هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة، وهي مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولم في مكة، وقد روى في الصحيحين عن عمر : أن قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ ( المائدة : ٣ ) الخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجّة الوداع ) ).
و آياتها مائة وعشرون في العد الكوفي، ومائة واثنتان وعشرون في العد الحجازي، ومائة وثلاثة وعشرون في العد البصري.
ووجه التناسب بينها وبين ما قلبها من وجوه :
( ١ ) إن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة و الأمان، والضمني عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجازة.
( ٢ ) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرمتها البتة فكانت متممة لشيء مما قبلها.
( ٣ ) إن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شيء عن المنافقين والمشركين وقد تكرر ذكر ذلك في سورة النساء وأطيل به في آخرها.
و وجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت ب ﴿ يأيها الناس ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المكي والثانية ب ﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول.
ﰡ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ( المائدة : ١-٢ ).
تفسير المفردات : الوفاء والإيفاء : الإتيان بالشيء وافيا لا نقص فيه قال تعالى :﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ﴾ ( الإسراء : ٣٥ ) والعقود واحدها عقد وهو في الأصل ضد الحل ثم أطلق على الجمع بين أطراف الشيء وربط بعضها ببعض ويستعمل في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء ويقال عقد اليمين وعقد النكاح : أي أبرمه كما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ ( النساء : ٣٣ ) والبهيمة : ما لا نطق له لما في صوته من الإبهام وخص في العرف بما عدا السباع والطير والأنعام : البقر والإبل والغنم
الإيضاح :﴿ يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾ روي عن ابن عباس : أن المراد بالعقود عهود الله التي عهد بها إلى عباده : أي ما أحل وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله لا غدر فيها ولا نكث وقال الراغب : العقود ثلاثة أضرب : عقد بين الله وبين العبد وعقد بين العبد ونفسه وعقد بينه وبين غيره من البشر.
وكل واحد منها إما أن يوجبه العقل الذي أودعه الله في الإنسان ويتوصل إليه بديهة العقل أو بأدنى نظر ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾ ( الأعراف : ١٧٢ ). وإما أن يوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأساس العقود في الإسلام هو هذه الجملة ( أوفوا بالعقود ) أي إنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به من قول أو فعل كما أمر الله ما لم يحرم حلالا أو يحلل حراما كالعقد على أكل شيء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر ( القمار ) والرشوة ونحو ذلك.
ثم شرع يفصل الأحكام التي أمر بالإيفاء بها وبدأ بما يتعلق بضروريات معايشتهم فقال :
﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ﴾ أي أحل الله لكم أكل البهيمة من الانعام وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام وألحق بها الظباء وبقر الوحش ونحوهما إلا ما حرم فيما سيتلى عليكم في الآية السالفة من هذه السورة ﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ﴾الخ.
﴿ غير محلي الصيد وانتم حرم ﴾ أي أحلت لكم بهيمة الأنعام حال كونكم غير محلي الصيد الذي حرمه الله عليكم : أي لا تجعلوه حلالا باصطياده أو الأكل منه وأنتم محرمون بالحج أو العمرة أو كليهما أو داخلون في أرض الحرم فلا يحل الصيد لمن كان في الأرض الحرم ولو لم يكن محرما ولا للمحرم بالحج او العمرة وإن كان في خارج حدود الحرم بأن نوى الدخول في هذا النسك وبدأ بأعماله كالتلبية ولبس المخيط.
و الخلاصة : أحلت لكم هذه الأشياء غير محلي الاصطياد ولا أكل الصيد في الإحرام.
﴿ إن الله يحكم ما يريد ﴾ الحكم القضاء : أي إن الله جل ثناؤه يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه كما شاء بحسب الحكم والمصالح التي يعلمها سبحانه فأوفوا بعقوده وعهوده ولا تنكثوها ولا تنقضوها.
الحرم : جمع حرام وهو المحرم بالحج أو العمرة وشعائر الله : معالم دينه وغلب في مناسك الحج واحدها شعيرة والهدي ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ليذبح هناك وهو من النسك والقلائد : واحدها قلادة وهو ما يعلق في العنق وكانوا يقلدون الإبل من الهدي : بنعل أو حبل أو لحاء شجر ليعرف فلا يتعرض له احد آمين : أي قاصدين وفضلا : أي ربحا في التجارة ورضوانا : أي رضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا يجرمنكم : من جرمه الشيء أي حمله عليه وجعله يجرمه : أي يكسبه ويفعله وأصل الجرم قطع الثمرة من الشجرة والشنآن : البغض مطلقا أو الذي يصحبه التقزز من المبغوض.
الإيضاح
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ﴾ شعائر الله ما أراد جعله أمارات تعلمون بها الهدي من الضلال كمناسك الحج وسائر فرائض دينه من حلال وحرام وحدود حدها لكم.
و المعنى : يأيها الذين آمنوا لا تجعلوا شعائر دين الله حلالا لكم تتصرفون فيها كما تشاؤون بل اعملوا بما بينه لكم ولا تتهاونوا بحرمتها وتحولوا بينها وبين المتنسكين بها وتصدوا الناس عن الحج في أشهر الحج.
﴿ ولا الشهر الحرام ﴾المراد به هنا ذو القعدة وذو الحجة والمحرم : أي ولا تحلوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين كما روي عن ابن عباس وقتادة.
﴿ ولا الهدي ﴾ أي ولا تحلوا الهدي الذي يهدي إلى البيت الحرام من الأنعام للتوسعة على من هناك من عاكف وباد تقربا إلى الله وذلك بأن تمنعوا بلوغه محله من بيت الله بأخذه عصبا وذبحه أو سرقته أو حبسه عند من أخذه.
﴿ ولا القلائد ﴾ ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدي وهي البدن وكأنه قال لا تحلوا الهدي مقلدا ولا غير مقلد وخص المقلد بالذكر لأنه أكرم الهدي وأشرفه.
﴿ ولا آمين البيت الحرام ﴾ أي ولا تحلوا قتال قاصدي البيت الحرام لزيارته فتصدوهم عن ذلك بأي وجه كان.
﴿ يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ﴾ أي يطلبون ربحا في التجارة ورضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا لئلا يحل بهم ما حل بغيرهم في عاجل دنياهم.
و هذا كلام مع المشركين كما روي عن قتادة أنه قال : هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم وفي رواية أخرى عنه : والرضوان الذي يبتغون أن يصلح لهم معايشهم في الدنيا وألا يعجل لهم العقوبة.
ثم صرح بما فهم من قوله : غير محلي الصيد وأنتم حرم فقال :
﴿ وإذا حللتك فاصطادوا ﴾ أي وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة أو من أرض الحرم فاصطادوا إن شئتم فإنما حرم عليكم الصيد في أرض الحرم وفي حال الإحرام فقط.
﴿ ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ﴾ أي ولا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على ان تعتدوا عليهم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام وقد كان المشركون صدوا المؤمنين عن العمرة عام الحديبية فنهى المؤمنون أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع وهو العام الذي نزلت فيه هذه السورة لأجل اعتدائهم السابق
و لما كان اعتداء قوم على قوم لا يحصل إلا بالتعاون قفى على النهي عن الاعتداء بقوله :
﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ البر : التوسع في فعل الخير والتقوى : اتقاء ما يضر صاحبه في دينه أو دنياه والإثم : كل ذنب ومعصية والعدوان : تجاوز حدود الشرع والعرف في المعاملة والخروج عن العدل فيها وفي الحديث :" البر حسن الخلق والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس " رواه مسلم وأصحاب السنن وروى أحمد والدارمي عن وابصة بن معبد الجهني أنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" جئت تسأل عن البر والإثم ؟ " قلت : نعم وكان قد جاء لأجل ذلك فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما في نفسه وأجابه فقال :" استفت قلبك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وعن أفتاك الناس وأفتوك ".
والأمر بالتعاون على البر والتقوى من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن إذ يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضا على كل ما ينفع الناس أفرادا وجماعات في دينهم ودنياهم وعلى كل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم.
و قد كان المسلمون في الصدر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى ارتباط بعهد كما تفعله الجماعات اليوم فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيا لهم عن غيره ولكن لما نكثوا ذلك العهد صاروا في حاجة إلى تأليف هذه الجماعات لجمع طوائف المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب ( التعاون على البر والتقوى ).
و قلما ترى أحدا الآن يعينك على عمل من أعمال البر إلا إذا كان مرتبطا بعهد معك لغرض معين ومن ثم كان تأليف الجماعات مما يتوقف عليه أداء هذا الواجب غالبا.
﴿ واتقوا الله إن الله شديد العقاب ﴾ أي واتقوا الله بالسير على سننه التي بينها لكم في كتابه وفي نظم خلقه حتى لا يصيبكم عقابه بالإعراض عن هدايته فهو شديد العقاب لمن لم يتقه باتباع شرعه ومراعاة سننه في خلقه إذ لا محاباة ولا هوادة في عقابه فهو لم يأمر بشيء إلا إذا كان نافعا ولم ينه عن شيء إلا إذا كان ضارا وكذلك بعدم مراعاة السنن لأن لذلك تأثيرا في خلق الإنسان وعقائده وأعماله وكل ذلك مما يوقعه في الغواية وينتهي به إلى سوء العاقبة.
و هذا العقاب يشمل عقاب الدنيا والآخرة كما جاء في بعض الآيات التصريح بذلك وفي بعضها التصريح بأحدهما كقوله في عذاب الأمم في الدنيا :﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ ( هود : ١٠٢ ).
الإيضاح : هذا شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها في أول السورة بقوله :﴿ إلا ما يتلى عليكم ﴾ وهي عشرة أنواع :
الأول :﴿ الميتة ﴾ ويراد بها عرفا ما مات حتف أنفه : أي بدون فعل فاعل ويراد بها في عرف الشرع ما مات ولم يذكه الإنسان لأجل أكله والحكمة في التحريم :
( ١ ) استقذار الطباع السليمة لها.
( ٢ ) أن في أكلها مهانة تنافي عزة النفس وكرامتها.
( ٣ ) الضرر الذي ينشأ من أكلها سواء كانت قد ماتت بمرض أو شدة ضعف أو بجراثيم ( ميكروبات )انحلت بها قواها.
( ٤ ) تعويد المسلم ألا يأكل إلا مما كان له قصد في إزهاق روحه.
الثاني ﴿ الدم ﴾ والمراد به الدم المسفوح : أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلك بخلاف المتجمد طبيعة كالطحال والكبد وما يتخلل اللحم عادة فإنه لا يسمى مسفوحا.
و حكمة تحريم الدم الضرر والاستقذار أيضا أما الضرر فلأنه عسر الهضم جد العسر ويحمل كثيرا من المواد العفية التي تنحل من الجسم وهي فضلات لفظتها الطبيعة كما تلفظ البراز ونحوه واستعاضت عنها بمواد جديدة من الدم وقد يكون فيه جراثيم بعض الأمراض المعدية وهي تكون فيه أكثر مما تكون في اللحم ومن أجل هذا اتفق الأطياء على وجوب غلي اللبن قبل شربه لقتل ما عسى أن يكون قد علق به من جراثيم الأمراض المعدية.
الثالث :﴿ لحم الخنزير ﴾ لما فيه من الضرر والاستقذار لملازمته للقاذورات ورغبته فيها أما ضرره فقد أثبته الطب الحديث إذ أثبت أن له ضررا يأتي من أكله القاذورات فإن أكله يولد الديدان الشريطية كالدودة الوحيدة ودودة أخرى تسمى الشعرة الحلزونية وهي تنشأ من أكله الفيران الميتة كما أثبت أن لحمه أعسر اللحوم هضما لكثرة الشحم في أليافه العضلية وأن المواد الدهنية التي فيه تمنع وصول عصير المعدة إلى الطعام فيعسر هضم المواد الزلالية وتتعب معدة آكلة ويشعر بثقل في بطنه واضطراب في قلبه فإن ذرعه القيء فقذف هذه المواد الخبيثة خف ضرره وإلا تهيجت المعدة وأصيب بالإسهال ولولا أن العادة قد جرت بتناول السموم أكلا وشربا وتدخينا ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره لما أمكن الناس أن يأكلوه ولاسيما أهل البلاد الحارة.
الرابع :﴿ ما أهل لغير الله به ﴾الإهلال رفع الصوت يقال أهل فلان بالحج أذا رفع صوته بالتلبية له ( لبيك اللهم لبيك ) واستهل الصبي إذا صرخ عند الولادة والمراد به ما ذبح على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيما دينيا ويتقربون إليها بالذبائح وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم بقولهم باسم اللات أو باسم العزى.
و حكمة التحريم في هذا أنه من عبادة غير الله فالأكل منه مشاركة لأهله ومشايعة لهم عليه وهو مما يجب إنكاره لا إقراره.
و يدخل في ذلك ما ذكر عند ذبحه اسم نبي أو ولي كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا من قبلهم وساروا على نهجهم باعا فباعا وذراعا فذراعا.
( الخامس المنخنقة ) وقد روى ابن جرير في تفسيرها أقوالا فعن السدي أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت وعن ابن عباس والضحاك هي التي تختنق فتموت وفي رواية عن الضحاك هي الشاة توثق فيقتلها خناقها ثم قال : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : هي التي تختنق إما في وثاقها او بإدخال رأسها في موضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت.
وهي بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله فهي داخلة في الميتة وإنما خصها بالذكر لأن بعض العرب في الجاهلية كانوا يأكلونها ولئلا يشتبه فيها بعض الناس لأن لموتها سببا معروفا.
و العبرة في الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان لأجل الأكل حتى يكون واثقا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها.
السادس :﴿ الموقوذة ﴾ الوقذ : شدة الضرب وشاة وقيذ وموقوذة والموقوذة هي التي تقتل بعصا او بحجارة لا حد لها فتموت بلا ذكاة وكانوا يأكلونها في الجاهلية.
و الوقذ يحرم في الإسلام لانه تعذيب للحيوان قال صلى الله عليه وسلم :" إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
و لما كان الوقذ محرما حرم ما قتل به وهي تدخل في عموم الميتة على الوجه الذي ذكرنا فإنها لم تذك تذكية شرعية ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق ( وهو نحو كرة من الطين تجفف ويرمي بها بعد يبسها ) لما روي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف ( الرمي بالحصا والخزف وكل يابس غير محدد سواء رمي باليد أو المخذفة أو المقلاع ) وقال :" إنه لا يفقأ العين ولا ينكي العدو ولا يحزر صيدا " ففي هذا الحديث نص على العلة وهو انه تعذيب للحيوان وليس سببا مطردا ولا غالبا للقتل.
أما بندق الرصاص المستعمل الآن وما في حكمه فإنه يصيد وينكأ ولذا أفتى العلماء بجواز الصيد به.
السابع ﴿ المتردية ﴾ وهي التي تقع من مكان مرتفع كجبل أو منخفض كبئر ونحوها فتموت وهي في حكم الميتة لانه لم يكن للإنسان عمل في إماتتها ولا قصد به إلى أكلها.
الثامن ﴿ النطيحة ﴾ وهي التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت من النطاح من غير أن يكون للإنسان عمل في إماتتها.
التاسع :﴿ ما أكل السبع ﴾ وهو ما قتله بعض سباع الوحوش كالأسد والذئب والنمر ليأكله وأكله منه ليس بشرط للتحريم إذ يكفي فرسه إياه وقتله في تحريمه.
و كان العرب في الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع ولكنه مما تأنفه أكثر الطباع وأكثر الناس يعد أكله ذلة ومهانة وإن كانوا لا يخشون منه ضررا.
﴿ إلا ما ذكيتم ﴾ أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب المذبوح فذكيتموه وأمتموه إماتة شرعية لأجل أكله – وهو استثناء من جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل التذكية من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع وذلك هو – ما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة.
و خلاصة المعنى : ولكن لا يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكية ويكفي في صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة بأن يطرف بعينه أو يضرب بذنبه وقد قال علي كرم الله وجهه : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها.
العاشر :﴿ وما ذبح على النصب ﴾ والنصب واحد الأنصاب وهي حجارة كانت حول الكعبة عددها ثلاثمائة وستون حجرا وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة.
و من هذا تعلم أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهل به لغير الله من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير الله تعالى وخص بالذكر لإزالة وهم من يتوهم أنه قد يحل لقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير الله عليه وهو من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها.
و خلاصة ما تقدم : إن الله تعالى أحل أمل أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان ما دب منها على الأرض وما طار في الهواء وما سبح في البحر ولم يحرم إلا الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله.
و قد كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير الله وهو شرك وفسق وبعضهم يأكل الميتة ويقول لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ؟ ولكن الفارق بينهما ما في هذا من مظنة الضرر وفيه مهانة للنفس ومن ثم جعل الله حل أكل المسلم لذلك منوطا بإتمام موته والإجهاز عليه بفعله هو ليذكر اسم الله عليه فلا يكون من عمل الشرك ولئلا يقع في مهانة أكل الميتة وخسة آكلها بأكله المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وفريسة السبع – إلى ما في الموقوذة من إقرار الواقذ على القسوة وظلم الحيوان وذلك محرم شرعا.
ثم أضاف إلى محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملا آخر من أعمالهم وخرافاتهم فقال :
﴿ وأن تستقسموا بالأزلام ﴾ الأزلام واحدها زلم : وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم لكن لا يركب فيه النصل الذي يجرح ما يرمي به من صيد وغيره وكانت الأزلام ثلاثة كتب على أحدها " أمرني ربي " وعلى الثاني " نهاني ربي " والثالث غفل ليس عليه شيء فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك أجال " حرك " هذه الأزلام فإن خرج له الزلم المكتوب عليه " أمرني ربي " مضى لما أراد وإن خرج المكتوب عليه " نهاني ربي " أمسك عن ذلك ولم يمض فيه وإن خرج الغفل الذي لا كتابة عليه أعاد الاستقسام وهو : طلب معرفة ما قسم له دون ما لم يقسم بواسطة الأزلام.
أي وحرم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام كما كانت تفعل العرب في الجاهلية.
و حكمة هذا التحريم أنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة ويترك ما يترك كذلك ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسدنة ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم ومن ثم أبطل ذلك دين العقل والبصيرة كما أبطل التطير والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات الجاهلية إلى أن فيها افتراء على الله إن أرادوا بقولهم " أمرني ربي " الله عز وجل وجهلا وشركا إن أرادوا به الصنم إلى أن فيه طلبا لعلم الغيب الذي استأثر الله به.
و قد استن بعض جهال المسلمين بسنة مشركي الجاهلية أو بما يشبهها فتراهم يستقسمون بالسبح وغيرها ويسمون ذلك استخارة أو فألا فيقتطعون طائفة من حب السبحة ويحركونها حبة بعد أخرى يقولون " افعل " على واحدة " لا تفعل " على الثانية ويكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة وما هذا بالاستخارة التي ورد الإذن بها بل قد ورد ما يؤيد تحريمها.
و منهم من يستقسم أو يأخذ الفأل من القرآن الكريم فيصبغون عملهم بصبغة الدين ويلبسون الباطل ثوب الحق ولم يرد في هذا نص يجوز العمل به ولكن الإلف والعادة جعلا هذا البدع مستحسنة وتأولوا لها اسم الفأل الحسن ورووا في ذلك حديث أبي هريرة عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل الحسن وليس هذا من الفأل الحسن بل الفأل ضد الطيرة التي أبطلتها الأحاديث.
و العجيب من أمر بعض المسلمين أنهم تركوا الاهتداء بالقرآن وحرموا على أنفسهم واكتفوا من الإيمان به والتعظيم له بالاستقسام به كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته في كاغد أو جام ( فنجان ) وكل هذا من الضلالات والخرافات التي لم يرد شيء منها عن رسول الله ولا عن السلف الصالح.
و أعجب من ذلك جعل بعض الدجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة وكل ذلك ضلال إذ لا بينة فيه ولا سلطان.
و الاستخارة التي ور
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ ( المائدة : ٤-٥ )
تفسير المفردات : الطيب : ضد الخبيث والجوارح : واحدها جارحة وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور من الجرح بمعنى الكسب قال تعالى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ﴾ ( الأنعام : ٦٠ ) أي ما كسبتم ومكلبين من التكليب وهو تعليم الكلاب وإضراؤها بالصيد ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقا والمحصنات هنا الحرائر وقيل العفيفات عن الزنى
المعنى الجملي : روى ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا رافع بقتل الكلاب في المدينة جاء الناس فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فأنزل الله الآية فقرأها.
و روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآيات.
الأيضاح :﴿ يسألونك ماذا أحل لهم ﴾ أي يسألك المؤمنون ماذا أحل الله لهم من الطعام ؟
﴿ قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ﴾ الطيبات ما تستطيبها النفوس السليمة الفطرة المعتدلة المعيشة بمفتضى طبعها فتأكلها باشتهاء وما أكله الإنسان كدلك يسيغه ويهضمه بسهولة ويتغذى به غذاء صالحا وما يستخبثه ويعافه لا يسهل عليه هضمه ويضره غالبا فما حرمه الله في الآية السابقة خبيث بشهادة الله الموافقه للفطرة المعتدلة وأصحاب الفطر السليمة يعافون أكل الميتة حتف أنفها وما ماثلها من فرائس السباع والمترديات والنطائح والدم المسفوح وكذلك الخنزير يعافه من يعرف ضرره وانهماكه في أكل القاذورات.
و الخلاصة : أحل لكم أيها المكلفون ما يستطاب أكله ويشتهي دون ما يخبث أو يعاف وأحل لكم صيد الجوارح يشرط أن يكون الجارح الذي صاده مما أدبه الناس وعلموه الصيد حتى يصح أن ينسب الصيد إليهم ويكون قتل الجارح له كتذكية مرسله إياه.
أما الطيبات فهي ما عدا المنصوص على تحريمه كبهيمة الأنعام وصيد البر والبحر أي ما من شأنه أن يصاد منهما فالبحر كل حيوانه يصاد والبر يصاد منه ما يؤكل ما عدا سباع الوحش والطير لحديث ابن عباس : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير " وحديث أبي ثعلبة الخشني " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام. رواهما أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾ أي فكلوا من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم أي تصيده لأجلكم فتحبسه وتقفه عليكم بعدم أكلها منه فإن أكلت منه فلا يحلّ أكل ما فضل عنها عند الجمهور لأنه مثل فريسة السبع المحرمة في الآية السابقة.
﴿ واذكروا اسم الله عليه ﴾ أي وسموا عليه عند إرساله كما روى ذلك عن ابن عباس لحديث عدي بن حاتم " إذا أرسلت كلبك وسميت فاخذ فقتل فكل " والتسمية واجبة عند أبي حنيفة ومستحبة عند الشافعي.
﴿ واتقوا الله عن الله سريع الحساب ﴾ أي واتقوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ولا تقدموا علة مخالفته فتأكلوا من صيد الجوارح غير المعلمة أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على نفسها أو تطعموا ما لم يسمّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان فإن الله قد حرم ذلك عليكم فاجتنبوه واعلموا أن الله لا يضيع شيئا من أعمالكم بل تحاسبون عليها وتجازون في الدنيا والآخرة وهو يحاسب الناس كلهم يوم القيامة في وقت واحد فما أجدر حسابه أن يكون سريعا.
و روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآيات.
تفسير المفردات :
والأجور : المهور والمراد بالمحصنين الأعفاء عن الزنى مسافحين مجاهرين بالزنى متخذي أخدان : مسرين به والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى حبط عمله : بطل ثواب عمله.
الإيضاح :
و بعد أن بين وجوب التذكية للذبائح لإبعاد المسلمين مما كان عليه المشركون من أكل الميتة وشدد في التسمية على الطعام من صيد أو ذبيحة لإبعادهم عما كانوا عليه من الذبح لغير الله بالإهلال به لأصنامهم ليطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك بين حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم لأنهم لما كانوا في الأصل أهل توحيد ثم سرت إليها نزعات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين كان هذا مظنة التشديد في مؤاكلتهم ومناحكتهم كما شدد في أكل ذبائح مشركي العرب ونكاح نسائهم فذكر أنا لا نعاملهم معاملة المشركين في ذلك بل تحل لنا مؤاكلتهم ونكاح نسائهم فقال :
﴿ اليوم أحل لكم الطيبات ﴾ أي اليوم أحلت لكم الطيبات على سبيل التفضيل بعد أن كانت حلالا بالإجمال وصار حكمها مستقرا ثابتا.
﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾ الطعام هنا الذبائح لان غيرها حلال بأصله والذين أوتوا الكتاب : هم اليهود والنصارى أي وذبائح أهل الكتاب ممن أوتوا التوراة والإنجيل ودانوا بهما أو بأحدهما حلال لكم دون ذبائح أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من عبدة الأصنام والأوثان.
وروى ابن جرير عن أبي الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله قال ابن زيد : أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا وقال أبو الدرداء – وقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها جرجيس أهدوه لها أنأكل منه ؟ اللهم عفوا إنما هم أهل الكتاب طعماهم حل لنا وطعامنا حل لهم وأمره بأكله.
﴿ وطعامكم حل لهم ﴾ أي وذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب فلا جناح عليكم أن تطعموهم من طعامكم أو تبيعوهم منه.
و فائدة ذكر ذلك بيان أن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين وليس كذلك إباحة المناكحة فذكره للتميز بين النوعين.
﴿ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ﴾.
المحصنات هنا الحرائر : أي أحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر من المؤمنات ونكاح الحرائر من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم مهورهن.
و تقييد الحل بإتيان المهور لتأكيد الوجوب لا لاشتراطه في الحل وتخصيص الحرائر بالذكر للحث على ما هو الأولى منهن لا لأن من عداهن لا يحل إذ نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق وكذا نكاح الإماء الكتابيات عند أبي حنيفة.
﴿ محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ﴾ المحصنون : الإعفاء عن الزنى والمسافحون الذين يأتون الفاحشة مجاهرين بها والمتخذو الأخدان : الذين يأتونها سرا بالاختصاص بخدن من الأخدان والخدن يطلق على الصاحب والصاحبة : أي هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلا والتزمتم به حال كونكم أعفاء من الزنى جهرا وسرا إذ المقصد من الزواج أن يكون الرجل محصنا والمرأة محصنة يعف كل منهما الآخر ويجعله في حصن يمنعه من الفاحشة على أي وجه كانت فلا يزني الرجل هجرة ولا سرا باتخاذ صاحبة خاصة به ولا تكون المرأة كذلك.
﴿ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ أي ومن ينكر شرائع الإسلام التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة ويمتنع عن قبولها فقد حبط عمله الصالح الذي عمله قبل ذلك وبطل ثوابه وخسر في الآخرة ما عداه الله للمؤمنين من الجزاء العظيم على الإيمان الصحيح وهو إيمان الإذعان والعمل.
روى ابن جرير عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن ناسا من المسلمين قالوا كيف نتزوج نساءهم : يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا ؟ فأنزل الله عز ذكره : ومن يكفر بالإيمان الخ فأحل الله تزويجهن على علم اه.
و المغزى من الآية تعظيم شأن ما أحله الله وما حرمه والتغليظ على من خالف ذلك.
المعنى الجملي : اعلم أن بين العبد وربه عهدين : عهد الربوبية والإحسان وعهد العبودية والطاعة وبعد ان وفى له سبحانه بالعهد الأول وبين له ما يحل وما يحرم من لذات الحياة في الطعام والنكاح طلب إليهم الوفاء بالعهد الثاني وهو عهد الطاعة وأعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة والصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة لا جرم بدأ الله بذكر فرائض الوضوء.
و بعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعادات والعبادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه الحق لنقوم به مخلصين.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ﴾ أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة على حد قوله تعالى ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ ( النخل : ٩٨ )أي إذا أردت قراءته وجمهور المسلمين على أن الطهارة لا تجب على ما قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثا.
أي إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا الخ وهذا التقييد مستفاد من السنة العملية في الصدر الأول فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال : عمدا فعلته يا عمر " وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قال قلت : فأنتم كيف تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث " وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " فهذه الأخبار تدل على أن المسلمين لم يكونوا في عهد النبي يتوضؤون لكل صلاة وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة غالبا وصلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد أمام الناس لبيان جواز ذلك.
و من ذلك يعلم أن الوضوء لكل صلاة عزيمة وهو الأفضل وإنما يجب على من احدث وآخر الآية يدل على ذلك فإنه ذكر الحدثين ووجوب التيمم على من لم يجد الماء بعدهما فعلم منه أن من وجده وجب عليه أن يتطهر به عقبهما ولو كانت الطهارة واجبة لكل صلاة لما كان لهذا معنى.
و الخلاصة : إن الوضوء لا يجب إلا على المحدث وإنما يستحب تجديده لكل صلاة.
﴿ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ﴾ الغسل – بالفتح – إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ ونحوه والوجوه واحدها وجه وحده من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللحيين طولا ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا والأيدي واحدها يد وحدها في الوضوء من رؤوس الأصابع إلى المرفق وهو أعلى الذراع وأسفل العضد.
روى مسلم من حديث أبي هريرة : أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في السياق ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في السياق ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.
﴿ وامسحوا برؤوسكم ﴾ الرأس معروف ويمسح ما عدا الوجه منه وقد اختلف فقهاء الأمصار في أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس فقال الشافعي يكفي أقل ما يصدق عليه اسم المسح ولو شعرة وقال مالك يحب مسح الكل أخذا بالاحتياط وأوجب أبو حنيفة مسح الربع لان المسح إنما يكون باليد وهي تستوعب مقدار الربع في الغالب ولما روى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته " ( هي مقدار الربع ).
﴿ وأرجلكم إلى الكعبين ﴾ الكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين أي و اغسلوا أرجلكم على الكعبين ويؤيده عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة وقول أكثر الأئمة فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال :" ويل للأعقاب من النار " وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة فأدركنا وفد وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته " " ويل للأعقاب من النار " مرتين أو ثلاث ".
و يقوم المسح على الخفين عند لبسهما مقام غسل الأرجل وقد روى ذلك خلائق لا يحصون من الصحابة قال الحسن : حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كان يمسح على الخفين ) وقال الحافظ بن حجر : قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي أنه بال ثم توضأ ومسح على الخفيه فقيل له : تفعل هكذا ؟ قال نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه.
و الخلاصة : إن غسل الرجلين المكشوفتين ومسح المستورتين هو الثابت بالسنة المتواترة المنينة للقرآن والموافق لحكمة هذه الطهارة.
﴿ وإن كنتم جنبا فاطهروا ﴾ الجنب : لفظ يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنت والمراد به المضاجعة والوقاع : أي وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها فتطهروا منها بغسل البدن كله قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها وفي معنى الوقاع خروج المني بالاحتلام فهو جنابة شرعا وفي الحديث " إنما الماء من الماء'' رواه مسلم أي إنما يجب ماء الغسل من الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان بأي سبب كان خروجه.
ولما بين سبحانه وجوب الطهارتين وكان المسلم لا بد له من طهارة الوضوء مرة أو أكثر من ذلك في اليوم ولا بد له من الغسل في كل أسبوع أو أكثر مرة غالبا – بين الرخصة في تركهما عند المشقة أو العجز لأن الدين يسر لا حرج فيه ولا عنت فقال :
﴿ وإن كنتم مرضى ﴾ أي وإن كنتم مرضى مرضا جلديا كالجدري والجرب وغيرهما القروح والجروح أو أي مرض يشق فيه استعمال الماء أو يضر.
﴿ أو على سفر ﴾ طال أو قصر مهما كان السبب فيه ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء والغسل.
﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط ﴾ الغائط المكان المنخفض من الأرض ويراد به شرعا قضاء الحاجة من بول وغائط أي أحدثتم الحدث الموجب للوضوء عند إرادة الصلاة ونحوها كالطواف ويسمى الحدث الأصغر.
﴿ أو لامستم النساء ﴾ المراد بالملامسة المباشرة المشتركة بين الرجال والنساء والحدث الموجب للغسل يسمى الحدث الأكبر.
﴿ فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ﴾ أي إذا كنتم على حال من هذه الأحوال الثلاثة : المرض أو السفر أو فقد الماء عند الحاجة إليه لإحدى الطهارتين فاقصدوا ترابا أو مكانا من وجه الأرض طاهرا لا نجاسة عليه فاضربوا بأيديكم عليه وألصقوها بوجوهكم وأيديكم إلى الرسغين بحيث يصيبها أثر منه.
﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ﴾ أي ما يريد الله ليجعل عليكم فيما سرعه لكم من هذه الآية وفي غيرها حرجا ما أي أدنى ضيق وأقل مشقة لأنه تعالى غني عنكم رحيم بكم فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم.
﴿ ولكن يريد ليطهركم ﴾ من الأقذار والرذائل والمنكرات والعقائد الفاسدة فتكونوا أنظف الناس أبدانا وأزكاهم نفوسا وأصحهم أجسادا وأرقاهم أرواحا.
﴿ وليتم نعمته عليكم ﴾ فيجمع لكم بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح والإنسان إنما هو روح وجسد والصلاة تطهر الروح وتزكي النفس فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر وتعود المصلي مراقبة ربه في السر والعلن وخشيته حين الإساءة والرجاء فيه لدى الإحسان والطهارة التي جعلها الله شرطا للدخول في الصلاة ومقدمة لها تطهر البدن وتنشطه فيسهل بذلك العمل من عبادة وغيرها فما أجل نعم الله على عباده وما أجدر من هدى بهداه بدوام الشكر عليه ومن ثم ختم الآية الكريمة بقوله :﴿ لعلكم تشكرون ﴾ أي وليعدكم بذلك لدوام شكرهم على تلك النعم الظاهرة والباطنة.
الحكمة من شرع الوضوء والغسل :
للوضوء والغسل فوائد أهمها :
أن غسل البدن كله وغسل الأطراف يفيد صاحبه نشاطا وهمة ويزيل ما يعرض للجسد من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث أو بغيره من الأعمال التي تؤثر تأثيره وبدا يقيم الصلاة على وجهها ويعطيها حقها من الخشوع ومراقبة الله تعالى.
إذ المشاهد أنه إذا بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسمية غايتها بالوقاع أو الإنزال حصل تهيج عصبي كبير يعقبه فتور شديد بحسب سنة رد الفعل ولا يعيد نشاطه إلا غسل البدن كله.
أن النظافة ركن الصحة البدنية فإن الوسخ والأقذار مجلبة الأمراض والأدواء الكثيرة ومن ثم نرى الأطباء يشددون في أيام الأوبئة والأمراض المعدية في المبالغة في النظافة وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصح الناس أجسادا وأقلهم أمراضا لأن دينهم مبني على المبالغة في نظافة الأبدان والثياب والأمكنة فإذا هم فعلوا ما أوجبه الدين تنتفي الأسباب التي تولد جراثيم الأمراض عند الناس.
تكريم المسلم نفسه لدى نفسه وأهله وقومه الذين يعيش معهم إذ من كان نظيف البدن للثياب كان جديرا بحضور كل مجتمع ولقاء أشراف الناس وفضلائهم ومن كان وسخا قذرا فإنه يكون محتقرا عند كرام الناس ولا يعدونه أهلا لان يحضر مجالسهم ويشعر في نفسه بالضعة والهوان.
ولأجل هذا ورد الأمر بالغسل والطيب ولبس الثياب النظيفة يوم الجمعة لأنه يوم يجتمع فيه الناس في المساجد لعبادة الله تعالى روى مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم من طرق عدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( غسل الجمعة واجب على كل محتلم ) أي بالغ مكلف.
و بعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعادات والعبادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه الحق لنقوم به مخلصين.
و بعد أن بين سبحانه هذه الأحكام وذكر رفع الحرج الذي تم به الإنعام ذكرنا بنعمه التي أنعم بها علينا فقال :
﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ﴾ أي وتذكروا أيها المؤمنون إذ كنتم كفارا متباغضين فأصبحتم بهداية الدين إخوانا متحابين وتذكروا العهد الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ( المحبوب – والمكروه ) والعسر واليسر حين قلتم له سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه وأطعناك فيه فلا نعصيك في معروف وكل ما جئتنا به فهو معروف.
و كل نبي بعث في قوم أخذ عليهم ميثاق الله بالسمع والطاعة وقبول الدعوة والدخول في الدين يعد قبولا لهذا العهد فعلينا أن نعد هذا التذكير خطابا لنا كما عده السلف من الصحابة خطابا لهم.
و اتقوا الله فلا تنقضوا عهده وتخالفوا ما أمركم به وما نهاكم عنه سواء أكان في هذه الآيات أم في غيرها.
﴿ إن الله عليم بذات الصدور ﴾ فلا يخفى عليه ما أضمره كل واحد ممن أخذ عليه الميثاق من نية الوفاء به أو عدم الوفاء وما تنطوي عليه السرائر من الإخلاص أو الرياء.
تفسير المفردات : القوام بالشيء : هو القائم به حق القيام شهداء بالقسط : أي شهداء بالعدل بلا محاباة ولا يجرمنكم أي ولا يحملنكم والشنآن : العداوة والبغضاء الخبير : العالم بالشيء على وجه الدقة والضبط
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه عباده بالوفاء بالعقود عامة ثم امتن عليهم بإباحة كثير من الطيبات لهم وتحريم ما يضرهم من الطعام إلا في حال الضرورة ثم ذكر حلّ طعام أهل الكتاب ونسائهم إذا كن محصنات ثم أمرهم بالطهارة مع رفع الحرج عنهم – ذكر هنا ما ينبغي أن يكون معاملتهم سواهم سواء أكانوا أعداء أم أولياء ثم ذكر وعده لعباده الذين يعلمون الصالحات ووعيده لمن كفر وكذب بالآيات وختمها بذكر المنة الشاملة والنعمة الكاملة إذ أنقذهم من أعدائهم وأظهرهم عليهم وكانوا على وشك الإيقاع بهم ولكن رحمهم وكبت أعداءهم وردهم صاغرين ليكون الشكر أتم والوفاء ألزم.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله ﴾ أي ليكن من دأبكم وعادتكم القيام بالحق في أنفسكم بالإخلاص لله في كل ما تعلمونه من أمر دينكم وأمر دنياكم بأن تريدوا بعملكم الخير والتزام الحق بدون اعتداء على أحد وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابتغاء مرضاة الله.
﴿ شهداء بالقسط ﴾ الشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به أو إظهاره هو له بالحكم به أو الإقرار به لصاحبه وفي كل حال تكون بالعدل بلا محاباة لمشهود له ولا لمشهود عليه لأجل قرابة أو مال أو جاه ولا تركه لفقر أو مسكنة.
فالعدل هو ميزان الحقوق إذ متى وقع الجور في أمة لأي سبب زالت الثقة من الناس وانتشرت المفاسد وتقطعت روابط المجتمع فلا يلبث أن يسلط الله عليهم بعض عباده الذين هم اقرب منهم إلى العدل فيذيقوهم الوبال والنكال وتلك سنة الله في حاضر الأمم وغابرها ولكن الناس لا يعتبرون.
﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ﴾ أي ولا تحملنكم العداوة والبغضاء لقوم على عدم العدل في أمرهم بالشهادة لهم بحقهم إذا كانوا أصحاب الحق أو الحكم لهم بذلك فالمؤمن يؤثر العدل على الجور والمحاباة ويجعله فوق الأهواء وحظوظ الأنفس وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما.
﴿ واعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾ هذه الجملة توكيد للجملة السالفة للعناية بأمر العدل وأنه فريضة لا هوادة فيها لأنه أقرب لتقوى الله والبعد عن سخطه. وتركه من أكبر المعاصي لما ينشأ عنه من المفاسد التي تقوض نظم المجتمعات وتقطع الروابط بين الأفراد وتجعل بأسهم بينهم شديدا.
﴿ واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون ﴾ أي واتقوا سخطه وعقابه لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ظاهرها وباطنها واحذروا أن يجازيكم بالعدل على ترككم للعدل وقد مضت سنته في خلقه بأن يجعل جزاء ترك العدل في الدنيا الذلة والمهانة للأمم والأفراد وفي الآخرة الخزي يوم الحساب.
﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي الأعمال التي يصلح بها أمر العباد في أنفسهم وفي روابطهم الاجتماعية ومن أهمها العدل فيما بينهم وتقوى الله في جميع أحوالهم.
ثم بين سبحانه ما وعدهم به بعد أن ذكره أولا مجملا لتتوجه النفس للسؤال عنه حتى إذا جاء تأكد في النفس وتقرر هذا الوعد فقال :
﴿ لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾ المغفرة الستر والإيمان والعمل الصالح يستران ويمحوان من النفس ما يكون فيها من سوء أثر الأعمال السالفة فيغلب عليها حب الحق والخير وتكون أهلا للوصول إلى عالم القدس والطهر والأجر العظيم هو الجزاء المضاعف على الإيمان والعمل الصالح فضلا من الله ورحمة من لدنه.
تفسير المفردات :
والجحيم : النار العظيمة وهي هنا دار العذاب وأصحابها هم ملازموها
الإيضاح :
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ الكفر هنا الكفر بالله ورسله لا فارق في ذلك بين الكفر بالجميع وكفر بالبعض.
و آيات الله قسمان آياته المنزلة على رسله وآياتها التي أقامها في الأنفس والآفاق للدلالة على وحدانيته وكماله وإرادته وعلى صدق رسله فيما يبلغون عنه والجحيم النار العظيمة كما قال تعالى حكاية عن قوم إبراهيم ﴿ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴾ ( الصافات : ٩٧ ) أي إن هؤلاء الكفار المكذبين سيصلون العذاب في نار عظيمة أعدها الله لمن كفر وكذب بآياته لأن نفوسهم قد فسدت وسوء أعمالهم قد ران على قلوبهم فأصبحوا صما عميا لا يبصرون.
تفسير المفردات :
بسط إليه يده : بطش به وبسط إليه لسانه : شتمه والتقوى : هي اتقاء عقاب الله وسخطه بترك معاصيه.
الإيضاح :
﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم عنكم ﴾.
روي من طرق عدة أن الآية نزلت في رجل من قبيلة محارب هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأرسله قومه لذلك وكان بيده سيف وليس مع النبي صلى الله عليه وسلم سلاح كان منفردا روى الحاكم من حديث جابر قال : قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك ؟ قال " الله'' فوقع السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال :" من يمنعك ؟ قال من خير آخذ قال '' تشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله ؟ '' قال : أعاهدك إلا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله فجاء إلى قومه وقال جئتكم من عند خير الناس.
و في رواية أخرى : إن السيف الذي كان بيد الأعرابي كان سيف النبي صلى الله عليه وسلم علقه في شجرة وقت الراحة فأخذه الرجل وجعل يهزه ويهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم سقط من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :'' من يمنعك مني ؟ '' قال : لا أحد ثك صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم وأبي أن يعاقبه.
و على هذا المراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيهم فإنه لو حصل ذلك لكان من المحن الكبرى التي تصيب المسلمين.
و قيل إن المراد تذكيرهم بما أنعم الله عليهم من قوة الإسلام وعظمة شوكة المسلمين فبعد أن كانوا أذلاء مغلوبين على أمرهم بدل الله الحال غير الحال وأصبحوا أعزة بعد الذلة وغالبين بعد أن كانوا مقهورين فهو سبحانه يذكر المسلمين بوقائع الاعتداء كلها سواء في ذلك حادثة المحاربي وأمثالها لأن حفظه لأولئك السلف هو حفظه لذلك الدين القويم فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وأصحابه هم الذين تلقوها عنه وأدوها لمن بعدهم قولا وعملا.
ومن فوائد هذا التذكير للمتأخر ترغيبه في التأسي بالسلف في القيام بما جاء به الدين من الحق والعدل والبر.
و معنى قوله :﴿ إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ﴾ أي شارفوا أن يمدوا أيديهم إليكم بصنوف البلاء من قتل ونهب فكف الله تعالى بلطفه ورحمته أيديهم عنكم فلم يستطيعوا تنفيذ ما هموا به.
﴿ واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ أي واتقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم وتوكلوا عليه وحده فقد أراكم عنايته بمن يكلون أمورهم إليه بعد مراعاة سننه والسير عليها في اتقاء كل ما يخشى ضره وتسوء عاقبته لا على أوليائكم وحلفائكم لأن الأولياء قد تنقطع بهم الأسباب ويجيبون داعي اليأس إذا اشتد البأس والحلفاء قد يغدرون كما غدر بنو النضير وغيرهم ولكن المؤمن المتوكل على الله إذا همّ أن ييأس تذكر أن الله وليه وهو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو الذي يجير ولا يجار عليه فتتجدد قوته ويفر منه اليأس فينصره الله ويخذل أعداءه كما حدث لأولئك الكلمة المتوكلين مع سيد المرسلين أيام ضعفهم وقتلهم وفقرهم وتألب الناس كلهم عليهم.
تفسير المفردات : نقيب القوم : من ينقب عن أحوالهم ويبحث عن شؤونهم ونقب عليهم نقابة صار نقابة عليهم والتعزيز : النصرة مع التعظيم وأقرضتم الله : أي بذلتم المال فوق ما أوجبه عليكم والقرض الحسن : ما كان عن طيب النفس سواء السبيل : وسطه
المعنى الجملي : بعد أن ذكرنا الله بميثاقه الذي واثقنا به على السمع والطاعة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بين لنا في هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى وما كان من نقضهم له ومن عقابه لهم على ذلك في الدنيا بضروب الذلة والمسكنة وفي الآخرة بالخزي والعذاب لنعتبر بحالهم ونبتعد أن نكون على مثالهم وليشرح لنا العلة في كفراهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وسبب تصديهم لإيذائه وعداوة أمته وليقيم الحجة عليهم بما تراه من ذكر المحاجة وبيان أنواع كفرهم وضلالهم.
الإيضاح :﴿ ولقد أخذ الله ميثاق نبي إسرائيل ﴾ أي ولقد أخذ الله العهود والمواثيق على بني إسرائيل ليعملن بما في التوراة وفيها شريعتهم التي اختارها لهم ولا يزال هذا الميثاق في آخر الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام.
﴿ وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا ﴾ نقباء بني إسرائيل زعماء أسباطهم الاثنى عشر، والمراد ببعثهم إرسالهم لمقاتلة الجبارين الذين سيأتي ذكرهم بعد.
روى أنه لما نجا بنو إسرائيل بعد هلاك فرعون، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم إني جعلتها لكم وطنا ودار هجرة فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم، وأمر نبيه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بالوفاء بتنفيذ ما أمروا به فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل له به وسار بهم، فلما دنا من الأرض المقدسة بعث النقباء يتحسسون الأخبار فرأوا أجساما قوية وشوكة وقوة فهابوهم ورجعوا وحدثوا قومهم بما رأوا، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك فنكثوا الميثاق إلا نقيبين، وهما اللذان قال فيهما :﴿ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ﴾ ( المائدة ٢٣ ) الآية، وسيأتي الكلام في ذلك بعد.
﴿ وقال الله إني معكم ﴾ أي وقال الله هذا لموسى وهو بلغه عنه، ومعنى كونه معهم أنه ناصرهم ومعينهم وما دامو محافظين على الميثاق وهذا راء لأفعالهم سميع لأقوالهم عليم بضمائرهم وقادر على مجازاتهم.
﴿ لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها النهار ﴾ أي لئن أديتم الصلاة على وجهها وأعطيتم ما فرض عليكم من الصدقات التي تتزكى بها نفوسكم وآمنتم برسلي الذين أرسلهم إليكم بعد موسى كداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد ونصرتموهم معظمين لهم وبذلتم من المال زيادة على ما أوجبه الله عليكم بالزكاة فكنتم بذلك بمثابة من أقرض ماله لغني مليء وفي لا يضيع عليه بل يجده أمامه عند شدة الحاجة إليه – لئن فعلتم كل هذا لأزيلن بتلك الحسنات تأثير سيئاتكم التي سلفت منكم من نفوسكم فلا يبقى فيها رجس ولا خبث يقتضي العقاب فإن الحسنات يذهبن السيئات كما يغسل الماء الأدران والأوساخ ولأدخلنكم تلك الجنات كالتي لا يدخلها إلا من كان طاهرا من الشرك وما يتعبه من العاصي والآثام التي تفسد الفطرة.
﴿ فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ﴾ أي فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به فتركه أو عمل شيئا مما نهيته عنه بعد أخذ الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتنابه معصيتي – فقد أخطأ الطريق الواضح وضل الصراط المستقيم الذي يوصل سالكة إلى إصلاح قلبه وتزكية نفسه ويجعله أهلا لجوار ربع في تلك الجنات.
تفسير المفردات :
لعناهم : طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا وقاسية : يابسة غليظة تنبو من قبول الحق والتحريف : إمالة الشيء عن موضعه إلى أي جانب من الجوانب والخائنة : الخيانة
الإيضاح :
ثم بين أنهم لم يوفوا بهذا العهد فجازاهم على سوء صنيعهم فقال :
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ﴾ أي فبسبب نقضهم للميثاق الذي أخذ عليهم – ومن ذلك الإيمان بمن يرسلون من الرسل ونصرهم وتبجيلهم وتعظيمهم – استحقوا مقتنا وغضبنا والبعد من ألطافنا فإن نقض الميثاق أفسد فطرتهم ودنس نفوسهم وقسّى قلوبهم حتى قتلوا الأنبياء بغير حق وافتروا على مريم وأهانوا ولدها الذي أرسل إليهم ولإصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم وحاولوا قتله وافتخروا بذلك – فبكل هذا بعدوا عن رحمة الله إذ جرت سنته أن الأعمال السيئة تؤثر في النفوس آثارا سيئة فتجعل القلوب قاسية لا يؤثر فيها الحجة والموعظة ومن ثم تستحق مقت الله وغضبة والبعد من فضله ورحمته وما مثل هذا إلا مثل من يهمل العناية بنفسه، ولا يراعي القوانين الصحية فهو لا شك يصاب بالأمراض والأسقام، ولا يلومن حينئذ إلا نفسه إذ كان هو السبب في ذلك بإهماله.
﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ تحريف الكلم عن مواضعه يكون : إما بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير ة الزيادة والنقصان وإما بتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له وكل منهما قد وقع في التوراة وغيرهما من كتبهم فإن التوراة التي كتبها موسى وأخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل يحفظها كما نص على ذلك في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنيه الاشتراع قد فقدت باتفاق مؤرخي اليهود والنصارى عند سبي البابليين لليهود ولم يكن عندهم إلا هذه النسخة ولم يكونوا يستظهرونها كما كان المسلمون يستظهرون القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
و هناك أسفار خمسة ينسبونها إلى موسى – فيها خبر كتابته التوراة وأخذه للعهد عليهم بحفظها ولا شك أن هذا ليس منها قطعا وفيها خبر موته وأنه لم يقم بعده أحد مثله إلى ذلك الوقت أي الوقت الذي كتب فيه سفر تثنية الاشتراع وفي هذا أكبر دليل على أن الكاتب كان بعد موسى بردح طويل من الزمن كما أن فيها كثيرا من الكلمات البابلية الدالة على أنها كتبت بعد السبي.
لكل هذا حقق كثير من مؤرخي الفرنجة أن هذه التوراة التي بين أيديهم كتبت بعد موسى ببضعة قرون كتبها عزرا الكاهن بعد ان أذن لنبي إسرائيل بالعودة إلى بلادهم.
﴿ ونسوا حظا مما ذكروا ﴾ روي عن ابن عباس أنه قال : نسوا الكتاب : وعن مجاهد انه قال : نسوا كتاب الله إذ أنزل عليهم ومرادهما أنهم نسوا طائفة من أصل الكتاب الله وقال بعضهم : نسوا الكتاب بترك العمل به.
و في الحق أنهم أضاعوا كتابهم وفقدوه عندما أحرق البابليون هيكلهم وخربوا عاصمتهم وسبوا من بقي منهم حيا فلما عادت إليهم الحرية جمعوا ما كانوا قد حفظوه من التوراة ووعوه وعملوا به
و هذا من أعظم الأدلة على أن القرآن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم أثبتها التاريخ بعد بعثة النبي بعدة قرون من موت موسى.
﴿ ولا تزال تطلع على خائنة منهم ﴾ الخائنة بمعنى الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة والخاطئة بمعنى الخطيئة.
أي إنك أيها النبي لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود على خيانة إثر خيانة فلا تطمئن أنك أمنت كيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم فهم قوم لا وفاء لهم ولا أمان فمن نقض عهد الله وميثاقه فكيف يرجى منه وفاء ؟ وكيف يطمع منه في أمانة. ؟
﴿ إلا قليلا منهم ﴾ كعبد الله بن سلام وإخوانه ممن أسلموا وصدقوا الله ورسوله فلا تظنن بهم سوءا ولا تخف منهم خيانة ولا خداعا.
﴿ فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ﴾ أي فاغف عما فرط من هؤلاء القليل واصفح عمن أساء منهم وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى فأنت أحق الناس باتباع ما يحبه الله ويرضاه و هذا الرأي أبي مسلم وقال غيره : فاعف عن هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل واصفح لهم عن جرمهم فإني أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه إيثارا للإحسان والفضل على ما يقتضيه العدل.
و قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب عندما دخل المدينة في مصالحة اليهود وموادعتهم فعقد معهم العهد على ألا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه ولا يمالئوا عليه عدوا له وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم وكان إذ ذاك منهم ثلاث طوائف حول المدينة وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة فنقضوا العهد وهموا يقتل النبي صلى الله عليه وسلم فحل له قتالهم ولكنه رجح السلم على الحرب واكتفى بطردهم من من جواره وبعث إليهم '' أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني وقد أجلتكم عشرا فمن وجدته بها بعد ذلك ضربت عنقه '' فأقاموا يتجهزون أياما ثم ثبط عزيمتهم عبد الله بن أبي وأرسل إليهم ألا تخافوا إن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان وكان رئيسهم المطاع حيي بن أخطب شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي زين لهم قتله والغدر به فركن إلى قول ابن أبي وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنا لن نخرج من المدينة فافعل ما بدا لك.
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون الحرب فخرج هو والمسلمون للقائهم يحمل لواءه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فلما وصلوا إليهم أقاموا على حصونهم يرمونهم بالنبل والحجارة ولما اشتد عليهم الحصار ورأوا ألا سبيل لهم إلى المقاومة رضوا بالخروج سالمين وعلموا أن وعد ابن أبي كان هو الغدر والخيانة بعينها وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قادرا حينئذ على استئصالهم والقضاء عليهم ولكنه اختار العفو والإحسان واكتفى بإبعادهم عن المدينة على أن يخرجوا منها وليس معهم إلا أولادهم وما حملت الإبل إلا السلاح ورحلوا إلى خيبر.
و هذه الآية نزلت بعد هذا كله لأنها من آخر ما نزل ولم يعاقب اليهود بعدها على خيانة ولا غدر ولكنه أوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب.
تفسير المفردات :
الإغراء : أصله التجريش يقال أغرى الشيء بالشيء والمراد هنا تفرق الاهواء الموجب للعداوة والبغضاء.
الإيضاح :
﴿ ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾ أي وكذلك أخذنا من النصارى الثبات على طاعتنا وأداء فرائضنا وإتباع رسلنا والتصديق بهم فسلكوا في ميثاقنا الذي أخذناه عليهم طريق اليهود الضالين فبدلوا دينهم ونقضوا الميثاق الذي أخذناه عليهم بالوفاء بعهدنا.
﴿ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ﴾ لأن نسيان حظ عظيم من كتابهم كان سببا في تفرقهم في الدين وإتباع أهوائهم وتبع هذا أن وقعت بينهم العداوة والبغضاء بمقتضى سننه تعالى في هذه الحياة ومن أجل هذا نسبه سبحانه إلى نفسه مع انه من أعمالهم الاختيارية لأنه كان نتيجة حتمية لتلك السنن التي وضعت في الخليقة.
﴿ وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ﴾ أي وسينبئهم الله عند الحساب في الآخرة بما كانوا صنعوا في الدنيا من تقض للميثاق ونكث للعهد وتبديل للكتاب وتحريف للأوامر والنواهي ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون ليعلموا أنه حكم عدل لا يظلم مثقال درة.
بين الله في هذه الآية أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كما نسي اليهود وسر هذا أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتنزيهه وطرق الإرشاد إلى عبادته وكان الذين اتبعوه من العامة وأمثلهم حوارية وهم من الصيادين وقد اشتد اليهود في مطاردتهم في كل مكان ومن ثم لم تكن لهم جماعات ذات نفوذ وقوة وعلم تدون ما حفظوه من الإنجيل.
إلى أن كثيرا من الناس كانوا يبثون تعاليم باطلة على المسيح ومنهم من كتب مثل هذا حتى إن الكتب التي سموها الأناجيل كانت كثيرة جدا ولم تظهر الأناجيل الأربعة التي عليها المعول عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح عندما صار النصارى دولة بدخول الملك قسطنطين في النصرانية وإدخاله إياها في طور جديد من الوثنية وهي تاريخ ناقص للمسيح على ما بها من تعارض وتناقض مع كونها مجهولة الأصل والتاريخ وقد أقاموا بناء دينهم وكتبهم التي يسمونها ( العهد الجديد ) على أساس كتب اليهود التي يسمونها كتب العهد العتيق وقد علمت شأنها فيما سلف.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أنه أخذ الميثاق على اليهود والنصارى كما أخذه على هذه الأمة وأنهم نقضوا العهد والميثاق وتركوا ما أمروا به وأنهم أضاعوا حظا عظيما مما أوحاه إليهم ولم يقيموا ما حفظوا منه – دعاهم عقب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي جاء به.
و هذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وهو من معجزات القرآن الكثيرة المنبثة في تضاعيفه.
الإيضاح :﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ﴾ قال ابن عباس : أخفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأخفوا أمر الرجم وعفا عن كثير مما أخفوه فلم يفضحهم ببيانه اه.
أي يا أهل الكتاب إنا أرسلنا إليكم محمدا رسول الله وخاتم النبيين يبين لكم كثيرا من الأحكام التي كنتم تخفونها وقد أنزلها الله عليكم كحكم رجم الزاني وهو مما حفظتموه من أحكام التوراة كما هو ثابت في سفر التثنية لكنكم لم تلتزموا العمل به وأنكره عالمكم ابن صوريا أمام النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم عليه وناشده الله فاعترف به وكذلك أخفى اليهود والنصارى صفات النبي صلى الله عليه وسلم والبشارات به وحرفوها بالحمل على معان أخرى إلى ما أضاعوه من كتبهم ونسوه كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من أخبار الحساب والجزاء في الآخرة وأظهره الرسول لهم وكانت الحجة عليهم فيه أقوى إذ هم يعلمون أنه نبي أمي لم يطلع على شيء من كتبهم ومن ثم آمن به من آمن من علمائهم المنصفين واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزات القرآن التي لا ينبغي أن يمتري أحد فيها ومع هذا فقد كان يعفو عن كثير مما كانوا يخفونه ولا يظهر الكثير مما يكتمونه وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين والفائدة في ذكر بعضه إعلامهم بأن الرسول عالم بكل ما يخفونه فيكون ذلك داعيا لترك الإخفاء حتى لا يفتضحوا.
و من شأن علماء السوء في كل أمة أن يكتموا من العلم ما يكون حجة عليهم وكاشفا عن سوء حالهم أو يحرفوه بحمله على غير ظاهر معناه.
﴿ وقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ﴾ النور هو النبي صلى الله عليه وسلم وسمي بذلك لأنه للبصيرة كالنور للبصر فكما انه لولا النور ما أدرك البصر شيئا من المبصرات كذلك لولا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة الدين الحق ولا ما أطرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضهما أو نسيانه وعبث الرؤساء بالبعض الآخر بإخفاء شيء منه أو تحريفه ولظلوا في ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون.
و الكتاب المبين : هو القرآن الكريم وهو بين في نفسه مبين لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم.
و هذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وهو من معجزات القرآن الكثيرة المنبثة في تضاعيفه.
﴿ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط المستقيم ﴾ قوله :﴿ من اتبع رضوانه ﴾ أي من كان همه من الدين ابتغاء رضوان الله لا تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذه من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال و﴿ السلام ﴾ بمعنى السلامة : أي طرق السلامة من كل مخافة وقوله :﴿ من الظلمات على النور ﴾ : أي من ظلمات الكفر على نور الإيمان وقوله :﴿ بإذنه ﴾ أي بإرادته أو بتوفيقه بالجري على سننه تعالى في تأثير الأعمال الصالحة والعقائد الصحيحة في النفوس وإصلاحها إياها وقوله :﴿ إلى صراط مستقيم ﴾ أي إلى الدين الحق لأنه واحد ومتفق من جميع جهاته اما الباطل فمتعدد الطرق وكلها معوجة ملتوية.
و قد ذكر سبحانه للكتاب ثلاث فوائد :
( ١ ) إن المتبع لما يرضي الله بالإيمان بهذا الكتاب – يهديه إلى الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل ما يبعده عن الشقاء والهلاك فيقوم في الدنيا بحقوق الله والحقوق الواجبة عليه لنفسه ﴿ روحية كانت أو جسدية ﴾ وللناس ويكون في الآخرة منعما روحيا وجسديا.
و خلاصة ذلك : إنه يتبع دينا يجد فيه ما يوصله إلى السلامة من الشقاء في الدنيا والآخرة لأنه دين الإخلاص والعدل والمساواة.
( ٢ ) إنه يخرج معتنقيه من ظلمات الوثنية والأوهام والخرافات التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان – إلى نور التوحيد الخالص الذي يجعل صاحبه حرا كريما بين يدي الخلق خاضعا للخالق وحده.
( ٣ ) إنه يهدي إلى الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين إذا اعتصم به من اتبعه على الوجه الصحيح الذي أنزل لأجله كما عمل بذلك أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
المعنى الجملي : بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب عامة بين ما كفر به النصارى خاصة.
الإيضاح :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ﴾ المسيحيون في هذا العصر فرق ثلاث : الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت ( أي إصلاح النصرانية ) وهذا المذهب الأخير حدث من نحو أربعة قرون وصار هو المذهب السائد في أعظم الأمم مدينة وارتقاء كالولايات المتحدة وانجلترا وألمانيا وقد أزال هذا المذهب كثيرا من التقاليد والخرافات النصرانية التي كانت قبله واستبدل بها تقاليد أخرى ومع كل هذا فهؤلاء المصلحون لم يستطيعوا أن يرجعوا المسيحية إلى التوحيد الصحيح الذي هو دين المسيح ودين سائر الأنبياء فلا يزالون يقولون بالتثليت ويعدون الموحد غير مسيحي كما تقول يذلك الفرقتان الكبيرتان الأخريان.
و جميع فرق النصارى في هذا العصر تقول : إن الله هو المسيح ابن مريم وإن المسيح ابن مريم هو الله ولكن النصارى القدماء لم يكونوا متفقين على هذه العقيدة إذ كان بعضهم يفسر الآب والابن وروح القدس بأنها الوجود والعلم والحياة والقول بها لا ينافي توحيد الخالق كما أنه يوجد الآن في نصارى أوربا وغيرهم موحدون يعتقدون أن المسيح نبي ورسول لا إله.
قال الدكتور بوست البروتستانتي في تاريخ الكتاب المقدس ( طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر : الله الآب والله الابن والله الروح القدس فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفدى وإلى الروح المقدس التطهير غير أن هذه الثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء ).
و العمدة عندهم في هذه العقيدة عبارة جاءت في إنجيل يوحنا وهي ( في البدء كانت الكلمة والكلمة كان عند الله والله هو الكلمة ) وقد فسروا الكلمة بالمسيح فيصير معنى الفقرة الثالثة من إنجيل يوحنا ( والله هو المسيح ابن مريم ) وهذا عين ما أسنده القرآن إليهم.
و لا شك أن هذه العقيدة وثنية أخذت عن قدماء المصرين والبراهمة والبوذيين وغيرهم من وثني الشرق والغرب.
﴿ قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ﴾ أي قل أيها النبي الكريم لهؤلاء النصارى : من يقدر على دفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه بل عن سائر الخلق جميعا إن أراد أن يهلكهم ويبيدهم ؟.
وخلاصة هذا : إن المسيح وأمه من المخلوقات القابلة للفناء والهلاك كسائر أهل الأرض، فإذا أراد الله، يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعا لا يستطيع أحد أن يرد إرادته، لأنه هو مالك الملك الذي يصرفه بمقتضى مشيئته وإرادته وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك كما لا يستطيع أن يدفعه عن غيره، فكيف يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء ؟.
ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال :
﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ﴾ أي فمن يملك من الله شيئا إن أراد إهلاك المسيح وأمة وأهل الأرض قاطبة ؟ فهو صاحب الملك والتصرف في السماوات والأرض وما بينهما أي وما بين العالمين العلوي والسفلي بالنسبة إليكم.
ثم دفع شبهة تحوك في صدورهم من كيفية خلق عيسى فقال :
﴿ يخلق ما يشاء ﴾ أي إن تلك الشبهة التي عرضت لكم وجعلتكم تزعمون أن المسيح بشر وإله- هو أنه خلق على غير السنة العام وأنه عمل أعمالا عجيبة لا تصدر من عامة البشر فالله له ملك السماوات والأرض ويخلق الخلق على مقتضى مشيئته فقد يخلق بعض الأحياء من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة كأصول أنواع الحيوان ومن ذلك أبو البشر آدم عليه السلام وقد يخلق بعضها من أنثى فقط وقد يخلق بعضها من ذكر وأنثى وشكل الخلق وسببه لا يدل على امتياز لبعضها عن بعض ولا على ألوهية لبعضها ولا حلول الإله الخالق فيها فسنة الله في خلق المسيح ومزاياه لا تدل على كونه إلها وربا لأن هذه المزايا في الخلق كلها بمشيئة الخالق ولا يخرج بها المخلوق عن كونه مخلوقا.
﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ وبقدرته يخلق ما يشاء فتارة يخلق الإنسان من الذكر والأنثى وتارة بدون أب ولا أم كما في آدم وأخرى من أم ولا أب في عيسى عليه السلام.
و الخلاصة : إن كل ما تعلقت به مشيئة ينفذ بقدرته وإنما يعد بعضه غريبا بالنسبة إلى علم البشر الناقص لا بالنسبة إليه تعالى وكذلك غرابة بعض فعالهم قد تكون عن علم كسبي يجهله غيرهم أو عن تأييد رباني لا صنع لهم فيه ولا تأثير.
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي وبحري بن عمرو وشاس بن عدي من اليهود فكلمهم وكلموه ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه كما قالت النصارى ذلك فأنزل الله فيهم :
﴿ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ إلى آخر الآية وقد جاء إطلاق هذا اللفظ ( أبناء الله ) في الإنجيل على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين كما حكاه متى في وعظ المسيح على الجبل من قوله :( طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون ) وكقول بولس في رسالته إلى اهل الرومية ( لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله ) ومن هذا يعلم أن ( ابن الله ) يستعمل في كتبهم بمعنى حبيب الله الذي يعامله معاملة الأب لابنه من الرحمة والإحسان والتكريم ولكن النصارى تحكموا في هذا اللقب فجعلوه بمعنى الابن الحقيقي للمسيح وبالمعنى المجازي بالنسبة إلى غيره من الصالحين.
و قد رد الله عليهم بقوله لنبيه :
﴿ قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق يعفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾ أي قل لهم أيها النبي إذا كان الأمر كما زعمتم فلم يعذبكم الله بذنوبكم في الدنيا كما ترون ؟من تخريب الوثنيين لمسجدكم الأكبر ولبلدكم المرة بعد المرة ومن إزالة ملككم من الأرض والأب لا يعذب ابنه والحبيب لا يعذب حبيبه فلستم إذا أبناء الله ولا أحباؤه بل أنتم بشر من جملة ما خلق والله سبحانه لا يحابي أحدا وإنما يعفر لمن يعلم أنه مستحق للمغفرة ويعذب من يعلم أنه مستحق للعذاب فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم فكل هذا لا يجزيكم فتيلا ولا قطميرا وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان الصحيح وصالح الاعمال فالجزاء أنما يكون عليها ولا على الأسماء والألقاب :
﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ﴾ أي إنه تعالى الخالق ذو التصرف المطلق في كل شيء بمقتضى علمه وحكمته وعدله وفضله وجميع المخلوقات عبيد له لا أبناء ولا بنات ﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ ( مريم : ٩٣ ).
و في ختمها بقوله﴿ وإليه المصير ﴾ إشارة إلى انه سيعذبهم في الآخرة على هذا الكفر والدعاوى الباطلة وانهم عندما يصيرون إليه يعلمون أنهم عبيد آبقون يجازون لا أبناء ولا أحباء يحابون.
و قد كان اليهود يعتقدون أنهم شعب الله الخاص ميزهم عن سائر البشر فليس لشعب آخر أن يطلب مساواته بهم وإن كان أصح منهم إيمانا وأصح أعمالا ولا ينبغي أن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه عربي لا إسرائيلي والفاضل لا يتبع المفضول والله لا يعاملهم إلا معاملة الوالد لأبنائه الأعزاء والنصارى قد زادوا عليهم غرورا فهم قد ادعوا أن المسيح فداهم بنفسه وانهم أبناء الله بولادة الروح والمسيح ابنه الحقيقي ويخاطبون الله تعالى بلقب الأب.
و قد جاهد النبي صلى الله عليه وسلم غرور اليهود جهادا عظيما ولم يجد ذلك فيهم شيئا فرفضوا دعوته وردوا ما جاءهم به من أن العمل مرضاة الله وبه تنال تزكية النفس وإصلاحها كما جاهد صلف النصارى وكبرهم وكانوا زمن التنزيل أشد من اليهود فسادا وظلما وعدوانا بشهادة المؤرخين ومع كل هذا يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم ليسوا في حاجة إلى إصلاح دينهم ولا دنياهم كما فعل اليهود مثل ذلك.
و الخلاصة : إن هذه الآيات تبين لنا سنة الله في البشر وأن الجزاء إنما يكون على الأعمال لا على الأسماء والألقاب.
﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ﴾ أي قد جاءكم رسولنا الذي بشرتم به في كتبكم وأخبركم به أنبياؤكم فقد جاء على لسان موسى ( أنه سيقيم نبيا من بني إسماعيل إخوتكم ) وعلى لسان عيسى ( أنه سيجيئ البارقليط روح الحق الذي يعلمكم كل شيء ) وفي الإنجيل الرابع إن اليهود أرسلوا كهنة ولاويين ( أحبارا ) فسألوا يوحنا عليه السلام : أأنت المسيح ؟ قال : لا أأنت إيليا ؟ قال : لا أأنت النبي ؟ قال : لا
هذا الرسول هو محمد بن عبد الله النبي الأمي يبين لكم على فترة من الرسل أي على انقطاع منهم وطول عهد بالوحي _جميع ما أنتم في حاجة إليه من أمور دينكم ودنياكم من عقائد أفسدتها عليكم نزعات الوثنية، وأخلاق وآداب صحيحة أفسدها عليكم إفراطكم في الأمور المادية والروحية وعبادات وأحكام تصلح أمور الأفراد والمجتمع.
و يدخل في ذلك ما بينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب لإقامة الحجة عليكم ولولا أنه رسول من عند الله لما تسنى له أن يعرف شيئا مما جاء به.
و قد أرسل _ صلوات الله عليه _ وقد فشا التغيير والتحريف في الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها، فاختلط فيها الحق بالباطل والصدق بالكذب، وصار ذلك عذرا ظاهرا في إعراض الخلق عن العبادات، إذ لهم أن يقولوا : يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك، ولكن كيف نعبدك ؟ فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم في ذلك الحين لإزالة هذا العذر الذي بينه سبحانه بقوله :
﴿ أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾ أي إنما بعثناه إليكم كراهة أن تقولوا ما جاءنا من بشير فقال يبشرنا بحسن العاقبة للمؤمنين، وينذرنا بسوء عاقبة المفسدين الضالين ثم بين أنه أزال هذا العذر فقال :
﴿ فقد جاءكم بشير ونذير ﴾ بين لكم أمر النجاة والخلاصة والسعادة الأبدية، وأنها منطوية بالإيمان والأعمال، وأن الله لا يحابي أحدا.
﴿ و الله على كل شيء قدير ﴾ ومن دلائل قدرته نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته في الدنيا، وفي ذلك رمز لكم إن كنتم من ذوي الأحلام إلى ما يكون له من المنزلة في الدار الآخرة.
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود الإسلام فرغبهم فيه وحذرهم، فأبوا عليه فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقب بن وهب : يا معشر يهود اتقوا الله فوا لله لتعلمن أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا : إنا ما قلنا لكم هذا، وما أنزل من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل الله بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله الآية.
المعنى الجملي : بعد أن أقام سبحانه الحجة على بني إسرائيل وأثبت لهم رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم بما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال غرورهم وهم مع كل هذا لم يزدادوا إلا كفرا وعنادا – قص علينا في هذه الآيات خبرا من أخبارهم مع موسى عليه السلام وهو المنقذ لهم من الرق والعبودية واضطهاد المصريين لهم إلى الحرية والاستقلال لكنهم مع هذا كله كانوا يخالفونه ويعصون أوامره- ليعلم الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن مكابرتهم للحق خلق من أخلاقهم توارثوها من أسلافهم وتأصلت في طباعهم فلا بدع إذا هم أعرضوا عن دعوتك وصدوا عن هديك – وفي هذا من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى إلى ما فيه من زيادة معرفة طبائع الأمم وسنن الاجتماع البشري.
الإيضاح :﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ﴾ أي واذكر أيها الرسول الكريم لنبي إسرائيل وسائر من تبلغهم دعوتك حين قول موسى لقومه بعد ان أنقذهم من ظلم فرعون وقومه واخرجهم من ذلك البلد الظالم أهله : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم واشكروه على ذلك بالطاعة له لأن ذلك يوجب مزيدها كما قال تعالى :﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ ( إبراهيم : ٧ ) وتركها يوجب المؤاخدة والعذاب الشديد كما قال تعالى :﴿ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ ( إبراهيم : ٧ ).
و قد بين لهم موسى أصناف هذه النعم التي منحها لهم مولاهم وحصرها في ثلاثة اشياء :
( ١ ) وهو أرفعها قدرا وأعلاها ذكرا أنه جعل كثيرا منهم أنبياء كموسى وهارون ومن كان قبلهما وقد حكى ابن جرير أن السبعين الذين اختارهم موسى ليصعدوا معه الجبل حين يصعده لمناجاة ربه صاروا كلهم أنبياء والمعروف أن النبوة عند أهل الكتاب المراد منها الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل، وقد كان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بما في التوراة ويعملون بها حتى المسيح عليه السلام.
( ٢ ) أنه جعلهم ملوكا، والمراد من الملك هنا الحرية في تدبير أمورهم وأمور أسرهم بأنفسهم، وفي هذا من تعظيم النعمة مالا يخفى يؤيد هذا ما رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا :'' كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا '' وما رواه داود عن زيد بن أسلم '' من كان له بيت وخادم فهو ملك''.
و لا شك أن من كان متمتعا بمثل هذا كان متمتعا بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية في التصرف في سياسة بيته والناس يقولون إلى الآن لمن كان مخدوما مع عشيرته هانئا في معيشته مالكا لمسكنه ( هذا ملك – أو ملك زمانه ) يريدون أنه يعيش عيشة الملوك
( ٣ ) أنه آتاهم ما لم يؤت أحد من العالمين أي عالمي زمانهم وشعوبه التي مانت مستعبدة للطغاة من الملوك فقد خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام فقد فلق البحر لهم واهلك عدوهم وأورثهم أموالهم وانزل عليهم المن والسلوى وأظل فوقهم الغمام.
و بعد أن ذكرهم موسى بهذه النعم وشرحاه لهم – أمرهم بمجاهدة العدو وأبان لهم ان الله ناصرهم ما نصروه فقال :
﴿ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ﴾ المقدسة المطهرة من الوثنية لما بعث الله فيها من الأنباء الدعاة إلى التوحيد روى ابن عساكر عن معاذ بن جبل أن الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات وبعضهم يسمى القسم الشمالي من هذا القطر باسم سورية والباقي باسم فلسطين أو بلاد المقدس أو الأرض المقدسة أو أرض الميعاد لأن الله وعد بها ذرية إبراهيم ويدخل فيما وعد الله به إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب.
فقول موسى :﴿ كتب الله لكم ﴾ يريد به ما وعد الله به إبراهيم من حق السكنى في تلك البلاد المقدسة لا أن المراد أنها تكون كلها ملكا لهم لا يزاحمهم فيها أحد لأن هذا مخالف للواقع ولن يخلف الله وعده فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم ذاك الملك ليس بصحيح.
و نص هذا الوعد في سفر التكوين من التوراة إنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب وقال :( لنسلك أعطي هذه الأرض ) وجاء فيه أيضا في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا :( لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر المبير نهر الفرات ).
﴿ ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ﴾ أي لا ترجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل والهدى والرشاد إلى الوثنية والفساد في الأرض بالظلم والبغي واتباع الأهواء فإن في هذا الرجوع خسرانا لكم إذ تخسرون فيه هذه النعم ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء شكركم فتحرمون من خيراتها وبركاتها وقد جاء في بعض أوصافها ( إنها تفيض لبنا وعسلا ) وتعاقبون بالتية أربعين سنة ينقرض فيها المرتدون على أدبارهم.
﴿ قالوا يا موسى فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ﴾ الجبار لغة : الطويل القوي المستكبر العاتي المتمرد الذي يجبر غيره على ما يريد من قولهم : نخلة جبارة أي طويلة لا ينال ثمرها بالأيدي.
إن سكان تلك البلاد في ذلك الحين هم بني عناق وكانوا أولي قوة وبأس طوال القامة ضخام الأجسام وقد ورد في وصفهم في الإسرائليات من الخرافات التي كان يبثها اليهود في المسلمين ما لا يصدقه العقل ولا ينطبق على ما عرف من سنن الله في خلقه كقولهم : إن العيون ( الجواسيس ) الأنثى عشر الذين بعثهم موسى إلى ما وراء الأردن ليتجسسوا ويخبروه بحال تلك الأرض ومن فيها قبل أن يدخلها قومه رآهم احد الجبارين فوضعهم كلهم في كسائه وفي رواية أخرى إن احدهم كان يجني الفاكهة فكان كلما أصاب واحد من هؤلاء العيون وضعه في كمه مع الفاكهة – على نحو أولئك من روايات بعيدة عن الصدق فالمصريون هم هم ونسل الكنعانيين مشاهد معروف لا يمكن ان تكون أصوله على ما وصفوا.
و هذه القصة مبسوطة في السفر الرابع من أسفار التوراة ففيها : إن الجواسيس تجسسوا أرض كنعان كما أمروا وأنهم قطعوا في عودتهم زرجونة فيها عنقود عنب واحد حملوه بعتلة بين اثنين منهم مع شيء من الرمان والتين وقالوا لموسى وهو في ملأ نبي إسرائيل قد صرنا إلى الأرض التي بعثننا إليها فإذا هي بالحقيقة تدر لبنا وعسلا وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكنين فيها أقوياء والمدن حصينة عظيمة جدا ورأينا ثم أيضا بني عناق – إلى أن قال : وقد رأينا ثم من الجبابرة جبابرة بني عناق فصرنا في عيوننا كالجراد وكذلك كنا في عيونهم – وذكر في فصل آخر : تذمر بني إسرائيل من أمر موسى لهم بدخول تلك الأرض وأنهم بكوا وتمنوا لو أنهم ماتوا في أرض مصر أو في البرية وقالوا : لماذا أتى الرب إلى هذه الأرض حتى نسقط تحت السيف وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة أليس خيرا لنا أن نرجع على مصر ؟ إلخ.
و الخلاصة : إن موسى لما قرب بقومه من حدود الأرض المقدسة العامرة الآهلة أمرهم بدخولها مع الاستعداد لقتال من يقاتلهم من اهلها وإنهم لما غلب عليهم الضعف والذل واضطهاد المصريين لهم وظلمهم إياهم أبوا وتمردوا واعتذروا بضعفهم وقوة أهل تلك البلاد وحاولوا الرجوع إلى مصر وقالوا لموسى : إنا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارون فيها وقولهم ﴿ فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ﴾ تأكيد لما فهم مما قبله مشعر بأنه لا علة لامتناعهم إلا ما ذكروه.
و في إجابتهم هذه دليل على منتهى الضعف وحور العزيمة وعلى أنهم لا يريدون أن يأخذوا شيئا باستعمال قواهم البدنية ولا العقلية ولا أن يدفعوا الشر عن أنفسهم ولا أن يجلبوا لها الخير بل يريدون ان يعيشوا بالخوارق والآيات ما داموا في هذه الحياة.
و لا شك ان أمة كهذه لا تستحق أن تتمتع بنعيم الاستقلال وتحيا حياة العز والكرامة وتكونه ذات تصرف مطلق في شؤونها ومن ثم لم تقم لها دولة بعد ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ ( الكهف : ٤٩ ).
﴿ قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ﴾ قوله ؟ : يخافون أي يخافون الله تعالى وقوله ﴿ أنعم الله عليهما ﴾ أي بالطاعة والتوفيق لما يرضيه حتى في حال الخوف والذعر والتوراة وتبعها المفسرون قاطبة على أن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يفنة وانهما كانا يحثان القوم على الطاعة ودخول أرض الجبارين ثقة بوعد الله بالنصر وتأييده إياهم.
﴿ ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلة الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ﴾ أي ادخلوا عليهم باب المدينة فإذا فعلتم ذلك نصركم الله وأيدكم بروح من عنده بعد ان تعملوا ما في طاقتكم من طاعة ربكم وتثقوا به فيما لا يصل إليه كسبكم إن كنتم مؤمنون بأن وعد الله حق وأنه قادر على الوفاء به وإنما جزم هذان الرجلان بأنهم سيغلبون إذا دخلوا ثقة بنبوة موسى وهو قد أخبرهم بأن الله أمرهم بدخول الأرض المقدسة التي كتبها لهم لا جرم قطعا بالنصر والغلبة على العدو.
﴿ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ﴾ أي إنهم أصروا على العناد والتمرد ولم تغن عنهم عظات الرجلين شيئا فأكدوا لموسى أنهم لا يدخلون هذه الأرض مدى حياتهم ما دام فيها الجبارون لأنهم لا طاقة لهم بالحرب والقتال إذ ليسوا من أهله فإن صحت عزيمتك على ذلك فاذهب أنت وربك الذي أمرك بذلك فقاتلا الجبارين وأخرجاهم من هذه الأرض وإنا ها هنا قاعدون منتظرون.
و هذا القول الذي صار منهم يدل على منتهى الجفاء والبعد عن الأدب وليس هذا بالغريب من أمثال هؤلاء الذين عبدوا العجل وكان دأبهم الشغب مع أنبيائهم وقتلوا كثيرا منهم كإشعيا وزكريا وقص القرآن كثيرا من فساد طباعهم وقسوتهم وغلظتهم.
﴿ قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ﴾ أي قال موسى باثا شكواه إلى ربه معتذرا من فسق قومه عن أمره الذي يبلغه عنه – إني لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسي وأمر أخي ولا أثق بغيرنا أن يطيعك في اليسر والعسر والمنشط والمكره ( المحبوب والمكروه ).
و في هذا إيماء إلى انه لم يكن موقنا بثبات يوشع وكالب ورغبتهما في الطاعة إذا أمر الله بدخول أرض الجبارين والتصدي لقتالهم فإن من يجرؤ على القتال مع الجيش الكبير فربما لا يجرؤ عليه مع العدد القليل فلما رأى من بلائه معه في مقاومة فرعون وقومه ولسياسة أمور بني إسرائيل عند مناجاة ربه ولما يعلم من تأييد الله له بمثل ما أيده به.
﴿ فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ﴾ الفرق : الفصل بين الشيئين أو الأشياء أي فافصل بيننا ( يريد نفسه وأخاه ) وبين القوم الفاسقين عن طاعتك بقضاء تقضيه بيننا فتحكم لنا بما نستحق وعليهم بما يستحقون فقد صرنا خصما لهم وصاروا خصما لنا وقيل إن المعنى : إنك إذا أخذتهم بالعقاب على قسوتهم فلا تعاقبنا معهم في الدنيا.
﴿ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ﴾ التيه : الحيرة يقال تاه يتيه : إذا تحير ومفازة تيهاء إذا تحير فيها سالكها لعدم الأعلام التي يهتدي بها والتحريم : المنع أي قال الله لموسى مجيبا دعوته : إن الأرض المقدسة محرمة على بني إسرائيل تحريما فعليا لا تكليفا شرعيا مدة أربعين سنة يتيهون فيها في الأرض : أي يسيرون فيها في برية تائهين متحيرين لا يدرون أين مصيرهم.
{ فلا تأس على القوم الفاسقين الأسى : الحزن يقال أسيت عليه أسى وأسيت له أي فلا تحزن عليهم لأنهم فاسقون متمردون مستحقون لهذا التأديب الإلهي.
جاء في هذا الفصل الرابع من سفر العدد أن بني إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم سقط موسى وهارون على وجوههما أمامهم وأن يوشع وكالب مزقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيه فهم الشعب برجمهما وظهر مجد الرب لموسى في خيمة الاجتماع ( وقال الرب لموسى : حتى متى يهينني هذا الشعب ؟ حتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي علمت في وسطهم ؟ إني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم ) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه فقبل الرب شفاعته قال ( إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية وجربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولي لن يروا الأرض التي خلفت لآبائهم وجميع الذين أهانوني لا يرونها ) واستثنى الرب كالبا فقط ثم قال :( أنا الرب قد تكلمت لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي في هذا القفر يفنون وفيه يموتون ).
و إن في هذا العقاب الإلهي لعبرة لأولي الألباب يستفيدون منها أن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستعباد تذهب أخلاقها ويذهب بأسها وتضرب عليها الذلة والمسكنة وتأنس بالمهانة وإذا طال عليها الأمد أصبحت تلك الصفات عزائز وطباعا خلقية لها فإذا خرجوا من بئتهم ورفع عنهم نير الظلم والاستعباد حنوا على ما كانوا فيه وتاقت نفوسهم إلى الرجوع إليه وهذا شأن البشر في جميع ما يألفون ويجرون عليه من خير وشر.
و قد أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر وطبع عليهم بطابع الذلة والمهانة وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من العبودية إلى نعيم الحرية ومع هذا كله كانوا إذا أصابهم نصب أو جوع أو كلفوا أمرا يشق عليهم يتطيرون بموسى ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها وحين غاب عنهم لم لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليهم وعبدوه وكان الله يعلم أن نفوسهم ميتة لا تطيعهم على دخول أرض الجبارين وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية نشأ بعده جيل جديد يعيش في حرية البداوة وعدل الشريعة.
و على هذه السنة العادلة أمر الله بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله لكنهم أبوا واستكبوا فأخذهم بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوما آخرين جعلهم الأئمة الوارثين بهممهم الموافقة لسنته في الاجتماع.
تفسير المفردات : التلاوة : القراءة ولا تكاد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى والنبأ : الخبر الذي يهتم به لفائدة ومنفعة عظيمة والقربان : ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها. وهو في الأصل مصدر فلهذا يستوي فيه الواحد وغيره
المعنى الجملي : بعد ان ذكر عز اسمه حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن دعوته مع وضوح البرهانات الدالة على صدقه وكثرة الآيات المثبتة لنبوته حتى هم قوم منهم أن يبسطوا أيديهم لقتله وقتل كبار أصحابه كما ذكر ذلك في قوله :﴿ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾ ( المائدة : ١١ ) ذكر هنا قصة ابني آدم بيانا لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحملهم على عداوته عريقا في الآدميين وأثرا من آثار سلفهم كان لهؤلاء منه الحظ الأوفر فلا تعجب من حالهم بعد هذا فإن لهم أشباها ونظائر في البشر كابني آدم وقد حدث بينهم من أجل التحاسد سفك الدماء وقتل الأخ أخاه وبذر تلك البذور السيئة في بني آدم إلى قيام الساعة.
الإيضاح :﴿ واتل عليهم نبأ انبي آدم بالحق ﴾ جمهرة العلماء على أن هذين الابنين هما ابنا آدم من صلبه وفي سفر التكوين أنهما أول أولاد آدم اسم أحدهما قاين أو قايين وهو البكر وسماه المفسرون والمؤرخون من المسلمين قابيل وهو القاتل واسم الثاني هابيل وهو المقتول وقد ذكروا روايات غريبة عنهما لا تعرف إلا من الوحي وفي وصف الله تعالى ما قاله :''بالحق'' دليل على أن ما يلوكه الناس سوى ذلك فباطل.
أي واتل أيها الرسول على أهل الكتاب وغيرهم من الناس ذلك النبأ العظيم نبأ ابني آدم تلاوة كاشفة للحق مظهرة له مبينة لغرائز البشر وطبائعهم وهي أنهم جبلوا على التباين والاختلاف الذي يفضي إلفى التحاسد والبغي والقتل ليعلموا الحكمة فيما شرعه الله في عقاب البغاة من الأفراد والجماعات ويفقهوا أن بغي اليهود على الرسول والمؤمنين ليس من دينهم في شيء وإنما ذاك للحسد والبغضاء فما مثلهم إلا مثل ابني آدم إذ حسد شرهما خيرهما فبغى عليه فقتله وكان مآله ما بينه الله في الآيات بعد :
﴿ إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الىخر ﴾ أي اتل عليهم نبأهما وقت تقديم كل منهما القربان وما تبعه من البغي والعدوان فتقبل الله من أحدهما قربيانه لتقواه وإخلاصه وطيب نفسه به ولم يتقبل من الآخر لعدم التقوى والإخلاص ولم يبين لنا سبحانه كيف علم أنه تقبل من احدهما دون الآخر وربما كان ذلك بوحي من الله لأبيهما آدم عليه السلام.
روي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث وزرع فقرب شر ما عنده وأردأه غير طيبة به نفسه وكان الآخر صاحب غنم وقرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة به نفسه كما روي عن بعضهم أن القربان المقبول كانت تجيء النار من السماء لتأكله ولا تأكل غير المقبول وكل هذا من الأخبار الإسرائيلية التي ليس لها مستند يوثق به.
و القرابين عند اليهود أنواع :
منها : المحرقات للتكفير عن الخطايا بذبح ذكور البقر والغنم السالمة من العيوب
و منها : التقديمات من الدقيق والزيت والألبان.
ذو منها : ذبائح السلامة لشكر الرب تعالى.
و القربان عند النصارى ما يقدسه الكاهن من الخبز والخمر فيتحول في اعتقادهم إلى لحم المسيح ودمه حقيقة.
و القربان عند المسلمين اسم لذبائح النسك كالأضاحي وغيرها.
﴿ قال لأقتلنك ﴾ أي إن من لم يتقبل منه توعد أخاه وحلف ليقتلنه فأجابه الآخر أحسن جواب.
﴿ قال إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ أي لا يقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال إلا ممن يتصف بتقوى الله والخوف من عقابه باجتنابه الشرك وسائر المعاصي كالرياء والشح واتباع الأهواء.
و خلاصة جوابه : إنني لم أذنب إليك ذنبا تقتلني به فإن كان الله لم يتقبل قربانك فحاسب نفسك لتعرف سبب ذلك فإن الله إنما يتقبل من المتقين فاحمل نفسك على تقوى الله والإخلاص له في العمل ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك قال تعالى :﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ ( آل عمران : ٩٢ ) وفي الحديث :'' إن الله تعالى طيب لا يقبل الطيب ''.
و في هذا من العبرة ما كان ينبغي أن يتعظ به المراؤون الذين يبغون بما يتصدقون به الصيت واجتلاب الثناء من الناس وحسن الأحدوثة.
تفسير المفردات :
وبسط اليد إليه : مدها ليقتله
الإيضاح :
ثم بين سبحانه ما يجب للناس من احترام الدماء وحفظ الأنفس ولاسيما بين الإخوة فقال :
﴿ لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ﴾ أي إن مددت يدك لتقتلني فما أنا بالمجازي لك على السيئة بالسيئة مثلها فذاك لا يتفق مع شمائلي وصفاتي إذ لست ممن يتصف بهذه الصفة المنكرة التي تنافي تقوى الله والخوف من عذابه وهذا ما عناه بقوله :
ثم بين علة امتناعه عن قتله فقال :
﴿ إني أخاف الله رب العالمين ﴾ أي إني أخاف الله وأخشى أن يراني باسطا يدي إلى الإجرام وسفك الدماء بغير حق وهو رب العالمين الذي يغذيهم بنعمه ويربيهم بفضله وإحسانه فالاعتداء على أرواحهم أكبر مفسدة لهذه التربية.
و لا شك أن هذا الجواب يتضمن أبلغ الموعظة والاستعطاف لأخيه العازم على الجناية وليس في الكلام ما يدل على عدم الدفاع ألبتة ولكن فيه التصريح بعدم الإقدام على القتل وقد روى أحمد والشيخان وغيرهم قوله صلى الله عليه وسلم '' إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار '' قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال :'' إنه كان حريصا على قتل صاحبه ''.
تفسير المفردات :
البوء : اللزوم وفي النهاية لابن الأثير : أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي : أي ألتزم وأقر
الإيضاح :
ثم قفى على عظته البالغة ونصائحه النافعة بالتذكير بعذاب الآخرة من قبل أن الوعظ لا يؤثر في كل نفس فقال :
﴿ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ﴾ أي إني أريد بالابتعاد من مقابلة الجريمة بمثلها أن ترجع إن فعلتها ملتبسا بإثمي وإثمك أي بإثم قتلك إياي وإثمك الخاص بك الذي كان من آثاره عدم قبول قربانك وروي هذا عن ابن عباس.
و قيل إن المراد – أن القاتل يحمل في الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق العباد لا يغفر الله منها شيئا حتى يأخذ لكل ذي حق حقه فيعطي المظلوم من حسنات الظلم ما يساوي حقه إن كانت له حسنات توازي ذلك أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازي ذلك إن كان له آثام واوزار وما نقص من هذا أو ذاك يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء في الجنة أو النار.
﴿ فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ﴾ أي فتكون بما حملت من الآثمين من أهل النار في الآخرة جزاء ظلمك والنار جزاء كل ظالم.
و قد سلك في عظته وجوها تأخذ بمجامع اللب ويرعوي لها فؤاد المنصف فقد تبرأ من كونه سببا في حرمانه من تقبل القربان لأن سبب التقبل عند الله هو التقوى ثم انتقل إلى تذكيره بما يجب من خوف الله ثم إلى تذكيره بأن المعتدي يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه ثم إلى تذكيره بعذاب النار لأنها مثوى الظالمين.
تفسير المفردات :
فطوعت : أي فشجعت وزينت
الإيضاح :
ثم أبان سبحانه أن المواعظ لم تجد فيه فتيلا ولا قطميرا فماذا تغني الزواجر والعظات في نفس الحاسد الظالم ؟ فقال :
﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ﴾ أي إنه كان يهاب قتل أخيه وتجبن فطرته دونه وما زالت نفسه الأمارة تشجعه عليه حتى تجرأ وقتله عقب التطويع بلا تفكير ولا تدبر في العاقبة والمشاهد بالاختبار من أعمال الناس أن من تحدثه نفسه بالقتل يجد من نفسه صارفا أو عدة صوارف تنهاه عن القتل حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح الفعل على الترك فحينئذ يقتل إن قدر.
﴿ فأصبح من الخاسرين ﴾ أي من الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة فهو في الدنيا قد قتل أبر الناس وهو الأخ التقي الصالح وخسر الآخرة لأنه لم يصر أهلا لنعيمها الذي أعد للمتقين.
تفسير المفردات :
والسوءة : ما يسوء ظهوره والويل : حلول الشر والويلة : الفضيحة والبلية : أي وفضيحتاه والأجل : في الأصل الجناية يقال أحل عليهم شرا : أي جنى عليهم جناية ثم استعمل في تعليل الجنايات ثم اتسع فيه فاستعمل في كل سبب
الإيضاح :
ثم بين أن الإنسان قد يستفيد من تجارب سواه فقال :
﴿ فبعث الله غرابا في الأرض كيف يواري سوءة أخيه ﴾ لما كان الإنسان في أعماله موكولا إلى كسبه واختياره، وكان هذا القتل أول قتل وقع من بني آدم _ لم يعرف القاتل كيف يواري جثة أخيه مقتول الذي يسوؤه أن يراها بارزة للعيان، وفي ذلك دليل على أن الإنسان في نشأته الأولى كان ساذجا قليل المعرفة، لكن لما فيه من الاستعداد والعقل كان يستفيد من كل شيء علما واختبارا وتنمية لمعرفه وعلومه، وقد أعلمنا الله أن القاتل تعلم دفن أخيه من الغراب فإنه تعالى بعث غرابا إلى ذلك المكان الذي هو فيه فبحث في الأرض أي حفر برجليه فيها يفتش عن شيء كالطعام ونحوه فأحدث حفرة في الأرض فلما رآها القاتل _ وقد كان متحيرا في مواراة أخيه زالت الحيرة واهتدى إلى دفنه في حفرة مثلها.
و قوله ليريه : أي إنه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن، وحين رأى القاتل الغراب يبحث في الأرض، تعلم منه سنة الدفن وظهر له جعله وضعفه، كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنه :
﴿ قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ﴾ أي قال وافضيحتي أقبلي فقد آن الأوان لمجيئك، فهل بلغ من عجزي أن كنت دون الغراب علما وتصرفا ؟ والندم الذي أظهره من الأمور التي تعرض لكل من يفعل شيئا يتبين له خطأ فعله وسوء عاقبته.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل ( نصيب ) من دمها لأنه من سن القتل ".
و الندم الذي يكون توبة هو ما يصدر من الشخص خوفا من الله وحسرة على تعدي حدوده، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :" الندم توبة " رواه أحمد والبخاري والحاكم والبيهقي.
تفسير المفردات :
والبينات : الآيات الواضحة والإسراف : البعد عن حد الاعتدال مع عدم المبالاة.
الإيضاح :
ثم ذكر نتائج هذا القتل فقال :
﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ﴾ أي إنه بسبب هذا الجرم الفظيع والقتل والشنيع الذي فعله أحد هذين الأخوين ظلما وعدوانا فرضنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه في قوله :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ ( المائدة : ٤٥ ) الآية أو قتل نفسا بغير سبب فساد في الأرض يسلب الأمن والطمأنينة وإهلاك الحرث والنسل كما تفعله عصابات اللصوص المسلحة المستعدة لقتل الأنفس ونهب الأموال أو إفساد الامر على الدولة التي تقوم بتنفيذ حدود الله تعالى من يفعل شيئا من ذلك فكأنما قتل الناس جميعا إذ الواحد يمثل النوع فمن استحل دمه بغير وجه حق استحل دم كل واحد كذلك لأنه مثله والمقصد من ذلك تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه أي فكما أن قتل كل الخلق مستعظم مستبشع لدى الناس كلهم فكذلك قتل الواحد مستفظع مستعظم وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى :﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ ( النساء : ٩٣ ).
﴿ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾ أي ومن كان سببا في حياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه فكأنما أحيا الناس جميعا لأن الباعث له على الإنقاذ – وهو الشفقة والرحمة واحترام الحياة الإنسانية والوقوف عند حدود الشرائع – دليل على انه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من الهلاك لا يدخر وسعا ولا يني في ذلك.
و في الأية إرشاد إلى ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع والابتعاد عن ضرر كل فرد فانتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع والقيام بحق الفرد بمقدار ما قرر له في الشرع قيام بحق الجميع وتقدم أن قلنا أن القرآن كثيرا ما يشير إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها حتى إنه ليسند أعمال المتقدمين منها إلى المتأخرين ويشير إلى ان جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم.
و قد وردت قصة ابني آدم في الفصل الرابع من سفر التكوين فقد جاء فيه : إن قابيل لما قدم للرب من ثمرات الأرض وقدم هابيل قربانا من أبكار غنمه ونظر الرب إلى هابيل وقربانه دون أخيه اغتاظ قايين وقتل هابيل فسأله الرب عنه : أين هو فأجاب : لا أعلم هل أنا حارس لأخي فلعنه الرب وطرده عن وجه الأرض فندم واسترحم الرب وخاف أن يقتله كل من وجده فقال له الرب لذلك : كل من قتل قايين فسبعه أضعاف ينتقم منه وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده فخرج قايين من لدن الرب وسكن في أرض نود شرقي عدن.
ثم ذكر أن بني إسرائيل غلاظ القلوب مسرفون في القتل وفي غيره مع كثرة مجيء الرسل لهم فقال :
﴿ ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ﴾ أي ولقد جاءتهم الرسل بالآيات الواضحة الناطقة بقرير ما كتبنا عليهم المؤكدة لوجوب مراعاته والمحافظة عليه فلم تغن عن الكثير منهم شيئا إذ لم تهذب نفوسهم ولم تطهر أخلاقهم فكانوا بعد كل هذا التشديد عليهم في أمر القتل يسرفون فيه وفي سائر ضروب البغي والعدوان.
و العبرة في قصة ابني آدم أن الحسد كان مثار أول جناية في البشر ولا يزال هو أسّ المفاسد في المجتمع فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه نسبا أو جنسا أو دينا فيبغي عليه ولو بما فيه ضرر له ولهذا المحسود.
و الأمة التي تنتشر بين أفرادها هذه الرذيلة قلما تتوجه همم أبنائها إلى ما يرقي شأنهم بين الأمم الأخرى وقلما يتعاونون على ما فيه صلاحهم وتقدمهم في سائر مرافق الحياة فيصبحون عبيدا لسواهم بعد أن كانوا سادة وأذلاء بعد أن كانوا في عزة وبلهنية من العيش.
تفسير المفردات : المحاربة : من الحرب ضد السلم والسلم : السلامة من الأذى والضرر والآفات والأمن على النفس والمال والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال وحربية الرجل : ماله الذي يعيش به والفساد : ضد الصلاح وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا يقال إنه فسد ومن كان سببا لفساد شيء يقال إنه أفسده فإزالة الامن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض ومعارضته تنفيذ الشريعة العادلة كل ذلك إفساد في الأرض والتقتيل : المبالغة في القتل بكونه حتما لا هوادة فيه ولا عفو من ولي الدم والتصليب : المبالغة في الصلب أو تكرار الصلب كما قال الشافعي : يصلب بعد القتل ثلاثة أيام بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين وربما طعنوا المصلوب ليعجلوا موته وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف : معناه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى والعكس بالعكس والنفي من الأرض : النقل من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الإسلام إذا كانوا مسلمين فإن كانوا كفارا جاز نفيهم إلى بعض بلاد الإسلام أو بعض بلاد الكفر والخزي : الذل والفضيحة
المعنى الجملي : بعد ان أبان سبحانه فظاعة جرم القتل وشدد في تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا – ذكر هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون في الأرض حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أن الآيثين نزلتا في عكل وعرينة فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أنس '' أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فاستوخموا المدينة ( وجدوها رديئة المناخ ) فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود ( بضع من الإيل ) وراع وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي النبي واستاقوا الذود فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم ( كحلوها بمسامير الحديد المحماة ) وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم '' زاد البخاري أن قتادة الذي روى الحديث عن أنس قال :'' بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهي عن المثلة'' ورولا أبو داود والنسائي عن أبي الزناد : أن رسول الله لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله في ذلك فأنزل :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ﴾ الآية.
الإيضاح :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ﴾ أي إن جزاء الذين يفعلون ما ذكر – عقابهم ما سيذكر بعد على سبيل الترتيب والتوزيع على جناياتهم ومفاسدهم لكل منها ما يليق بها من العقوبة.
و قد جعل هذا النوع من العدوان محاربو لله ورسوله لأنه اعتداء على الحق والعدل الذي أنزل الله على رسوله ولما فيه من عدم الإذعان لدينه وشرعه في حفظ الحقوق كما قال تعالى في المصرين على أكل الربا ﴿ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ( البقرة : ٢٧٩ ) فمن لم يذعنوا لأحكام الشريعة يعدوا محاربين لله والرسول وبجب على الإمام الذي يقيم العدل ويحفظ النظام أن يقاتلهم على ذلك كما فعل أبو بكر بمانعي الزكاة حتى يفيئوا ويرجعوا إلى امر الله ومن رجع منهم في أي وقت يقبل منه ويكف عنه وقوله : ويسعون في الأرض فسادا أي يسعون فيها سعي فساد أي مفسدين لما صلح من أمور الناس في نظم الاجتماع وأسباب المعاش.
و جمهور العلماء على أن الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين كما تدل على ذلك حادثة العرنيين الذين خدعوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإظهار الإسلام حتى إذا تمكنوا من الإفساد بالقتل والسّلب عادوا إلى قومهم وأظهروا شركهم معهم وقد عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم بمثل عقوبتهم عملا بقوله تعالى :﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ ( الشورى : ٤٠ ).
و يشترط في المحاربين ثلاثة شروط :
( ١ ) أن يكون معهم سلاح وإلا كانوا غير محاربين
( ٢ ) أن يكون ذلك في الصحراء فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين كما قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق.
( ٣ ) أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال فإن أخذوه خفية فهم سراق وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قَطْعَ عليهم وكذا إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا لأنهم لا يرجعون إلى قوة ومنعة وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق.
و الجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين أحد أنواع أربعة : إما القتل أو الصلب أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض وفوض لأولي الأمر الاجتهاد في تقدير العقوبة بقدر الجريمة.
و الحكمة في عدم التعيين والتفصيل أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان وضررها يختلف كذلك فمنها القتل ومنها السلب ومنها هتك الأعراض ومنها إهلاك الحرث والنسل أي قطع الشجر وقلع الزرع وقتل المواشي والدواب أو الجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد فللإمام أن يقتلهم إن قتلوا أو يصلبهم إن جمعوا بين أخذ المال والقتل أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا من الأرض إن أخافوا الناس وقطعوا عليهم الطرق.
و هؤلاء المفسدون ضوغفت لهم العقوبات فالقتل العمد العدوان يوجب القتل ويجوز لولي الامر العفو وترك القصاص فغلط ذلك في قاطع الطريق وصار القتل حتما لا هوادة فيع ولا يجوز العفو عنه وأخذ المال يتعلق به قطع اليد اليمنى في غير قاطع الطريق فغلط في قاطع الطريق بقطع الطرفين وإن جمعوا بين القتل واخذ المال جمع في حقهم بين القتل والصلب لأن بقاءهم مصلوبين في ممر الطرق يكون سببا لاشتهار إيقاع هذه العقوبة فيصير ذلك زاجرا لغيرهم على الإقدام على مثل هذه المعصية وإن اقتصروا على مجرد الإخافة بعقوبة خفيفة وهي النفي من الأرض.
ثم بين آثار هذه العقوبة في الدنيا والآخرة فقال :
﴿ ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ أي ذلك الذي ذكر من عقابهم – ذل لهم وفضيحة في الدنيا ليكونوا عبرة وعظة لغيرهم من المسلمين ولهم في الآخرة عذاب عظيم بقدر تأثير إفسادهم في تدنيس نفوسهم وتدسيتها وظلمة أرواحهم بما اجترحت من الذنوب والآثام.
تفسير المفردات :
ومن قبل أن تقدروا عليهم : أي من قبل التمكن من عقابهم.
الإيضاح :
ثم استثنى ممن يستحقون العقوبة من تاب فقال :
﴿ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ﴾ أي لكم أن تعاقبوا هذا العقاب الذي تقدم ذكره من قطعوا الطريق وعاثوا في الأرض فسادا إلا من تابوا الى الله وأنابوا من قبل أن يتمكن منهم الحاكم ويقدر على عقوبتهم فإن توبتهم حينئذ وهم في قوة ومنعة جديرة بأن تكون توبة خالصة لله صادر عن اعتقاء بقبح الذنب والعزم على عدم العودة إلى فعل مثله وليس سببها الخوف من عقاب الدنيا وإذا فهم قد تركوا الإفساد ومحاربة الله ورسوله ومن ثم لا يجمع لهم بين أشد العقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة بل يصيرون لمغفرة الله ورحمته كما قال :
﴿ فاعلموا أن الله غفور رحيم ﴾ أي فاعلموا أن الله غفور لما فرط من ذنوبهم رحيم بهم يرفع العقاب عنهم وهذه التوبة ترفع عنهم حق الله كله من عقاب في الدنيا والآخرة ولكن تبقى حقوق العباد فلمن سلبهم التائب أموالهم أيام إفساده أن يطالبوه بها ولمن قتل منهم أحدا أن يطالبوه بدمه وهم مخيرون بين القصاص والدية والعفو فقد ثبت عن الصحابة إسقاط الحد عمن تاب ولم يثبت أن أحدا تقاضى التائب حقا ولم يسمع له الحاكم.
و إذا فتوبته لا تصح إلا إذا أعاد الأموال المسلوبة إلى أربابها فإذا رأى ولي الأمر إسقاط حق مالي عن المفسد مراعاة للمصلحة العامة وجب ان يضمنه من بيت المال ( وزارة المالية ).
و الخلاصة : إن هاتين الآيتين تضمنتا عقاب المحاربين المفسدين في الأرض الذين يعملون أعمالا مخلة بالأمن على الأنفس والأموال والأعراض في بلاد الإسلام معتصمين في ذلك بقوتهم مع عدم الإذعان لأحكام الشريعة باختيارهم وهو أن يطاردهم الحكام ويتتبعوهم حتى إذا قدروا عليهم عاقبوهم بتلك العقوبات بعد تقدير كل مفسدة بقدرتها ومراعاة المصلحة العامة ومن تاب قبل القدرة عليه لا يعاقب بما هنا من العقوبات بل حكمه حكم سائر المسلمين.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه فيما سلف أن اليهود قد هموا ببسط أيديهم إلى الرسول حسدا منهم له وغرورا بدينهم واعتقادا منهم أنهم أبناء الله وأحباؤه – أمر المؤمنين بأن يتقوه ويبتغوا إليه الوسيلة بالعمل الصالح ولا يفتتنوا بدينهم كما فعل أهل الكتاب.
ثم أكد ذلك فبين أن الفوز والفلاح لا يكون ألا بهما فمن لم ينلها لاقى مكن الأهوال يوم القيامة ما لا يستطاع وصفه.
الإيضاح :{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة { اتقاء الله هو اتقاء سخطه وعقابه بعدم مخالفة دينه وشرعه والوسيلة ما يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه واستحقاق مثوبته في دار الكرامة.
روى ابن جرير عن قتادة أنه قال في تفسير الآية أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه وروى أحمد والبخاري وأصحاب السنن من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :'' من قال جين يسمع النداء – الآذان – اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة '' وروى أحمد ومسلم كمن حديث عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :'' إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجوا أن أكون هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ''.
و بهذا يعلم أن هذه الوسيلة هي أعلى منازل الجنة فمن دعا الله تعالى أن يجعلها للنبي صلى الله عليه وسلم كافأه النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة وهي دعاء أيضا والجزاء من جنس العمل.
﴿ وجاهدوا في سبيله ﴾ الجهاد من الجهد وهو المشقة والتعب وسبيل الله هي طريق الحق والخير والفضيلة وكل جهد في الدفاع عن الحق وحمل الناس عليه فهو جهاد في سبيل الله.
أي جاهدوا أنفسكم بكفها عن أهوائها وحملها على النصفة والعدل في جميع الأحوال وجاهدوا أعدائي وأعداءكم وأتعبوا أنفسكم في قتالهم ومنعهم من مقاومة الدعوة.
﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي افعلوا كل هذا رجاء الفوز والفلاح والسعادة في المعاش والمعاد والخلود في جنات النعيم.
و بعد فلم يؤثر عن صحابي ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أن الوسيلة هي التقرب إلى الله تعالى بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل كالدعاء ونحوه.
و لكن جد في القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين أي جعلهم وسائل إلى الله نعالى والإقسام بهم على الله وطلب قضاء الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم أو بعيدا عنعا وكثر هذا حتى أصبح الناس يدعون مع الله أصحاب القبور في الحاجات أو يدعونهم من دون الله وألف بعض الناس كتبا في هذا وزعم أنهم يسمعون ويستجيبون للداعي وشغف العامة بمثل هذا القول المخالف لقول الله تعالى :﴿ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ ( الجن : ١٨ ) وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ ( الأعراف : ١٩٤ ) وقوله :﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ ( فاطر : ١٣-١٤ ).
و الذي عليه المعول في ذلك أن لفظ التوسل يراد به أحد معان ثلاثة :
( ١ ) التوسل إلى الله بطاعته والتقرب إليه بفعل ما يرضيه وهذا فرض حتم وبه جاءت الشرائع وهو أس كل دين.
( ٢ ) التوسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدعائه وشفاعته كما كان الصحابة يفعلون وهذا كان في حال حياته ولهذا قال عمر بن الخطاب :'' اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا'' أي بدعائه وشفاعته ويوم القيامة يتوسل المؤمنون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته.
( ٣ ) التوسل بالله بمعنى الإقسام بذاته وهذا لم تكن الصحابة تفعله في الاستسقاء ة نحوه لا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعد مماته ولا عند قبره ولا بعيدا عنه ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المأثورة عندهم وإنما ينقل شيء من ذلك في الأحاديث ضعيفة أو عمن ليس قوله حجة وقد قال أبو حنيفة وأصحابه : إن مثل هذا لا يجوز وقالوا لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك، ولا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وكرهوا أن يقال بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك لأنه لا حق للخلق على الخالق.
و الخلاصة : إن الوسيلة ما تتقرب به إلى الله وو ترجو أن تصل به إلى مرضاته بما شرعه لتزكية نفسك وقد دل كتاب الله في جملته وتفصيله على أن مدار النجاة والفلاح هو الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى :﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ﴾ ( النجم : ٣٩-٤١ ) وقال :﴿ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾ ( طه : ١٥ ) وقال :﴿ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ( النمل : ٩٠ ).
نعم دلت السنة على أن دعاء المؤمن لغيره قد ينفعه وثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إيمان عمه أبي طالب فأنزل الله عليه :﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ ( القصص : ٦٥ ).
و الخلاصة : إن العمدة في تقرب الإنسان إلى الله وابتغاء مرضاته هو إيمانه وعمله لنفسه فإذا لم يعمل لنفسه ما شرعه الله وجعله سبب فلاحه فهل يكون قد ابتغى إليه الوسيلة بطلب الدعاء من بعض عباده المكرمين أو طلبه منهم بعد موتهم أن يشفعوا له أي يدعوا له.
كلا إن الطلب من الميت غير مشروع فضلا عن أنه لا يعلم إن كان مقبولا أو غير مقبول فإن ذلك من أمور الآخرة ﴿ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ ( الانفطار : ١٩ ).
و ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيف بل موضوع وحديث الأعمى الذي علمه أن يقول '' أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة'' لا يصلح حجة في هذا الباب لأنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول :'' اللهم شفعه في '' وقد رد الله عليه بصره حين دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
و الحلف بالمخلوقات حرام عند أبي حنيفة والشافعي وحكي إجماع الصحابة على ذل حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغير صادقا وقد جاء في الصحيحين أنه قال :'' من كان حالفا فليحلف بالله '' وقال :'' لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ''.
و الحلف بالأنبياء ليس بيمين عند مالك وأبي حنيفة والشافعي فلا كفارة فيه وكذلك الحلف بالمخلوقات المحترمة كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين.
ثم أكد ذلك فبين أن الفوز والفلاح لا يكون ألا بهما فمن لم ينلها لاقى مكن الأهوال يوم القيامة ما لا يستطاع وصفه.
ثم أكد ما سبق من أن مدار الفوز والفلاح تقوى الله وتزكية النفس فقال :
﴿ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ﴾ أي إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وعبدوا غيره من عجل أو صنم أو وثن وهلكوا وهم على هذه الحال قبل التوبة لو أن لهم ملك ما في الأرض كلها وضعفه معه ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمره وعبادتهم غيره فافتدوا بذلك كله يوم القيامة ما تقبل الله منهم ذلك فداء وعوضا من عذابهم وعقابهم بل هو معذبهم عذابا موجعا مؤلما لهم لأن سنته تعالى قد مضت بأن سبب الفلاح والنجاة إنما يكون من نفس الإنسان لا من خارج عنها ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾.
و هذا هو الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان فالنصارى يعتقدون أن خلاصهم وسعادتهم يكون بالمسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم والمسلمون يعتقدون أن العمدة في النجاة تزكية النفس بالفضائل والأعمال الصالحة.
ثم أكد ذلك فبين أن الفوز والفلاح لا يكون ألا بهما فمن لم ينلها لاقى مكن الأهوال يوم القيامة ما لا يستطاع وصفه.
ثم ذكر ما يلاقونه من الأهوال حينئذ فقال :
﴿ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ﴾ المقيم هو الثابت الذي لا يرتحل أبدا أي يتمنون الخروج من النار دار العذاب والشقاء بعد دخولهم فيها وما هم بخارجين منها البتة.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه عقاب المحاربين الذين يفسدون في الأرض ويأكلون أموال الناس بالباطل جهرة وأمر بتقوى الله وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله وهي الأعمال التي يكمل بها الإيمان وتتهذب بها النفوس حتى تنفر من الحرام وتبتعد عن المعاصي.
ذكر هنا عقاب اللصوص الذين يأكلونها كذلك خفية وجمع في هذه الآيات بين الوازع الداخلي وهو الإيمان والصلاح والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال.
الإيضاح :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ أي ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا يا ولاة الأمور والقضاة والحكام يده من الكف إلى الرسغ لأن السرقة تحصل بالكف مباشرة والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معهما البدن والتي تقطع أولا هي اليمنى لأن التناول غالبا يمون بها.
و قد اختلف الأئمة في المقدار الذي يوجب قطع اليد في السرقة فروي عن الحسن البصري وداود الظاهري أنه يثبت القطع بالقليل والكثير لظاهر الآية وللحديث :'' لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الجمل فتقطع يده '' رواه الشيخان عن أبي هريرة وجمهور العلماء من السلف والخلف على أن القطع لا يكون إلا في سرقة ربع دينار '' ربع مثقال من الذهب '' أو ثلاثة دراهم من الفضة لحديث عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ولحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله قطع في مجن ( ترس ) ثمنه ثلاثة دراهم ويرى الحنفية أن القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم فأكثر لا ما دونها ولا بد أن يكون المال محفوظا في حرز وإلا فلا قطع.
و تثبت السرقة بالإقرار أو البينة ويسقط الحد بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الإمام.
﴿ جزاء بما كسبا نكالا من الله ﴾ النكال من النكل ( بالكسر ) وهو قيد الدابة ونكل عن الشيء امتنع لمانع صرفه عنه فالنكال ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا.
أي اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعلمها وكسبهما السيئ نكالا وعبرة لغيرهما ولا عبرة أعظم من قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم العار والخزي ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم فالأرواح كثيرا ما تتبع الأموال إذا قاوم أهلها السراق وحاولوا منعهم من أخذها.
﴿ والله عزيز حكيم ﴾ أي عزيز في انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل المعاصي حكيم في صنعه فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق المصلحة فما أمر بأمر إلا وهو صلاح ولا نهى عن أمر إلا وهو فساد وكأنه يقول : اشتدوا على السرق فاقطعوهم يدا يدا ورجلا رجلا.
ذكر هنا عقاب اللصوص الذين يأكلونها كذلك خفية وجمع في هذه الآيات بين الوازع الداخلي وهو الإيمان والصلاح والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال.
﴿ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ﴾ أي فمن تاب من السراق ورجع عن السرقة بعد ظلمه لنفسه بعلمه ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس وأصلح نفسه وزكاها بأعمال البر فإن الله يقبل توبته ويرجع إليه رضا ويغفر له ويرحمه.
و لا يسقط الحد عن التائب ولا تصح التوبة إلا بإعادة المال المسروق بعينه إن كان باقيا وإلا فدفع قيمته إن قدر.
ذكر هنا عقاب اللصوص الذين يأكلونها كذلك خفية وجمع في هذه الآيات بين الوازع الداخلي وهو الإيمان والصلاح والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال.
ثم بين أن عقاب السراق والعفو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال :﴿ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ﴾ أي ألم تعلم أيها الرسول مأن الله له ملك السماوات والأرض يدبر الأمر فيها بحكمته وعدله ورحمته وفضله ومن حكمته انه وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء ويرحمهم إذا صدقوا في التوبة وأصلحوا عملهم وأنه يعذب من يشاء تعذيبه من العصاة تربية له وتأمينا لعباده من أذاه وشره كما أنه يرحم من يشاء من التائبين برحمته وفضله ترغيبا لهم في تزكية أنفسهم وهو القادر على كل شيء من التعذيب والرحمة لا يعجزه شيء في تدبير ملكه.
تفسير المفردات : الحزن : ألم يجده الإنسان عند فوت ما يحب وسارع إلى الشيء : إذا أسرع إليه من خارج ليصل إليه وأسرع فيه : إذا أسرع فيه وهو داخل فيه وهنا كان الكفار داخلين في ظرف الكفر محيطا بهم سرادقه
المعنى الجملي : أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن البراء بن عازب قال :'' مر النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما١ مجلودا فدعاهم فقال : أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قالوا : نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : اللهم لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :'' اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه '' وامر به فرجم فأنزل الله ﴿ يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر- إلى قوله – إن أوتيتم هذا فخذوه ﴾
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عمر قال : إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال :'' ما تجدون في كتابكم ؟ '' قالوا : نسخم وجوههما ويخزيان قال :'' كذبتم إن فيها الرجم '' ﴿ فَأَتَوا بٍِالتوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِِِِِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينِ ﴾ ( المائدة : ٩٣ ) فجاؤوا بالتوراة وجاؤوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها يده عليه فقيل له : ارفع يدك فرفع يده فإذا هي تلوح ( أي آية الرجم ) فقالوا : يا محمد إن فيها الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فلقد يجأ عليها ( ينحني ) يقيها الحجارة بنفسه.
الإيضاح :﴿ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ﴾ خاطب الله محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله يأيها النبي في مواضع كثيرة وما خاطبه بيأيها الرسول إلا في هذا الموضع وموضع آخر بعده ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ ( المائدة : ٦٧ ) وهذا الخطاب للتشريف والتعظيم وتأديب المؤمنين وتعليمهم أن يخاطبوه بوصفه كما كان يفعل بعض أصحابه بقولهم ( يا رسول الله ) وجهل هذا بعض الأعراب لخشونتهم وسذاجة فطرتهم فكانوا ينادونه ( يا محمد ) حتى أنزل الله ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا ﴾ ( النور : ٦٣ ) فكفوا عن ندائه باسمه.
أي لا تهتم أيها الرسول بهؤلاء المنافقين الذين يسارعون في إظهار الكفر والتحيز إلى أعدائه المؤمنين عند ما يرون الفرصة سانحة فالله يكفيك شرهم ويقيك ضرهم وينصرك عليهم وعلى من شايعهم وناصرهم.
و النهي عن الحزن وهو أمر طبعي وليس للإنسان اختيار فيه يراد به النهي عن لوزامه التي يفعلها الناس مختارين من تذكر المصايب وتعظيم شأنها وبذا يتجدد الألم ويبعد أمد السلوى.
ثم بين أن أولئك المسارعين في الكفر من المنافقين ومن اليهود فقال :
﴿ من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ﴾ أي لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
﴿ ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ﴾ الذين هادوا هم اليهود والمراد بالسماع سماع القبول والاعتقاد بصحة ما يقال والمراد بالكذب ما يقوله رؤساؤهم في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أحكام دينهم التي يتلاعبون فيها بأهوائهم.
أي إن هؤلاء القوم كثيرو الاستماع لكلام الرسول صلوات الله عليه والإخبار عنه لأجل الكذب عليه بالتحريف واستنباط الشبهات فهم جواسيس بين المسلمين لأعدائهم يبلغون الرؤساء أعداء الإسلام كل ما يقفون عليه ليكون ما يفترون عليه من الكذب متقبلا لأنه مبني على وقائع معينة يزيدون في روايتها وينقصون ويحرفون منها ما يحرفون وقد جرت العادة بأن الكذب لا يجد له نفوقا بين الناس إلا ممن يشاهد ويرى أما البعيد فيظهر اختلاق كذبه سريعا ولهذا كانوا ينقلون تلك الأكاذيب لمن لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤساء وذوي الكيد ليسمعوا منه بآذانهم إما كبرا وتمردا وإما خوفا على أنفسهم وهذا معنى قوله : سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي سماعون لأجلهم.
﴿ يحرفون الكلم من بعد مواضعه ﴾ أي يحرفون كلم التوراة من بعد وضعه في مواضعه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بإخفائه وكتمانه أو بالزيادة فيه أو بالنقص منه وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له.
﴿ يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ﴾ أي يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن حكم الرجل والمرأة اللذين زنيا منهم وأردوا أن يحابوهما بعدم رجمهما إن أعطاكم محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوها وراضوا بها وإن حكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك ولا ترضوا به.
و قد سبق أن ذكرنا أنهم جاؤوا فسألهم عن حد الزناة في التوراة فقالوا : نفضحهم ويجلدون وجاؤوا بالتوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع فإذا هي آية الرجم فاعترفوا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وظهر كذبهم وعبثهم بشريعتهم وكتابهم.
﴿ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ﴾ أي ومن يرد الله أن يختبر في دينه فيظهر الاختبار كفره وضلاله فلن تملك له أيها الرسول من الله شيئا من الهداية والرشد فهؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود قد أظهرت لك فتنة الله واختباره إياهم مقدار فسادهم فهم يقلبون الكذب دون الحق وهم محرفون كاتمون لأحكام كتابهم إتباعا لأهوائهم ومرضاة لرؤسائهم وذوي الجاه فيهم :
فلا تحزن بعد ان هذا على مسارعتهم في الكفر ولا تطمع في جذبهم إلى الإيمان فإنك لا تملك لأحد نفعا وإنما عليك البلاغ والبيان ولاتخف عاقبة نفاقهم فإنما العاقبة للمتقين من أهل الإيمان ولهم الخزي والهوان
﴿ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ﴾ أي إن أولئك الذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ هم الذين لم يريد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق لأن إرادته إنما تتعلق بما اقتضته سننه العادلة في نفوس البشر من أنها إذا دأبت على الباطل ومرنت على الكيد والشر وألفت الخلاف والضر تحيط بها خطيئتها وتطبق عليها ظلمتها فلا يبقى لديها لنور الحق منفذ وتصبح غير قابلة للاستبصار والاعتبار الذي جعله الله وسيلة للاتعاظ والهداية فهؤلاء الرؤساء من اليهود وأعوانهم لا تقبل طباعهم سواها فلا تتعلق إرادته سبحانه بتطهيره وإلا كان ذلك خلافا لما اقتضته سننه وتبديلا لنظمه في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا.
﴿ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ فخزي المنافقين في الدنيا هتك أستارهم باطلاع الرسول على كذبهم وخوفهم من القتل وخزي اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نصوص كتابهم في إيجاب الرجم وعلو الحق على باطلهم وقد صدق الوعيد على كل يهود الحجاز كما يصدق على كل من يفسدون كفسادهم ولا يغني عنهم الانتساب إلى نبي لم يتبعوه ولا تنفعهم دعوى الإيمان بكل نبي لم يتبعوه وعذابهم في الآخرة نجزم بحصوله ولا نعلم مقدار كنهه وحقيقة أمره.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عمر قال : إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال :'' ما تجدون في كتابكم ؟ '' قالوا : نسخم وجوههما ويخزيان قال :'' كذبتم إن فيها الرجم '' ﴿ فَأَتَوا بٍِالتوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِِِِِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينِ ﴾ ( المائدة : ٩٣ ) فجاؤوا بالتوراة وجاؤوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها يده عليه فقيل له : ارفع يدك فرفع يده فإذا هي تلوح ( أي آية الرجم ) فقالوا : يا محمد إن فيها الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فلقد يجأ عليها ( ينحني ) يقيها الحجارة بنفسه.
تفسير المفردات :
والفتنة : الاختبار كما يفتن الذهب بالنار فيظهر مقدار ما فيه من الغش والزغل والسحت : ما خبث من المكاسب وحرم فلزم عنه العار وقبح الذكر كثمن الكلب والخنزير والخمر والرشوة في الحكم والقسط : العدل.
الإيضاح :
﴿ سماعون للكذب أكالون للسحت ﴾ أعاد الله وصفهم بكثرة السماع للكذب للتأكيد وتقرير المعنى وإفادة اهتمام المتكلم بأمره وبيان أن أمرهم كله مبني على الكذب الذي هو شر الرذائل وأضل المفاسد وهكذا شأن الأمم الذليلة تلوذ بالكذب وتدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر بما يلحقها.
و كذلك انتشر بين أفرادها أكل السحت لانها كانت تعيش بالمحاباة والرشا في الأحكام ففسدت بينها أمور المعاملات وكذلك استبدلت الطمع بالعفة وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من رشوة وغيرها من الدناءات كما هو دأب سائر الأمم فسادها وأزمان انحطاطها.
﴿ فان جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم ﴾ أي فإن جاؤوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم وهذا التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة فلا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم في بلادهم وإن تحاكموا إليهم بل هم مخيرون يرجحون في كل حال ما يرونه من المصلحة.
أما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه ويمنعون من الزنى كالمسلمين فإنهم نهوا عنه ولا يرجمون إذ من شروط الرجم الإسلام.
﴿ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ﴾ أي وإن اخترت الإعراض عنهم ولم تحكم بينهم فلن يضروك شيئا من الضرر فالله حافظك من ضرهم.
﴿ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ﴾ أي وإن اخترت أن تحكم بينهم فاحكم بالعدل الذي أمرت به وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عمر قال : إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال :'' ما تجدون في كتابكم ؟ '' قالوا : نسخم وجوههما ويخزيان قال :'' كذبتم إن فيها الرجم '' ﴿ فَأَتَوا بٍِالتوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِِِِِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينِ ﴾ ( المائدة : ٩٣ ) فجاؤوا بالتوراة وجاؤوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها يده عليه فقيل له : ارفع يدك فرفع يده فإذا هي تلوح ( أي آية الرجم ) فقالوا : يا محمد إن فيها الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فلقد يجأ عليها ( ينحني ) يقيها الحجارة بنفسه.
﴿ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ﴾ أي وكيف يحكمونك في قضية كقضية الزانيين وعندهم التوراة وهي شريعتهم فيها حكم الله يحكمونك فيه ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروا على شريعتهم لموافقته إياها.
و خلاصة ذلك : إن أمرهم لمن أعجب العجب وما سبب ذلك إلا أنهم ليسوا مؤمنين بالتوراة إيمانا صحيحا ولا هم مؤمنين بك إذ المؤمن بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضا أيد به الأول أو نسخة لحكمته اقتضت ذلك.
و لكن هؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها لأنه لم يوافق أهواءهم وجاؤوك يطلبون حكمك رجاء أن يوافق أهواءهم ثم يتولون ويعرضون عنه إذ لم يأت وفق مرادهم.
و قد جاء في سفر التثنية بعد بيان أن من تزوج عذراء فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها ( وإذا وجد رجل مضطجع مع امرأة زوج بعل يقتل الاثنان الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة فتنزع الشر من إسرائيل وإذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة والرجل من أجل أنه أذل أمرأة صاحبه فتنزع الشر من وسطك ).
تفسير المفردات : التوراة : الكتاب الذي أنزل على موسى والذين هادوا : هم اليهود والربانيون : هم المنسوبون إلى الرب بمعنى الخالق المدبر لأمر الملك والأحبار : واحدهم حبر وهو العالم بما استحفظوا من كتاب الله : أي بما طلب إليهم حفظه منه وشهداء أي رقباء على الكتاب وعلى من يريد العبث به.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه عجب حال اليهود من تركهم حكم التوراة وهم يعلمونه وطلبهم من البني صلى الله عليه وسلم الحكم بينهم ورضاهم به إذا وافق أهواءهم وتركهم له إذا جاء على غير ما يريدون.
ذكر أمر التوراة وأنها أنزلت هداية لنبي إسرائيل ثم أعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد وفي ذلك من العبرة أن الانتماء إلى الدين لا ينفع أهله إذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هدي دينهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به
الإيضاح :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ﴾ أي إنا أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على هدى وإرشاد للناس إلى الحق ونور وضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم وبهذا الهدي خرج بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم وبذلك النور أبصروا طريق الاستقلال في أمر دينهم دنياهم.
﴿ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ﴾ أي أنزلناها قانونا يحكم به النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين – موسى ومن بعده من أنبياء نبي إسرائيل إلى عيسى عليه السلام للذين هادوا أي لليهود خاصة لأنها شريعة خاصة بهم لا عامة ولم يكن لداود وسليمان وعيسى شريعة دونها.
﴿ والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله ﴾ أي ويحكم بها الربانيون والأحبار في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء معهم أو يحكمون مع وجودهم بإذنهم بسبب ما أودعوه من الكتاب وائتمنوا عليه وطلب منهم أنبياؤهم حفظه كالعهد الذي أخذه موسى بأمر الله على شيوخ بني إسرائيل بعد أن كتب التوراة أن يحفظوها ولا يحيدوا عنها.
و يروي عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه قال : أنا رباني هذه الأمة واطلق لقب حبر الأمة في الإسلام على ابن عباس رضي الله عنهما وأطلق لقب الرباني على علي المرتضى عليه الرحمة.
و قال ابن جرير : الربانيون جمع رباني وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم والأحبار جمع حبر وهو العالم المحكم للشيء اه.
﴿ وكانوا عليه شهداء ﴾ أي وكان السلف الصالح منهم رقباء على الكتاب وعلى من تحدثه نفسه العبث به كما فعل عبد الله بن سلام في مسألة الرجم لا كما فعل الخلف من كتمان بعض أحكامه إتباعا للهوى أو خوفا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده وطمعا في صلاتهم إذا هم حابوهم.
و مما كتموه صفة النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به.
ثم خاطب الله تعالى رؤساء اليهود الذين كانوا زمن التنزيل لا يخافون الله في الكتمان والتبديل بعد أن قص سيرة السلف الصالح من بني إسرائيل لعلهم يعتبرون ويرعوون عن غيهم فقال :
﴿ فلا تخشوا الناس واخشون ﴾ أي وإذا كان الحال كما ذكر أيها الأحبار ولا شك أنكم لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه الله على رسوله من سير أسلافهم – فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خشية أحد أو طمعا في منفعة عاجلة منه واخشوني واقتدروا بمن كان قبلكم من الربانيين والأحبار واحفظوا التوراة ولا تعدلوا عن ذلك فإن النفع والضر بيدي.
﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ أي ولا تتركوا بيانها للناس والعمل بها لقاء منفعة دنيوية قليلة تأخذونها من الناس كرشوة أو جاه أو غيرهما من الحظوظ العاجلة التي تصدكم عن الاهتداء بآيات الله وتمنعكم من الخير العظيم الذي تنالونه من ربكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ أي وكل من زغب عن الحكم بما أمزل الله وأخفاه وحكم بغيره كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتحميم وكتمانهم الرجم وقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعضها بنصف الدية والله قد سوى بين الجميع في الحكم فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه وغطوه وأظهروا لهم غيره وقضوا به.
قال الرازي نقلا عن عكرمة : إن الحكم بالكفر على من حكم بغير ما أنزل الله – إنما يكون فيمن أنكر بقلبه وجحد بلسانه أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا انه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله ولكنه تارك له فلا يدخل تحت هذه الآية.
و أخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : الثلاثة الآيات التي في المائدة ومن لم يحكم بما أنزل الله الخ. ليس في الإسلام منها شيء هي في الكفار وعن الشعبي أنه قال : الثلاث الآيات التي في المائدة أولها في هذه الأمة والثانية في اليهود والثالثة في النصارى.
و خلاصة المعنى : ومن لم يحكم بنا أنزل الله مستهينا به منكرا له كان كافرا لجحوده به واستخفافه بأمره.
ذكر أمر التوراة وأنها أنزلت هداية لنبي إسرائيل ثم أعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد وفي ذلك من العبرة أن الانتماء إلى الدين لا ينفع أهله إذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هدي دينهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به
﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ﴾ أي إن الجروح ذوات قصاص يعتبر في جزائها المساواة بقدر الاستطاعة.
و قد جاء في التوراة في الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج ( وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض ).
و جاء في الفصل الرابع والعشرين من سفر اللاويين ( وإذا أمات أحد إنسانا فإنه يقتل ومن أمات بهيمة يعوض عنها نفسا بنفس وإذا أحدث إنسان في قريبه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به كسر بكسر وعين بعين وسن بسن كما أحدث عيبا في الإنسان كذلك يحدث فيه ).
﴿ فمن تصدق به فهو كفارة له ﴾ أي فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص وعفا عن الجاني فهذا التصدق كفارة له يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه كما عفا عن أخيه.
و هذا كقوله تعالى :﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ ( البقرة : ٢٣٧ ) وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :'' من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه يقدره من ذنوبه '' ويقرب منه قوله صلى الله عليه وسلم :'' أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ؟ كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس ''.
﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ﴾ أي إن كل من اعرض عما أنزل الله من القصاص المبني على قاعدة العدل والمساواة بين الناس وحكم بغيره فهو من الظالمين إذ العدول عن ذلك لا يكون إلا بتفضيل أحد الخصمين على الآخر وغمص حق المفضل عليه وظلمه.
ذكر أمر التوراة وأنها أنزلت هداية لنبي إسرائيل ثم أعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد وفي ذلك من العبرة أن الانتماء إلى الدين لا ينفع أهله إذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هدي دينهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به
تفسير المفردات :
قفاه به تقفية : جعله يقفو أثره كما قال :﴿ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾ ( البقرة : ٨٧ )
الإيضاح :
﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة ﴾ أي وبعثنا عيسى ابن مريم بعد هؤلاء النبيين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متبعا طريقهم جاريا على هديهم مصدقا للتوراة التي تقدمته بقوله وعمله فشريعة عيسى عليه السلام هي التوراة وقد نقلوا عنه في أناجيلهم أنه قال ما جئت لأنقض الناموس ( شريعة التوراة ) وإنما جئت لاتمم – أي لأزيد عليها ما شاء الله أن أزيد من الأحكام والمواعظ ولكن النصارى نسخوها وتركوا العمل بها اتباعا لبولس.
﴿ وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ﴾ أي وأعطيناه الإنجيل حال كونه مشتملا على الهدى ومنقذا من الضلال في العقائد والأعمال كالتوحيد والتنزيه النافي للوثنية التي هي مصدر الخرافات والأباطيل.
و على النور الذي يبصر به طالب الحق طريقة الموصل إليه وهو مصدق للتوراة التي تقدمته أي إنه مشتمل على النص بتصديقها زيادة على تصديق المسيح لها بقوله وعلمه.
و قد وصف القرآن الإنجيل بمثل ما وصف به التوراة وبكونه مصدقا لها وجعله هدى وموعظة للمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بهداه لحرصهم عليه وعنايتهم به :
و السر في ذلك أن أسرار الشريعة وبيان حكمتها والمقصد منها ومعرفة أن بعد هذه التوراة وهذا الإنجيل هداية أعم وأشمل وهي التي يجيء بها النبي الأخير ( البارقليط )الأعظم.
ذكر أمر التوراة وأنها أنزلت هداية لنبي إسرائيل ثم أعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد وفي ذلك من العبرة أن الانتماء إلى الدين لا ينفع أهله إذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هدي دينهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به
تفسير المفردات :
والفاسقون : أي الخارجون من حظيرة الدين المتجاوزون لأحكامه وآدابه.
الإيضاح :
﴿ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ﴾ أي وقلنا لهم : ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الأحكام والمراد وأمرنا بالعمل به فهو كقوله في أهل التوراة :﴿ وكتبنا عليهم فيها ﴾.
و خلاصة ذلك زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره مثل ما فعل اليهود من إخفاء أحكام التوراة.
﴿ ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون ﴾ أي المتمردون الخارجون عن حكمه.
و الآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بشرع مأمورا بالعمل بما فيه من أحكام قلت أو كثرت لا بما في التوراة خاصة ويشهد لذلك حديث البخاري '' أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به ''.
و قال الشهرستاني في الملل والنحل :( جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام مكلفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على عيسى عليه السلام لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا ولا حراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ).
تفسير المفردات : المهيمن على الشيء : القائم على شؤونه وله حق مراقبته وتولي رعايته والشرعة والشريعة : مورد الماء من النهر ونحوه وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ومن ذلك شريعة الإسلام لشروع أهلها فيها والمنهاج : السبيل والسنة والابتلاء، الاختبار استبقوا، ابتدروا وسارعوا
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه إنزال التوراة ثم الإنجيل على بني إسرائيل وذكر ما أودعه فيهما من الهدى والنور وما ألزمهم به من إقامتهما وما أوعدهم به من العقاب على ترك الحكم بهما.
ذكر هنا إنزاله القرآن على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته من الكتب قبله وأن الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر.
الإيضاح :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ﴾ أي أنزلنا إليك أيها الرسول الكتاب ' القرآن الكريم' الذي أكملنا به الدين مشتملا على الحق مقررا له ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾ ( فصلت : ٤٢ ) مصدقا لما تقدمه من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل ومهيمنا وشهيدا عليها بما بينه من حقيقة أمرها وما كان من حال من خوطبوا بها من نسيان حظ عظيم منها وتحريف كثير مما بقي وتأويله والإعراض عن العمل به.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال﴿ ومهيمنا عليه ﴾ يعني أمينا عليه يحكم على ما كان قبله من الكتب.
﴿ فاحكم بينهم بما أنزل الله ﴾ أي وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته مما قبله من الكتب الإلهية وهو أنه رقيب وشهيد عليها فاحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله إليك فيه من الأحكام دون ما انزله إليهم إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم.
﴿ ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ﴾ أي ولا تتبع ما يريدون وهو الحكم بما يسهل عليهم ويخف احتماله مائلا بذلك عما جاءك من الحق الذي لا شك فيه ولا ريب.
﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾ أي لكل امة منكم أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها ومنهاجا وطريقا فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاح سرائرهم.
من قبل أن الشرائع العلمية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع وطبائع البشر واستعداداتهم وإن اتفق الرسل جميعا في أصل الدين وهو توحيد الله والإخلاص له في السر والعلن وإسلام الوجه له.
روي عن قتادة أنه قال في تفسيرها : أي سبيلا وسنة والسنن مختلفة للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء كي يعلم من يطيعه ممن يعصيه ولكن الدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل وروي عنه أنه قال : الدين واحد والشريعة مختلفة.
و من هذا يفهم أن الشريعة هي الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ اللاحق منها السابق وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء.
و هذا هو العرف الجاري الآن إذ يخصون الشريعة بما يتعلق بالقضاء وما يتخاصم فيه إلى الحكام.
و الخلاصة : إن الشريعة اسم للأحكام العلمية وإنها أخص من كلمة ( الدين ) وتدخل في مسمى الدين من جهة أن العامل بها يدين لله تعالى بعلمه ويخضع له ويتوجه إليه مبتغيا مرضاته وثوابه بإذنه.
﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ﴾ أي ولو شاء تعالى أن يجعلكم أمة واحدة ذات شريعة واحدة ومنهاج واجد تسيرون عليه وتعملون به بأن يخلقكم على استعداد واحد وأخلاق واحدة وطور واحد في معيشتكم فتصلح لكم شريعة واحدة في كل الأزمان فتكونون كسائر أنواع المخلوقات التي يقف استعدادها عند مستوى معين كالطير أو كالنحل – لفعل ذلك إذ هو داخل تحت قدرته تعالى لا يستعصي عليه.
﴿ ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ﴾ أي ولكن لم يشأ ذلك بل شاء أن يجعلكم نوعا ذا عقل وفكر واستعداد للفهم والعلم يرتقي في أطوار الحياة بالتدريج ويخضع لسنة الارتقاء فلا تصلح له شريعة واحدة في كل أطواره وفي سائر جماعاته فكانت الشرائع في أطوار الطفولة من نوع يغلب عليه المادة وفي طور التمييز تغلب عليه العواطف والوجدانات النفسية وفي طور الرشد واستقلال العقل ختمت الشرائع والمناهج بالدين المحمدي المبني على فتح باب الاجتهاد الفكري وجعل أمره شورى في القضاء والسياسة وأصول الاجتماع بين أولي العلم والرأي.
و الخلاصة : إنه سبحانه عاملنا معاملة المختبر لاستعدادنا فيما آتانا من المناهج والشرائع لتظهر حكمته في تمييز نوعنا عن غيره من الأنواع التي تدب على وجه البسيطة بأن جمع لنا بين الحيوانية والملكية.
و إنك لو نظرت إلى سالف الشرائع ترى الشريعة اليهودية مبنية على الشدة وليس لأهلها فيها رأي ولا اجتهاد إذ هي نزلت لقوم ألفوا الذل والاستعباد فوجب أخذهم بالشدة والصرامة وترى الشريعة النصرانية تأمر أهلها بأن يسلموا أمورهم للمتغلبين عليهم من أهل السلطة والحكم ويقبلوا كل ما يسلمون به من ذل وخسف ويجعلوا عنايتهم بالأمور الروحية وتربية الوجدانات النفسية وترى الديانة الإسلامية قائمة على أساس الاستقلال والعقل جامعة بين مصالح الروح والجسد ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ ( آل عمران : ١١٠ ) ولا يليق ذلك إلا بأمة بلغت سن الرشد العقلي والارتقاء الفكري ومن ثم كانت أحكامها الدنيوية قليلة في كتابها وفوض الأمر فيها إلى الاجتهاد إذ الراشد يفوض أمره إلى نفسه ومن ثم صارت صالحة لكل زمان ومكان إذ مدارها على الاجتهاد وطاعة أولي الأمر فمنع الاجتهاد فيها يبطل مزيتها ويجعلها لا تصلح لجميع الأزمان ولا لجميع الأمكنة إذ أنك تعلم أن للزمان والمكان والأحوال من التشريع ما يوافقه انظر إلى الإمام الشافعي تجد أنه حين كان بالعراق وضع أسسا للتشريع والأحكام ( المذهب القديم ) فلما انتقل إلى مصر وأرى عادات أهلها وأطوارهم غير كثيرا من تشريعه إلى ما يناسب الشعب الذي لعيش بين ظهرانيه ( المذهب الجديد ) وما سر هذا إلا ما علمت من خضوع التشريع للزمان والمكان.
ثم بين أن الشرائع إنما وضعت للأستباق إلى الخير لتجازى كل نفس بما عملت فقال :﴿ فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في دينكم ودنياكم وابتدروا الخيرات وصالح الأعمال انتهازا للفرصة وإحراز للفضل فالسابقون السابقون أولئك المقربون.
و إنكم إلى الله دون غيره ترجعون جميعا في الحياة الثانية فينبئكم عند الحساب بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه في الدنيا من أمور الدين ويجازي المحسن على قدر إحسانه والمسيء بإساءته فاجعلوا الشرائع سببا للتنافس في الخيرات لا لإقامة الشحناء والعداوة بين الأجناس والعصبيات.
ذكر هنا إنزاله القرآن على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته من الكتب قبله وأن الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر.
تفسير المفردات :
أن يفتنوك : أي يميلوا بك من الحق إلى الباطل.
الإيضاح :
﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾ أي إنا أنزلنا إليك الكتاب فيه حكم الله وأنزلنا إليك فيه : أن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتيع أهواءهم بالاستماع لهم وقبول كلامهم ولو لمصلحة في ذلك كتأليف قلوبهم وجذبهم إلى الإسلام فالحق لا يوصل إليه بطريق الباطل واحذرهم أن يفتنوك وينزلوك عن بعض ما أنزل الله إليك لتحكم بغيره.
أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال : قال : كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من اليهود : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا : يا محمد إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنخاصمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك فأبى ذلك وأنزل الله عز وجل فيهم﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله –إلى قوله – لقوم يوقنون ﴾ اه. يريد أن الحكمة في إنزال هذه الآية إقرار النبي على ما فعل والأمر بالثبات على ما سار عليه من التزام حكم الله وعدم الانخداع لليهود.
فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } أي فإن أعرضوا عن حكمك بعد تحاكمهم إليك فما ذاك إلا لأن الله يريد أن يعذبهم في الحياة الدنيا قبل الآخرة ببعض ذنوبهم لأن استثقالهم لأحكام التوراة وتحاكمهم إليك لعلك تتبع أهواءهم ومحاولتهم لفتنتك عن بعض ما أنزل إليك – كل هذه أمارات على فساد الأخلاق وانحلال روابط الاجتماع ولا بد أن تكون نتيجتها وقوع العذاب بهم وقد حل بيهود المدينة وما حولها بغدرهم ما حل فقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم نبي النضير عنها وقتل بني قريظة.
﴿ وإن كثيرا من الناس لفاسقون ﴾ أي متمردون في الكفر مصرون عليه خارجون من الحدود والشرائع التي اختارها الله لعباده.
و في هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على عدم إذعانهم لما جاء به من الهدي والدين وإعراضهم عن ذلك النور الذي أنزل إليه.
ذكر هنا إنزاله القرآن على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته من الكتب قبله وأن الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر.
﴿ أفحكم الجاهلية يبغون ﴾ أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله فيبغون حكم الجاهلية المبني على التحيز والهوى لجانب دون آخر وترجيح القوي على الضعيف ؟.
روي : أن بني النضير تحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في خصومة كانت بينهم وبين بني قريظة وطلب بعضهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل وجعل دية القرظى ضعفي دية النضيري لمكان القوة والضعف فقال عليه السلام القتلى بواء ( سواء ) فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت الآية ''.
و خلاصة ذلك : توبيخهم والتعجيب من حالهم بأنهم أهل كتاب وعلم ومع ذلك كانوا يبغون حكم الجاهلية الذي يجيء به محض الجهل وصريح الهوى.
﴿ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ﴾ أي لا أحد أحسن حكما من حكم الله لقوم يوقنون بدينه ويذعنون لشرعه لأنه حكم جامع بين منتهى العدل والحق من الحاكم والقبول والإذعان من المحكوم والمحكوم عليه وبهذا يحصل التفاضل بين الشرائع الإلهية والقوانين البشرية.
و الخلاصة : إن مما ينبغي التعجب منه من احوالهم أنهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر ويؤثرونه على حكم الله العادل وفي الأول تفضيل القوي على الضعيف واستذلاله واستئصال شأفته وفي الثاني العدل الذي يستقيم به أمر الخلق وبه يستتب الأمن والرضا الطمأنينة بين الناس ويشعر كل منهم بالهدوء وراحة الضمير.
تفسير المفردات : الولاية : ولاية التناصير والمحالفة على المؤمنين
المعنى الجملي : أخرج ابن أبي شبية وابن جزير عن عطية بن سعد قال :'' جاء عبادة بن الصامت من بني الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولي الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من موالاة موالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي :'' يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه '' قال إذن أقبل فأنزل الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى – إلى قوله – والله يعصمك من الناس ﴾.
وروى أرباب السير : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحابوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وامر أعدائه ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقين.
و قد عامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه به فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن وكانوا ثلاثة طوائف حول المدينة : بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة – فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي والحسد ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة اشهر ثم نقض بنو النضير العهد لما خرج إلى غزوة الخندق وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد حارب كل طائفة واظهره الله عليها وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ﴾ الخ أي لا يوالي أفراد أو جماعات من المسلمين أولئك اليهود والنصارى المعاندين للنبي والمؤمنين ويعاهدونه على التناصر من دون المؤمنين رجاء أن يحتاجوا إلى نصرهم إذا خذل المسلمون وغلبوا على أمرهم.
قال ابن جرير : إن الله تعالى نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله وأخبر أن من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله فهو منهم في التحزب على الله ورسوله والمؤمنين وان الله ورسوله منه بريئان... إلى أن قال : غير انه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهود أو نصارى جزعا على نفسه من دوائر الدهر لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك اه.
ثم ذكر علة هذا النهي فقال :
﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ أي إن اليهود بعضهم أنصار بعض والنصارى بعضهم أنصار بعض ولم يكون للمؤمنين منهم ولي ولا نصير إذ كان اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول معهم من العهد من غير أن يبدأهم بقتال ولا عدوان فصار الجميع حربا للرسول ومن معه من المؤمنين.
ثم توعد من يفعل ذلك فقال :
﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ أي ومن ينصرهم أو يستنصر بهم من دون المؤمنين وهم أعداء لكم فإنه في الحقيقة منهم لا منكم لأنه معكم عليكم إذ لا يتصور أن يقع ذلك من مؤمن صادق.
قال ابن جرير فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى من خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه اه.
و من هذا تعلم أنه إذا وقعت الموالاة والمحالفة والمناصرة بين المختلفين في الدين لمصالح دنيوية لا تدخل في النهي الذي في الآية كما إذا حالف المسلمون أمة غير مسلمة على أمة مثلها لاتفاق مصلحة المسلمين على مصلحتها فمثل هذا لا يكون محظورا.
ثم ذكر العلة والسبب في الوعيد السابق فقال :
﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي إن من يوالي أعداء المؤمنين وينصرهم أو يستنصر بهم فهو ظالم بوضعه الولاية في غير موضعها والله لا يهديه لخير ولا يرشده إلى حق.
وروى أرباب السير : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحابوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وامر أعدائه ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقين.
و قد عامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه به فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن وكانوا ثلاثة طوائف حول المدينة : بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة – فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي والحسد ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة اشهر ثم نقض بنو النضير العهد لما خرج إلى غزوة الخندق وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد حارب كل طائفة واظهره الله عليها وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود.
تفسير المفردات :
في قلوبهم مرض : أي إن إيمانهم معتل غير صحيح الدائرة : ما يدور به الزمان من المصايب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها والفتح : القضاء وهو يكون بفتح البلاد وبغير ذلك
الإيضاح :
ثم اخبر إن فريقا من ضعاف الإيمان يفعل ذلك فقال :
﴿ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ﴾ أي فترى المنافقين الذين اعتل إيمانهم ولم يصل إلى مرتبة اليقين كعبد الله بن أبي وغيره من المنافقين يمتون إلى اليهود بالولاء والعهود ةو يسارعون في هذه السبيل التي سلكوها وكلما سنحت لهم الفرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها ليزيد تمكنا وثباتا.
ثم ذكر السبب الذي حداهم إلى ذلك فقال :
﴿ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ﴾ أي يقولون بألسنتهم : نحن نخشى أن تقع بنا مصيبة من مصايب الدهر فنحتاج إلى نصرتهم لنا فعلينا أن نتخذ لنا أيادي عندهم في السراء ننتفع بها إذا مستنا الضراء.
و خلاصة ذلك : إنهم يخشون أن تدول الدولة لليهود أو المشركين على المؤمنين فيحل بهم العقاب لأنهم في شك من نصر الله لنبيه وإظهار دينه على الدين كله إذ لم يوقنوا بنبوته ولا بصدقها وهكذا شأن المنافقين في زمان ومكان فكثير من وزراء بعض الدول الضعيفة يتخذ له يدا عند دولة قوية يلجأ إليها إذا أصابته دائرة فتغلغل نفوذ هذه الدولة في أحشاء هذه الدولة وضعف استقلالها في بلادها بعملهم ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ثم رد على هؤلاء المنافقين وقطع أطماعهم وبشر المؤمنين فقال :
﴿ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ﴾ أي فلعل الله بفضله وصدق ما وعد به رسوله يأتي بالفتح والفصل بين المؤمنين ومن يعادهم من اليهود والنصارى أو بأمر من عنده في هؤلاء المنافقين كفضيحتهم أو الإيقاع بهم فيصبحوا نادمين على ما كتموه وأضمروه في أنفسهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين وتوقع الدوائر عليهم.
و الفتح : إما فتح مكة الذي كان به ظهور الإسلام والثقة بقوته وإنجاز الله وعده لرسوله وإما فتح بلاد اليهود في الحجاز كخيبر وغيرها والأمر إما الإيقاع باليهود وإجلاؤهم عن موطنهم وإخراجهم من حصونهم وصياصيهم وإما القهر والإيجاف عليهم بالخيل والركاب كبني قريظة وإما بإلقاء الرعب في قلوبهم حتى يعطوا بأيديهم كبني النضير وإما ضرب الجزية على اليهود والنصارى فينقطع أمل المنافقين ويندمون على ما كان من إسرارهم بالولاء لهم.
وروى أرباب السير : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحابوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وامر أعدائه ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقين.
و قد عامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه به فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن وكانوا ثلاثة طوائف حول المدينة : بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة – فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي والحسد ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة اشهر ثم نقض بنو النضير العهد لما خرج إلى غزوة الخندق وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد حارب كل طائفة واظهره الله عليها وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود.
تفسير المفردات :
وحبطت : أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصيام والجهاد معكم فخسروا أجرها وثوابها.
الإيضاح :
﴿ ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسمو بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم ﴾ أي ويقول بعض المؤمنين لبعض متعجبين من حال المنافقين إذا أقسموا بأغلظ الأيمان لهم إنهم معكم وإنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود فلما حل بهم ما حل أظهروا ما كانوا يسرونه من موالاتهم وممالأتهم على المؤمنين كما قال في سورة براءة ﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾ ( التوبة : ٥٦ ) أي فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون الإسلام تقية.
﴿ حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ﴾ أي ويقول المؤمنون : حبطت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصوم والجهاد معنا ليقنعونا بأنهم منا فخسروا بذلك ما كانوا يرجون لها من أجر وثواب لو صلحت حالهم وقوي إيمانهم.
و في هاتين الآيتين إخبار بالغيب وقد صدق الله وعده وخذل الكافرين وفضح المنافقين والعاقبة للمتقين ولكن أنى لهم أن يعتبروا بمثل هذا ؟ ﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾ ( النور : ٤٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن من يتولى الكافرين من دون الله يعد منهم وأن الذين يسارعون فيهم مرضى القلوب مرتدون بتوليهم إياهم فإن أخفوا ذلك فإظهارهم للإيمان نفاق.
بين هنا حقيقة دعمها بخبر من الغيب يظهره الزمن المستقبل فالحقيقة أن المنافقين ومرضى القلوب لا غناء فيهم ولا يعتد بهم في نصر الدين وإقامة الحق فالله إنما يقيم دينه بصادقي الإيمان الذين يحبهم فيزيدهم رسوخا في الحق وقوة على إقامته ويحبونه فيؤثرون ما يحبه من إقامة الحق والعدل على سائر ما يحبون من مال ومتاع وأهل وو ولد.
و خبر الغيب أنه سيرتد بعض الذين آمنوا عن الإسلام جهرا ولا يضره ذلك لأن الله تعالى يسخر من ينصره ويحفظه.
الإيضاح :﴿ يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ﴾.
روى ابن جرير عن قتادة قال : أنزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس فلما قبض الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد – أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من عبد القيس – قالوا ( أي المرتدون ) نصلي ولا نزكي والله لا تغصب أموالنا فكلم أبو بكر في ذلك فقيل له : إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطونا وزادوها فقال : لا والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلهم عليه فبعث الله عصابة مع أبي بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة فقاتلهم حتى أقروا بالماعون ( الزكاة ) صغرة ( واحدهم صاغر وهو المهيمن الذليل ) أقمياء ( واحدهم قميء وهو الذليل الضعيف ) فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية فاختاروا الخطة المخزية ( وكانت أهون عليهم ) أن يقروا أن قتلاهم في النار : وأن قتلى المؤمنين في الجنة وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال اه.
و على هذا فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه هم أبو بكر والصحابة الذين قاتلوا أهل الردة قاله قتادة والضحاك ورجح ابن جرير أن الآية نزلت في قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال :- هم قوم أبي موسى – وإن لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع أبي بكر لأن الله وعد بأن يأتي بخير من المريدين بدلا منهم ولم يقل إنهم يقاتلون المرتدين ويكفي في صدق الوعد أن يقاتلوا ولو غير المرتدين.
و قد ارتد كثير من القبائل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده فقد ارتدت إحدى عشرة فرقة منها ثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم :
( ١ ) بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال النبي صلى الله عليه وسلم فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فسر به المسلمون وقبض عليه السلام من الغد.
( ٢ ) بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب وقد تنبأ مسيلمة وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك : أنا بعد فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا قوم يعتدون فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم :'' بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب : السلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين''. وكان ذلك سنة عشر وحاربه أبو بكر وقتله وحشي قاتل حمزة وكان يقول : قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس.
( ٣ ) بنو أسد وزعيمهم طلحة بن خويلد وقد تنبأ فبعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فانهزم وهرب إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه.
وارتدت سبع في عهد أبي بكر وهم :
فزارة قوم عيينة بن حصن.
غطفان قوم قرة بن سلمة القشيري.
بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل.
بنو يربوع قوم مالك بن نويرة
بعض بني تميم وزعيمته سجاح بنت المنذر الكاهنة وقد تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة ولها قصص طويل في التاريخ وصح أنها أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها.
كندة قوم الأشعث بن قيس.
بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وقد كفى الله المؤمنين شرهم على يد أبي بكر رضي الله عنه وارتدت قبيلة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر جبلة ولحق بالشام ومات مرتدا ويروي أن عمر كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا جاء فيه : إن جبلة ورد إلي في سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزارة رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه فاستعدى الفزاري على جبلة إلى فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص فقال : أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة فقلت شملك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافية فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا.
وروي أنه ندم على ما فعل وأنشد :
تنصرت بعد الحق عارا للطمة ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر
فأدركني منها لجاج حمية فبعث لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قاله عمر
و هؤلاء المرتدون لم يقاتلهم أحد فإن أبا بكر هو الذي قاتل جماهير المرتدين بمن معه من المهاجرين والأنصار وقد وصف الله هؤلاء المؤمنين بست صفات :
( ١ ) إنه تعالى يحبهم وحبه تعالى وبغضه شأن من شؤونه لا نبحث عن كنهه ولا عن كيفيته.
( ٢ ) إنهم يحبون الله تعالى وحب المؤمنين لله جاء في غير موضع من القرآن كقوله :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ﴾( البقرة : ١٦٥ ) وفي حديث أنس في الصحيحين :'' ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار''.
( ٣-٤ ) الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين وهما بمعنى ما جاء في قوله تعالى :﴿ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ﴾ الفتح : ٥٩ ).
( ٥ ) الجهاد في سبيل الله وسبيل الله هو طريق الحق والخير الموصلة إلى مرضاته تعالى ومن أعظم الجهاد بذل النفس والمال في قتال أعداء الحق وهو من أكبر آيات المؤمنين الصادقين.
( ٦ ) كونهم لا يخافون لومة لائم وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين يخافون لوم أوليائهم من اليهود لهم إذا هم قاتلوا مع المؤمنين إذ هم لا يرغبون في جزاء أو ثناء من الناس بل يعلمون العمل لإحقاق الحق وإبكال الباطل.
﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ﴾ أي ذلك الذي تقدم من الصفات فضل الله يعطيه من يشاء من عباده وبه يمتازون عن غيرهم وهذه المشيئة وفق السنن التي أقام بها أمر النظام في خلقه فجعل من الناس الكسب والعمل نفسيا كان أو بدنيا ومنه سبحانه آلات الكسب والقوى ما بين بدنية وعقلية حسية ومعنوية كما أن منه التوفيق والهداية واللطف والمعونة.
﴿ والله واسع عليم ﴾ فعلينا ألا نغفل عن فضله ومنته ولا عما يقتضيه ذلك من الشكر له والإنابة إليه والإخبات والعبادة له.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه في الآيات المتقدمة عن موالاة الكافرين أمر في هذه الآية بموالاة من تجب موالاتهم وهم الله ورسوله والمؤمنون.
الإيضاح :﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ﴾ أي لا ولي لكم أيها المؤمنون ولاناصر ينصركم إلا الله ورسوله والمؤمنون الصادقون الذين اتصفوا بتلك الصفات الآتية يعد :
وفي هذا تعريض بمن ينصر مرضى القلوب في توليتهم الكفار من دون الله ولما كانت كلمة ( المؤمنين ) تشمل كل من أسلم ولو ظاهرا بين المراد منها بقوله :
﴿ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ﴾ قال في الأساس : العرب تسمي من آمن بالله ولم يعبد الأوثان راكعا وقال أبو مسلم المراد بالركوع الخضوع أي إن المؤمنين الذين يقومون بحق الولاية والنصرة لكم هم الذين يقيمون الصلاة ويؤدونها حق الأداء باشتمالها على الآداب الظاهرة والباطنة ويعطون الزكاة مستحقيها وهم خاضعون لأوامر الله مع طيب نفس وهدوء بال لا خوفا ولا رياء ولاسمعة دون المنافقين الذين يقولون : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ويأتون بصورة الصلاة لابروجها ومعناها المقصود منها فإذا هم قاموا إليها قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا.
﴿ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ﴾ أي إذا كان الله وليكم وناصركم وكان الرسول والذين آمنوا أولياء لكم بالتبع لولايته فأنتم بذلك حزب الله والله ناصركم ومن يتول الله بالإيمان به والتوكل عليه ويتول الرسول والمؤمنين بنصرؤهم وشد أزرهم والاستنصار لهم دون أعدائهم فإنهم هم الغالبون ولا يغلب من يتولاهم ةلأنهم حزب الله.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دونه وبين العلة في ذلك فأرشد إلى أن بعضهم أولياء بعض ولا يوالي المؤمنين منهم أحدو لا يواليهم ممن يدعون الإيمان إلا مرضى القلوب والمنافقون الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر.
أعاد النهي هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهي وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
الإيضاح :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ﴾ أي لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبياء وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم ومن قبل نزول كتابنا- أولياء وأنصارا حلفاء فإنهم لا يألونكم خبالا وإن أظهروا لكم مودة وصداقة ذلك لأنهم اتخذوا هذا الدين هزوا ولهبا فكان أحدهم يظهر الإيمان للمؤمنين وهو على كفره مقيم وبعد اليسير من الزمن يظهر الكفر بلسانه بعد أن كان بيدي الإيمان قولا وهو مستبطن للكفر تلاعبا بالدين واستهزاء به كما قال تعالى عنهم :﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ﴾ ( البقرة : ١٤ ).
وكذلك نهى الله عن موالاة جميع المشركين لأن موالاة المسلمين لهم بعد أن أظهرهم الله عليهم بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا – تكون قوة لهم وإقرارا على شركهم الذي جاء الإسلام لمحوه من جزيرة العرب.
و قد نهج الإسلام مع أهل المتاب سياسة غير سياسته مع مشتركي العرب فأباح أكل طعامهم ونكاح نسائهم وشرع قبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم وخصمهم هنا بلقب أهل الكتاب ولقب المشركين بالكفار وفي آيات أخرى بالمشركين والذين أشركوا لأنهم لوثنيتهم عريقون في الشرك والكفر أصلاء فيه أما أهل الكتاب فالشرك والكفر قد عرض للكثير منهم عروضا وليس من أصل دينهم.
﴿ واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ﴾ أي وخافوا الله أيها المؤمنون في موالاة هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا حتى لا يضيع الغرض منها وتكون وهنا لكم ونصرا لهم- إن كنتم صادقي الإيمان تحفظون كرامته وتجتنبون مهانته وتصدقون بالجزاء والوعيد على معصيته تعالى.
أعاد النهي هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهي وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
﴿ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ﴾ أي وإذا أذن مؤذنكم داعيا إلى الصلاة سخر من دعوتكم إليها من نهيتم عن ولايتهم من أهل الكتاب والمشركين واتخذوها هزوا ولعبا.
﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ أي ذلك الفعل الذي يفعلونه وهو الهزؤ والسخرية إنما كان لجهلهم بحقيقة الأديان وما أوجب الله فيها من تعظيمه والثناء عليه بما هو أهله ولو كان عندهم عقل لخشعت قلوبهم كلما سمعوا المؤذن يكبر الله تعالى ويمجده بصوته الندي ويدعو إلى الصلاة له والفلاح بمناجاته وذكره فهو ذكر مؤثر في النفوس لاتخفى محاسنه على من يعقل الحكمة في إرسال الشرائع ويؤمن بالله العلي الكبير.
أعاد النهي هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهي وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
تفسير المفردات : نقم منه كذا : إذا أنكره عليه وعابه به بالقول أو الفعل
الإيضاح :
﴿ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وإن أكثركم فاسقون ﴾ أي قل يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى : هل تعيبون علينا من شيء وتكرهوننا لأجله إلا إيماننا الصادق بالله وتوحيده وإثبات صفات الكمال له وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من قبل على رسله لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون خارجون عن حظيرة الإيمان الصحيح وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية والتقاليد الباطلة.
و الخلاصة : إنه ما عندنا سوى ذلك وهذا مما لا يعاب ولا ينقم منه بل يمدح صاحبه ويكرم لكنكم لفسقكم وخروجكم من حظيرة الدين الصحيح عبتم الحسن من غيركم ورضيتم بالقبيح من أنفسكم.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع في جماعة فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال :﴿ قولوا ءامنا بالله ورسوله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴾ فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا لا نؤمن بمن آمن به فأنزل الله فيهم ﴿ قل يا أهل الكتاب ﴾... إلخ ".
وفي قوله ﴿ وإن أكثركم فاسقون ﴾ دقة في الأحكام على الأمم والشعوب إذ هو يحكم على الكثير أو الأكثر وما عمم إلا استثنى وقد كان في أهل الكتاب ناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحب الحق والعدل وهؤلاء هم الذين سارعوا إلى الإسلام عندما عرفوا حقيقة أمره وتجلى لهم صدق الداعي إليه ثم رد على الاستفهام التهكمي باستفهام تهكمي مثله فقال :
أعاد النهي هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهي وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
تفسير المفردات :
والمثوبة : من ثاب إليه إذا رجع ويراد به الجزاء والثواب والطاغوت : من الطغيان وهو مجاوزة الحد المشروع وهو يشمل كل من أطاعوه في معصية الله تعالى
الإيضاح :
﴿ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ﴾ استعمال المثوبة في الجزاء الحسن أكثر من استعمالها في الجزاء السيئ وقيل إن استعمالها في الجزاء السيئ من باب التهكم والازدراء.
أي هل أنبئكم أيها المستهزئون بديننا وأذاننا مما هو شر من عملكم هذا جزاء وثوابا عند الله.
وهذا السؤال يستدعي سؤالا منهم عن ذلك الذي هو شر ( ما هو ) فأجابهم بقوله ( من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) من لعنه الله : أي جزاء من لعنه على حد قوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ﴾ ( البقرة : ١٨٩ ) أي ولكن البر بر من اتقى أي إن الذي هو شر من ذلك ثوابا وجزاء جزاء من لعنة الله وغضب عليه إلخ.
وفي هذا انتقال بهم من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم بما ذكر- إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم وذلك هو التذكير بسوء حال آبائهم مع أنبيائهم وما كان من جزاء الله على فسقهم وتمردهم بأشد ما جازى به الفاسقين الذين ظلموا أنفسهم –من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.
أما اللعن فقد ذكر في عدة مواضع من القرآن الكريم مع بيان أسبابه والغضب الإلهي يستلزم اللعنو واللعنة تلزمه إذ هي منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه.
وأما جعله منهم قردة وخنازير فقد تقدم في سورة البقرة :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ وسيأتي في سورة الأعراف :﴿ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ ( الأعراف : ١٦٦ ) وجمهرة العلماء على أنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير على الحقيقة وانقرضوا لان الممسوخ لا يكون له نسل ونقل ابن جرير عن مجاهدة أنه قال : مسخت قلوبهم ولم يمسحوا قردة وإنما هو مثل ضربة الله لهم كما ضرب المثل بقوله :﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ ( الجمعة : ٥ ).
﴿ أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ﴾ أي إن أولئك الذين اتصفوا بما ذكر من المخازي وشنيع الأمور شر مكانا إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار وهم أضل عن قصد سواء الطريق ووسطه الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.
ومثل هؤلاء لا يحملهم على الاستهزاء بدين المسلمين وبصلاتهم وأذانهم إلا الجهل وعمى البصيرة.
أعاد النهي هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهي وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثم بين حال المنافقين منهم فقال :
﴿ وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ﴾ أي وإذا جاءكم المنافقون من اليهود قالوا للرسول ولكم إننا آمنا بالرسول وما أنزل عليه وحالهم الواقعة منهم أنهم دخلوا عليكم وهم مقيمون على الكفر والضلال وخرجوا وهم كذلك فحالهم عند خروجهم كحالهم عند دخولهم كحالهم عند دخولهم لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول وما نزل من الحق ؟ ولكنهم قوم دأبهم الخداع والنفاق كما جاء في سورة البقرة :﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ ( البقرة : ٧٦ ) الآية.
﴿ والله أعلم بما كانوا يكتمون ﴾ حين دخولهم من قصد تسقط الأخبار والتوسل إلى ذلك بالنفاق والخداع وحين خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء من قومهم كما علمت مما سلف عند قوله :﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ ( المائدة : ٤١ ).
وفي قوله : وهم قد خرجوا به تأكيد لكونهم حين الخروج كما هم حين الدخول واحتيج إليه لمجيئه على الخلاف المعروف لأن من كان يجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسمع منه العلم والحكمة ويرى من أحاسن أخلاقه ما يؤثر في القلوب ويلين قاسيها – يرجع عن سوء عقيدته وتصفو نفسه من كدورتها إلا إذا كان متعنتا مخادعا فإن الذكرى لا تنفعه والعظات والزواجر لا تؤثر فيه.
و قد كان الرجل يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله حتى إذا رآه وسمع كلامه إنجابت عن قلبه ظلمات الكفر والفسوق وآمن به وأحبه وما شذّ هؤلاء إلى لسوء نيتهم وفساد طويتهم وذلك ما صرف قلوبهم عن التذكر والاعتبار ووجه هممهم إلى الكيد والخداع فلم يكن لديهم عقول نعي وتفقه معزى الحكم والآداب.
أعاد النهي هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهي وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
تفسير المفردات :
والسحت : الدنيء من المحرمات.
الإيضاح :
ثم ذكر من شؤونهم ما هو شر مما سلف فقال :
﴿ وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت ﴾ أي وترى أيها الرسول كثيرا من هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينك هزوا ولعبا – يسارعون في الظلم والعدوان وتجاوز الحدود التي ضربها الله للناس وفي أكل السحت وكل ما يعود على فاعله بالضرر في الدين والدنيا فهم غارقون في الإثم والعدوان فكلما قدروا عليهما ابتدروهما ولم يتأخروا عن ارتكابهما.
ثم بالغ في قبح هذه الأعمال فقال :
﴿ لبئس ما كانوا يعلمون ﴾أي والله ما اقبح هذا العمل الذي يعلمه هؤلاء من مسارعتهم في كل ما يفسد الأخلاق ويدنس النفوس ويقوض نظم المجتمع وويل للأمة التي يعيش فيها أمثال هؤلاء فهلا نهاهم علماؤهم وزهادهم وعبادهم عن أفعالهم بأمر بالمعروف ونهيهم عن المنكر قبل أن يستفحل الشر ويعم الضر ؟ وإلى هذا أشار بقوله :
أعاد النهي هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهي وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
﴿ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ﴾ قال في الكشاف : لا يسمى العامل صانعا ولا العمل صناعة حتى يتمكن فيه العامل ويتدرب وينسب إليه وفاعل المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره فإذا فرط في الإنكار على المعصية كان أشد إثما وأعظم جرما لها اه.
أي هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون فيما ذكر من المعاصي – أئمتهم في التربية والسياسة وعلماء الدين من الأحبار والرهبان لبئس ما كانوا يصنعون من الرضى بهذه الأوزار والخطايا وتركهم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
روي عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية – يريد بذلك أنها حجة على العلماء إذا هم قصروا في الهداية والإرشاد وتركوا النهي عن الشرور والآثام التي تفسد نظم الحياة للفرد والمجتمع فحق على العلماء والحكام ان يعتبروا بهذا النعي على اليهود ساسة وعلماء ومربين فيزدجروا ويعلموا أن هذه موعظة وذكرى لهم إن نفعت الذكرى.
تفسير المفردات : لليد لغة معان عدة : الجارحة، والنعمة، تقول لفلان عندي يد أشكره عليها والقدرة كما قال تعالى ﴿ أولى الأيدى والأبصار ﴾ ( ص ٤٥ ) أي ذوي القوة والعقول والملك كما تقول هذه الضيعة في يد فلان أي ملكه وقال تعالى ﴿ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ ( البقرة : ٢٣٧ ).
أي في ملكه وغلت أيديهم أي أمسكت وانقبضت عن العطاء، وهو دعاء عليهم بالبخل، يداه مبسوطتان أي هو كثير العطاء، والحرب : ضد المسلم ؛ فهي تصدق بالإخلال بالأمن والسلب والنهب ولو بغير قتل، وبتهييج الفتن والإغراء بالقتل،
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة بعض مخازيهم من مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكل السحت إلى نحو أولئك مما اختلت به نظم المجتمع في الأفراد والجماعات، فأصبحوا قوما أنانية، همة كل واحد منهم جمع المال واكتسابه على أي صورة كان وبأي وجهه جمع وقد أثر هذا في أخلاقهم وأعمالهم أشد الأثر كما تشهد بذلك كتب دينهم _ ذكر هنا أفظع مخازيهم وأقبحها، بجرأتهم على ربهم ووصفهم إياه بما ليس من صفته، وإنكارهم جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم، وعفوه عن عظيم جرمهم توبيخا لهم، وتعريفا لنبيه صلى الله عليه وسلم قديم جهلهم، واحتجاجا له بأنه مبعوث ورسول، إذا أخبر بخفي علومهم ومكنون أخبارهم التي لا يعلمها إلا أحبارهم دون غيرهم من اليهود.
روى ابن إسحاق والطبراني عن ابن عباس قال ( ( قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس لنبي صلى الله عليه وسلم : إن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله ﴿ وقالت اليهود ﴾ الآية ) ) وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنها نزلت في فنحاص رأس يهود بني قينقاع. وروى ابن جرير عن عكرمة مثله، وروى عن مجاهد أنهم قالوا : لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره _ يريدون أنه ضيق عليهم الرزق.
وروى ابن عباس أنه قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، لكنهم يقولون إنه بختل أمسك ما عنده، تعالى ربنا عما يقول الظالمون.
الإيضاح :﴿ وقالت اليهود يد الله مغلولة ﴾ أي قال ذلك بعض منهم، ونسبه إلى الأمة بناء على التكافل العام بين أفردها وكونها كالشخص الواحد، وأن الناس في كل زمان يغزون إلى الأمة ما يسمعون من بعض أفرادها وقد جرت سنة القرآن أن ينسب إلى المتأخرين ما قاله أو فعله سلفهم منذ قرون.
ولا عجب في صدور هذا القول من بعض الأشخاص منهم فإنا نرى من المسلمين في عصرنا مثله في الشكوى من الله عز وجل والإعتراض عليه عند الضيق وفي إبان المصايب.
ثم دعا عليهم بالبخل والطرد من رحمته فقال :
﴿ غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ﴾ هذا دعاء عليهم بالبخل وانقباض الأيدي عن العطاء والإمساك عن الإنفاق في سبيل البر والخير وما زالوا أبخل الأمم فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا إلا إذا كان يرى أن له من ورائه ربحا، كما دعا عليهم بالطرد والبعد من رحمته وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين.
وقيل إن المراد بغل الأيدي ربطها إلى الأعناق بالأغلال في الدنيا أو في النار أو فيهما، فقد نقل عن الحسن البصري أنه قال : يغلون في الدنيا أساري وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم وقال في تفسير اللعنة : عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار.
ثم رد سبحانه عليهم ما قالوه وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء وأن كل ما في العالم من خير هو سَجْلٌ من ذلك الجود فقال :
﴿ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ﴾ أي بل هو الجواد المتصرف وفق حكمته وسننه في الاجتماع.
وتقتير الرزق على بعض العباد لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق.
وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين لان الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه كما قال الأعشى يمدح جوادا :
يداك يدا جود فكف مفيدة وكف إذا ما ضن بالزاد تنفق
﴿ وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ﴾ أي إن هذا الذي أنزلناه عليك أيها النبي من خفي أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك، ومن أحوال سلفهم وشؤون كتبهم وحقائق تاريخهم – هو من أعظم الأدلة على نبوتك وكان ينبغي أن يجذبهم إلى الإيمان بك إذ لولا النبوة والوحي ما علمت من هذا شيئا فلا تعرف الماضي لأنك أمي لم تقرأ الكتب ولا تعرف الحاضر لأنه من مكرهم الخفي وكيدهم السري – لكنهم لطغيانهم وتجاوزهم الحدود في الكفر والحسد للعرب لم يجذبهم ذلك إلى الإيمان ولم يقرب إلا قليلا منهم ووالله ليزيدن ذلك كثيرا منهم طغيانا في بغضك وعداوتك وكفرا بما جئت به.
وقال قتادة : حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه.
﴿ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ﴾ أي وألقينا بين اليهود والنصارى العداوة والبغضاء فهي لا تنقطع أبدا وهي على أشدها الآن في روسيا وألمانيا وأقلها في إنجلترا وفرنسا.
واليهود مع كونهم المديرين لأعظم الأعمال المالية ولهم النفوذ والتأثير في السياسة وسائر شؤون الاجتماع مبغوضون من جماهير النصارى.
وقد ألفت كتب كثيرة في فرنيا وغيرها في التحريض عليهم واستأصلت شأفتهم ألمانيا وكثير من البلاد المجاورة لها بعد الحرب العظمى وأصبح هذا الشعب عندهم من أقبح شعوب العالم وكذلك العداوة بين بعض النصارى وبعض لا تزال آثارها تظهر بين حين وآخر لدى الدول الكبرى القوية فهي دائما في استعداد لحرب يسحق بها بعضهم بعضا والحرب القائمة الآن بين الدول المسيحية الكبرى أكبر برهان على صدق ذلك.
﴿ كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ﴾ أي كلما هموا بالكيد للرسول وللمؤمنين الصادقين خذلهم الله وهم إما أن يخيبوا في سعيهم ولا يتم لهم ما أرادوا من الإغراء والتحريض وإما أن ينصر الله رسوله والمؤمنين.
و المعروف في كتب السيرة أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ومنهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم ومنهم من كان يؤوي أعداءهم ويساعهم ككعب بن الأشرف وما سبب ذلك إلا الحسد والعصبية وخوف الأحبار والرهبان من إزالة الإسلام لامتيازاتهم العلمية والدينية التي كانوا معروفين بها في بلاد الحجاز فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسية جنسية ليست من طبيعة الدين ولا روحه والدليل على ذلك أن اليهود كان لهم ضلع بعد ذلك مع المسلمين في الشام والأندلس لما رأوا من عدلهم وإزالة الجور والظلم الذي كان عليه الروم والقوط.
وكذلك عداوة النصارى للمسلمين كانت سياسية وكانت على أشدها بينهم وبين الروم المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز كالشام ومصر وكان نصارى البلاد أقرب ميلا إلى المسلمين بعد أن وثقوا بعدلهم وزال عنهم ظلم الروم مع كونهم من أهل دينهم وقد جرت العادة أن الناس يتبعون في العداوة أو المودة ما تمليه عليهم منافعهم ومصالحهم.
﴿ ويسعون في الأرض فسادا ﴾ أي إن ما يأتونه من عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإيقاد الفتن والحروب لم يكن بقصد الإصلاح للأخلاق وشؤون العمران والاجتماع بل كانوا يقصدون السعي في الأرض للفساد ويحاولون الكيد للمؤمنين ومنع اجتماع كلمة العرب ويودون ألا يخرجوا من الأمية إلى العلم والعرفان ولا من الوثنية إلى التوحيد حسدا لهم وحبا في دوام امتيازهم عنهم.
﴿ والله لايحب المفسدين ﴾ في الأرض بل يبغضهم ومن ثم لا ينجح سعيهم ولا يصلح عملهم لأنهم يريدون أن يبطلوا حكمته تعالى في صلاح الناس وعمران البلاد.
ومن ثم أبطل سبحانه كل ما كاده أولئك القوم للنبي صلى الله عليه وسلم والعرب والإسلام وأصلح بالإسلام ما كانوا خربوه من البلاد ونصر المسلمين على كل من ناوأهم وكذلك هم تركوا التوراة والإنجيل وهما قد أنزلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح فزال ملكهم وسط الله عليهم غيرهم.
روى ابن إسحاق والطبراني عن ابن عباس قال ( ( قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس لنبي صلى الله عليه وسلم : إن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله ﴿ وقالت اليهود ﴾ الآية ) ) وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنها نزلت في فنحاص رأس يهود بني قينقاع. وروى ابن جرير عن عكرمة مثله، وروى عن مجاهد أنهم قالوا : لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره _ يريدون أنه ضيق عليهم الرزق.
وروى ابن عباس أنه قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، لكنهم يقولون إنه بختل أمسك ما عنده، تعالى ربنا عما يقول الظالمون.
ثم ندمهم على سوء أعمالهم فقال :
﴿ ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ﴾ أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم لكفرنا عنهم سيئاتهم التي أقترفوها ومحونا عنهم ذنوبهم ولم نفضحهم بها ولأدخلناهم في الآخرة جنات ينعمون بها.
وفي ذلك إعلام من الله بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم ودلالة على سعة رحمته وفتحه باب التوبة لكل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبلغ سيئات اليهود والنصارى وإخبار بأن الإيمان لا ينجي إلا إذا شفع بالتقوى ومن ثم قال الحسن : هذا العمود فأين الأطناب ؟.
روى ابن إسحاق والطبراني عن ابن عباس قال ( ( قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس لنبي صلى الله عليه وسلم : إن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله ﴿ وقالت اليهود ﴾ الآية ) ) وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنها نزلت في فنحاص رأس يهود بني قينقاع. وروى ابن جرير عن عكرمة مثله، وروى عن مجاهد أنهم قالوا : لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره _ يريدون أنه ضيق عليهم الرزق.
وروى ابن عباس أنه قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، لكنهم يقولون إنه بختل أمسك ما عنده، تعالى ربنا عما يقول الظالمون.
تفسير المفردات :
وإقامة التوراة : العمل بما فيها على أتم الوجوه سواء في ذلك عمل النفس بالإيمان والإذعان وعمل الجوارح والقوى البدنية، وقوله :﴿ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ أي لوسع الله عليهم موارد الرزق، والمقتصدة : المعتدلة في أمر الدين فلا تغلوا بالإفراط ولا تهمل بالتقصير.
الإيضاح :
﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ أي ولو أقاموا ما في التوراة والإنجيل المنزلين بنور التوحيد المبشرين بالنبي الذي يأتي من أبناء إسماعيل والذي قال فيه عيسى عليه السلام : إنه روح الحق الذي يعلمهم كل شيء.
وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم على هذا النبي الكريم الذي بشرت به كتبهم – لوسع الله عليهم رزقهم ولأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها كما قال تعالى :﴿ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾ ( الأعراف : ٩٦ ).
و في هذا تنبيه إلى أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا من قصور في فيض الله وعظيم عطائه وإشارة إلى أنهم لو أقاموهما ما عاندوا النبي ذلك العناد فالدين عندهم إنما كان أماني يتمنونها وبدعا وتقاليد يتوارثونها فهم بين غلو وتقصير وإفراط وتفريط.
ثم ذكر أنهم ليسوا سواسية في أفعالهم وأقوالهم فقال :
﴿ منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعلمون ﴾ أي منهم جماعة معتدلة في أمر دينها لا تفرط ولا تهمل وهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود والنجاشي وأصحابه من النصارى وكثير منهم أجلاف متعصبون ساء ما يعملون من كفرهم بالله واجتراح المعاصي ويزعم النصارى منهم أن المسيح ابن الله ويكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم ويكذب اليهود بعيسى ومحمد صلى الله عليهما.
والمعتدلون لا تخلو منهم أمة لكنهم يكثرون في طور صلاح الأمة وارتقائها ويقلون في طور فسادها وانجلالها ولا تهلك الأمم إلا بكثرة من يعمل السوء من أشرارها وقلة من يعمل الصالحات من أخيارها وهؤلاء المعتدلون هم السباقون إلى كل صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء في مختلف العصور ومن ثم قبل هذا الدين الجديد هؤلاء المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب والمحبين للعلوم والفنون.
روى ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :''يوشك أن يرفع العلم قلت : وكيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال ثكلتك أمك يا ابن نفير إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى ذلك عنهم حين تركوا أمر الله ثم قرأ :﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ﴾ الآية.
وأخرج أحمد وابن ماجه عن زياد بن لبيد قال :'' ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال : وذلك عند ذهاب العلم قلنا : يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال :'' ثكلتك أمك يا أم لبيد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء''.
ومغزى هذا أن العبرة في الأديان هو العمل بها والاهتداء بهديها وقد كان أهل الكتاب في ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم مع شدة عصبيتهم الجنسية له كما هو شأن المسلمين اليوم.
وهذه الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال لها نظائر في آيات أخرى كقوله تعالى :﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ ( الأعراف : ١٥٩ ) وقوله :﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ ( آل عمران : ٧٥ ) الآية.
الإيضاح :﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ﴾ أي يا أيها الرسول بلغ إلى الخلق جميع ما أنزل إليك من ربك مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك ولا تخش في ذلك أحدا ولا تخف أن ينالك من ذلك مكروه.
ثم أكد ما سلف يقوله :
﴿ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ﴾ أي وإن لم تفعل ما أمرت به من التبليغ لما أنزل إليك بأن كتمتة ولو إلى حين خوفا من الأذى بالقول أو بالفعل –فحسبك جرما أنك ما بلغت الرسالة ولا قمت بما بعثت لأجله وهو تبليغ الناس ما أنول إليهم من ربهم كما قال تعالى :﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾( الشورى : ٤٨ ).
و الحكمة في التصريح بالأمر بالتبليغ وتأكيده بجعل كتمان بعضه ككتمان كله مع العلم بأن الرسل صلوات الله عليهم معصومون من كتمان شيء مما أمرهم الله بتبليغه وإلا بطلت حكمة الرسالة بعدم ثقة الناس بالتبليغ – الحكمة في ذلك بالنظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إعلامه بأن التبليغ حتم لا يجوز كتمانه على أي حال بتأخير شيء عن وقته على سبيل الاجتهاد ولولا هذا النص لكان للرسول أن يجتهد بتأخير بعض الوحي إلى أن يقوي استعداد الناس لقبوله ولا يحملهم سماعه على رده وإيذاء الرسول لأجله.
والحكمة بالنسبة إلى الناس أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنص فلا يعذروا إذا اختلفوا فيها باختلاف الرأي والفهم.
ومن هنا تعلم أن ما نقل من الأقوال والآراء من جواز كتمان بعض الوحي غير القرآن عن كل الناس أو عن جمهورهم لا يتفق مع الدين في شيء ولا يعول على رووه من الأخبار الضعيفة والأحاديث الموضوعة في هذا الباب.
و الحق الذي لا شبهة فيه أن الرسول بلغ جميع ما أنزل إليه من القرآن وبينه ولم يخص أحدا بشيء من علم الدين وأنه لا امتياز لأحد عن أحد في علم الدين إلا بفهم القرآن فهما يتوسل إليه بعلم السنة وآثار علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار في الصدر الأول وبمعرفة مفردات اللغة العربية وأساليبها ومعرفة علوم الكون وشؤون البشر وسنن الله في الخلق.
روى ابن مردويه عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية من السماء أنزلت أشد عليك فقال :'' كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الوسم فنزل على جبريل فقال :﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ﴾- الآية قال :'' فقمت عند العقبة فقلت : أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة ؟ أيها الناس قولوا لا إله إلا الله وأنا رسول إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة'' قال صلى الله عليه وسلم :'' فما بقي رجلا ولا أمة ولا صبي إلا يرمون على بالتراب والحجارة ويقولون : كذاب صابئ فعرض علي عارض فقال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه''.
﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ أي يمنعك من فتكهم مأخوذ من عصام القربة : وهو ما توكأ به أي يربط به فمها من سير جلد أو خيط والناس هم الكفار الذين يتضمن تبليغ الوحي بيان كفرهم وضلالهم وفساد عقائدهم وأعمالهم والنعي عليهم وعلى سلفهم وكان ذلك يغيظهم ويحملهم على إيذائه صلى الله عليه وسلم بالقول أو بالفعل وائتمروا به بعد موت أبي طالب وقرروا قتله في دار الندوة ولكن الله تعالى عصمه منهم وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة.
روى الترمذي وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن بضعة رجال من الصحابة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية وكان العباس ممن يحرسه فلما نزلت ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس وروى : أن أبا طالب كان يبعث مع رسول الله من يحرسه إذا خرج حتى نزل﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ فذهب ليبعث معه فقال :'' يا عم إن الله حفظني لا حاجة لي إلى من تبعث''.
و قد وضعت هذه الآية وهي مكية في سياق تبليغ أهل الكتاب وهو مدني لتدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عرضة لإيذائهم أيضا وأن الله تعالى عصمه من كيدهم ولتذكر بما كان من إيذاء مشركي قومه من قبلهم.
ثم ذكر ما هو كالسبب في العصمة فقال :
﴿ إن الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ أي إنه تعالى لا يهدي أولئك القوم الكافرين الذين هم بصدد إيذائك على التبليغ إلى ما يريدون بل يكونوا خائبين وتتم كلمات الله تعالى حتى يكمل بها الدين.
﴿ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما انزل إليكم من ربكم ﴾ أي قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيما تبلغهم عن ربكم ﴿ لستم على شيء ﴾ يعتد به من أمر الدين ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين.
﴿ حتى تقيموا التوراة والإنجيل ﴾ فيما دعيا إليه من التوحيد الخالص والعمل الصالح وفيما بشرا به من بعثة النبي الذي يجئ من ولد إسماعيل الذي سماه المسيح روح الحق والبارقليط.
﴿ وما أنزل إليكم من ربكم ﴾ على لسان محمد وهو القرآن المجيد فهو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين بحسب سنن الله في الكون.
﴿ وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ﴾ أي وأقسم بأن الكثير من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن الذي أكمل الله به الدين المنزل على محمد خاتم النبيين إلا غلوا في تكذيبهم وكفرا على كفرهم لانهم لم ينظروا فيه نظرة إنصاف بل نظروا إليه بعين العصبية والعدوان إذ كانوا على تقاليد وثنية وأعمال وعادات سخيفة فلم يكن لهم من الدين الذين يدينون به ما يقربهم إلى فهم حقيقة الإسلام ليعلموا أن دين الله واحد وأن ما سبق بدء وهذا إتمام.
أما غير الكثير وهم الذين حافظوا على التوحيد ولم تحجبهم عن نور الحق شتى التقاليد فهم الذين ينظرون إلى القرآن بعين البصيرة فيعلمون أنه الحق من ربهم وأن من أنزل عليه هو النبي المبشر به في كتبهم فيسارعون إلى الإيمان به بحسب حظهم من سلامة الوجدان واطمئنان النفس بما لديهم من العلم والعرفان.
﴿ فلا تأس على القوم الكافرين ﴾ قال الراغب : الأسى الحزن وأصله اتباع الفائت بالغم أي فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين وحسبك الله ومن اتبعك من مؤمني قومك ومن مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره من علمائهم.
والعبرة للمسلم من هذه الآية أن يعلم أنه لا يكون على شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيم القرآن وما أنزل إليه من ربه فيه ويهتدي بهديه فحجة الله على عباده واحدة فإذا كان الله لا يقبل من أهل الكتاب قبلنا ما ورثوه من تلك التقاليد التي صدتهم عما عندهم من وحي الله فإنه لا يقبل منا مثل ذلك مع حفظنا لكتابنا والناس عن مثل هذا غافلون وإلى حكمة الدين ومقاصده لا ينظرون ويحسبون أنهم على شيء إلا إنهم هم الكاذبون.
وفي الآية إيماء إلى أن أهل الكتاب لم يقيموا دين الله لا الوسائل منه ولا المقاصد فلا هم حفظوا نصوص الكتب كلها ولا هم تركوا ما عندهم منها على ظواهرها ولا هم آمنوا بالله واليوم الآخر على الوجه الذي كان عليه سلفهم الصالح ولا هم عملوا الصالحات كما كانوا يعلمون إلا قليلا منهم عذبوا على توحيد الله ورموا بالزندقة لرفضهم تقاليد الكنائس والبدع التي شرعها الأحبار والرهبان كما أن فيها ترغيبا لمن عدا من ذكروا في الإيمان والعمل الصالح ليكون لهم من الجزاء مثل ما لأولئك.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه انه اخذ الميثاق على بني إسرائيل وبعث فيهم النقباء- أعاد التذكير به هنا مرة أخرى وبين عوهم وشدة تمردهم وما كان من سوء معاملتهم لأنبيائهم.
الإيضاح :﴿ لقد اخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ﴾الميثاق هو العهد الموثق وقد أخذ الله عليهم العهد في التوراة بتوحيده واتباع الأحكام التي شرعها لهدي خلقه وتحليهم بحلى الفضائل ومكارم الأخلاق وقد نقضوا هذا الميثاق كما تقدم أول السورة وعاملوا الرسل تلك المعاملة- وهو أنه كلما جاءهم رسول بشيء لا تهواه أنفسهم عاملوه بأحد الأمرين إما التكذيب المستلزم للإعراض والعصيان وإما القتل وسفك الدماء.
و خلاصة ذلك- إنهم بلغوا من الفساد واتباع الأهواء أخشنها مركبا وأشدها عتوا وضلالا حتى لم يعديؤثر في قلوبهم وعظ الرسل ولا هديهم بل صار ذلك مغريا لهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة البررة والسادة الأخيار.
ثم ذكر ما سولته لهم أنفسهم على أفعالهم فقال :
﴿ وحسبوا ألا تكون فتنة ﴾ الفتنة الاختبار بشدائد الأمور كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد : أي وظنوا ظنا قويا تمكن من نفوسهم انه لا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد لأنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ويعتقدون أن نبوة أسلافهم وآباءهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب القتل والتكذيب.
ثم بين نتائج ذلك فقال :
﴿ فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم ﴾ أي فعموا عن آيات الله التي أنزلها في كتبه مرشدة إلى عقابه للأمم المفسدة الظالمة وعما وضعه من السنن في خلقه مصدقا لذلك وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل وأنذروهم بالعقاب إذا هم خالفوها ونقضوا الميثاق وخرجوا عن هدى الدين وظلموا أنفسهم واتبعوا أهواءهم وساروا في غيهم وانهمكوا في ضلالهم فسلط الله عليهم من سامهم الخسف وأوقع بهم البوار والدماء فجاس البابليون خلال ديارهم وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا أموالهم وسبوا أولادهم ونساءهم وسلبوهم أموالهم وثلوا عروش ملكهم ثم رحمهم الله وتاب عليهم حين أقلعوا عن الفساد وأعاد إليهم ملكهم وعزهم على يد ملك من ملوك الفرس إذ جاء إلى بيت المقدس وعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم ورجع من تفرق منهم في الأقطار فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا.
ثم عموا وصموا مرة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وفسادهم في الأرض وقتلوا الأنبياء بغير حق فقتلوا زكريا وإشعيا وأرادوا قتل عيسى عليه السلام فسلط الله عليهم الفرس ثم الروم ( الرومانيين ) فأزالوا ملكهم واستقلالهم.
وفي قوله :( كثير منهم ) إشارة إلى أن عمي البصيرة والصمم عن المواعظ لم يكن للجميع بل كان للكثير منهم والله تعالى يعاقب الأمم بذنوبها إذا كثرت وشاعت فيها إذ العبرة بالغالب لا بالأقل النادر الذي لا يؤثر في صلاح ولا في فساد ومن ثم قال تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ﴾ ( الأنفال : ٢٥ ).
﴿ والله بصير بما يعلمون ﴾ لنبيه وخاتم أنبيائه من الكيد والمكر وتدبير الإيقاع به وتأليب القبائل والشعوب المختلفة لتكون يدا واحدة للفتك به وما سبب ذلك غلا اتباعهم للهوى وأنهم عموا وصموا مرة أجرى فصاروا لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى ولا يسمعون ما يتلوه عليهم من الآيات وسيعاقبهم الله على ذلك بمثل ما عاقبهم به من قبل وينكل بهم أشد النكال ويذيقهم أنواع الوبال.
بعد أن عدد قبائح اليهود ومخازيهم شرع يفصل قبائح النصارى ويبطل أقوالهم الفاسدة وآراءهم الزائفة فقال :
﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ﴾ أي أقسم إن هؤلاء الذين اعدوا أن الله هو المسيح ابن مريم – قد كفروا وضلوا ضلالا بعيدا إذ هم في إطرائه ومدحه غلوا أشد من غلو اليهود في الكفر به وتحقيره وقولهم عليه وعلى أمه الصديقة بهتانا عظيما وقد صارت هذه المقالة هي العقيدة الشائعة عندهم ومن عدل عنها عد مارقا من الدين فقالوا : إن الإله مركب من ثلاثة أصول يسمونها ( الأقانيم الثلاثة ) وهي الآب والابن وروح القدس فالمسيح هو الابن والله هو الآب وقد حل الآب في الابن به فكون روح القدس وكل واحد من هذه الثلاثة عين الآخرين.
وخلاصة ذلك : الله هو المسيح والمسيح هو الله كما يزعمون.
ثم ذكر أن المسيح يكذبكم في ذلك فحكى عنه :
﴿ وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ﴾ أي والحال أن المسيح قال لهم ضد ما يقولون فقد أمرهم بعبادة الله وحده معترفا بأنه ربه وربهم ودعا بني إسرائيل الذين أرسل إليهم إلى عبادة الله وحده ولا يزال هذا الأمر محفوظا في الأناجيل التي كتبت لبيان بعض سيرته وتاريخيه ففي إنجيل يوحنا ( وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) فدين المسيح مبني على التوحيد المحض وهو دين الله الذي أرسل به جميع رسله.
وفي هذه المقالة تنبيه إلى ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى لأنه عليه السلام لم يفرق بين نفسه وغيره في أن دلائل الحدوث ظاهرة على الجميع.
وبعد أن أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص أتبعه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه فقال :
﴿ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ﴾ أي إن كل من يشرك بالله شيئا من ملك أو بشر أو كوكب أو حجر أو نحو ذلك فيجعله ندا له أو متحدا به أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضرر أو يزعم أنه يقربه إليه زلفى فيتخذه شفيعا ليؤثر في إراداته تعالى وعلمه ويحمله على شيء غير ما سبق به علمه وخصصته إرادته في الأزل – من يفعل ذلك فإن الله قد حرم عليه الجنة في سابق علمه وبمقتضى شرعه الذي أوحاه إلى جميع رسله فلا مأوى له إلا النار التي هي دار العذاب والذل والهوان –وما للظالمين لأنفسهم بشركهم بالله من نصير ينصرهم ولا شفيع ينقذهم مما يحل بهم ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ ( البقرة : ٢٥٥ ).
وفي الآية إيماء إلى أن النصارى كانوا يتكلمون على كثير من القديسين إذ كانت وثنية الشفاعة قد فشت فيهم وإن تكن من أصل دينهم.
﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ﴾ أي لقد كفر الذين قالوا إن الله خالق السماوات والأرض وما بينهما- ثالث أقانيم ثلاثة أب والد غير مولود وابن مولود غير والد وزوج متتبعة بينهما.
والخلاصة : إن الفرق ثلاثة :
( ١ ) إن إلههم ثالث ثلاثة.
( ٢ ) إن الله هو المسيح ابن مريم.
( ٣ ) إن المسيح هو ابن الله وليس هو الله.
والمتأخرون من النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة وان كل واحد منهما عين الآخر فالآب عين الابن وعين روح القدس ولما كان المسيح هو الابن كان عين الآب وروح القدس أيضا وقد ذكرنا فيما سلف أن النصارى أخذوا عقيدة التثليث من قدماء الوثنيين.
ثم رد الله عليهم ما قالوه بلا روية ولا بصيرة فقال :
﴿ وما من إله إلا إله واحد ﴾ أي ولا يوجد إله إلا من اتصف بالوحدانية وهو الإله الذي لا تركيب في ذاته ولا في صفاته فليس ثم تعدد ذوات وأعيان ولا تعدد أجناس وأنواع ولا تعدد جزئيات وأجزاء.
ثم توعدهم على هذه المقالة فقال :
﴿ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ﴾ أي وإن لم ينتهوا عن قولهم بالتثليث ويتركوه ويعتصموا بعروة التوحيد ويعتقدوه فوالله ليصيبنهم عذاب شديد يوم القيامة جزاء كفرهم.
وفي الآية إيماء إلى أن هذا العذاب لا يمس إلا الذين كفروا منهم خاصة دون من تاب وأناب إلى الله تعالى ورجع عن عقيدة التثليث وغيرها.
ثم تعجب من حالهم بإصرارهم على التثليث بعد أن ظهرت لهم البينات وقامت عليهم الحجج المبطلة لهم والنذر بالعذاب المرتب عليه فقال :
﴿ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ﴾ أي أيسمعون ما ذكر من التفنيد لأرائهم والوعيد عليها ثم لا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى التوحيد واستغفار الله عما فرط منهم والحال أن ربهم واسع الرحمة عظيم المغفرة يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم ما فرط من الزلات إذا هم آمنوا وأحسنوا واتقوا وعملوا الصالحات.
ثم ذكر أن المسيح رسول كغيره من الرسل وأقام الدليل على ذلك فقال :
﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ﴾ أي ليس المسيح إلا رسول من الرسل الذين بعثهم الله لهداية عباده قد مضت من قبله رسل اختصهم مثله بالرسالة وأيدهم بالآيات وأمة صديقة فلها في الفصل مرتبة تلي مرتبة الأنبياء والمرسلين.
ونحو الآية قوله :﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ ( التحريم : ١٢ ).
أما حقيقتها النوعية والجنسية فهي مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما فهما يأكلان الطعام ليقيما بنيتهما ويمدا حياتهما لئلا ينحل بدنهما ويهلكا وكذلك يعرض لهما ما يستلزمه أكل الطعام من الحاجة على دفع الفضلات فلا يمكن أن يكون كل منهما إلها خالقا ولا ربا معبودا ومن السفه أن يحتقر الإنسان نفسه ويحتقر جنسه ويرفه بعض المخلوقات المساوية له في الماهية والمشخصات والممتازة بميزات عرضية فيجعل نفسه عبدا لها ويسميها آلهة أو أرباب.
وبعد أن بين حالهما بيانا لا يحرم حوله شائبة من الريب تعجب من حال من يدعي لهما الربوبية ولا يرعوى عن غيه وضلاله ولا يتأمل فيما هو عليه من أفن الرأي والخطأ فقال :
﴿ انظر كيف نبيين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ﴾ الآيات هي الدلائل القاطعة ببطلان ما يدعون ويؤفكون أي يصرفون عن التأمل فيها لسوء استعدادهم وخبث نفوسهم.
أي انظر أيها السامع نظرة عقل وفكر كيف نبين لهؤلاء النصارى الآيات والبراهين البالغة أقصى الغايات في الوضوح على بطلان ما يدعون في أمر المسيح ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها وكيف لا ينتقلون من مقدماتها إلى نتائجها ومن مباديها إلى غاياتها فكأنهم فقدوا عقولهم وصارت أفئدتهم هواء.
الإيضاح :﴿ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء النصارى وأمثالهم ممن عبدوا غير الله- أتعبدون من دونه أي متجاوزين عبادته وحده- ما لا يملك لكم ضرا تخشونه أن يعاقبكم به إذا تركتم عبادته ولا يملك لكم نفعا ترجون ان يجزيكم به إذا عبدتموه ؟
وفي هذا إيماء إلى دحض مقالتهم بالحجة والدليل فإن اليهود وقد كانوا يعادون المسيح ويقصدونه بالسوء لم يقدر على الإضرار بهم وأنصاره وصحابته مع شديد محبتهم له لم يستطع إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم والعاجز عن الضر والنفع كيف يعقل أن يكون إلها ؟.
الإيضاح :
وإذا كان قول النصارى في المسيح من أشد أنواع الغلو في الدين بتعظيم الأنبياء فوق ما يجب أن يكون لهم من التعظيم وكان إيذاء اليهود له وسعيهم في قتله من الغلو في الجمود على تقاليد الين التي ابتدعوها واتباع أهوائهم بلا علم وكان هذا الغلو هو الذي دعاهم إلى قتل زكريا وأشعيا قال تعالى :
﴿ يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ﴾ سواء السبيل : وسطه الذي لا غلو فيه ولا تفريط وهو الإسلام وضلالهم : ترك شريعتهم واتباعهم الأهواء الفاسدة الموافقة لشهوات النفوس الجامحة بها إلى الحصول إلى اللذات والإعراض عن الدين جانبا وضلالهم عنه : إعراضهم عن اتباعه.
نهى سبحانه اهل الكتاب الذين كانوا في عصر التنزيل عن الغلو الذي كان عليه من قبلهم من أهل ملتهم وعن التقليد الذي كان سبب ضلالهم إذ هم قد اتبعوا أهواءهم وتركوا سنن الرسل والنبيين والصالحين من قبلهم لان كل أولئك كانوا موحدين وكانوا ينكرون الشرك والغلو في الدين فعقيدة التثليث وتلك الشعائر الكنسية المستحدثة من بعدهم كشرع عبادات لم يأذن بها الله وتحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات بل حرمها القسيسون والرهبان على أنفسهم وعلى من اتبعهم مبالغة في التنسك والزهد أو رياء وسمعة وجعل الأنبياء والصالحين أربابا ينفعون ويضرون بسلطة غيبية لهم فوق سنن الله في الأسباب والمسببات الكسبية ولذا جعلوهم آلهة يعبدون من دون الله أو مع الله.
كل أولئك قد ضلوا به وأضلوا كثيرا ممن اتبعهم فيه وسيكون سبب شقائهم وعذابهم في الآخرة إن لم يرجعوا عنه وينيبوا إلى الله منه.
واللعن : الحرمان من لطف الله وعنايته
الإيضاح :
وبعد أن بين الله ضلالهم وإضلالهم ذكر أسباب ذلك وأرشد إلى ما أخذهم به فقال :
﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ أي لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل في الزبور والإنجيل على لسان هذين النبيين فقد لعن داود عليه السلام من اعتدى منهم في السبت أو لعن العاصين المعتدين عامة وكذلك لعنهم عيسى عليه السلام وهو آخر أنبيائهم وما سبب ذلك اللعن الذي امتد واستمر إلا تماديهم في العصيان وتمردهم على الأديان كما يدل عليه قوله : وكانوا يعتدون.
وفي الآية إيماء إلى فشو المنكرات فيهم وانتشار مفاسدها بينهم إذ لولا ذلك كان ترك التناهي شأنا من شؤونهم وعادة من عاداتهم.
﴿ لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ هذا تقبيح لسوء فعلهم ونعجب منه وذم لهم على اقتراف بعضهم للمنكرات وإصرارهم عليها وسكوت آخرين ورضاهم بها وفي سوق الآية إرشاد للمؤمنين وعبرة لهم حتى لا يفعلوا فعلهم فيكونوا مثلهم ويحل بهم غضب الله ولعنه مثل ما ح ببني إسرائيل.
روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود انه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :''أن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقي الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال :﴿ لعن الذين كفروا ﴾ إلى قوله ﴿ فاسقون ﴾ ثم قال صلى الله عليه وسلم :''كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه – تعطفنه- على الحق أطرا ولتقسرنه على الحق قسرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم''.
وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :'' والذي نفس محمد بيده ليخرجن من أمتي ناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون''.
والآثار في هذا الباب كثيرة وفيها وعيد عظيم على ترك التناهي فهل من مدّكر وإلى متى نعرض عن أوامر ديننا ولا نرعوي عن غينا ولا نتبع أوامر شرعنا ؟.
يتولون الذين كفروا : أي يوالونهم ويزينون لهم أهواءهم.
الإيضاح :
وبعد أن ذكر الله لنبيه أحول أسلافهم ذكر له أحوال حاضريهم ممل يدل على رسوخ تلك الملكات فيهم فقال :
﴿ ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ﴾ أي ترى أيها الرسول الكريم كثيرا من نبي إسرائيل يتولون الذين كفروا من مشركي قومك ويحالفونهم عليك ويحرضونهم على قتالك وأنت تؤمن بالله وبما أنزله على رسله وأنبيائه وتشهد لهم بصدق الرسالة وأولئك المشركون لا يؤمنون بكتاب ولا رسول ولا يعبدون إلها واحدا ولولا إتباع الهوى وتزيين الشيطان لهم أعمالهم ما فعلوا ذلك ولا دار هذا بخاطرهم وما استحبوا العمى على الهدى ﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ ( الرعد : ٣٣ ).
وقد روي أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لم يتم لهم ما أرادوا إذ لم يلبوا لهم دعوة ولا استجابوا لهم كلمة.
﴿ لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ﴾ أي بئس شيئا قدموه لأنفسهم في آخرتهم- الأعمال التي أوجبت سخط الله وعظيم غضبه وسيجزون بها شر الجزاء إذا سيحيط بهم العذاب ولا يجدون مصرفت ويخلدون في النار أبدا فالنجاة منه إنما تكون برضا الله عن عبده وهو لم يعلموا إلا ما يوجب سخطه وشديد غضبه.
والخلاصة : إن هذه الولاية بين اليهود والمشركين لم يكن لها من سبب إلا اتفاق الفريقين على الكفر بالله ورسوله والتعاون على حربه وإبطال دعوته والتنكيل بمن آمن به.
ويرى مجاهد أن المراد بالذين كفروا المنافقون أي : أن أولئك المنافقين كفار ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه كما يدّعون ما اتخذهم اليهود أولياء لهم فتوليهم إياهم من أعظم الأدلة على أنهم يسترون الكفر ويظهرون الإيمان نفاقا وكان اليهود يتولون المشركين والمنافقين جميعا لاشتراكهم في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وقد بين الله أسباب هذه الألفة والعلة الجامعة بينهم فقال :
﴿ ولكن كثيرا منهم فاسقون ﴾ أي ولكن كثيرا منهم متمردون في النفاق خارجون عن حظيرة الدين لا يريدون إلا الرياسة والجاه ويسعون إلى تحصيلها من أي طريق قدروا عليه ومتى سار الكثير من الأمة على طريق تبعه الباقون إذ لا عبرة بالقليل في سيرة الأمة وأعمالها.
وكان الفراغ من مسودة تفسير هذا الجزء في الليلة الثالثة من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية بحلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية ولله الحمد أولا وآخر وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ٨٤ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ٨٥ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ [ المائدة : ٨٢ ٨٦ ].
تفسير المفردات : العداوة : البغضاء يظهر أثرها في القول والعمل، والمودة : محبة يظهر أثرها في القول والعمل، والناس : هم يهود الحجاز ومشركو العرب ونصارى الحبشة في عصر التنزيل، والقسيسون : واحدهم قسيس، وقسوس، واحدهم قس : وهو الرئيس الديني فوق الشماس ودون الأسقف، والأصل في القسيسين أن يكونوا من أهل العلم بدينهم وكتبهم، لأنهم رعاة ومفتون، والرهبان، واحدهم راهب : وهو المتبتل المنقطع في دير أو صومعة للعبادة وحرمان النفس من التنعيم بالزوج والولد ولذات الطعام والزينة، وذكر القسيسين والرهبان للجمع بين العباد والعلماء.
المعنى الجملي : بعد أن حاج سبحانه وتعالى أهل الكتاب، وذكر من مخازيهم أنهم اتخذوا الدين الإسلامي هزوا ولعبا، وأن اليهود منهم قالوا : يد الله مغلولة، وأنهم قتلوا رسلهم تارة وكذبوهم أخرى، وأن النصارى منهم اعتقدوا عقائد زائفة، فمنهم من قال المسيح ابن الله، ومنهم من قال إن الله ثالث ثلاثة، وقد عابهم على ذلك وكر عليهم بالحجة إثر الحجة لتفنيد ما كانوا يعتقدون.
ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين ومحبتهم لهم ومقدار تلك المحبة والعداوة، وبين حال المشركين مع المؤمنين بالتبع لهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا. وأنزل الله فيهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغ ذلك المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا : إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبي وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاؤوني نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا له : استأذن لأولياء الله، فقال : ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا فقال لهم : ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قالوا : يقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم إنها العذراء الطيبة البتول، قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود ـ أي مثله في صغره ـ فكره المشركون قوله، وتغيرت له وجوههم، فقال : هل تقرؤون شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا : نعم قال : فاقرؤوا، فقرؤوا، وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى، فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرؤوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، وهذا ما أشار إليه بقوله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾.
الإيضاح :﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ﴾ أي قسما لتجدن أيها الرسول أشد الناس عداوة للذين صدقوك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به، اليهود والمشركين من عبدة الأوثان الذين اتخذوها آلهة يعبدونها من دون الله.
وأشد ما لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من العداوة والإيذاء، كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب ولاسيما مكة وما قرب منها.
وقد كان اليهود والمشركون مشتركين في بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت عداوتهم الشديدة للمؤمنين كالكبر، والعتو، والبغي، وغلبة الحياة المادية، والأثرة، والقسوة، وضعف عاطفة الحنان والرحمة، والعصبية الجنسية، والحمية القوية، ولكن مشركي العرب على جاهليتهم كانوا أرق من اليهود قلوبا، وأعظم سخاء وإيثارا، وأكثر حرية في الفكر واستقلالا في الرأي.
وقدم سبحانه ذكر اليهود للإشارة إلى تفوقهم على العرب فيما وصفوا به، فضلا عما امتازوا به من قتل بعض الأنبياء وإيذاء بعض آخر، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل.
ولم يكن ميلهم مع المسلمين في البلاد المقدسة والشام والأندلس إلا ميلا وراء مصلحتهم الخاصة، إذ هم تفيئوا ظلال عدلهم، واستراحوا به من اضطهاد النصارى في تلك البلاد.
﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ﴾ أي ولتجدن أقرب الناس محبة للذين آمنوا بك وصدقوك ﴿ الذين قالوا إنا نصارى ﴾ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة، بحماية المهاجرين الذين أرسلهم صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام من مكة إلى الحبشة، خوفا عليهم من مشركيها الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء، ليفتنوهم عن دينهم.
ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتبه إلى الملوك ورؤساء الشعوب كان النصارى منهم أحسنهم ردا، فهرقل ملك الروم في الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام فلم يستطع، لجمودهم على التقليد فاكتفى بالرد الحسن، والمقوقس عظيم القبط في مصر كان أحسن منه ردا، وإن لم يكن أكثر منه ميلا إلى الإسلام، وأرسل للنبي صلى الله عليه وسلم هدية حسنة، ثم لما فتحت مصر والشام وعرف أهلهما ما للإسلام من مزايا أهرعوا إلى الدخول في الدين أفواجا وكان القبط أسرع إليه قبولا.
والخلاصة : إن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به رأوا في عصره من مودة النصارى وقربهم من الإسلام بقدر ما رأوا من عداوة اليهود والمشركين، وأن من توقف من ملوكهم عن الإسلام فما كان توقفه إلا ضنا بملكه، وأن النجاشي أصحمة ملك الحبشة قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا، ولكن الإسلام لم ينتشر في الحبشة بعد موته، ولم يهتم المسلمون بإقامة دينهم في تلك البلاد كما فعلوا في مصر والشام.
ثم بين سبحانه وتعالى سبب مودة النصارى للذين آمنوا فقال :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ﴾.
الإيضاح :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ﴾ أي إن السبب في هذه المودة أن منهم قسيسين يتولون تعليمهم التعليم الديني، ويهذبون أخلاقهم ويربون فيهم الآداب والفضائل، ورهبانا يعودونهم الزهد والتقشف والإعراض عن زخرف الدنيا ونعيمها، ويكبرون في نفوسهم الخوف من الله والانقطاع لعبادته، وأنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر أنه الحق، إذ من فضائل دينهم التواضع والتذلل والخضوع لكل حاكم، بل إنهم أمروا بمحبة الأعداء، وإدارة الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن. فكل أولئك يؤثر في جمهور الأمة وسوادها الأعظم، وقد عهد من النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعا واختيارا، بخلاف اليهود فإنهم إذا أظهروا الرضا اضطرارا أسروا الكيد وأضمروا المكر، لأن الشريعة اليهودية تولد في نفوسهم العصبية الجنسية والحمية القومية، لأنها خاصة بشعب إسرائيل، وأحكامها ونصوصها مبنية على ذلك.
ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين ومحبتهم لهم ومقدار تلك المحبة والعداوة، وبين حال المشركين مع المؤمنين بالتبع لهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا. وأنزل الله فيهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغ ذلك المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا : إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبي وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاؤوني نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا له : استأذن لأولياء الله، فقال : ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا فقال لهم : ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قالوا : يقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم إنها العذراء الطيبة البتول، قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود ـ أي مثله في صغره ـ فكره المشركون قوله، وتغيرت له وجوههم، فقال : هل تقرؤون شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا : نعم قال : فاقرؤوا، فقرؤوا، وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى، فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرؤوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، وهذا ما أشار إليه بقوله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾.
تفسير المفردات : تفيض من الدمع : أي تمتلئ دمعا حتى يتدفق من جوانبها لكثرته، مع الشاهدين : أي مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلى الله عليه وسلم وكتابك.
الإيضاح :﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾ أي وإذا سمع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من جوانبها لكثرته من أجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القرآن الكريم، ولم يمنعهم ما يمنع غيرهم من عتو واستكبار.
ثم ذكر سبحانه ما يكون منهم من القول إثر بيان ما كان من حالهم فقال :
﴿ يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ أي يقولون هذه المقالة قاصدين بها إنشاء الإيمان والتضرع إلى الله والخضوع له بأن يتقبله منهم ويكتبهم مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين جعلهم الله تعالى شهداء على الناس، لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم ومما يتناقلونه عن أسلافهم أن النبي الأخير الذي يكمل به الدين ويتم به التشريع العام يكون متبعوه شهداء على الناس ويكونون حجة على المشركين والمبطلين كما جاء في الآية الأخرى :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
ثم زادوا كلامهم توكيدا فقالوا :﴿ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ﴾.
ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين ومحبتهم لهم ومقدار تلك المحبة والعداوة، وبين حال المشركين مع المؤمنين بالتبع لهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا. وأنزل الله فيهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغ ذلك المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا : إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبي وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاؤوني نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا له : استأذن لأولياء الله، فقال : ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا فقال لهم : ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قالوا : يقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم إنها العذراء الطيبة البتول، قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود ـ أي مثله في صغره ـ فكره المشركون قوله، وتغيرت له وجوههم، فقال : هل تقرؤون شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا : نعم قال : فاقرؤوا، فقرؤوا، وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى، فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرؤوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، وهذا ما أشار إليه بقوله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾.
الإيضاح :﴿ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ﴾ أي وأي مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان هذا النبي الكريم، بعد أن ظهر لنا أنه هو روح الحق الذي بشر به المسيح ؟ وإننا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة، والفضائل والآداب الكاملة، وهم أتباع هذا النبي الكريم الذين استبان لنا أثر صلاحهم وشاهدناه بأعيننا بعد ما كان منهم من فساد في الأرض وعتو كبير في جاهليتهم.
والخلاصة : إنه لا مانع لنا من هذا الإيمان بعد أن تظاهرت أسبابه، وتحققت موجباته فوجب علينا الجري على سننه، وإتباع نهجه وطريقه.
تفسير المفردات :
الإثابة : المجازاة، وقوله : بما قالوا، أي بما قالوه عن اعتقاد.
المعنى الجملي : بعد أن حاج سبحانه وتعالى أهل الكتاب، وذكر من مخازيهم أنهم اتخذوا الدين الإسلامي هزوا ولعبا، وأن اليهود منهم قالوا : يد الله مغلولة، وأنهم قتلوا رسلهم تارة وكذبوهم أخرى، وأن النصارى منهم اعتقدوا عقائد زائفة، فمنهم من قال المسيح ابن الله، ومنهم من قال إن الله ثالث ثلاثة، وقد عابهم على ذلك وكر عليهم بالحجة إثر الحجة لتفنيد ما كانوا يعتقدون.
ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين ومحبتهم لهم ومقدار تلك المحبة والعداوة، وبين حال المشركين مع المؤمنين بالتبع لهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا. وأنزل الله فيهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغ ذلك المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا : إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبي وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاؤوني نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا له : استأذن لأولياء الله، فقال : ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا فقال لهم : ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قالوا : يقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم إنها العذراء الطيبة البتول، قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود ـ أي مثله في صغره ـ فكره المشركون قوله، وتغيرت له وجوههم، فقال : هل تقرؤون شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا : نعم قال : فاقرؤوا، فقرؤوا، وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى، فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرؤوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، وهذا ما أشار إليه بقوله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾.
الإيضاح :﴿ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ﴾ أي فجزاهم الله وأعطاهم من الثواب بما نطقت به ألسنتهم معبرا عما في قلوبهم من خالص الإيمان وصحيح الاعتقاد جنات وحدائق في دار النعيم تجري من تحت أشجارها الوارفة الظلال، الأنهار التي تسيل مياهها سلسبيلا، يخلدون فيها أبدا فلا يسلبها منهم أحد، ولا هم يرغبون عنها ويودون لو تركوها، ومثل هذا الجزاء قد أعده للذين أخلصوا في عقائدهم وأحسنوا أعمالهم.
وعلينا أن نقف في وصف نعيم الآخرة على ما جاء به القرآن الكريم وصحت به السنة النبوية، ولا نعدو ذلك إلى ما وراءه، فإن النعيم الروحاني والرضوان الإلهي لا يمكن أن يعبر عنه الكلام ولا يحيط به الوصف، فنحن في عالم يخالف ذلك العالم في أوصافه وخواصه، مهما أكثرنا من الوصف، فلا نصل إلى شيء مما أعده الله لهم هناك :﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾ [ السجدة : ١٧ ].
وبعد أن بين سبحانه ما أعد لعباده المحسنين من عظيم الثواب جزاء صادق إيمانهم، ذكر جزاء المسيئين إلى أنفسهم بالكفران والتكذيب جريا على سنة القرآن في الجمع بين الوعد والوعيد قال :﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾.
ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين ومحبتهم لهم ومقدار تلك المحبة والعداوة، وبين حال المشركين مع المؤمنين بالتبع لهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا. وأنزل الله فيهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغ ذلك المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا : إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبي وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاؤوني نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا له : استأذن لأولياء الله، فقال : ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا فقال لهم : ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قالوا : يقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم إنها العذراء الطيبة البتول، قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود ـ أي مثله في صغره ـ فكره المشركون قوله، وتغيرت له وجوههم، فقال : هل تقرؤون شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا : نعم قال : فاقرؤوا، فقرؤوا، وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى، فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرؤوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، وهذا ما أشار إليه بقوله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾.
الإيضاح :﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ الجاحم والجحيم : ما اشتد حره من النار أي : وأما الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا بآيات كتابه، فأولئك هم أصحاب النار وسكانها المقيمون فيها لا يبرحونها.
المعنى الجملي : بعد أن مدح سبحانه النصارى بأنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين وذكر من أسباب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا، ظن المؤمنون أن في هذا ترغيبا في الرهبانية وظن الميالون للتقشف والزهد أنها منزلة تقربهم إلى الله، ولن تتحقق إلا بترك التمتع بالطيبات من الطعام واللباس والنساء، إما دائما كامتناع الرهبان من الزواج، وإما في أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها، فأزال الله هذا الظن وقطع عرق هذا الوهم بذلك النهي الصريح.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ قال : نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
( لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة وقدامة تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار فنزلت الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ الآية، فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :{ إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، وإن لأهلكم حقا، فصلوا وناموا، وصوموا، وأفطروا فليس منا من ترك سنتنا " فقالوا : اللهم صدقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ﴾ الطيبات : الأشياء التي تستذلها النفوس وتميل إليها القلوب، أي لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات بأن تتركوا التمتع بها عمدا تنسكا وتقربا إلى الله، ولا تعتدوا فيها وتتجاوزوا حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد بأن تزيدوا على الشبع والري، أو تجعلوا التمتع بها أكبر همكم في الحياة، أو تشغلكم عن الأمور النافعة من العلوم والأعمال المفيدة لكم ولبني وطنكم.
والآية بمعنى قوله تعالى :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾ [ الأعراف : ٣١ ] أو لا تعتدوها : أي الطيبات بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة.
والخلاصة : إن الاعتداء يشمل أمرين : الاعتداء في الشيء نفسه بالإسراف فيه، والاعتداء بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه وهو الخبائث.
ثم علل النهي عن الاعتداء بما ينفر منه فقال :
﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾ أي لا يحب الله من يتجاوز حدود شرائعه ولو بقصد عبادته وتحريم طيباته التي أحلها، سواء أكان التحريم من غير التزام بيمين أو نذر أو بالتزام، وكل منهما غير جائز.
والالتزام قد يكون لرياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات، وقد يكون ناشئا عن بادرة غضب من زوجة أو ولد، كمن يحلف بالله أو بالطلاق ألا يأكل من هذا الطعام أو نحوه من المباحات، أو يقول إن فعل كذا فهو بريء من الإسلام أو من الله ورسوله أو نحو ذلك، وكل هذا منهي عنه شرعا ولا يحرم على أحد شيء منها يحرمه على نفسه بهذه الأقوال، ولا كفارة في يمين يحلفه الحالف في نحو ذلك عند الشافعي.
وتحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس من العبادات المأثورة عند قدماء اليهود واليونان قلدهم فيها أهل الكتاب خصوصا النصارى، فإنهم قد شددوا على أنفسهم وحرموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة على ما فيها من الشدة والصرامة والمبالغة في الزهد.
ولما جاء الإسلام وأرسل الله نبيه محمدا خاتم النبيين بما فيه السعادة التامة للبشر في دنياهم وآخرتهم أباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه والروح حقه، فالإنسان ما هو إلا روح وجسد فيجب العدل بينهما، وبذا كانت الأمة الإسلامية أمة وسطا تشهد على جميع الأمم وتكون حجة عليها يوم القيامة.
والحكمة في ذلك : النهي أن الله يحب أن يستعمل عباده نعمه فيما خلقت لأجله ويشكروه على ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها بإباحة ما حرمه أو ترك ما فرضه، وقد أشار إلى ذلك بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ﴾ [ البقرة : ١٧٢ ] وورد في الأثر :" إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ".
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ قال : نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
( لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة وقدامة تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار فنزلت الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ الآية، فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :{ إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، وإن لأهلكم حقا، فصلوا وناموا، وصوموا، وأفطروا فليس منا من ترك سنتنا " فقالوا : اللهم صدقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول.
الإيضاح :﴿ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ﴾ أي وكلوا مما رزقكم الله من الحلال في نفسه لا من المحرمات كالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، ومن الحلال في كسبه وتناوله بألا يكون ربا ولا سحتا، ولا سرقة، مع كونه مستلذا غير مستقذر لذاته أو لطارئ يطرأ عليه من فساد أو تغير لطول مكث ونحوه.
والأكل في الآية يراد به التمتع الشامل للشرب ونحوه من حلال غير مسكر ولا ضار، ومن كل طيب غير مستقذر في ذاته أو لطارئ يطرأ عليه.
والخلاصة : إنه ينبغي للمؤمن أن يتمتع بما تيسر له من الطيبات بلا تأثم ولا تحرج، ويحضر قلبه أنه عامل بشرع الله مقيم لسنة الفطرة التي فطر الله عليها، شاكر له بالاعتراف والحمد والثناء عليه، كما أن امتناعه عن الطيبات التي رزقه الله إياها مع الداعية الفطرية إلى الاستمتاع بها إثم يجنيه على نفسه في الدنيا ويستحق به عقاب الآخرة، لزيادته في دين الله قربات لم يأذن بها، ولإضاعة حقوق الله وحقوق عباده كإضاعة حقوق امرأته وعياله.
والتحريم والتحليل تشريع وهو من حقوق الله فمن انتحله لنفسه كان مدعيا الربوبية أو كالمدعي لها.
وعن الحسن البصري : إن الله أدب عباده فأحسن أدبهم فقال :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ﴾ [ الطلاق : ٧ ] ما عاب قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه. وعنه أنه قيل له : فلان لا يأكل الفالوذج ويقول لا أؤدي شكره، قال : أفيشرب الماء البارد ؟ قالوا : نعم، قال : إنه جاهل، إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج " البلوظة ".
﴿ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ﴾ أي اتقوه في الأكل واللباس والنساء وغيرها، فلا تفتاتوا عليه في تحليل ولا تحريم، ولا تعتدوا حدوده فيما أحل وما حرم، إذ من جعل شهوة بطنه أكبر همه كان من المسرفين، ومن بالغ في الشبع وعرض معدته وأمعاءه للتخمة كان من المسرفين، ومن أنفق في ذلك أكثر من طاقته وعرّض نفسه لذل الدين أو أكل أموال الناس بالباطل فهو من المسرفين والله يقول :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾ [ الأعراف : ٣١ ].
والخلاصة : إن هدى القرآن في الطيبات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة المعتدلة من التمتع بها من الاعتدال والتزام الحلال، والاعتدال هو الصراط المستقيم الذي يقل سالكه، فكثير من الناس يحيدون عنه ويميلون في التمتع إلى جانب الإفراط والإسراف، ويكونون كالأنعام بل أضل لأنهم يجنون على أنفسهم حتى قال بعض الحكماء : إن أكثر الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم.
وقليلون منهم ينحرفون إلى جانب التفريط والتقتير إما اضطرارا لبؤسهم وعدمهم وإما اختيارا كالزهاد والمتقشفين.
وسبيل الاعتدال سبيل شاقة على النفوس، عسرة على سالكها، كلها تدل على فضيلة العقل ورجحانه.
والمعروف من سيرة الرسول أنه كان يأكل ما وجده، فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج، وتارة يأكل أخشنة كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل، وحينا يجوع وأخرى يشبع، فكان في كل ذلك قدوة للموسر والمعسر.
وما كان يهمه أمر الطعام، لكنه كان يعنى بأمر الشراب، ففي حديث عائشة :" كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد " قال المحدثون : ويدخل في ذلك الماء القراح والماء المحلى بالعسل أو نقيع التمر أو الزبيب.
تفسير المفردات : اللغو في اليمين : قول الرجل في الكلام من غير قصد لا والله وبلى والله، بما عقدتم الأيمان : أي بما صممتم عليه منها وقصدتموه، وأصل العقد نقيض الحل، فعقد الأيمان : توكيدها بالقصد والغرض الصحيح، وتعقيدها : المبالغة في توكيدها، وأصل الكفارة من الكفر، وهو : الستر والتغطية ثم صارت في اصطلاح الشرع اسما لأعمال تكفر بعض الذنوب والمؤاخذات أي تغطيها وتخفيها حتى لا يكون لها أثر يؤاخذ به المرء لا في الدنيا ولا في الآخرة، والأوسط : أي الأغلب من الطعام في البيوت لا الدون الذي يتقشف به أحيانا ولا الأعلى الذي يتوسع به أحيانا أخرى، وتحرير الرقبة : هو إعتاق الرقيق المملوك.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات وعن الاعتداء فيها وتجاوز الحدود، لأن قوما من المسلمين تنسكوا وحرموا على أنفسهم اللحم والنساء وغيرها من الطيبات تقربا إلى الله سألوا عما يصنعون بأيمانهم التي حلفوا عليها فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابا لهم عما سألوا.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل الله تعالى ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ وأخرج أبو الشيخ عن يعلى بن مسلم قال : سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية... قال : اقرأ ما قبلها فقرأت :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم ﴾ إلى قوله :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾.
الإيضاح :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ أي لا يؤاخذكم الله بالأيمان التي تحلفونها بلا قصد، كما يقول الرجل في كلامه بدون قصد لا والله، وبلى والله، فلا مؤاخذة على مثل هذه بكفارة في الدنيا، ولا عقوبة في الآخرة.
﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾ أي ولكن يؤاخذكم بما صممتم عليه من الأيمان وقصدتموه إذا أنتم حنثتم فيه.
وهذه المؤاخذة بينها سبحانه بقوله :
﴿ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ﴾ أي فالذي يكفر عقد اليمين إذا نقض، أو إذا أريد نقضه بالحنث به هو إحدى هذه المبررات الثلاث على سبيل التخيير :
( ١ ) إطعام عشرة مساكين : وجبة واحدة لكل منهم من الطعام الغالب الذي يأكله أهلوكم في بيوتكم، لا من أردئه الذي يتقشفون به تارة، ولا من أعلاه الذي يتوسعون به تارة أخرى كطعام العيد ونحوه مما تكرم به الأضياف فمن كان أكثر طعام أهله خبز وأكثر إدامه اللحم بالخضر أو بدونها فلا يجزئ ما دون ذلك مما يأكلونه إذا قرفت أنفسهم من كثرة أكل الدسم ليعود إليها نشاطها، والأعلى مجزئ على كل حال لأنه من الوسط وزيادة، والثريد بالمرق وقليل من اللحم، أو الخبز مع الملوخية أو الرز أو العدس من أوسط الطعام في مصر وكثير من الأقطار الشرقية الآن، وكان التمر أوسط طعام أهل المدينة في العصر الأول، وأجاز أبو حنيفة إطعام مسكين واحد عشرة أيام.
( ٢ ) كسوة عشرة مساكين : وهي تختلف باختلاف البلاد والأزمنة كالطعام فيجزئ في مصر القميص الطويل الذي يسمى بالجلابية مع السراويل أو بدونه، وهذا يساوي الإزار والرداء أو العباءة في العصر الأول، ولا يجزئ ما يوضع على الرأس من طربوش أو عمامة، ولا ما يلبس في الرجلين من الأحذية والجوارب ولا نحو منديل أو منشفة.
( ٣ ) تحرير رقبة : أي إعتاق رقيق، وغلب استعمال الرقبة في المملوك والأسير، وقد يعبر أحيانا عن ذلك بفك الرقبة كقوله تعالى :﴿ فك رقبة ﴾ [ البلد : ١٣ ] ولا يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة فيجزئ عتق الكافرة عند أبي حنيفة، واشترط الشافعي ومالك وأحمد إيمانها.
﴿ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ﴾ أي فمن لم يستطع واحد من الثلاثة المتقدمة فعليه أن يصوم ثلاثة أيام متتابعات، فإن عجز عن ذلك لمرض، صام عند القدرة، فإن لم يقدر يرجى له عفو الله ورحمته إذا صحت وصدقت عزيمته.
والاستطاعة : أن تجد ذلك القدر فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو، وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت آية الكفارة قال حذيفة : يا رسول الله نحن بالخيار فقال صلى الله عليه وسلم :" أنت بالخيار إن شئت أعتقت، وإن شئت كسوت، وإن شئت أطعمت، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات ".
﴿ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ﴾ بالله أو بأحد أسمائه وحنثتم، أو أردتم الحنث باليمين. ﴿ واحفظوا أيمانكم ﴾ فلا تبذلوها في أتفه الأمور وأحقرها، ولا تكثروا من الأيمان الصادقة فضلا عن الأيمان الكاذبة قال تعالى :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٤ ] وإذا حلفتم فلا تنسوا ما حلفتم عليه ولا تحنثوا فيه إلا لضرورة تعرض، أو مصلحة تجعل الحنث رابحا.
﴿ كذلك بين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ﴾ أي وعلى هذا النحو الشافي الوافي يبين الله لكم أعلام شريعته وأحكام دينه، ليعدكم ويؤهلك بذلك إلى شكر نعمه على الوجه الذي يحبه ويرضاه ويكون سببا في المزيد من فضله وإحسانه.
وها هنا مسائل تتعلق بالأيمان يجمل بك أن تعرفها تكملة لدينك :
( ١ ) لا يجوز الحلف بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته، قال صلى الله عليه وسلم :" من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله " رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، ورويا أيضا عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال :" إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر قال :" كان أكثر ما يحلف به النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب ".
والمحرم أن يحلف بغير الله حلفا يلتزم به ما حلف عليه والبر به فعلا أو تركا، لأن الشارع جعل هذا خاصا بالحلف بالله وأسمائه وصفاته، وأما ما يجيء لتأكيد الكلام ويجري على ألسنة الناس دون قصد لليمين فلا يدخل في باب النهى نحو قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي " أفلح وأبيه إن صدق ".
ويدخل في النهى الحلف بالنبي والكعبة وسائر ما هو معظم شرعا تعظيما يليق به، ولقد كان غلو الناس في تعظيم أنبيائهم والصالحين منهم سببا في هدم الدين واستبدال الوثنية به.
( ٢ ) يجوز الحنث لمصلحة راجحة مع التكفير قبله لما رواه أحمد والشيخان في صحيحيهما عن عبد الرحمان بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك " وفي لفظ عن أبي داود والنسائي :" فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير " ودل اختلاف الرواية في تقديم الأمر بالكفارة أو تأخيره على جواز الأمرين :
والحلف باعتبار المحلوف عليه أقسام :
( أ ) حلف على فعل واجب أو ترك حرام، وهذا تأكيد لما كلف الله به، لحنث ويكون الإثم مضاعفا.
( ب ) حلف على ترك واجب أو فعل محرم، ويجب في هذا الحنث لأن اليمين معصية، ومن ذلك الحلف على إيذاء الوالدين وعقوقهما أو منع ذي حق حقه الواجب له، والحلف على ترك المباح كالطيب من الطعام، فإن في ذلك تشريعا بتحريم ما أحل الله كما فعلت الجاهلية في تحريم بعض الطيبات.
( ج ) حلف على فعل مندوب أو ترك مكروه، وهذا طاعة يندب له الوفاء به ويكره الحنث، ومن ذلك الحلف على ترك طعام معين كالطعام الذي في هذه الصفحة مثلا، كما فعل عبد الله بن رواحة في تحريمه الطعام على نفسه ثم أكله منه لأجل الضيف، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم " أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته : حبست ضيفي من أجلي ؟ هو علي حرام، فقالت امرأته : هو علي حرام، قال الضيف : هو علي حرا، فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا باسم الله ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" قد أصبت "، فأنزل الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم ﴾ ".
( ٣ ) الأيمان ثلاثة أقسام :
( أ ) ما ليس من أيمان المسلمين كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وتربتهم وهذه يمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها، بل هي منهي عنها نهي تحريم لما تقدم من الأحاديث.
( ب ) يمين بالله تعالى كقوله : والله لأفعلن، وهذه يمين منعقدة فيها الكفارة عند الحنث.
( ج ) أيمان في معنى الحلف بالله يريد بها الحالف تعظيم الخالق كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق كقوله : إن فعلت كذا فعلي صيام شهر، أو الحج إلى بيت الله، أو الحل علي حرام لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، أو إن فعلته فنسائي طوالق أو عبيدي أحرار، أو كل ما أملكه صدقة أو نحو ذلك. والصحيح الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة أنه يجزئه كفارة يمين في جميع ذلك كما قال تعالى :﴿ ذلك كفارة أيمانكم إذ حلفتم ﴾ وقال :﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ [ التحريم : ٢ ] وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من حلف على يمين فرأى خيرا فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ".
( ٤ ) الأيمان مبنية على العرف والنية لا على مدلولات اللغة واصطلاحات الشرع، فمن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث وغن سماه الله لحما طريا إلا إن نواه أو كان يدخل في عموم اللحم في عرف قوه، كما أن من يحلف غيره يمينا على شيء فالعبرة بنية المحلف لا الحالف، فقد روى مسلم وابن ماجة :" اليمين على نية المستحلف ".
واليمين الغموس : التي يهضم بها الحق أو يقصد بها الخيانة والغش لا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام، بل لا بد من التوبة وأداء الحق والاستقامة، قال تعالى :﴿ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ﴾ [ النحل : ٩٤ ] وقال صلى الله عليه وسلم :" من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " رواه البخاري ومسلم.
تفسير المفردات : الخمر : كل شراب نسكر : والميسر : لغة القمار بالقداح في كل شيء ثم استعمل في كل مقامرة، والأنصاب : حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وروى أنهم كانوا يعبدونها ويتقربون إليها، والأزلام : قداح أي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية لأجل التفاؤل أو التشاؤم، والرجس : المستقذر حسا أو معنى، يقال رجل رجس ورجال أرجاس، والرجس على أوجه : إما من جهة الطبع، وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشرع كالخمر والميسر، وإما من كل ذلك كالميتة لأنها تعاف طبعا وعقلا وشرعا.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن تحريم ما أحل الله من الطيبات وأمر بأكل ما رزق الله من الحلال الطيب وكان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر، لا جرم أن بين عز اسمه أنهما غير داخلين فيما يحل. بل هما مما يحرم، وقد روى ابن جرير وابن مردويه في سبب نزول الآيات أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال :" في نزل تحريم الخمر، صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر وذلك قبل تحريمها، فتفاخروا فقالت الأنصار : الأنصار خير، وقالت قريش : قريش خير، فأهوى رجل بلحى جزور ـ فك رأس جزور ـ فضرب على أنفي ففزره. قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فنزلت ".
وروى عبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان والله لو كان رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ـ إلى قوله ـ فهل أنتم منتهون ﴾ فقال أناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان قتل يوم بدر، وفي بطن فلان قتل يوم أحد، فأنزل الله :﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ الآية.
وفي مسند أحمد ومسند أبي داود والترمذي : أن عمر كان يدعوا الله تعالى : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم فظل على دعائه، وكذلك لما نزلت آية النساء، فلما نزلت آية المائدة دعي فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ قال : انتهينا انتهينا.
والحكمة في تحريم الخمر بالتدريج : أن الناس كانوا مغرمين بحبها كلفين بها فلو حرمت في أول الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام، ومن ثم جاء تحريمها أولا في سورة البقرة على وجه فيه مجال للاجتهاد فيتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه، ثم ذكرها في سورة النساء بما يقتضي تحريمها في الأوقات القريبة من وقت الصلاة، إذ نهى القرب من الصلاة في حال السكر فلم يبق لمن يصر على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل، والصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له فلا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، ثم تركهم الله على هذه الحال زمنا قوي فيه الدين وكثرت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمها وضررها، فحرمها تحريما باتا لا هوادة فيه.
روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت في البقرة ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] شربها قوم لقوله :﴿ ومنافع للناس ﴾ وتركها قوم لقوله ﴿ إثم كبير ﴾ منهم عثمان بن مظعون حتى نزلت الآية في النساء :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] فتركها قوم وشربها قوم، يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل، حتى نزلت الآية التي في المائدة ﴿ إنما الخمر والميسر ﴾ الآية قال عمر : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام ؟ بعدا لك وسحقا. فتركها الناس ووقع في صدور أناس منها وقالوا ما حرم علينا شيء أشد من الخمر، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول إن في نفسي شيئا فيقول صاحبه لعلك تذكر الخمر، فيقول نعم، فيقول إن في نفسي مثل ما في نفسك حتى ذكر قوم واجتمعوا فيه فقالوا : كيف نتكلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد ( حاضر ) وخافوا أن ينزل فيهم ( أي قرآن ) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعدوا له حجة فقالوا : أرأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش أليسوا في الجنة ؟ قال " بلى " قالوا أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر ؟ فحرم علينا شيء دخلوا الجنة وهم يشربونه ؟
فقال :( قد سمع الله ما قلتم، فإن شاء أجابكم ) فأنزل الله :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾ فقالوا انتهينا. ونزل في الذين ذكروا حمزة وأصحابه ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ الآية.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها، والميسر الذي تتياسرونه، والأنصاب التي تذبحون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها ـ إثم سخطه الله وكرهه لكم، وهو من عمل الشيطان وتحسينه لكم لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم.
﴿ فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ أي فاتركوا هذا الرجس ولا تعلموه وكونوا في جانب غير الجانب الذي هو فيه، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتواد فيما بعد.
تفسير المفردات : العداوة : تجاوز الحق إلى الإيذاء.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن تحريم ما أحل الله من الطيبات وأمر بأكل ما رزق الله من الحلال الطيب وكان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر، لا جرم أن بين عز اسمه أنهما غير داخلين فيما يحل. بل هما مما يحرم، وقد روى ابن جرير وابن مردويه في سبب نزول الآيات أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال :" في نزل تحريم الخمر، صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر وذلك قبل تحريمها، فتفاخروا فقالت الأنصار : الأنصار خير، وقالت قريش : قريش خير، فأهوى رجل بلحى جزور ـ فك رأس جزور ـ فضرب على أنفي ففزره. قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فنزلت ".
وروى عبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان والله لو كان رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ـ إلى قوله ـ فهل أنتم منتهون ﴾ فقال أناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان قتل يوم بدر، وفي بطن فلان قتل يوم أحد، فأنزل الله :﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ الآية.
وفي مسند أحمد ومسند أبي داود والترمذي : أن عمر كان يدعوا الله تعالى : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم فظل على دعائه، وكذلك لما نزلت آية النساء، فلما نزلت آية المائدة دعي فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ قال : انتهينا انتهينا.
والحكمة في تحريم الخمر بالتدريج : أن الناس كانوا مغرمين بحبها كلفين بها فلو حرمت في أول الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام، ومن ثم جاء تحريمها أولا في سورة البقرة على وجه فيه مجال للاجتهاد فيتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه، ثم ذكرها في سورة النساء بما يقتضي تحريمها في الأوقات القريبة من وقت الصلاة، إذ نهى القرب من الصلاة في حال السكر فلم يبق لمن يصر على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل، والصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له فلا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، ثم تركهم الله على هذه الحال زمنا قوي فيه الدين وكثرت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمها وضررها، فحرمها تحريما باتا لا هوادة فيه.
روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت في البقرة ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] شربها قوم لقوله :﴿ ومنافع للناس ﴾ وتركها قوم لقوله ﴿ إثم كبير ﴾ منهم عثمان بن مظعون حتى نزلت الآية في النساء :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] فتركها قوم وشربها قوم، يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل، حتى نزلت الآية التي في المائدة ﴿ إنما الخمر والميسر ﴾ الآية قال عمر : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام ؟ بعدا لك وسحقا. فتركها الناس ووقع في صدور أناس منها وقالوا ما حرم علينا شيء أشد من الخمر، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول إن في نفسي شيئا فيقول صاحبه لعلك تذكر الخمر، فيقول نعم، فيقول إن في نفسي مثل ما في نفسك حتى ذكر قوم واجتمعوا فيه فقالوا : كيف نتكلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد ( حاضر ) وخافوا أن ينزل فيهم ( أي قرآن ) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعدوا له حجة فقالوا : أرأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش أليسوا في الجنة ؟ قال " بلى " قالوا أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر ؟ فحرم علينا شيء دخلوا الجنة وهم يشربونه ؟
فقال :( قد سمع الله ما قلتم، فإن شاء أجابكم ) فأنزل الله :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾ فقالوا انتهينا. ونزل في الذين ذكروا حمزة وأصحابه ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ الآية.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها، والميسر الذي تتياسرونه، والأنصاب التي تذبحون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها ـ إثم سخطه الله وكرهه لكم، وهو من عمل الشيطان وتحسينه لكم لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم.
﴿ فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ أي فاتركوا هذا الرجس ولا تعلموه وكونوا في جانب غير الجانب الذي هو فيه، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتواد فيما بعد.
الإيضاح :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ﴾ أي إن الشيطان يريد لكم شرب الخمر ومياسرتكم بالقداح ليعادي بعضكم بعضا ويبغض بعضكم إلى بعض عند الشراب والمياسرة، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوة الإسلام، ويصرفكم بالسكر والاشتغال بالميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم، وعن الصلاة التي فرضها عليكم، تزكية لنفوسكم وتطهيرا لقلوبكم.
أما كون الخمر سببا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس حتى الأصدقاء منهم، فلأن شارب الخمر يسكر فيفقد العقل الذي يمنع من الأقوال والأعمال القبيحة التي تسوء الناس، كما يستولي عليه حب الفخر الكاذب، ويسرع إليه الغضب بالباطل، وكثيرا ما يجتمع الشرب على مائدة الشراب فيثير السكر كثيرا من ألوان البغضاء بينهم، وقد ينشأ القتل والضرب والسلب والفسق والفجور وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وخيانة الحكومات والأوطان.
وأما الميسر فهو مثار العداوة والبغضاء بين المتقامرين، فإن تعداهم فإلى الشامتين والعائبين ومن تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين، وكثيرا ما يفرّط المقامر في حقوق الوالدين والزوج والأولاد حتى يوشك أن يمقته كل أحد.
والميسر مع ما فيه من التوسعة على المحتاجين، فيه إجحاف بأرباب الأموال، لأن من صار مغلوبا في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه رجاء أن يغلب فيه مرة أخرى. وقد يتفق ألا يحصل له ذلك ألا يبقى له شيء من المال، ولا شك أنه بعد ذلك سيصير فقيرا مسكينا، ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا له غالبين.
وأما صد الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة ( وهما مفسدتهما الدينية ) فذلك أظهر من كونهما مثارا للعداوة والبغضاء ( وهما مفسدتهما الاجتماعية ) لأن كل سكرة من سكرات الخمر، وكل مرة من لعب القمار تصد السكران واللاعب وتصرفه عن ذكر الله الذي هو روح الدين، وعن الصلاة وهي عماد الدين، إذ السكران لا عقل له يذكر به آلاء الله وآياته، ويثني عليه بأسمائه وصفاته، أو يقيم الصلاة التي هي ذكر الله، ولو ذكر السكران ربه وحاول الصلاة لم تصح له، وكذلك المقامر تتوجه جميع قواه العقلية إلى اللعب الذي يرجو منه الربح ويخشى الخسارة، فلا يتوجه همه إلى ذكر الله ولا يتذكر أوقات الصلاة وما يجب عليه من المحافظة عليها.
وقد دلت المشاهدة على أن القمار أكثر الأعمال التي تشغل القلب وتصرفه عن كل ما سواه، بل يحدث الحريق في دار المقامر أو تحل المصايب بالأهل ويستغاث به فلا يغيث بل يمضي في لعبه، والنوادر في ذلك كثيرة.
إلى أن المقامر إذا تذكر الصلاة وترك اللعب لأجلها فإنه لا يؤدي منها إلا الحركات بدون أدنى تدبر أو خشوع، لكنه على كل حال يفضل السكران إذ أنه لا يكاد يضبط أفعال الصلاة.
واللعب بالشطرنج أو بالنرد إذا كان على مال دخل في الميسر وكان حراما، وإذا لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه إلا إذا تحقق كونه رجسا من عمل الشيطان موقعا في العداوة والبغضاء صادا عن ذكر الله وعن الصلاة بأن كان من المكثرين اللعب أو ممن يداومون عليه، والشافعي كرهه لما فيه من إضاعة الوقت بلا فائدة.
ولما بين جل اسمه علة تحريم الميسر وحكمته أكد ذلك التحريم فقال :
﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ هذا أمر بالانتهاء جاء بأسلوب الاستفهام وكان ذلك غاية في البلاغة، فكأنه قيل : قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع كل هذا منتهون ؟ أو أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا.
وقد أكد الله تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد :
( ١ ) أنه سماهما رجسا، والرجس كلمة تدل على منتهى ما يكون من القبح والخبث، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم :" الخمر أم الخبائث ".
( ٢ ) أنه قرنها بالأنصاب والأزلام التي هي من أعمال الوثنية وخرافات الشرك، وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم :" مدمن الخمر كعابد وثن ".
( ٣ ) أنه جعلهما من عمل الشيطان، لما ينشأ عنهم من الشرور والطغيان وسخط الرحمان.
( ٤ ) أنه جعل اجتنابهما سبيلا للفلاح والفوز بالنجاة.
( ٥، ٦ ) أنه جعلهما مثارا للعداوة والبغضاء، وهما من أقبح المفاسد الدنيوية التي تولد كثيرا من المعاصي في الأموال والأعراض والأنفس.
( ٧، ٨ ) أنهما جعلا صادين عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما روح الدين وعماده وزاده وعتاده.
وروى عبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان والله لو كان رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ـ إلى قوله ـ فهل أنتم منتهون ﴾ فقال أناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان قتل يوم بدر، وفي بطن فلان قتل يوم أحد، فأنزل الله :﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ الآية.
وفي مسند أحمد ومسند أبي داود والترمذي : أن عمر كان يدعوا الله تعالى : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم فظل على دعائه، وكذلك لما نزلت آية النساء، فلما نزلت آية المائدة دعي فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ قال : انتهينا انتهينا.
والحكمة في تحريم الخمر بالتدريج : أن الناس كانوا مغرمين بحبها كلفين بها فلو حرمت في أول الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام، ومن ثم جاء تحريمها أولا في سورة البقرة على وجه فيه مجال للاجتهاد فيتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه، ثم ذكرها في سورة النساء بما يقتضي تحريمها في الأوقات القريبة من وقت الصلاة، إذ نهى القرب من الصلاة في حال السكر فلم يبق لمن يصر على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل، والصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له فلا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، ثم تركهم الله على هذه الحال زمنا قوي فيه الدين وكثرت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمها وضررها، فحرمها تحريما باتا لا هوادة فيه.
روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت في البقرة ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] شربها قوم لقوله :﴿ ومنافع للناس ﴾ وتركها قوم لقوله ﴿ إثم كبير ﴾ منهم عثمان بن مظعون حتى نزلت الآية في النساء :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] فتركها قوم وشربها قوم، يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل، حتى نزلت الآية التي في المائدة ﴿ إنما الخمر والميسر ﴾ الآية قال عمر : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام ؟ بعدا لك وسحقا. فتركها الناس ووقع في صدور أناس منها وقالوا ما حرم علينا شيء أشد من الخمر، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول إن في نفسي شيئا فيقول صاحبه لعلك تذكر الخمر، فيقول نعم، فيقول إن في نفسي مثل ما في نفسك حتى ذكر قوم واجتمعوا فيه فقالوا : كيف نتكلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد ( حاضر ) وخافوا أن ينزل فيهم ( أي قرآن ) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعدوا له حجة فقالوا : أرأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش أليسوا في الجنة ؟ قال " بلى " قالوا أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر ؟ فحرم علينا شيء دخلوا الجنة وهم يشربونه ؟
فقال :( قد سمع الله ما قلتم، فإن شاء أجابكم ) فأنزل الله :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾ فقالوا انتهينا. ونزل في الذين ذكروا حمزة وأصحابه ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ الآية.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها، والميسر الذي تتياسرونه، والأنصاب التي تذبحون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها ـ إثم سخطه الله وكرهه لكم، وهو من عمل الشيطان وتحسينه لكم لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم.
﴿ فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ أي فاتركوا هذا الرجس ولا تعلموه وكونوا في جانب غير الجانب الذي هو فيه، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتواد فيما بعد.
الإيضاح :﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا ورسوله ﴾ أي وأطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات كالأنصاب والأزلام ونحوهما، وأطيعوا الرسول فيما بيّنه لكم مما نزل عليكم من نحو قوله :" كل مسكر خمر وكل خمر حرام ".
﴿ واحذروا ﴾ أي واحذروا ما يصيبكم إذا أنتم خالفتم أمرهما من فتنة في الدنيا وعذاب في الآخرة، فإنه سبحانه لم يحرم عليكم إلا ما فيه ضرر لكم في دنياكم وآخرتكم كما قال :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبكم عذاب أليم ﴾ [ النور : ٦٣ ].
﴿ فإن توليتم فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين ﴾ أي فإن أعرضتم عن إتباع أمرهما فالحجة قد قامت عليكم، والرسول قد خرج من عهدة التبليغ والإعذار والإنذار، وما بعد ذلك من عقاب للمخالف فأمره إلى الله كما قال عز اسمه :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ]
وفي هذا تهديد كثير ووعيد شديد لمن خالف أوامر الله وفعل نواهيه.
وطعم الشيء يطعمه : ذاق طعمه، ثم استعمل في ذوق طعم الشيء من طعام وشراب، ومن الأول :﴿ فإذا طعمتم فانتشروا ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] أي أكلتم، ومن الثاني :﴿ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ] أي من لم يذق طعم مائه.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن تحريم ما أحل الله من الطيبات وأمر بأكل ما رزق الله من الحلال الطيب وكان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر، لا جرم أن بين عز اسمه أنهما غير داخلين فيما يحل. بل هما مما يحرم، وقد روى ابن جرير وابن مردويه في سبب نزول الآيات أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال :" في نزل تحريم الخمر، صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر وذلك قبل تحريمها، فتفاخروا فقالت الأنصار : الأنصار خير، وقالت قريش : قريش خير، فأهوى رجل بلحى جزور ـ فك رأس جزور ـ فضرب على أنفي ففزره. قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فنزلت ".
وروى عبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان والله لو كان رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ـ إلى قوله ـ فهل أنتم منتهون ﴾ فقال أناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان قتل يوم بدر، وفي بطن فلان قتل يوم أحد، فأنزل الله :﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ الآية.
وفي مسند أحمد ومسند أبي داود والترمذي : أن عمر كان يدعوا الله تعالى : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم فظل على دعائه، وكذلك لما نزلت آية النساء، فلما نزلت آية المائدة دعي فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ قال : انتهينا انتهينا.
والحكمة في تحريم الخمر بالتدريج : أن الناس كانوا مغرمين بحبها كلفين بها فلو حرمت في أول الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام، ومن ثم جاء تحريمها أولا في سورة البقرة على وجه فيه مجال للاجتهاد فيتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه، ثم ذكرها في سورة النساء بما يقتضي تحريمها في الأوقات القريبة من وقت الصلاة، إذ نهى القرب من الصلاة في حال السكر فلم يبق لمن يصر على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل، والصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له فلا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، ثم تركهم الله على هذه الحال زمنا قوي فيه الدين وكثرت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمها وضررها، فحرمها تحريما باتا لا هوادة فيه.
روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت في البقرة ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] شربها قوم لقوله :﴿ ومنافع للناس ﴾ وتركها قوم لقوله ﴿ إثم كبير ﴾ منهم عثمان بن مظعون حتى نزلت الآية في النساء :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] فتركها قوم وشربها قوم، يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل، حتى نزلت الآية التي في المائدة ﴿ إنما الخمر والميسر ﴾ الآية قال عمر : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام ؟ بعدا لك وسحقا. فتركها الناس ووقع في صدور أناس منها وقالوا ما حرم علينا شيء أشد من الخمر، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول إن في نفسي شيئا فيقول صاحبه لعلك تذكر الخمر، فيقول نعم، فيقول إن في نفسي مثل ما في نفسك حتى ذكر قوم واجتمعوا فيه فقالوا : كيف نتكلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد ( حاضر ) وخافوا أن ينزل فيهم ( أي قرآن ) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعدوا له حجة فقالوا : أرأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش أليسوا في الجنة ؟ قال " بلى " قالوا أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر ؟ فحرم علينا شيء دخلوا الجنة وهم يشربونه ؟
فقال :( قد سمع الله ما قلتم، فإن شاء أجابكم ) فأنزل الله :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾ فقالوا انتهينا. ونزل في الذين ذكروا حمزة وأصحابه ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ الآية.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها، والميسر الذي تتياسرونه، والأنصاب التي تذبحون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها ـ إثم سخطه الله وكرهه لكم، وهو من عمل الشيطان وتحسينه لكم لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم.
﴿ فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ أي فاتركوا هذا الرجس ولا تعلموه وكونوا في جانب غير الجانب الذي هو فيه، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتواد فيما بعد.
الإيضاح :﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ﴾ أي ليس على الذين آمنوا وعملوا صالح الأعمال من الأحياء والأموات إثم ومؤاخذة فيما أكلوا من الميسر أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمهما وتحريم غيرهما مما لم يكن محرما ثم حرم، إذا اتقوا الله وآمنوا بما كان قد نزل من الأحكام، وعملوا الصالحات التي كانت قد شرعت كالصلاة والصيام وغيرهما، ثم اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك عند العلم به، وآمنوا بما نزل فيه وفي غيره، ثم استمروا على التقوى وأحسنوا صالح أعمالهم فأتوا بها على وجه الكمال وتمموا نقص فرائضها بنوافل الطاعات، والله يحب المحسنين فلا يبقى في قلوبهم أثر من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع في العداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
والخلاصة : إن من صح إيمانه وصلح عمله وعمل في كل حين بنصوص الدين وما أداه إليه اجتهاده واستمر على ذلك حتى ارتقى إلى مقام الإحسان، فلا يحول ما كان قد أكل أو شرب مما لم يكن محرما عليه بحسب اعتقاده دون تزكية نفسه وتطهير قلبه.
روي أنه لما نزل تحريم الخمر قال بعض الصحابة : فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فنزلت الآية.
تتمة : اختلف العلماء في التداوي بالخمر والنجاسات والسموم، وأصح الآراء في ذلك أنه يجوز لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعرنيين بالتداوي بأبوال الإبل، بشرط الاضطرار الذي يبيح المحرم من طعام وشراب بدليل قوله تعالى :﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ﴾ [ الأنعام : ١١٩ ] كمن غص بلقمه فكاد يختنق فلم يجد ما يسيغها به سوى الخمر، وكمن أصابته نوبة ألم في القلب كادت تقضي عليه وقد أخبره الطبيب بأن لا سبيل لدفع الخطر سوى شرب مقدار من الخمر من النوع المعروف : باسم كونياك، فقد يرى الطبيب أنه يتعين في بعض الأحيان لعلاج ما يعرض من آلام القلب لدرء الخطر كما ثبت بالتجربة.
أما التداوي بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب كتقوية المعدة أو الدم أو نحو ذلك مما تسمعه من كثير من الناس فذلك منهي عنه للحديث :" إنه ليس بدواء ولكنه داء " رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وكان سببه أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر وكان يصنعها فنهاه عنها فقال : إنما أصنعها للدواء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقوله :" ولكنه داء " هذا هو رأي الأطباء، إن المادة المسكرة من الخمر سم تتوالد منها أمراض كثيرة يموت بها في كل عام لا يحصى من الناس.
والذين يشربون الخمر ولو بقصد التداوي يؤثر سمها في أعصابهم بكثرة التعاطي فتصير مطلوبة عندهم لذاتها فيضرهم سمها، فعلى المسلم الصادق الإيمان ألا يغتر برأي بعض الأطباء الذين يصفونها للتداوي لمثل الأمراض التي يصفونها لها عادة.
وقد دلت التجارب على أن الذين يبتلون بشربها لا يقدمون على ذلك إلا بإغراء المعاشرين من الأهل والأصحاب، على استبشاعهم لها واعتقادهم ضررها ومخالفتهم أوامر دينهم، ولكن الذي يسهل عليهم ذلك ظنهم أن الضرر المتيقن إنما يكون بالإسراف والانهماك في الشراب، وأن القليل منها إن لم ينفع فلا يضر، فلا ينبغي تركه مع ما فيه من لذة النشوة والذهول عن هموم الدنيا وآلامها.
إلى ما ذلك من مجاملة الإخوان، لكنهم مخدوعون، إذ هم لو سألوا من سبقهم إلى هذه البلوى وأسرف في السكر حتى فسدت صحته ومروءته وضاعت ثروته، هل كنت حين بدأت تنوي الإسراف والإدمان ؟ لأجابك بأنه ما كان يقصد إلا النزر القليل في فترات متطاولة من الزمن، وما كان يعلم أن القليل يجر إلى الكثير الذي يصيبه بالداء الدوي ولا يجد إلى الخلاص منه سبيلا.
وقد يعرض لبعض من يؤمن بحرمة الخمر شبهات فيقول إن الخمر المتخذة من العنب هي المحرمة لذاتها وأن ما عداها لا يحرم منه إلا المقدار المسكر فعلا، لكنهم واهمون فيما فهموا، إذ جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم :" كل مسكر خمر وكل خمر حرام ".
وآخر تعلة لهم الغرور بكرم الله وعفوه، أو اعتمادهم على بعض الأعمال الصالحة ولاسيما ما يسمونه بالمكفرات أو على الشفاعات.
وهذا الجهل والغرور يصبح عقيدة في نفوسهم بما يسمعونه من كلام فساق الشعراء المدمنين كأبي نواس كقوله :
تكثر ما استطعت من المعاصي | فإنك واجد ربا غفورا |
ورجوت عفو الله معتمدا على | خير الأنام محمد المبعوث |
والخلاصة : إن العقاب المشروع على شرب الخمر هو الضرب الذي يراد منه إهانة الشارب وزجره وتنفير الناس منه، وإن الضرب أربعين أو ثمانين كان اجتهادا من الخلفاء، فاختار أبو بكر الأربعين وعمر الثمانين بموافقته لاجتهاد عبد الرحمان بن عوف بتشبيهه بحد قذف المحصنات، وقد روى الدارقطني عن علي كرم الله وجهه قال : إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة.
تفسير المفردات : الابتلاء : الاختبار، والصيد : ما صيد من حيوان البحر ومن حيوان البر الوحشية للأكل، وقوله تناله أيديكم ورماحكم : يراد به كثرته وسهولة أخذه، وروي عن ابن عباس أن ما يؤخذ بالأيدي صغاره وفراخه، وما يؤخذ بالرماح كباره، ليعلم الله : أي ليعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان علام الغيوب.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه عن تحريم ما أحل من الطيبات ثم استثنى الخمر والميسر ـ استثنى هنا مما يحل الصيد في حال الإحرام وأوجب جزاء على قتله، وبين أن صيد البحر وطعامه حلال، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية حيث ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيتمكنون من صيده أخذ بأيديهم وطعنا برماحهم.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله : ليختبرنكم الله بإرسال كثير من الصيد يسهل عليكم أخذ بضعه بأيديكم وبعضه برماحكم.
ووجه الابتلاء في ذلك أن الصيد طعام لذيذ تشتد الحاجة إليه في الأسفار الطويلة كالسفر إلى الجهات النائية، إلى أن سهولة تناوله تغري به، إذ ترك ما لا ينال إلا بمشقة الأنفس لا يدل على التقوى والخوف من الله كما يدل عليه ترك ما ينال بسهولة.
﴿ ليعلم الله من يخافه بالغيب ﴾ أي يبتليكم الله حال إحرامكم، ليعلم من يخافه غائبا عن نظر الناس غير مراء ولا خائف من إنكارهم، فيترك أخذ شيء من الصيد ويختار شظف العيش على لذة اللحم خوفا من الله تعالى وطاعة له في خفيته.
والخلاصة : إنه تعالى يريد أن يعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان هو عالما به، تربية لكم وتزكية لنفوسكم وتطهيرا لها.
﴿ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ﴾ أي فمن اعتدى بأخذ شيء من ذلك الصيد بعد ذلك البيان الذي أخبركم الله تعالى به قبل حصوله، فله عذاب شديد في الآخرة، إذ هو لم يبال باختبار الله له، بل انتهك حرمة نواهيه، وأبان أنه لا يخافه بالغيب، بل يخاف لوم المؤمنين وتعذيرهم إذا هو أخذ شيئا من الصيد بمرأى منهم ومسمع كما هو دأب المنافقين الذين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه عن تحريم ما أحل من الطيبات ثم استثنى الخمر والميسر ـ استثنى هنا مما يحل الصيد في حال الإحرام وأوجب جزاء على قتله، وبين أن صيد البحر وطعامه حلال، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية حيث ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيتمكنون من صيده أخذ بأيديهم وطعنا برماحهم.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تقتلوا الصيد الذي بينه لكم وهو صيد البر دون صيد البحر وأنتم محرمون بحج أو عمرة.
﴿ ومن قتله منكم متعمدا فجزاءه مثل ما قتل من النعم ﴾ أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم قاصدا قتله فعليه جزاء من الأنعام مماثل لما قتله في هيئته وصورته إن وجد، فقد روى الدارقطني عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" في الضبع إذا أصابه المحرم كبش، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق " :( الأنثى من ولد المعز قبل أن تبلغ سنة ) " وفي اليربوع جفرة " ( الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر ) وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الضبع صيد، فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن وتؤكل ".
وإن لم يوجد المماثل من النعم فقيمته حيث صيد أو في أقرب الأماكن إليه.
وقتل المحرم بحج أو عمرة للصيد حرام بالإجماع لنفس الآية، وأكل المحرم مما صاده من ليس بمحرم جائز، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلوا مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي.
والصيد الذي نهت عنه الآية هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه، فلا جزاء في قتل الأهلي ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع والحشرات ومنها الفواسق الخمس التي ورد الإذن بقتلها وهي الغراب والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور، وألحق مالك بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد، لأنها أشد منه ضررا.
﴿ يحكم به ذوا عدل منكم ﴾ أي يحكم بالجزاء من النعم وكونه مثل المقتول من الصيد رجلان من أهل العدالة والمعرفة من المؤمنين.
ووجه الحاجة إلى حكم العدلين أن المماثلة بين النعم والصيد مما يخفى على أكثر الناس، وما لا مثل له بوجه من الوجوه يحكمان فيه بالقيمة.
﴿ هديا بالغ الكعبة ﴾ أي عن ذلك الجزاء يكون هديا يصل إلى الكعبة ويذبح في جوارها حيث تؤدي المناسك ويفرق لحكمه على مساكين الحرم.
﴿ أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ﴾ أي فعلى من قتل الصيد وهو محرم متعمدا جزاء من النعم مماثل له، أو كفارة طعام مساكين، أو ما يعادل ذلك الطعام من الصيام، روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : إذا قتل المحرم شيئا من الصيد فعليه فيه الجزاء، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه ذبح شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلا من بقر الوحش فعليه بقرة، فإن لم يجدها صام عشرين يوما، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحو ذلك فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا فإن لم يجد صام ثلاثين يوما والطعام مد مد يشبعهم.
﴿ ليذوق وبال أمره ﴾ أي أوجبنا ما أوجبناه من الجزاء أو الكفارة كي يذوق وبال أمره، أي سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام، إما بدفع الغرم وإما بالعمل ببدنه بما يتعبه ويشق عليه.
﴿ عفا الله عما سلف ﴾ لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألوه عن جوازه.
﴿ ومن عاد فينتقم الله منه ﴾ أي ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد ورود النهي فإن الله ينتقم ممن أصر على الذنب، فهو ينكل به ويبالغ في عقوبته وله العزة والمنعة.
﴿ والله عزيز ذو انتقام ﴾ أي والله غالب على أمره فلا يغلبه العاصي، ذو انتقام ومبالغة في العقوبة ممن أصر على الذنب.
والآية صريحة في أن الجزاء الدنيوي إنما يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب، فإن تكرر استحق صاحبه الجزاء في الدنيا والعقاب في الآخرة.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه عن تحريم ما أحل من الطيبات ثم استثنى الخمر والميسر ـ استثنى هنا مما يحل الصيد في حال الإحرام وأوجب جزاء على قتله، وبين أن صيد البحر وطعامه حلال، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية حيث ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيتمكنون من صيده أخذ بأيديهم وطعنا برماحهم.
الإيضاح :﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه ﴾ أي وأحل لكم ما صيد من البحر ثم مات وما قذفه البحر ميتا، وروي هذا عن ابن عباس وابن عمر وقتادة.
والخلاصة : إن المراد بطعامه عندهم ما لا عمل للإنسان فيه ولا كلفة في اصطياده كالذي يطفو على وجهه والذي يقذف به إلى الساحل والذي ينحسر عنه الماء وقت الجزر، ولا فرق بين حيه وميته.
﴿ متاعا لكم وللسيارة ﴾ أي منفعة لمن كان منكم مقيما في بلده يستمتع بأكله وينتفع به، ومتعة للسائرين والمسافرين من أرض إلى أرض يتزودونه في سفرهم مليحا ( سردين وفسيخ ).
﴿ وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ﴾ أي وحرم عليكم ما صدتم في البر وأنتم محرمون، لا ما صاده غيركم ولا ما صدتموه قبل إحرامكم.
﴿ واتقوا الله الذي إليه تحشرون ﴾ أي واخشوا الله واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه، وفيما نهاكم عنه من جميع ما تقدم من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وإصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم وفي نحو ذلك، فإن إليه مصيركم ومرجعكم فيعاقبكم بمعصيتكم ويثيبكم على طاعتكم.
تفسير المفردات : الكعبة في اللغة : البيت المكعب أي المربع، والقيام : ما يقوم به أمر الناس، ويصلح، والشهر الحرام : ذو الحجة، والهدي : ما يهدي إلى الحرم من الأنعام توسعة على فقرائه، والقلائد : أي ذوات القلائد من الهدي وهي الأنعام التي كانوا يقلدونها إذا ساقوها هديا، وخصها بالذكر لعظم شأنها.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه في الآية السالفة المحرم عن الاصطياد بين هنا أن البيت الحرام كما أنه سبب لأمن الوحش والطير هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخاوف، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة.
الإيضاح :﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ﴾ أي إن الله تعالى جعل الكعبة التي هي البيت الحرام قياما لمن يقيمون بجوارها ولمن يحجون إليها أي سببا لقيام مصالحهم ومنافعهم ذلك بأن مكة بلد لا ضرع فيه ولا زرع، وقلما يوجد فيه ما يحتاج إليه أهله، فجعل الله الكعبة معظمة في القلوب، يرغب الناس جميعا في زيارتها والسفر إليها من كل فج، وصار ذلك سببا في إسباغ النعم على أهلها إجابة لدعاء إبراهيم صلوات الله عليه كما حكاه الله عنه بقوله :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ].
إلى أنها كانت قياما للناس في دينهم بما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات التي هي من أسباب حط خطيئاتهم ورفع درجاتهم.
إلى أن أهلها صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته والسادة المعظمين إلى يوم القيامة، كما صاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم، فقد كان العرب يتقاتلون ويغير بعضهم على بعض إلا في الحرم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يتعرض له، ولو جنى أعظم الجنايات لم يتعرض له كما قال تعالى ﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
وكذلك جعل الشهر الحرام سببا لقيام الناس، لأن العرب كان يقتل بعضهم بعضا، ويغير بعضهم على بعض في سائر الأشهر حتى إذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم، وكانوا يحصلون فيه من الأقوات ما يكفيهم طول العام، ولولاه لتفانوا من الجوع والشدة.
وكذلك جعل الهدي سببا لقيام الناس، لأنه يهدى إلى البيت ويذبح ويفرق لحمه على الفقراء فيكون نسكا للمهدي وقياما لمعيشة الفقراء.
وكذلك جعل القلائد قياما للناس، إذ أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد، ومن قصده في غير الشهر الحرام ومعه هدي وقلده وقلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد، لأن الله أوقع في قلوبهم تعظيم البيت، فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمنا من جميع الآفات والمخاوف.
﴿ ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ﴾ أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا في أنه تعالى يعلم ما في العالم العلوي والسفلي، وأن علمه محيط بكل شيء.
والخلاصة : إن ذلك لم يكن إلا لحكمة بالغة صادرة عن علم بخفايا الأمور وغاياتها، فكان دليلا على أنه سبحانه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من أسباب الرزق ونظام الخلق وغير ذلك، وأنه عليم بكل شيء فلا تخفى عليه خافية.
وقد عجزت جميع الأمم في القديم والحديث عن تأمين الناس في قطر من الأقطار في زمن معين من كل سنة بحيث لا يقع فيه قتل ولا قتال ولا عدوان.
المعنى الجملي : بعد أن أرشدنا في الآية السابقة إلى بعض آيات علمه في خلقه التي بها جعل البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ـ نبهنا في هذه إلى أن العليم بكل شيء لا يمكن أن يترك الناس سدى، فهو لم يخلقهم عبثا ـ ومن ثم لا يليق بحكمته وعدله أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا أن يسوّى بين الطيب والخبيث فيجعل البر كالفاجر والمصلح كالمفسد، بل لا بد من الجزاء بالحق، لذلك جاءت هذه الآيات ترغيبا لعباده وترهيبا لهم، ووعدا ووعيدا.
الإيضاح :﴿ اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ﴾ أي اعلموا أن ربكم الذي لا يخفى عليه شيء من سرائر أعمالكم وعلانيتها وهو محصيها عليكم، شديد العقاب لمن دسى نفسه بالشرك والفسوق والعصيان، وغفار لذنوب من أطاعه وأناب إليه رحيم به، فلا يؤاخذه بما فرط منه فلا يبقى له أثر مع إيمانه وعمله الصالح كما يستر الماء القذر القليل بما يغمره من الماء النقي الكثير.
وفي تقديم العقاب على المغفرة والرحمة إيماء إلى أن العقاب قد ينتهي بالمغفرة والرحمة، لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما ورد في صحيح الحديث، ومن ثم يغفر كثيرا لمن ظلم نفسه، قال تعالى :﴿ ويعف عن كثير ﴾ [ الشورى : ٣٤ ].
وبعد أن أبان سبحانه أن الجزاء بيد الله العليم بكل شيء، ذكر وظيفة الرسول فقال :﴿ ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ﴾.
الإيضاح :﴿ ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ﴾ أي ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم بالإنذار بالعقاب بين يدي عذاب شديد، والإعذار إليكم بما يقطع حججكم إلا أن يؤدي الرسالة ثم إلينا الثواب على الطاعة، وعلينا العقاب على المعصية، ولا يخفى علينا المطيع لأوامرنا، والعاصي التارك للعمل بها، إذ لا يغيب عنه شيء من ضمائر الصدور وظواهر أعمال النفوس، فخليق بكم أن تتقوني ولا تعصوا أمري.
وفي هذا وعيد شديد وتهديد لمن يخالف أوامر الله ويعصيه. كما أن فيه إبطالا لما عليه أهل الشرك والضلال من الخوف من معبوداتهم الباطلة والتماس الخلاص والنجاة من العذاب بشفاعتها.
والخلاصة : إن الرسول ليس عليه إلا البلاغ لدين الله وشرعه، وبعدئذ يكون المبلغون هم المسؤولين عند الله، والله الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون من العقائد والأقوال والأفعال، وهو الذي يجازيهم بحسب علمه المحيط بكل ذرة في الأرض والسماوات، ويكون جزاؤه حقا وعدلا ويزيد بعد ذلك من إحسانه عليه وفضله، فاطلبوا سعادتكم من أنفسكم وخافوا منها عليها.
وما ورد من الشفاعة في الآخرة فهو دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم يستجيبه الله فيظهر عقبه ما سبق به علمه واقتضته حكمته بحسب ما جاء في كتابه، دون أن يكون مؤثرا في علم الله ولا في إرادته، فالحادث لا يؤثر في القديم.
وبعد أن بين سبحانه أن الجزاء منوط بالأعمال أراد أن يبين ما يتعلق به الجزاء من صفات الأعمال والعاملين لها وأرشد إلى أن هناك حقيقتين مختلفتين يترتب على كل منهما ما يليق بها من الجزاء فقال :﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ﴾.
الإيضاح :﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ﴾ أي قل أيها الرسول مخاطبا أمتك : لا يستوي الرديء والجيد من الأشياء والأعمال والأموال، فلا يتساوى الضار والنافع ولا الفاسد والصالح، ولا الحرام والحلال، ولا الظالم والعادل فلكل منها حكم يليق به عند الله الذي يضع كل شيء في موضعه بحسب علمه.
﴿ ولو أعجبك كثرة الخبيث ﴾ أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس أو من الأموال المحرمة لسهولة تناولها والتوسع في التمتع بها كأكل الربا والرشوة والخيانة.
والخلاصة : إنهما لا يستويان لا في أنفسهما ولا عند الله، ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك، فصرت بعيدا عن إدراك تلك الحقيقة، وهي أن القليل من الحلال خير من كثير الحرام حسن عاقبة في الدنيا والآخرة، ألا ترى أن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغني غناءه ولا يفيد فائدته، بل ربما يضر ويؤذي صاحبه.
فكذلك الحال بالنسبة إلى الناس، فالقليل الطيب منهم خير من الكثير الخبيث، فطائفة قليلة من شجعان المؤمنين تغلب الطائفة الكثيرة من الجبناء المتخاذلين، وجماعة قليلة من ذوي البصيرة والرأي تأتي من الأعمال ما يعجز عنه الكثير من أهل الحمق والبلاهة، فالعبرة بالصفة لا بالعدد، والكثرة لا تكون خيرا إلا بعد التساوي في الصفات الفاضلة.
﴿ فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ﴾ أي فاتقوا الله يا أرباب العقول الراجحة، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان، فتغتروا بكثرة المال الخبيث وكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين، فتقوى الله هي التي تجعلكم من الطيبين وبها يرجى أن تكونوا من المفلحين الفائزين بخيري الدنيا والآخرة.
وخص أولي الألباب بالاعتبار لأنهم هم أهل الروية والبصر بعواقب الأمور التي ترشد إليها مقدماتها بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها، أما الأغرار الغافلون فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكر فلا يعتبرون بما يرون بأعينهم ولا بما يسمعون بآذانهم، كما يشاهد ويرى من حال كثير من الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة التي جمعت من الحرام، وحال الدول التي ذهب ريحها بخلوها من فضيلتي العلم والخلق وورثها من كانوا أقل منهم رجالا ومالا إذ كانوا أفضل منهم أخلاقا وأعمالا.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه وظيفة الرسول وأنها تبليغ الرسالة وبيان شرع الله ودينه فحسب، وبذا تبرأ ذمته ـ ناسب أن يصرح بأن الرسول قد أدى وظيفة البلاغ الذي كمل به الإسلام ـ وأنه لا ينبغي للمؤمنين أن يكثروا عليه من السؤال، لئلا يكون ذلك سببا لكثرة التكاليف التي يشق على الأمة احتمالها، فيسرع إليها الفسوق عن أمر ربها.
روي أن هذه الآية نزلت من جراء أن قوما كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم امتحانا له أحيانا، واستهزاء أحيانا أخرى، فيقول له بعضهم من أبي ؟ ويقول بعضهم إذا ضلت ناقته أين ناقتي ؟ ونحو ذلك.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثله وقال فيها :﴿ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ﴾، قال فغطى أصحاب رسول الله وجوههم، لهم حنين وبكاء مرتفع من الصدر، فقال رجل : من أبي ؟ قال فلان فنزلت هذه الآية ﴿ لا تسألوا عن أشياء ﴾ وروى ابن جرير عن قتادة في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ الآية، قال فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم، فصعد المنبر فقال :﴿ لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم ﴾ فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت لا يمينا ولا شمالا إلا وجدت كل رجل لافا رأسه في ثوب يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه، فقال : يا نبي الله من أبي ؟ قال :" أبوك حذافة " قال ثم قام عمر فقال : رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا أعوذ بالله من شر الفتن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ لم أر في الخير والشر كاليوم قط، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط ".
قال الزهري : فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدا أعق منك، أكنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ؟ فقال والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم ) ثم قال :( ذروني ما تركتكم )، فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله : لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائق التكاليف، أو من الأمور الغيبية أو الأسرار الخفية أو غير ذلك مما يحتمل أن يكون إظهاره سببا للمساءة إما بشدة التكاليف وكثرتها، وإما بظهور حقائق تفضح أهلها.
﴿ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ﴾ أي وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء التي من شأنها أن يكون إبداؤها مما يسوءكم حين ينزل القرآن في شأنها أو حكمها لأجل فهم ما نزل إليكم، فإن الله يبديه لكم على لسان رسوله.
قال الحافظ ابن كثير : أي لا تستأنفوا السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث :( أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ) ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها بينت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها.
وخلاصة ذلك : تحريم السؤال عن الأشياء التي من شأن إبدائها أن يسوء السائلين إلا في حال واحدة وهي أن يكون قد نزل في شأنها شيء من القرآن فيه إجمال وأردتم السؤال عن بيانه ليظهر لكم ظهورا لا مراء فيه كما وقع في مسألة تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة.
﴿ عفا الله عنها والله غفور حليم ﴾ أي إن هذه الأشياء مما نهيتم عن السؤال عنها، لأنها مما عفا الله عنها بسكوته في كتابه وعدم تكليفكم إياها فاسكتوا عنها أيضا، ومما يؤيد هذا حديث أبي ثعلبة الخشني قال صلى الله عليه وسلم :( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ).
وقد يكون المعنى عفا الله عما كان من مسألتكم قبل النهي فلا يعاقبكم عليها لسعة مغفرته وحلمه، فيكون هذا كقوله في الآية الأخرى ﴿ عفا الله عما سلف ﴾ [ المائدة : ٩٥ ] وقوله :﴿ إلا ما قد سلف ﴾ [ النساء : ٢٢ ].
روي أن هذه الآية نزلت من جراء أن قوما كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم امتحانا له أحيانا، واستهزاء أحيانا أخرى، فيقول له بعضهم من أبي ؟ ويقول بعضهم إذا ضلت ناقته أين ناقتي ؟ ونحو ذلك.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثله وقال فيها :﴿ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ﴾، قال فغطى أصحاب رسول الله وجوههم، لهم حنين وبكاء مرتفع من الصدر، فقال رجل : من أبي ؟ قال فلان فنزلت هذه الآية ﴿ لا تسألوا عن أشياء ﴾ وروى ابن جرير عن قتادة في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ الآية، قال فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم، فصعد المنبر فقال :﴿ لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم ﴾ فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت لا يمينا ولا شمالا إلا وجدت كل رجل لافا رأسه في ثوب يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه، فقال : يا نبي الله من أبي ؟ قال :" أبوك حذافة " قال ثم قام عمر فقال : رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا أعوذ بالله من شر الفتن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ لم أر في الخير والشر كاليوم قط، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط ".
قال الزهري : فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدا أعق منك، أكنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ؟ فقال والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم ) ثم قال :( ذروني ما تركتكم )، فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾.
الإيضاح :﴿ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ﴾ أي قد سأل هذه المسائل : أي أمثالها، قوم من قبلكم ثم أصبحوا بعد إبدائها كافرين بها، فإن من أكثر الأسئلة عن الأحكام الشرعية من الأمم السالفة لم يعملوا بما بين لهم منها، بل فسقوا عن أمر ربهم وألقوا شرعهم وراءهم ظهريا استثقالا للعمل به، وأدى ذلك إما إلى استنكاره، وإما إلى جحود كونه من عند الله، وسواء أكان هذا أم ذاك فهو كفران به، انظر إلى قوم صالح فإنهم بعد أن سألوا الآيات وأجيبوا إلى ما طلبوا لم يؤمنوا بما أوتوا بل كفروا فاستحقوا الهلاك في الدنيا قبل عذاب الآخرة.
تفسير المفردات : البحيرة : الناقة التي يبحرون أذنها أي يشقونها شقا واسعا، وكانوا يفعلون بها ذلك إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى كما روي عن ابن عباس، والسائبة : الناقة التي تسيب بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها شيء، ولا يجز صوفها ولا يحلب لبنها إلا لصيف. والوصيلة : الشاة التي تصل أخاها، فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكر كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. والحامي : الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن، فيقولون حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
المعنى الجملي : بعد أن نهى في الآية السابقة عن تحريم ما أحل الله بالنذر أو بالحلف باسم الله تنسكا وتعبدا مع اعتقاد إباحته في نفسه، وعن الاعتداء فيه، ونهى أن يكون المؤمن سببا لتحريم شيء لم يكن الله قد حرمه، أو شرع حكم لم يكن الله قد شرعه، بأن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء مما سكت الله عنه عفوا وفضلا.
ناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم وما قلد فيه بعضهم بعضا على جهلهم، كما بين بطلان التقليد ومنافاته للعلم والدين.
الإيضاح :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ أي ما بحر الله بحيرة، ولا سيب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حمى حاميا، أي ما شرع ذلك ولا أمر به وما جعله دينا لهم، وهذا رد وإبطال لما كان يفعله أهل الجاهلية في جاهليتهم.
﴿ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ﴾ إذ يفعلون ما يفعلون ويزعمون أن الله يأمرهم بهذا، وأول من سن لأهل الشرك تلك السنن الرديئة، وغير دين الله دين الحق وأضاف إليه أنه هو الذي حرم ما حرموا وأحل ما أحلوا افتراء على الله الكذب واختلاقا عليه وهو عمرو بن لحي الخزاعي، فهو الذي غير دين إبراهيم وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي.
أخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقل لأكثم بن الجون :" يا أكثم عرضت علي النار، فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه ( القصب : المعى وجمعه الأقصاب ) في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك "، فقال أكتم : أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي ".
﴿ وأكثرهم لا يعقلون ﴾ إنهم يفترون على الله الكذب بتحريم ما حرموا على أنفسهم، وأن ذلك من أعمال الكفر، بل يظنون أنهم يتقربون به إليه ولو بالوساطة. لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب ويتركون لها ما حرموه على أنفسهم، ليست إلا وسطاء بينهم وبين الله بزعمهم، تشفع لهم عندهم وتقربهم إليه زلفى.
والعبرة من هذا : أن كل مبتدع في الدين بتحريم طعام أو غيره، وتسييب عجل لسيد البدوي أو سواه، وسن ورد أو حزب يضاهي به المشروع من شعائر الدين، ونحو ذلك من العبادات التي لم تؤثر عن الشارع، زاعما أنه جاء بما يتقرب به لله تعالى وينال به رضاه، فقد ضاهى بعمله عمل عمرو بن لحي، لأن الله لا يعبد إلا بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا عبادة ولا تحريم إلا بنص، وليس لأحد أن يزيد أو ينقص ولا قياس.
ناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم وما قلد فيه بعضهم بعضا على جهلهم، كما بين بطلان التقليد ومنافاته للعلم والدين.
الإيضاح :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ أي وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن من الأحكام المؤيدة بالحجج والبراهين، وإلى الرسول المبلغ لها والمبين لمجملها فاتبعوه فيها، أجابوا من يدعونهم إلى ذلك حسبنا وما وجدنا آباءنا يعملون به، ونحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة. فرد الله عليهم قولهم :
﴿ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ﴾ أي أيكفيهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع ولا يهتدون سبيلا إلى المصالح، سواء أكانت دينية أم دنيوية، ولا يعرف ما يكفي الأفراد والأمم إلا بالعلم الصحيح الذي يميز به بين الحق والباطل، فأولئك قوم أميون يتخبطون في ظلمات من الوثنية وخرافات من معتقدات الجاهلية، فمن وأد للبنات إلى سلب ونهب وإغارات من بعضهم على بعض، ومن قتال تشتجر فيها الرماح، إلى عداوة وبغضا تملأ السهول والبطاح، ومن ظلم لليتامى والنساء إلى تفنن في الشعوذة وضروب السحر والكهانة.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾ [ البقرة : ١٧٠ ].
المعنى الجملي : بعد أن نعى سبحانه على المشركين ما هم عليه من جهل وعناد، وطغيان وفساد، أنهم لم ينتفعوا بإعذار ولا إنذار، بل بقوا مصرين على جهلهم، سادرين في ضلالهم أمر المؤمنين بأن يهتموا بإصلاح أنفسهم بالعلم النافع والعمل الصالح، وأبان لهم أنهم إذا أصلحوا أنفسهم، وقاموا بما أوجب الله عليهم من علم وتعليم وإرشاد فلا يضيرهم بعد ذلك ضلال من ضل وحاد عن الصراط السوي، وسار سادرا في غلواء الجهل والتقليد، وتنكب عن جادة الحق.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم إذا اهتديتم ﴾ أي احفظوا أنفسكم من المعاصي، وانظروا فيما يقربها من ربها، ويخلصها من عقابه، ولا يضركم ضلال غيركم إذ أنتم اهتديتم ﴿ ولا تزر وازرة وزرة أخرى ﴾ [ فاطر : ١٨ ].
﴿ إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ أي إليه وحده رجوعكم ورجوع من ضل عما اهتديتم إليه فينبئكم عند الحساب بما كنتم تعملون في الدنيا ويجزيكم به.
روى ابن كثير : أن أبا بكر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ﴾ وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ".
وروى الترمذي عن أبي أمية الشيباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت : ما تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ؟ قلت قول الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهو متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعلون كعملكم ".
روى ابن جرير عن ابن عقال قال : قيل لابن عمر لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله قال :﴿ عليكم أنفسكم لا يضركم إذا اهتديتم ﴾ فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ألا ليبلغ الشاهد الغائب " فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
الخلاصة : إن الرواة من السلف متفقون على أن المؤمن لا يكون مهتديا إذا أصلح نفسه ولم يهتم بإصلاح غيره بأن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وأن ذلك فرض لا هوادة فيه.
ولكن هذه الفريضة تسقط إذا فسد الناس فسادا لا يرجى معه تأثير الوعظ والإرشاد، أو فسادا يؤدي إلى إيذاء الواعظ المرشد، بأن يعلم أو يظن ظنا قويا بأن لا فائدة من نصحه، أو بأنه سيؤذى إذا هو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ويحرم عليه إذا أدى إلى الوقوع في التهلكة.
تفسير المفردات : الشهادة : قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة، وضربتم في الأرض : سافرتم، وتحسبونهما : تمسكونهما وتمنعونها من الانطلاق والهرب، وارتبتم : شككتم في صدقهما فيما يقران به، ومن الآثمين : العاصين.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة أن المرجع إليه بعد الموت، وأنه لابد من الحساب والجزاء يوم القيامة ـ أرشدنا إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت وأنه تجب العناية بالإشهاد عليها حتى لا تضيع على مستحقيها.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال :" كان تميم الداري وعدي بن بداء رجلين نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حولا متجرهما إلى المدينة، فخرج بديل مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل، فكتب وصية بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما، فلما فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجراه كما كان، وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا، فقالوا لهما هذا كتابه بيده، قالوا ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ـ إلى قوله ـ إنا إذا لمن الآثمين ﴾ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموه بالذهب فقال أهله هذا من متاعه، قالا نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه.
ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء، ثم قال يا رسول الله إن الله يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لي قرية عبنون من بيت لحم وهي القرية التي ولد فيها عيسى، فكتب له بها كتابا، فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : أنا حاضر ذلك فدفعها إليه.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل ﴾ أي الشهادة المشروعة بينكم في ذلك هي شهادة اثنين من رجالكم من ذوي العدل والاستقامة يشهدهما الموصي على وصيته، فيشهدان بذلك عند الحاجة، وقوله منكم : أي من المؤمنين.
﴿ أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ﴾ أي أو شهادة اثنين آخرين من غير المسلمين إن كنتم مسافرين ونزلت بكم مقدمات الموت وعلاماته وأردتم الإيصاء، ولا يخفى ما في الآية من تأكيد الوصية والإشهاد عليها.
﴿ تحبسونهما من بعد الصلاة ﴾ المراد بالصلاة صلاة العصر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلف عديا وتميما بعدها، ولأن العمل قد جرى عليه، فكان التحليف فيه هو المعروف، ولأنه هو الوقت الذي يقعد فيه الحكام للفصل في المظالم والدعاوى، إذ يكن الناس قد فرغوا من معظم أعمال النهار، وروي عن ابن عباس أن الشهيدين إذا كانا غير مسلمين، فالمراد بالصلاة صلاة أهل دينهما.
﴿ فيقسمان بالله إن ارتبتم ﴾ أي وتستقسمون الشاهدين وتطلبون حلفهما على الوصية، إن شككتم في صدقهما فيقسمان، أما الأمين فيصدق بلا يمين.
﴿ لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ﴾ أي يقسمان بقولهما لا نشتري بيمين الله ثمنا ولو كان المقسم له من أقاربنا : أي لا نجعل يمين الله كالسلعة التي تبذل لأجل ثمن ينتفع به في الدنيا.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ﴾ [ النساء : ١٣٥ ].
والخلاصة : أن يقول الحالف : إنه يشهد لله بالقسط ولا يصده عن ذلك ثمن يبتغيه لنفسه، ولا مراعاة قريب له أن في إقراره وقسمه نفعا له أي ولو اجتمعت هاتان الفائدتان.
﴿ ولا نكتم شهادة الله ﴾ أي ولا يقولان في يمينهما أيضا : ولا نكتم الشهادة التي أوجبها الله وأمر أن تقام له كما قال :﴿ وأقيموا الشهادة لله ﴾ [ الطلاق : ٢ ].
﴿ إنا إذا لمن الآثمين ﴾ أي إنا فعلنا ذلك واشترينا بالقسم ثمنا أو راعينا به قريبا بأن كذبنا فيه لمنفعة لأنفسها أو لذوي قرابتنا، أو كتمنا شهادة الله كلا أو بعضا لكنا من المتحملين للإثم المستحقين للجزاء عليه.
وعثر : من العثور على الشيء : وهو الاطلاع عليه من غير سبق طلب له، وأعثره عليه : وقفه عليه وأعلمه به من حيث لم يكن يتوقع ذلك.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة أن المرجع إليه بعد الموت، وأنه لابد من الحساب والجزاء يوم القيامة ـ أرشدنا إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت وأنه تجب العناية بالإشهاد عليها حتى لا تضيع على مستحقيها.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال :" كان تميم الداري وعدي بن بداء رجلين نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حولا متجرهما إلى المدينة، فخرج بديل مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل، فكتب وصية بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما، فلما فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجراه كما كان، وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا، فقالوا لهما هذا كتابه بيده، قالوا ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ـ إلى قوله ـ إنا إذا لمن الآثمين ﴾ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموه بالذهب فقال أهله هذا من متاعه، قالا نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه.
ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء، ثم قال يا رسول الله إن الله يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لي قرية عبنون من بيت لحم وهي القرية التي ولد فيها عيسى، فكتب له بها كتابا، فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : أنا حاضر ذلك فدفعها إليه.
الإيضاح :﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ﴾، أي فإن اتفق وحصل الاطلاع على أن الشهيدين الحالفين استحقا إثما بكذب في الشهادة أو بالخيانة أو بكتمان شيء من التركة في حال ائتمانهما عليها أو كتمان في الشهادة فالواجب حينئذ أن ترد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له وهذان الرجلان الوارثان ينبغي أن يكونا هما الأوليين بالميت أي الأقربين الأحقين بإرثه إن لم يمنع من ذلك مانع.
وعلى هذا : فالأوليان : فاعل استحق، مفعوله محذوف يقدر بنحو قولنا ما أوصى به أو ما تركه : أي من الورثة الذين استحق الأوليان من بينهم ما أوصى به.
﴿ فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ﴾ المراد بالشهادة اليمين كما في قوله تعالى :﴿ فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله ﴾ [ النور : ٦ ] أي فيحلفان بالله لأيماننا على خيانة الشهيدين اللذين حلفا على الوصية ميتهما أحق وأصدق من أيمانهما، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة.
﴿ إنا إذا لمن الظالمين ﴾ أي ويقولان في يمينهما إنا إذا اعتدينا الحق فحلفنا مبطلين كاذبين لنكونن من الظالمين لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وانتقامه.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال :" كان تميم الداري وعدي بن بداء رجلين نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حولا متجرهما إلى المدينة، فخرج بديل مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل، فكتب وصية بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما، فلما فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجراه كما كان، وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا، فقالوا لهما هذا كتابه بيده، قالوا ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ـ إلى قوله ـ إنا إذا لمن الآثمين ﴾ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموه بالذهب فقال أهله هذا من متاعه، قالا نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه.
ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء، ثم قال يا رسول الله إن الله يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لي قرية عبنون من بيت لحم وهي القرية التي ولد فيها عيسى، فكتب له بها كتابا، فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : أنا حاضر ذلك فدفعها إليه.
ثم بين سبحانه الحكمة في شرع هذه الشهادة وهذه الأيمان فقال :﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ﴾
الإيضاح :﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ﴾ أي ذلك الذي شرعناه من تكليف المؤتمن على الوصية أن يقوم على مرأى من الناس ويشهد بعد الصلاة ويقسم الأيمان المغلظة، أدنى الطرق وأقربها إلى أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها بلا تبديل ولا تغيير، تعظيما لله ورهبة من عذابه ورغبة في ثوابه أو خوفا من الفضيحة التي تعقب استحقاقهما الإثم في الشهادة برد أيمان الورثة بعد أيمانهم تكون مبطلة لها، إذ من لم يمنعه خوف الله وتعظيمه أن يكذب لضعف دينه يمنعه خوف الخزي والفضيحة بين الناس.
﴿ واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ أي واتقوا الله وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة، وأن تخونوا من ائتمنكم، واسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به سمع إجابة وقبول لهذه الأحكام وغيرها، فإن لم تتقوا كنتم فاسقين عن أمر الله مطرودين من هدايته مستحقين لعقابه.
وقد استنبط العلماء من هاتين الآيتين فوائد وأحكاما نذكر أهمها فيما يلي :
( ١ ) الحديث على الوصية وعدم التهاون في أمرها في سفر أو حضر.
( ٢ ) الإشهاد عليها لتثبيت أمرها والرجاء في تنفيذها.
( ٣ ) بيان أن الأصل في الشاهدين عليها أن يكونا مؤمنين موثوقا بعدالتهما.
( ٤ ) بيان أن إشهاد غير المسلمين على الوصية جائز مشروع، لأن مقصد الشارع منها إذا لم يمكن أداؤه على وجه الكمال فلا يترك البتة.
( ٥ ) شرعية اختيار الأوقات التي تؤثر في قلوب الشهود ومقسمي الأيمان رجاء أن يصدقوا ويبروا فيها.
( ٦ ) التغليظ على الحالف بصيغة اليمين بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف من الكذب.
( ٧ ) إن الأصل في أخبار الناس وشهاداتهم أن تكون مصدقة مقبولة، ومن ثم شرط في تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما.
( ٨ ) شرعية تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام والخصوم في شهادتهم، وهو الذي عليه العمل الآن في أكثر الأمم وقد حتمته القوانين الوضعية لكثرة ما يقع من شهادة الزور.
( ٩ ) شرعية رد اليمين إلى من قام الدليل على ضياع حق له بيمين صار حالفها خصما له.
( ١٠ ) إذا احتيج إلى قيام بعض الورثة في أمر يتعلق بالتركة فأولاهم بذلك أقربهم إليه.
الإيضاح :﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ﴾ أي اذكر أيها الرسول يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ؟ أي أيّ إجابة أجبتم ؟ أإجابة إيمان وإقرار ؟ أم إجابة إنكار واستكبار ؟ فهو سؤال عن نوع الإجابة لا عن الجواب ماذا كان، والمراد من السؤال توبيخ أممهم وإقامة الحجة على الكافرين منهم.
وهذا السؤال للرسل من وادي سؤال الموءودة في قوله تعالى :﴿ وإذا الموءودة سئلت٨ بأي ذنب قتلت ﴾ [ التكوير : ٨ ٩ ] في أن كلا منهما وجه فيه السؤال إلى الشاهد دون المتهم للتوبيخ والإنكار على الفعل، وليوم القيامة مواقف، في بعضها يشهد الرسل على أممهم، وفي بعض آخر يسأل الله الأمم كما يشاهد لدى قضاة التحقيق، فقد يسأل الخصم حينا والشهود حينا آخر، يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ﴾ [ الأعراف : ٦ ].
ومن قبل أن الله تعالى يسأل كلا من الفريقين عما هو أعلم به، وكان الرسل صلوات الله عليهم على علم يقيني بما سئلوا عنه كان جوابهم الآتي الدال على نفي العلم عن أنفسهم وتفويضه إلى علام الغيوب في أول عهدهم بالسؤال لأحد أمرين : أولهما : ما اختاره ابن عباس من أنهم قالوا ذلك لنقصان علمهم بالنسبة إلى علمه تعالى، فالله يعلم ما أظهروا وما أضمروا وهم لا يعلمون إلا ما أظهروا، فعلمه أنفذ من علمهم، وثانيهما : أن ما يفاجئهم من هول ذلك اليوم وفزعه يذهلهم عن الجواب، إذ ينسون أكثر الأمور، وهنالك يقولون لا علم لنا، فإذا عادت إليهم قلوبهم يشهدون لأممهم ونقل هذا عن الحسن ومجاهد والسدي، وذلك في قوله تعالى :﴿ قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ﴾.
خلاصة هذا على رأي ابن عباس : أن المراد نفي علم الإحاطة والشمول الخاص بالله تعالى بدليل قولهم أنت علام الغيوب، أي كثير العلم بكثرة المعلومات.
آياتها مائة وعشرون
هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة، وهي مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولم في مكة، وقد روى في الصحيحين عن عمر : أن قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ ( المائدة : ٣ ) الخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجّة الوداع ) ).
و آياتها مائة وعشرون في العد الكوفي، ومائة واثنتان وعشرون في العد الحجازي، ومائة وثلاثة وعشرون في العد البصري.
ووجه التناسب بينها وبين ما قلبها من وجوه :
( ١ ) إن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة و الأمان، والضمني عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجازة.
( ٢ ) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرمتها البتة فكانت متممة لشيء مما قبلها.
( ٣ ) إن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شيء عن المنافقين والمشركين وقد تكرر ذكر ذلك في سورة النساء وأطيل به في آخرها.
و وجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت ب ﴿ يأيها الناس ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المكي والثانية ب ﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول.
وبعد أن ذكر سؤال الرسل وجوابهم إجمالا بين السؤال واحد منهم بالتفصيل وجوابه لإقامة الحجة على من يدعون إتباعه، ولكن قد قبل هذا ما خاطب به هذا الرسول من بداية نعمته عليه وآياته التي كانت سببا في فتنة الناس به فقال :﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ﴾
الإيضاح :﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ﴾ أي اذكر إنعامي عليك وعلى والدتك حين تأييدي إياك بروح القدس وتكليمك الناس في المهد بما يبرئ أمك من قول الآثمين الذين أنكروا عليها أن يكون لها غلام من غير زوج يكون أبا له، وذلك قوله :﴿ إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا٣٠ وجعلني مباركا ﴾ [ مريم : ٣٠ ٣١ ] وكهلا حين بعثت فيهم رسولا تقيم عليهم الحجة بما ضلوا فيه عن الصراط السوي.
وفائدة هذا القصص : تنبيه النصارى الذين كانوا عصر التنزيل إلى قبح مقالتهم وسوء معتقدهم، لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء، وطعن هؤلاء تعدى إلى جلال الله وكبريائه، إذ وصفوه بما لا يليق به من اتخاذ الزوجة والولد.
﴿ وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾ أي واذكر نعمتي عليك بتعليمك وتوفيقك لقراءة الكتب والعلم النافع لك في الدين والدنيا ولاسيما التوراة والإنجيل.
﴿ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني ﴾ أي واذكر نعمتي عليك إذ تجعل قطعة من الطين مثل هيئة الطير في شكلها ومقادير أعضائها فتنفخ فيها بعد ذلك فتكون طيرا بإذن الله وتكوينه، فأنت تفعل التقدير والنفخ، والله هو الذي يكون الطير.
وفي قوله :﴿ بإذني ﴾ إشارة إلى أن المسيح لم يعط هذه القوة دائما بحيث جعل السبب الروحي مطردا كالأسباب الجسمانية، بل كانت هذه الآية كغيرها لا تقع إلا بإذن من الله وتأييده.
﴿ وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني ﴾ جاء في كتب العهد الجديد أنه أبرأ كثيرا من العمي والبرص، وأحيا ثلاثة أموات :
( ١ ) ابن أرملة وحيد كانوا يحملونه على النعش، فلمس النعش وأمر الميت أن يقوم منه فقام، فقال الشعب : قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه إنجيل لوقا.
( ٢ ) ابنة رئيس ماتت ودعاه لإحيائها فجاء بيته وقال للجمع تنحوا فإن الصبية لم تمت لكنها نائمة فضحكوا عليه، فلما أخرج الجمع دخل وأمسك بيدها فقامت الصبية إنجيل متى.
( ٣ ) عازر الذي كان ويحبه جدا ويحب أختيه مريم ومرثا كما يحبونه، ففي إنجيل يوحنا أنه كان مات في بيت عنيا ووضع في مغارة فجاء المسيح وكان له أربعة أيام فرفع عينيه إلى فوق وقال :" أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني ". ولما قال هذا : صرخ بصوت عظيم لعازر هلم خارجا، فخرج الميت الخ. وتعيين كل فعل بالإذن للدلالة على أنه ما وقع شيء منها بمشيئة الله وقدرته وتيسيره.
﴿ وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم عن هذا إلا سحر مبين ﴾ أي واذكر نعمتي عليك حين كففت عنك بني إسرائيل فلم يتمكنوا من قتلك وصلبك، وقد كانوا أرادوا ذلك، وقال الكافرون منهم ما هذا إلا ساحر، وما جاء به من البينات لم يكن إلا سحرا ظاهرا، وليس من جنس ما جاء به موسى، على أنه مثله أو أظهر منه.
والخلاصة : أنهم لا يعتدون بما جاء على يديه من الآيات وخوارق العادات، ولا يؤمنون به وإن جاء بآيات أخرى، إذ لم يكن طعنهم لشبهات تتصل بها بل كان عنادا ومكابرة، ومن ثم ادعوا أن السحر صنعته، والتمويه وقلب الحقائق دأبه وعادته.
والحواريون : واحدهم حواري وهو من أخلص سرا وجهرا في المودة، وحواريو الأنبياء : المخلصون لهم.
آياتها مائة وعشرون
هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة، وهي مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولم في مكة، وقد روى في الصحيحين عن عمر : أن قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ ( المائدة : ٣ ) الخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجّة الوداع ) ).
و آياتها مائة وعشرون في العد الكوفي، ومائة واثنتان وعشرون في العد الحجازي، ومائة وثلاثة وعشرون في العد البصري.
ووجه التناسب بينها وبين ما قلبها من وجوه :
( ١ ) إن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة و الأمان، والضمني عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجازة.
( ٢ ) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرمتها البتة فكانت متممة لشيء مما قبلها.
( ٣ ) إن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شيء عن المنافقين والمشركين وقد تكرر ذكر ذلك في سورة النساء وأطيل به في آخرها.
و وجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت ب ﴿ يأيها الناس ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المكي والثانية ب ﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول.
الإيضاح :﴿ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون ﴾ الوحي في اللغة : الإشارة السريعة الخفية، والإعلام بالشيء بسرعة وخفاء، والمراد به هنا ما يلقيه الله في نفوس الأحياء من الإلهام كما في قوله :﴿ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ﴾ [ النحل : ٦٨ ] وقوله :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ﴾ [ القصص : ٧ ] وهكذا ألقى الله في قلوب الحواريين الإيمان به وبرسوله عيسى عليه السلام، أي واذكر نعمتي عليك حين ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بك وقد كذبك جمهور بني إسرائيل وجعلتهم أنصارا لك يؤيدون دعوتك وينشرون شريعتك، وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا آمنا أي بالله وبرسوله عيسى عليه السلام وأشهدوا الله على أنفسهم أنهم مسلمون أي مخلصون في إيمانهم مذعنون لأوامره وتاركون لنواهيه.
آياتها مائة وعشرون
هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة، وهي مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولم في مكة، وقد روى في الصحيحين عن عمر : أن قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ ( المائدة : ٣ ) الخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجّة الوداع ) ).
و آياتها مائة وعشرون في العد الكوفي، ومائة واثنتان وعشرون في العد الحجازي، ومائة وثلاثة وعشرون في العد البصري.
ووجه التناسب بينها وبين ما قلبها من وجوه :
( ١ ) إن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة و الأمان، والضمني عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجازة.
( ٢ ) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرمتها البتة فكانت متممة لشيء مما قبلها.
( ٣ ) إن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شيء عن المنافقين والمشركين وقد تكرر ذكر ذلك في سورة النساء وأطيل به في آخرها.
و وجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت ب ﴿ يأيها الناس ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المكي والثانية ب ﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول.
ثم ذكر كلاما منقطعا عما قبله ليبين ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه عقب حكاية ما صدر من الحواريين من المقالة المعدودة من نعم الله عليه، فقال :﴿ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ﴾.
الإيضاح :﴿ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ﴾ أي اذكر للناس وقت قول الحواريين لعيسى : يا عيسى هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته ذلك ؟
وفسر بعضهم الاستطاعة بمعنى القدرة وقالوا إن هذا السؤال لا يصدر عن مؤمن صحيح الإيمان، وأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة :
( ١ ) إن هذا السؤال لأجل اطمئنان القلب بإيمان العيان لا للشك في قدرة الله على ذلك، ما سأل إبراهيم صلى الله عليه وسلم رؤية كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه بإيمانه الشهادة والمعاينة مع إقراره بإيمانه بذلك الغيب.
( ٢ ) إنه سؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة الإلهية أي هل ينافي الحكمة أن ينزل علينا مائدة من السماء، فإن ما ينافي الحكمة لا يقع وإن كان مما تتعلق به القدرة كعقاب المحسن على إحسانه وإثابة الظالم على ظلمه.
( ٣ ) إن المراد هل تستطيع سؤال ربك.
﴿ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ﴾ أي قال لهم عيسى اتقوا الله أن تقترحوا عليه أمثال هذه المقترحات التي كان سلفكم يقترحها على موسى، لئلا تكون فتنة لكم فإن من شأن المؤمن الصادق ألا يجرب ربه باقتراح الآيات.
وقد يكون المعنى : اتقوا الله وقوموا بما يوجبه الإيمان من العمل والتوكل عليه تعالى عسى أن يوفقكم إلى ذلك.
هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة، وهي مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولم في مكة، وقد روى في الصحيحين عن عمر : أن قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ ( المائدة : ٣ ) الخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجّة الوداع ) ).
و آياتها مائة وعشرون في العد الكوفي، ومائة واثنتان وعشرون في العد الحجازي، ومائة وثلاثة وعشرون في العد البصري.
ووجه التناسب بينها وبين ما قلبها من وجوه :
( ١ ) إن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة و الأمان، والضمني عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجازة.
( ٢ ) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرمتها البتة فكانت متممة لشيء مما قبلها.
( ٣ ) إن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شيء عن المنافقين والمشركين وقد تكرر ذكر ذلك في سورة النساء وأطيل به في آخرها.
و وجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت ب ﴿ يأيها الناس ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المكي والثانية ب ﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول.
الإيضاح :﴿ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ﴾ أي قالوا نطلبها لفوائد :
( ١ ) إننا نريد أن نأكل منها لأننا محتاجون إلى الطعام، فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاما آخر.
( ٢ ) إننا إذا شاهدنا نزولها ازداد اليقين وقويت الطمأنينة، إذ ينضم علم المشاهدة باللمس والذوق والشم إلى علم السمع منك وعلم النظر والاستدلال.
( ٣ ) أن نكون من الشاهدين على هذه الآية عند بني إسرائيل الذين لم يحضروها، أو من الشاهدين لله بكمال القدرة بالنبوة، وبذا يؤمن المستعد للإيمان ويزداد الذين آمنوا إيمانا.
آياتها مائة وعشرون
هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة، وهي مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولم في مكة، وقد روى في الصحيحين عن عمر : أن قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ ( المائدة : ٣ ) الخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجّة الوداع ) ).
و آياتها مائة وعشرون في العد الكوفي، ومائة واثنتان وعشرون في العد الحجازي، ومائة وثلاثة وعشرون في العد البصري.
ووجه التناسب بينها وبين ما قلبها من وجوه :
( ١ ) إن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة و الأمان، والضمني عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجازة.
( ٢ ) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرمتها البتة فكانت متممة لشيء مما قبلها.
( ٣ ) إن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شيء عن المنافقين والمشركين وقد تكرر ذكر ذلك في سورة النساء وأطيل به في آخرها.
و وجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت ب ﴿ يأيها الناس ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المكي والثانية ب ﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول.
الإيضاح :﴿ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ﴾ أي إن عيسى عليه السلام لما علم صحة قصدهم وأنهم لا يريدون تعجيزه ولا اقتراح آية دعا الله بهذا الدعاء وناداه بالاسم الكريم الدال على الألوهية والقدرة والحكمة إلى نحو أولئك من صفات الكمال، ثم باسم الرب الجامع لمعنى الملك والتدبير والتربية والإنعام.
أي يا الله يا مالك أمرنا ومتولي تربيتنا أنزل علينا مائدة سماوية يراها هؤلاء المقترحون بأبصارهم وتتغذى بها أبدانهم، وتكون عيدا خاصا بنا معشر المؤمنين دون غيرنا بأول من آمن منا وآخر من آمن، واجعلها علامة من لدنك ترشد القوم إلى صحة دعوتي وصدق نبوتي، وارزقنا منها ومن غيرها ما به تتغذى أجسامنا، فأنت خير الرازقين ترزق من تشاء بغير حساب.
ومن محاسن هذا الدعاء أنه ذكر الفائدة المادية للمائدة عن ذكر فائدتها الدينية الروحية، بعكس ما فعله الحواريون، إذ قدموا الأكل على غيره من الفوائد الأخرى.
هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة، وهي مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولم في مكة، وقد روى في الصحيحين عن عمر : أن قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ ( المائدة : ٣ ) الخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجّة الوداع ) ).
و آياتها مائة وعشرون في العد الكوفي، ومائة واثنتان وعشرون في العد الحجازي، ومائة وثلاثة وعشرون في العد البصري.
ووجه التناسب بينها وبين ما قلبها من وجوه :
( ١ ) إن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة و الأمان، والضمني عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجازة.
( ٢ ) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرمتها البتة فكانت متممة لشيء مما قبلها.
( ٣ ) إن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شيء عن المنافقين والمشركين وقد تكرر ذكر ذلك في سورة النساء وأطيل به في آخرها.
و وجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت ب ﴿ يأيها الناس ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المكي والثانية ب ﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول.
الإيضاح :﴿ قال الله إني منزلها عليكم ﴾ أي وعد الله عيسى بإنزال المائدة مرة أو مرارا لكنه رتب شرطا على هذا الوعد فقال :
﴿ فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ﴾ أي إن من يكفر منكم بعد نزول هذه الآية التي اقترحتموها، وجاءت بطريق لا لبس فيه ولا شك، فإني أعذبه عذابا شديدا لا أعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين، لأن عقاب المخطئ أو الكافر يكون بقدر تأثير الخطيئة أو الكفر في نفسه، والبعد فيه عن الشبهة والعذر، وأي شبهة أو عذر لمن يرى الآيات من رسوله تترى، ثم يقترح آية خاصة تشترك في العلم بها حواسه جميعا وينتفع بها في دنياه قبل آخرته، فيعطى ما طلب، ثم ينكص بعد ذلك كله على عقبيه ويكون من الكافرين.
وللعلماء في الطعام الذي نزل في المائدة آراء : فقيل : هو خبز وسمك، وقيل خبز ولحم، وقيل كان ينزل عليهم طعاما أينما ذهبوا كما كان ينزل المن على بني إسرائيل كما رواه ابن جرير عن ابن عباس.
وجاء في إنجيل يوحنا أنه كان يطعم الألوف في عيد الفصح من خمسة أرغفة وسمكتين أكل منها أول ذلك الجمع كآخره.
المعنى الجملي : كان الكلام قبل هذه الآيات في تعداد النعم التي أنعم بها سبحانه على عيسى، وفي إلهامه للحواريين الإيمان به وبرسوله، وفي طلب الحواريين من عيسى إنزال مائدة من السماء ثم طلب عيسى من ربه إجابة مطلبهم، وإخبار الله تعالى بأنه أجابهم إلى ما طلبوا.
ولا يزال الكلام في هذه الآيات مع عيسى أيضا، ففيها سؤال من الله على مرأى من قومه توبيخا وتقريعا لهم على افترائهم، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده وهو القول بالتثليث، ثم إخبار من الله بما ينجي الإنسان من عذاب يوم القيامة، مع بيان أن ما في السماوات والأرض كله مملوك له وفي قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته وهو القادر على كل شيء لا شريك له يمنعه إن أعطى، أو يلزمه بالإعطاء إن منع.
الإيضاح :﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾ الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي واذكر أيها الرسول للناس يوم يجمع الله الرسل فيسألهم جميعا عما أجابت به أممهم، حين يقول لعيسى اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك... وحين يقول له بعد ذلك : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ؟ أي يسأله أقالوا هذا القول بأمر منك أم هم افتروه وابتدعوه من عند أنفسهم ؟
ومعنى قوله ﴿ من دون الله ﴾ أي متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة، وذلك إما أن يكون باتخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى وهو الشرك، إذ عبادة الشريك المتخذ غير عبادة خالق السماوات والأرض، سواء اعتقد المشرك أن هذا الشريك ينفع ويضر استقلالا، أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب أو بالوساطة عند الله أي بما له من التأثير والكرامة على النفع والضر وهذا هو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة، كما حكاه الله عنهم في قوله :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ]. وقوله :﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ].
وقل أن يوجد من المشركين من يتخذ إلها غير الله متجاوزا بعبادته الإيمان بالله الذي هو خالق الكون ومدبره، فالإيمان الفطري الذي في نفوس البشر يرشد إلى أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك كنهها أحد، فالموحدون أتباع الأنبياء يتوجهون بعبادتهم إلى رب هذه السلطة الغيبية وحده اعتقادا منهم أنه هو الفاعل الكامل التصرف، وإن نسب الفعل إلى غيره فبإقدار الله إياه وتسخيره له بمقتضى سننه في خلقه، والمشركون يتوجهون إليه تارة وإلى بعض ما يستكبرون من خلقه تارة أخرى كالشمس والنجم والملائكة وبعض مخلوقات أخرى، ويتوجهون أحيانا إليهما معا فيجعلون تلك المخلوقات المعظمة وسيلة إلى خالق الأكوان ومدبر الكائنات.
والخلاصة : إن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره سواء أكانت خالصة لغيره أو شركة بينه وبين غيره ولو بدعاء هذا الغير والتوجه إليه ليكون واسطة عنده.
وقد نعى الله عليهم اتخاذ المسيح إلها في مواضع عدة من هذه السورة، وعبادة أمه كانت معروفة في الكنائس الشرقية والغربية، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانس ( إصلاح المسيحية ) التي جاءت بعد الإسلام بزمن طويل.
وهذه العبادة منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود، ومنها ما هو استغاثة واستشفاع، ومنها ما هو صيام ينسب إليها ويسمى بصيام العذراء، وكل أولئك يقترن بخشوع وخضوع لذكرها ولصورها وتماثلها واعتقاد السلطة الغيبية لها وأنها تنفع وتضر في الدنيا والآخرة إما بنفسها أو بواسطة ابنها ويسمونها : والدة الإله.
والآية ترشد إلى أنهم اتخذوها هي وابنها إلهين والاتخاذ غير التسمية، فيصدق بالعبادة وهي واقعة حتما.
﴿ قال سبحانك ﴾ التسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، وأصل الكلمة من السبح والسباحة، وهي الذهاب السريع البعيد في البحر أو البر ومنه فرس سبوح.
أي أنزهك يا الله عن أن يكون معك إله آخر، وبذا أثبت له التنزيه عن المشاركة في الذات والصفات.
ثم انتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق عن قول ما ليس بحق فقال :
﴿ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ﴾ أي ليس من شأني ولا مما يصح أن يقع مني أن أقول قولا لا حق لي أن أقوله، لأنك أيدتني بالعصمة عن مثل هذا القول الباطل.
وهو بتنزيهه الله أولا أثبت أن ذلك القول الذي نسب إليه قول لا شائبة فيه من الحق وليس من شأنه ولا مما يقع من مثله.
وقد أكد هذا النفي مرة أخرى بحجة أخرى ارتقى فيها من برهان راجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام إلى برهان أعلى راجع إلى ربه علام الغيوب فقال :
﴿ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ﴾ أي إن ذلك القول إن كان قد صدر مني فقد علمته، إذ علمك واسع محيط بكل شيء، فأنت تعلم ما أسره وأخفيه في نفسي فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه وعلمه مني غيري ؟ كما أني لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا ترشدني إليها بالكسب والاستدلال، لكني أعلم ما تظهره لي بالوحي بواسطة ملائكتك المقربين إليك.
﴿ إنك أنت علام الغيوب ﴾ أي لأنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن، وعلم غيرك مستمد من فيضك لا من ذاته، فهو إما أن يناله بواسطة المشاعر والحواس أو العقل، وإما أن يتلقاه هبة منك بالوحي والإلهام.
ولا يزال الكلام في هذه الآيات مع عيسى أيضا، ففيها سؤال من الله على مرأى من قومه توبيخا وتقريعا لهم على افترائهم، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده وهو القول بالتثليث، ثم إخبار من الله بما ينجي الإنسان من عذاب يوم القيامة، مع بيان أن ما في السماوات والأرض كله مملوك له وفي قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته وهو القادر على كل شيء لا شريك له يمنعه إن أعطى، أو يلزمه بالإعطاء إن منع.
وبعد تنزيه ربه وتبرئة نفسه وإقامة البراهين على ذلك بين حقيقة ما قاله لقومه، إذ الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة إلا بإثبات ما يجب أن يكونوا عليه من أمر التوحيد بعد نفي ضده، فقال :﴿ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ﴾.
الإيضاح :﴿ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ﴾ أي إني ما قلت لهم في شأن الإيمان وأساس الدين إلا ما أمرتني بالتزامه اعتقادا وتبليغا لهم، بأنك ربي وربهم وأنني عبد من عبادك مثلهم إلا أنك خصصتني بالرسالة إليهم.
﴿ وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ﴾ أي وكنت قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون وما يفعلون، فأقر الحق وأنكر الباطل مدة وجودي بينهم.
﴿ فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ﴾ أي فلما قبضتني إليك كنت أنت الحفيظ عليهم دوني، لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم، وأنت تشهد على كل شيء إذ لا يخفى عليك شيء.
وفي هذا إيمان إلى أن الله إنما عرفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه بقوله :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ﴾.
وقد تقدم في هذه السورة ما يثبت براءة عيسى عليه السلام من مثل هذه المقالة، وذلك قوله :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ﴾ [ المائدة : ٧٢ ].
وجاء في إنجيل يوحنا :" وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته ".
ولا يزال الكلام في هذه الآيات مع عيسى أيضا، ففيها سؤال من الله على مرأى من قومه توبيخا وتقريعا لهم على افترائهم، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده وهو القول بالتثليث، ثم إخبار من الله بما ينجي الإنسان من عذاب يوم القيامة، مع بيان أن ما في السماوات والأرض كله مملوك له وفي قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته وهو القادر على كل شيء لا شريك له يمنعه إن أعطى، أو يلزمه بالإعطاء إن منع.
ثم فوض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى فقال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾.
الإيضاح :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ أي إن تعذب من أرسلتني إليهم فبلغتهم ما أمرتني به من توحيدك وعبادتك فضل منهم من ضل وقالوا ما لم أقله، واهتدى منهم من اهتدى فلم يعبدوا معك سواك، فإنهم عبادك وأنت الرحيم بهم، ولست أنا ولا غيري من الخلق بأرحم بهم منك، وإنما تجزيهم بحسب علمك بما يظهرون وما يبطنون، فأنت العليم بالمؤمن المخلص في إيمانه، وبمن أشرك بك غيرك أو بمن أطاعك وبمن عصاك وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.
وإن تغفر فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة، وإنك أنت العزيز الغالب على أمره، الحكيم في تصرفه وصنعه، فيضع كل جزاء وكل فعل في موضعه.
وخلاصة المعنى : إنك إن تعذب فإنما تعذب من يستحق التعذيب، وإن تغفر فإنما تغفر لمن هو أهل لذلك، ومهما توقعه فيهم من عذاب فلا دافع له من دونك، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته، لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب، ويمنع من شاء ما شاء ولا يمنع، وأنت الحكيم الذي تضع كل شيء موضعه، فلا يمكن أحد غيرك أن يرجعك عنه.
ومن هذا تعلم أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئا من الشفاعة لقومه، ومما يؤيد هذا ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص :" أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم صلى الله عليه وسلم :﴿ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ] الآية، وقول عيسى عليه السلام :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ فرفع يديه إلى السماء وقال :" اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله عز وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك "، وما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا وإنه يجاء برجال من أمتي يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال فأقول : أصحابي، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح :﴿ وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله الحكيم ﴾ قال : فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم " وما رواه أحمد والنسائي وابن مردويه " أنه صلى الله عليه وسلم قام بهذه الآية :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك... ﴾ الخ حتى أصبح يركع بها ويسجد فسأله أبو ذر عن ذلك فقال :" إني سألت ربي الشفاعة فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا ".
فهذه الأحاديث صريحة في أن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك بالله شيئا.
ولا يزال الكلام في هذه الآيات مع عيسى أيضا، ففيها سؤال من الله على مرأى من قومه توبيخا وتقريعا لهم على افترائهم، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده وهو القول بالتثليث، ثم إخبار من الله بما ينجي الإنسان من عذاب يوم القيامة، مع بيان أن ما في السماوات والأرض كله مملوك له وفي قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته وهو القادر على كل شيء لا شريك له يمنعه إن أعطى، أو يلزمه بالإعطاء إن منع.
الإيضاح :﴿ قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ﴾ أي قال الله تعالى : إن هذا اليوم هو اليوم الذي لا ينفع فيه الصادقين صدقهم في إيمانهم وفي شهادتهم وفي سائر أقوالهم وأحوالهم.
ثم بين هذا النفع فقال :
﴿ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ﴾ أي للصادقين جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة ثوابا من عند الله، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وهذه غاية السعادة الأبدية، إذ لا مطلب لهم أعلى منه حتى تمتد أعناقهم إليه وتتطلع نفوسهم لبلوغه كما قال تعالى :﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرى أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾ [ السجدة : ١٧ ].
وقوله :﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾ أي ذلك الذي ذكر من النعيمين الجثماني والروحاني اللذين يحصلون عليهما بعد النجاة من أهوال يوم القيامة هو الفوز البالغ الغاية، لأن الفوز هو الظفر بالمطلوب مع النجاة مع ضده أو مما يحول دونه كما قال تعالى :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ]
ولا يزال الكلام في هذه الآيات مع عيسى أيضا، ففيها سؤال من الله على مرأى من قومه توبيخا وتقريعا لهم على افترائهم، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده وهو القول بالتثليث، ثم إخبار من الله بما ينجي الإنسان من عذاب يوم القيامة، مع بيان أن ما في السماوات والأرض كله مملوك له وفي قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته وهو القادر على كل شيء لا شريك له يمنعه إن أعطى، أو يلزمه بالإعطاء إن منع.
وبعد أن بين ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق في مقعد الصدق، بين عقبه سعة ملكه وعموم قدرته الدالين على كون ذلك الجزاء لا يقدر عليه غيره فقال :﴿ لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ﴾.
الإيضاح :﴿ لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ﴾ أي إن الملك كله والقدرة كلها لله وحده، وفي قوله :﴿ وما فيهن ﴾، تعريض بأن المسيح وأمه اللذين عبدا من دون الله داخلان تحت قبضته تعالى، إذ الملك والقدرة له وحده فلا ينبغي لأحد أن يتكل على شفاعتهما :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] وغاية ما أعطاهم الكرامة لديه والمنزلة الرفيعة من بين عباده ﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عبادا مكرمون ٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ﴾ [ الأنبياء : ٢٦ ٢٩ ].
﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون يصفون١٨٠ وسلم على المرسلين١٨١ والحمد لله رب العالمين ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ١٨٢ ].