.
﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ : أي: بحبل ونحوه فماتت.
﴿وَالْمَوْقُوذَةُ٢﴾ : أي: المضروبة بعصا أو حجر فماتت به.
﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ : الساقطة من عال إلى أسفل، مثل: السطح والجدار والجبل فماتت.
﴿وَالنَّطِيحَةُ٣﴾ : ما ماتت بسبب نطح أختها لها بقرونها أو رأسها.
﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ : أي: ما أكلها الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة.
﴿إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ٤﴾ : أي: أدركتم فيه الروح مستقرة فذكيتموه٥ بذبحه أو نحره.
﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ : أي: ما ذبح على الأصنام المنصوبة التي تمثل إلهاً أو زعيماً أو عظيماً، ومثلها ما ذبح على أضرحة الأولياء وقبورهم وعلى الجان.
١ ومن غيرها من مأكول اللحم؛ كالضباء، والأرانب، وأنواع الصيد باستثناء ما ذكر عليه اسم الله حال صيده، فإن ما مات منه يؤكل ولو لم يزك، ولا يقال فيه ميتة.
٢ يقال: وقذة، يقذة، وقذًا؛ إذا ضربه بحجر ونحوها، والوكذ: شدة الضرب.
٣ فهي فعيلة بمعنى: مفعولة، فالنطيحة: هي المنطوحة.
٤ ما ذبح من قفاه لا يؤكل إجماعًا، واختلف فيما إذا رفع المذكي يده قبل إنهاء الذكاة ثم ردها فورًا، الصحيح أنها تؤكل ولا خلاف في جواز أكل البعير إذا ند أو وقع في بئر فإنه كيفما ذُكي جاز أكله للحديث الصحيح.
٥ الاستثناء متصل، وهو راجع على كل ما أدرك زكاته من المذكورات وفيه حياة ولا الالتفات إلى الخلاف في هذه المسألة.
589
﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا﴾ : أي: وحرم عليكم ما تحصلون عليه بالاستقسام بالأزلام ومثله ما يأخذه صاحب الكهانة والشواقة وقرعة الأنبياء، والحروز الباطلة التي فيها طلاسم وأسماء الجن والعفاريت.
﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ : أي: ما ذكر من أكل الميتة إلى الاستقسام بالإزلام خروج عن طاعة الله تعالى ومعصية له سبحانه وتعالى.
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ : أي: من ألجأته ضرورة الجوع فخاف على نفسه الموت فلا بأس أن يأكل مما ذكر.
﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾ : المخمصة: شدة الجوع حتى يضمر البطن لقلة الغذاء به.
﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ﴾ : غير مائل لإثم يريد غير راغب في المعصية بأكل ما أكل من الميتة، وذلك بأن يأكل أكثر مما يسد به رمقه ويدفع به غائلة الجوع المهلك.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية الكريمة هي تفسير وتفصيل لقوله تعالى في الآية الأولى من هذه السورة، وهو قوله: ﴿إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ حيث ذكر في هذه الآية سائر المحرمات من اللحوم وهي عشر كما يلي:
الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب١.
وقوله تعالى: ﴿إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ٢﴾ يريد ما أدركتم فيه الروح مستقرة. بحيث إذا ذبحتموه اضطرب للذبح وركض برجليه فإن هذا علامة أنه كان حياً وأنه مات بالذبح٣.
وقوله: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ﴾ يريد ولا يحل لكم الاستقسام بالأزلام، ولا أكل ما يعطى عليها وحقيقتها أنهم كانوا في الجاهلية يضعون القداح المعبر عنها بالأزلام جمع زلم وهو رمح صغير لا زج له ولا ريش فيه، يضعونها في خريطة كالكيس، وقد كتب على واحد أمرني
١ ما ذبح على النصب، وما أهل لغير الله به: هما كشيء واحد إلى أن ما أهل لغير الله به غالبًا يكون مذبوحًا لغير الأصنام؛ كالأنبياء والأولياء.
٢ الذكاة في لغة العرب: الذبح كقوله تعالى: ﴿إلا ما ذَكيتم﴾، أي: ذبحتم ما ذكر اسم الله عليها، وفي الحديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، والذكاة: سرعة الفطنة، والتذكية: مأخوذة من التطيب، فذكاها بمعنى: طيبها بالذبح، ومنه رائحة ذكية: أي: طيبة.
٣ والذكاة تقع بكل حاد ينهر الدم، ويفري الأوداج ما عدا العظم والسن، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس السن والظفر"، لأن السن عظم، والظفر مدى الحبشة.
590
ربي، وآخر: نهاني ثم يحيلها المستقسم بها في الخريطة ويخرج زلماً منها فإن وجده مكتوباً عليه: أمرني ربي، مضى في عمله سفراً أو زواجاً، أو بيعاً أو شراء، وإن وجده مكتوباً عليه: نهاني ربي، ترك ما عزم على فعله١ فجاء الإسلام فحرم الاستقسام بالأزلام، وسن الاستخارة وهي: أن يصلي المؤمن ركعتين من غير الفريضة ويقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، ويسمي حاجته. ويفعل أو يترك ما عزم عليه، والذي يأتيه هو الخير بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ يريد ما ذكرت لكم مما حرمت عليكم إتيانه هو الفسق فاتركوه.
وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ يخبر تعالى عباده المؤمنين: أن الكافرين من المشركين وغيرهم قد يئسوا من أن يردوكم عن دينكم كما كان ذلك قبل فتح مكة ودخول ثقيف وهوازن في الإسلام، وظهوركم عليهم في كل معركة دارت بينكم وبينهم إذاً فلا تخشوهم بعد الآن أن يتمكنوا من قهركم وردكم إلى الكفر واخشوني أنا بدلهم، وذلك بطاعتي وطاعة رسولي ولزوم حدودي والأخذ بسنتي في كوني حتى لا تتعرضوا لنقمتي بسلب عطائي فإن نصرتي لأهل طاعتي وإذلالي لأهل معصيتي.
وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً٢﴾ فهو إخبار منه تعالى لعباده المؤمنين بما هو إنعام عليهم منه وامتنان فأولا: إكمال الدين٣ بجميع عقائده وعباداته وأحكامه وآدابه حتى قيل أن هذه الآية نزلت عشية يوم عرفة عام
١ هي ثلاثة أزلام كتب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث: مهمل لم يكتب عليه شيء ويجعلها في خريطته، فإذا خرج أمرني مضى في عمله، وإذا خرج نهاني ترك ما أراد فعله، وإذا خرج المهمل أعاد الضرب في الخريطة، وهناك نوعان من الاستقسام غير ما ذكرنا.
٢ هذه الآية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ... ﴾ نزلت بعرفة يوم الجمعة في حجة الوداع بعد العصر، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناقته: العضباء، كما هو واضح في رواية مسلم في صحيحه.
٣ ووجه إكمال الدين أنه كان قبل الهجرة مقصورًا على الشهادتين، والصلاة ولما هاجر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أخذ التشريع ينزل يومًا بعد يوم حتى كمل وأعلن عنه الرب تعالى في حجة الوداع بقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ... ﴾ إلخ.
591
حجة الوداع، ولم يعش بعدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أحدى وثمانين ليلة ثم توفاه الله تعالى. وثانياً: إتمام نعمته تعالى عليهم فآمنهم بعد الخوف وقواهم بعد ضعف، ونصرهم وأعزهم بعد قهر وذل وسودهم وفتح البلاد لهم وأظهر دينهم، وأبعد الكفر والكفار عنهم، فعلمهم بعد جهل وهداهم بعد ضلال فهذه من النعمة التي أتمها عليهم. وثالثاً: رضاه بالإسلام ديناً لهم حيث بعث رسوله به وأنزل كتابه فيه فين عقائده وشرائعه فأبعدهم عن الأديان الباطلة؛ كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وأغناهم عنها بما رضيه لهم ألا وهو الإسلام القائم على الاستسلام لله تعالى ظاهراً وباطناً، وذلك سلم العروج إلى الكمالات ومرقى كل الفواضل والفضائل والسعادات، فلله الحمد وله المنة.
وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يريد تعالى من اضطر، أي: ألجأته الضرورة وهي شدة الجوع وهي المخمصة١ والمسغبة إلى أكل ما حرمت عليكم من الميتة وأنواعها فأكل فلا إثم عليه فإني غفور لعبادي المؤمنين رحيم بهم إلا أن يكون قد أكل من الميتة وأنواعها متعمداً المعصية مائلاً إليها غير مبال بتحريمي لها، فذاك الذي عصاني وتعرض لنقمتي وعذابي فإن تاب فإني غفور رحيم، وإن أصر فإن عذابي أليم شديد.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- حرمة الميتة وما ذكر معها وهي عشر من المحرمات.
٢- حرمة الاستقسام بالأزلام ومثلها قرعة الأنبياء وخط الرمل والكهانة وما أشبه ذلك.
٣- حرمة الذبح على القبور والقباب والنصب التذكارية وهي من الشرك.
٤- جواز أكل ما أدركه المسلم حياً من الحيوان المأكول فذكاه وإن كان قد جرح أو كسر أو أشرف على الموت بأي سبب مميت٢.
١ المخمصة: لغة الجوع، وخلاء البطن من الطعام. والخمص: ضمور البطن، ومنه الحديث: "إن الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا". وفي الحديث أيضًا: "خماص البطون خفاف الظهور". والخميصة: ثوب، وجمعها: خمائص، ثياب خز وصوف، وفي الحديث: "تعس عبد الخميصة ".
٢ من آداب التذكية: الرفق بالحيوان، إحداد الشفرة، إن يوجهها إلى القبلة، تركها حتى تبرد قبل أن يشرع في سلخها، إحضار نية الإباحة قبل الشروع في الذبح، بأن يقول: بسم الله الله اكبر. والاعتراف بالمنة لله؛ حيث سخر لنا هذا الحيوان، ولو شاء لسلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا. وكل هذه الآداب جاءت في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتل، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح". الذبح.
592
٥- وجوب خشية الله تعالى وحرمة خشية الكفار.
٦- حرمة الابتداع في الدين وحرمة التشريع المنافي للشرع الإسلامي.
٧- جواز أكل الميتة للمضطر، وهو من لحقه ضرر من شدة الجوع فخاف على نفسه الهلاك على شرط أن لا يكون قاصداً المعصية مائلاً إلى الإثم.
﴿يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الطَّيِّبَاتُ﴾ : ما أذن الله تعالى في أكله وأباحه لعباده المؤمنين.
﴿الْجَوَارِحِ﴾ : جمع جارحة بمعنى كاسبة تخرج بمعنى تكسب.
﴿مُكَلِّبِينَ١﴾ : أي: مرسلين الجارحة على الصيد سواء كانت الجارحة كلباً أو طيراً٢.
﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ : ذبائح اليهود والنصارى.
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾ : جمع محصنة وهي العفيفة الحرة من النساء.
١ المكلب: هو معلم الكلاب، ومدربها على الصيد، ويقال للصائد: مكلب، وعليه فقوله: ﴿مُكَلِّبين﴾ يكون بمعنى: صائدين.
٢ يكتفي في الطير بأن تطيع إذا أمرت، إذ هي دون الكلاب في الاستعداد للفهم والاستجابة، ومثلها: سباع الوحوش، فإنها دون الكلاب أيضًا، إلى أن الجمهور يشترط فيها ما يشترط في الكلاب.
593
﴿أُجُورَهُنَّ﴾ : مهورهن وصدقاتهن.
﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ : غير مجاهرين بالزنى.
﴿أَخْدَانٍ﴾ : جمع خدن وهو الخليل والصاحب السري.
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ﴾ : أي: يرتد عن الإيمان، فالباء بمعنى عن إذ يقال: ارتد عن كذا...
﴿حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ : بطل عمله ما قدمه من الصالحات فلا يثاب عليه.
معنى الآيتين:
ورد أن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأذن فأذن له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبى أن يدخل لوجود كلب صغير في البيت فقال: "إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب". فأمر النبي بعدها بقتل الكلاب، فقتلت ثم جاء بعضهم يسأل عما يحل لهم من أمة الكلاب، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿يَسْأَلونَكَ١ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ وهي كل ما لذ وطاب مما أباحه الله تعالى ولم ينه عنه، وأحل لكم كذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب الخاصة بالاصطياد والفهود والنمور والطيور؛ كالصور ونحوها. مكبلين، أي: مرسلين لها على الصيد لتمسكه لكم، ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ﴾. أي: تؤدبون تلك الجوارح بالأدب الذي أدبكم الله تعالى به، وحد الجارحة المؤدبة أنها إذا اشليت، أي: أرسلت على الصيد ذهبت إليه وإذا زُجرت انزجرت، وإذا دعيت أجابت. وقوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم ٢ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ﴾ يفيد شرطين لحلية الصيد زيادة على كون الجارحة معلمة وهما: أولاً: أن يذكر اسم الله عند إرسال الجارحة بأن يقول: بسم الله هاته مثلاً، والثاني٣: أن لا تأكل الجارحة منه فإن أكلت منه فقد أمسكت لنفسها ولم تمسك لمن أرسلها، اللهم إلا إذا أدركت حية لم تمت
١ ذكر القرطبي أن الآية: ﴿يَسْألونك... ﴾ نزلت بسبب عدي بن حاتم، وزيد الخيل الذي سماه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زيد الخير"، إذ قالا يا رسول الله: إنا قوم نصيد بالكلاب والبذاة، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما نقلته فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا؟ فنزلت الآية: ﴿يَسْألونك..﴾ إلخ. ولا منافاة بين ما ذكر في التفسير وبين هذا، إذ يسأل السائل فيقرأ عليه الرسول بالآية فيرى أنها نزلت فيه.
٢ ﴿مما أمْسَكْنّ عَلِيكُم﴾ : على هنا بمعنى اللام، أي: مما أمسكن لكم ولأجلكم؛ كقولهم: سجن على كذا وضرب الصبي على قوله كذا.
٣ ذكر القرطبي الإجماع على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم فيشلي إذا أشلى، ويجيب إذا دُعي، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده، وأثر فيه بجرح أو تنيب وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند ارساله أن صيده صحيح. هذه الشروط داخلة في الشرطين اللذين ذكرتهما الآية، كما في التفسير إلا اشتراط ألا يكون الكلب أسود، وهذا الشرط فيه خلاف.
594
ثم ذكيت فعند ذلك تحل بالتذكية لا بالاصطياد١، وقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَاب﴾ وعيد لمن لم يتق الله في أكل ما حرم أكله من الميتة وأنواعها، ومن صيد صاده غير معلم من الجوارح، أو صاده معلم ولكنه أكل منه فمات قبل التذكية. فلنتق عقوبة الله في ذلك فإن الله سريع الحساب.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٤)، أما الآية الثانية (٥) وهي قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾، أي: في هذا اليوم الذي أكمل الله تعالى لكم فيه الدين أحل لكم ما سألتم عنه وهو سائر الطيبات، وكذا طعام الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى خاصة فطعامهم، أي: ذبائحهم حل لكم، وطعامكم حل لهم، أي: لا بأس أن تطعموهم من طعامكم فإن ذلك جائز لكم ولهم. وأحل لكم أيضاً نكاح المحصنات، أي: العفائف من المؤمنات، والمحصنات من نساء الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهن العفائف من اليهوديات والنصرانيات، على شرط إتيانهن أجورهن، أي: مهورهن حال كونكم محصنين، أي: عاقدين عليهن عقدة النكاح المتوقفة على المهر والولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول، لا مسافحين بإعطاء المرأة أجرة وطئها فقط بدون عقد مستوف لشروطه، ولا متخذي أيضاً بأن تنكوحهن سراً بحكم الصحبة والصداقة والمحبة إذ ذاك هو الزنى فلا يحل بأجرة ولا بغير أجرة، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ٢ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فيه إشارة إلى أن استباحة المحرمات والجرأة على ذلك قد تؤدي إلى الكفر، ومن يكفر بعد إيمانه فقد حبط عمله، أي: بطل ثواب ما عمله في إسلامه، حتى ولو راجع الإسلام فليس له إلا ما عمله بعد رجوعه إلى الإسلام، وإن مات قبل العودة إلى الإسلام فهو قطعاً في الآخرة من الخاسرين وبإلقائهم في نار جهنم خالدين فيها أبداً.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- مشروعية سؤال من لا يعلم عما ينبغي له أن يعلمه.
٢- حلية الصيد إن توفرت شروطه، وهي: أن يكون الجارح معلماً وأن يذكر اسم الله تعالى عند
١ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل" دال على أن الصائد يتعين عليه أن يقصد عند إرسال الكلب والطير التذكية والإباحة إذا الأعمال بالنيات ولكل أمرء ما نوى.
٢ لفظ الإيمان مصدر آمن يؤمن إيمانًا، أطلق وأريد به الإسلام؛ لأن الإسلام والإيمان متلازمان ما أسلم من لم يؤمن، وما آمن من لم يسلم، ومعنى الآية: ﴿وَمَنْ يَرْتَدّ عَنْ الإسلام﴾.
595
إرساله وأن لا يأكل منه الجارح، ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة١ بشرط ذكر اسم الله عند رميه ولو وجد ميتاً فلم يذك.
٣- إباحة طعام وذبائح أهل الكتاب.
٤- إباحة نكاح الكتابيات بشرط أن تكون حرة٢ عفيفة، وأن يعقد عليها العقد الشرعي وهو القائم على الولي والشهود والمهر، والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي ووكيل: زوجني فلانة. فيقول له: قد زوجتكها.
٥- حرمة نكاح المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة.
٦- المعاصي قد تقود إلى الكفر.
٧- المرتد عن الإسلام يحبط عمله فلو راجع الإسلام لا يثاب على ما فعله قبل الردة وإن مات قبل العودة إلى الإسلام خسر نفسه وأهله يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
١ لفظ: حادة، احتراز من غير الحادة؛ كالعصا، وعرض المعراض، والحجر، ونحوها، لحديث: "إذا ضربت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله". إذ المعراض: سهم بلا ريش غليظ الوسط يصيب بحدة وعرضة معًا، فإن أصاب بحدة جاز أكل ما أصابه، وإن أصاب بعرضة فهو كالموقوذة فلا يؤكل.
٢ لأن الأمة الكافرة لا تحل للمؤمن لقول الله تعالى: {مِنْ فَتَياتِكم الْمؤمِنات﴾ أي: لا الكافرات. الآية من سورة النساء.
596
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧) }
شرح الكلمات:
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ: أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون١، أي: على غير وضوء.
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ: أي: بعد غسل الكفين ثلاثاً، والمضمضة والاستنشاق والاستنثار ثلاثاً ثلاثاً لبيان رسول٢ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك.
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ: أي: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين إلا أن يكون عليها خف ساتر فإنه يجوز المسح عليه دون حاجة إلى نزعه وغسل الرجلين، وذلك إن لبسه بعد وضوء ولم يمض على لبسه أكثر من يوم وليلة إن كان مقيماً، أو ثلاثة أيام إن كان مسافراً بهذا جاءت السنة٣.
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً: الجنب: من قامت به جنابة، وهي شيئان: غياب رأس الذكر في الفرج، وخروج المني بلذة في نوم أو يقظة.
فَاطَّهَّرُوا: يعني: فاغتسلوا، والغسل: هو غسل سائر الجسد بالماء.
الْغَائِطِ: كناية عن الخارج من أحد السبيلين من عذرة أو فساء أو ضراط، أو بول أو مذي.
أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ: ملامسة النساء كناية عن الجماع، كما أن من لامس امرأة ليلتذذ بها
١ إن خلافًا طويلاً عريضًا ف تأويل هذه الآية، وهو يدور على هل الوضوء واجب لكل صلاة أو هو مستحب أو واجب على المحدث لا غير، ومستحب لغيره، وهل في الآية تقديم وتأخير؟ والذي عليه جمهور الأمة: أن الوضوء واجب على المحدث لا غير ومستحب لغيره، وأن تأويل الآية هو كان في التفسير، ومما ينبغي الإشارة إليه أن الوضوء والغسل والتيمم كلها كانت مشروعة قبل نزول هذه الآية، إذ ما صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة بغير وضوء، ومشروعية التيمم نزلت في غزوة المريسيع، وكانت سنة خمس أو ست من الهجرة، وعليه فالآية شملت الطهارة بأنواعها مؤكدة لها لتبقى خالدة تتلى في كتاب الله نتعبد بتلاوتها ويعمل بمضمونها علمًا وعملاً، إذ سورة المائدة من آخر ما نزلت من القرآن كما تقدم.
٢ ورد هذا في حديث عثمان في الصحيح، إذ فيه: "ثم تمضمض واستنشق واستنثر".
٣ لحديث مسلم عن علي رضي الله عنه أنه قال: جعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم. يعني في المسح على الخفين.
597
أو لامسها لغير قصد اللذة ووجد اللذة فقد انتقض وضوءه، ومن هذا مس الفرج باليد لأنه مظنة اللذة، لذا قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ".
﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً﴾ : اقصدوا تراباً أو حجراً أو رملاً أو سبخة مما صعد على وجه الأرض.
الحرج: المشقة والعسر والضيق.
﴿وَمِيثَاقَهُ﴾ : أي: ميثاق الله تعالى، وهو عهده المؤكد، والمراد به هنا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إذ بها وجب الالتزام بسائر التكاليف الشرعية.
معنى الآيتين:
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليأمرهم بالطهارة، إذا هم أرادوا الصلاة، وهي مناجاة العبد لربه لحديث المصلى يناجي١. ٢ ربه، وبين لهم الطهارة الصغرى منها وهي الوضوء، والكبرى وهي الغسل، وبين لهم ما ينوب عنها إذا تعذر وجود الماء الذي به الطهارة أو عجزوا عن استعماله، وهو التيمم فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ وحدُ الوجه طولاً من منبت الشعر أعلى الجبهة إلى منتهى الذقن أسفل الوجه وحده عرضاً من وتد الأذن اليمنى إلى وتد الأذن اليسرى ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ فيشمل الغسل الكفين والذراعين إلى بداية العضدين، فيدخل في الغسل المرفقان ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾ واللفظ محتمل للكل والبعض، والسنة بينت أن الماسح يقبل بيديه ويدبر بهما فيمسح جميع رأسه، وهو أكمل وذلك ببلل يكون في كفيه، كما بينت السنة مسح الأذنين ظاهراً وباطناً بعد مسح الرأس ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾، أي: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، وهما العظمان النائتان عند بداية الساق، وبينت السنة رخصة المسح٣ على الخفين بدلاً من غسل الرجلين، كما بينت غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار، وكون
١ نص الحديث: "إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه"، وفي رواية البخاري: " إذا كان أحدكم في الصلاة فإن ربه بينه وبين القبلة".
٢ وكل ما ذكر في التفسير من صفة الوضوء والغسل والتيمم هو ثابت في الصحاح والسنن، وليس فيه ما هو ضعيف قط.
٣ وضلت الرافضة فأخذوا بقراءة: ﴿وأرجلكم﴾ بالكسر ومسحوا أرجلهم في كل وضوء وتركوا غسل الرجلين أبدًا، والحامل لهم على ذلك أن رؤسائهم زينوا لهم ذلك وأوجبوه عليهم لعلة أن يبقوا بعيدين عن الإسلام والمسلمين ليستغلوهم ماديًا، وليعدوهم لقتال المسلمين لإعادة دولة المجوس التي يحلمون بها، وأما أهل السنة والجماعة فإنهم عملوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم فغسلوا أرجلهم؛ لأن نبيهم لم يمسح رجليه بدون خف قط، ومسحوا على الخفين كما مسح نبيهم فأخذوا بالقراءتين معًا.
598
الغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب، وقول بسم الله عند الشروع، أي: البدء في الوضوء. كما بينت السنة وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأول فالأول، ووجوب الفور بحيث لا يفصل بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك وأكدت وجوب النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء١.
وقال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ٢﴾ أي: وإن أصابت أحدكم جنابة وهي الجماع والاحتلام فمن جامع زوجته فأولج ذكره في فرجها ولو لم ينزل، أي: لم يخرج منه المني فقد أجنب، كما أن من احتلم فخرج منه مني فقد أجنب بل كل من خرج منه مني بلذة في نوم أو يقظة فقد أجنب وانقطاع دم حيض المرأة، ودم نفاسها؛ كالجنابة يجب منه الغسل، وقوله: ﴿فَاطَّهَّرُوا﴾ يريد فاغتسلوا وقد بينت السنة كيفية الغسل وهي: أن ينوي المرء رفع الحدث الأكبر بقلبه ويغسل كفيه قائلاً: بسم الله ويغسل فرجه وا حولهما، ثم يتوضأ الوضوء الأصغر المعروف، ثم يخلل أصول شعر رأسه ببلل يديه، ثم يغسل رأسه٣ ثلاث مرات، ثم يقبض الماء على شق جسده الأيمن كله من أعلاه إلى أسفله، ثم الأيسر، ويتعاهد الأماكن التي قد ينبو عنها الماء فلا يمسها؛ كالسرة وتحت الإبطين، والرفقين وهما أصل الفخذين، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ ذكر تعالى في هذه الجملة الكريمة نواقض الوضوء وموجب الانتقال منه إلى التيمم فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾، فالمريض قد يعجز عن الوضوء لضعف جسمه بعدم القدرة على التحرك، وقد تكون به جراحات أو دماميل يتعذر معها استعمال الماء حيث يزداد المرض بمس الماء، وقوله: ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ إذ السفر مظنة عدم وجود الماء هذه موجبات الانتقال من الوضوء إلى التيمم، وقوله عز وجل: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ٤ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾.
١ بعض الفقهاء يعدون النية فرضًا من فروض الوضوء، وبعضهم يعدها شرطًا، وما دام المشروط يتوقف على شرطه صحة وبطلانًا، والفرض إذا ترك بطل الوضوء فإنه خلاف لفظي لا غير.
٢ ﴿فاطهروا﴾ : أصلها فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء لاتحاد مخرجيهما، ومعنى: اطهروا: اغتسلوا، وفي الحديث الصحيح: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور... ".
٣ مع أذنيه ظاهرًا وباطنًا.
٤ أصل الغائط: أنه المكان المنخفض، ولما كان من يريد قضاء حاجته يأتي المكان المنخفض ليستتر عن أعين الناس، أطلق لفظ الغائط على ما يحل فيه من بول وعذرة.
599
ذكر في الجملة الأولى نواقض الوضوء إجمالاً وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي كنى عنه بقوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ وهو مكان التغوط والتبول، وذكر موجب الغسل وهو الجماع، وكنى عنه بالملامسة، تعليماً لعباده المؤمنين الآداب الرفيعة في مخاطباتهم، وقوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ للوضوء أو الغسل بعد أن طلبتموه فلم تجدوه فتيمموا، اقصدوا من أم الشيء إذا قصده صعيداً طيباً يريد ما صعد على وجه الأرض من أجزائها؛ كالتراب والرمل والسبخة والحجارة، وقوله: ﴿طَيِّباً﴾ يريد به طاهراً من النجاسة والقذر، وقوله: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ بين فيه كيفية التيمم، وهي أن يقصد المرء التراب الطاهر وإن تعذر ذلك فما تيسر له من أجزاء الأرض فيضرب بكفيه الأرض فيمسح بهما وجهه وكفيه طاهراً أو باطناً مرة واحدة وقوله تعالى: ﴿مِنْهُ﴾ أي: من ذلك الصعيد، وبهذا بين تعالى كيفية التيمم، وهي التي علمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمار بن ياسر١ رضي الله عنه وقوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها الصغرى وهي الوضوء، والكبرى وهي الغسل، وما ينوب عنهما عند العجز، وهو التيمم، ما يريد بذلك إيقاعنا في الضيق والعنت، ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الأحداث والذنوب، لأن الوضوء كفارة لذنب المتوضئ كما جاء بيانه في السنة٢ وهو قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي: بهدايتكم إلى الإسلام وتعليمكم شرائعه فيعدكم بذلك لشكره وهو طاعته بالعمل بما جاء به الإسلام من الأعمال الباطنة والظاهرة، وهو معنى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦)، أما الآية الأخيرة (٧) وه قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فإنه تعالى يأمر عباده المؤمنين أن يذكروا نعمته عليهم بهدايتهم إلى الإيمان ليشكروه بالإسلام، كما يذكروا ميثاقه الذي واثقهم به، وهو العهد الذي قطعه المؤمن على نفسه لربه تعالى بالتزامه بطاعته وطاعة رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما تعهد أن لا إله إلا الله وأن
١ إذ قال له: "إنما يكفيك أن تقول هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجه" متفق عليه. وورد أنه يضرب الأرض فيمسح وجه ثم يكررها مرة أخرى فيمسح كفيه، وورد عن ابن عمر مسحهما إلى المرفقين.
٢ ورد في فضل الوضوء أحاديث صحيحة كثيرة منها: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه"، ومنها: "ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يرفع طرفه إلى السماء ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية".
600
محمداً رسول الله. وأما قوله: ﴿إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ قد قالها الصحابة بلسان الحال عندما بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وقد قالها كل مسلم بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة. وقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ أمر بالتقوى التي هي لزوم الشريعة والقيام بها عقيدة وعبادة وقضاء وأدباً وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ يذكرهم بعلم الله تعالى بخفايا أمورهم حتى يراقبوه ويخشوه في السر والعلن، وهذا من باب تربية الله تعالى لعباده المؤمنين لإكمالهم وإسعادهم فله الحمد وله المنة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- الأمر بالطهارة١ وبيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل، وكيفية التيمم٢.
٢- بيان الأعذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم.
٣- بيان موجبات الوضوء والغسل.
٤- الشكر هو علة الإنعام.
٥- ذكر العهود يساعد على التزامها والمحافظة عليها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
١ في الحديث الصحيح: "الطهور شطر الإيمان". رواه مسلم.
٢ وكيفية المسح على الخفين هي: أن يبل يده بالماء ثم يمسح ظاهر رجله اليمنى، ثم يمسح ظاهر اليسرى دون باطنها. حديث علي: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه". ويشترط في المسح أن يلبس خفيه على طهارة.
601
الْجَحِيمِ (١٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) }
شرح الكلمات:
﴿قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ : جمع قوام، وهو كثير القيام لله تعالى بحقوقه وما وجب له تعالى، وبحقوق الغير أيضاً لا يفرط في شيء من ذلك.
﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ : جمع شهيد بمعنى: شاهد، والقسط: العدل.
﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ : أي: لا يحملنكم.
﴿شَنَآنُ﴾ : بغض وعداوة.
العدل: خلاف الجور، وهو المساواة بلا حيف ولا جور.
﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ : أي: العدل أقرب للتقوى من الجور.
﴿هَمَّ قَوْمٌ﴾ : أرادوا وعزموا على إنفاذ إرادتهم والقوم هم يهود بني النضير.
﴿يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ : أي: ليقتلوا نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ﴾ : لم يمكنهم مما أرادوه من قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم١، ففي الآية (٨) أمر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا قوامين لله تعالى بسائر حقوقه عليهم من الطاعات، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا يحيفون ولا يجورون في شيء سواه كان المشهد عليه ولياً أو عدواً، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم أو عداوتهم على ترك العدل وقد أمروا به، ثم أمرهم بالعدل وأعلمهم أن أهل العدل هم أقرب الناس إلى التقوى٢، لأن من كانت ملكة العدل
١ لما ذكرهم تعالى في الآيات السابقة بنعمه العظيمة، طلب إليهم في هذه الآية أن يشكروا تلك النعم، وذلك بالوفاء له بالعهد، فقال لهم: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾.
٢ المراد من التقوى: التقوى الكاملة التامة التي هي ملاك الأمر، إذ بها تتحقق لهم ولاية ربهم ما داموا مؤمنين متقين.
602
صفة له كان أقدر على أداء الحقوق والواجبات، وعلى ترك الظلم واجتناب المنهيات، ثم أمرهم بالتقوى مؤكداً شأنها؛ لأنها ملاك الأمر، وأعلمهم بأنه خبير بما يعملون لتزداد ملكة مراقبة الله تعالى في نفوسهم فيفوزون بالعدل والتقوى معاً، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٨) أما الآية (٩) فقد تضمنت بشرى سارة١ لهم، وهي أن ربهم قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة لذنوبهم والأجر العظيم لهم وهو الجنة، وقلت بشرى سارة لهم، لأنهم هم أهل الإيمان وصالح الأعمال رضي الله عنهم وأرضاهم، أما الآية الثالثة (١٠) فقد تضمنت وعيداً شديداً للكافرين المكذبين بآيات الله وحججه التي أرسل بها رسله وأيدهم بها، ولازم لكذبهم وكفرهم خبث أرواحهم، ولذا فهم لا يلائمهم إلا عذاب النار فكانوا بذلك أصحاب الجحيم٢ الذين لا يفارقونها أبداً، وأما الآية الرابعة (١١) فقد ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه، هي نجاة نبيهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود إذ ورد في سبب نزول هذه الآية ما خلاصته:
أن أولياء العامريين الذين قتلا خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما، جاءوا يطالبون بدية قتيلهم، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين إلى بني النضير يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب عقد المعاهدة، إذ من جملة موادها: تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الآخر في مثل هذه الحالة المالية، فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة استقبلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحفاوة والتكريم وأجلسوه مكاناً لائقاً تحت جدار منزل من منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود، وقد خلوا ببعضهم وتأمروا على قتله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا فرصة متاحة فلا نفوتها أبداً وأمروا أحدهم أن يطلق من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتقتله، وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى الله إلى رسوله بالمؤامرة الدنيئة، فقام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبعه أصحابه ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء المعاهدة وإجلائهم من المدينة، وقصتهم في سورة الحشر، والمقصود من هذا بيان المراد من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
١ لقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾.
٢ في الآية قصر إدعائي، وهو قوله تعالى: ﴿أولئك أصْحَابْ الْجَحيِم﴾، أي: لا غيرهم؛ كأنهم المتأهلون للعذاب والخلود فيه دون غيرهم، وذلك لعظم جرمهم بالكفر والتكذيب.
603
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا١ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي: بالقتل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ حيث أوحى إلى رسوله ما دبره اليهود فانصرف وتركهم لم يظفروا بما أرادوا، وهو معنى: ﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ٢ عَنْكُمْ﴾.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه، إذ هي سلم كمالهم وسبيل نجاحهم، وهي عبارة عن امتثال أمره وأمر رسوله واجتناب نهيهما وأرشدهم إلى التوكل عليه تعالى في جميع أمورهم بقوله: ﴿وَعَلَى٣ اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب القيام بحق الله تعالى على العبد، وهو ذكره وشكره بطاعته.
٢- وجوب العدل في الحكم والقول والشهادة والفعل ومع الولي والعدو سواء.
٣- تأكيد الأمر بتقوى الله عز وجل.
٤- الترغيب والترهيب بذكر الوعد والوعيد كما في الآيتين (٩) و (١٠).
٥- وجوب ذكر النعمة حتى يؤدى شكرها.
٦- وجوب التوكل على الله تعالى والمضي في أداء ما أوجب الله تعالى.
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ
١ ولهذه الحادثة نظيرتها، فقد تعددت مؤامرات اليهود والمشركين على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، ففي الحديبية حصل مثل هذا، وحادثة غورث، وعثور كذلك، إذ الكل همه فيها ببسط أيديهم بالأذى، ولكن الله كف أيديهم فله الحمد وله المنة.
٢ كف اليد: كناية عن عدم القتل والقتال. وبسطها: كناية عن السوء والأذى الحاصل بها.
٣ في الآية قصر حقيقي، وهو أن التوكل لا يكون إلا على الله، إذ لا كافي إلا هو سبحانه وتعالى.
604
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٢) }
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد بالإيمان.
﴿بَنِي إِسْرائيلَ﴾ : اليهود.
﴿نَقِيباً١﴾ : نقيب القوم: من ينقب عنهم ويبحث عن شؤونهم ويتولى أمورهم.
﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ٢﴾ : أي: نصرتموهم ودافعتم عنهم معظمين لهم.
﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ﴾ : أي: أنفقتم في سبيله ترجون الجزاء منه تعالى على نفقاتكم في سبيله.
﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ : أسترها ولم أوآخذكم بها.
﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ : أخطأ طريق الهدى الذي يفلح سالكه بالفوز بالمحبوب والنجاة من المرهوب.
معنى الآية الكريمة:
لما طالب تعالى المؤمنين بالوفاء بعهودهم والالتزام بمواثيقهم ذكرهم في هذه الآية بما أخذ على بني إسرائيل من ميثاق فنقضوه فاستوجبوا خزي الدنيا وعذاب الآخرة ليكون هذا عبرة للمؤمنين حتى لا ينكثوا عهدهم ولا ينقضوا ميثاقهم كما هو إبطال لاستعظام من استعظم غدر اليهود وهمهم بقتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ﴾ وهو قوله إني معكم الآتي، ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً٣﴾ أي: من كل قبيلة من قبائلهم الاثنى عشرة قبيلة نقيباً يرعاهم ويفتش على أحوالهم كرئيس فيهم، وهم الذين بعثهم موسى عليه
١ النقب، والنقب بفتح القاف وضمها: الطريق في الجبل. والنقيب: الأمين على القوم، وجمعه نقباء، وهو من ينقب عن أمور القوم ومصالحهم ليرعاها لهم. وقالوا النقيب أكبر من العريف، وفي البخاري: "ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفائكم أمركم".
٢ التعزير: التعظيم. والتوقير والنصرة والدفاع عن المعزر. والتعزير في الشرع: الضرب دون الحد لرد المخالف إلى الحق وسبيل الرشاد.
٣ من بين النقباء الاثنى عشر: يوشع، وكالب، وهما رجلان صالحان، والباقون هلكوا فلا خير فيهم.
605
السلام إلى فلسطين لتعرفوا على أحوال الكنعانيين١ قبل قتالهم. وقال الله تعالى: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾، وهذا بند الميثاق ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ﴾ أي: وعزتي وجلالي ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ صدقتموهم فيما جاءوكم به ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ بنصرتهم وتعظيمهم، ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ أي: زيادة على الزكاة الواجبة والعامة في الإنفاق، وفي تزكية النفس بالإيمان وصالح الأعمال ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ٢﴾ بإذهاب آثارها من نفوسكم حتى تطيب وتطهر ﴿وَلأُدْخِلَنَّكُمْ﴾ بعد ذلك التطهير ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾، أي: من تحت أشجارها وقصورها ﴿الأَنْهَارُ﴾ هذا جزاء الوفاء بالميثاق ﴿فَمَنْ كَفَرَ﴾ فنقض وأهمل ما فيه فكفر بعده ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أي: أخطأ طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، أي: خرج عن الطريق المفضي بسالكه إلى النجاة والسعادة.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- الحث على الوفاء بالالتزامات الشرعية.
٢- إبطال استغراب واستعظام من يستغرب من اليهود مكرهم ونقضهم وخبثهم ويستعظم ذلك منهم.
٣- إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله تعبد الله بها٣ من قبل هذه الأمة.
٤- وجوب تعظيم٤ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونصرته في أمته ودينه.
١ في الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يحتاج إليه من الاطلاع على حاجة من الحاجات الدينية والدنيوية، وفيها دليل على اتخاذ العين، أي: الجاسوس، وقد بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بسبسبة" عينًا في غزوة بدر بعثه لتقصي أخبار أبي سفيان. رواه مسلم.
٢ هذا جواب القسم في قوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ... ﴾ إلخ. وأما قوله تعالى: ﴿إِنيِ مَعَكم﴾ فهو إخبار بوعد الله تعالى لبني إسرائيل، وهي معية نصرة وتأييد إن هم وفوا الله بما أخذ عليهم من عهد وميثاق وجملة: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ﴾ جملة مستأنفة ولا علاقة لها بجملة الوعد: ﴿إني معكم﴾.
٣ ليس هذا من خصائص أمة الإسلام؛ لأن هذه العبادات شرعت لإسعاد وإكمال الإنسان، لذا هي مشروعة لكل الأمم لتوقف الكمال والسعادة على مثلها من مزكيات النفوس ومهذبات الأخلاق.
٤ لأن مقام الرسل شريف، وكيف وهم رسول الله تعالى، ثم لولا وجوب ذلك لهم مع وجوب محبتهم لما أطاعهم من بعثوا فيهم وأرسلوا إليهم.
606
﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) ﴾
شرح الكلمات:
نقض الميثاق: حله بعدم الالتزام بما تضمنه من أمر ونهي.
﴿لَعَنَّاهُمْ﴾ : طردناهم من موجبات الرحمة ومقتضيات العز والكمال.
﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ: يبدلون الكلام ويؤولون معانيه لأغراض فاسدة، والكلم من الكلام.
وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا﴾
: تركوا قسطاً كبيراً مما ذكرهم الله تعالى به، أي: أمرهم به في كتابهم.
﴿خَائِنَةٍ﴾ : خيانة أو طائفة خائنة منهم.
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ : أي: لا تؤاخذهم واصرف وجهك عنهم محسناً إليهم بذلك.
﴿إِنَّا نَصَارَى﴾ : أي: ابتدعوها بدعة النصرانية، فقالوا: إنا نصارى.
﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ﴾ : الإغراء: التحريش، والمراد أوجدنا لهم أسباب الفرقة والخلاف إلى يوم القيامة بتدبيرنا الخاص فهم أعداء لبعضهم البعض أبداً.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان خبث اليهود وغدرهم، فقد أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة
607
(١٣) أن اليهود الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليه السلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقابلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس وبعث منهم أثنى عشر نقيباً قد نكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم، وإنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية فهم يحرفون الكلم عن مواضعه فقال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ١﴾ أي: فبنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة ويطيعوا رسولهم ﴿لَعَنَّاهُمْ﴾ أي: أبعدناهم من دائرة الرحمة وأفناء الخير والسلام ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً٢﴾ شديدة غليظة لا ترق لموعظة، ولا تلين لقبول هدى ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ فيقدمون ويؤخرون ويحذفون بعض الكلام ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم في التوراة ﴿وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ وتركوا كثيراً مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين عنها متناسين لها كأنهم لم يؤمروا بها، فهل يستغرب ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة، ولا تزال يا رسولنا ﴿تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ٣﴾ أي: على طائفة خائنة منهم كخيانة بني النضير ﴿إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ﴾ فإنهم لا يخونون؛ كعبد الله بن سلام وغيره، وبناء على هذا ﴿فَاعْفُ ٤ عَنْهُمْ﴾ فلا تؤاخذهم بالقتل، ﴿وَاصْفَحْ﴾ عنهم فلا تتعرض لمكروههم فأحسن إليهم بذلك ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
هذا ما دلت عليها الآية الأولى (١٣)، أما الآية الثانية (١٤) في هذا السياق فقد أخبر تعالى عن النصارى٥ وأن حالهم كحال اليهود لا تختلف كثيراً عنهم، فقد أخذنا ميثاقهم على الإيمان بي وبرسلي وبالعمل بشرعي فتركوا متناسين كثيراً مما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه، فكان أن أغرينا بينهم٦ العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق فتعصبت كل طائفة لرأيها فثارت
١ الميم في قوله تعالى: ﴿فَبِما نَقْضُهم﴾ زائدة لتقوية الكلام وتأكيده ولفت النظر إليه ليتأمل وتفهم معانيه.
٢ قرئت: ﴿قَسْية﴾ يقال: عام قسي، أي: شديد لا مطر فيه، فالمادة مأخوذة من الشدة والقساوة.
٣ لفط: خائنة، صالح لأن يكون صفة لطائفة محذوفة كما في التفسير، وجائز أن تكون خائنة بمعنى خيانة؛ كقولهم في القيلولة: قائلة، والخيانة: هي المعصية، يحدثونها؛ كالكذب والفجور، وأصل الخيانة: عدم الوفاء بالعهد.
٤ هذا حمل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مكارم الأخلاق؛ لأن أذاهم كان منصبًا عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمره بعدم مقابلة الأذى بالأذى، بل بالعفو والصفح ليعظم مقامه أمامه ويكبر في أعينهم.
٥ التعبير بلفظ: النصارى، فيه إشارتات مهمتان: الأولى: أن النصرانية بدعة ابتدعوها وليست مما شرع الله تعالى، فهو ينفي عنهم ذلك. والثانية: بما أنهم راعوا في هذه البدعة نصرة الدين والحق وأهله أخذًا من قول عيسى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾، فقَالَ الحواريون: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ إذا لم تنصرون الحق وهو الإسلام وأهله، وهم المسلمون؟.
٦ من الجائز أن يقال: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ هو عائد على اليهود والنصارى؛ لأن العداوة بينهم ثابتة، إلى أن السياق هو في النصارى فظوائفهم متعددة ومتعادية متباغضة، كما أخبر تعالى، والفرق بين العداوة والبغضاء: أن العداوة من العدوان فقد ينتج عنها أذي بالضرب أو القتل. وأما البغضاء: فهي من البغض القلبي فلا يتوقع من صاحبها أذى.
608
بينهم الخصومات وكثر الجدل فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء وستستمر إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد ويجازيهم به الجزاء الموافق لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم فإن ربك عزيز حكيم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- حرمة نقض المواثيق ونكث العهود ولا سيما ما كان بين العبد وربه.
٢- الخيانة وصف لازم لأكثر اليهود فقل من سلم منهم من هذا الوصف.
٣- استحباب العفو عند القدرة، وهو من خلال الصالحين.
٤- حال النصارى١ لا تختلف كثيراً عن حال اليهود كأنهم شربوا من ماء واحد. وعليه فلا يستغرب منهم الشر ولا يؤمنون على سر، فهم على عداوة الإسلام والحرب عليه متعاونون متواصون.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿أَهْلَ الْكِتَابِ٢﴾ : هنا هم اليهود والنصارى معاً.
١ جائز أن يكون النصارى: جمع نصارى منسوب إلى النصر، كما قالوا: شعراني، ولحياني، منسوب إلى الشعر واللحية.
٢ الكتاب: اسم جنس، يصدق على الواحد والاثنين والأكثر، والمراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى، ونداءه لهم بعنوان الكتاب فيه معنى العيب عليهم سلوكهم الشائن وإنحرافهم الخطير حيث بعدوا عن كل خير.
609
﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ : محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ : الكتاب: التوراة والإنجيل، وما يخفونه صفات النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض الأحكام، المخالفين لها يجحدونها خوف المعرة؛ كالرجم مثلاً.
﴿وَيَعْفُو١ عَنْ كَثِيرٍ﴾ : لا يذكرها لكم لعدم الفائدة من ذكرها.
﴿نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ : النور: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكتاب: القرآن الكريم.
﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ : الإسلام: وهو الدين الحق الذي لا نجاة إلا به. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في أهل الكتاب فبعد أن بين تعالى باطلهم وما هم عليه من شر وسوء دعاهم، وهو ربهم وأرحم بهم من أنفسهم إلى سبيل نجاتهم وكمالهم دعاهم إلى الإيمان رسوله وكتابه ذلك الرسول الذي ما اتبعه أحد وندم وخزي، والكتاب الذي ما ائتم به أحد وضل أو شقين فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ أي: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ بوحينا ﴿كَثِيراً﴾ من مسائل الشرع والدين التي تخفونها خشية الفضيحة لأنها حق جحدتموه، وذلك كنعوت النبي الأمي وصفاته حتى لا يؤمن به الناس، وكحكم الرجم في التوراة وما إلى ذلك. ﴿وَيَعْفُو﴾ يترك كثيراً لم يذكر لعدم الداعي إلى ذكره يا أهل الكتاب ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ﴾ ربكم ﴿نُورٌ﴾ هو رسولنا محمد٢ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ وهو القرآن، أذ بين كل شيء من أمور الدين والدنيا وكل ما تتوقف سعادة الإنسان وكماله عليه دنيا وأخرى ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ﴾ تعالى ﴿مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾، وذلك بالرغبة الصادقة في الحصول على رضا الله عز وجل بواسطة فعل محابه وترك مساخطه عن كل معتقد وقول وعمل يهديه به ﴿سُبُلَ السَّلامِ﴾ أي: طريق السعادة والكمال، ﴿وَيُخْرِجُهُمْ﴾ أي: المتبعين رضوان الله ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ وهي ظلمات الكفر والشرك والشك، إلى نور الإيمان الصحيح والعبادة الصحيحة المزكية للنفس المهذبة للشعور بتوفيقه وعونه تعالى ويهديهم، أي: أولئك الراغبين حقاً في رضا الله ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
١ {يَعفو﴾ معناه: يعرض ولا يظهر، يقال: عفا الرسم، إذا لم يظهر، فعفا عن كذا، أعرض عنه ولم يظهره
٢ واللفظ صالح لأن يكون المراد بالنور: الإسلام، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نور الإسلام، نور إذ كل منهما يهدي إلى دار السلام في الآخرة وإلى الطهر والصفاء والكمال في دار الدنيا.
610
مُسْتَقِيمٍ} لا يضلون معه ولا يشقون أبداً، وهو دينه الحق الإسلام الذي لا يقبل ديناً غيره١، والذي ما اهتدى من جانبه ولا سعد ولا كمل من تركه.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- نصح الله تعالى لأهل الكتاب بدعوتهم إلى سبل السلام بالدخول في الإسلام.
٢- بيان جحود اليهود والنصارى لكثير من الأحكام الشرعية ودلائل النبوة المحمدية مكراً وحسداً حتى لا يؤمن الناس بالإسلام ويدخلوا فيه.
٣- اتباع السنة المحمدية يهدي صاحبه إلى سعادته وكماله.
٤- القرآن حجة على الناس كافة لبيانه الحق في كل شيء.
٥- طالب رضا٢ الله بصدق يفوز بكل خبر وينجو من كل ضير.
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ
١ شاهده قوله تعالى، من سورة آل عمران: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
٢ لأنه يطلبه عن طريق الإسلام، والإسلام قائد أهله إلى النجاة من كل مرهوب، وإلى الفوز بكل محبوب مرغوب.
611
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
شرح الكلمات:
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ﴾ : لأنهم جحدوا الحق، وقالوا كذباً: الله هو المسيح بن مريم.
﴿الْمَسِيحُ﴾ : لقب لعيسى بن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام.
﴿مَرْيَمَ﴾ : بنت عمران، من صلحاء بني إسرائيل، والدة عيسى عليه السلام.
﴿يُهْلِكَ﴾ : يميت ويبيد.
﴿قَدِيرٌ﴾ : قادر على إيجاد وإعدام كل شيء أراد إيجاده أو إعدامه.
الأحباء: واحده: حبيب، كما أن الأبناء واحده: ابن.
﴿عَلَى فَتْرَةٍ﴾ : الفترة: زمن انقطاع الوحي لعدم إرسال الله تعالى رسولاً.
﴿بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ : البشير: المبشر بالخير، والنذير: المنذر من الشر، وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبشر المؤمنين وينذر الكافرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب، ففي الآية الأولى (١٧) أخبر تعالى مؤكداً الخبر بالقسم المحذوف الدالة عليه اللام الواقعة في جواب القسم، فقال: ﴿لَقَدْ كَفَرَ١ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ٢ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ ووجه كفرهم أنهم جعلوا المخلوف المربوب هو الله الخالق الرب لكل شيء، وهو كفر من أقبح أنواع الكفر، وهذا وإن لم يكن قول أكثر النصارى فإنهم بانتمائهم إلى النصرانية وقولهم بها وانخراطهم في سلك مبادئها وتعاليمها يؤاخذون به، لأن الرضا بالكفر كفر.
١ المراد من ذكر هذا الخبر: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ هو بيان كفرهم بهذه المقالة، لا أنه تقرير لضلالهم ونقضهم الميثاق.
٢ هذا عائد إلى قول بعضهم: إن المسيح لاهوت ناسوت، أي: إله وإنسان. وهو خلط وخبط لا نظير لهما، وأشهر طوائفهم، وهم: اليعقوبية، والملكائية، والنسطورية، ينكرون أن يكون الله هو المسيح، ولكن يقولون: إن عيسى ابن الله، وأنه إله. وهو كذب صراح، وكفر بواح.
612
وقوله تعالى: ﴿قُلْ فَمَنْ١ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً﴾ يعلم رسوله كيف يتحج على أهل هذا الباطل فيقول له: قل لهم: فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه عليهما السلام ﴿وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾، والجواب قطعاً: لا أحد، إذاً فكيف يكون عبد الله هو الله أو إلهاً مع الله؟ أليس هذا هو الضلال بعينه وذهاب العقول بكماله؟ ثم أخبر تعالى أنه له ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ خلقاً وتصرفاً، وأنه ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ خلقه بلا حجر عليه ولا حظر، وهو على كل شيء قدير خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق حواء من آدم، وخلق عيسى من مريم بلا أب، ويخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير فكون المسيح عليه السلام خلقه بكلمة كن بلا أب لا تستلزم عقلاً ولا شرعاً أن يكون هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث مع الله، كما هي عقيدة أكثر النصارى، والعجب من إصرارهم على هذا الباطل، هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية (١٨) فقد تضمنت بيان ضلال اليهود والنصارى معاً، وهو دعواهم أنهم ﴿أَبْنَاءُ الله٢وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، إذ قال تعالى عنهم: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ٣ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وهو تبجح وسفه وضلال، فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قل لهم يا رسولنا: ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ فهل الأب يعذب أبناءه، والحبيب يعذب محبيه، وأنتم تقولون نعذب في النار أربعين يوماً بسب خطيئة عبادة أسلافهم العجل أربعين يوماً، كما جاء ذلك في قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً﴾، والحقيقة أن هذا القول منكم من جملة الترهات والأباطيل التي تعيشون عليها، وأما أنتم فإنكم بشر ممن خلق الله فنسبتكم إليه تعالى نسبة مخلوق إلى خالق، وعبد إلى مالك من آمن منكم وعمل صالحاً غفر له وأكرمه، ومن كفر منكم وعمل سوء عذبه، كما هي سنته في سائر عباده، ولا اعتراض عليه فإن له ملك السموات والأرض وما بينهما وأنتم من جملة مملوكيه، وإليه المصير فسوف ترجعون إليه ويجزيكم بوصفكم إنه حكيم عليم.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية، أما الآية الثالثة (١٩) فقد تضمنت إقامة الحجة على أهل
١ الفاء: للعطف على جملة محذوفة متضمنة كذبهم في قولهم، والتقدير: كل كذبتم فمن يملك... إلخ.
٢ التعبير بالأبوة والبنوة المنسوبة إلى الله تعالى تفيض بها التوراة والإنجيل، وهو من التحريف الذي حصل لكتابيهم، وأما قول من قال: هذه الأبوة والبنوة كانت تعني التشريف فاغتر بها المتأخرون واعتقدوا حقيقتها. هذا القول فيه مجازفة لا تقبل.
٣ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "خوف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومًا من اليهود في العقاب فقالوا: لا نخاف فإننا أبناء الله وأحباؤه، فنزلت هذه الآية.
613
الكتاب، فقد ناداهم الرب تبارك وتعالى بقوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ وأعلمهم أنه قد جاءهم رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين لهم الطريق المنجي والمسعد في وقت واحد على حين فترة من١ الرسل، إذ انقطع الوحي منذ رفع عيسى إلى السماء وقد مضى على ذلك قرابة خمسمائة وسبعين سنة أرسلنا رسولنا إليكم حتى لا تقولوا معتذرين عن شرككم وكفركم وشركم وفسادكم: ﴿مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ٢﴾ فها هو ذا البشير محمد٣ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد جاءكم٤ فآمنوا به واتبعوه تنجوا وتسعدوا، وإلا؛ فالعذاب لازم لكم، والله على تعذيبكم قدير كما هو على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- كفر من ينسب إلى الله تعالى ما هو منزه عنه من سائر النقائص.
٢- بطلان دعوى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه بالدليل العقلي.
٣- نسبة المخلوقات لله تعالى لا تتجاوز كونها مخلوقة له مملوكة يتصرف فيها كما شاء ويحكم فيها بما يريد.
٤- قطع عذر أهل الكتاب بإرسال الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حين فترة من الرسل.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ
١ الفترة: مشتقة من فتر عن عمله، يفتر فتورًا، إذا سكن. والأصل فيها الانقطاع عما كان عليه من الجد عليه. والمراد بها في الشرع: هي انقطاع ما بين الرسولين.
٢ {مَن بَشِير ولا نَذِير﴾ من زائدة وزيادتها لغرض المبالغة في نفي المجيء وتنكير بشير ونذير للتقليل، أي: ما جاءنا أقل بشير وأقل نذير.
٣ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا لليهود: يا معشر يهود اتقوا الله فإنكم والله لتعلمون أن محمدًا رسول الله ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته فقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعد من بشير ولا نذير فنزلت هذه الآية.
٤ قوله تعالى: ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ... ﴾ الآية. الفاء: هي الفاء الفصيحة، فقد أفصحت عن محذوف ما بعدها يكون علة له، وتقديره هنا: لا تعتذروا فقد جاءكم... إلخ.
614
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢) قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) }
شرح الكلمات:
﴿نِعْمَةَ١ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ : منها نجاتهم من فرعون وملائه.
﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ٢﴾ : منهم موسى وهارون عليهما السلام.
﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً﴾ : أي: مالكين أمر أنفسكم بعد الاستعباد الفرعوني لكم.
﴿الْعَالَمِينَ﴾ : المعاصرين لهم والسابقين لهم.
﴿الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ﴾ : المطهرة التي فرض الله عليكم دخولها والسكن فيها بعد طرد الكفار منها.
﴿وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾ : أي: ترجعوا منهزمين إلى الوراء.
﴿قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ : عظام الأجسام أقوياء الأبدان يجبرون على طاعتهم من شاءوا.
﴿يَخَافُونَ﴾ : مخالفة أمر الله تعالى ومعصية رسوله.
﴿أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا﴾ : أي: بنعمة العصمة حيث لم يفشوا سر ما شاهدوه لما دخلوا أرض الجبارين لكشف أحوال العدو بها، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثنى عشر.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع أهل الكتاب، وهو هنا في اليهود خاصة، إذ قال الله تعالى لرسوله محمد
١ النعمة: اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا﴾ فهو دال على العدد الذي لا يحصى.
٢ أنبياء: جمع نبي، ولم يصرف لأن فيه ألف التأنيث الممدودة.
615
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واذكر١ ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ﴾ كموسى وهارون عليهما السلام ﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً٢﴾ تملكون أنفسكم لا سلطان لأمة عليكم إلا سلطان ربكم عز وجل٣ ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ للسكن فيها والاستقرار بها فافتحوا باب المدينة وباغتوا العدو فإنكم تغلبون ﴿وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾ أي: ولا ترجعوا إلى الوراء منهزمين فتنقلبوا بذلك خاسرين، لا أمر الله بالجهاد أطعتم، ولا المدينة المقدسة دخلتم وسكنتم، واسمع يا رسولنا جواب القوم ليزول استعظامك بكفرهم بك وهمهم بقتلك، ولتعلم أنهم قوم بهت سفلة لا خير لهم، إذ قالوا في جوابهم لنبيهم موسى عليه السلام: ﴿يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ٤ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ !! وكان سبب هذه الهزيمة الروحية ما أذاعه النقباء من أخبار مهيلة مخيفة تصف العمالقة الكنعانيين بصفات لا تكاد تتصور في العقول، اللهم إلا اثنين منهم، وهما: يوشع بن نون، وكالب بن يوحنا، وهما اللذان قال تعالى عنهما: ﴿قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ أي: أمر الله تعالى ﴿أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا﴾ فعصمهما من إفشاء سر ما رأوا من قوة الكنعانيين إلا لموسى عليه السلام قالا للقوم: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ أي: باب المدينة ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾، وذلك لعنصر المباغتة، وهو عنصر مهم في الحروب، ﴿وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا﴾ وهاجموا القوم واقتحموا عليهم المدينة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بما أوجب الله عليكم من جهاد وكتب لكم من الاستقرار بهذه البلاد والعيش بها، لأنها أرض٥ القدس والطهر. هذا ما تضمنته الآيات الأربع، وسنسمع رد اليهود على الرجلين في الآيات التالية.
١ في هذه الآيات تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما يلاقي من عنت وعناد له بالمدينة، لذا أعلمهم بما لاقى موسى منهم من غلظة وجفاء وتعنت وعناد.
٢ روي عن الحسن وزيد ابن أسلم: "أن من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك". وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، كما في صحيح مسلم، إذ سأله رجل قائلاً: "ألسنا من فقراء المهاجرين. فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها. قال: نعم. قال: ألك منزل تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادمًا. قال: فأنت ملك".
٣ سقطت هذه الآية من التفسير: ﴿وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ وهو قول موسى لقومه، وما آتاهم منه: المن والسلوى والغمام. وكون الأنبياء في بني إسرائيل في هذا المذكور تبدوا الخصوصية المذكورة في قوله: ﴿مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ﴾.
٤ ﴿جَبّارِين﴾ أي: عظام الأجسام طوالها، والجبار من الناس: المتعظم الممتنع من الذل والفقر، أو هو من يجبر الناس على مراده لقوته عليهم وقهره لهم، وذكر القرطبي هنا حديثًا مسهبًا، عن عوج بن عناق، وهو حديث خرافة لما فيه من التهاويل الباطلة.
٥ هي أرض فلسطين الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر الأردن والبحر الميت، فتنتهي إلى حماة شمالاً وغزة وحرون جنوبًا "نقلاً عن التنوير".
616
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعلامه تعالى بخبث اليهود وشدة ضعفهم ومرض قلوبهم.
٢- فضح اليهود بكشف الآيات عن مخازيهم مع أنبيائهم.
٣- بيان الأثر السيئ الذي تركه إذاعة النقباء للأخبار الكاذبة المهولة، وقد استعملت ألمانيا النازية هذا الأسلوب ونجحت نجاحاً كبيراً حيث اجتاحت نصف أوربا في مدة قصيرة جداً.
٤- بيان سنة الله تعالى من أنه لا يخلو زمان ولا مكان من عبد صالح تقوم به الحجة على الناس.
٥- فائدة عنصر المباغتة في الحرب وأنه عنصر فعال في كسب الانتصار.
﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿لَنْ نَدْخُلَهَا﴾ : أي: المدينة١ التي أمروا بمهاجمة أهلها والدخول عليهم فيها.
﴿الْفَاسِقِينَ﴾ : أي: عن أمر الله ورسوله بتركهم الجهاد جبناً وخوفاً.
﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ : أي: تحريماً كونياً قضائياً لا شرعياً تعبدياً.
﴿يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ﴾ : أي: في أرض سيناء متحيرين فيها لا يدرون أين يذهبون مدة أربعين سنة.
﴿فَلا تَأْسَ﴾ : أي: لا تحزن ولا تأسف.
١ إليا أو أريحا لا تعدو واحدة منها عند أكثر المفسرين والمؤرخين.
617
معنى الآيات:
هذا هو جواب القوم على طالب الرجلين الصالحين باقتحام المدينة على العدو، إذ قالوا بكل وقاحة ودناء وخسة: ﴿يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا﴾ أي: المدينة ﴿أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا﴾ أي: ما دام أهلها فيها يدافعون عنها ولو لم يدافعوا١، ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ٢ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا﴾ أهل المدينة، أما نحن ف ﴿هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾. أي تمرد وعصيان أكثر من هذا؟ وأي جبن وخور أعظم من هذا؟ وأي سوء أدب أحط من هذا؟ وهنا قال موسى متبرئاً من القوم الفاسقين: رب: أي يا رب ﴿إِنِّي لا أَمْلِكُ٣ إِلا نَفْسِي وَأَخِي﴾ يريد هارون ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ فطلب بهذا البراءة منهم٤ ومن صنيعهم، إذ قد استوجبوا العذاب قطعاً، فأجابه ربه تعالى بقوله في الآية الثالثة (٢٦) ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي: الأرض المقدسة أربعين سنة لا يدخلونها وفعلاً ما دخلوها إلا بعد مضي الفترة المذكورة "أربعين سنة" وكيف كانوا فيها؟ يتيهون٥ في أرض سيناء متحيرين لا يدرون أين يذهبون ولا من أين يأتون، وعليه فلا تحزن يا رسولنا ولا تأسف على القوم الفاسقين، إذ هذا جزاؤهم من العذاب عُجل لهم فليذوقوه!!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان جبن اليهود وسوء أدبهم مع ربهم وأنبيائهم.
٢- وجوب البراءة من أهل الفسق ببغض عملهم وتركهم لنقمة الله تعالى تنزل بهم.
٣- حرمة الحزن والتأسف على الفاسقين والظالمين إذا حلت بهم العقوبة الإلهية جزاء فسقهم وظلمهم لأنفسهم ولغيرهم.
١ هذا الجبن والخور الذي أصاب القوم سببه: ما أذاعه النقباء فيهم، ما عدا يوشع وكالب؛ من أن العمالقة قوم جبارون، أجسامهم كذا وكذا في طولها وعرضها، وقوتهم كذا وكذا...
٢ هذه العبارة تدل على جهل القوم بالله تعالى وبما يجب له من العظيم والوقار، وهي كلمة كفر إن لم يعذر صاحبها بجهل بالله تعالى وصفاته
٣ ليس معنى الملك أن يملكه كعبد لا‍‍‍‍‍‍‍‍. أنه أخوه فكيف يملكه وإنما مراده: إني لا أملك إلا نفسي وأخي لا يملك لا نفسه أيضًا لا قدرة لي ولا له على بني إسرائيل.
٤ أراد مفاصلتهم لما ظهر منهم من التمرد والعصيان والبعد عنهم حتى لا يصيبهما ما يصيبهم من العقاب.
٥ التيه في اللغة: الحيرة. يقال: تاه يتيه تيهًا، إذا تحير، والأرض التيهاء التي لا يهتدي فيها، وتاه المرء في الأرض ذهب فيها متحيرًا لا يدري، أين يذهب أو يجيء.
618
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾ : وأقرأ على اليهود الذين هموا بقتلك وقتل أصحابك.
﴿نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ﴾ : خبر ابني آدم هابيل وقابيل.
﴿قُرْبَاناً﴾ : القربان: ما يتقرب١ به إلى الله تعالى؛ كالصلاة والصدقات.
﴿بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ﴾ : مددت إليَّ يدك.
﴿أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ : ترجع إلى الله يوم القيامة بإثم قتلك إياي، وإثمك في معاصيك.
﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ﴾ : شجعته على القتل وزينته حتى فعله.
﴿غُرَاباً﴾ : طائراً أسود معروف يضرب به المثل في السواد٢.
١ قيل كان قربان قابيل: حزمة من سنبل؛ لأنه صاحب زرع فاختارها من أردئ زرعه، حيث إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها، وأما قربان هابيل: فكان كبشًا؛ لأنه صاحب غنم واختاره من أجود غنمه.
٢ يقال: أسود غريب، وقال الشاعر: حتى إذا شاب الغراب أتيت أهلي.
619
﴿يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾ : يستر بالتراب جسد أخيه، وقيل: فيه سوءة، لأن النظر إلي الميت تكرهه النفوس، والسوءة: ما يكره النظر إليها.
معنى الآيات:
ما زال السياق القرآني الكريم في الحديث عن يهود بني النضير الذين هموا بقتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فالله تعالى يقول لرسوله: واقرأ عليهم قصة ابني آدم هابيل وقابيل ليعلموا بذلك عاقبة جريمة القتل الذي هموا به، توبيخاً لهم، وإظهاراً لموقفك الشريف منهم حيث عفوت عنهم، فلم تقتلهم بعد تمكنك منهم، وكنت معهم كخير ابني آدم، ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً١﴾، أي: قرب كل منهما قرباناً لله تعالى فتقبل الله قربان٢ أحدهما لأنه كان من أحسن ماله وكانت نفسه به طيبة، ﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾ وهو قابيل؛ لأنه كان من أردأ ماله، ونفسه به متعلقة، فقال لأخيه هابيل لأقتلنك حسداً له –كما حسدتك اليهود وحسدوا قومك في نبوتك ورسالتك- فقال له أخوه إن عدم قبول قربانك عائد إلى نفسك لا إلى غيرك ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ٣﴾ للشرك، فلو اتقيت الشرك لتقبل منك قربانك لأن الله تعالى لا يتقبل إلا ما كان خالصاً له، وأنت أشركت نفسك وهواك في قربانك، فلم يتقبل منك. ووالله قسماً به. ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ﴾، وعلل ذلك بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾، أي: أن ألقاه بدم أرقته ظلماً. وإن أبيت إلا قتلي فإني لا أقتلك لأني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، أي: ترجع إلى ربنا يوم القيامة بإثم قتلك إياي، وإثمك الذي فارقته في حياتك كلها، فتكون بسبب ذلك من أصحاب النار الخالدين فيها الذين لا يفارقونها أبداً، قال تعالى: ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾، ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ أي شجعته عليه وزينته له فقتله ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ٤﴾ النادمين لأنه لم يدر ما يصنع به
١ القربان: اسم جنس يطلق على الواحد، والمتعدد، إذ لكل منهما قربان وليس قربانًا واحدًا اشتراكًا فيه.
٢ إن قيل كيف عرف القبول من عدمه؟ فالجواب: إن سنة الله تعالى فيمن سبق أن من قرب لله تعالى فقبله أرسل عليه نارًا من السماء فأحرقته ومن لم يتقبله لم يفعل به ذلك. ويشهد له حديث الصحيح في غنائم بني إسرائيل إذ كانت محرمة عليهم ولم تحل إلا لإمة الإسلام، إذ أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن نارًا تنزل من السماء على الغنائم فتحرقها".
٣ فيه دلالة على أن قابيل لم يكن تقيًا، وقابيل في لغة بني إسرائيل بالنوب: قابين، وكذا هابيل، وقوله: ﴿إنما يَتَقبل الله... ﴾ إلخ. مسبوق بكلام دل عليه السياق، وهو مثل قوله: لم تقتلني ولم أجني شيئًا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني وكونه تقبل مني لا يستوجب قتلي ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
٤ لما كان أول من سن القتل فإنه لا تقتل نفسًا ظلمًا إلا وعليه كفل منها لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل". وفي الحديث الآخر: "من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
620
فكان يحمله على عاتقه ويمشي به حتى عفن، وعندئذ بعث الله غراباً يبحث في الأرض، أي: ينبش الأرض برجليه ومنقاره وينشر التراب على ميت معه حتى واراه: أي بعث الله الغراب ليريه كيف يواري، أي: يستر سوءة أخيه، أي جيفته، فلما رأى قابيل ما صنع الغراب بأخيه الغراب الميت قال متندما ًمتحسراً يا ويلنا، أي: يا ويلتي احضري فهذا أوان حضورك، ثم وبخ نفسه قائلاً: ﴿أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي﴾، كما وارى الغراب سوءة أخيه، وأصبح من النادمين على حمله أو على قتله وعدم دفنه وبمجرد الندم لا يكون توبة مع أن توبة القاتل عمداً لا تنجيه من النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية التقرب إلى الله تعالى بما يجب أن يتقرب به إليه تعالى.
٢- عظم جريمة الحسد وما يترتب عليها من الآثار السيئة.
٣- قبول الأعمال الصالحة يتوقف على الإخلاص فيها لله تعالى.
٤- بيان أول من سن جريمة القتل، وهو قابيل، ولذا ورد: ما من نفس تقتل نفساً ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل "نصيب" ذلك بأنه أول من سن القتل.
٥- مشروعية الدفن١ وبيان زمنه.
٦- خير ابنى آدم المقتول ظلماً، وشرهما القاتل ظلماً٢.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
١ يستحب توسعة القبر لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احفروا وأوسعوا وأحسنوا اللحد". واللحد أفضل من الشق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللحد لنا والشق لغيرنا". ويستحب لمن يضع الميت في قبره أن يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله، ولمن حضر الدفن أن يحثو على القبر من قبل رأسه ثلاثًا.
٢ وإن قيل ما تصنع بحديث الصحيح: "إذ التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قلت هذا الحديث فيمن يقاتل في غير حق استوجب القتل والقتال. أما من ظلم فدافع عن نفسه فقتل فهو شهيد بنص الحديث الصحيح. وكذا من بغى على المسلمين فقتاله واجب، ومن قاتله فهو مجاهد ومن قتل فهو شهيد.
621
جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) }
شرح الكلمات:
﴿من أجل ذلك﴾ : أي بسبب ذلك القتل.
} كتبنا} : أوحينا.
﴿أو فساد في الأرض﴾ : بحلابه لله ورسوله والمؤمنين.
﴿ومن أحياها﴾ : قدرعلى قتلها وهي مستوجبه له فتركها.
﴿بالبينات﴾ : الآيات والواضحةات حاملة للشرائع والدلائل.
﴿لمسرفون﴾ : مكثرون من المعاصي والذنوب.
معنى الآية الكريمة:
يقول تعالى: إنه من أجل قبح جريمة القتل وما يترتب عليها من مفاسد ومضار لا يقادر قدرها، أوحينا على بني إسرائيل لكثرة ما شاع بينهم من القتل وسفك الدماء، فقد قتلوا الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس لأجل هذه الضراوة على القتل، فقد قتلوا رسولين: زكريا ويحي، وهموا بقتل المرسلين العظيمين عيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أجل ذلك١ شددنا٢ عليهم في العقوبة، إذ من قتل منهم نفساً بغير نفس أي ظلماً وعدواناً، أو قتلها بغير فساد قامت به في الأرض، وهو حرب الله ورسوله والمؤمنين ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾ بمعنى يعذب عذاب قتل الناس جميعاً يوم القيامة، ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ بأن استوجب القتل فعفا عنها وتركها لله إبقاء عليها ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ٣ جَمِيعاً﴾ يعني يُعطى أجر من أحيا الناس٤ جمعياً، كل هذا شرعه الله تعالى لهم تنفيراً
١ قوله: ﴿مِنْ أَجْل ذَلِك﴾ : تعليل لقوله: ﴿كَتَبْنا﴾ ومن: ابتدائية، والأجل: الجراء والسبب، وهو مصدر أجل يؤجل ويأجل بمعنى: جنى واكتسب. فلذا هو يقال في الخير كما يقال في الشر، تقول: أكرمته لأجل علمه. كما تقول: أهنته لأجل فسقه. أما الجراء في قولك: فعلت كذا من جراء كذا. فهو مأخوذ من جر إذا سبب تقول: فعليّ كذا، جرى لي كذا، أي: سببه.
٢ خص بني إسرائيل بهذا دون من سبقهم من الأمم تغليظًا عليهم لجرأتهم على القتل علهم يكفون من سفك الدماء، إذ قتلوا حتى الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس.
٣ كأن للتشبيه، ومن هنا يكون معنى الكلام: كتبنا مشابهة قتل نفس بغير نفس... إلخ. بقتل الناس أجمعين، أي: في عظم الجرم ومشابهة من أحيا الناس جميًعا في عظم الأجر.
٤ من أحياها: معناه: من استنقذها من الموت، بأن عفى عنها بعد تعين القصاص عليها، أو دافع عنها حتى أنقذها ممن أراد قتلها لأن الإحياء بعد الموت ليس في مقدور الإنسان وإنما قد يهم المرء بالقتل ويعفو فيكون كمن أحياها.
622
لهم من القتل الذي أصروا عليه، وترغيباً لهم في العفو الذي جافوه وبعدوا عنه فلم يعرفوه، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ١ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ يخبر تعالى عن حالهم مسلياً رسوله محمداً عما يحمله من همّ منهم، وهم الذين تآمروا على قتله أن الشر الذي لازم اليهود والفساد الذي أصبح وصفاً لازماً لهم وخاصة المؤامرات بالقتل وإيقاد نار الحروب لم يكن عن جهل وعدم معرفة منهم لا أبداً، بل جاءتهم رسلهم بالآيات البينات والشرائع القويمة والآداب الرفيعة، ولكنهم قوم بهت متمردون على الشرائع مسرفون في الشر والفساد، ولذا فإن كثيراً منهم والله لمسرفون في الشر والفساد، وبنهاية هذه الآية ومن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ وهي الآية (١١) انتهى الحديث عن اليهود المتعلق بحادثة همهم بقتل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وقد ذكر تسلية لرسول الله وأصحابه، كما هو تسلية لكل مؤمن يتعرض لمكر اليهود عليهم لعائن الله.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- تأديب الرب تعالى لبني إسرائيل، ومع الأسف لم ينتفعوا به.
٢- فساد بني إسرائيل لم ينشأ عن الجهل وقلة العلم، بل كان اتباعاً للأهواء وجرياً وراء عارض الدنيا. فلذا غضب٢ الله عليهم ولعنهم؛ لأنهم عالمون.
٣- بالرغم من تضعيف جزاء الجريمة على اليهود، ومضاعفة أجر الحسنة لهم فإنهم أكثر الناس إسرافاً في الشر والفساد في الأرض.
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
١ هذه الجملة: تذييل لما سبق من حكم الله تعالى فيهم، حيث شرع لهم وأعلمهم بأن من يقتل نفسًا ظلمًا وعدوانًا يعتبر شرعًا كأنما قتل الناس جميعًا، ذكر فيه أنه لا عذر لهم فيما عوقبوا به، إذ لم يكونوا جاهلين لمجيئتهم رسلهم بالآيات البينات تحمل الشرائع والهدايات، ومع هذا فإن كثير منهم مسرفون في المعاصي والجرائم العظام؛ كالقتل في الأرض.
٢ شاهده من القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ من الممتحنة، و ﴿غير المغضوب عليهم﴾ من الفاتحة.
623
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) }
شرح الكلمات:
﴿يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ : بالخروج عن طاعتهما وحمل السلاح على المؤمنين وقتلهم وسلب أموالهم والاعتداء على حرماتهم.
﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً﴾ : بإخافة الناس وقطع طرقهم وسلب أموالهم والاعتداء على أعراضهم.
﴿أَوْ يُصَلَّبُوا﴾ : يشدون على أعواد الخشب ويقتلون، أو بعد أن يقتلوا.
﴿مِنْ خِلافٍ﴾ : بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس.
﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ﴾ : أي من أرض الإسلام.
﴿خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا﴾ : ذل ومهانة.
﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ : عذاب جهنم.
﴿أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ : أي: تتمكنوا منهم بأن فروا بعيداً ثم جاءوا مسلمين.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى ما أوجبه على اليهود من شدة العقوبة وعلى جريمة القتل والفساد في الأرض كسراً لحدة جرءتهم على القتل والفساد، ذكر هنا حكم وجزاء من يحارب المسلمين ويسعى بالفساد في ديارهم فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ١ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ بالكفر٢ بعد الإيمان
١ الجمهور على أن سبب نزول هذه الآية: ﴿إنْمَا جَزاء... ﴾ إلخ. هو العرنيون الذين نزلوا المدينة وادعوا أنهم اجتووها، أي: أمرضهم مناخها فأمر لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلقاح وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها فخرجوا خارج المدينة، ولما شفوا وصحوا قتلوا الراعي ومثلوا به، وذهبوا بالإبل فلحقتهم خيل المسلمين فردتهم ونزلت هذه الآية ببيان حكم الله فيهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فبقى هذا تشريعًا يطبق على مثلهم إلى يوم القيامة.
٢ لأن العرنيين وكانوا سبعة ثلاثة من عُكل، وأربعة من عرينة كفروا بعد إيمانهم الذي أظهروا بالمدينة، ثم ادعوا أنهم استوخموا المدينة فساعدهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة منه بما يشفيهم، فلما شفوا وصحوا كفروا وقلتوا الراعي وساقوا الإبل، والأية عامة في المرتد وغيره، والحكم ما بين الله تعالى في هذه الآية لا غيره، وصيغة الحصر فيها إنما ظاهرة.
624
والقتل والسلب بعد الأمان، ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً﴾ بتخويف المسملين، وقطع طرقهم وأخذ أموالهم، والاعتداء على حرماتهم وأعراضهم، هو ما أذكره لكم لا غيره فاعلموه أنه ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ﴾، ومعنى: يقتلوا: واحداً بعد واحد نكاية لهم وإرهاباً وتعزيراً لغيرهم، ومعنى: يصلبوا: بعد ما يقتل الواحد منهم يشد على خشبة مدة ثلاثة أيام، ومعنى: ينفوا من الأرض: يخرجوا من دار الإسلام، أو إلى مكان ناءٍ كجزيرة في بحر أو يحبسوا حتى ينجو المسلمون من شرهم وآذاهم، ويكون ذلك الجزاء المذكور خزياً وذلاً لهم١ في الدنيا ﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهو عذاب النار، وقوله تعالى: ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ فهذا استثناء متصل من أولئك المحاربين بأن من عجزنا عنه فلم نتمكن من القبض عليه، وبعد فترة جاءنا تائباً فإن حكمه يختلف عمن قبله، وقوله تعالى: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يحمل إشارة واضحة إلى تخفيف الحكم عليه، وذلك فإن كان كافراً وأسلم فإن الإسلام يجب ما قبله، فيسقط عنه كل ما ذكر في الآية من عقوبات.. وإن كان مسلماً فيسقط بالصلب ويجب عليه، رد المال الذي أخذه إن بقي في يده، وإن قتل أو فجر وطالب بإقامة الحد عليه أقيم عليه الحد، وإلا ترك لله والله غفور رحيم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان حكم الحرابة٢ وحقيقتها: خروج جماعة اثنان فأكثر ويكون بأيديها سلاح ولهم شوكة، خروجهم إلى الصحراء بعيداً عن المدن والقرى، يشنون هجمات على المسلمين فيقتلون ويسلبون ويعتدون على الأعراض، هذه هي الحرابة وأهلها، يقال لهم: المحاربون وحكمهم ما ذكر تعالى في الآية الأولى (٣٣).
١ إن كان المحاربون مسلمين؛ فالخزي لهم هو نزول العقوبة بهم في الدنيا من القتل والصلب والنفي، وفي الآخرة ينجون من عذابها، إن تابوا قبل موتهم. وإن كان المحاربون كافرين؛ فالخزي عذاب الدنيا والعذاب العظيم لهم في الآخرة. وفرقنا بين المسلمين والكافرين؛ لأن المسلمين إقامة الحد عليهم يكفر ذنب الجريمة، للحديث الصحيح في البيعة: "فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئًا فستره الله، فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له". فقوله: ﴿فَهوَ كفَارَة له﴾ دليل على سقوط عذاب الآخرة بالحد.
٢ الجمهور على أن اللص كالمحارب يناشد بالله تعالى أن يكف وينصرف وإن أبى يُقاتل ويقتل، ومن قتله اللص فهو في الجنة، وإن قتل اللص فهو النار، لحديث الصحيح، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أرأيت يا رسول الله إن جاء يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطيه مالك". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: فإن قتلته؟ قال: "فهو في النار".
625
٢- الإمام مخير في إنزال العقوبة التي يرى أنها مناسبة١ لاستتباب الأمن، إن قلنا أو في الآية للتخيير، وإلا فمن قتل وأخذ المال وأخاف الناس قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالاً قتل، ومن قتل وأخذ مالاً قطعت٢ يده ورجله من خلاف فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن لم يقتل ولم يأخذ مالاً يُنفى٣.
٣- من تاب من المحاربين قبل التمكن منه يعفى عنه إلا أن يكون بيده مال سلبه فإنه يرده على ذنوبه أو يطلب بنفسه إقامة الحد عليه فيجاب لذلك.
٤- عظم عفو الله ورحمته بعباده لمغفرته لمن تاب ورحمته له.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿اتَّقُوا اللهَ﴾ : خافوا عذابه فامتثلوا أمره وأمر رسوله واجتنبوا نهيهما.
﴿وَابْتَغُوا﴾ : اطلبوا.
١ هذا مذهب الجمهور من الأئمة، وهو أرفق وأصلح وأكثر تمثيلاً للآية وانسجامًا معها.
٢ مذهب الجمهور، وهو الحق لا تقطع يد المحارب إلا في مال تقطع فيه يد السارق، وهو زنة: ربع دينار ذهب فأكثر.
٣ إن تعذر النفي فالسجن يقوم مقامه، إذ هو نفي من ظاهر الأرض إلى باطنها. كما قال الشاعر:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يومًا لحاجة...
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
626
﴿الْوَسِيلَةَ١﴾ : تقربوا إليه بفعل محابه وترك مساخطه تظفروا بالقرب٢ منه.
﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ﴾ : أنفسكم بحملها على أن تتعلم وتعمل وتعليم، وأعداءه بدعوتهم إلى الإسلام وقتالهم على ذلك.
﴿تُفْلِحُونَ﴾ : تنجون من النار وتدخلون الجنة.
﴿عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ : دائم لا يبرح ولا يزول.
معنى الآيتين:
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليرشدهم إلى ما ينجيهم من العذاب فيجتنبوه، وإلى ما يدنيهم من الرحمة فيعملوه فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ٣ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ومعنى اتقوا الله خافوا عذابه فأطيعوه بفعل أوامره وأوامر رسوله واجتناب نواهيهما فإن عذاب الله لا يتقى إلا بالتقوى. ومعنى ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ : اطلبوا إليه القربة، أي: تقربوا إليه بفعل ما يحب وترك ما يكره تفوزوا بالقرب منه. ومعنى ﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ﴾ : جاهدوا أنفسكم في طاعته، والشيطان في معصيته، والكفار في الإسلام إليه والدخول في دينه باذلين كل ما في وسعكم من جهد وطاقة. هذا ما دلت عليه الأية الأولى (٣٥)، أما الآية الثانية (٣٦) وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ فإنها علة لما دعت إليه الآية الأولى من الأمر بالتقوى وطلب القرب من الله تعالى وذلك بالإيمان وصالح الأعمال، لأن العذاب الذي أمروا باتقائه بالتقوى عذاب لا يطاق أبداً ناهيكم أن الذين كفروا ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ٤ جَمِيعاً﴾ من مال صامت وناطق ﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ وقبل منهم
١ الوسيلة: لغة: القربة، والجمع: قرب، وهي فيعلة، بمعنى: مفعولة، أي: متقرب بها. من توسل إلى فلان تقرب إليه بكذا. وشاهده من قول العرب، قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
والوسيلة: تجمع على وسائل، ومنه قول القائل:
إذ غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
٢ فكل قربة: هي وسيلة تقرب من رضا الله والزلفى إليه. وعليه فكل الأعمال الصالحة هي وسيلة، وفي الحديث الصحيح: "ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما أفترضت عليه".
٣ تقديم الجار والمجرور على المفعول والمطلوب، في قوله تعالى: ﴿وَابْتَغوُا إلَيه الوَسِيلة﴾ مؤذن بتوحيد الله تعالى بالعبادات التي يتقرب بها إليه فلا يصح صرف شيء منها إلى غيره مهما كان.
٤ أي: لو ثبت لهم ما في الأرض ومثله معه أيضًا لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه في وجوه الإنفاق المحبوبة لهم لافتدوا به ولكن أنى يكون لهم ذلك.
627
فداء لأنفسهم من ذلك العذاب لقدموه سخية به نفوسهم، إنه عذاب أليم موجع أشد الوجع ومؤلم أشد الألم إنهم يتمنون بكل قلوبهم أن يخرجوا من النار ﴿وَمَا هُمْ١ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ دائم لا يبرح ولا يزول.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب تقوى الله عز وجل وطلب القربة إليه والجهاد في سبيله.
٢- مشروعية التوسل إلى الله تعالى بالإيمان وصالح٢ الأعمال.
٣- عظم عذاب يوم القيامة وشدته غير المتناهية.
٤- لا فدية يوم القيامة ولا شفاعة تنفع الكافر فيخرج بها من النار.
٥- حسن التعليل للأمر والنهي بما يشجع على الامتثال والترك.
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَالسَّارِقُ﴾ : الذي أخذ مالاً من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر.
﴿وَالسَّارِقَةُ﴾ : التي أخذت مالاً من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر.
١ ذكر القرطبي: أن يزيد الفقير قال: قيل لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إنكم يا أصحاب محمد تقولون أن قومًا يخرجون من النار والله تعالى يقول: ﴿ومَا همُ ْ بِخَارِجين مِنْها﴾. فقال جابر: إنكم تجعلون العام خاصًا، والخاص عامًا. إنما هذه في الكفار خاصة. فقرئت الآية كلها من أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة.
٢ لذا وجب معرفة محاب الله تعالى ومكارهه من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات ليتوسل بها إلى الله تعالى، فعلاً وتركًا للحصول على رضاه والفوز بالجنة والنجاة من النار.
628
﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ : أي: اقطعوا من سرق منهما يده من الكوع.
﴿نَكَالاً﴾ : عقوبة من١ الله تجعل غيره ينكل أن يسرق.
﴿عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ : عزيز: غالب لا يحال بينه وبين مراده، حكيم: في تدبيره وقضائه.
﴿بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ : بعد ظلمه لنفسه بمعصية الله تعالى بأخذ أموال الناس.
﴿وَأَصْلَحَ﴾ : أي: نفسه بتزكيتها بالتوبة والعمل الصالح.
﴿فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ : أي: يقبل توبته، ويغفر له ويرحمه إن شاء.
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ : خلقاً وملكاً وتدبيراً.
﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ : أي: تعذيبه لأنه مات عاصياً لأمره كافراً بحقه.
﴿وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ : ممن تاب من ذنبه وأناب إليه سبحانه وتعالى.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مقرراً حكماً من٢ أحكام شرعه، وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله٣ خفية وهو عاقل بالغ، ورفع إلى الحاكم، والسارقة كذلك فالحكم أن تقطع يد السارق اليمنى من الكوع، وكذا يد السارقة مجازاة لهما على ظلمهما بالاعتداء على أموال غيرهما، ﴿نَكَالاً مِنَ اللهِ﴾ أي: عقوبة من الله تعالى لهما تجعل غيرهما لا يقدم على أخذ أموال الناس بطريق السرقة المحرمة، ﴿وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ غالب على أمره حكيم في قضائه وحكمه. هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ٤ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾ ٥ من الإثم ﴿نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
وقوله تعالى في الآية الثانية (٣٩) ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ أي: تاب من السرقة بعد
١ هل يكون غرم مع القطع؟ مالك يرى: إن وجد المال عنده أخذ وإن كان موسرًا أخذ من ماله، وإن معسرًا يكتفي بالقطع، وهذا أرحم وأحكم. وتعلق يد السارق في عنقه لحديث الترمذي وأبي داود والنسائي.
٢ لما ذكر تعالى حكم المحاربين ذكر حكم السارق والسارقة وما ذكر بينها من دعوة المؤمنين إلى التقوى والتقرب إلى الله تعالى للحصول على رضاه هو من باب تنويع الأسلوب وتلوين الكلام إذهابًا للسآمة والملل عن القارئ والسامع.
٣ السارق عن العرب: هو من جاء مستترًا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب، فإن تمنع بما أخذ فهو غاصب.
٤ قرئ: والسارق: بالنصب على تقدير: اقطعوا السارق والسارقة. وقرئ: بالرفع، وهو أشهر، والإعراب فيما فرض عليكم: السارق والسارقة فاقطعوا، وأحسن من أن يكون السارق والسارقة مبتدأ، وجملة: فاقطعوا، خبر.
٥ أول سارق قطعت يده في الإسلام، هو: الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وأول سارقة في الإسلام هي: مرة بنت سفيان المخزومية.
629
أن ظلم نفسه بذلك ﴿وَأَصْلَحَ﴾ نفسه بالتوبة، ومن ذلك رد المال المسروق ﴿فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ ؛ لأنه تعالى غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين، وقوله تعالى في الآية الثالثة (٤٠) ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ يخاطب تعالى رسوله وكل من هو أهل للتلقي والفهم من الله تعالى فيقول مقرراً المخاطب: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، والجواب: بلى، وإذاً فالحكم له تعالى لا ينازع فيه، فلذا هو يعذب ويقطع يد السارق والسارقة ويغفر لمن تاب من السرقة وأصلح. وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان حكم حد السرقة، وهو قطع يد السارق والسارقة.
٢- بيان أن التائب من السراق إذا اصلح يتوب الله عليه، أي: يقبل توبته.
٣- إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده، وإن رفع فلا توبة له إلا بالقطع، فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب.
٤- وجوب التسليم لقضاء الله تعالى والرضا بحكمه لأنه عزيز حكيم.
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا
١ الإجماع على أن الوالد لا تقطع يده إذا سرق مال ولده، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنت ومالك لأبيك" واختلف في العكس. والراجح: أنه لا قطع عليه. وهل تقطع اليد في السفر؟ وفي دار الحرب خلاف: مالك يرى: إقامة الحدود في دار الحرب. واليد تقطع من الرسخ، والرجل من المفصل، ولا قطع على الصبي والمجنون والعبد إن سرق من مال سيده، ولا السيد من مال عبده.
630
وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) }
شرح الكلمات:
﴿لا يَحْزُنْكَ﴾ : الحزن: ألم نفسي يسببه خوف فوات محبوب.
﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ : بمعنى: يسرعون فيه إذ ما خرجوا منه كلما سنحت فرصة للكفر أظهروه.
﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ : هؤلاء هم المنافقون.
﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ : أي: اليهود.
﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ : أي: كثيرو الاستماع للكذب.
﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ : يبدلون الكلام ويغيرونه ليوافق أهواءهم.
﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا﴾ : أي: أعطيتم.
﴿فِتْنَتَهُ﴾ : أي: ضلالة لما سبق له من موجبات الضلال.
﴿أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ : من الكفر والنفاق.
﴿خِزْيٌ﴾ : ذل.
631
﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ : كثيروا الأكل للحرام؛ كالرشوة والربا.
﴿أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ : أي: لا تحكم بينهم.
﴿بِالْقِسْطِ﴾ : أي: بالعدل.
﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ : أي: صدقاً وحقاً وإن ادعوه نطقاً.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ١ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ إلى قوله: ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ في نهاية الآية نزل تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخفيفاً مما كان يجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ألم نفسي من جراء ما يسمع ويرى من المنافقين واليهود فناداه ربه تعالى بعنوان الرسالة التي كذب بها المنافقون واليهود معاً: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ الحق، لينهاه عن الحزن الذي يضاعف ألمه: ﴿لا يَحْزُنْكَ﴾ حال الذين ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ بتكذيبك فإنهم ما خرجوا من الكفر، بل هم فيه منغمسون، فإذا سمعت منهم قول الكفر لا تحفل به حتى لا يسبب لك حزناً في نفسك. ﴿مِنَ الَّذِينَ٢ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ أي: لا يحزنك كذلك حال اليهود الذين يكذبون بنبؤتك ويجحدون رسالتك، ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ سماعون ليهود آخرين لم يأتوك؛ كيهود خيبر وفدك، أي: كثيروا السمع للكذب الذي يقوله أحبارهم لما فيه من الإساءة إليك سماعون لأهمل قوم آخرين ينقلون إليهم أخبارك كوسائط، وهم لم يأتوك، وهم يهود خيبر إذ أوعزوا إليهم أن يسألوا لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حد الزنى ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾، أي: يغيرون حكم الله الذي تضمنه الكلام، يقولون لهم إن أفتاكم في الزانين المحصنين بالجلد والتحميم بالفحم، فاقبلوا ذلك وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك. هذا معنى تعالى في هذه الآية: ﴿وكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾، وقال تعالى لرسوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللهُ
١ هو النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاطبه ربه بعنوان الرسالة تشريفًا له وتعطيمًا وإشعارًا له بعدم داعي الحزن، إذ من كان في مقامه لا يحزن مهما كانت المصائب، والآية نزلت في حادثة زنا اليهوديين، إذ روى في الصحيحين، أن جابرًا قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة، أن سلوا محمدًا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه. فسألوه. فدعا ابن صوريا، وكان عالمهم، وكان أعور. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنشدك الله كيف تجدون حد الزنا في كتابكم"؟ فقال ابن صوريا: فأما إذ نشادتني الله فإنا نجد في التوراة: النظر: زنية، والاعتناق: زنية، والقبلة: زنية. فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها. مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هو ذاك".
٢ من: بيانية، أي: بينت أن المسارعين في الكفر: هم من المنافقين.
632
فِتْنَتَهُ} أي: إضلاله عن الحق لما اقترف ن عظائم الذنوب وكبائر الأثام ﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً﴾ إذا أراد الله إضلاله، إذاً فلا يحزنك مسارعتهم في الكفر، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ من الحسد والشرك والنفاق لسوابق الشر التي كانت لهم فحالت دون قبول الإيمان ولاحق، ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ أي: ذل وعار، ﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ جزاء كفرهم وبغيهم. هذا ما دلت عليه الآية (٤١)، أما الآية الثانية (٤٢) فقد تضمنت وصف أولئك اليهود بصفة كثرة استماع الكذب مضافاً إليه كثرة أكلهم للسحت، وهو المال الحرام أشد حرمة؛ كالرشوة والربا١، فقال تعالى عنهم: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ٢ فَإِنْ جَاءُوكَ﴾ أي: للتحاكم عندك فأنت مخير بين أن تحكم بحكم الله٣. أو تعرض عنهم وتتركهم لأحبارهم يحكمون بينهم كما شاءوا وإن تعرض عنهم فلم تحكم بينهم لن يضروك شيئاً، أي: من الضرر ولو قل، لأن الله تعالى وليك وناصرك، وإن حكمت بينهم فاحكم بينهم بالقسط أي: العدل، لأن الله تبارك وتعالى يحب ذلك فافعله لأجله إنه يحب القسط والمقسطين، وقوله تعالى في الآية الثالثة (٤٣) :﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ﴾. أي: إنه مما يتعجب منه أن يحكموك فتحكم بينهم برجم الزناة، وعندهم التوراة فيها نفس الحكم فرفضوه معرضين عنه اتباعاً لأهوائهم، ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ لا بك ولا بحكمك ولا بحكم التوراة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته.
٢- حرمة سماع الكذب لغير حاجة تدعو إلى ذلك.
٣- حرمة تحريف الكلام وتشويهه للإفساد.
١ الرشوة مشتقة من الرشى الذي هو الحبل الذي يستخرج به الماء من البئر بضميمة الدلو، وعليه فكل مال أعطى لحاكم ليؤخذ به الراشي حق امرء فهو رشوة وسحت محرمان بلا خلاف. وكذا ما يدفعه الواسطة لحاكم ليسقط عنه حقًا وجب عليه فهو رشوة. أما ما كان ليدفع به عن نفسه أو ماله أو عرضه أو دينه فلا يحرم، وليس هو من الرشوة، قال السمرقندي الفقيه، وبهذا نأخذ.
٢ أصل السحت: الهلاك، والشدة. قال تعالى: ﴿فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ﴾، وقال الفرزدق:
وعض زمانٍ يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتًا أو مجلف
وسمي المال الحرام كالربا والرشوة: سحتًا؛ لأنه يسحت الطاعات ويبطل ثوابها، ويسحت البركة ويزيلها.
٣ يرى مالك والشافعي أن اليهود إذا رفعوا للإمام قضية دم أو مال أو عرض حكم بينهم بما أنزل الله، وإن كان ما رفعوه لا يتعلق بالمال أو الدم أو العرض تركهم معرضًا عنهم، وأبي حنيفة يرى الحكم بينهم مطلقًا.
633
٤- الحاكم المسلم مخير في الحكم بين أهل الكتاب إن شاء حكم بينهم وإن شاء أحالهم على علمائهم.
٥- وجوب العدل في الحكم ولو كان المحكوم عليه غير مسلم.
٦- تقرير كفر١ اليهود وعدم إيمانهم.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ
١ قالت العلماء: إن من طلب غير حكم الله تعالى من حيث لم يرض به فهو كافر، وهذه حالة اليهود وحال أكثر المسلمين اليوم حيث لم يرضوا بحكم الله تعالى وحكموا شرائع الباطل وقوانين الكفر.
634
أَهْلُ الأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤٧) }
شرح الكلمات:
﴿التَّوْرَاةَ﴾ : كتاب موسى عليه السلام.
﴿هُدىً وَنُورٌ﴾ : الهدى: ما يوصل إلى المقصود، والنور: ما يهدي السائر إلى غرضه.
﴿هَادُوا﴾ : اليهود.
﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾ : جمع رباني: العالم المربي الحكيم.
﴿وَالأَحْبَارُ١﴾ : جمع حبر: العالم من أهل الكتاب.
﴿وَكَتَبْنَا﴾ : فرضنا عليهم وأوحينا.
﴿قِصَاصٌ﴾ : مساواة.
﴿وَقَفَّيْنَا﴾ : أتبعناهم بعيسى بن مريم.
﴿الْفَاسِقُونَ﴾ : الخارجون عن طاعة الله ورسله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث على بني إسرائيل، إذ قال تعالى مخبراً عما أتى بنى إسرائيل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ﴾ هدى من كل ضلالة ونور مبين للأحكام مُخرج من ظلمات الجهل ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾ من بني إسرائيل ﴿النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ لله قلوبهم ووجوههم فانقادوا لله ظاهراً وباطناً، ﴿لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ ٢، ويحكم بها الربانيون من أهل العلم والحكمة من بني إسرائيل ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا﴾ بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم كتابه التوراة فلا يبدلونه ولا يغيرون فيه، ﴿وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ بأحقيته وسلامته من النقص والزيادة بخلافكم أيها اليهود، فقد حرفتم الكلم عن مواضعه وتركتم الحكم به فما لكم؟ فأظهروا الحق من نعت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأمر بالإيمان به، ومن ثبوت الرجم وإنفاذه في الزناة ولا تخشوا
١ قالوا: الحَبر بالفتح: العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه.
٢ قد تكون اللام هنا بمعنى على، أي: على الذين هادوا، وقد تكون على بابها، ويكون لفظ: عليهم، محذوفًا، أي: يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا. وعليهم فحذف: "عليهم".
635
الناس في ذلك واخشوا الله تعالى فهو أحق أن يخشى، ولا تشتروا بآيات الله التي هي أحكامه فتعطلوها مقابل ثمن قليل تأخذونه ممن تجاملونهم وتداهنونهم على حساب دين الله وكتابه. ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ١ فكيف ترضون بالكفر بدل الإيمان.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٤٤)، أما الآية الثانية (٤٥) :﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ٢﴾ فقد أخبر تعالى أنه فرض على بني إسرائيل في التوراة القود في النفس والقصاص في الجراحات؛ فالنفس تقتل بالنفس، العين تفقأ بالعين٣ والأنف يجدع بالأنف، والأذن٤ تقطع بالأذن والسن تكسر إن كسرت٥ بالسن، وتقلع به إن قلع، والجروح٦ بمثلها قصاص ومساواة، وأخبر تعالى: أن من تصدق على الجاني بالعفو عنه وعدم المؤاخذة فإن ذلك يكون كفارة لذنوبه٧، وإن لم يتصدق عليه واقتص منه يكون ذلك كفارة لجنايته بشرط وذلك بأن يقدم نفسه للقصاص تائباً، أي: نادماً على فعله مستغفراً ربه. وقوله تعالى في ختام الآية: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، وذلك بأن قتل غير القاتل أو قتل بالواحد اثنين أو فقأ بالعين عينين، كما كان بنو النضير يعاملون به قريظة بدعوى الشرف عليهم.
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (٤٦) وهي قوله تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ فقد أخبر تعالى أنه أتبع أولئك الأنبياء السابقين من بني إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام، أي: أرسله بعدهم مباشرة ﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ لم ينكرها أو يتجاهلها، ﴿وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ﴾، أي: وأعطيناه الإنجيل وحياً أوحيناه إليه، وهو كتاب مقدس أنزله الله تعالى عليه فيه، أي: في الإنجيل هدى من الضلال ونور لبيان الأحكام من الحلال
١ القول الذي لا خلاف فيه: هو أن المسلم لا يكفر لمجرد عدم حكمه بما أنزل الله تعالى، وإنما يفسق ويصبح في عداد الفاسقين من أمة الإسلام. أما الكفر فلا يكفر ولا يكفر إلا بشرط أن ينكر هداية القرآن وصلاحيته ويعرض عنه مستخفًا به مفضلاً عليه غيره.
٢ الذي عليه أكثر الفقهاء: أن المسلم لا يقتل بالذمي. لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المؤمنون تتكافأ دمائهم وهم يدُ على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" رواه أبو داود والترمذي.
٣ لا خلاف أن في العينين دية، وفي العين الواحدة نصف دية، وفي عين الأعور دية كاملة، وفي الأنف إذا جدع الدية كاملة.
٤ الدية في ذهاب السمع، إما مع بقاء السمع ففيه حكومة.
٥ في السن خمس من الإبل لحديث الصحيح في ذلك.
٦ وفي الشفتين الدية، وفي الواحدة نصف الدية، وفي اللسان إذا قطع الدية.
٧ اختلف في دية المرأة الأكثرون على أن أصبعها كأصبع الرجل وسنها كسنه، وموضوحتها كموضوحته، ومنقلتها كمنقلته، فإذا بلغت ثلث الدية كانت على النصف من دية الرجل. وقالت طائفة: دية المرأة فيما ذكر على النصف من دية الرجل.
636
والحرام، ﴿وَمُصَدِّقاً﴾، أي: الإنجيل لما قبله من التوراة، أي: مقرراً أحكامها مثبتاً لها إلا ما نسخه الله تعالى منها بالإنجيل، ﴿وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي: يجد فيه أهل التقوى الهداية الكافية للسير في طريقهم إلى الله تعالى والموعظة التامة للاتعاظ بها في الحياة. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة، أما الآية (٤٧) وهي قوله تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ﴾ أي: وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، يريد وأمرنا أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام، وأخبرناهم أن من ﴿لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ عن أمره الخارجون عن طاعته وقد يكون الفسق ظلماً وكفراً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب خشية الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم.
٢- كفر من جحد أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض.
٣- وجوب١ القود في النفس والقصاص في الجراحات؛ لأن ما كتب على بني إسرائيل كتب على هذه الأمة.
٤- من الظلم أن يعتدى في القصاص بأن يقتل الواحد اثنان أو يقتل غير القاتل أو يفقأ بالعين الواحدة عينان مثلاً، وهو كفر مع الاستحلال وظلم في نفس الوقت.
٥- مشروعية القصاص في الإنجيل وإلزام أهله بتطبيقه وتقرير فسقهم إن عطلوا تلك الأحكام وهم مؤمنون بها.
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا
١ إلا إن يرضى الملظلوم بالدية فإنه يعطاها على نحو ما تقدم آنفًا.
637
آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) }
شرح الكلمات:
﴿الْكِتَابَ﴾ : القرآن الكريم.
﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ : اسم جنس بمعنى الكتب السابقة قبله؛ كالتوراة والإنجيل.
﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ : حاكماً عليه، أي: محققاً للحق الذي فيه، مبطلاً للباطل الذي التصق به.
﴿شِرْعَةً١ وَمِنْهَاجاً﴾ : شريعة تعملون بها وسبيلاً تسلكونه لسعادتكم وكمالكم من سنن الهدى.
﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ : لا اختلاف بينكم في عقيدة ولا في عبادة ولا قضاء.
﴿فَاسْتَبِقُوا﴾ : أي: بادروا فعل الخيرات ليفوز السابقون.
﴿أَنْ يَفْتِنُوكَ﴾ : يضلوك عن الحق.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ : أعرضوا عن قبول الحق الذي دعوتهم إليه وأردت حكمهم به.
﴿حكم الجاهلية﴾ : هو ما عليه أهل الجاهلية من الأحكام القبلية التي لا تقوم على وحي الله تعالى وإنما على الآراء والأهواء.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى إنزاله التوراة وأن فيها الهدى والنور وذكر الإنجيل وأنه أيضاً فيه الهدى والنور ناسب ذكر القرآن الكريم، فقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾، أي: القرآن ﴿بِالْحَقِّ﴾ متلبساً به لا يفارقه الحق والصدق لخلوه من الزيادة والنقصان حال كونه ﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من
١ أصل الشريعة في اللغة: الطريقة التي يتوصل بها إلى الماء، وهي هنا: ما شرع الله لعباده من الدين الشامل من العقائد والعبادات والأحكام القضائية يتوصل بها إلى سعادة الدارين.
638
الكتب السابقة، ومهيمناً١ عليها حفيظاً حاكماً، فالحق ما أحقه منها والباطل ما أبطله منها. وعليه ﴿فَاحْكُمْ﴾ يا رسولنا بين اليهود والمتحاكمين إليك ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ إليك بقتل القاتل ورجم الزاني لا كما يريد اليهود ﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ في ذلك وترك ما جاءك من الحق، واعلم أنا جعلنا لكل أمة شرعة ومنهاجاً، أي: شرعاً وسبيلاً خاصاً يسلكونه في إسعادهم وإكمالهم، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على شريعة واحدة لا تختلف في قضاياها وأحكامها لفعل، ولكن نوع الشرائع فأوجب وأحل ونهى وحرم في شريعة ولم يفعل ذلك في شريعة أخرى من أجل أن يبتليكم فيما أعطاكم وأنزل عليكم ليتبين المطيع من العاصي والمهتدي من الضال، وعليه فهلم ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ٢﴾ أي: بادروا الأعمال الصالحة، وليجتهد كل واحد أن يكن سابقاً، فإن مرجعكم إليه تعالى ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾، ثم يجزيكم الخير بمثله والشر إن شاء كذلك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية (٤٩) فقد أمر الله تعالى فيها رسوله ونهاه وحذره وأعلمه وندد بأعدائه أمره أن يحكم بين من يتحاكمون إليه بما أنزل عليه من القرآن فقال: ﴿وَأَنِ احْكُمْ٣ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ﴾، ونهاه أن يتبع أهواء اليهود فقال: ﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ وحذره من أن يتبع بعض آرائهم فيترك بعض ما أنزل عليه ولا يعمل به ويعمل بما اقترحوه عليه فقال: ﴿وَاحْذَرْهُمْ٤ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ وأعلمه أن اليهود إن تولوا، أي: أعرضوا عن قبول حكمه وهو الحكم الحق العادل فإنما يريد الله تعالى أن ينزل بهم عقوبة نتيجة ما قارفوا من الذنوب، وما ارتكبوا من الخطايا فقال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ٥ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾. وندد بأعدائه حيث أخبر أن أكثرهم فاسقون، أي: عصاة خارجون عن طاعة الله تعالى ورسله، فقال: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾. فسلاه بذلك وهون عليه ما قد يجده
١ فسر: ﴿مهيمنًا﴾ بعال مرتفع عليه وبمؤتمن عليه، ويعود اللفظان إلى ما فسرناه به؛ لأن المرتفع العالي هو الحاكم. والمؤتمن هو الحافظ.
٢ فيه دليل على تقديم الواجبات وعدم تأخيرها لاسيما الصلوات الخمس، وخالف أبو حنيفة في الصلاة، والآية حجة عليه.
٣ هل هذه الآية ناسخة للتخيير السابق، أو لا نسخ ويقدر بعدها جملة –إن شئت- لتقدم ذكر التخيير وما تقدم من توجيه في آية: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾، يحدد معنى هذه الآية.
٤ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن قومًا من الأحبار اجتمعوا، منهم: ابن صوريا، وكعب، وشاس، وقالوا: إذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتوه وقالوا: قد عرفت يا محمد إنا أحبار اليهود وإن اتبعناك لم يحالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم حتى نؤمن بك. فأبى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزلت هذه الآية.
٥ وقد أصابهم فأجلوا من الحجاز وقتل بنو قريظة وضربت عليهم الجزية في ديار الإسلام.
639
من ألم تمرد اليهود والمنافقين وإعراضهم عن الحق الذي جاءهم به ودعاهم إليه. هذا ما دلت عليه الآية الثانية، أما الآية الثالثة (٥٠) فقد أنكر تعالى فيها على اليهود طلبهم حكم أهل الجاهلية حيث لا وحي ولا تشريع إلهي وإنما العادات والأهواء والشهوات معرضين عن حكم الكتاب والسنة حيث العدل والرحمة، فقال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ١ يَبْغُون﴾ َ. ثم أخبر تعالى نافياً أن يكون هناك حكم أعدل أو أرحم من حكم الله تعالى للمؤمنين به الموقنين بعدله تعالى ورحمته فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ٢ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ ؟.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الحكم وفي كل القضايا بالكتاب والسنة.
٢- لا يحوز تحكيم أية شريعة أو قانون غير الوحي الإلهي الكتاب والسنة.
٣- التحذير من اتباع أهواء الناس خشية الإضلال عن الحق.
٤- بيان الحكمة من اختلاف الشرائع، وهو الابتلاء.
٥- أكثر المصائب في الدنيا ناتجة عن بعض الذنوب.
٦- حكم الشريعة الإسلامية أحسن الأحكام عدلاً ورحمة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢)
١ {أفحكم﴾ منصوب بيبغون، أي: أيبغون حكم الجاهلية، إذ أهل الجاهلية من العرب يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع. واليهود يقيمون الحدود على الضعفاء والفقراء دون الأقوياء والأغنياء.
٢ الاستفهام إنكاري، أي: ينكر أن يكون هناك حكم أحسن من الله تعالى.
640
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (٥٣) }
شرح الكلمات:
﴿آمَنُوا﴾ : صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
﴿أَوْلِيَاءَ﴾ : لكم توالونهم بالنصرة والمحبة.
﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ : أي: اليهودي ولي أخيه اليهودي، والنصراني ولي أخيه النصراني.
﴿الظَّالِمِينَ﴾ : الذين يوالون أعداء الله ورسوله ويتركون موالاة الله ورسوله والمؤمنين.
﴿مَرَضٌ﴾ : نفاق وشك وشرك.
﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ : أي: في البقاء على موالاتهم، أي: موالاة اليهود والنصارى.
﴿دَائِرَةٌ١﴾ : تدور علينا من جدب، أو انتهاء أمر الإسلام.
﴿بِالْفَتْحِ﴾ : نصر المؤمنين على الكافرين والقضاء لهم بذلك؛ كفتح مكة.
﴿جَهْدَ٢ أَيْمَانِهِمْ﴾ : أقصاها وأبلغها.
﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ : بطلت وفسدت فلم ينتفعوا منها بشيء؛ لأنها ما كانت لله تعالى.
معنى الآيات:
ورد في سبب نزول هذه الآية عن عبادة بن الصامت الأنصاري، وعبد الله بن أبي كان لكل منهما حلفاء من يهود المدينة، ولما انتصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون في بدر اغتاظ اليهود وأعلنوا سوء نياتهم فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفائه ورضي بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وأبي بن أبي، ذلك وقال بعض ما جاء في هذه الآيات فأنزل الله تعالى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ أي: لكم من دون المؤمنين، وقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ
١ الدائرة: اسم فاعل من دار يدو فهو دائر، إذا عكس سيره فالدائرة تغير الحال، وغلبت في الخير والشر، أي: من خير إلى شر. ودوائر الدهر: نوبه ودوله.
٢ حقيقة الجهد: التعب والمشقة، ومنتهى الطاقة، والمراد به في الآية: آكد الإيمان وأغلظها، وفعل الجهد: جهد؛ كمنع يجهد كيمنع جهداً كمنع.
641
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} تعليل لتحريم موالاتهم١، لأن اليهودي ولي لليهودي والنصراني ولي للنصراني على المسلمين فكيف تجوز إذاً موالاتهم، وكيف يصدقون أيضاً فيها فهل من المعقول أن يحبك النصراني ويكره أخاه، وهل ينصرك على أخيه؟ وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ﴾ أي: أيها المؤمنون ﴿فَإِنَّهُ مِنْهُمْ٢﴾. لأنه بحكم موالاتهم سيكون حرباً على الله ورسوله والمؤمنين، وبذلك يصبح منهم قطعاً وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ جملة تعليلية تفيد أن من والى اليهود والنصارى من المؤمنين أصبح مثلهم فيحرم هداية الله تعالى لأن الله لا يهدي القوم الظالمين. والظلم وضع الشيء في غير محله، وهذا الموالي لليهود قد ظلم بوضع الموالاة في غير محلها حيث عادى الله ورسوله والمؤمنين ووالى اليهود والنصارى أعداء الله ورسوله والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية (٥٢) فقد تضمنت بعض ما قال ابن أبي مبرراً موقفه المخزي وهو الإبقاء على موالاته لليهود، إذ قال تعالى لرسوله وهو يخبره بحالهم: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ كابن أبي، والمرض مرض النفاق ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ أي: في موالاتهم ولم يقل يسارعون إليهم لأنهم ما خرجوا من دائرة موالاتهم حتى يعودوا إليها بل هم في داخلها يسارعون، يقولون كالمعتذرين ﴿نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ من تقلب الأحوال فنجد أنفسنا مع أحلافنا ننتفع بهم. وقوله تعالى: ﴿فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾ وعسى من الله تعبد تحقيق الوقوع، فهي بشرى لرسول الله والمؤمنين بقرب النصر والفتح٣ ﴿أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِه٤ فَيُصْبِحُوا﴾ أي: أولئك الموالون لليهود ﴿عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من النفاق وبغض المؤمنين وحب الكافرين ﴿نَادِمِينَ﴾ حيث لا ينفعهم ندم. هذا ما تضمنته الآية الثانية، أما الآية الثالثة (٥٣) وهي قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عندما يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيه نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين، ويصبح المنافقون نادمين، يقول المؤمنون مشيرين إلى المنافقين: ﴿أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِالله﴾ أغلظ الإيمان ﴿إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ لأنها لم تكن لله ﴿فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾.
١ الموالاة حقيقتها: المودة والنصرة، فمن والى اليهود والنصارى فأحبهم ونصرهم على المسلمين لازمه أن أبغض المؤمنين وخذلهم، وبهذا يصبح كافرًا.
٢ هذا الحكم باقٍ إلى يوم القيامة، وهو حرمة موالاة الكافرين، ومن والاهم تحرم موالاته كما تحرم موالاتهم ووجبت له النار كما وجبت لهم.
٣ قال ابن عباس رضي الله عنهما: أتى الله بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريضة، وسبيت ذراريهم، وأجلى بنو النضير.
٤ فسر الحسن قوله تعالى: ﴿أو أمر منْ عِنده﴾ بأنه إظهار أمر المنافقين والإخبار بأسمائهم، والأمر بقتلهم، وهو تفسير عظيم عليه نور.
642
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة موالاة اليهود والنصارى١ وسائر الكافرين.
٢- موالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإسلام.
٣- موالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان، فلذا تؤدى إلى الكفر.
٤- عاقبة النفاق سيئة ونهاية الكفر مريرة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿مَنْ يَرْتَدَّ٢﴾ : أي: يرجع إلى الكفر بعد إيمانه.
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ : أرقاء عليهم رحماء بهم.
﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ٣﴾ : أشداء غلاظ عليهم.
﴿لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ : عذل عاذل.
﴿حِزْبَ اللهِ﴾ : أنصار الله تعالى.
١ لا يعد موالاة استعمال اليهودي أو النصراني في عمل تجاري أو عمراني أو مهني، إذا دعت الحاجة إليه، ولا يصح اسبتطانهم ولا الاستعانة بهم في الجهاد.
٢ قرئ: ﴿يرتد﴾ بالفتح وهي قراءة أهل المدينة والشام.
٣ قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد، والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار؛ كالسبع على فريسته.
643
معنى الآيات:
هذه الآية الكريمة (٥٤) :﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ تضمنت خبراً من أخبار الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق ما أخبر به فتكون آية أنه كلام الله حقاً وأن المنزل على رسوله صدقاً، فقد أخبر تعالى أنه من يرتد من المؤمنين سوف يأتي الله عز وجل بخير منه ممن يحبون الله ويحبهم الله تعالى رحماء بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لوم من يلوم، ولا عتاب من يعتب عليهم. وما إن مات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ارتد فئات١ من أجلاف العراف ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر مع الصحابة رضوان الله عليهم حتى أخضعوهم للإسلام وحسن إسلامهم فكان أبو بكر وأصحابه ممن وصف الله تعالى يحبون الله ويحبهم الله يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم، وقد روي بل وصح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت هذه الآية وتلاها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو موسى الأشعري أمامه فأشار إليه وقال قوم هذا، وفعلاً بعد وفاة الرسول جاء الأشعريون وظهرت الآية وتمت المعجزة وصدق الله العظيم. وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ﴾ الإشارة إلى ما أولى٢ أولئك المؤمنين من أبي بكر الصديق والصحابة والأشعريين من تلك الصفات الجليلة من حب الله والرقة والرأفة على المؤمنين والشدة على الكافرين، والجهاد في سبيل الله، وقوله تعالى: ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي: واسع الفضل عليم بمن يستحقه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الثانية٣ (٥٥) فقد تضمنت طمأنة الرب تعالى لعباده بن الصامت وعبد الله بن سلام ومن تبرأ من حلف اليهود ووالى الله ورسوله فأخبرهم تعالى أنه هو وليهم ورسوله والذين آمنوا ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ٤﴾ أي: خاشعون متطامنون، وأما ولاية اليهود والنصارى فلا خير لهم فيها وهم منها براء فقصرهم تعالى على ولايته وولاية رسوله والمؤمنين الصادقين، وفي الآية الثالثة أخبرهم تعالى أن من يتول الله ورسوله والذين آمنوا ينصره الله ويكفه ما يهمه، لأنه أصبح من حزب الله، وحزب الله أي أولياؤه وأنصاره هم الغالبون، هذا ما دلت عليه الآية الكريمة وهي قوله
١ قال ابن إسحاق لما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب إلى ثلاثة مساجد: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثي. جؤاثي: اسم حصن بالبحرين، وكان المرتدون على قسمين: قسم منعوا الزكاة واعترفوا بباقي الشريعة، وقسم نبذوا الشريعة.
٢ أي: ما وهبهم وأعطاهم من الصفات الحميدة الجليلة.
٣ هي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا... ﴾ إلخ.
٤ يروى أن عليًا رضي الله عنه كان يصلي نافلة في المسجد فسأله أحد فرمى إليه بالخاتم وهو يصلي فاستدل الفقهاء بهذا أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة.
644
تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ١ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إخبار القرآن الكريم بالغيب وصدقه في ذلك فكان آية أنه كلام الله.
٢- فضيلة أبي بكر والصحابة والأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم من أهل اليمن.
٣- فضل حب الله والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين، وفضل الجهاد في سبيل الله وقول الحق والثبات عليه وعدم المبالاة بمن يلوم ويعذل في ذلك.
٤- فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع.
٥- ولاية الله ورسوله والمؤمنين الصادقين توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ٢ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٦٠) ﴾
١ الحزب: الصنف من الناس، وأصله من النائبة مأخوذ من قولهم: حزبه كذا، أي: نابه؛ كأن المحتزبين مجتمعون اجتماع أهل النائبة عليها.
٢ روى أنه لما نزلت أية: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ... ﴾ إلخ. قال المسلمون لهم يا أخوة القردة والخنازير نكسوا رؤسهم افتضاحا، وفيهم يقول الشاعر:
فلعنة الله على اليهود...
إن اليهود أخوة القرود
645
شرح الكلمات:
﴿هُزُواً وَلَعِباً﴾ : الهزء: ما يُهزأ به ويسخر منه. واللعب: ما يعلب به.
﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ : هم اليهود في هذا السياق.
﴿وَالْكُفَّارَ﴾ : المشركون.
﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ : أذنتم بها.
﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ : أي: ما تنقمون منا، ومعنى تنقمون هنا تنكرون منا وتعيبون علينا.
﴿مَثُوبَةً﴾ : جزاء.
﴿فَاسِقُونَ﴾ : خارجون عن طاعة الله تعالى بالكفر والمعاصي.
﴿الْقِرَدَةَ﴾ : جمع قرد حيوان معروف مجبول على التقليد والمحاكاة.
﴿وَالْخَنَازِيرَ﴾ : جمع خنزير حيوان خبيث معروف محرم الأكل.
﴿شَرٌّ مَكَاناً﴾ : أي: منزلة يوم القيامة في نار جهنم.
معنى الآيات:
مازال السياق في تحذير المؤمنين من موالاة اليهود وأعداء الله ورسوله، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً ﴿لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ﴾ الإسلامي ﴿هُزُواً﴾ شيئاً يهزءون به، ولعباً، أي: شيئاً يلعبون به ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني اليهود، والكفار١، وهم المنافقون والمشركون ﴿أولياء﴾ أنصاراً وأحلافاً٢ ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ في ذلك، أي: في اتخاذهم أولياء ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ صادقين في إيمانكم فإن حب الله ورسوله والمؤمنين يتنافى معه حب أعداء الله ورسوله والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٧)، أما الآية الثانية (٥٨) فقد تضمنت إخبار الله تعالى بما يؤكد وجوب معاداة من يتخذ دين المؤمنين هزواً ولعباً وهم أولئك الذين إذا سمعوا الآذان ينادى٣ للصلاة اتخذوه هزواً ولعباً، فهذا يقول ما هذا الصوت وآخر يقول
١ قرئ: والكفار بالجر، وقرئ: بالنصب، قال مكي: لولا اتفاق الجماعة على قراءة النصب لاخترت قراءة الجر لقوته في الإعراب، وفي التفسير والقرب من المعطوف عليه.
٢ هذه الآية فيها دليل على عدم جواز التأييد والاستنصار بالمشركين، وقد روي عن جابر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود فقالوا: نسير معك. فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنا لا نستعين على أمرنا بالمشركين".
٣ لم يكن بمكة الآذان وإنما كان ينادي للصلاة باللفظ: "الصلاة جامعة" ولما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالآذان، وبقيت: "الصلاة جامعة" والأمر بعرض، ولما همهم أمر الآذان رأى عبد الله بن زيد الأنصاري الآذان في المنام، وكذا رآه عمر.
646
هذا نهيق حمار، قبح الله قولهم وأقمأهم. فقال تعالى عنهم: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ١ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾. حقاً إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء إلى الصلاة من أطيب ما يسمع العقلاء لأنه نداء إلى الطهر والصفاء وإلى الخير والمحبة والألفة، نداء إلى ذكر الله وعبادته، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم: ﴿لا يَعْقِلُونَ﴾ شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية، أما الآية الثالثة (٥٩) فقد تضمنت تعليم الله تعالى لرسوله أن يقول لأولئك اليهود والكفرة الفجرة: يا أهل الكتاب إنكم بمعاداتكم لنا وحربكم علنيا ما تنقمون منا أي ما تكرهون منا ولا تعيبون علينا إلا إيماننا بالله وما أنزل علينا من هذا القرآن الكريم وما أنزل من قبل من التوراة والإنجيل، وكون أكثركم فاسقين فهل مثل هذا ينكر من صاحبه ويعاب عليه؟ اللهم لا، ولكنكم قوم لا تعقلون، هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾، أما الآية الرابعة في هذا السياق (٦٠) فقد تضمنت تعليم الله لرسوله كيف يرد على أولئك اليهود إخوان القردة والخنازير قولهم: لا نعلم ديناً شراً من دينكم، وذلك أنهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بمن تؤمن؟ فقال: أؤمن بالله وبما أنزل إلينا وما أنزل على موسى وما أنزل على عيسى، فلما قال هذا، قالوا: لا نعلم ديناً شراً من دينكم بغضاً لعيسى عليه السلام وكرهاً له، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً﴾ أي: ثواباً وجزاء ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ أنه ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ إذ مسخ طائفة منهم قردة، وأخرى خنازير على عهد داود عليه السلام، وقوله: ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ٢﴾ أي: وجعل منهم من عبد الطاغوت وهو الشيطان، وذلك بطاعته والانقياد لما يجلبه عليه ويزينه له من الشر والفساد، إنه أنتم يا معشر يهود، إنكم لشر مكاناً يوم القيامة وأضل سبيلاً اليوم في هذه الحياة الدنيا.
١ الآذان فرض في المدن والقرى، وسن لجماعة تطلب غيرها ومستحب لمن لا يطلب غيره، والسفر والحضر سواء إلا أنه في السفر أعظم أجرًا لحديث الموطأ: "لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة". وهذا الثواب عام لمن أذن في السفر والحضر والإقامة سنة مؤكدة لكل صلاة، ومن أذن أقام ولو أقام غير المؤذن جازت.
٢ قرئ: هذا اللفظ: ﴿عبد الطاغوت﴾ بعدة قراءات، منها: ﴿عبد﴾ اسما؛ كفضل، و ﴿عبد الطاغوت﴾ أي: جمع عبد، وعبد الطاغوت: جمع عابد؛ كشاهد وشهد.
647
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء لا سيما أهل الظلم منهم.
٢- سوء أخلاق اليهود وفساد عقولهم.
٣- شعور اليهود بفسقهم وبعد ضلالهم جعلهم يعملون على إضلال المسلمين.
٤- تقرير وجود مسخ في اليهود قردة وخنازير.
٥- اليهود شر الناس مكاناً يوم القيامة، وأضل الناس في هذه الدنيا.
﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يَكْتُمُونَ﴾ : أي: يضمرون في نفوسهم ويخفونه فيها.
﴿فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ : الإثم: كل ضار وفاسد وهو ما حرمه الله تعالى من اعتقاد أو قول أو عمل، والعدوان، والعدوان: الظلم.
﴿السُّحْتَ﴾ : المال الحرام؛ كالرشوة والربا، وما يأخذونه من مال مقابل تحريف الكلم وتأويله.
﴿الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ﴾ : الربانيون هنا العباد المربون؛ كمشايخ١ التصوف عندنا. والأحبار: العلماء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في فضح اليهود وبيان خبثهم زيادة في التنفير من موالاتهم فأخبر
١ مشايخ الطرق –والحق يقال- لقد ربوا كثيرًا من الجهال على الإيمان والتقوى ولكن لعدم علمهم بالكتاب والسنة ضلوا وأضلوا في المجالات كثيرة، وخاصة في العقيدة. لذا لا يجوز إقرارهم ولا التربي على أيديهم.
648
تعالى في الآية الأولى عن منافقيهم فقال: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ١﴾ يريد: غشوكم في مجالسكم، ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ وما آمنوا ولكنهم ينافقون لا غير فقد دخلوا بالكفر٢ في قلوبهم وخرجوا به، ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾ من الكفر والكيد لكم. هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى (٦١) ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾، وأما الآية الثانية (٦٢) فقد أخبر تعالى رسوله أنهم لكثرة ما يرتكبون من الذنوب ويغشون من المعاصي ترى كثيراً منهم٣ يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت علناً لا يستترون به ولا يخفونه ثم ذمهم الله تعالى ذلك وقبح فعلهم فقال: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وفي الآية الأخيرة: أنكر على عبادهم وعلمائهم سكوتهم عن جرائم عوامهم ورضوا بها مصانعة لهم ومداهنة، فقال تعالى: ﴿لَوْلا يَنْهَاهُمُ٤ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ﴾ أي: لم لا ينهونهم عن قولهم الإثم، أي: الكذب، وأكلهم السحت. الرشوة والربا، ثم ذم تعالى سكوت العلماء عنهم بقوله: ﴿لَبِئْسَ٥ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ أي: وعزتي وجلالي لبئس صنيع هؤلاء من صنيع حيث أصبح السكوت المتعمد لمنافع خاصة يحصلون عليها صنعة لهم أتقنوها وحذقوها. والعياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجود منافقين من اليهود على عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة.
٢- بيان استهتار اليهود وعدم مبالاتهم بارتكابهم الجرائم علانية.
٣- قبح سكوت العلماء على المنكر وإغضائهم على فاعليه، ولذا قال كثير من السلف في هذه الآية أشد آية وأخطرها على العلماء.
١ هذا الآيات معطوفة على قوله تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ السابقة، وخص بهذه الصفات: منافقوا اليهود، وهم من جملة: من اتخذوا الدين هزوا ولعبا.
٢ أي: أنهم ما أمنوا قط، ولم يخالط الإيمان قلوبهم طرفة عين، فهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين.
٣ الرؤيا هنا: بصرية، والخطاب عام لكل من يسمع ويرى، والمعنى: أن حالهم لا تخفى على أحد ذي بصر.
٤ قال ابن عباس رضي الله عنه: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية. ﴿لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾، والآية وإن نزلت في يهود المدينة، فقد ذكرت النصارى لأن حالهم سواء. والآية تنطبق اليوم على علماء المسلمين حيث تركوا الأمر والنهي، والعياذ بالله تعالى من عاقبة ذلك. فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده". الترمذي وصححه. ولولا هنا: أداة تحظيظ، والمراد: توبيخ علماؤهم وعابديهم على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٥ قال الزجاج: اللام في قوله تعالى: ﴿لبئس﴾ للقسم والتأكيد.
649
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ١﴾ : يريدون أنه تعالى ضيق عليهم الرزق ولم يوسع عليهم.
﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ : دعاء عليهم بأن يحرموا الإنفاق في الخير وفيما ينفعهم.
﴿وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ : طردوا من رحمة الله بسبب وصفهم الرب تعالى بالبخل.
﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ : لا كما قالوا لعنهم الله: يد الله مغلولة، أي: ممسكة عن الإنفاق.
﴿طُغْيَاناً﴾ : تجاوزاً لحد الاعتدال في قولهم الكاذب وعملهم الفاسد.
﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ﴾ : أي: بين اليهود والنصارى.
﴿أَوْقَدُوا نَاراً﴾ : أي: نار الفتنة والتحريش والإغراء والعداوات للحرب.
١ القائل: فنحاص اليهودي عليه لعائن الله وهو يعنى: بمغلولة: بخيلة لا تنفق، وهو كاذب، بل يمين الله ملأى لا يغيظها نفقة سحاء الليل والنهار: "أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه" حديث الشيخين.
650
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَاب﴾ ِ: اليهود والنصارى.
﴿مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ : كناية عن بسط الرزق عليهم.
﴿أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ : معتدلة لا غالبة مفرطة، ولا جافية مفرطة.
معنى الآيات:
يحبر تعالى عن كفر اليهود وجرأتهم على الله تعالى بباطل القول وسيء العمل، فيقول: ﴿وَقَالَتِ١ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾ يريدون أنه تعالى أمسك عنهم الرزق وضيقه عليهم، فرد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ هو دعاء عليهم بأن لا يوفقوا للإنفاق فيما ينفعهم ﴿ولعنوا بما قالوا﴾. ولعنهم تعالى ولعنهم كل صالح في الأرض والسماء بسبب قولهم الخبيث الفاسد. وأكذبهم تعالى في قولهم ﴿يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾ فقال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ كما قال عنه رسوله في الصحيح: "يمين الله سحاء٢ تنفق الليل والنهار" ثم أخبر تعالى نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليسله ويخفف عنه ما يجد في نفسه من جراء كفر اليهود وخبثهم فقال: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ﴾ أي: من اليهود ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ من الآيات التي تبين خبثهم وتكشف النقاب عن سوء أفعالهم المخزية لهم. ﴿طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ أي: إبعاداً في الظلم والشر وكفراً بتكذيبك وتكذيب ما أنزل إليك وذلك دفعاً للحق ليبرروا باطلهم وما هم عليه من الاعتقاد الفاسد والعمل السيء، ثم أخبر تعالى رسوله بتدبيره فيهم انتقاماً منهم فقال عز وجل من قائل: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ٣ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي: أن العداوة بين اليهود والنصارى لا تنتهي إلى يوم القيامة، ثم أخبر عن اليهود أنهم ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ﴾ وذلك بالتحريش بين الأفراد والجماعات وحتى الشعوب والأمم، وبالإغراء، وقالة السوء، ﴿أَطْفَأَهَا الله﴾ تعالى فلم يفلحوا فيما أرادوه، وقد أذلهم الله على يد رسوله والمؤمنين وأخزاهم وعن دار الإيمان أجلاهم وأخبر تعالى أنهم يسعون دائماً وأبداً في الأرض بالفساد، فلذا أبغضهم الله وغضب عليهم، لأنه تعالى لا يحب المفسدين، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٤)، أما الآية الثانية (٦٥) وهي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ من يهود ونصارى ﴿آمَنُوا﴾ بالله ورسوله وبما
١ إنه وإن القائل: فنحاص بن عازوراء فإن رضي اليهود بمقالته سلكهم في سلكه واعتبروا كلهم قائلون، إذ الرضى بالكفر كفر.
٢ هذا اللفظ معنى للحديث لا لفظه، وقد تقدم قريبًا لفظه كما في الصحيحين.
٣ الكلام صالح لأن يكون: ﴿بينهم﴾ المراد بهم اليهود أنفسهم كقوله تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾، وأن يكون المراد بين اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم معًا في قوله تعالى: ﴿لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾، والواقع شاهد.
651
جاء من الدين الحق وعملوا به، ﴿وَاتَّقَوْا﴾ الكفر والشرك وكبائر الذنوب الفواحش، لكفر الله عنهم سيئآتهم فلم يؤاخذهم ولم يفضحهم بها ولأدخلهم جنات النعيم. وهذا وعد الله تعالى اليهود والنصارى فلو أنهم آمنوا واتقوا لأنجزه لهم قطعاً. وهو لا يخلف الميعاد.
أما الآية الأخيرة (٦٦) في هذا السياق فهي تتضمن وعداً إلهياً آخر وهو أن اليهود والنصارى لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ومن ذلك القرآن الكريم، ومعنى أقاموا ذلك آمنوا بالعقائد الصحيحة الواردة في تلك الكتب وعملوا بالشرائع السليمة والآداب الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تضمنتها تلك الكتب لو فعلوا ذلك لبسط الله تعالى عليهم الرزق وأسبغ عليهم النعم ولأصبحوا في خيرات وبركات تحوطهم من كل جانب هذا ما وعدهم الله به. ثم أخبر تعالى عن واقعهم المرير فقال: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ لم تغل ولم تحف فلم تقل في عيسى أنه ابن الله ولا هو ابن زنى، ولكن قالت عبد الله ورسوله، ولذا لما جاء النبي الأمي بشارة عيسى١ عليه السلام آمنوا به وصدقوا بما جاء به من الهدى والدين الحق وهم عبد الله بن سلام وبعض اليهود، والنجاشي من النصارى وخلق كثير لا يحصون عداً. وكثير من أهل الكتاب ساء٢، أي: قبح ما يعلمون من أعمال الكفر والشرك والشر والفساد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- أقبح وصف الله تعالى بما لا يليق بجلاله وكماله.
٢- ثبوت صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإيمان بها على مراد الله تعالى، وعلى ما يليق بجلاله وكماله.
٣- تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء٣ وهو من تدبير الله تعالى.
٤- سعى اليهود الدائم في الفساد في الأرض فقد ضربوا البشرية بالذهب المادي الإلحادي الشيوعي، وضربوها أيضاً بالإباحة ومكائد الماسونية.
١ بشارة عيسى بدل من النبي الأمي، وقلنا: بشارة عيسى؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى عليهم السلام".
٢ أي: بئس: شيء عملوه، إذ كذبوا الرسل وحرفوا الكتب وأكلوا السحت.
٣ وإن قيل: إن التعاون القائم اليوم بين اليهود والنصارى يرد ما في الآية، قلنا: إن اليهود احتالوا على النصارى فضربوهم بالإلحاد، فلما قضي على العقيدة الدينية فيهم أصبحوا سخرة لهم يتحكمون فيهم، وبذلك فرضوا عليهم حبهم وعدم عداوتهم.
652
٥- وعد الله لأهل الكتاب على ما كانوا عليه لو آمنوا واتقوا لأدخلهم الجنة.
٦- وعده تعالى لأهل الكتاب ببسط الرزق وسعته لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، أي: لو أنهم أخذوا بما في التوراة والإنجيل من دعوتهم إلى الإيمان بالنبي الأمي والدخول في الإسلام لحصل لهم ذلك كما حصل للمسلمين طيلة ثلاثة قرون وزيادة. وما زال العرض كما هو١ لكل الأمم والشعوب أيضاً.
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الرَّسُولُ﴾ : ذكر من بني آدم أوحي إليه شرع وأمر بتبليغه وهو هنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ٢﴾ : من التوحيد والشرائع والأحكام.
﴿يَعْصِمُكَ﴾ : يحفظك حفظاً لا يصل إليك معه أحد بسوء.
١ الوعد: هو ما عرضه الله تعالى عليهم، وهو في قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا... ﴾ الآية.
٢ روى مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك أن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئًا من الوحي فقد كذب، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ... ﴾ الآية.
653
﴿فَلا تَأْسَ﴾ : لا تأسف ولا تحزن.
﴿هَادُوا﴾ : اليهود.
﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ : جمع صابئ، وهم فرقة من أهل الكتاب.
معنى الآيات:
في الآية الأولى (٦٧) ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله معظماً له بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ المبجل ليأمره بإبلاغ ما أوحاه إليه من العقائد والشرائع والأحكام فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾. ويقول له: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ﴾ أي: إن قصرت في شيء لم تبلغه لأي اعتبار من الاعتبارات ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ أي: فكأنك لم تبلغ١ شيئاً، وقوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ٢ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: يمنعك من أن يمسوك بشيء من الأذى، ولذا فلا عذر لك في ترك إبلاغ أي شيء سواء كان مما يتعلق بأهل الكتاب أو بغيرهم، ولذا فلم يكتم رسول الله شيئاَ مما أمر بإبلاغه البتة. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ تقرير لوعده تعالى بعصمة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ هو تعالى لا يوفق الكافرين لما يريدون ويرغبون فيه من أذية رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما نزلت هذه الآية قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تحرسوني فإن الله قد عصمني" هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية (٦٨) وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ ٣ رَبِّكُمْ﴾ لقد تقدم هذا السياق وأعيد هنا تقريراً له وتأكيداً وهو إعلام من الله تعالى أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء من الدين الحق ولا من ولاية الله تعالى حتى يقيموا ما أمروا به وما نهوا عنه وما انتدبوا إليه من الخيرات والصالحات مما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن أيضاً. وقوله تعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ هذا إخبار من الله تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن كثيراً من اليهود والنصارى يزيدهم ما يوحي الله تعالى إلى رسوله وما ينزله عليه في كتابه من أخبار
١ في الآية رد على الرافضة القائلين: بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئًا مما أمر بإبلاغه تقية وكذبوا ورب الكعبة قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: لو كان في إمكان الرسول أن يكتم شيئًا لكتم: ﴿عَبَسَ وَتَولّى﴾ إذ هي عتاب له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢ روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدمه المدينة ليلة فقال: " ليت رجلاً صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينما كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: "من هذا" قال سعد بن أبي وقاص. فقال له: "ما جاء بك" فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجئت أحرسه. فدعا له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم انصرف ونزلت هذه الآية.
٣ قال ابن عباس رضي الله عنهما: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: ألست تقر أن التوراة حق من عند الله. قال: "بلى" فقالوا: إنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها. فنزلت الآية: ﴿لستم على شيء... ﴾ إلخ.
654
أهل الكتاب مما هو بيان لذنوبهم وضلالهم. ومما هو أمر لهم بالإيمان بالنبي الأمي واتباعه على الدين الحق الذي ارسل به يزيدهم ذلك طغياناً، أي: علواً وعتواً وكفراً فوق كفرهم. ولذا فلا تأس، أي: لا تحزن١ على عدم إيمانهم بك وبما جئت به لأنهم قوم كافرون. أما الآية الثالثة (٦٩) وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ٢ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ٣ وَالنَّصَارَى﴾ فالذين آمنوا هم المسلمون، واليهود والنصارى والصابئون وهم فرقة منهم هم أهل الكتاب فجميع هذه الطوائف من آمن منهم الإيمان الحق بالله وباليوم الآخر وأتى بلازم الإيمان وهو التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي أفعالاً وتروكاً فلا خوف عليه في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة ولا حزن يلحقه في الحيوات الثلاث وعد الله حقاً ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً﴾ !.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب البلاغ على الرسل ونهوض رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الواجب على أكمل وجه وأتمه.
٢- عصمة الرسول المطلقة.
٣- كفر أهل الكتاب إلا من آمن منهم بالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبع ما جاء به من الدين الحق.
٤- أهل العناد والمكابرة لا تزيدهم الأدلة والبراهين إلا عتواً ونفوراً وطغياناً وكفراً.
٥- العبرة بالإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي لا بالإنتساب إلى دين من الأديان.
﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا
١ في هذا الإرشاد الإلهي تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس بنهي عن الحزن إذ لا يقدر المرء على دفع الحزن وإنما يقدر على ترك مثيراته، فإنه متى ترك العرض لها لم يوجد في نفسه حزن.
٢ في ذكر المؤمنين، وهم: المسلمون، مع اليهود، والصائبين، والنصارى، إشارة أبلغ من عبارة، وهي: أن العبرة ليست بالأنساب ولا الانتساب ولا بزمان أو مكان. وإنما النجاة من النار ودخول الجنة متوقفان على الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر والعمل الصالح الذي جاء به كتاب الله ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣ اختلف في إعراب {والصابئون﴾ على أقوال نكتفي بقول منها: وهو أن تكون مبتدأ وخبرها محذوف تقديره: والصابئون كذلك على حد قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
أي: كذلك، وتقدير الكلام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والصابئون كذلك.
655
لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢) }
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
﴿بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ﴾ : بما لا يحبونه ولا تميل إليه أنفسهم المريضة.
﴿فَرِيقاً كَذَّبُوا﴾ : أي: كذبوا طائفة من الرسل وقتلوا طائفة أخرى.
﴿أَلا١ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ : أي: أن لا يبتلوا بذنوبهم بالشدائد والمحن.
﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ : عموا عن العبر، وصموا عن سماع المواعظ.
﴿مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ﴾ : أي: يشرك بالله غيره تعالى من سائر الكائنات فيعبده مع الله بأي نوع من أنواع العبادات.
﴿حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾ : حكم بمنعه من دخولها أبداً إلا أن يتوب من الشرك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب فقد أقسم تعالى على أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، وذلك في التوراة بأن يعبدوا الله وحده بما شرع لهم فيطيعوه في أمره ونهيه وأرسل
١ إن: هي المخففة من الثقيلة، وحسبانهم ذلك هو الذي جعلهم يواصلون جرائمهم، ولم يرتدعوا عنها.
656
إليهم رسله١ تترا كلما جاءهم٢ رسول بما لا يوافق أهواءهم٣ كذبوه فيما جاءهم به ودعاهم إليه. أو قتلوه. وحسبوا أن لا يؤاخذوا بذنوبهم فعموا عن الحق صموا عن سماع المواعظ فابتلاهم ربهم وسلط عليهم من سامهم سوء العذاب، ثم تاب الله عليهم فتابوا واستقام أمرهم وصلحت أحوالهم ثم عموا وصموا مرة أخرى إلا قليلاً منهم فسلط عليهم من سامهم٤ سوء العذاب أيضاً، وهاهم أولاء في عمى وصمم والله بصير بما يعملون وسوف ينزل بهم بأساه إن لم يتوبوا فيؤمنوا بالله ورسوله ويدينوا بالدين الحق الذي هو الإسلام.
هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية (٧٠-٧١)، أما الآية الثالثة (٧٢) وهو قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ٥ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ٦ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ فقد أخبر تعالى مقرراً حكمه بالكفر على من افترى عليه وعلى رسوله فادعى أن الله جل جلاله وعظم سلطانه هو المسيح بن مريم تعالى الله أن يكون عبداً من عباده، وحاشا عيسى عبد الله ورسوله أن يرضى أن يقال له أنت الله. وكيف وهو القائل: ﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ فهل مثل هذا القول يصدر عمن يدعي أنه الله أو ابن الله؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان تاريخ بني إسرائيل، والكشف عن مختبئات جرائمهم من الكفر والقتل.
٢- إكرام الله تعالى لبني إسرائيل ولطفه بهم مع تمردهم عليه ورفض ميثاقه وقتل أنبيائه وتكذيبهم، والمكر بهم.
١ كموسى، وهارون، ومن جاء بعدهم، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحي، وعيسى عليهم السلام.
٢ كلما: نصبت على الظرفية، وهي لاستغراق الزمان الذي أتت فيه الرسل وأشربت معنى الشرطية، فكان العامل فيها بمنزلة الجواب.
٣ ﴿أهوائهم﴾ جمع: هوى، وهو المحبوب، وفعله: هوي يهوى؛ كرضي يرضى، إذا أحب ومالته نفسه إلى ملابسة شيء.
٤ إشارة إلى تاريخ بني إسرائيل، فقد استقام أمرهم وقامت دولتهم في فلسطين على عهد يوشع بن نون فتى موسى، ثم دالت دولتهم بجرائمهم على عهد البابليين ثم اجتمعت كلمتهم وقامت دولتهم على عهد داود وسليمان، ثم دالت دولتهم بجرائمهم التي نعاها الله تعالى عليهم في هذه الآية على يد الرومان.
٥ هذا استئناف ابتدائي لابطال باطل النصارى بعد إبطال باطل اليهود، فالمناسبة جد قوية لأنهما خصم الإسلام والمسلمين.
٦ هذا قول اليعقوبية، وهم: فرقة من النصارى، لأنهم قالوا: باتحاد الابن والأب؛ فكأن المسيح هو الله في اعتقادهم الباطل الفاسد.
657
٣- تقرير كفر النصارى بقولهم المسيح هو الله.
٤- تقرير عبودية عيسى عليه السلام لربه تعالى.
٥- تحريم الجنة على من لقي ربه وهو يشرك به سواه.
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿ثَالِثُ ثَلاثَةٍ١﴾ : الثلاثة: هي الأب والابن وروح القدس: وكلها إله واحد.
﴿خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ : مضت قبله رسل كثيرون.
﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ : أي: مريم كانت صديقة كثيرة الصدق في قولها وعملها.
﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ : أي: كيف يصرفون عن الحق وقد ظهر واضحاً.
معنى الآيات
مازال السياق في بيان كفر النصارى، ففي السياق الأول ورد كفر من قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، وفي هذا السياق كفر من قالوا إن الله ثالث ثلاثة، إذ قال تعالى في هذه
١ أي: أحد ثلاثة، وهو قول الملكانية، والنصطورية، واليعقوبية، ولا يقولون: ثلاثة آلهة، ويتمنعون من ذلك، وهو لازمهم.
658
الآية (٧٣) ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ يعنون الأب والابن وروح القدس، وبعضهم يقول الأب والابن والأم، والثلاثة إله واحد فأكذبهم تعالى في قيلهم هذا، فقال رداً باطلهم، ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي: وليس الأمر كما يكذبون، وإنما الله إله واحد، وأما جبريل فأحد ملائكته، وعيسى عبده ورسوله، ومريم أمته، فالكل عبد الله وحده الذي لا إله غيره ولا رب سواه. ثم قال تعالى متوعداً هؤلاء الكفرة الكذبة: ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا١ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، فأقسم تعالى أنهم إن لم ينتهوا عن قولهم الباطل وهو كفر ليمسنهم عذاب أليم موجع غاية الإيجاع. ثم لكمال رحمته عز وجل دعاهم في الآية الثانية (٧٤) إلى التوبة ليتوب عليهم ويغفر لهم وهو الغفور الرحيم، فقال عز وجل: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ﴾ بترك هذا الكفر والباطل ويستغفرون الله منه، والله غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين، وفي الآية الثالثة (٧٥) أخبر تعالى معلماً رسوله الاحتجاج على باطل النصارى، فقال: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ٢﴾ فلم يكن رباً ولا إلهاً وإنما هو رسول مفضل قد خلت من قبله رسل مفضلون كثيرون وأمه مريم لم تكن أيضاً إلهاً كما يزعمون، وإنما هي امرأة من نساء بني إسرائيل صديقة٣ كثيرة الصدق في حياتها لا تعرف الكذب ولا الباطل وأنها وولدها عيسى عليهما السلام بشران كسائر البشر يدل على ذلك أنهما يأكلان الطعام٤ احتياجاً إليه لأن بنيتهما لا تقوم إلا عليه فهل أكل الطعام افتقاراً إليه، ثم يفرز فضلاته، يصلح أن يكون إلهاً. اللهم لا. وهنا قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انظر يا رسولنا كيف نبين لهم الآيات الدالة بوضوح على بطلان كفرهم، ثم انظر كيف يؤفكون٥ عن الحق، أي: كيف يصرفون عنه وهو واضح بين. وفي الآية الأخيرة (٧٦) أمر رسوله أن يقول لأولئك المأفوكين عن الحق المصروفين عن دلائله لا ينظرون فيها أمره أن يقول لهم موبخاً لهم: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
١ الآية نص في أن من يقول بقول النصارى كافر مستوجب للعذاب الأليم.
٢ فيه قصر موصوف على صفة أي، قصر عيسى على الرسالة لا يتجاوزها إلى الألوهية، ولذا فهو قصر قلب لرد اعتقاد النصارى في أنه الله.
٣ صديقة: كثيرة الصدق في قولها وعملها، وفي تصديقها بآيات ربها، وفي تصديقها لابنها، وقد ناداها ساعة ولادته وفي رضاعه، وهل هي مع الصديقية نبية؟ في نداء الملائكة لها ما يرجح نبوتها، والله أعلم.
٤ إن من يأكل الطعام وولدته امرأة كيف لا يكون مخلوقًا مربوبًا محدثًا كسائر المخلوقين لم يستطع دفع هذا نصراني مهما أوتى من العلم إلى أنهم يهربون من مواجهة الحق فيقولون تضليلاً لعقولهم وخداعًا لنفوسهم إنه يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته، ومعناه: أن الإنسان اختلط بالإله، وهذه هي الحلولية الباطلة الفاسدة عقلاً وشرعاً وواقعا.
٥ يقال: أفكه يأفكه أفكًا، إذا صرفه صرفًا، وهو من باب ضرب.
659
اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} وهو عيسى وأمه، وتتركون عبادة من يملك ذلك، وهو الله السميع العليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إبطال التثليث في عقيدة النصارى وتقرير التوحيد.
٢- إبراء عيسى ووالدته عليهما السلام من دعوى الألوهية للناس.
٣- فتح باب التوبة في وجه النصارى لو أنهم يتوبون.
٤- تقرير بشرية عيسى ومريم عليهما السلام بدليل احتياجهما إلى الطعام بنيتهما، ومن كان مفتقراً لا تصح ألوهيته عقلاً وشرعاً.
٥- ذم كل من يعبد غير الله إذ كل الخلائق مفتقرة لا تملك لنفسها ولا لعابدها ضراً ولا نفعاً، لا تسمع دعاء من يدعوها، ولا تعلم عن حاله شيئاً، والله وحده السميع لأقوال كل عباده العليم بسائر أحوالهم وأعمالهم، فهو المعبود بحق وما عداه باطل.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (٨٠)
660
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٨١) }
شرح الكلمات:
﴿لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ١﴾ : الغلو: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه، فمثلاً أمرنا بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين فغسلهما إلى الكتفين غلو، أمرنا بتعظيم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعاؤه غلو في الدين.
﴿أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا﴾ : جمع هوى، وصاحب الهوى هو الذي يعتقد ويقول ويعمل بما يهواه لا بما قامت به الحجة وأقره الدليل من دين الله تعالى.
﴿وَأَضَلُّوا كَثِيراً﴾ : أي: أضلوا عدداً كثيراً من الناس بأهوائهم وأباطيلهم.
﴿عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ٢﴾ : سواء السبيل: وسط الطريق العدل لا ميل فيه إلى يمين ولا إلى يسار.
﴿لُعِنَ﴾ : دعى عليهم باللعنة التي هي الإبعاد من الخير والرحمة وموجباتها.
﴿بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ : أي: بسبب عصيانهم لرسلهم، واعتدائهم في دينهم.
﴿لا يَتَنَاهَوْنَ﴾ : أي: لا نهي بعضهم بعضاً عن ترك المنكر.
﴿لَبِئْسَ٣ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ : قبح عملهم من عمل وهو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
﴿يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ : يوادونهم ويتعاونون معهم دن المؤمنين.
﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ﴾ : أي: لو كانوا صادقين في إيمانهم بالله والنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما اتخذوا المشركين في مكة والمدينة من المنافقين أولياء.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهوداً ونصارى فقال تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ﴾ يا رسولنا: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾، والمراد بهم هنا النصاري: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
١ الغلو: مصدر غلا يغلو غلوًا في الأمر، إذا جاوز حده المعروف.
٢ سواء السبيل هنا المراد به: الإسلام؛ لأنهم ضلوا في دينهم قبل مجيء الإسلام ثم ضلوا عن الإسلام بعد مجيئه.
٣ اللام: لام القسم، جيئ بها لتدل عليه، وتؤكد الذم بصورة فظيعة.
661
غَيْرَ الْحَقِّ}، أي: لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم، فتبتدعون البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها، التشدد محمود في الحق الذي أمر الله به اعتقاداً وقولاً وعملاً لا في المحدثات الباطلة، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وهم اليهود، إذ قالوا في عيسى وأمه بأهوائهم فقالوا في عيسى ساحر، وقالوا في أمه بغي وأضلوا كثيراً من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم، وضلوا، أي: وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم. هذا ما تضمنته الآية الأولى (٧٧)، أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية أن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور، وعلى لسان عيسى بن مريم في الإنجيل وعلى لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القرآن فقال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ١ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ﴾. فقد مسخ منهم طائفة قردة، ﴿وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ حيث مسخ منهم خنازير كما لعنوا على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير آية من القرآن الكريم، وهذا اللعن هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة سببه ما ذكر تعالى بقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾. أي: بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل المحرمات، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم: وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال: ﴿كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ٢ فَعَلُوهُ﴾. أي: كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده". فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوبهم بعضهم ببعض ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لعن الذين كفروا –إلى قوله- فاسقون". ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على ليد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على الحق أطرأ ولتقسرنه على الحق قسراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم٣" وفي آخر الآية قبح الله تعالى
١ في الآية دليل على جواز لعن الكافر، وإن كان من أولاد الأنبياء، وإن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقه: "قرطبي".
٢ نقل القرطبي عن ابن عطية رحمهما الله تعالى: أن الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وآمن الضرر على نفسه، وعلى غيره من المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر صاحب المنكر ولا يخالطه.
٣ أخرجه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
662
عملهم فقال: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ثم قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ﴾، أي: اليهود في المدينة يتولون الذين كفروا يعني من المشركين والمنافقين في مكة والمدينة يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم، ثم قبح تعالى عملهم فقال: ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى مالا نهاية له فقال تعالى: ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ١ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ لا يخرجون منه أبداً. ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ كما يجب الإيمان به وبالنبي محمد وبما جاء به من الهدى ودين الحق وما أنزل إليه من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار المشركين والمنافقين أولياء، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلاً منهم، والفاسق عن أمر الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبداً، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ٢ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ٣﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة الغلو والابتداع في الدين، واتباع أهل الأهواء.
٢- العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران.
٣- حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع.
٤- حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد.
٥- موالاة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه.
١ أن: في موضع رفع على الابتداء، والتقدير: لبئس ما قدمت لهم أنفسهم، وهو سخط الله عليهم.
٢ في الآية دليل واضح على أن من اتخذ الكافر وليًا لا يكون مؤمنًا، إذ يجره ذلك الولاء إلى قول ما يقول، وفعل ما يفعل، وحتى اعتقاد ما يعتقد، وبذلك يكفر مثله. وشاهده من الحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم".
٣ أي: كافرون، إذ فسقوا عند دين الله وخرجوا عنه باليهودية الباطلة، وخرجوا عن الإسلام بالنفاق. فهم كفرة منافقون يهود ملعونون.
663
المجلد الثاني
تابع سورة المائدة
الجُزء السابع
* لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
شرح الكلمات:
عداوة١: العداوة: بغض نفسي تجعل صاحبها بعيداً ممن يعاديه فلا يصله بخير، ولا يقربه بمودة، وقد تحمله على إرادة الشر بالعدو.
مودة: المودة: حب نفسي يجعل صاحبه يتقرب إلى من يوده بالخير ودفع الشر.
قسيسين: جمع قسيس: وهو الرئيس الديني لعلمه عند النصارى.
ورهباناً: الرهبان: جمع راهب: مشتق من الرهبة وهو الرجل في النصارى يتبتل وينقطع للعبادة في دير أو صومعة.
ما أنزل إلى الرسول: الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومما أنزل إليه آيات القرآن الكريم الدالة على تشريف عيسى ووالدته مريم عليهما السلام، وأن عيسى عبد الله
١ ﴿عداوة﴾ منصوب على التمييز مبيّنا لنسبة أشد وكذا مودّة.
4
الشاهدين: جمع شاهد: من شهد لله بالوحدانية وللنبي محمد بالرسالة واستقام على ذلك.
الصالحين: جمع صالح: وهو من أدّى حقوق الله تعالى كاملة من الإيمان به وشكره على نعمه بطاعته، وأدّى حقوق الناس كاملة من الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم.
فأثابهم الله بما قالوا: جزاهم بما قالوا من الإيمان ووُفِّقوا له من العمل جنات تجري من تحتها الأنهار.
معنى الآيات:
يخبر تعالى رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعداوة كل من اليهود والمشركين للمؤمنين وأنهم أشد عداوة من غيرهم، فيقول ﴿لتجدن١ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا﴾ أما اليهود فلما توارثوه خَلفاً عن سلف من إنكار الحق. والوقوف في وجه دعاته، إضافة إلى أن أملهم في إعادة مجدهم ودولتهم يتعارض مع الدعوة الإسلامية وأما المشركون فلجهلهم وإسرافهم في المحرمات وما ألفوه لطول العهد من الخرافات والشرك والضلالات. كما أخبر تعالى أن النصارى هم أقرب مودة للذين آمنوا فقال: ﴿ولتجدن أقربهم٢ مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى﴾ وعلل تعالى لهذا القرب من المودة بقوله: ﴿ذلك... ﴾ أي كان ذلك بسبب أن منهم قسِّيسين٣ ورهباناً فالقسيسون علماء بالكتاب رؤساء دينّيون غالباً ما يؤثرون العدل والرحمة والخير على الظلم والقسوة والشر والرهبان لانقطاعهم عن الدنيا وعدم رغبتهم فيها ويدل عليه قوله: ﴿وأنهم لا يستكبرون﴾ عن الحق وقبوله والقول به ولذا لما عمت المادية المجتمعات النصرانّية، وانتشر فيها الإلحاد والإباحية قلّت تلك المودة للمؤمنين إن لم تكن قد انقطعت. أما توله تعالى: ﴿وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم
١ اللام في {لتجدن﴾ لام القسم. وهذه الآيات الأربع كالفذلكة لما سبق من الآيات في أهل الكتاب.
٢ هذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه إذ هاجر إليه المؤمنون الهجرة الأولى والثانية هروبا من اضطهاد المشركين وأذاهم، ولما بعثت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة بهدايا تطالب برد المهاجرين إليها دعا النجاشي الرهبان والقسس وأسمعهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم فبكوا حتى فاضت أعينهم من الدمع فنزلت هذه الآية.
٣ جمع قسّ ويجمع على قساوسة، والرهبان جمع راهب كراكب وركبان وفعله رهب يرهب رهباً ورهبا ورهبة إذا خاف والرهبانية والترهب التعبّد في صومعة أو دير.
5
تفيض١ من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} فالمعنيُّ بها من أسلم من النصارى بمجرد أن تُلي عليهم القرآن وسمعوه كأصحمة النجاشى وجماعة كثيرة ومعنى قولهم ﴿فاكتبنا مع الشاهدين﴾ أنهم بعد ما سمعوا القرآن تأثروا به فبكوا من أجل ما عرفوا من الحق وسألوا الله تعالى أن يكتبهم مع الشاهدين ليكونوا معهم في الجنة، والشاهدون هم الذين شهدوا لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وأطاعوا الله ورسوله من هذه الأمة وقولهم: (ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا٢ مع القوم الصالحين} فإن معناه: أي شيء يمنعنا من الإيمان بالله رباً وإلهاً واحداً لا شريك له ولا ولد ولا والد. وبما جاء من الحق في توحيده تعالى ونبّوة رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن الطمع في أن يدخلنا ربنا الجنة مع الصالحين من هذه الأمة. ولما قالوا هذا أخبرهم تعالى أنه أثابهم به ﴿جنات٣ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها﴾، وأخبر تعالى أن ذلك الجزاء الذي جزاهم به هو ﴿جزاء المحسنين﴾ وهم الذين أحسنوا القول والعمل مع سلامة عقائدهم، وطهارة أرواحهم حيث لم يتلوثوا بالشرك والمعاصي ثم أخبر تعالى بأن الذين كفروا٤ بالله إلهاً واحداً وبرسوله نبياً ورسولاً، وكذبوا بآياته القرآنية أولئك البعداء هم أصحاب٥ الجحيم الذين لا يفارقونها أبداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عظم عداوة اليهود والمشركين للإسلام والمسلمين.
٢- قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين.
٣- فضيلة التواضع، وقبح الكبر.
١ تفيض أعينهم من الدمع أي بالدمع: وحروف الجرّ تتناوب قال امرؤ القيس:
ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بَلَّ دمعي مِحملي
أي غلاف السيف.
٢ في الكلام إضمار أي: ونطمع أن يدخلنا ربنا الجنة مع القوم الصالحين، وهم امّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصادقين الصالحين.
٣ دل هذا الجزاء الحسن على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم إذ به أجاب الله سؤالهم وحقق طمعهم ورجاءهم وهكذا كل من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة.
٤ في هذا احتراس إذ ما كل النصارى آمنوا لما سمعوا القرآن وبكوا وسألوا الله في صدقٍ وآمنوا وعملوا الصالحات فأثابهم الله الجنة، لا بل منهم الذين كفروا وكذبوا وهم الأكثرون فجزاؤهم الجحيم يلازمونها أبداً لظلمة قلوبهم وخبث نفوسهم.
٥ يقال: نار جحمة على وزن نجمة أي: شديدة اللهب قال شاعر الحماسة الطائي:
نحن حبسنا بني جديلة في...
نار من الحرب جحمةِ الضرَم
6
٤- فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها.
٥- فضل الكتابي إذا أسلم. وحسن إسلامه.
٦- بيان مصير الكافرين والمكذبين وهو خلودهم في نار جهنم.
٧- استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
شرح الكلمات:
لا تحرموا: التحريم: المنع أي لا تمتنعوا.
مما أحل الله لكم: أي ما أباحه لكم وأذن لكم فيه من نكاح وطعام وشراب.
حلالاً طيباً: مباحاً غير مستقذر ولا مستخبث.
لا يؤاخذكم الله باللغو: لا يعاقبكم الله باللغو الذي هو ما كان بغير قصد اليمين.
عقدتم الأيمان: عزمتم عليها بقلوبكم بأن تفعلوا أو لا تفعلوا.
من أوسط: أغلبه ولا هو من أعلاه، ولا هو من أدناه.
أهليكم: من زوجة وولد.
7
تحرير رقبة: عتقها من الرق القائم بها.
يبين الله لكم آياته: المتضمنة لأحكام دينه من واجب وحلال وحرام.
معنى الآيات:
الآيتان الأولى (٨٧) والثانية (٨٨) نزلتا في بعض١ الصحابة منهم عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون وغيرهما كانوا قد حضروا موعظة وعظهم إياها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة. وعزموا على التبتل والانقطاع عن الدنيا فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسألوها عن صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيامه فكأنهم تقالّوا ذلك فقال أحدهم: أنا لا آتي النساء، وقال آخر: أنا أصوم لا أفطر الدهر كله وقال آخر: أنا أقوم فلا أنام، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخطب الناس، وقال: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وإني وأنا رسول الله لآكل اللحم، وأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" ونزلت هذه الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات٢ ما أحل الله لكم﴾ من طعام وشراب ونساء، ﴿ولا تعتدوا﴾ بمجاوزة٣ ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم فإن الله تعالى ربكم ﴿لا يحب المعتدين﴾ ﴿وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً﴾ أما الحرام فلا يكون رزقاً لكم، ﴿واتقوا الله﴾ أي خافوه بترك الغلوّ والتنطع المفضى بكم إلى الترهب ولا رهبانية في الإسلام. ﴿الذي أنتم به مؤمنون﴾ أي رباً يشرع فيحلل ويحرم، وإلهاً يطاع ويعبد، هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ فقد نزلت لما قال أولئك الرهط من أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد حلفنا على ما عزمنا عليه من التبتل فماذا نصنع بأيماننا" فبين لهم تعالى ما يجب عليهم في أيمانهم لما حنثوا فيها بعدولهم عما حلفوا عليه فقال: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ وهو ما لا قصد للحلف فيه وإنما جرى لفظ اليمين على اللسان فقط نحو: لا والله أو بلى والله، ومثله أن
١ أخرج البخاري عن أنس قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألون عن عبادته فلمّا أخبروا كأنّما تقالّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد غفر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر، فقال أحدهم أمّا أنا فإني أصلي الليل أبداً وقال آخر أمّا أنا فأصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أمّا أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إنّي لأخشاكم للَّه واتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
٢ قالت العلماء هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها تردّ على غلاة المترهبين وأهل البطالة من المتصوفين، وقال الطبري لا يجوز لمسلم تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من الطيبات.
٣ إذا حرّم العبد على نفسه شيئاً لا يحرم عليه إلاّ امرأته فإنّها تحرم عليه بالطلاق.
8
يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر على خلاف ما ظن، ﴿ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾ أي قصدتموها عازمين١ عليها، فمن حنث بعد الحلف فالواجب في حقه خروجاً من الإثم كفَّارة وهي ﴿إطعام عشرة مساكين﴾ لكل مسكين نصف صاع أي مدَّان٢ من أعدل ﴿ما تطعمون أهليكم﴾ ما هو بالأجود الغالي، ولا بالأردأ الرخيص، ﴿أو كسوتهم﴾ كقميص وعمامة، أو إزار ورداء، ﴿أو تحرير رقبة﴾ أي عتق رقبة مؤمنة ذكراً كان أو أنثى صغيرة أو كبيرة فهذه الثلاثة المؤمن مخيّر في التكفير بأيها شاء، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام مفرقة أو متتابعة كما شاء هذا معنى قوله تعالى ﴿فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام﴾، وقوله ﴿ذلك كفارة أيمانكم﴾ أي هذا الذي بين لكم هو ما تكفِّرون به ما علق بنفوسكم من إثم الحنث. وقوله ﴿واحفظوا أيمانكم٣﴾ أي لا تكثروا الحلف فتحنثوا فتأثموا فتجب عليكم الكفارة لذلك. وقوله تعالى: ﴿كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون﴾ معناه مثل هذا التبيين الذي بينه لكم في مسألة الحنث في اليمين والكفارة له يبين لكم آياته المتضمنة لشرائعه وأعلام دينه ليعدكم بذلك لشكره بطاعته بفعل ما يأمركم به وترك ما ينهاكم عنه، فله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة تحريم ما أباح الله، كحرمة تحليل ما حرم الله عز وجل.
٢- بيان مدى حرص الصحابة على طاعة الله خوفاً من عقابه وطمعاً في إنعامه.
٣- حرمة الغلو في الدين والتنطع فيه.
٤- بيان كفارة اليمين بالتفصيل.
١ هذا إذا لم يستثن بأن يقول إلاّ أن يشاء الله أمّا من استثنى فلا كفارة عليه إذ لا إثم مع الاستثناء ولابد للاستثناء من النطق يقول: إلاّ أن يشاء الله ولا يتم إلاّ بتحريك لسانه وشفتيه.
٢ وفي الآية وجه آخر ذكره القرطبي وهو أن يبادر إلى إخراج الكفارة إذا حنث وهذا حفظها من النسيان ظاهر.
٣ قال العلماء: الأيمان أربعة: يمينان يكفر فيهما إذا حنث ويمينان لا كفارة فيهما فالأوّلان أن يقول: والله لأفعلن كذا ثم يحنث والثاني أن يقول: والله لا أفعل كذا ويحنث، واللّذان لا كفارة فيهما: الأولى: لغو اليمين وهو أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر خلافه، والثانية: أن يجري على لسانه الحلف وهو غير قاصد نحو: لا والله، بلى والله، والخامسة: اليمين الغموس، وهو أن يحلف متعمّداً الكذب وكفّارتها التوبة لا غير وان كفّر مع التوبة فحسن.
9
٥-كراهة الإكثار من الحلف. وحرمة الحلف١ بغير الله تعالى مطلقاً.
٦- استحباب حنث من٢ حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه، وتكفيره على ذلك أما إذا حلف أن يترك واجباً أو يأتي محرماً فإن حنثه واجب وعيه الكفارة.
٧- الأيمان ثلاثة٣: لغو: يمين لا كفارة لها إذ لا إثم فيها، الغموس٤: وهي أن يحلف متعمداً الكذب ولا كفارة لها إلا التوبة، اليمين المكفَّرة: وهي التي يتعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده ليفعل أو لا يفعل ثم يحنث فهذه التي ذكر تعالى كفارتها وبينها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
١ لحديث الترمذي: "من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر" وحديث الصحيح: "ألا إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"..
٢ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه".
٣ هذا العدد مجمل وقد تقدم تفصيله وأنّ الأيمان خمسة.
٤ أخرج البخاري "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأله إعرابي قائلاً يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله قال ثمّ ماذا؟ قال: عقوق الوالدين. قال: ثمّ ماذا؟ قال اليمين الغموس. قلت وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها كاذب".
10
شرح الكلمات:
الخمر والميسر: الخمر١: كل مسكر كيفما كانت مادته وقلّت أو كثرت، والميسر: القمار. ٢
والأنصاب: الأنصاب: جمع نصب. ما ينصب للتقرب به إلى الله أو التبرك به، أو لتعظيمه كتماثيل الرؤساء والزعماء في العهد الحديث.
الأزلام: جمع زلم: وهي عيدان يستقسمون بها في الجاهلية لمعرفة الخير من الشر والربح من الخسارة، ومثلها قرعة الأنبياء، وخط الرمل، والحساب بالمسبحة.
رجس: الرجس: المستقذر حساً كان أو معنى، إذ المحرمات كلها خبيثة وإن لم تكن مستقذرة.
من عمل الشيطان: أي مما يزينّه للناس ويحببه إليهم ويرغبهم فيه ليضلهم.
فاجتنبوه: اتركوه جانباً فلا تقبلوا عليه بقلوبكم وابتعدوا عنه بأبدانكم.
تفلحون: تكملون وتسعدون في دنياكم وآخرتكم.
ويصدكم: أي يصرفكم.
فهل أنتم منتهون: أي انتهوا فالاستفهام للأمر لا للإستخبار.
جناح فيما طعموا: أي إثم فيما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر قبل تحريم ذلك.
معنى الآيات:
لما نهى الله تعالى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله تعالى لهم بَيَّنَ لَهُم ما حرَّمه عليهم ودعاهم إلى تركه واجتنابه لضرره بهم، وإفساده لقلوبهم وأرواحهم فقال تعالى: ﴿يا أيها الذين٣ آمنوا﴾ أي يا من صدقتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً اعلموا {إنما الخمر والميسر
١ صحَّ عن عمر رضي الله عنه أنه خطب يوماً فقال: "أيّها الناس ألا إنّه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب والتمر، والعسل والحنطة والشعير" والخمر ما خامر العقل أي: ستره وغطّاه فأصبح المرء يهذي ويقول الخطأ والصواب.
٢ ما دامت علّة التحريم في الخمر والميسر هي إثارة العداوة بين إخوة الإيمان، والصدّ وهو الإلهاء عن ذكر الله وعن الصلاة فإن كل ما ينشأ عنه إثارة العداوة والصدّ عن الذكر والصلاة فهو حرام.
٣ هذه الآية نزلت بعد وقعة أحد وكانت في السنة الثالثة من الهجرة أي في آخرها ولكنها وقعت هنا في سورة المائدة بعد نزولها وهذه الآية هي الناسخة لإباحة الخمر ويروى في سبب نزولها أن ملاحاة كانت بين سعد بن أبي وقاص ورجل من الأنصار سببها شرب خمر في ضيافة لهم.
11
والأنصاب١ والأزلام رجس} أي سخط وقذر مما يدعو إليه الشيطان ويزيّنه للنفوس ويحسنه لها لترغب فيه، وهو يهدف من وراء ذلك إلى إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين الذين هم كالجسم الواحد. وإلى صدهم عن ذكر الله الذي هو عصمتهم وعن الصلاة التي هي معراجهم إلى الله ربهم، وآمرتهم بالمعروف وناهيتهم عن المنكر، ثم أمرهم بأبلغ أمر وأنفذه إلى قلوبهم لخطورة هذه المحرمات الأربع وعظيم أثرها في الفرد والمجتمع بالشر والفساد فقال: ﴿فهل أنتم منتهون٢؟!﴾ وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله وحذرهم من مغبة المعصية وآثارها السيئة فقال ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا﴾ مغبة ذلك ثم أعلمهم أنهم إن تولوا عن الحق بعدما عرفوه فالرسول لا يضيره توليهم، إذ ما عليه إلا البلاغ المبين وقد بلّغ وأما هم فإن جزاءهم على توليهم سيكون جزاء الكافرين وهو الخلود في العذاب المهين. هذا معنى قوله: ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأحذروا فإن توليتم فاعلموا٣ أنما على رسولنا البلاغ المبين﴾ وقوله تعالى في الآية الأخيرة (٩٣) ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا٤ وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين﴾ فقد نزلت لقول بعض الأصحاب٥ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا رسول الله ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر؟ " أي كيف حالهم فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعلم أنهم ليس عليهم جناح أي إثم أو مؤاخذة فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم بشرط أن يكونوا قد اتقوا الله في محارمه وآمنوا به وبشرائعه، وعملوا الصالحات استجابة لأمره وتقرباً إليه. فكان رفع الحرج عليهم مقيداً بما ذكر. وقوله: ﴿ثم اتقوا... ﴾ كما لا جناح٦ على الأحياء فيما طعموا وشربوا قبل التحريم
١ ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر المقصود منه تأكيد التحريم وتقويته نظراً لما ألفته النفوس منهما، والمراد من تحريم الأنصاب تحريم عبادتها وصنعها، وبيعها
٢ هذه الصيغة تستعمل للحث على الفعل إذا المأمور بدا عليه التراخي أو عدم الاهتمام مما أمر بفعله أو تركه. والفاء في ﴿فهل أنتم﴾ تفريع عن قوله: ﴿إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم..﴾ الآية، والمأمور بالانتهاء عنه هو الخمر والميسر فلذا يقدّر عنهما بعد ﴿منتهون﴾.
٣ ﴿فاعلموا﴾ جواب الشرط أي فإن توليتم عن طاعة الله والرسول فاعلموا أن توليكم لا يضر الرسول شيئا إنما على الرسول البلاغ وقد بلّغكم.
٤ جملة: ﴿ثم اتقوا وآمنوا﴾ تأكيد لفظي لجملة: ﴿إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات﴾.
٥ يروى أن القائل: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو سؤال إشفاق ورحمة على من مات وهو يشرب هذا المحرم.
٦ الجناح، الإثم المترتب عن الجنح الذي هو الميل إلى المعصية وعدم الطاعة.
12
وبشرط الإيمان، والعمل الصالح والتقوى لسائر المحارم، ودوام الإيمان والتقوى والإحسان في ذلك بالإخلاص فيه لله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة الخمر والقمار، وتعظيم الأنصاب والاستقسام بالأزلام.
٢- وجوب الانتهاء من تعاطي هذه المحرمات فوراً وقول انتهينا يا ربنا كما قال عمر رضي الله عنه.
٣- بيان علة تحريم شرب الخمر ولعب الميسر وهي إثارة العداوة والبغضاء بين الشاربين واللاعبين والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما قوام حياة المسلم الروحية.
٤- وجوب طاعة الله والرسول والحذر من معصيتهما.
٥- وجوب التقوى حتى الموت ووجوب الإحسان في المعتقد والقول والعمل.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
13
شرح الكلمات:
ليبلونكم: ليختبرونكم.
الصيد١: ما يصاد. ٢
تناله أيديكم٣: كبيض الطير وفراخه.
ورماحكم: جمع رمح، وما ينال به هو الحيوان على اختلافه.
ليعلم القه من يخافه بالغيب:: ليظهر الله تعالى بذلك الاختبار من يخافه بالغيب فلا يصيد.
فمن اعتدى (بعد التحريم) : بأن صاد بعد ما بلغه التحريم.
وأنتم حرم: جمع حرام والحرام: المُحرم لحج أو عمرة ويقال رجل حرام وامرأة حرام.
من النعم: النعم: الإبل والبقر والغنم.
ذوا عدل منكم: أي صاحبا عدالة من أهل العلم.
وبال أمره: ثقل جزاء ذنبه حيث صاد والصيد حرام.
وللسيارة: المسافرين يتزوّدون به في سفرهم. وطعام البحر ما يقذف به إلى الساحل.
معنى الآيات:
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ليعلمهم مؤكداً خبره بأنه يبلوهم اختباراً لهم ليظهر٤ المطيع من العاصي فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب﴾ فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا يأتيهم كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون بيد أن المسلمين استجابوا لربهم
١ أُذن للمحرم ولمن في الحرم في قتل ما يؤذي كالحية والعقرب، والغراب والفأرة وكل ما يؤذي كالأسد والنمر والذئب والفهد لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة".
٢ الصيد مصدر صاد بصيد صيداً وأطلق المصدر على اسم المفعول: المصيد فقالوا: صيدٌ.
٣ قوله: ﴿تناله أيديكم﴾ يريد صغار الصيد، وفراخه وبيضه. ﴿ورماحكم﴾ هو كبار الصيد الذي لا يؤخذ باليد ولكن بآلة الصيد.
٤ أي ليظهر ذلك لهم إقامة للحجة عليهم أما هو سبحانه وتعالى فعلمه بذلك أزلي سابق.
14
وامتثلوا أمره، على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين. وقوله تعالى ﴿فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم﴾، أي فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٩٤). أما الآية الثانية (٩٥) وهي قوله تعالى: ﴿يا أيها١ الذين آمنوا لا تقتلوا٢ الصيد وأنتم حرم﴾ فأكد لهم تحريم الصيد وبين لهم ما يترتب على ذلك من جزاء فقال ﴿ومن قتله منكم متعمداً﴾ فالحكم الواجب على من قتله جزاءً ﴿مثل ما قتل من النعم﴾ وهى الإبل والبقر والغنم ﴿يحكم به ذوا عدل منكم﴾ فالعدلان ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم فالنعامة تشبه الجمل وبقرة الوحش تشبه البقرة، والغزال يشبه التيس وهكذا فإن شاء٣ من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أن يسوقه إلى مكة الفقراء الحرم فليفعل وأن شاء اشترى بثمنه طعاماً وتصدق به، وإن شاء صام بدل كل نصف صاع يوماً لقوله تعالى: ﴿هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما﴾ وقوله تعالى: ﴿ليذوق وبال أمره﴾ أي ثقل جزاء مخالفته وقوله تعالى: ﴿عفا الله عما سلف﴾ أي ترك مؤاخذتكم على ما مضى، وأما مستقبلاً فإنه تعالى يقول: ﴿ومن عاد فينتقم٤ الله منه والله عزيز ذو انتقام﴾ ومعناه أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم، هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (٩٦) فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم وواجب الجزاء على من صاد. أخبر أنه امتناناً منه عليهم أحل لهم صيد البحر أي ما يصيدونه من البحر وهم حرم كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات٥ ميتة على ساحله ﴿متاعا لكم وللسيارة﴾ وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرماً، وأمرهم بتقواه أي بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم، وذكرهم بحشرهم جميعاً إليه يوم القيامة للحساب والجزاء فقال: ﴿واتقوا الله الذي إليه تحشرون﴾.
١ روي أن أبا اليسر عمرو بن مالك الأنصاري قتل حمار وحش وهو محرم بعمرة عام الحديبية فنزلت هذه الآية.
٢ القتل لغة: إفاتة الروح وهو أنواع منها النحر، والذبح، والخنق، والرضخ وشبهه.
٣ قالت العلماء: ما يجزىء من الصيد شيئان دواب وطير فيجزىء ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ففي النعامة بدنه والطير: القيمة إلا الحمام ففيه شاة.
٤ الجمهور أنّ مَنْ صاد ودفع الجزاء ثمّ صاد كلما صاد لزمه الفداء، وبعض أهل العلم يرى أنه لا يحكم عليه بشيء ويترك لله تعالى ويقال له: ينتقم الله منك.
٥ مذهب مالك حلية ميتة البحر مطلقا لحديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وحديث العنبر.
15
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ابتلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم. وحرم عليهم صيده فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيراً من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد أنبيائهم.
٢- تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر فإنّه مباح له.
٣- بيان جزاء من صاد وهو محرم وأنه جزاء مثل ما قتل من النعم.
٤- وجوب التحكيم فيما صاده المحرم، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه.
٥- صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلال.
جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٩٨) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٩٩) قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
شرح الكلمات:
الكعبة: الكعبة كل بناء مربع والمراد بها هنا بيت الله الحرام.
قياماً للناس: يقوم به أمر دينهم بالحج إليه والاعتمار ودنياهم بأمن داخله وجبي ثمرات كل شيء إليه.
16
الشهر الحرام: أي المحرم والمراد به الأشهر الحرم الأربعة رجب والقعدة والحجة ومحرم.
الهدي: ما يهدى إلى البيت من أنواع الهدايا.
والقلائد: جمع قلادة ما يقلده البعير أو البقرة المهدى إلى الحرم.
البلاغ: بلاغ ما أمره بإبلاغه.
ما تبدون وما تكتمون: أي ما تظهرون وما تخفون.
الخبيث: مقابل الطيب وهو الحرام وهو عام في المحسوسات والمعقولات.
أولي الألباب: أصحاب العقول.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿جعل١ الله الكعبة البيت الحرام٢ قياماً للناس﴾ المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام ومعنى قياماً: أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه، وكذا الشهر٣ الحرام وهي أربعة أشهر القعدة والحجة ومحرم ورجب٤، وكذا الهدي وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، وكذا القلائد جمع قلادة وهي ما يقلده الهدي إشعاراً بأنه مهدى إلى الحرم، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لِحَاءَ٥ شجر الحرم إعلاماً بأنه آت من الحرم أو ذاهب إليه فهذه الأربعة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد كانت تقوم مقام السلطان بين العرب فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش فهذا من تدبير الله تعالى لعباده وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته ولذا قال تعالى: ﴿ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم﴾ أي حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام ليعلمكم أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى
١ الله الذي أوجد الكعبة إذ أمر خليله ببنائها فبناها هذا الإيجاد الأخير أمّا الأول فكان على عهد آدم عليه السلام، وجعل هنا بمعني صيرها كذلك أي قياماً للناس الذين هم العرب.
٢ قياماً وقيما وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لأن أصل الفعل قام يقوم قواماً، ، وقياماً.
٣ الشهر: اسم جنس ولذا أريد به هنا الأشهر الحرم الأربعة.
٤ يقال له رجب الأصم لأنه لا يسمع فيه قعقعة السلاح ويقال: رجب مضر لأن مضر كانت تعظّمه أكثر من غيره، والأصب حيث يصب فيه الخير صبَّاً.
٥ لِحاء ككِساء: قشر الشجر.
17
المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء، وأنه بكل شيء عليم فهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه، وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (٩٧) والثانية (٩٨) أما الآية الثالثة (٩٩) فقد أكدت مضمون قوله تعالى في الآية الثانية ﴿اعلموا أن الله شديد العقاب﴾ وهو وعيد شديد فقال تعالى ﴿ما على الرسول إلا البلاغ﴾ ١ وقد بلَّغ، فأنذر وأعذر، وبقي الأمر إليكم إن أنبتم إلى ربكم وأطعتموه فإنه يغفر لكم ويرحمكم لأنه غفور رحيم، وإن أعرضتم وعصيتم فإنه يعلم ذلك منكم ويؤاخذكم به ويعاقبكم عليه وهو شديد العقاب وقوله ﴿والله يعلم ما تبدون وما تكتمون﴾ وعد ووعيد لأن علمه تعالى بالظواهر والبواطن يترتب عليه الجزاء فإن كان العمل خيراً كان الجزاء خيراً وإن كان العمل شراً كان الجزاء كذلك.
هذا مضمون الآية الثالثة أما الرابعة (١٠٠) فإنه تعالى يقول لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل للناس أيها الناس أنه ﴿لا يستوي الخبيث٢﴾ من المعتقدات والأقوال والأعمال والرجال والأموال٣، ﴿والطيّب﴾ منها، ولو أعجبتكم٤ أي سرتكم كثرة الخبيث فإن العبرة ليست بالكثرة والقلة وإنما هي بالطيب النافع غير الضار ولو كان قليلاً، وعليه ﴿فاتقوا الله يا أولي الألباب﴾ أي خافوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه رجاء حصول الفلاح لكم بالنجاة من المرهوب والحصول على المرغوب المحبوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان عظيم تدبير الله تعالى لخلقه، إذ أمّن مصالح قريش والعرب فأوجد لهم أمناً
١ أي ليس عليه هداية الناس ولا التوفيق ولا الثواب. وأصل البلاغ: البلوغ وهو الوصول، بلغ المكان يبلغه وصل إليه، وأبلغه الشيء أوصله إليه فعلى الرسول إبلاغ أمر الله ونهيه وأخباره إلى عباده بأسلوب بلاغي يصل به إلى نفوسهم في أطيب لفظ وأحسنه.
٢ الخبيث لا يساوي الطيب مقداراً ولا انفاقاً ومكاناً ولا ذهاباً فالطيب يأخذ جهة اليمين، والخبيث يأخذ ذات الشمال، والطيّب والطيّبون في الجنة، والخبيث والخبثاء في النار.
٣ قالت العلماء: في قوله: ﴿لا يستوي الخبيث﴾ الآية دليل على أنّ البيع الفاسد يفسخ ويرد الثمن على المبتاع وشاهده من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ".
٤ الخطاب في قوله ﴿ولو أعجبك كثرة الخبيث﴾ الخطاب صالح لكل من هو أهل للخطاب والانتفاع به من عقلاء هذه الأمة ولذا قلت في التفسير ولو أعجبتكم ولم أقل: أعجبتك.
18
واستقراراً وتبع ذلك هناءة عيش وطيب حياة بما ألقى في قلوب عباده من احترام وتعظيم للبيت الحرام والشهر الحرام، والهدي والقلائد، الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله.
٢- بيان مسئولية الرسول أزاء الناس وأنها البلاغ لا غير وقد بلغ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣- تقرير الحكمة القائلة العبرة بالكيف لا بالكم فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة ودرهم حلال خير من عشرة حرام وركعتان متقبلتان خير من عشرة لا تقبل.
٤- الأمر بالتقوى رجاء فلاح المتقين. ١
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ (١٠٢) مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (١٠٤)
شرح الكلمات:
إن تبد لكم: تظهر لكم تضركم.
١ من الأحناف من يمنع الحبس، والوقف تعلّقاً واستدلالاً بهذه الآية وهو محجوج بإجماع الصحابة لحديث عمر في الصحيح إذ قال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "احبس الأصل وسبّل الثمرة".
٢ وذلك إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها، والسائبة، بعير يسيب بنذر ينذره أحدهم للآلهة إن حصل له كذا سيّب كذا وتترك فلا تمنع من رعي ولا ماء ولا يركبها أحد.
19
عفا الله عنها: سكت عنها فلم يذكرها أو لم يؤاخذكم بها.
سألها قوم: طلبها غيركم من الأمم السابقة.
ما جعل الله: أي ما شرع.
بحيرة ولا سائبة: البحيرة: الناقة تبحر أذنها أي تشق، والسائبة: الناقة تسيّب.
ولا وصيلة ولا حام: الوصيلة: الناقة يكون أول إنتاجها أنثى، والحام: الجمل يحمى ظهره للآلهة.
ما أنزل الله: من الحق والخير.
ما وجدنا عليه آباءنا: من الباطل والضلال.
معنى الآيات:
لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تضايق منهم فقام خطيباً فيهم وقال: "لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم".. فقام رجل يدعى عبد الله بن حذافة كان إذا تلامى مع رجل دعاه إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة، وقال أبو هريرة: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ولو قلت نعم، لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم" فنزلت: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء١ إن تبد لكم تسؤكم﴾ أي تظهر لكم جواباً لسؤالكم يحصل لكم بها ما يسؤكم ويضركم، ﴿وإن٢ تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم﴾ أي يبينها رسولنا لكم. أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك مالا ينبغي لكم لأنه من باب إحفاء رسول الله وأذيته ثم قال تعالى لهم: ﴿عفا الله عنها﴾ أي لم يؤاخذكم بما سألتم ﴿والله غفور حليم﴾، فتوبوا إليه يتب٣ عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم. وقوله تعالى: ﴿قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين﴾ أي قد سأل أسئلتكم التنطعية
١ ممنوع من الصرف لأنّه مشبه بحمراء. في الآية دليل على كراهة السؤال لغير حاجة وفي صحيح مسلم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعاً وهات، وكره لكم ثلاثاً: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال".
٢ إن قيل: ما وجه أنه تعالى نهاهم عن السؤال ثم أذن لهم بقوله: ﴿وإن تسألوا عنها..﴾ الخ؟ الجواب: إن تسألوا عن غيرها مما دعت الحاجة إليه، ففي الكلام حذف مضاف كما قدّمناه فتأمله.
٣ بعد انقطاع الوحي أمن الناس من نزول ما قد يسوء ومع هذا فإن سؤال التنطع والتعنت مكروه دائماً وفي الحديث الصحيح: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
20
المحرجة هذه قوم من قبلكم ﴿فأصبحوا بها كافرين١﴾، لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم فتركوا العمل بها فكفروا. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (١٠١) والثانية (١٠٢) وأما الثالثة (١٠٣) فقد قال تعالى: ﴿ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام﴾ ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ما جعل الله من بحيرة﴾ أي ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حَمَى حَامِياً، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على الله وكذباً عليه ﴿وأكثرهم لا يعقلون﴾، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى، وأول من سيب السوائب وغير دين إسماعيل عليه السلام عمرو بن لحي الذي رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجرُّ قصَبه في النار أي أمعاءه في جهنم. هذا ما تضمنته الآية الثالثة أما الرابعة (١٠٤) فقد أخبر تعالى أن المشركين المفترين على الله الكذب بما ابتدعوه من الشرك إذ قيل لهم ﴿تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول﴾ ليبين لكم كذبكم وباطلكم في بحر البحائر وتسييب السوائب، يرفضون الرجوع إلى الحق ويقولون: ﴿حسبنا﴾ أي يكفينا ﴿ما وجدنا عليه آباؤنا﴾ فلسنا في حاجة إلى غيره فرد تعالى عليهم منكراً عليهم قولهم الفاسد ﴿أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً﴾ أي يتبعونهم ويحتجون بباطلهم ولو كان أولئك الآباء جهالاً حمقاً لا يعقلون شيئاً من الحق، ﴿ولا يهتدون﴾ إلى خير أو معروف.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- كراهية الإلحاف في السؤال والتقعر في الأسئلة والتنطع فيها.
٢- حرمة الابتداع في الدين وأنه سبب وجود الشرك في الناس.
٣- وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما.
٤- حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم.
١ من أمثلة ذلك: سؤال قوم صالح الناقة، وقوم عيسى المائدة، وفي الآية تحذير للمؤمنين أن يقعوا فيما وقع فيه غيرهم فيهلكوا كما هلكوا. وفي صحيح مسلم يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرْم عن المسلمين فحرم من أجل مسألته".
21
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
شرح الكلمات:
آمنوا: صدقوا الله ورسوله واستجابوا لهما بفعل المأمور وترك المنهي.
عليكم أنفسكم١: ألزموا أنفسكم هدايتها وإصلاحها.
إذا اهتديتم: إلى معرفة الحق ولزوم طريقه.
إلى الله مرجعكم جميعا: ضلاّلاً ومهتدين.
فينبئكم: يخبركم بأعمالكم ويجازيكم بها.
معنى الآية الكريمة:
ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده ﴿عليكم أنفسكم٢﴾ ألزموها الهداية والطهارة بالإيمان والعمل الصالح وإبعادها عن الشرك والمعاصي، ﴿لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ : أي أن ضلال غيركم غير ضار بكم إن كنتم مهتدين إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، كل نفس تجزى بما كسبت لا بما كسب غيرها ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها إلا أن من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك المؤمنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعتبرون مهتدين إذ بالسكوت عن المنكر يكثر وينتشر ويؤذِّي حتماً إلى أن يضلّ المؤمنون فيفقدون هدايتهم ولذا قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطيباً يوماً فقال: "يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: ﴿يا أيها الذين٣ آمنوا عليكم أنفسكم٤.. الخ﴾ وإنكم تضعونها٥ على غير
١ وإن قيل في معنى احفظوا أنفسكم من الوقوع في المعاصي لكان وجيهاً لأنّ عليكم اسم فعل بمعنى احفظ كذا.
٢ في الآية التحذير مما وقع فيه مَنْ تقدّم ذكرهم من التقليد الأعمى والابتداع المضر المهلك وهو وجه المناسبة بين هذه الآية وما سبقها من الآيات.
٣ قيل هذه الآية هي الوحيدة التي جمعت بين الناسخ والمنسوخ، فالناسخ فيها قوله: ﴿إذا اهتديتم﴾ والمنسوخ هو ﴿عليكم أنفسكم﴾ إذ من اهتدى لا يضره من ضل ولا تتم الهداية إلا بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٤ أنفسكم منصوب على الإغراء الدال عليه اسم الفعل عليكم.
٥ ورد بدل تضعونها... إلخ: وتتأوّلونها على غير تأويلها.
22
موضعها، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب" وقوله تعالى: ﴿إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ فيه وعد ووعيد، وعد لمن أطاع الله ورسوله، ووعيد لمن عصاهما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب إصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
٢- ضلال الناس لا يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروف١ ونهاهم عن المنكر.
٣ تقرير مبدأ البعث الآخر.
٤- للعمل أكبر الأثر في سعادة الإنسان أو شقائه.
يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذَلِكَ
١ قالت العلماء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعيّن متى رُجي القبول والتغيير فإن كان هناك عدم رجاء فلا يجب الأمر والنهي. وكذا يسقط إذا خاف ضرراً يلحقه لا يقوى عليه أو يلحق غيره من المسلمين.
23
أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُواْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ١ (١٠٨)
شرح الكلمات:
شهادة بينكم: الشهادة: قول صادر عن علم حاصل بالبصر أو البصيرة، وبينكم: أي شهادة بعضكم على بعض.
إن أنتم ضربتم في الأرض: أي بأن كنتم مسافرين.
من بعد الصلاة: صلاة العصر.
إن ارتبتم: شككتم في سلامة قولهما وعدالته.
فإن عثر: أي وقف على خيانة منهما فيما عهد به إليهما حفظه.
أدنى: أقرب.
على وجهها٢: أي صحيحة كما هي لا نقص فيها ولا زيادة.
الفاسقين: الذين لم يلتزموا بطاعة الله ورسوله في الأمر والنهي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآيات الثلاث (١٠٦)، (١٠٧)، (١٠٨) ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذ حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم﴾ أي ليشهد اثنان ﴿ذوا عدل منكم﴾ أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة، أو ليشهد اثنان من غيركم أي من غير المسلمين ﴿إن أنتم ضربتم في الأرض﴾ أي كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلا كافر، فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة
١ هذه الآية نزلت فيما ذهب إليه أكثر المفسرين: في تميم الداري وعدي بن بداء إذ روى البخاري وغيره أن تميم الداري وابن بداء كانا يختلفان إلى مكة فخرج معهما: فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوحى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاماً (إناء) من فضة مخوصاً بالذهب فاستحلفهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ما كتمتما ولا أطلعتما" ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أنّ هذا الحام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال: فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآية.
"لفظ الدارقطني"والظاهر أن استحلاف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهما: كان بعد نزول الآية مبيّنة طريق الحكم في هذه القضية فاتبعها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكم بينهم بما في الآية نصّاً وروحاً والله أعلم.
٢ أي غير مشوّه بالتغيير والتبديل والنقص والزيادة، والتعبير بالوجه شائع يقال: جاء بالشيء الفلاني على وجهه أي: من كمال أحواله.
24
شهادتهما فاحبسوهما أي أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله فيقولان والله لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى أي قرابة، ﴿ولا نكتم شهادة الله، إنا إذاً﴾ أي إذا كتمنا شهادة الله ﴿لمن الآثمين﴾ ﴿فإن عثر على أنهما استحقا إثماً﴾ أي وإن وجد أن الذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه، ﴿فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان﴾ ١ فيقسمان بالله قائلين والله: لشهادتنا أحق من شهادتهما أي لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما، ﴿وما اعتدينا﴾ أي عليهما باتهام باطل، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت ما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند الموت، قال تعالى: ﴿ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها﴾ أي أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة عادلة لا حيف فيها ولا جور وقوله ﴿أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم﴾، أي وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة، وقوله تعالى: ﴿واتقوا الله﴾ أي خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته، ﴿واسمعوا﴾ ما تؤمرون به واستجيبوا لله فيه، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته، فاحذروا الفسق واجتنبوه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
ا- مشروعية الوصية في الحضر والسفر معاً، والحث عليها والترغيب فيها.
٢- وجوب الإشهاد على الوصية.
٣- يجوز شهادة غير المسلم٢ على الوصية إذا تعذر وجود مسلم٣.
٤ - استحباب الحلف بعد صلاة العصر تغليظاً في شأن اليمين.
١ واحد الأوليان: الأولى بمعنى الأجدر والأحق، وعرفا باللاّم العهدية لأنه معهود للمخاطب ذهنا، والأوليان: الأحقّان بالشهادة لقرابتهما من الميت، قال أهل العلم إن هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظما وحكما.
٢ هذا بناء على أن الآية غير منسوخة وهو قول الأقلية كأحمد بن حنبل رحمة الله تعالى وهو الراجح والآية دلالتها قوية عليه، وأما التخوف من قوله تعالى: ﴿وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾ فلا داعي إليه مع وجود ضرورة السفر وانعدام وجود المسلم، كما لا محذور من تحليف الشاهد إذا حامت حوله ريبة أو شك في عدالته لاسيما في ظروف تقل فيها العدالة لفساد أحوال الناس. ولهذا ذهبت في تفسير الآية على أنها محكمة والعمل بها جائر.
٣ وممن قال بعدم نسخ هذه الآية وأنها محكمة والعمل بها من الصحابة: أبو موسى الأشعري وقضى بها، وعبد الله بن قيس، وعبد الله بن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي وغيرهم، ومن الأئمة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحم الله الجميع.
25
٥- مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم.
يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (١١١)
شرح الكلمات:
يوم١ يجمع الله الرسل: أي اذكر يوم يجمع الله الرسل وذلك ليوم القيامة.
الغيوب: جمع غيب: وهو ما غاب عن العيون فلا يدرك بالحواس.
أيدتك: قويتك ونصرتك.
بروح القدس: جبريل عليه السلام.
المهد: سرير الطفل الرضيع.
١ وجه اتصال هذه الآية بسابق
تها ظاهر، إذ أمرهم تعالى في الآية الأولى بالتقوى والسمع والطاعة لأوامره ونواهيه، وذكّرهم في هذه الآية بأهوال يوم القيامة ليكرر ذلك حافزاً لهم على التقوى مقوّيا لهم على السمع والطاعة.
26
الكهل: من تجاوز سن الشباب أي ثلاثين سنة.
الكتاب: الخط والكتابة.
والحكمة: فهم أسرار الشرع، والإصابة في الأمور كلها.
تخلق كهيئة الطير: أي توجد وتقدر هيئة كصورة الطير.
الأكمه والأبرص: الأكمه: من ولد أعمى، والأبرص: من به مرض البرص.
تخرج الموتى: أي أحياء من قبورهم.
كففت: أي منعت.
الحواريون: جمع حواري: وهو صادق الحب في السر والعلن.
معنى الآيات:
يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث الآخر يوم يجمع١ الرسل عليهم السلام ويسألهم وهو أعلم بهم: ﴿فيقول: ماذا أجبتم؟﴾ أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون: ﴿لا علم لنا٢: انك أنت علام الغيوب﴾، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس ويخص عيسى عليه السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم، لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنى، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون: ﴿يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك﴾ فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال: ﴿إذ أيدتك٣ بروح القدس﴾، جبريل عليه السلام ﴿تكلم الناس في المهد﴾ وأنت طفل. إذ قال وهو في مهده ﴿إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً﴾ وقوله ﴿وكهلاً﴾ أي وتكلمهم وأنت كهل أيضاً وفيه بشرى لمريم أن ولدها يكبر ولا يموت صغيراً وقد كلم الناس وهو شاب وسيعود إلى الأرض ويكلم الناس وهو كهل ويعدد نعمه عليه
١ ﴿يومَ﴾ منصوب على الظرفية معمول لـ اسمعوا لفعل محذوف يقدّر بـ اذكروا، أو اسمعوا، أو احذروا.
٢ أي: لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا، وشهد له حديث الصحيح: "يرد على أقوام الحوض فيختلجون فأقول: أمتي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك".
٣ أي: قويتك مأخوذ من الأيد الذي هو القوة ومنه قوله تعالى: ﴿والسماء بنيناها بأيد﴾.
27
فيقول: ﴿وإذ علمتك الكتاب والحكمة﴾، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه السلام والإنجيل الذي أوحاه إليه ﴿وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني﴾ فيكون طيراً بإذني أي اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك اخلق لنا طيراً فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك ونفخت فيه بإذني فكان طائراً، واذكر أيضاً ﴿إذ تبرىء الأكمة﴾ وهو الأعمى الذي لا عينين له، ﴿والأبرص بإذني﴾ أي بعوني لك وإقداري لك على ذلك ﴿وإذ تخرج الموتى﴾ من قبورهم أحياء فقد أحيا عليه السلام عدداً من الأموات بإذن الله تعالى ثم قال بنو إسرائيل أحيي لنا سام بن نوح فوقف على قبره وناداه فقام حياً من قبره وهم ينظرون، واذكر ﴿إذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات١﴾ فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك، ﴿فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين﴾. واذكر ﴿إذ أوحيت إلى الحواريين٢﴾ على لسانك ﴿أن آمنوا بي وبرسولي﴾ أي بك يا عيسى ﴿قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون﴾ أي منقادون مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- شدة هول يوم القيامة وصعوبة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون.
٢- وجوب الاستعداد لذلك اليوم بتقوى الله تعالى.
٣- توبيخ اليهود والنصارى بتفريط اليهود في عيسى وغلو النصارى فيه.
٤- بيان إكرام الله تعالى لعيسى وما حباه به من الفضل والإنعام.
٥- ثبوت معجزات عيسى عليه السلام وتقريرها.
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم
١ أي: الدلالات والمعجزات وهي المذكورة في هذه الآيات من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.
٢ الوحي يكون بمعنى الإلهام لغير الرسول أمّا الرسول فطرق الوحي إليهم جاءت في آخر سورة الشورى.
28
مُّؤْمِنِينَ (١١٢) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (١١٥)
شرح الكلمات:
هل يستطيع: هل يطيع ويرضى.
مائدة من السماء: المائدة: الخوان وما يوضع عليه أو الطعام والمراد بها هنا الطعام.
وتطمئن قلوبنا: أي تسكن بزيادة اليقين فيها.
ونكون عليها من الشاهدين: أي نشهد أنها نزلت من السماء.
عيداً: أي يوماً يعود علينا كل عام نذكر الله تعالى فيه ونشكره.
وآية منك: علامة منك على قدرتك ورحمتك، ونبوة نبيك.
فمن يكفر بعد منكم:: فمن يكفر بعد نزول المائدة منكم أيها السائلون للمائدة.
أحداً من العالمين: أي من الناس أجمعين.
معنى الآيات:
يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى واذكر ﴿إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون﴾، ﴿إذ قال الحواريون﴾ :﴿هل يستطيع١ ربك أن ينزل
١ اضطربت نفوس المؤمنين في توجيه هذه العبارة: {هل يستطيع ربك..﴾ كيف يقول هذا أنصار الله الحواريون وهو دالّ دلالة واضحة على جهل بالله تعالى وعدم معرفة الأدب مع نبيّه عيسى عليه السلام، فمن قائل: أنّ يستطيع بمعنى: يطيع أي: هل يطيعك ربّك في هذا؟ ومن قائل: إن قراءة (هل يستطيع) بالتاء، وربك معمول أي: هل تقدر على سؤال ربّك أن ينزل الخ ومن قائل إنّ هذا كان منهم في أوّل أمرهم قبل أن يتعلموا، ومن قائل: أن هذا صدر ممن كان مع الحواريين ولم يكن من الحواريين، وما ذكرته في التفسير أولى لانسجامه مع السياق إذ قول عيسى لهم: اتقوا الله، وقولهم: ونعلم أن قد صدقتنا دال على جهلهم بالله ومقام عيسى عليه السلام، وقد يكون أصحاب هذا القول ليسوا من فضلاء الحواريين ولكن كالذين قالوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجعل لنا ذات أنواط وكالذين قالوا لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة والله أعلم.
29
علينا مائدة من السماء؟} ولما كان قولهم هذا دالاً على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه السلام ﴿اتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾ فلا تقولوا مثل هذا القول. فاعتذروا عن قيلهم الباطل ﴿قالوا: نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين﴾ أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك وهنا قال عيسى عليه السلام داعياً ربه ضارعاً إليه ﴿اللهم﴾ أي يا الله ﴿ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عيداً لأولنا﴾ ) أي للموجودين الآن منا ﴿وآخرنا﴾ أي ولمن يأتون بعدنا، ﴿وآية منك﴾، أي وتكون آية منك أي علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولاً إلى بني إسرائيل، ﴿وارزقنا﴾ وأدم علينا رزقك وفضلك ﴿وأنت خير الرازقين﴾، فأجابه تعالى قائلا: ﴿إني منزلها عليكم﴾، وحقاً قد أنزلها١، ﴿فمن يكفر بعد منكم﴾ يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة رسولي، أو عظيم قدرتي ﴿فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين﴾، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- جفاء اليهود وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم إذ قالوا لموسى ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون﴾ وقالوا لعيسى ﴿هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء﴾.
٢- في قول عيسى لهم ﴿اتقوا الله﴾ دال على أنهم قالوا الباطل كما أن قولهم: ﴿ونعلم أن قد صدقتنا﴾ دال على شكهم وارتيابهم.
٣- مشروعية الأعياد الدينية لعبادة الله بالصلاة والذكر شكراً لله تعالى وفي الإسلام عيدان: الأضحى والفطر.
٤- من أشد الناس عذاباً يوم القيامة آل فرعون والمنافقون ومن كفر من أهل المائدة.
١ روى الترمذي عن عمار بن ياسر أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً".
30
وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
شرح الكلمات:
إلهين: معبودين يعبدان من دوني.
سبحانك: تنزيهاً لك وتقديساً.
ما يكون لي: ما ينبغي لي ولا يتأتى لي ذلك.
شهيداً: رقيباً.
الرقيب: الحفيظ.
إن تعذبهم: أي بنارك فإنهم عبادك تفعل بهم ما تشاء.
وإن تغفر لهم: أي تستر عليهم وترحمهم بأن تدخلهم جنتك.
العزيز الحكيم: العزيز: الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده، الحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه فيدخل المشرك النار، والموحد الجنة.
31
الصادقين: جمع صادق: وهو من صدق ربه في عبادته وحده.
ورضوا عنه: لأنه أثابهم بأعمالهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.
على كل شيء قدير: أي على فعل أي شيء تعلقت به إرادته وأراد فعله فإنه يفعله ولا يعجزه بحال من الأحوال.
معنى الآيات:
يقول الله تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واذكر لقومك ﴿إذ قال الله١﴾ تعالى يوم يجمع الرسل ويسألهم ماذا أجبتم، ويسأل عيسى بمفرده توبيخاً للنصارى على شركهم ﴿يا عيسى بن مريم أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين﴾ أي معبودين يقرره بذلك فينفي عيسى ذلك على الفور ويقول منزهاً ربه تعالى مقدساً ﴿سبحانك٢ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق﴾، ويؤكد تفصيه مما وجه إليه توبيخاً لقومه: ﴿إن كنت قلته فقد علمته﴾ يا ربي، إنك ﴿تعلم ما في نفسي﴾ فكيف بقولي وعملي، وأنا ﴿لا أعلم ما في نفسك﴾ إلا أن تعلمني شيئاً، لأنك ﴿أنت علام الغيوب﴾ ﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به﴾ أن أقوله لهم وهو ﴿اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيداً٣﴾ أي رقيباً ﴿فلما توفيتني﴾ برفعي إليك ﴿كنت أنت الرقيب عليهم﴾ ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها. ﴿وأنت على كل شيء شهيد﴾ رقيب وحفيظ. ﴿إن تعذبهم﴾ أي من مات منهم على الشرك بأن تصليه نارك فأنت على ذلك قدير، ﴿وإن تغفر لهم﴾ أي لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل فإنك أنت العزيز الغالب على أمره الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا ينعم من أشرك به ولا يعذب من أطاعه ووحده. فأجابه الرب تبارك وتعالى قائلا: ﴿هذا يوم٤ ينفع الصادقين صدقهم﴾ : صدقوا الله تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده لا شريك له ولم يشركوا
١ هذا مثل أتى أمر الله أتى بصيغة الماضي لتحقق الوقوع وكذلك هناك ﴿إذ قال﴾ فهو بمعنى يقول: اذكر إذ يقول الله يا عيسى.. الخ.
٢ أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: "تلقى عيسى حجته ولقَّاه الله في قوله: ﴿وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأميّ إلهين من دون الله﴾ قال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلقاه الله: ﴿سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق﴾ الآية.
٣ شهيداً: أي رقيباً أراعي أحوالهم وأدعوهم إلى العمل بطاعتك وأنهاهم عن مخالفتك.
٤ قال الله ﴿هذا يوم ينفع الصادقين... ﴾ الخ كلام مستأنف ختم به الحديث عما يقع يوم يجمع الله الرسل فذكر ثواب الصادقين وهو الجنة ورضوان الله وهو الفوز العظيم.
32
سواه. ونفعه لهم أن أُدْخِلُوا به جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يخرجون منها أبداً، مع رضى الله تعالى عنهم ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم لا يفنى ولا يبيد، ﴿ذلك الفوز العظيم﴾ إّنه النّجاة من النار ودخول الجنات. وفي الآية الأخيرة (١٢٠) يخبر تعالى أن له ﴿ملك١ السموات والأرض وما فيهن﴾ من سائر المخلوقات والكائنات خلقاً وملكاً وتصرفاً يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب ﴿وهو على كل شيء قدير٢﴾ لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام.
٢- براءة عيسى عليه السلام مِنْ مشركي النصارى وأهل الكتاب.
٣- تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإلهية.
٤- فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة، وفي الحديث: "عليكم بالصدق٣ فإنه يدعو إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً".
٥- سؤال غير الله شيئاً ضرب من الباطل والشرك، لأن غير الله لا يملك شيئاً، ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟
١ في هذه الآية البرهنة الصحيحة على ألوهية الله تعالى وربوبيته للعالمين وإبطال دعوى النصارى في تأليه عيسى وأمّه عليهما السلام.
٢ فما تعلقت إرادته بشيء فأراده إلا كان كما أراد من سائر الممكنات.
٣ أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح والسنن.
33
Icon