تفسير سورة المائدة

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
المائدة بسم الله الرحمن الرحيم السورة مدنية وآياتها١٢٠ بإجماع.

تفسير سورة المائدة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذه السّورة مدنيّة بإجماع
[سورة المائدة (٥) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ... الآية عامَّة في الوفاءِ بالعقودِ، وهي الرّبوط في القول، كان ذلك في تعاهُدٍ على بِرٍّ أوْ في عُقْدَةِ نِكاحٍ، أوْ بَيْعٍ، أو غيره، فمعنى الآيةِ أمْرُ جميعِ المؤمنينَ بالوَفَاءِ على عَقْدٍ جارٍ على رَسْم الشريعةِ، وفَسَّر بعض الناسِ لفْظَ «العقود» بالعُهُودِ، وقال ابنُ شِهَابٍ: قرأْتُ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «١» حِينَ بَعَثهُ إلى نَجْرَانَ، وفِي صَدْرِهِ: «هَذَا بَيَانٌ مِنَ الله ورسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، فكتب الآياتِ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ «٢»
(١) هو: عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار. أبو الضحاك. الأنصاري. الخزرجي ثم النجاري. أمه من بني ساعدة.
قال ابن حجر في «الإصابة» : شهد الخندق وما بعدها، واستعمله النبيّ على نجران، روى عنه كتابا كتبه له فيه الفرائض والزكاة والديات وغير ذلك، أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حبان، روى عنه ابنه محمد وجماعة، توفي بالمدينة سنة (٥١) وقيل (٥٤) : أنه توفي بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب.
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٤/ ٢١٤)، «الإصابة» (٤/ ٢٩٣)، «الثقات» (٣/ ٢٦٧)، «الاستيعاب» (٣/ ١١٧٢)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٤٠٤)، «بقي بن مخلد» (٢٩٧)، «الاستبصار» (٧٣)، «الجرح والتعديل» (٦/ ٢٢٤)، «التاريخ الكبير» (٦/ ٣٠٥)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٦٨)، «تهذيب التهذيب» (٢/ ٦٨)، «تهذيب الكمال» (٢/ ١٠٢٩)، «التحفة اللطيفة» (٣/ ٢٩٥)، «عنوان النجابة» (١٣٨)، «الكاشف» (٣٢٦)، «الأعلام» (٥/ ٧٦)، «الطبقات الكبرى» (١/ ٢٦٧)، «التاريخ لابن معين» (٢/ ١٥٣)، «بقي بن مخلد» (٢٩٧)، «العبر» (٥٨)، «معجم الثقات» (٣١٤).
(٢) أخرجه النسائي (٨/ ٥٧)، كتاب «القسامة»، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له، حديث (٤٨٥٣)، والدارمي (١/ ٣٨١) - كتاب الزكاة»، باب في زكاة الغنم، وأبو داود في «المراسيل» رقم (٢٥٨، ٢٥٩)، والحاكم (١/ ٣٩٥- ٣٩٧)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢/ ٣٤)، والبيهقي (٤/ ٨٩) كتاب «الزكاة»، باب كيف فرض الصدقة، وابن عبد البر في «التمهيد» (٧/ ٣٣٩- ٣٤١)، وابن حبان (٧٩٣- موارد)، وابن حزم في «المحلى» (١٠/ ٤١١) كلهم من طريق-
334
[المائدة: ٤].
قال ع «١» : وأصوبُ ما يقال في هذه الآية: أنْ تعمَّم ألفاظها بغايةِ مَا تَتَنَاوَلُ، فيعمَّم لفظ المؤمنينَ في مُؤْمِنِي أهْلِ الكتابِ، وفي كُلِّ مظهر للإيمانِ، وإنْ لم يبطنه، وفي المؤمنين حقيقة، ويعمّم العُقُودِ في كلِّ ربطٍ بقَوْلٍ موافِقٍ للحق والشَّرْع.
وقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ اختلف في معنى بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ.
فقال قتادة وغيره: هي الأنعامُ كلُّها.
ع «٢» : كأنه قال: أُحِلَّتْ لكم الأنعامُ. وقال الطبريُّ «٣» : قال قومٌ: بهيمةُ الأنعامِ: وحْشُهَا، وهذا قولٌ حَسَنٌ وذلك أنَّ الأنعامَ هي الثمانيةُ الأزواجِ، وانضاف إلَيْهَا مِنْ سائر الحَيَوان ما يُقَالُ له: أنعامٌ بمجموعِهِ معها، والبهيمة في كلامِ العربِ: ما أبهم من جهة نقص النّطق والفهم.
- سليمان بن داود، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده.
وصححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي.
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على «المحلى» (١/ ٨٢) : وهو إسناد صحيح، وأخرجه مالك (٢/ ٨٤٩) كتاب «العقول»، باب ذكر العقول، حديث (١)، والشافعي في «الأم» (٨/ ٥٧١)، والنسائي (٨/ ٦٠) كتاب القسامة، والبيهقي (٨/ ٧٣، ٨٢) كلهم من طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه «أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم في العقول: «أن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعى جدعا مائة من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها، وفي العين خمسون، وفي الرجل الواحدة خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي السن خمس، وفي الموضحة خمس».
وأخرجه عبد الرزاق مختصرا (٩/ ٣١٦) رقم (١٧٣٥٨) من طريق معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الدارمي (١/ ٣٨١)، وابن خزيمة (٤/ ١٩) رقم (٢٢٦٩)، والدارقطني (٣/ ٢١٠) رقم (٣٧٩)، وتابع معمرا ابن إسحاق.
أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (٥/ ٤١٣- ٤١٥).
وأخرجه النسائي (٨/ ٥٩) كتاب «القسامة»، من طريق ابن وهب، ثنا يونس بن يزيد، عن الزهري قال:
قرأت كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم.
وأخرجه الدارقطني (٣/ ٢٠٩) رقم (٣٧٧) من طريق محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: كان في كتاب عمرو بن حزم... فذكره.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٤٤).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٤٤).
(٣) ينظر: الطبري (٤/ ٣٨٩). [.....]
335
وقوله: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ: استثناءُ ما تُلِيَ في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ... [المائدة: ٣] الآية: «وما» في موضعِ نَصْبٍ على أصْل الاستثناءِ.
وقوله سبحانه: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ... نُصِبَ «غير» على الحال من الكافِ والميمِ في قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ، وهو استثناءٌ بعد استثناءٍ.
قال ص: وهذا هو قولُ الجمهورِ، واعترض بأنَّه يلزم منه تقييدُ الحِلِّيَّةِ بِحَالَةِ كَوْنهم غِيْرَ محلِّين الصَّيْدَ، وهم حُرُمٌ، والْحِلِّيَّةُ ثابتةٌ مطلقاً.
قال ص: والجوابُ عندي عَنْ هذا أنَّ المفهوم هنا مَتْرُوكٌ لدليلٍ خَارجيٍّ، وكثيرٌ في القرآن وغيره من المَفْهُومَاتِ المتروكَةِ لِمُعارِضٍ، ثم ذكر ما نقله أبو حَيَّان/ من الوُجُوه التي لم يَرْتَضِهَا.
م: وما فيها من التكلُّف، ثم قال: ولا شَكَّ أنَّ ما ذكره الجمهورُ مِنْ أنَّ «غَيْر» :
حالٌ، وإنْ لزم عنه الترك بالمفهومِ، فهو أولى من تَخْرِيجٍ تَنْبُو عنه الفُهُوم. انتهى.
وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ: تقويةٌ لهذه الأحكامِ الشرعيَّة المخالِفَةِ لِمعهود أحكامِ الجاهليَّة، أي: فأنت أيها السَّامِعُ لِنَسْخِ تلك التي عَهِدتَّ، تَنَبَّهْ، فإنَّ اللَّه الذي هو مَالِكُ الكُلِّ يحكُمُ ما يريدُ لا مُعقِّب لحُكْمه سُبْحانه.
قال ع «١» : وهذه الآيةُ مما تَلُوحُ فصاحتها، وكَثْرَةُ معانِيهَا على قلَّة ألفاظها لكلِّ ذِي بَصَر بالكلامِ، ولِمَنْ عنده أدنى إبْصَارٍ، وقد حَكَى النَّقَّاش أنَّ أَصْحَابَ الكِنْدِيِّ «٢» قالوا للكنديِّ: أيُّهَا الحكيمُ، اعمل لنا مثْلَ هذا القرآن، فقال: نعم، أعْمَلُ لكم مِثْل بعضِهِ، فاحتجب أياماً كثيرةً، ثم خَرَج، فقال: واللَّهِ، ما أَقْدِرُ عليه، ولا يطيقُ هذا أحدٌ إني فتحْتُ المُصْحَفَ، فخرجَتْ سورةُ المَائِدَةِ، فنَظَرْتُ، فإذا هو قد أمر بالوفاء، ونهى عن
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٤٥).
(٢) يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، أبو يوسف: فيلسوف العرب والإسلام في عصره، وأحد أبناء الملوك من كندة. نشأ في البصرة. وانتقل إلى بغداد، فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك. وألف وترجم وشرح كتبا كثيرة. يزيد عددها على ثلاثمائة. ولقي في حياته ما يلقاه أمثاله من فلاسفة الأمم، فوشي به إلى المتوكل العباسي، فضرب وأخذت كتبه، ثم ردت إليه. وأصاب عند المأمون والمعتصم منزلة عظيمة وإكراما. قال ابن جلجل: «ولم يكن في الإسلام غيره احتذى في تواليفه حذو أرسطاطاليس».
تنظر ترجمته في: «الأعلام» (٨/ ١٩٥) (١٧٦٩)، «طبقات الأطباء» (١/ ٢٠٦- ٢١٤)، «لسان الميزان» (٦/ ٣٠٥).
336
النُّكْثِ، وحلَّل تحليلاً عامًّا، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قُدْرته وحِكْمته في سَطْرَيْنِ، ولا يستطيعُ أحدٌ أنْ يأتِيَ بهذا إلّا في أجلاد.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ: خطابٌ للمؤمنين حقًّا ألاَّ يتعدَّوْا حدودَ اللَّهِ فِي أمْرٍ من الأمُور، قال عطاء بنُ أبي رَبَاحٍ: شعائرُ اللَّه جمِيعُ ما أَمَرَ به سبحانَهُ، أوْ نهى عنه «١»، وهذا قولٌ راجحٌ، فالشعائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ، أيْ: قد أَشْعَرَ اللَّه أنَّها حَدُّهُ وطاعَتُهُ، فهي بمعنى مَعَالِمِ اللَّهِ.
وقوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ: أي: لا تحلُّوه بقتالٍ ولا غَارَةٍ، والأظْهَرُ أنَّ الشهر الحرام أُرِيدَ به رَجَبٌ ليشتدَّ أمره، وهو شَهْرٌ كان تحريمُهُ مختصًّا بقريشٍ، وكانَتْ تعظِّمه، ويُحتملُ أنه أريد به الجنْسُ في جميع الأشهر الحُرُمِ.
وقوله سبحانه: وَلَا الْهَدْيَ: أي: لا يستحلُّ وَلاَ يُغَارُ عليه، ثم ذَكَر المُقَلَّدَ مِنْهُ تأكيداً ومبالغةً في التنبيه علَى الحُرْمَة في التَّقْليد، هذا معنى كلامِ ابْنِ «٢» عبَّاس.
وقال الجمهورُ: الهَدْيُ عامٌّ في أنواع ما يهدى قُرْبَةً، والقَلاَئِدُ: ما كانَ النَّاس يتقلَّدونه من لِحَاءِ السَّمُرِ وغيره أَمَنَةً لهم.
وقال ص: وَلَا الْقَلائِدَ: أي: ولا ذَوَاتِ القلائدِ، وقيل: بل المرادُ القلائدُ نَفْسُها مبالغةً في النهْيِ عن التعرُّض للهدْيِ. انتهى.
وقوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ: أيْ: قاصِدِينَهُ مِنَ الكفَّار المعنى: لا تحلُّوهم، فَتْغيِرُونَ عليهم، وهذا منسوخٌ ب «آية السَّيْف» بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] فكلُّ ما في هذه الآية ممّا يتصوّر في مسلم حاجّ، فهو
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٩٢) برقم (١٠٩٤١)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٥٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٩٥) برقم (١٠٩٥١)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٤٩)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
337
مُحْكَمٌ، وكلُّ ما كان منها في الكُفَّار، فهو منُسُوخٌ.
وقوله سبحانه: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً، قال فيه جمهور المفسِّرين:
معناه: يبتغونَ الفَضْلَ من الأرباحِ في التِّجَارة، ويبتغُونَ مَعَ ذلك رِضْوَانَهُ في ظَنِّهم وطَمَعهم، وهذه الآيةُ نزلَتْ عام الفَتْحِ، وفيها استئلافٌ مِنَ اللَّهِ سبحانه للعَرَبِ، ولُطْفٌ بهم لِتَنْبسطَ النفوسُ بتداخُلِ النَّاس، ويَرِدُونَ المَوْسِمَ، فيسمَعُونَ القرآن، ويدخل الإيمانُ في قلوبهم، وتَقُوم عليهم الحُجَّة كالذي كان، ثُمَّ نَسَخَ اللَّه ذلك كلَّه بعد عَامٍ في سَنَةِ تِسْعٍ إذْ حَجَّ أبو بَكْرٍ (رضي اللَّه عنه)، ونودِيَ في الناسِ بسورة «بَرَاءَةَ».
وقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا: مجيءُ/ إباحة الصَّيْد عَقِبَ التشْدِيدِ فيهِ حَسَنٌ في فَصَاحة القَوْل.
وقوله سبحانه: فَاصْطادُوا: أمرٌ، ومعناه الإباحةُ بإجماع.
وقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ: معناه: لا يُكْسِبَنَّكم، وجَرِمَ الرجُلُ: معناه: كَسَبَ، وقال ابن عبَّاس: معناه: لا يَحْمِلَنَّكم «١»، والمعنى: متقارِبٌ، والتفسيرُ الذي يخُصُّ اللفظةَ هو معنى الكَسْبِ.
وقوله تعالى: شَنَآنُ قَوْمٍ: الشَّنَآنُ: هو البُغْض، فأما مَنْ قرأ شَنَآنُ- بفتح النون-، فالأظهرُ فيه أنه مصدَرٌ كأنَّه قَالَ: لا يُكْسِبَنَّكم بُغْضُ قومٍ مِنْ أجْل أَنْ صَدُّوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم، وهذه الآيةُ نزلَتْ عام الفَتْحِ سَنَة ثمانٍ، حين أراد المسْلمونَ أنْ يَسْتَطِيلوا على قريشٍ، وألفافِهَا المتظَاهِرِينَ على صدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصْحَابِهِ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ، وذلك سنَةَ سِتٍّ من الهجرةِ، فحصَلَتْ بذلك بِغْضَةٌ في قلوب المؤمنين، وحيكة للكُفَّار، فنُهِيَ المؤمنُونَ عَنْ مكافأتهم، وإذْ للَّه فيهمْ إرادةُ خَيْرٍ، وفي علمِهِ أنَّ منهم مَنْ يُؤْمِنُ كالذي كان.
وقرأ أبو عمرو «٢»، وابن كَثِيرٍ: «إنْ صَدُّوكُمْ»، ومعناه: إنْ وقع مثل ذلك في
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٤٠٢) برقم (١٠٩٩٣)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٢/ ٨)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٤٨).
(٢) وحجتهما: أن الآية نزلت قبل فعلهم وصدهم، قال اليزيدي: معناه: لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا إن صدوكم.
ينظر: «السبعة» (٢٤٢)، و «الحجة» (٣/ ٢١٢)، و «حجة القراءات» (٢٢٠)، والعنوان، «إعراب القراءات» (١/ ١٤٢)، و «شرح شعلة» (٣٤٧)، و «شرح الطيبة» (٢٢٥)، و «إتحاف» (١/ ٥٢٩)، و «معاني القراءات» (١/ ٣٢٥).
338
المُسْتقبل، وقراءةُ الجمهور أمْكَنُ.
ثم أمر سبحانه الجَمِيعَ بالتعاوُنِ عَلَى البِرِّ والتقوى، قال قوم: هما لَفْظَانِ بمعنًى، وفي هذا تَسَامُحٌ، والعُرْفُ في دلالةِ هَذَيْنِ أنَّ البِرَّ يَتَنَاوَلُ الواجبَ والمَنْدُوبَ، والتقوى:
رعايةُ الوَاجِبِ، فإنْ جعل أحدهما بَدَلَ الآخَرِ، فبتجوُّز.
قُلْتُ: قال أحمدُ بْنُ نصر الداوديّ: قال ابنُ عباس: البِرُّ ما أُمِرْتَ به، والتقوى ما نُهِيتَ عنه «١». انتهى، وقد ذكرنا في غَيْرِ هذا الموضعِ أنَّ لفظ التقوى يُطْلَقُ على معانٍ، وقد بيَّناها في آخر «سُورة النُّور»، وفي الحديثِ الصحيحِ: «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» «٢»، قال ابنُ الفَاكهانِيِّ، عنْد شرحه لهذا الحديث: وقد رُوِّينَا في بعضِ الأَحاديثِ: «مَنْ سعى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ المُسْلِمِ، قُضِيَتْ لَهُ أَوْ لَمْ تُقْضَ- غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَكُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» «٣»، انتهى مِن «شَرْح الأربعين» حديثاً.
ثم نهى تعالى عن التعاوُنِ عَلَى الإثْمِ والعُدْوَانِ، ثم أمر بالتقوى، وتوعّد توعّدا
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٤٠٦).
(٢) أخرجه مسلم (٤/ ٢٠٧٤)، كتاب «الذكر والدعاء»، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، حديث (٣٨/ ٢٦٩٩)، والترمذي (٤/ ٢٦) كتاب «الحدود»، باب ما جاء في الستر على المسلم، حديث (١٤٢٥)، (٤/ ٢٨٧- ٢٨٨) كتاب البر والصلة»، باب ما جاء في السترة على المسلم، حديث (١٩٣٠)، وأبو داود (٢/ ٧٠٤) كتاب «الأدب»، باب في المعونة للمسلم، حديث (٤٩٤٦)، وابن ماجة (١/ ٨٢) المقدمة: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، حديث (٢٢٥)، وأحمد (٢/ ٢٠٢)، وأبو نعيم في «الحلية» (٨/ ١١٩)، والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٢٢١- بتحقيقنا) كلهم من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا.
قال النووي في «شرح مسلم» (٩/ ٢٨).
ومعنى (نفس الكربة) : أزالها.
وفيه: فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك، وفضل الستر على المسلمين، وقد سبق تفصيله، وفضل إنظار المعسر، وفضل المشي في طلب العلم، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي، بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى، وإن كان هذا شرطا في كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيدون هذه المسألة به لكونه قد يتساهل فيه بعض الناس، ويغفل عنه بعض المبتدئين ونحوهم.
(٣) ذكره ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (٢/ ١٤٣)، وعزاه للمنذري في «جزء غفران الذنوب» من حديث ابن عباس وقال: فيه أحمد بن بكار المصيصي، قال الحافظ في «اللسان» : عندي أنه أحمد بن بكر البالسي خبطوا في نسبه، والحديث موضوع.
339
مجملاً، قال النوويُّ: وعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ «١» :«أنّه أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرِّ والإِثْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: استفت قَلْبَكَ البِرُّ: مَا اطمأنت إلَيْهِ النَّفْسُ، واطمأن إلَيْهِ القَلْبُ، والإثْمُ: مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَردَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» «٢» حديثٌ حَسَنٌ رَوَيْنَاه في مسنَدِ أحمَدَ، يعني: ابْنَ حَنْبَلٍ، والدَّارِمِي وغيرهما، وفي «صحيح مسلم»، عن النَّوَّاس بْنِ سَمْعَان، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «البِرُّ حُسْنُ الخُلُقَ، والإثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» «٣». انتهى.
(١) وابصة بن معبد بن مالك بن عبيد. وقيل: وابصة بن معبد بن عتبة بن الحارث. أبو سالم. الأسدي.
قال ابن الأثير: له صحبة، سكن الكوفة ثم تحول إلى الرقة فأقام بها إلى أن مات بها. روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحاديث. روى عنه ابناه عمرو، وسالم، والشعبي، وزياد بن أبي الجعد وغيرهم... وتوفي وابصة بالرقّة، وقبره عند منارة المسجد الجامع بالرافقة.
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٥/ ٤٢٧)، «الإصابة» (٦/ ٣٠٩)، الثقات» (٣/ ٤٣١)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ١٢٥)، «الاستيعاب» (٤/ ١٥٦٣)، «بقي بن مخلد» (١٧٩)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٣٢٨)، «تهذيب التهذيب» (١١/ ١٠٠)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٤٥٧)، «الكاشف» (٣/ ٢٣٢)، «الجرح والتعديل» (٩/ ٤٧)، «الطبقات الكبرى» (١/ ٢٩٢٨)، «التاريخ الكبير» (٨/ ١٨٧)، «حلية الأولياء» (٢/ ٢٣)، «البداية والنهاية» (٥/ ٨٨).
(٢) أخرجه أحمد (٤/ ٢٢٨)، والدارمي (٢/ ٢٤٥- ٢٤٦) كتاب «البيوع»، باب دع ما يربك إلى ما لا يريبك»، والطبراني في «الكبير» (٢٢/ ١٤٧- ١٤٨) رقم (٤٠٢) من حديث وابصة.
(٣) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٨١)، كتاب «البر والصلة»، باب تفسير البر والإثم، حديث (١٤/ ٢٥٥٣)، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم (٢٩٥)، والترمذي (٤/ ٥٩٧)، كتاب «الزهد»، باب ما جاء في البر والإثم، حديث (٢٣٨٩)، وأحمد (٤/ ١٨٢)، وابن حبان (٢٣٩٧)، والبيهقي (١٠/ ١٩٢)، وفي «شعب الإيمان»، (٥/ ٤٥٧) رقم (٧٢٧٢)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٤٧٤- بتحقيقنا) كلهم من طريق معاوية بن صالح، عن عبد الرّحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه أحمد (٤/ ١٨٢)، والدارمي (٢/ ٣٢٢)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٥/ ٤٥٧) رقم (٧٢٧٣) من طريق صفوان بن عمرو، عن يحيى بن جابر القاضي، عن النواس بن سمعان به.
وللحديث شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني: أخرجه أحمد (٤/ ١٩٤)، وأبو نعيم في «الحلية» (٢/ ٣٠)، والطبراني في «الكبير» (٢٢/ ٢١٩) عنه مرفوعا بلفظ: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ويطمئن إليه القلب».
340

[سورة المائدة (٥) : آية ٣]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
وقوله تعالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ... الآية: تعديدٌ لما يتلى على الأمَّة ممَّا استثنَي من بهيمة الأَنْعَامِ، وَالدَّمُ: معناه: المَسْفُوح، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ: مقتض لشخمه بإجماع، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: قد تقدّم، وَالْمُنْخَنِقَةُ: معناه: التي تموت حنقا، وَالْمَوْقُوذَةُ: التي ترمى أو تُضْرَبُ بِعَصاً، وشبهها، وَالْمُتَرَدِّيَةُ: هي التي تتردى مِنْ عُلْوٍ إلى سُفْلٍ، فتموتُ، وَالنَّطِيحَةُ: فَعِيلَةٌ بمعنى مَفْعُولَةٍ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ: يريد كُلَّ ما افترسَهُ ذو نَابٍ، وأظْفَارٍ من الحَيَوان، وكانَتِ العربُ تأكل هذه المذْكُورات، ولم تَعْتَقِدْ ميتةً إلا ما مَاتَ بالوَجَعِ ونحو ذلك.
واختلف العلماءُ في قوله تعالى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ، فقال ابنُ عباس، وجمهورُ العلماء: الاستثناءُ من هذه المذْكُوراتِ، فما أُدْرِكَ مِنْهَا يَطْرِفُ بِعَيْنٍ أو يُحَرِّكُ ذَنَباً «١»، وبالجُمْلة/: ما يتحقَّق أنه لم تَفِضْ نفسه، بل له حياةٌ، فإنه يذكى على سُنَّة الذَّكَاة، ويُؤْكَلُ، وما فَاضَتْ نفسه، فهو الميتَةُ، وقال مالكٌ مرَّةً بهذا القَوْلِ، وقال أيضاً، وهو المشهور عنه، وعن أصحابه مِنْ أهْل المدينة: إنَّ قوله تعالى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ: معناه: مِنْ هذه المذْكُورات في وَقْتٍ تَصِحُّ فيه ذَكاتُها، وهو ما لم تنفذ مقاتِلها، ويتحقَّق أنها لا تَعِيشُ، ومتى صارَتْ في هذا الحَدِّ، فهي في حُكْمِ المَيْتَة، فالاستثناءُ عند مالك مُتَّصِلٌ كقول الجمهور، لكنه يُخَالِفُ في الحَالِ التي يَصِحُّ فيها ذَكاةُ هذه المذكورات واحتج لمالِكٍ بأنَّ هذه المذكوراتِ لو كَانَتْ لا تحرم إلاَّ بموتها، لكان ذكْرُ المَيْتَة أولاً يُغْنِي عنها، ومِنْ حُجَّة المخالِفِ أنْ قَالَ: إنما ذُكِرَتْ بسبب أنَّ العرب كانَتْ تعتقدُ أنَّ هذه الحوادِثَ كالذَّكَاة، فلو لم يُذْكَرْ لها غَيْرُ الميتةِ، لظَنَّتْ أنها ميتةُ الوَجَعِ حَسْبما كانَتْ عليه، والذَّكَاةُ في كلام العرب: الذَّبْح.
وقوله سبحانه: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ: عطفٌ على المحرَّمات المذْكُورة، والنُّصُب: حجارةٌ تُنْصَبُ، يذبحون علَيْها، قال ابنُ جُرَيْجٍ: وليسَتِ النُّصُب بأصنامٍ فإن الصَّنَمُ يُصوَّر ويُنْقَشُ، وهذه حجارةٌ تُنْصَبُ، وكَانَتِ العربُ تَعْبُدُها «٢»، قال ابنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: شيْءٌ واحدٌ «٣» «٤».
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٤١١) برقم (١١٠٣٦)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٥١).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٤١٤) برقم (١١٠٥٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٥٢). [.....]
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٤١٥) برقم (١١٠٦١)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٥٢).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٥٣).
341
قال ع: ما ذُبِحَ على النصبِ جُزْءٌ مِمَّا أهِلَّ به لغير اللَّه، لكنْ خُصَّ بالذِّكْر بعد جنْسِهِ لشهرة أمْرِه.
وقوله سبحانه: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ: حرَّم سبحانه طَلَبَ القِسْمِ، وهو النَّصِيبِ، أوِ القَسْمِ- بفتح القاف-، وهو المصدَرُ بالأزلامِ، وهي سهَامٌ، قال صاحبُ «سلاح المؤمن» : والاستقسامُ: هُوَ الضَّرْب بها لإخراجِ مَا قُسِمَ لهم، وتَمْيِيزِهِ بزَعْمهم.
انتهى، وأزْلاَمُ العَرَبِ على أنواعٍ منْها الثلاثةُ الَّتي كان يتَّخِذُها كلُّ إنسانٍ لنفسه على أحدها «افعل»، وعلى الآخر «لاَ تَفْعَلْ»، وثالثٌ مهملٌ لا شيْءَ عليه، فيجعلها في خريطَةٍ معه، فإذا أراد فِعْلَ شيءٍ أدخَلَ يده، وهي متشابهَةٌ فأخْرَجَ أحدها، وَأْتَمَرَ له، وانتهى بحسب ما يَخْرُجُ له، وإنْ خرج القِدْحُ الذي لا شَيْءَ فيه، أعاد الضَّرْبَ.
وقوله سبحانه: ذلِكُمْ فِسْقٌ: إشارةٌ إلى الاِستقسامِ بالأزلام.
وقوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ: معناه عند ابن عباس وغيره:
مِنْ أنّ تَرْجِعُوا إلى دينهم «١»، وظاهر أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمْرِ أصحابِهِ، وظهور الدِّين يقتضي أنَّ يَأْسَ الكُفَّارِ عنِ الرجوعِ إلى دينهم قد كَانَ وَقَعَ مُنْذُ زمانٍ، وإنما هذا اليأسُ عندي من اضمحلال أَمْرِ الإسلام، وفَسَادِ جمعه لأن هذا أمْرٌ كان يترجَّاه مَنْ بَقِيَ من الكفَّار ألا ترى إلى قول أخِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ «٢» في يَوْمِ هَوَازِنَ حتى انكشف المُسْلمون، وظنَّها هزيمةً: «أَلاَ بَطَلَ السِّحْرُ اليَوْمَ»، إلى غير هذا مِنَ الأَمثلَة، وهذِهِ الآيةُ في قول الجمهورِ عُمَرَ بْنِ الخطابِ «٣» وغيره: نَزَلَتْ في عَشِيَّةِ يَوْمِ عَرَفَةَ يَوْمَ الجمعةِ، وفي ذلك اليَوْمِ امحى أمْرُ الشِّرْكِ مِنْ مَشَاعِرِ الحَجِّ، ولم يحضُرْ من المشركين المَوْسِمَ بَشَرٌ، فيحتملُ قوله تعالى:
الْيَوْمَ: أنْ تكون إشارةً إلى اليومِ بعينه، ويحتملُ أنْ تكون إشارةً إلى الزَّمَنِ والوَقْت، أيْ: هذا الأوانُ يَئِسَ الكفَّار من دينكم.
وقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا/: يعمُّ سائر الكفَّار من العرب وغيرهم وهذا يقوِّي أنَّ اليأْس إنما هو مِنَ انحلال أمْرِ الإسلام، وأمر سبحانه بخَشْيَته الَّتي هِيَ رأس كلّ عبادة كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ومفتاح كلّ خير».
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٤١٨) برقم (١١٠٧٩)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٥٤)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٤٤٢).
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٤٤٢).
342
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ: تحتملُ الإشارةَ ب «اليَوْم» ما قد ذكرناه، حَكَى الطبريُّ «١» أنَّ النبيَّ- عليه السلام- لَمْ يَعِشْ بعد نزول هذه الآية إلاَّ إحدى وثمانِين ليلة، والظاهر أنه عاش صلّى الله عليه وسلّم أكثر بأيامٍ يسيرةٍ، قُلْتُ: وفي سماعِ ابنِ القاسِمِ، قال مالك:
بلَغَنِي أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ في اليومِ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، وَقَفَ على بابه، فقال: «إنِّي لاَ أُحِلُّ إلاَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلاَ أُحَرِّمُ إلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ في كِتَابِهِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، اعملا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ فَإنِّي لاَ أُغْنِي عَنْكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً»، قال ابن رُشْدٍ: هذا حديثٌ يدلُّ على صحَّته قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨]، وقال تعالى: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩]، فالمعنى في ذلك: أنَّ الله عز وجل نَصَّ على بعض الأحكامِ، وأجْمَلَ القَوْلَ في بعضها، وأحَالَ علَى الأدلَّة في سائِرِها بقوله: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣] فبيَّن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما أجمله اللَّه في كتابه كما أمره حيثُ يقول: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: ٤٤]، فما أحلّ صلّى الله عليه وسلّم، أو حرَّم، ولم يوجَدْ في القُرآن نَصًّا، فهو مما بيَّن مِنْ مُجْمَلِ القُرآن، أو علمه بما نُصِبَ من الأدلَّة فيه، فهذا معنى الحديث، والله أعلم، فما ينطق صلّى الله عليه وسلّم عَنِ الهوى إنْ هو إلاَّ وحْيٌ يوحَى. انتهى من «البيان والتحصيل».
وفي «الصحيح» «أنَّ عمرَ بْنَ الخطَّابِ، قال لَهُ يَهُودِيٌّ: آيَةٌ في كتابكم تقرءونها، لو علَيْنا نزلَتْ، لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عيداً، فقال له عُمَرُ: أيُّ آيَة هِيَ؟ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فقالَ له عُمَرُ: قَدْ عَلِمْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ نَزَلَتْ على رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو واقف بعرفة يوم الجمعة» «٢».
(١) ينظر: الطبري (٤/ ٤١٨).
(٢) أخرجه البخاري (١/ ١٢٩) كتاب «الإيمان»، باب زيادة الإيمان ونقصانه، حديث (٤٥)، وفي (٧/ ٧١٢) كتاب «المغازي»، باب حجة الوداع، حديث (٤٤٠٧)، وفي (٨/ ١١٩) كتاب «التفسير»، باب الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، حديث (٤٦٠٦)، وفي (١٣/ ٢٥٩) كتاب «الاعتصام» : حديث (٧٢٦٨)، ومسلم (٤/ ٢٣١٢- ٢٣١٣) كتاب «التفسير»، حديث (٣- ٥/ ٣٠١٧)، والترمذي (٥/ ٢٥٠) كتاب «التفسير»، باب سورة المائدة، حديث (٣٠٤٣)، والنسائي (٥/ ٢٥١) كتاب «الحج»، باب ما ذكر في يوم عرفة، و (٨/ ١١٤) كتاب «الإيمان»، باب زيادة الإيمان، وأحمد (١/ ٢٨)، والحميدي (٣١)، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص- ٤٠) رقم (٣٠)، والطبري في «تفسيره» (٤/ ٤٢١) رقم (١١٠٩٨)، وابن حبان (١٨٥)، والآجري في «الشريعة» (ص ١٠٥)، والبيهقي (٥/ ١١٨) كتاب «الحج»، كلهم من طريق قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والحديث: ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٥٦)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
343
قال ع «١» : فَفِي ذلك اليَوْم عِيدَانِ للإسلامِ، إلى يومِ القِيامةِ، وإتمامُ النعمة هو في ظُهُور الإسلام، ونُورِ العقائدِ، وكمالِ الدِّينِ، وسعةِ الأحوالِ، وغيرِ ذلكَ ممَّا اشتملت عليه هذه المِلَّةُ الحنيفيَّة إلى دخولِ الجَنَّة، والخلودِ في رَحْمَةِ اللَّه سبحانه، جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ شَمِلَتْهُ هذه النعمة.
وقوله سبحانه: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً: يحتملُ الرِضَا في هذا الموضعِ أنْ يكون بمعنى الإرادةِ، ويحتملُ أنْ يكونَ صفةَ فِعْلٍ عبارةً عَنْ إظهارِ اللَّهِ إياه لأنَّ الرضَا من الصفاتِ المتردِّدة بَيْنَ صفاتِ الذَّاتِ وصفاتِ الأفعال، واللَّه تعالى قد أراد لنا الإسلامَ، وَرَضِيَهُ لنا، وَثَمَّ أشياء يريدُ اللَّه وقوعها ولا يَرْضَاها.
وقوله سبحانه: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ، يعني: مَنْ دَعَتْهُ ضرورةٌ إلى أكل الميتة، وسائر تلك المحرّمات، وسئل صلّى الله عليه وسلّم، متى تَحِلُّ الميتَةُ للنَّاسِ؟ فَقَالَ: «إذَا لَمْ يَصْطَبِحُوا، وَلَمْ يَغْتَبِقُوا «٢»، وَلَمْ يَحْتَفِئُوا «٣» بَقْلاً «٤» ». والمخمَصَةُ: المجاعَةُ التي تخمص فيها البُطُونُ، أي:
تَضْمُرُ.
وقوله سبحانه: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هو بمعنى: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة: ١٧٣] وقد تقدَّم تفسيره.
قال ص: متجانف: أي: مائلٌ منحرفٌ. انتهى، وقد تقدّم في «البقرة».
[سورة المائدة (٥) : آية ٤]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
وقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ: سببُ نزولها أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم/ لمّا أمر بقتل
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٥٤).
(٢) تفتعلوا من الغبوق، وهو شرب آخر النهار مقابل الصّبوح.
ينظر: «النهاية» (٣/ ٣٤١).
(٣) قال أبو عبيد: هو من الحفأ، مهموز مقصور، وهو أصل البرديّ الأبيض الرطب منه، وقد يؤكل. يقول:
ما لم تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه. ينظر: «النهاية» (١/ ٤١١).
(٤) أخرجه أحمد (٥/ ٢١٨)، والحاكم (٤/ ١٢٥)، والبيهقي (٩/ ٣٥٦) من طريق حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ولم يخرجاه.
وقال الذهبي: فيه انقطاع.
344
الكلابِ. سأله عاصمُ بنُ عَدِيٍّ وغيره، مَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الكِلابِ» «١».
قال ع «٢» : وظاهر الآية أنَّ سائلاً سأل عمَّا يحلُّ للنَّاسِ من المَطَاعِمِ لأنَّ قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ليس بجوابٍ عمَّا يحِلُّ للناسِ اتخاذه من الكلاَبِ إلاَّ أنْ يكون مِنْ باب إجَابَةِ السائلِ بأكثر ممَّا سأَلَ عنه، وهو موجود كثيرا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والطَّيِّبُ:
الحَلاَل.
وقوله سبحانه: وَما عَلَّمْتُمْ: أي: وصَيْدُ ما علَّمتم، قال الضَّحَّاك وغيره: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ: هي الكلاَبُ خاصَّةٌ.
قال العِرَاقِيُّ في مُكَلِّبِينَ: أصحاب أَكْلُبٍ لها مُعَلِّمين. انتهى، وأعلى مراتِبِ التَّعْلِيمِ، أنْ يُشْلى الحَيَوانُ فَيَنْشَلِي، ويدعى فَيُجِيب، ويُزْجَر بَعْد ظَفَرِهِ بالصَّيْد، فينزجر، وجوارِحُ: جمع جَارِحٍ، أي: كاسب، يقال: جَرَحَ فلانٌ، واجترح إذا اكتسب ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠]، أي: ما كَسَبْتُمْ مِنْ حسنةٍ وسيئةٍ.
قال ع «٣» : وقرأ «٤» جمهورُ النَّاس: وَما عَلَّمْتُمْ- بفتح العين واللام-، وقرأ ابن عبّاس ومحمّد ابن «٥» الحنفيَّة: «عُلِّمْتُمْ» - بضم العين وكسر اللام-: أي: من أمرِ الجوارحِ، والصَّيْدِ بِها، وقرأ جمهورُ النَّاس: «مُكَلِّبِينَ» - بفتح الكاف وشَدِّ اللام-، والمُكَلِّبُ: معلّم الكلاب، ومضرّيها، ويقال لِمَنْ يعلِّم غَيْرَ كَلْبٍ: مُكَلِّب لأنه يَرُدُّ ذلك الحيوان كالكَلْبِ.
وقوله سبحانه: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ: أيْ: تعلمونَهُنَّ الحِيلَةَ في الاصطياد، والتأتّي لتحصيل الحيوان، وهذا جزء مما علّمه الله الإنسان، ف «مِنْ» : للتبعيض.
وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ: يحتملُ: ممَّا أمسكْنَ، فلم يأكلْنَ منه شيئاً، ويحتملُ: ممَّا أمسكْن، وإن أكلْنَ منه، وبحَسَبِ هذا الاحتمالِ اختلف العلماءُ في جواز أكْلِ الصيد، إذا أكل منه الجارحُ.
وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ: أمر بالتسمية عند الإرسال، وذهب مالك
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٤٨) برقم (١١١٣٨)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٥٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٥٨)، وعزاه لابن جرير عن عكرمة.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٥٦).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٥٧). [.....]
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٥٧).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٥٧)، و «البحر المحيط» (٣/ ٤٤٥)، و «الدر المصون» (٢/ ٤٨٩).
345
وجمهورُ العلماء أنَّ التسمية واجبةٌ، مع الذِّكر، ساقطةٌ مع النِّسْيَان، فمن تركَهَا عامداً، فقد أفْسَدَ الذبيحةَ والصَّيدَ، ومن تَرَكها ناسياً، سمى عند الأكْلِ، وكانَتِ الذبيحةُ جائزةً، وفِقْهُ الصيْدِ والذبْحِ في معنى التسميةِ- واحدٌ.
ثم أمر سبحانه بالتقوى على الجُمْلة، والإشارة إلى ما تضمَّنته هذه الآياتُ مِنَ الأوامِرِ والنواهِي، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ: وعيدٌ وتحذيرٌ.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
وقوله سبحانه: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ: إشارةٌ إلى الزَّمَنِ والأوانِ، والخِطَابُ للمؤمِنِينَ.
وقوله سبحانه: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ: الطعامُ في هذه الآيةِ:
الذَّبَائِحُ كذا قال أهل التفسير.
واختلفوا في لَفْظَةِ طَعامُ.
فقال الجمهورُ: هي الذبيحةُ كلُّها، وقالتْ جماعة: إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحةِ، أي: الحلال لهم منها لا ما لا يَحِلُّ لهم كَالطَّرِيفِ، وَالشُّحُومِ المحْضَةِ.
واختلف في لَفْظة أُوتُوا الْكِتابَ.
فقالتْ طائفة: إنما أحل لنا ذبائح الصُّرَحَاءِ منهم، لا مَنْ كان دخيلاً في هذَيْن الدِّينَيْنِ، وقال جمهورُ الأمَّة ابنُ عَبَّاس، والحسنُ، ومالكٌ، وغيرهم: إنَّ ذبيحةَ كُلِّ نصرانيٍّ حلالٌ، كان مِنْ بني تَغْلِبَ أو غيرهم «١»، وكذلك اليهودُ، وتأوَّلوا قوْلَ اللَّهِ تعالى:
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: ٥١].
وقولُهُ سُبْحَانه: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ: أي: ذبائحكم، فهذه رُخْصَة للمسلمين، لا لأهْلِ الكتابِ، لَمَّا كان الأمْرُ يقتضي أنَّ شيئاً قد تشرَّعنا فيه بالتَّذْكِيَةِ ينبغي لنا أنْ نَحْمِيَهُ منهم، رخَّص اللَّه تعالى لنا في ذلك دفعاً للمشقَّة بحَسَب التجاوُرِ.
وقوله سبحانه: وَالْمُحْصَناتُ: عطْفٌ على الطَّعَام المُحَلَّل، ذهب جماعة منهم
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٤٤١) برقم (١١٢٣١) عن ابن عباس، (١١٢٣٢) عن الحسن، وذكره ابن عطية (٢/ ١٥٩)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ١٨).
مالكٌ إلى أنَّ المحصنات في هذه الآيةِ الحرائر «١»، فمنعوا نِكَاحَ الأَمَةِ الكتابيَّة، / وذهب جماعةٌ إلى أنهنَّ العَفَائِفُ، فأجازوا نكاحَ الأَمَةِ الكتابيَّة، والأجورُ في الآية: المُهُورُ، وانتزع بعضُ العلماءِ من لفظ: آتَيْتُمُوهُنَّ أنَّه لا ينبغِي أنْ يدخل زَوْجٌ بزوجته إلاَّ بَعْدَ أنْ يَبْذُلَ من المَهْر ما يستحلّها به، ومُحْصِنِينَ: معناه: متزوِّجين على السُّنَّة.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ: أي: بالأمور التي يَجِبُ الإيمان بها، وباقي الآية بيّن.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ... الآية:
قال ابن العَرَبِيِّ: في «أحكامه» «٢» : لا خِلاَفَ بَيْن العلماءِ أنَّ هذه الآيةَ مَدَنِيَّةٌ كما أنه لا خِلاَفَ أنَّ الوضوء «٣» كانَ مَعْقُولاً قَبْلَ نزولها غَيْرَ مَتْلُوٍّ ولذلك قال علماؤُنا: إنَّ الوُضُوءَ كان بمكَّة سُنَّةً، ومعناه: كان مفْعولاً بالسُّنَّة، وقوله: إِذا قُمْتُمْ: معناه: إذا أردتّم القيام
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٥٩).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ٥٥٨).
(٣) والوضوء بضم الواو: الفعل، وبفتحها: الماء المتوضّأ به، هذا هو المشهور، وحكي الفتح في الفعل، والضّمّ في الماء، وهو في اللغة: عبارة عن النّظافة والحسن والنّقاوة.
ينظر: «لسان العرب» (٦/ ٤٨٥٤، ٤٨٥٥)، «تهذيب اللغة» (١٢/ ٩٩)، «ترتيب القاموس المحيط» (٤/ ٦٢٢).
واصطلاحا:
عرفه الحنفية بأنه: الغسل والمسح في أعضاء مخصوصة.
وعرّفه الشّافعيّة: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة مفتتحا بنيّة.
وعرفه المالكية بأنه: إزالة النّجس، أو هو رفع مانع الصلاة.
وعرفه الحنابلة بأنه: استعمال الماء الطّهور في الأعضاء المخصوصة، على صفة مفتتحة بالنيّة.
ينظر: «الاختيار» (١/ ٧)، «مغني المحتاج» (١/ ٤٧)، «الخرشي» (١/ ٢٠)، «المبدع» (١/ ١١٣).
ولمّا كان العبد مكلّفا بالصّلاة التي هي ركن من أركان الدين، والصلاة مناجاة بين العبد وربه، ومن أجل ذلك يكون اللّائق بحال من يخاطب ربّه، ويناجيه أن يكون متطهرا من الأدران والأوزار.
وقد ورد في كثير من الأحاديث أن الذّنوب تنزل عن صاحبها مع كل قطرة من قطرات الوضوء، لذلك شرع الوضوء قبل الصلاة. -
347
إلى الصلاة. انتهى.
قال زيدُ بْنُ أَسْلَمَ والسُّدِّيُّ: معنى الآية: إذا قمتُمْ من المضاجِعِ، يعني النَّوْمَ «١»، والقصْدُ بهذا التأويلِ أنْ يعمَّ الأحداث بالذِّكْر، وفي الآية على هذا التأويلِ تقديمٌ وتأْخيرٌ، تقديره: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النومِ، أو جاء أَحدٌ منكم من الغائِطِ، أو لامَسْتُمُ النِّساء، يعني: الملامسة الصغرى فاغسلوا، وهنا تمَّتْ أحكامُ الحَدَثِ الأَصْغَرِ، ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا، فهذا حُكْم نوعٍ آخر، ثم قال للنوعين جميعاً: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، وقال بهذا التأويل محمَّد بْنُ مَسْلمة «٢» مِنْ أصحاب مالكٍ وغيره «٣».
وقال جمهورُ أهْلِ العِلْمِ: معنى الآيةِ: إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثِينَ، وليس في الآيةِ على هذا تقديمٌ ولا تأْخيرٌ، بل ترتَّب في الآية حُكْمُ واجِدِ المَاءِ إلى قوله: فَاطَّهَّرُوا، ودخلَتِ الملامسةُ الصغرى في قولنا: «مُحْدِثِينَ»، ثم ذكَرَ بعد ذلك بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى... إلى آخر الآية حُكْمَ عادمِ الماءِ مِنَ النوعَيْنِ جميعاً، وكانت الملامسةُ هي الجماعَ.
وقال ص: إِذا قُمْتُمْ أي: إذا أردتُّم، وعبَّر بالقيامِ عن إرادَتِهِ لأنه مُسَبَّبٌ عنها. انتهى.
ومِنْ أحسن الأحادِيثِ وأصحِّها في فَضْل الطهارةِ والصَّلاة: ما رواه مالكٌ في «الموطَّإ»، عن العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمن «٤»، عن أبِيهِ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
- وقد فرض الوضوء ليلة الإسراء مع الصلاة، قبل الهجرة، وكان الوضوء أوّل الأمر واجبا لكل صلاة، ثم نسخ ذلك يوم غزوة «الخندق»، وصار واجبا من الحدث. الباجوري (١/ ٢٠).
(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٤/ ٤٥٢) برقم (١١٣٢٢) عن زيد بن أسلم، (١١٣٢٤) عن السدي، وذكره ابن عطية (٢/ ١٦٠).
(٢) هو محمد بن مسلمة بن هشام بن إسماعيل أبو هشام، وهشام هذا هو أمير المدينة الذي نسب إليه مد هشام، كان ابن مسلمة من الطبقة الوسطى من أهل المدينة، وكان أفقه فقهاء المدينة من أصحاب مالك فكان ثقة مأمون حجة، جمع العلم والورع، روى عن مالك وتفقه عنده، توفي سنة ست ومائتين هجرية.
ينظر: الديباج المذهب ص ٢٢٧.
(٣) ينظر: ابن عطية (٢/ ١٦١).
(٤) العلاء بن عبد الرّحمن بن يعقوب الجهني مولى الحرقة المدني، أحد الأعلام. عن أبيه وأنس وعكرمة.
وعنه ابن جريج وابن إسحاق ومالك وخلق. وثقة أحمد. وقال يحيى بن معين: ليس بذاك. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح أنكر من حديثه أشياء. قال الواقدي: توفي في خلافة المنصور. ينظر: الخلاصة (٢/ ٣١٢).
348
قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرَكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إسْبَاغُ الوُضُوءِ عِنْدَ المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إلَى المَسَاجِدِ، وانتظار الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» «١».
قال أبو عمر في «التمهيد» : هذا الحديثُ مِنْ أَحْسَنِ ما رُوِيَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في فضائِلِ الأعمالِ.
قال صاحبُ «كتاب العَيْنِ» : الرِّبَاطُ: ملازمةُ الثُّغُور، قال: والرِّبَاطُ مواظبةُ الصلاةِ أَيضاً انتهى.
والغُسْلُ، في اللغة «٢» : إيجادُ المَاء في المَغْسُول، مع إمرار شَيْء علَيْه كاليَدِ، والوجه
(١) أخرجه مسلم (١/ ٢١٩) في الطهارة: باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (٤١/ ٢٥١)، والترمذي (١/ ٧٢- ٧٣) في أبواب الطهارة: باب ما جاء في إسباغ الوضوء (٥١)، والنسائي (١/ ٨٩) في الطهارة: باب الفضل في إسباغ الوضوء، وابن ماجة (١/ ١٤٨) في الطهارة: باب ما جاء في إسباغ الوضوء (٤٢٨)، وأحمد (٢/ ٢٧٧، ٣٠٣)، وأبو عوانة في «المسند» (١/ ٢٣١)، وأبو يعلى (٦٥٠٣)، وابن خزيمة (١/ ٦) برقم (٥)، ومالك (١/ ١٦١) في قصر الصلاة في السفر (٥٥)، والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٢٥١) برقم (١٤٦) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفي الباب عن أبي سعيد الخدري رواه ابن ماجة في المصدر السابق (٤٢٧)، وفي المساجد: باب المشي إلى الصلاة (٧٧٦)، وأحمد (٣/ ١٦)، والدارمي (١/ ١٧٧، ١٧٨) في الوضوء: باب ما جاء في إسباغ الوضوء، وابن خزيمة برقم (١٧٧، ٣٥٧)، وابن حبان (٣٩٤)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ١٩١- ١٩٢)، وأبو يعلى (١٣٥٥)، وعبد بن حميد في مسنده (٩٨٤).
وقال الهيثمي في «المجمع» (٢/ ٩٥- ٩٦) : رواه أحمد بطوله، وأبو يعلى أيضا... وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفي الاحتجاج به خلاف، وقد وثقه غير واحد. وفي الباب أيضا عن جابر رواه البزار (١/ ٢٢٣) برقم (٤٤٩، ٤٥٠)، وابن حبان (١٦١- موارد).
وقال الهيثمي في «المجمع» (٢/ ٤٠) : رواه البزار... وإسناد الأول فيه شرحبيل بن سعد، وهو ضعيف عند الجمهور. وذكره ابن حبان في «الثقات»، وأخرج له في «صحيحه» هذا الحديث، وإسناد الثاني فيه يوسف بن ميمون الصباغ، ضعفه جماعة، ووثقه ابن حبان، وأبو أحمد بن عدي، وقال البزار: صالح الحديث.
(٢) قال الجوهريّ: غسلت الشيء غسلا بالفتح، والاسم الغسل بالضم: ويقال: غسل: كعسر وعسر. قال الإمام أبو عبد الله بن مالك في «مثلثه» : والغسل، يعني بالضم: الاغتسال، والماء الذي يغتسل به.
وقال القاضي عياض: الغسل بالفتح: الماء.
والغسل: الإسالة، والغسالة: ما غسلت به الشيء، والغسول: الماء الذي يغتسل به، وكذلك المغتسل، والمغتسل أيضا: الذي يغتسل فيه. والغسل بالكسر: ما يغسل به الرّأس من خطميّ وغيره، ومنه الغسلين، وهو ما انغسل من لحوم أهل النّار ودمائهم. -
349
ما وَاجَهَ النَّاظر وقابله، والنَّاس كلُّهم على أنَّ داخل العينَيْنِ لا يلْزَمُ غسله إلا ما رُوِيَ عنِ ابْنِ عُمَرَ أنه كان يَنْضَحُ «١» الماءَ في عَيْنَيْهِ «٢». واليَدُ لغةً تَقَعُ على العُضْوِ من المَنْكِبِ إلَى أطرافِ الأصابِعِ، وحَدَّ اللَّه سبحانه مَوضِعَ الغُسْلِ منه بقوله: إِلَى الْمَرافِقِ.
واختلف العلماءُ، هل تدخُلُ المرافِقُ في الغُسْلِ أم لاَ، وتحريرُ العبارةِ في هذا المعنى: أنْ يقَالُ: إذا كان مَا بَعْد إلى لَيْسَ مما قَبْلَهَا، فالحَدُّ أولُ المذكورِ بعدها، وإذا كان ما بَعْدَها مِنْ جملة ما قَبْلَهَا/، فالاحتياطُ يُعْطِي أنَّ الحدَّ آخر المذكور بَعْدَها ولذلك يترجَّح دخولُ المرفَقَيْنِ في الغُسْل، والروايتان عن مالكٍ، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «٣»، وقد رَوَى الدارقطنيُّ وغيره عن جابرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، لَمَّا تَوَضَّأَ أَدَارَ المَاءَ على مِرْفَقَيْهِ «٤». انتهى.
- وفي «المغرب» : غسل الشيء: إزالة الوسخ ونحوه عنه، بإجراء الماء عليه. والغسل بالضّم: اسم من الاغتسال، وهو غسل تمام الجسد، واسم للماء الذي يغتسل به أيضا.
ينظر: «الصّحاح» (٥/ ١٧٨١)، «تهذيب اللغة» (٨/ ٣٥، ٣٦)، «لسان العرب» (٥/ ٣٢٥٦، ٣٢٥٧).
واصطلاحا:
عرفه الحنفيّة بأنه: غسل البدن.
وعند الشافعية: سيلان الماء على جميع البدن.
وعند المالكية: إيصال الماء لجميع الجسد بنيّة استباحة الصّلاة مع الدّلك.
وعند الحنابلة: استعمال ماء طهور في جميع بدنه، على وجه مخصوص.
ينظر: «الدرر» (١/ ١٧)، «الحرشي» (١/ ١٦١)، «كشاف القناع» (١/ ١٣٩). [.....]
(١) أصل النضح: الرّشح، وهو هنا الرش، يعني كان يغسل باطن عينيه بالماء.
ينظر: «النهاية» (٥/ ٧٠)، و «لسان العرب» (٤٤٥٠).
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ١٦١).
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ٥٦٧).
(٤) أخرجه الدارقطني (١/ ٨٣) كتاب «الطهارة»، باب وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حديث (١٥)، والبيهقي (١/ ٥٦) كتاب «الطهارة»، كلاهما من طريق عباد بن يعقوب، عن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل، عن جده عن جابر به.
قال الدارقطني: ابن عقيل ليس بقوي.
وقال الزيلعي في «تخريج الكشاف» (١/ ٣٨٣).
وهو حديث ضعيف، فعباد بن يعقوب: هو الرواجني، متكلم فيه، روى عنه البخاري مقرونا بآخر، وقال ابن حبان فيه: رافضي داعية، يروي المناكير عن المشاهير، فاستحق الترك. انتهى.
وعبد الله بن محمد بن عقيل أيضا فيه مقال، وكذلك ابن ابنه القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل، قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه قال: كان متروك الحديث، وذكر عن أبي زرعة أنه قال: أحاديثه منكرة، وهو ضعيف الحديث أيضا، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يروي عن-
350
واختلفَ في رَدِّ اليدَيْنِ في مَسْح الرَّأْسِ، هل هو فرضٌ أوْ سُنَّة، بعد الإجماع على أنَّ المَسْحَةَ الأولى فَرْضٌ، فالجمهورُ على أنَّه سُنَّة.
وقيل: هو فرضٌ، والإجماع على استحسَانِ مَسْحِ الرأس باليَدَيْنِ جمِيعاً، وعلى الإجزاء بواحدةٍ، واختُلِفَ فِيمَنْ مَسَحَ بأُصْبُعٍ واحدةٍ، والمشهورُ الإجزاءُ ويترجَّح عدم الإجزاءِ لأنه خروجٌ عن سُنَّة المَسْح، وكأنه لَعِبٌ إلاَّ أَنْ يكونَ ذلك عن ضَرَرِ مرضٍ ونحوه، فينبغي ألاَّ يُخْتَلَفَ في الإجزاء.
والبَاءُ في قوله تعالى: بِرُؤُسِكُمْ مؤكّدة زائدة عند من يرى عموم الرأس، والمعنى، عنده: وامسحوا رءوسكم، وهي للإلصاق المحض عند مَنْ يرى إجزاء بعض الرأْسِ كأنَّ المعنى: أوجدوا مسحا برءوسكم، فمَنْ مَسَح، ولو شعرةً فقد فَعَلَ ذلك.
ت: قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «١» : وقد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في صِفَةِ مَسْحِ الرأسِ «أَنه أَقْبَلَ بِيَدِهِ، وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ» «٢»، وفي البخاريِّ: «فَأَدْبَرَ بِهِمَا، وَأَقْبَلَ»، وهما صحيحان متوافقان،
- جده عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر. وروى عنه إسحاق بن محمد العزرمي. انتهى. ذكره في أتباع التابعين من كتابه.
ورواه البيهقي أيضا من حديث سويد بن سعيد، عن القاسم بن محمد العقيلي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، أما القاسم وجدّه فتقدما، وأما سويد بن سعيد فهو، وإن أخرج له مسلم، فقد قال ابن معين: هو حلال الدم، وقال ابن المديني: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: صدوق إلا أنه كثير التدليس، وقيل: إنه عمي في آخر عمره، فربما لقن ما ليس في حديثه، فمن سمع منه وهو بصير فحديثه عنه حسن، وسكت عنه البيهقي هنا، وقال في باب: من قال لا يقرأ:
تغير بآخره، فكثر الخطأ في روايته. انتهى.
والعجب من البيهقي كيف سكت عن القاسم هنا، وقد قال في باب: لا يطهر بالمستعمل: لم يكن بالحافظ، وأهل العلم مختلفون في الاحتجاج برواياته.
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ٥٧٥).
(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (١/ ١٨)، كتاب «الطهارة»، باب العمل في الوضوء، الحديث (١)، وعبد الرزاق في المصنف (١/ ٦)، كتاب «الطهارة»، باب المسح بالرأس، الحديث (٥)، وأحمد (٤/ ٣٨)، والبخاري (١/ ٢٨٩)، كتاب «الوضوء»، باب مسح الرأس، الحديث (١٨٥)، ومسلم (١/ ٢١٠- ٢١١)، كتاب «الطهارة»، باب في وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (١٨) وأبو داود (١/ ٨٦- ٨٧)، كتاب «الطهارة»، باب صفة وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (١٨)، والترمذي (١/ ٤٧)، كتاب «الطهارة»، باب ما جاء في مسح الرأس، الحديث (٣٢)، والنسائي (١/ ٧٢)، كتاب «الطهارة»، باب صفة مسح الرأس، وابن ماجة (١/ ١٤٩- ١٥٠)، كتاب «الطهارة»، باب ما جاء في مسح الرأس، الحديث (٤٣٤)، وابن الجارود في «المنتقى» (ص ٣٥)، باب صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والحميدي-
351
وهي مسألةٌ من «أصول الفقْهِ» في تسمية الفعْلِ بابتدائه أو بغايته. انتهى.
وقرأ حمزة «١» وغيره: «وَأَرْجُلِكُمْ» - بالخفض-، وقرأ نافع وغيره بالنَّصْب، والعاملُ:
«اغسلوا»، ومن قرأ بالخفْضِ، جعل العامِلَ أقْرَبَ العامِلَيْنِ، وجمهورُ الأَمَّة من الصحابة والتابعِينَ على أنَّ الفَرْضَ في الرجْلَيْن الغَسْلُ، وأنَّ المَسْح «٢» لا يجزىءُ، وفي الصحيح:
«وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ «٣» من النّار» إذ «٤» رأى صلّى الله عليه وسلّم أعقابَهُمْ تلُوحُ، قال ابن العربِيِّ في «القَبَس» :
- (١/ ٢٠٢)، وابن خزيمة (١/ ٨٠، ٨٧، ٨٨)، وابن حبان (٢/ ٢٩٦، ٢٩٧- الإحسان)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٠)، والبيهقي (١/ ٥٩) كتاب «الطهارة»، باب الاختيار في استيعاب الرأس بالمسح والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٣١٦- بتحقيقنا) عن عبد الله بن زيد.
وله شاهد من حديث معاوية، أخرجه أبو داود (١/ ٨٩)، كتاب «الطهارة»، باب صفة وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (١٢٤)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٠)، كتاب «الطهارة»، باب فرض مسح الرأس في الوضوء.
وشاهد آخر عن المقدام أخرجه أبو داود (١/ ٨٨) كتاب «الطهارة»، باب صفة وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (١٢٢)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٢)، باب حكم الأذنين في وضوء الصلاة.
(١) ينظر: «السبعة» (٢٤٢- ٢٤٣)، و «الحجة» (٣/ ٢١٤)، و «حجة القراءات» (٢٢١)، و «العنوان» (٨٧)، و «إعراب القراءات» (١/ ١٤٣)، و «شرح شعلة» (٣٤٨)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٢٢٦)، و «إتحاف» (١/ ٥٣٠)، و «معاني القراءات» (١/ ٣٢٦).
(٢) أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين، ولم يخالف في ذلك من يعتد به في الإجماع- كما صرح بذلك الشيخ أبو حامد وغيره- وعليه الأئمة الأربعة، وجمهور الفقهاء. وتنحصر أقوال المخالفين في ثلاثة أقوال: الأول: أن الواجب مسحهما وبه قالت الإمامية من الشيعة. الثاني: أن المتوضئ يميز بين غسلهما ومسحهما، وعليه الحسن البصري وحكاه الخطابي عن الجبائي المعتزلي. الثالث: أن الواجب غسلهما ومسحهما جميعا، وعليه بعض أهل الظاهر كداود. والصواب هو مذهب الأئمة الأربعة، والجمهور.
ينظر: «المسح على الخفين» لشيخنا/ محمد سيد أحمد.
(٣) الأعقاب: جمع عقب. وهو مؤخر القدم. ينظر: «لسان العرب» (٣٠٢٢).
(٤) ورد هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وجابر، وعبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي، ومعيقيب، وأبو ذر، وخالد بن الوليد، وشر حبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو أمامة، وأخوه.
١- حديث أبي هريرة:
أخرجه البخاري (١/ ١٤٣) كتاب «الوضوء»، باب غسل الأعقاب، حديث (١٦٥)، ومسلم (١/ ٢١٤) كتاب «الطهارة»، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (٢٨/ ٢٤٢) وعبد الرزاق (١/ ٢١) رقم (٦٢) والنسائي (١/ ٧٧) كتاب «الطهارة»، باب إيجاب غسل الرجلين. والدارمي (١/ ١٧٩) كتاب «الطهارة»، باب ويل للأعقاب من النار. وأحمد (٢/ ٢٢٨، ٢٨٤، ٤٠٦، ٤٠٩، ٤٦٧، ٤٨٢) وابن الجارود في «المنتقى» رقم (٧٨، ٧٩)، وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص ٧٥) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٨) كتاب «الطهارة»، وابن المنذر في «الأوسط» (١/ ٤٠٦)، وأبو عوانة (١/ ٢٥١- ٢٥٢) -
352
..
- والبيهقي (١/ ٦٩) كتاب «الطهارة»، باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل كلهم من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: أسبغوا الوضوء، فإن أبا القاسم قال: «ويل للأعقاب من النار».
وأخرجه مسلم (١/ ٢١٤) كتاب «الطهارة»، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (٣٠/ ٢٤٢)، والترمذي (١/ ٥٨) كتاب «الطهارة»، باب ما جاء في ويل للأعقاب من النار، حديث (٤١) وابن ماجة (١/ ١٥٤) كتاب «الطهارة»، باب غسل العراقيب حديث (٤٥٣) وابن خزيمة (١/ ٨٤) رقم (١٦٢) كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة به.
وللحديث عن أبي هريرة ألفاظ منها: ويل للعقب من النار وويل للعراقيب من النار.
وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
٢- حديث عبد الله بن عمرو:
أخرجه البخاري (١/ ١٧٣) كتاب «العلم»، باب من رفع صوته بالعلم، حديث (٦٠)، (١/ ٢٢٨) كتاب «العلم»، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم حديث (٩٦) ومسلم (١/ ٢١٤) كتاب «الطهارة»، باب وجوب غسل الرجلين حديث (٢٧/ ٢٤١)، وأبو داود (١/ ٧٢) كتاب «الطهارة»، باب في إسباغ الوضوء، حديث (٩٧) والنسائي (١/ ٧٨) كتاب «الطهارة» باب إيجاب غسل الرجلين، وابن ماجة (١/ ١٥٤) كتاب «الطهارة» باب غسل العراقيب، حديث (٤٥٠) وأحمد (٢/ ١٩٣، ٢٠٥، ٢١١) وابن خزيمة (١/ ٨٣- ٨٤) رقم (١٦١) والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٣١٣- بتحقيقنا) عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا. لفظ البخاري.
٣- حديث عائشة. وله طرق:
فأخرجه ابن ماجة (١/ ١٥٤) كتاب «الطهارة»، باب غسل العراقيب حديث (٤٥٢)، وأحمد (٦/ ١٩١- ١٩٢)، وابن أبي شيبة (١/ ٢٦) وعبد الرزاق (١/ ٢٣) رقم (٦٩)، والحميدي (١/ ٨٧) رقم (١٦١) وأبو عوانة (١/ ٢٥١) والترمذي في «العلل الكبير» (ص ٣٥) رقم (٢٢) وابن المنذر في «الأوسط» (١/ ٤٠٦) وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص ٣٧٦) وأبو يعلى (٧/ ٤٠٠) رقم (٤٤٢٦) وابن حبان (١٠٥٤- الإحسان) والشافعي (١/ ٣٣) كتاب «الطهارة»، باب في صفة الوضوء، حديث (٨٢) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٨) كتاب «الطهارة»، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (١/ ١٦٧) رقم (٧٠) كلهم من طريق سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة قال: توضأ عبد الرّحمن عند عائشة فقالت: يا عبد الرّحمن أسبغ الوضوء، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للأعقاب من النار».
ومن هذا الوجه صححه ابن حبان.
وقال البيهقي: قال أحمد: رواه عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن سالم مولى المهري، عن عائشة، وهو من ذلك الوجه مخرج في كتاب مسلم.
وقال الترمذي في «العلل» : سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: حديث أبي سلمة عن عائشة حديث حسن. اهـ.
فحديث عائشة من هذا الطريق حسنه البخاري، وصححه ابن حبان. والطريق الذي أشار إليه أحمد.
أخرجه مسلم (١/ ٢١٣) كتاب «الطهارة»، باب وجوب غسل الرجلين حديث (٢٥/ ٢٤٠)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٨) كتاب «الطهارة»، وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص ٣٨٢)، والبيهقي-
353
..
- (١/ ٢٣٠) من طريق عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن سالم مولى المهري، عن عائشة بمثل الطريق الأول، وقد خولف عكرمة بن عمار في هذا الحديث.
خالفه الأوزاعي، وحرب بن شداد، وأبو معاوية النحوي، وعلي بن المبارك، وحسين المعلم، فرووه عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم مولى المهري عن عائشة دون ذكر أبي سلمة، فانفرد عكرمة بن عمار بزيادة أبي سلمة في الإسناد.
وكما هو معروف، فإن رواية عكرمة بن عمار عن يحيى مضطربة قال أحمد: عكرمة مضطرب الحديث عن يحيى بن أبي كثير.
وقال ابن المديني: أحاديث عكرمة عن يحيى بن أبي كثير مناكير ليست بذاك كان يحيى بن سعيد يضعفها.
وقال البخاري: مضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير.
وقال أبو داود: ثقة وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير فيه اضطراب.
وقال النسائي: ليس به بأس إلا في حديث يحيى بن أبي كثير.
ينظر: «التهذيب» (٧/ ٢٢).
وقال الحافظ في «التقريب» (٢/ ٣٠) : صدوق يغلط، وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير اضطراب. اهـ.
ومخالفة الأوزاعي عند أبي عبيد في «كتاب الطهور» (ص ٣٧٧)، وأبو عوانة (١/ ٢٣٠).
وابن أبي حاتم في «العلل» (١/ ٥٧) رقم (١٤٨).
ومخالفة حرب بن شداد عن الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٨) ومخالفة أبي معاوية النحوي عند أبي عبيد في «كتاب الطهور» (ص ٣٨٢)، وابن أبي حاتم في «العلل» (١/ ٥٧- ٥٨) رقم (١٤٨).
ومخالفة علي بن المبارك عند أبي عوانة (١/ ٢٣٠).
ومخالفة حسين المعلم عند ابن أبي حاتم في «العلل» (١/ ٥٧) رقم (١٤٨).
فهؤلاء الخمسة الثقات خالفوا عكرمة بن عمار، فلم يذكروا أبا سلمة في الإسناد.
وقد رجح أبو زرعة رواية الأوزاعي، وحسين المعلم، كما في «العلل» لابن أبي حاتم (١/ ٥٧- ٥٨) رقم (١٤٨).
ومما يدل على أن عكرمة بن عمار وهم في هذه الرواية أن جماعة تابعوا يحيى بن أبي كثير، فرووا الحديث عن سالم، عن عائشة، ولم يذكروا أبا سلمة.
فأخرجه مسلم (١/ ٢١٤) كتاب «الطهارة»، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (٢٥/ ٢٤٠)، وأبو عوانة (١/ ٢٣٠) والبيهقي (١/ ٦٩) كتاب «الطهارة»، باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل، من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن سالم مولى شداد قال: دخلت على عائشة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم توفي سعد بن أبي وقاص، فدخل عبد الرّحمن بن أبي بكر، فتوضأ عندها فقالت: يا عبد الرّحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للأعقاب من النار».
وأخرجه مسلم (١/ ٢١٤) كتاب «الطهارة»، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (٢٥/ ٢٤٠) من طريق نعيم بن عبد الله المجمر، عن سالم، عن عائشة وأخرجه مسلم (١/ ٢١٤) كتاب «الطهارة»، باب-[.....]
354
..
- وجوب غسل الرجلين، حديث (٢٥/ ٢٤٠) من طريق محمد بن عبد الرّحمن، عن سالم، عن عائشة وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٨) من طريق أبي الأسود يتيم عروة عن سالم عن عائشة.
وللحديث طريق آخر عن عائشة.
أخرجه ابن ماجة (١/ ١٥٤) كتاب «الطهارة»، باب غسل العراقيب حديث (٤٥١)، وأبو عوانة (١/ ٢٥٢)، والدارقطني (١/ ٩٥) كتاب «الطهارة»، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
٤- حديث جابر بن عبد الله:
أخرجه ابن ماجه (١/ ١٥٥) كتاب «الطهارة»، باب غسل العراقيب، حديث (٤٥٤) وابن أبي شيبة (١/ ٢٦)، وأحمد (٣/ ٣٦٩، ٣٩٣)، وأبو داود الطيالسي (١/ ٥٣- منحة) رقم (١٧٨)، وأبو يعلى (٤/ ٥٢) رقم (٢٠٦٥) وفي «معجم شيوخه» (ص ٧٠) رقم (١٥) وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص ٣٨٢، ٣٨٣)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (٣/ ٥١٠) وابن المنذر في «الأوسط» (١/ ٤٠٦)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٨) من طريق الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كريب عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للعراقيب من النار».
قال البوصيري في «الزوائد» (١/ ١٨٢)، هذا إسناد رجاله ثقات. اهـ. وللحديث طريق آخر عن جابر.
أخرجه الطبراني في «الصغير» (٢/ ٧) من طريق الوليد بن القاسم، عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل للعراقيب من النار».
وقال الطبراني: لم يروه عن الأعمش إلا الوليد تفرد به حماد.
٥- حديث عبد الله بن الحارث بن جزء.
أخرجه أحمد (٤/ ١٩١)، والحاكم (١/ ١٦٢) كتاب «الطهارة» وابن خزيمة (١/ ٨٤) رقم (١٦٣)، والدارقطني (١/ ٩٥) كتاب «الطهارة» باب وجوب غسل القدمين والعقبين رقم (١) وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص ٣٧٥- ٣٧٦) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٨) كتاب «الطهارة»، والبيهقي (١/ ٧٠) كتاب «الطهارة»، باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل وفي «معرفة السنن والآثار» (١/ ١٦٩) رقم (٧٢) كلهم من طريق حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم التجيبي، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» وقال الحاكم: صحيح، ولم يخرجا ذكر بطون الأقدام، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة.
وقال الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٢٤٥)، رواه أحمد، والطبراني في «الكبير»... ورجال أحمد والطبراني ثقات.
٦- حديث معيقيب:
أخرجه أحمد (٥/ ٤٢٥) والطبراني في «الكبير» (٢٠/ ٣٥٠) رقم (٨٢٢) من طريق أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل للأعقاب من النار».
وعلقه الترمذي في «العلل الكبير» (ص ٣٥) عن أيوب بن عتبة به وقال الترمذي: سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: حديث أبي سلمة عن معيقيب: ليس بشيء كان أيوب لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه، فلا أحدث عنه، وضعف أيوب بن عتبة جدا. اهـ. -
355
..
- والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٢٤٥) وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه أيوب بن عتبة، والأكثر على تضعيفه اهـ.
وأيوب بن عتبة ضعفه أحمد وابن معين، وابن المديني، والجوزجاني، ومسلم، والبخاري، والعجلي، وأبو حاتم وغيرهم، كما في «التهذيب» (١/ ٤٠٨- ٤٠٩).
وقال الذهبي في «المغني» (١/ ٩٧)، ضعفوه، لكثرة مناكيره.
وقال الحافظ في «التقريب» (١/ ٩٠)، ضعيف.
٧- حديث أبي ذر الغفاري:
أخرجه عبد الرزاق (١/ ٢٢) رقم (٦٤) من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن رجل، عن أبي ذر قال: أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نتوضأ، فقال: «ويل للأعقاب من النار» فطفقنا نغسلها غسلا، وندلكها دلكا.
وزاد نسبته السيوطي في «الأزهار المتناثرة» (ص ٢٦) إلى سعيد بن منصور.
٨- حديث خالد بن الوليد وشرحبيل، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان:
أخرجه ابن ماجة (١/ ١٥٥) «كتاب الطهارة»، باب غسل العراقيب، حديث (٤٥٥) من طريق أبي صالح الأشعري، حدثني أبو عبد الله الأشعري، عن خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص كل هؤلاء سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أتموا الوضوء ويل للأعقاب من النار».
والحديث قال البخاري كما في «علل الترمذي الكبير» (ص ٣٥) : وحديث أبي عبد الله الأشعري «ويل للأعقاب من النار» حديث حسن اهـ. وصححه ابن خزيمة (٦٦٥).
وقال البوصيري في الزوائد (١/ ١٨٢)، هذا إسناد حسن، ما علمت في رجاله ضعفاء اهـ.
٩- حديث أبي أمامة وأخيه:
أخرجه الطبراني في «الكبير» (٨/ ٣٤٧) رقم (٨١٠٩) من طريق علي بن مسهر، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة وأخيه قالا: أبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوما يتوضئون، فقال:
«ويل للأعقاب من النار».
وأخرجه الطبراني (٨/ ٣٤٧- ٣٤٨) رقم (٨١١٠، ٨١١١، ٨١١٢، ٨١١٤، ٨١١٥) من طرق عن ليث عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة- وحده- به.
وأخرجه الدارقطني (١/ ١٠٨) كتاب «الطهارة»، باب ما روي في فضل الوضوء حديث (٤) والطبراني (٨/ ٣٤٨- ٣٤٩) رقم (٨١١٦) من طريق عبد الواحد بن زياد عن ليث، عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة، أو عن أخي أبي أمامة... فذكره.
وقال الهيثمي في «المجمع» (١/ ٢٤٥)، رواه الطبراني في «الكبير» من طرق ففي بعضها عن أبي أمامة وأخيه، وفي بعضها عن أبي أمامة فقط، وفي بعضها عن أخيه فقط... ومدار طرقه كلها عن ليث بن أبي سليم وقد اختلط. اهـ.
وحديث «ويل للأعقاب من النار» صرح السيوطي بتواتره في «الأزهار المتناثرة» (ص ٢٦) رقم (١٦) وتبعه الشيخ أبو الفيض الكناني (ص ٦٨، ٦٩) وقال: وممن صرح بأنه متواتر الشيخ عبد الرءوف المناوي في «شرح الجامع الصغير»، وشارح كتاب «مسلم الثبوت» في الأصول اهـ.
356
ومَنْ قرأ «وَأَرْجُلِكُمْ» - بالخَفْض-، فإنه أراد المَسْح على الخُفَّيْن «١» وهو أحد التأويلاتِ في الآية. انتهى، وهذا هو الذي صحَّحه في «أحْكَامِهِ».
والكلامُ في قوله: إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما تقدَّم في قوله: إِلَى الْمَرافِقِ، وفي «صحيح مسلم» وغيره عن عُقْبَة بْنِ عامر، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يتوضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثِمَّ يَقُومُ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلاً عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة»، فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدُ هذِهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ، قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمّدا عبده
(١) المسح في اللغة إمرار اليد على الشيء تقول: مسحت الشيء بالماء مسحا إذا أمررت اليد عليه، والمسح على الخفين شرعا إصابة البلة للخف الشرعي على وجه مخصوص، فقولنا: «إصابة» يشمل ما لو كانت بيده بأن أمرّ يده وهي مبتلّة على الخف، أو قطر الماء عليه منها، أو وضعها عليه من غير إمرار، وهي مبتلة، أو غيرها كأن أصاب المطر الخفّ فابتلّ مع نية لابسه المسح بذلك.
وقولنا: «للخف الشرعي» يخرج إصابتها لغيره، سواء كان ذلك الغير خفّا غير شرعي، أو لم يكن خفّا.
وقولنا: «على وجه مخصوص» إشارة إلى الكيفية والشروط والمدة، وإلى النية، ولو حكما بأن يقصد بمسحه رفع حدث الرجلين بدلا عن غسلهما، فخرج ما لم يكن كذلك.
والخف لغة مجمع فرس البعير «والفرس للبعير كالحافر للفرس» وقد يكون للنعام، سوّوا بينهما للتّشابه، وجمعه: أخفاف كقفل وأقفال، والخف أيضا واحد الخفاف التي تلبس، وجمعه: خفاف ككتاب للفرق بينه وبين ما للبعير، وفي «اللسان» أنه يجمع على خفاف وأخفاف أيضا، ويقال: تخفّف الرجل إذا لبس الخفّ في رجليه. وخفّ الإنسان ما أصاب الأرض من باطن قدميه، والخف أيضا القطعة الغليظة من الأرض.
وشرعا: السّاتر للقدمين إلى الكعبين من كل رجل من جلد ونحوه، والمستوفي للشروط. هذا وعبر النووي بالخف وعبر شيخ الإسلام بالخفين وقال: هو أولى من تعبيره بالخف، لأنه يوهم جواز المسح على خف رجل، وغسل الأخرى، وليس كذلك، فكان الأولى أن يعبر بالخفين، ويمكن أن يوجه تعبيره بالخف بأن «أل» فيه للجنس، فيشمل ما لو كان له رجل واحدة لفقد الأخرى، وما لو كان له رجلان فأكثر، وكانت كلها أصلية، أو كان بعضها زائدا، أو اشتبه بالأصلي، أو سامت به، فيلبس كلّا منها خفّا، ويمسح على الجميع.
وأما إذا لم يشتبه، ولم يسامت، فالعبرة بالأصلي دون الزائد، فيلبس الأول خفّا دون الثاني، إلا أن توقّف لبس الأصلي على الزائد، فيلبسه أيضا. أو أنها للعهد الشرعي، أي الخف المعهود شرعا وهو الاثنان. قال علي الشبراملي: وهذا الجواب أولى من الأول لأنه لا يدفع الإيهام لأن الجنس كما يتحقق في ضمن الكل، كذلك يتحقق في ضمن واحدة منهما. أما تعبير شيخ الإسلام بالخفين فإنه يرد عليه أيضا أنه لا يشمل الخف الواحد فيما لو فقدت إحدى رجليه، إلا أن يقال: إنه نظر للغالب وقال القليوبي: ويطلق الخفّ على الفردتين، وعلى إحداهما. فعلى هذا استوت العبارتان.
ينظر: «المغرب» (٢/ ٢٦٦)، و «لسان العرب» (٦/ ٤١٩٦)، وينظر: «بدائع الصنائع» (١/ ٩٩)، و «المدونة» (١/ ٤١)، و «الأم» (١/ ٢٩)، و «المغني» (١/ ٢٦٨)، و «المحلى» (١/ ٩٢).
357
وَرَسُولُهُ إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ»، وأخرجه الترمذيُّ من حديثِ أَبِي إدْرِيسَ الخَوْلاَنِيِّ، عن عمر، زاد في آخره: «اللَّهُمَّ، اجعلني مِنَ التَّوَّابِينَ، واجعلني مِنَ المُتَطَهِّرِينَ» «١». انتهى مختصراً.
واختلَفَ اللغويُّونَ في الْكَعْبَيْنِ.
والجمهورُ على أنهما العَظْمَانِ الناتِئَانِ في جنبتي «٢» الرجل.
(١) أخرجه مسلم كتاب «الطهارة»، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، حديث (٢٣٤)، وأحمد (١/ ١٩، ٤/ ١٤٥- ١٤٦، ١٥٣) وأبو داود (١/ ٢٩) كتاب «الطهارة»، باب ما يقول الرجل إذا توضأ حديث (١٦٩، ١٧٠)، والنسائي (١/ ٩٢- ٩٣) كتاب «الطهارة»، باب القول بعد الفراغ من الوضوء، والدارمي (١/ ١٨٢) كتاب «الطهارة»، باب القول بعد الوضوء، وأبو يعلى (١/ ١٦٢) رقم (١٨٠).
(٢) والكعبان هما: العظمان الناتئان، من جانبي القدمين، عند مفصل الساق والقدم. هذا مذهب الشافعية، وبه قال الجمهور من المفسرين، وأهل الحديث، وأهل اللغة، والفقهاء.
وقال محمد: الكعب: هو موضع الشّراك على ظهر القدم وحكى هذا عن أبي يوسف، وبه قالت الإمامية من الشيعة، وقيل عنهم: قالوا: في كل رجل كعب واحدة «وهي عظم مستقر في وسط القدم».
وقال الفخر الرازي: إن الكعب عند الشيعة: عبارة عن عظم مستدير، موضوع تحت عظم الساق، حيث يكون مفصل الساق والقدم.
ودليلنا عليهم: الكتاب، والسنة، والإجماع، واللغة، والاشتقاق: أما الكتاب: فقوله تعالى:
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: ٦] وهذا يقتضي أن يكون في كل رجل كعبان، وهو لا يكون إلا على مذهبنا، فلو كان في كل رجل كعب واحدة- كما قالوا- لقال: «إلى الكعاب» كما قال: إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: ٦].
وأمّا السّنة: أولا: ما رواه مسلم، عن عثمان- رضي الله تعالى عنه- في صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثمّ اليسرى كذلك».
ثانيا: ما رواه أبو داود، والبيهقي، وغيرهما بأسانيد جيدة، عن النعمان بن بشير- رضي الله عنه- أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقبل علينا بوجهه، وقال: «أقيموا صفوفكم» فلقد رأيت الرّجل منّا يلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه»، وموضع الدلالة منه: قوله: «يلصق كعبه بكعب صاحبه» وهذا لا يكون إلا في الكعب الذي قلنا.
ثالثا: ما روي: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لجابر بن سليم رضي الله عنه: «ارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين»، فدل على أن الكعبين أسفل الساق، لا ما قالوا من ظاهر القدم.
وأما الإجماع: فما قال الشافعي في «الأم» :«ولم أسمع مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكر الله عز وجل:
في الوضوء الكعبان الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم.
وأما اللغة: فقال الماورديّ: حكي عن قريش كلهم، ولا يختلف لسانهم- أن الكعب: اسم للناتىء بين الساق والقدم، قال: وهم أولى بأن يعتبر لسانهم في الأحكام من أهل «اليمن»
لأن القرآن نزل بلغتهم.
وأما الاشتقاق: فهو أن الكعب: اسم لما استدار وعلا، وهو مشتق من التكعب، وهو النتوء مع الاستدارة ولذلك قالوا: كعب ثدي الجارية، إذا استدار وعلا، ويقال: جارية كاعب، إذا أنهد ثديها-
358
وألفاظُ الآيةِ تقتضِي المُوَالاَةَ بَيْن الأعضاء، قال مالك: هو فرضٌ مع الذِّكْر، ساقِطٌ مع النِّسْيان، وروى الدَّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ: «مَنْ تَوَضَّأَ، فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ على وُضُوئِهِ، كَانَ طُهُوراً لِجَسَدِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يَذْكُرِ اسم اللَّهِ على وُضُوئِهِ كَانَ طُهُوراً لأعْضَائِهِ» «١».
انتهى من «الكوكب الدري».
وكذلك تتضمَّن ألفاظ الآيةِ الترتيبَ، وفَاطَّهَّرُوا أمر لواجد الماء عند الجمهور،
- (أي: استدار وعلا)، ومنه سميت الكعبة كعبة لاستدارتها، وهذه صفة الكعب الذي قلناه لا الذي قالوه.
فإن قيل: البهائم لها في كل رجل كعب واحد، فكذلك الآدمي، قلنا: خلقة الآدمي خلاف خلقة البهيمة لأن كعب البهيمة فوق ساقها، وكعب الآدمي في أسفله، فلا يلزم اتفاقهما، فليس لهؤلاء المخالفين حجة تذكر. وإذا علم أن الكعبين ما ذكر، نقول: لا خلاف عندنا في أنه يجب إدخال الكعبين مع القدمين في الغسل، فهما من محل الفرض وبه قال الجمهور، وخالف فيه زفر، وأبو بكر ابن داود، وقالا: لا يجب غسل الكعبين.
ودليلنا: أولا: قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: ٦]، تقريره: أن «إلى» إن كانت بمعنى «مع» كما في قوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [البقرة: ١٤]، أي: مع شياطينهم، وكقوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: ٥٢] أي: مع الله، فدخول الكعبين في محل الفرض ظاهر، وإن كانت حدّا وغاية، فقد قال المبرد: إن الحد إذا كان من جنس المحدود، دخل في جملته، وإن كان من غير جنسه لم يدخل، ألا تراهم يقولون: بعتك الثوب من الطرف إلى الطرف، فيدخل الطرفان في المبيع لأنهما من جنسه، وما معنا الحد فيه من جنس المحدود، فيكون الكعبان داخلين في محل الفرصة وأيضا الإجماع، والاحتياط، وعدم إمكان بيان فاصل بين الكعبين والقدم- قرائن على دخولهما.
وثانيا: ما رواه مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه توضأ، فغسل يديه حتى أشرع في العضدين، وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ، فثبت غسله صلّى الله عليه وسلّم للكعبين، وفعله بيان للوضوء المأمور، ولم ينقل تركه ذلك.
واحتجوا أولا: بأن «إلى» لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية يكون خارجا، ولذلك لم يدخل إمساك الليل في جملة الصيام في قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: ١٨٧] فلم يدخل غسل الكعبين في جملة الغسل.
قلنا أولا: إنما لم يدخل إمساك الليل في جملة الصيام لأنه ليس من جنس النهار، بخلاف ما معنا، وثانيا: قيام القرينة على خروج الليل، وهي عدم وجوب الوصال في الصوم.
واحتجوا ثانيا: بأن خروج الكعبين متيقن، ودخولهما مشكوك فيه، فيقدم اليقين على الشك.
قلنا أولا: لا نسلم أن الشك موجود، فإنه قد رفع بالإجماع على وجوب غسل الكعبين، ولو سلم فالاحتياط أولى.
ينظر: «المسح على الخفين» لشيخنا/ محمد سيد أحمد.
(١) أخرجه الدارقطني (١/ ٧٤)، كتاب «الطهارة»، باب التسمية على الوضوء.
359
وقال عمرُ بْنُ الخطَّاب وغيره: لا يتيمَّمِ الجُنُبُ ألبتَّة، بل يدع/ الصلاةَ حتى يجد الماء «١».
وقوله سبحانه: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ... الآية: الإرادة صفَةُ ذاتٍ، وجاء الفعْلُ مستقبلاً مراعاةً للحوادِثِ التي تَظْهَرُ عن الإرادة، والحَرَجُ: الضِّيق، والحرجة: الشَّجرُ الملْتَفُّ المتضايقُ، ويَجْرِي مع معنى هذه الآية قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ»، وقوله- عليه السلام-: «بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» «٢»، وجاء لَفْظُ الآية على العُمُومِ، والشَّيْءُ المذكُورُ بقُرْبٍ هو أمر التيمُّمِ، والرُّخْصَة فيه، وزوالُ الحَرَجِ في تحمُّل الماءِ أبداً ولذلك قال أُسَيْدٌ: «مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ» «٣».
وقوله سبحانه: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ... الآية: إعلامٌ بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضّله تبارك وتعالى، ولَعَلَّكُمْ: ترَجٍّ في حقِّ البَشَرِ، وفي الحديثِ الصحيحِ عن أبِي مالك الأشعريِّ «٤»، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن، أو تملأ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَالصَّلاَةُ نورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»، رواه مُسْلِم، والترمذيُّ، وفي روايةٍ له: «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلأ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ»، وزاد في رواية أخرى: «وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حجاب حتّى تخلص إليه» «٥». انتهى.
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٦٥).
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ١٦٥).
(٤) كعب بن مالك، وقيل: كعب بن عاصم قال ابن حجر في الإصابة: قال سعيد البردعي: سمعت أبا بكر بن أبي شيبة يقول: أبو مالك الأشعري اسمه: عمرو.
تنظر ترجمته في: «الاستيعاب» (٤/ ١٤٤٥)، «تلقيح فهوم أهل الأثر» (٣٦٧)، «الكاشف» (٣/ ٣٧٣)، «الإصابة» (٧/ ١٦٨)، «تهذيب التهذيب» (١٢/ ٢١٨)، «الكنى والأسماء» (١/ ٥٢، ١٨٨)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٤٦٨)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٦٤٣)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ١٩٩)، «أسد الغابة» (٦/ ٢٧٢).
(٥) أخرجه مسلم (١/ ٢٠٣) كتاب «الطهارة»، باب فضل الوضوء، حديث (١/ ٢٢٣)، والنسائي (٥/ ٥) كتاب «الزكاة»، باب وجوب الزكاة، وابن ماجة (١/ ١٠٢- ١٠٣) كتاب «الطهارة»، باب الوضوء شطر الإيمان، حديث (٢٨٠) والدارمي (١/ ١٦٧) كتاب «الصلاة»، باب ما جاء في الطهور، وأبو عوانة (١/ ٢٢٣)، وابن أبي شيبة (١/ ٦) والطبراني في «الكبير» (٣/ ٣٢٢) رقم (٣٤٢٣، ٣٤٢٤) والبيهقي (١/ ٤٢) كتاب «الطهارة»، والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٢٥٠، ٢٥١- بتحقيقنا) عن أبِي مالك الأشعريِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، ولا إله إلا الله والله أكبر-
360

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧ الى ١٠]

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ... الاية: خطابٌ للمؤمنين، ونِعْمَةُ اللَّهِ: اسْمُ جنْسٍ، يجمع الإسلامَ، وحُسْنَ الحالِ، وحُسْنَ المَآلِ، والميثاقُ: هو ما وقع للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بَيْعَةِ العَقَبَةِ، وَبَيْعَةِ الرِّضْوان، وكلُّ موطِنٍ قال الناسُ فيه: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»، هذا قولُ ابنِ عبَّاس «١» وجماعةٍ من المفسِّرين.
وقال مجاهدٌ: المرادُ: الميثاقُ المأخوذُ على النَّسَمِ حين استخرجوا مِنْ ظَهْر آدم- عليه السلام-.
والأوَّل أرجَحُ وألْيَقُ بنَمَطِ الكلامِ، وباقي «٢» الآية بيِّن متكرِّر، قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه «بهجة المجالس» : روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من وعده الله على عمل ثوابا، فهو منجز له ما وعده، ومن أوعده على عمل عقابا، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» «٣»، وعن ابن عباس مثله. انتهى
[سورة المائدة (٥) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ... الآية:
- يملآن ما بين السماء وَالأرْضِ، وَالصَّلاَةُ نورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقرآن حجة لك أو عليك، وكل الناس يغدو فبعتقها أو موبقها».
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٦٥). [.....]
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٦٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٦٩)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد.
(٣) أخرجه أبو يعلى (٦/ ٦٦) رقم (٣٣١٦) من حديث أنس، وذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠/ ٢١٤) وقال: رواه أبو يعلى، والطبراني في «الأوسط»، وفيه سهيل بن أبي حزم، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
والحديث ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٠٤١٦)، وعزاه إلى أبي يعلى، والخرائطي في «مكارم الأخلاق»، والبيهقي في «البعث»، وابن عساكر، عن أنس.
خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، والجمهورُ أنَّ سبب هذه الآية أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لمَّا استعان بيَهُودَ في ديةِ الرَّجُلَيْنِ اللذَيْن قَتَلَهُما عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وصاحِبُه، قالوا: نَعَمْ، يَا أَبَا القَاسِمِ، انزل حتى نَصْنَعَ لَكَ طَعَامَاً، وَنَنْظُرَ فِي مَعُونَتِكَ، فَنَزَلَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم فِي ظِلِّ جِدَارٍ وَكَانَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، فَتَآمَرَتْ يَهُودُ فِي قَتْلِهِ، وَقَالُوا: مَنْ رَجْلٌ يَظْهَرُ عَلَى الحَائِطِ، فَيَصُبُّ عَلَيْهِ حجرا يشدخه، فجاء جبريل، فأخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فقام صلّى الله عليه وسلّم مِنَ المَكَانِ، وَتَوَجَّهَ إلَى المَدِينَةِ، ونزلَتِ الآيةُ في ذلِكَ ويترجَّح هذا القولُ بما يأتِي بَعْدُ من الآياتِ في وَصْفِ غَدْر يهودَ، ونقضهم المواثيق.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً: هذه الآيةُ المتضمِّنة للخَبَرِ عن نَقْضِهِمْ مواثيقَ اللَّه تعالى- تُقَوِّي أنَّ الآية المتقدِّمة في كَفِّ الأَيْدِي، إنَّما كانَتْ في/ أمر بني النَّضِيرِ، والإجماعُ على أنَّ النقيب كَبِيرُ القَوْمِ، القائمُ بأمورهم، قال قتادة وغيره: هؤلاءِ النُّقَبَاءُ قوْمٌ كبارٌ مِنْ كُلِّ سبْطٍ، تكَفَّل بكلِّ واحدٍ سِبْطُهُ، بأنْ يؤمنوا ويلتزموا التقوى «١».
قال ع «٢» : ونحو هذا كانَتِ النقباءُ ليلَةَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ، مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والضميرُ في مَعَكُمْ، لبني إسرائيل، أيْ: معكم بنَصْري، وحِيَاطَتِي، وتأييدي، واللام في قوله:
لَئِنْ: هي المُؤْذِنَةُ بمجيء القَسَمِ، ولامُ القَسمِ هي قوله: لَأُكَفِّرَنَّ والدليل على أنَّ هذه اللام إنما هي مؤذنةٌ: أنَّهَا قد يستغنى عنها أحياناً، ويتمُّ الكلامُ دونها، ولو كانَتْ لاَمَ قَسَمٍ، لم يترتَّب ذلك، وإقامةُ الصلاةِ: توفيةُ شروطها، والزكاةُ هنا: شَيْءٌ من المالِ كان مفروضاً عليهم فيما قال بعضُ المفسِّرين، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: معناه: وقّرتموهم، وعظّمتموهم،
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره»، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٧٢) وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.
(٢) ينظر ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ١٦٨).
ونَصَرْتُموهم، وقرأ عاصمٌ «١» الجَحْدَرِيُّ: «وَعَزَرْتُمُوهُمْ» - خفيفة الزاي- حيثُ وقع، وقرأ في «سورة الفتحِ» :«وتَعْزُرُوهُ» - بفتح التاء، وسكونِ العينِ، وضمِّ الزاي-، وسَواءُ السَّبِيلِ:
وَسَطُه، وسائرُ ما في الآية بَيِّن، واللَّه المستعان.
وقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً... الاية: أيْ:
فبنقضِهِمْ، والقَسْوَةُ: غَلِظ القَلْب، ونُبُوُّهُ عن الرِّقَّة والمَوْعِظَة، وصَلاَبَتُهُ حتى لا ينفعلَ لخَيْرٍ.
وقوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ: نصٌّ على سوءِ فِعْلِهِمْ بأنفسهم، أي: قد كان لهم حظٌّ عظيمٌ فيما ذُكِّروا به، فَنَسُوه، وتركُوه، ثم أخبر تعالى نبيَّه- عليه السلام- أنه لا يَزَالُ في مستأْنَفِ الزَّمان يطَّلع على خائِنَةٍ منهم، وغائلةٍ، وأمورٍ فاسدةٍ.
قالت فرقة: خَائِنَة: مصدرٌ، والمعنى: على خِيَانَةٍ، وقال آخرون: معناه: على فرْقَةٍ خائِنَةٍ، فهي اسمُ فاعلٍ صفةٌ لمؤنَّث.
وقوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ: منسوخٌ بما في «براءة»، وباقي الآية بيِّن.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى: «مِنْ» : متعلِّقة ب أَخَذْنا، التقديرُ:
وأخذْنَا مِنَ الذين قالُوا: إنَّا نصارى ميثاقَهُمْ، ويحتملُ أنْ تكون معطوفةً على خائِنَةٍ مِنْهُمْ، والأولُ أرجَحُ، وعلَّق قولهم: «نصارى» بقولهم ودعواهم مِنْ حيث هو اسمٌ شرعيٌّ يقتضي نَصْرَ دينِ اللَّه، وسَمَّوْا به أنفُسَهُمْ دُون استحقاق.
وقوله سبحانه: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ: أي: أثبتْنَاها بيْنَهم وألْصَقْنَاها، والإغْرَاءُ:
مأخوذ من الغِرَاءِ الذي يُلْصَقُ به، وقال البُخَارِيُّ: الإغراءُ: التسليط. انتهى.
والضمير في بَيْنَهُمُ يحتملُ أنْ يعود على اليَهُودِ، والنصارى لأنَّ العداوةَ بَيْنهم موجودةٌ مستمرَّةٌ، ويحتملُ أن يعود على النصارى فقطْ لأنها أُمَّة متقاتِلَةٌ بينها الفِتَنُ إلى يَوْم القيامة، ثم توعَّدهم بعذابِ الآخرة إذْ صُنْعهم كُفْرٌ يوجب الخُلُود في النار.
(١) ورويت عن عمر بن الخطاب كما في الشواذ (ص ٣٨)، وينظر: «المحتسب» (١/ ٢٠٨)، و «المحرر الوجيز» (٢/ ١٦٨)، و «البحر المحيط» (٣/ ٤٦٠)، و «الدر المصون» (٢/ ٥٠٠).
363
واعلَمْ (رحمك اللَّه) أنه قَدْ جاءَتْ آثارٌ صحيحةٌ في ذَمِّ الشحناءِ والتباغُضِ والهِجْرَانِ لغَيْر موجِبٍ شرعيٍّ، ففي «صحيح مُسْلِمٍ»، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنَ وَيَوْمَ الخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً إلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيه شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا»، وفي روايةٍ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ خَمِيسٍ واثنين، فَيَغْفِرُ اللَّهُ فِي ذلك اليوم/ لكلّ امرئ لاَ يُشْرِكُ باللَّهِ شَيْئاً... » الحديث «١». انتهى.
وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «لاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ مُسْلِماً فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَإنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا على صِرَامِهِمَا، فَأَوَّلُهُمَا فَيْئاً يَكُونُ سَبْقُهُ بِالفَيْءِ كَفَّارَةً لَهُ، وَإنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلاَمَهُ، رَدَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ، وَرَدَّتْ عَلَى الآخَرِ الشَّيَاطِينُ، وإذَا مَاتَا على صِرَامِهِمَا، لَمْ يَدْخُلاَ الجَنَّةَ»، أُرَاهُ قَالَ: أَبَداً «٢». انتهى، وسنده جيِّد، ونصَّه قال ابن المبارك: أخبرنا شعبةُ عَنْ يزيدَ الرِّشْكِ «٣»، عن مُعَاذَةَ العَدَوِيَّةِ «٤»، قَالَتْ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عامر «٥» يقول: سمعت
(١) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢/ ٩٠٨- ٩٠٩)، كتاب «حسن الخلق»، باب ما جاء في المهاجرة، حديث (١٧) ومسلم (٤/ ١٩٨٦) كتاب «البر والصلة»، باب النهي عن الشحناء والتهاجر، حديث (٣٥/ ٢٥٦٥) من حديث أبي هريرة.
(٢) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٢٧١) رقم (٧٨٤) والبخاري في «الأدب المفرد» (٤٠٢)، وأحمد (٤/ ٢٠)، وابن حبان (٥٦٦٤) من طريق يزيد الرشك، عن معاذة العدوية، عن هشام بن عامر به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٨/ ٦٩) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجال أحمد رجال الصحيح.
(٣) يزيد بن أبي يزيد الضّبعي بضم المعجمة مولاهم أبو الأزهر البصري الذارع القسّام الرّشك بكسر المهملة وإسكان المعجمة. عن: مطرّف بن الشّخّير. وعنه: شعبة، ومعمر. وثقه أبو حاتم. قال ابن منجويه:
مات سنة ثلاثين ومائة. له في (البخاري) فرد حديث.
ينظر: «الخلاصة» (٣/ ١٧٩).
(٤) معاذة بنت عبد الله العدويّة أم الصّهباء البصرية العابدة، عن علي وعائشة، وعنها أبو قلابة ويزيد الرّشك وأيوب وعاصم الأحول وطائفة، قال ابن معين: ثقة حجة، قال الذهبي: بلغني أنها كانت تحيي الليل، وتقول: عجبت لعين تنام وقد علمت طول الرقاد في القبور، قال ابن الجوزي: توفيت سنة ثلاث وثمانين.
ينظر: «الخلاصة» (٣/ ٣٩٣)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٦٩٨)، «الكاشف» (٣/ ٤٨١)، «أعلام النساء» (٥/ ٦٠)، «سير الأعلام» (٤/ ٥٠٨).
(٥) هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بمهملات ابن مالك. عن عامر بن غنم بن عدي بن النّجّار الأنصاري النّجّاري، صحابي نزل البصرة، له أحاديث، انفرد له مسلم بحديث. وعنه ابنه سعد ومعاذة العدوية. -
364
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فذكر الحديثَ.
وقوله: «لَمْ يدخُلاَ الجَنَّةَ» : ليس على ظاهره، أيْ: لم يدخُلاَ الجَنَّة أبداً حتى يقتصَّ لبعضهم من بعض، أو يقع العفو، أو تحلَّ الشفاعة حَسْبما هو معلومٌ في صحيح الآثار.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٥ الى ١٧]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
وقوله سبحانه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ... الآية: أهْلُ الكتابِ: لفظٌ يعمُّ اليهودَ والنصارى، ولكنْ نوازل الإخفاء كالرَّجْم وغيره، إنما حُفِظَتْ لليهود لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مهاجره، وفي إعلامه صلّى الله عليه وسلّم بِخَفِيِّ ما في كُتُبِهِمْ، وهو أُمِّيٌّ لاَ يَكْتُبُ، ولا يَصْحَبُ القُرَّاءَ- دليلٌ على صحَّة نبوَّته لو ألهمهم اللَّه للخَيْر، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ: أي: لم يفْضَحْهم فيه إبقاءً عليهم، والضمير في يَعْفُوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ: هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وكِتابٌ مُبِينٌ: هو القُرآن، ويحتملُ أنْ يريدَ موسى- عليه السلام-، والتوراةُ: أي: لو اتبعتموها حقَّ الاِتِّباع، والأوَّل هو ظاهر الآية، وهو أظهر، وسُبُلَ السَّلامِ: أي: طُرُقَ السلامةِ والنَّجَاةِ، ويحتملُ أنْ يكون «السَّلاَم» هنا اسما من أسماءِ اللَّه عزّ وجلّ، فالمعنى: طرق الله، والظُّلُماتِ: الكفر، والنُّورِ: الإيمان، وباقي الآية بيِّن متكرِّر.
وقوله سبحانه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ: أيْ: لا مَالِكَ، ولا رادَّ لإرادةِ اللَّه تعالى في المسيحِ، ولا في غَيْرِهِ.
وقوله سبحانه: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ: إشارةٌ إلى خلقه المسيحَ في رَحِمِ مَرْيَمَ من غير
- ينظر: «الخلاصة» (٣/ ١١٤)، «الكاشف» (٣/ ٢٢٢)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٤٤٠)، «تهذيب التهذيب» (١١/ ٤٢).
والد، بل اختراعاً كآدم- عليه السلام-.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: عُمُومٌ معناه الخُصُوصُ فيما عدا الذَّات، والصفاتِ، والمحالاتِ.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
وقوله سبحانه: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ... الآية:
البُنُوَّة في قولهم هذا: بنوةُ الحَنَانِ والرأفة، لأنهم ذكروا أن اللَّه سبحانه أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلّوا بذلك، وقالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، ولو صح ما رَوَوْا، لكان معناه: بِكْراً في التشريف أو النبوَّة، ونحوه، وكانت هذه المقالة منهم عند ما دعاهم النبيُّ- عليه السلام- إلى الإيمان به، وخوفِهِم العذابَ، فقالوا: نحن لا نخافُ ما تقول لأنا أبناء اللَّه وأحبَّاؤه ذكر ذلك ابن عباس «١»، وقد كانوا قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غير ما موطنٍ: نحن نَدْخل النار، فنقيم فيها أربعين يوماً، فردَّ اللَّه عليهم قولهم، فقال لنبيه- عليه السلام-: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ/ بِذُنُوبِكُمْ: أي: لو كانتْ منزلتكم منه فوق منازِلِ البَشَر، لَمَا عذَّبكم، وأنتم قد أقررتم أنه يعذِّبكم، ثم ترك الكلامَ الأوَّل، وأضرب عنه غَيْرَ مفسدٍ له، ودخل في غيره، فقال: بَلْ أنتم بشَرٌ كسائر الناسِ، والخلقُ أكرمُهم عند اللَّه أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان، فيغفرُ له ويُورِّطُ من يشاء في الكُفْر، فيعذِّبه، وله ملك السموات والأرض وما بينهما، فله بحق المُلْك أنْ يفعل ما يشاء، ولا معقِّب لحُكْمه، وإليه مصير العباد بالحشر والمعاد.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٩]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ: يعني: اليهودَ والنصارى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا:
محمد- عليه السلام-.
وقوله: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ: أي: على انقطاعٍ من مجيئهم مدَّةً ما، والفترة:
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٠٥) (١١٦١٦)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٧٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٧٦)، وعزاه لابن إسحق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس.
سُكونٌ بعد حَرَكَةٍ في الأجرام، ويستعار ذلك للمعانِي، وقد قال- عليه السلام-: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَةٌ، ولِكُلِّ شِرَةٍ فَتْرَةٌ»، وفي الصحيح أنَّ الفترة التي كانت بين نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وبين عيسى سِتُّمائةِ سَنَةٍ، وهذه الآية نزلَتْ بسبب قولِ اليهود: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ بَعد موسى مِنْ شَيْءٍ قاله ابن عَبَّاس «١».
وقوله: أَنْ تَقُولُوا: معناه: حِذَاراً أنْ تقولوا يوم القيامة: مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وقامتِ الحُجَّة عليكم، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو الهادي والمضلّ لا ربّ غيره.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)
وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ... الآية: المعنى: واذكُرْ لهم، يا محمَّد على جهة إعلامهم بغيب كتبهم ليتحقَّقوا نبوَّتك، ثمَ عَدَّدَ عيُونَ تلك النِّعم، فقال: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ: أي: حاطةٌ، ومنقذون من النار، وشَرَفٌ في الدنيا والآخرة، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً، أي: فيكم ملوكاً لأن المُلْك شَرَفٌ في الدنيا، وحَاطَةٌ في نوائبها، وَآتاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ، قال مجاهد: هو المَنُّ والسلوى، والحَجَر، والغَمَام «٢»، وقال غيره: كثرة الأنبياء وعلى هذا القول: فالعالَمُونَ على العموم، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى، فالعَالَمُونَ عالَمُ زمانهم لأنَّ ما أوتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من آيات الله أكثر من ذلك، والْمُقَدَّسَةَ معناه:
المطهَّرة، قال ابن عباس: هي الطُّور وما حوله «٣»، وقال قتادة: هي الشام «٤»، ...
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٠٧) (١١٦١٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٧٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٧٦) وعزاه لابن إسحق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥١١) (١١٦٤٢)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٢/ ٢٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٧٨) وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد. [.....]
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥١١) (١١٦٤٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٧٤).
(٤). أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥١٣) (١١٦٥٠)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٧٨)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة.
قال «١» الطبريُّ: ولا يختلف أنَّها بيْنَ الفُرَاتِ وعريشِ مِصْرَ.
قال ع «٢» : وتظاهرت الرواياتُ أنَّ «دِمَشْقَ» هي قاعدةُ الجَبَّارِينَ، ثم حذَّرهم موسى الارتداد على الأدبار، وذلك هو الرجوعُ القهقرى، والخاسرُ: الذي قد نقص حظُّه، ثم ذكر عز وجل أنهم تعنّتوا ونكصوا، فقالوا: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ، والجَبَّار: من الجَبْر كأنه لِقُدْرته وغَشْمه وبَطْشه يَجْبُرُ الناس على إرادته، والنَّخْلَةُ الجُبَارَةُ: العاليةُ التي لا تُنَالُ بيدٍ، وكان من خبر الجَبَّارين أنهم كانوا أهلَ قوَّة، فلما بعث موسى الإثْنَيْ عَشَرَ نقيباً مُطَّلِعِينَ من أمر الجبَّارين، وأحوالهم، رأَوْا لهم قوةٌ وبطْشاً وتخيَّلوا أن لا طاقة لهم بهم، فتعاقدوا بينهم على أنْ يُخْفُوا ذلك مِنْ بني إسرائيل، وأنْ يعلموا به موسى ليرى فيه أمر ربه، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل، خان منهم عَشَرة، فعرَّفوا قراباتِهِمْ، ومَنْ وثِقُوا به، ففشا الخَبَر حتى اعوجّ أمر بني إسرائيل، وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: ٢٤]، ولم يفِ مِنَ النُّقَبَاء إلا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالِبُ بْنُ يوفتّا/، ويقال فيه: «كالوث» (بثاء مثلّثة).
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لآ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
وقوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي: يخافُونَ اللَّه سبحانَهُ قال أكْثر المفسِّرين: الرجُلاَن يُوشَعُ بنُ نُونٍ، وهو ابنُ أخْتِ موسى، وكَالِبُ بْنُ يُوفَتَّا، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان الصحيحِ، ورَبْطِ الجَأْشِ، والثبوتِ، وقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا... الآية: عبارةٌ تقتضي كفراً، وقيل: المعنى: فاذهب أنْتَ وربك يعينُكَ، وأنَّ الكلام معصية لا كُفْر، وذكر ابن إسحاق وغيره أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلَّم النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ لَهُمْ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَقَالَ لَهُ المِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَسْنَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، وَلَكِنْ نَقُولُ: اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ «٣»، ثُمَّ تَكَلَّمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بنَحْوِ هذا المعنى»، ولما
(١) ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ٥١٣).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٧٤).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٢١) (١١٦٨٥)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٢/ ٢٥)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٧٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٨٠)، وعزاه لأحمد عن طارق بن شهاب.
سَمِعَ موسى- عليه السلام- قولهم، ورأى عصيانهم، تبرَّأ إلى اللَّه منهم، وقال داعياً عليهم: رَبِّ إِنِّي لآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، يعني: هارونَ.
وقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنا: دعاء حرجٍ، والمعنى: فافرق بيننا وبينهم حتى لا نشقى بفسقهم، قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أي: قال اللَّه، وحرَّم اللَّه تعالى على بني إسرائيل دخولَ تلك المدينة أربعين سنةً يتيهونَ في الأرض، أي: في أرض تلك النازلة، وهو فَحْص التيه وهو على ما يحكى: طولُ ثلاثين ميلاً «١»، في عَرْضِ ستَّةِ فراسِخَ، ويروى أنه لم يدخلِ المدينةَ أحد من ذلك الجِيلِ إلاَّ يُوشَعَ، وكَالُوث، وروي أنَّ يُوشَعَ نُبِّىءَ بعد كمالِ الأربعين سنَةً، وخرَجَ ببني إسرائيل من التيه، وقاتل الجَبَّارين، وفتح المدينةَ، وفي تلك الحَرْب، وقفَتْ له الشمسُ ساعةً، حتى استمرَّ هزم الجبَّارين، والتيه: الذَّهَاب في الأرض إلى غير مقصِدٍ معلوم.
وقوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ معناه: فلا تحزَنْ، والخطابُ بهذه الآية لموسى- عليه السلام-، قال ابنُ عباس: ندم موسى على دعائه على قومه، وحزن عليهم، فقال الله له: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ «٢».
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
وقوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً... الآية: اتل:
معناه: اسرد وأَسْمِعْهم إياه، وهذه مِنْ علوم الكتب الأُوَلِ، فهي مِنْ دلائل نبوَّة نبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم إذْ هي من غامِضِ كتب بني إسرائيل. قال الفَخْر «٣» : وفي الآية قولان:
أحدهما: اتل على الناس.
والثاني: اتل على أهْلِ الكتابِ. انتهى.
(١) الميل من الأرض: قدر منتهى مد البصر، وهو ثلث الفرسخ. وهو مقياس للطول قدّر قديما بأربعة آلاف ذراع، وحديثا بستين وسبعمائة وألف ياردة. ينظر: «لسان العرب» (٤٣١١)، و «المعجم الوسيط» (٩٠١).
(٢) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (٤/ ٥٢٦) (١١٧٠٥)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٧٧).
(٣) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١١/ ١٦٠).
369
وابْنَيْ آدَمَ: هما لصلبه، وهما هَابِيلُ وقَابِيلُ، روت جماعة من المفسِّرين منهم ابن مسعود أنَّ سبب هذا التقريبِ أنَّ حوَّاء كانت تَلِدُ في كلِّ بطْن ذكراً وأنثى، وكان الذَّكَر يتزوَّج أنثَى البطْن الآخر، ولا تحلُّ له أخته توءمته، فولدَتْ مع قابيلَ أختاً جميلةً، ومع هابيلَ أختاً ليست كذلك، فلمَّا أراد آدم أن يزوِّجها من هَابِيلَ، قال قابيل: أنا أحَقُّ بأختي، فأمره آدم، فلم يأتمر، فاتفقوا على التَّقْريب، فتُقُبِّل قربانُ هابيلَ، ووجب أنْ يأخذ أخت قابيلَ فحينئذٍ: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ «١»، وقولُ هابيلَ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ: كلامٌ، قبله محذوفٌ، تقديره: ولِمَ تقتلُنِي، وليس لي ذنُبٌ في قبول اللَّه قربانِي، وإنما يتقبَّل اللَّه من المتَّقين؟! وإجماع أهل السُّنَّة في معنى هذه الألفاظ: أنها اتقاء الشِّرْكِ، فمن اتقاه، وهو موحِّد، فأعماله التي تَصْدُقُ فيها نيتُه مقبولةٌ، وأما المتَّقِي للشرْكِ وللمعاصِي، فله الدرجةُ العليا من القَبُول/ والخَتْم بالرحمة، عُلمَ ذلك بإخبار اللَّه تعالى لا أنَّ ذلك يَجِبُ على اللَّه تعالى عقْلاً.
قلتُ:
قال ع: في معنى هذه الألفاظ (يعني حيث وقعت في الشرع)، وأما في هذه الآية، فليس باتقاء شرك على ما سيأتي، وقولُ هابيلَ: مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ...
الآية: قال عبد اللَّه بن عمر، وجمهورُ النَّاس: كان هابيلُ أشَدَّ قوةً من قابيلَ، ولكنَّه تحرَّج «٢»، وهذا هو الأظهر.
قال ع «٣» : ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاصٍ، لا كافر لأنه لو كان كافراً، لم يكن للتحرّج هنا وجه، وتَبُوءَ: معناه: تمضِي متحمِّلاً، وقوله: بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ:
قيل: معناه: بإثم قَتْلي وسائرِ آثامك، وقيل: المعنى: بإثمي الذي يختصُّ بي فيما فَرَط لي، وهذا تأويل يعضده قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بِالظَّالِمِ وَالمَظْلُومِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ، فَتُزَادُ فِي حَسَنَاتِ المَظْلُومِ حتى يَنْتَصِفَ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ من سيّئات المظلوم، فتطرح عليه» «٤».
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٢٩) (١١٧١٨)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٢/ ٢٨)، وابن عطية (٢/ ١٧٩) والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٨١) وعزاه لابن جرير، عن ابن مسعود، عن ناس من الصحابة.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٣٢) (١١٧٣٠)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٢/ ٢٩)، وابن عطية (٢/ ١٧٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٨٤) وعزاه لابن جرير.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٧٩).
(٤) تقدم تخريجه.
370
وقوله: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يحتملُ: أن يكون مِنْ قول هابيلَ لأخيه، ويحتمل:
أن يكون إخباراً من اللَّه تعالى لمحمَّد- عليه السلام-، قال الفَخْر: وقوله تعالى:
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قال المفسرون: معناه: سَهَّلَتْ له نفسه قَتْل أخيه. انتهى.
وقوله سبحانه: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ: أصْبَحَ: عبارةٌ عن جميعِ أوقاتِهِ، وهذا مَهْيَعُ كلامِ العرب ومنه: [المنسرح] أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَح... البَيْتَ «١» وقول سعد: فَأَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي «٢»، إلى غير ذلك مِن استعمال العرب، ومِنْ خسرانِ قابيلَ ما صحَّ، وثبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كَانَ عَلَى ابن آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا» «٣» وذلك لأنه أول من سنّ القتل.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
وقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً... الآية: قيل: أصبح في ثاني يومٍ قتله يطلب إخفاء أَمْرِ قتله، فلم يَدْرِ ما يصنعُ به، فبعث اللَّه غراباً حيًّا إلى غرابٍ ميتٍ، فجعل يبحث
(١) صدر بيت للربيع بن ضبع الفزاري وعجزه: [المنسرح]
..................... أملك رأس البعير إن نفرا
ينظر: «المعجم» (١/ ٣٢١)، «النوادر» (١٥٩)، «أمالي المرتضى» (١/ ٢٥٥)، و «حماسة البحتري» ص (٢٠١)، و «خزانة الأدب» (٧/ ٣٨٤) و «شرح التصريح» (٢/ ٣٦) و «الكتاب» (١/ ٨٩) و «لسان العرب» (١٣/ ٢٥٩) (ضمن) و «المقاصد النحوية» (٣/ ٣٩٨) وبلا نسبة في «الدر على النحاة» ص (١١٤) و «شرح المفصل» (٧/ ١٠٥) و «المحتسب» (٢/ ٩٩)، «الدر المصون» (٢/ ١٧٨).
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ١٨٠). [.....]
(٣) أخرجه البخاري (٦/ ٤١٩)، كتاب «أحاديث الأنبياء» (٣٣٣٥) وفي (١٢/ ١٩٨) كتاب «الديات»، باب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها... حديث (٦٨٦٧)، وفي (١٣/ ٣١٤) كتاب «الاعتصام»، باب إثم من دعا إلى ضلالة، حديث (٧٣٢١) ومسلم (٣/ ١٣٠٣- ١٣٠٤)، كتاب «القسامة»، باب بيان إثم من سن القتل، حديث (٢٧/ ١٦٧٧) من حديث ابن مسعود.
371
في الأرض، ويُلْقِي الترابَ على الغُرَاب الميِّت، وظاهرُ الآية أنَّ هابيلَ هو أول مَيِّتٍ من بني آدم، ولذلك جَهِلَ سُنَّة المواراةِ وكذلك حكى الطبريُّ، عن ابن إسحاقَ، عن بعض أَهْلِ العِلْمِ بما في الكُتُب الأَوَلِ، والسَّوْءَةُ: العورةُ، ويحتمل أن يراد الحالة التي تَسُوء النَّاظر، ثم إن قابيلَ وارى أخَاه، ونَدِمَ على ما كان منه مِنْ معصية في قَتْله، حيث لا ينفعه الندم.
واختلف العلماء في قابيلَ، هل هو مِنَ الكُفَّار أو من العُصَاة، والظاهر أنه من العُصَاة، قال الفَخْر: ولم «١» ينتفعْ قابيلُ بندمه لأن نَدَمَهُ كان لأسبابٍ منها: سَخَط أبويه وإخوته، وعدمُ انتفاعه بقتله، وَنَحْوُ ذلك، ولما كان ندمه لهذه الأسبابِ لا لأجْلِ الخَوْف من اللَّه تعالى، فلا جَرَمَ لم ينفعْهُ هذا الندَمُ.
وقوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ هو إِشارة إلى ما تضمَّنته هذه القصَّة من أنواع المفاسِدِ الحاصلة بسبب القَتْل الحرامِ، لا أنه إشارة إلى قصة قابيلَ وهابيلَ. انتهى.
وقوله سبحانه: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ... الآية: جمهورُ النَّاس على أن قوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ: متعلِّق بقوله: كَتَبْنا أي: من أجل هذه النازلة، ومِنْ جَرَّاها كتبنا، وقالَ قومٌ: بل هو متعلِّق بقوله: مِنَ النَّادِمِينَ أي: ندم من أجل ما وقع، والوقْفُ على هذا، على ذلِكَ، والناس على أن الوَقْف مِنَ النَّادِمِينَ، ويقال: فعلْتُ ذلك مِنْ أَجْلِكَ- بفتح الهمزة- ومِنْ إجْلِكَ- بكسرها-.
وقوله سبحانه: بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير أن تَقْتُلَ نفْسٌ نفْساً، والفسادُ/ في الأرض:
يجمع الزنا، والارتداد، والحِرَابة.
وقوله سبحانه: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً روي عن ابن عباس أنه قال: المعنى:
مَنْ قتل نفساً واحدةً، وانتهك حرمتها، فهو مِثْلُ مَنْ قتل الناس جميعاٌ، ومَنْ ترك قتْلَ نفسٍ واحدةٍ، وصان حرمتها مخافَتِي، واستحياها، فهو كَمَنْ أحيا الناسَ جميعاً «٢»، قال الحسنُ وابْنُ زيدٍ: وَمَنْ أَحْياها أي: عفا عمَّن وَجَبَ له قتلُهُ بعد القدرة «٣»، وقيل غير هذا.
ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسُلُ بالبيِّنات في هذا وفي سواه،
(١) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١١/ ٣٢).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٤١) (١١٧٧٥)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٨٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٩٠) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن ابن عباس.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٤٤) برقم (١١٧٩٢) عن ابن زيد، (١١٧٩٣) عن الحسن، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٨٢).
372
ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ في كلّ عصر يسرفون، ويتجاوزون الحدود.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
وقوله سبحانه: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... الآية: روى أنس بن مالك وغيره: «أن الآية نزلَتْ في قومٍ مِنْ عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَسْلَمُوا، ثم إنهم مَرِضُوا، واستوخموا المدينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنْ يَكُونُوا فِي لقَاح الصَّدَقَةِ، وَقَالَ:
«اشربوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا»
، فخرَجُوا فِيهَا، فَلَمَّا صَحُّوا، قتلوا الرّاعي، واستاقوا الإبل، فبلغ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خَبَرُهُمْ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُخِذُوا، قَالَ جميع الرّواة: فقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ «١»، - ويروى: وَسَمَلَ «٢» - وَتَرَكَهُمْ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ، فَلاَ يُسْقَوْنَ»، فقيل: إن هذه الآية ناسخةٌ لفعْله صلّى الله عليه وسلّم بالعُرَنِيِّينَ، ووقَف الأمْر على هذه الحدودِ.
وقال جماعةٌ: إنها غير ناسخةٍ لذلك الفعْل لأن العرنيين مرتدّون، لا سيّما، وفي
(١) أخرجه البخاري (١/ ٤٠٠) في الوضوء: باب أبوال الإبل (٢٣٣) و (٣/ ٤٢٨) في الزكاة، باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل (١٥٠١)، و (٦/ ١٧٧) في الجهاد والسير، باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق؟ (٣٠١٨)، (٧/ ٥٢٤) في المغازي، باب قصة عكل وعرينة (٤١٩٢، ٤١٩٣)، (٨/ ١٢٣) في التفسير، باب إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا... (٤٦١٠)، و (١٠/ ١٤٩) في الطب، باب الدواء بأبوال الإبل (٥٦٨٦)، وباب من خرج من أرض لا تلايمه (٥٧٢٧)، و (١٢/ ١١١) في الحدود، باب المحاربين من أهل الكفر والردة (٦٨٠٢)، وباب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا (٦٨٠٤) وباب سحر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعين المحاربين (٦٨٠٥)، وفي الديات، باب القسامة (٦٨٩٩)، ومسلم (٣/ ١٢٩٦- ١٢٩٨) في القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين (١٤٠٩/ ١٦٧١)، وأبو داود (٢/ ٥٣٤) في الحدود، باب ما جاء في المحاربة (٤٣٦٤- ٤٣٦٨)، والنسائي (١/ ١٥٨) في الطهارة، باب بول ما يؤكل لحمه، و (٧/ ٩٣- ١٠٠) في تحريم الدم. باب قول الله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ... ، باب اختلاف الناقلين لخبر حميد عن أنس بن مالك فيه. باب ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد في هذا الحديث، وأحمد (٣/ ١٦٣، ١٧٠، ١٩٨، ٢٣٣).
(٢) أي: فقأها بحديدة محماة أو غيرها، وقيل: هو فقؤها بالشوك.
ينظر: «النهاية» (٢/ ٤٠٣).
بعض الطُّرُق أنهم سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ، وقالوا: هذه الآيةُ هي في المحارِبِ المُؤْمِنِ.
قال مالك: المُحَارِبُ عندنا: مَنْ حَمَلَ على الناس السلاحَ فِي مِصْرٍ أو بَرِّيَّةٍ، فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم، دون نَائِرَةٍ «١»، ولا دَخلٍ، ولا عداوةٍ وبهذا القولِ قال جماعةٌ من أهل العِلْمِ، قالوا: والإمامُ مخيَّرٌ فيه بأن يعاقبه بما رأى مِنْ هذه العقوبات، فأما قَتْلُ المحارِبِ، فبالسَّيْف ضربةً للعنُق، وأما صَلْبه، فبعد القتْلِ عند جماعة، وقال جماعة:
بل يُصْلَبُ حيًّا، ويُقْتلُ بالطعن على الخَشَبة، وروي هذا عن مالك، وهو الأظهر من الآيةِ، وهو الأنكى في النكال، وأما القَطْع، فاليد اليمنى من الرُّسْغ والرِّجْل الشِّمال من المَفْصِلِ.
وقوله سبحانه: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ: الظاهر: أن الأرض في هذه الآية هي أرضُ النازلة، وقد جنب الناس قديماً الأرض التي أصابُوا فيها الذُّنُوب ومنه حديثُ الذي نَاءَ بصَدْره نحو الأرْضِ المقدَّسة، وينبغي للإمام، إنْ كان هذا المحارِبُ المنفيُّ مخُوفَ الجانِبِ، يظنُّ به أن يعود إلى حِرابةٍ وإفسادٍ- أنْ يسجنه في البلد الذي يغرب إلَيْهِ، وإنْ كان غير مخُوفِ الجانبِ، ترك مسرَّحاً، وهذا هو صريحُ مذهب مالك.
وقوله تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا... الآية: إشارة إلى هذه الحدود التي تُوقَعُ بهم، فيحتمل الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سَلِمَ في الدنيا، وبالجملة فهم في المشيئة.
وقوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا... الآية: استثنى عز وجل التائِبَ قبل أنْ يُقْدَرَ عليه، وأخبر سبحانه بِسُقُوطِ حقوقِهِ عنْه بقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، والعلماءُ على أن الآية في المؤمنين، ويؤخذ المحارِب بحقوقِ/ الناسِ، وإن تاب هذا هو الصحيح.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ... الآية: هذه الآية
(١) النائرة: الحقد والعداوة. والدّخل: ما داخل الإنسان من فساد في عقل أو جسم.
ينظر: «لسان العرب» (١٣٤٢)، (٤٥٩٣).
وعْظٌ من اللَّه تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين، وهذا من أبلغ الوعْظ لأنه يرد على النفوس، وهي خائفةٌ وجِلَةٌ وَابْتَغُوا: معناه: اطلبوا، والْوَسِيلَةَ: القربة، وأما الوسيلة المطلوبة لنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فهي أيضاً من هذا لأن الدعاء له بالوسيلةِ والفضيلةِ إنما هو أنْ يُؤْتَاهُما في الدنيا، ويتَّصف بهما، ويكونُ ثمرةُ ذلك في الآخرةِ التشفيعَ في المَقَامِ المحمودِ، قلْتُ: وفي كلامه هذا ما لا يخفى، وقد فسر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الوسيلةَ التي كان يَرْجُوها من ربه، «وأَنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الجَنَّةِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ... » «١» الحديث، وخص سبحانه الجهادَ بالذكْر، وإن كان داخلاً في معنى الوسيلة تشريفاً له إذ هو قاعدةُ الإسلام.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ: إخبار بأنهم يتمنَّوْنَ هذا، وقال الحسنُ بْنُ أبي الحسن: إذا فَارَتْ بهم النارُ، قَرُبُوا من حاشيتها، فحينئِذٍ يريدونَ الخُرُوجَ، ويطمعون به «٢»، وتأوَّل هو وغيره الآية على هذا قلْتُ: ويؤيِّده ما خرّجه البخاريّ في رؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «حَيْثُ أَتَاهُ آتيَانِ، فَأَخَذَا بِيَدِهِ»، وفيه: «فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهْرِ، فَإذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رمى الرجل بِحَجَرٍ فِي فِيهِ»، وفيه أيضاً: «فَانْطَلَقْنَا إلى ثُقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ تَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارٌ، فَإذَا اقترب، ارتفعوا، فَإذَا خَمَدَتْ، رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالاَ: انطلق... » «٣» الحديث، وأخبر سبحانه عن هؤلاءِ الكفَّار أنهم ليسوا بخارجين من النار، بل عذابهم فيها مقيم مؤبّد.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
وقوله سبحانه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما... الآيةَ: قلت «٤» :
المسروق: مال أو غيره.
(١) تقدم تخريجه.
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ١٨٧).
(٣) هو حديث المعراج الطويل، وسيأتي تخريجه في موضعه.
(٤) السرقة: بفتح السين، وكسر الراء، ويجوز إسكان الرّاء، مع فتح السين، وكسرها يقال: سرق بفتح الراء، يسرق بكسرها سرقا، وسرقة، فهو سارق، والشيء مسروق، وصاحبه مسروق منه، فهي لغة:
أخذ الشيء من الغير خفية، أي شيء كان.
واصطلاحا:
375
فشرط المال: أنْ يكون نصاباً، بعد خروجه، مملوكاً لغير السارقِ، ملكاً محترماً، تامًّا، لا شُبهة «١» له فيه، مُحْرَزاً، مُخْرَجاً منه إلى ما ليس...
- عرفها الشافعية: بأنها أخذ المال خفية ظلما، من غير حرز مثله بشروط.
وعرفها المالكية: بأنها أخذ مكلّف حرّا لا يعقل لصغره، أو مالا محترما لغيره نصابا، أخرجه من حرزه، بقصد واحد خفية لا شبهة له فيه.
وعرفها الحنفية: بأنها أخذ مكلف عاقل بالغ خفية قدر عشرة دراهم.
وعرفها الحنابلة: بأنها أخذ مال محترم لغيره، وإخراجه من حرز مثله.
ينظر: «الصحاح» (٤/ ١٤٩٦)، «المغرب» (١/ ٣٩٣)، «المصباح» (١/ ٤١٩)، «تهذيب الأسماء» للنووي (٢/ ١٤٨)، «درر الحكام» (٢/ ٧٧)، «ابن عابدين» (٤/ ٨٢)، «مغني المحتاج» (٤/ ١٥٨)، «المغني» لابن قدامة (٩/ ١٠٤)، «كشاف القناع» (٦/ ١٢٩)، «الخرشي على المختصر» (٨/ ٩١).
(١) وإلى ذلك ذهب جماهير الفقهاء فلا يقطع الوالد مثلا من سرقته مال ولده.
وخالفهم الظاهرية، وأبو ثور، وابن المنذر فقالوا: يقطع السارق مطلقا: كانت له شبهة في مال المسروق منه أو لا.
استدل جمهور الفقهاء:
أوّلا: بما رواه الترمذي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ الإمام إن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة».
وثانيا: بما روي من مسند أبي حنيفة للمارتي من طريق مقسم عن ابن عباس: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادرءوا الحدود بالشّبهات».
وثالثا: بما رواه ابن ماجة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادفعوا الحدود ما وجدتم مدفعا» فهذه الأحاديث صريحة في وجوب درء الحدود بالشبهات. والقطع حد فلا يجب مع وجودها.
واستدل الظاهرية ومن وافقهم: بعموم قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: ٣٨].
فإنه تعالى أوجب القطع من غير تفريق بين من له شبهة في مال المسروق منه، ومن لا شبهة له فيه.
وأجيب عنه بأن عموم الآية مخصوص بالأحاديث التي ذكرناها أدلة لجماهير الفقهاء.
هذا، والحق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء فإن القطع عقوبة شديدة فيجب ألا تقام حتى يكون السبب تاما، والاعتداء ظاهرا. ومع وجود شبهة للسارق في مال المسروق منه لا يتحقق ما ذكر، فالقطع حينئذ لا يناسب الجريمة. فوجوبه ظلم حاشا أن يوجد في أحكام الشريعة الإسلامية وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦].
لذلك أوجبت الشريعة درء الحدود بالشبهات، ومنعت من إقامتها حتى تتحقق المناسبة بين الجرم، والعقوبة.
غير أن جماهير الفقهاء اختلفوا فيما يعتبر شبهة دارئة للحد، وما لا يعتبر كذلك تبعا لاختلافهم في اعتبار قوة الشبه. وعدم اعتبارها، وانبنى على ذلك اختلافهم في فروع كثيرة من هذا الباب فمثلا: المالكية لا يوجبون القطع في سرقة الأصول من الفروع، ويوجبونه في سرقة الفروع من الأصول نظرا لقوة الشبهة في الأولى دون الثانية. -
376
بحرز «١» له، استسرارا.
- والأئمة الثلاثة لا يفرقون بينهما في عدم القطع نظرا لتحقق الشبهة في كل منهما. وإن لم تكن قوية في البعض وأوسع المذاهب في هذا مذهب الحنفية. حتى إنهم لا يقطعون في سرقة ذوي الأرحام بعضهم من بعض مع أن الشبهة هنا ضعيفة.
ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشهاوي. [.....]
(١) الحرز في اللغة: الموضع الحصين. ومنه: حديث الدعاء: «اللهمّ اجعلنا في حرز حارز» :
وفي اصطلاح الفقهاء: هو الموضع الذي يحفظ فيه المال عادة، بحيث لا يعد صاحبه مضيعا له بوضعه فيه كالدور والحوانيت والخيم. وهو يختلف باختلاف الأزمان والبلدان، ويتفاوت بتفاوت الأموال، وقوة السلطان وضعفه، وعدله وجوره ولهذا ترك الشارع بيانه، ولم ينص على تحديده كما لم ينص على بيان القبض، والفرقة في البيع، وأشباه ذلك مما يختلف باختلاف العرف، ولو كان له حد معين لما ترك الشارع بيانه.
هذا وقد ذهب جماهير الفقهاء إلى أن أخذ المسروق من حرزه شرط في وجوب القطع، فلا يقطع السارق إلا إذا أخذ المسروق من حرزه.
وذهب أهل الظاهر، والخوارج، وجماعة من أهل الحديث إلى عدم اشتراطه، فيجب عندهم قطع السارق مطلقا أخذ المسروق من حرزه أو لا.
استدل الجمهور بالمنقول، والمعقول:
أما المنقول: فما رواه مالك في «الموطأ» عن عبد الله بن عبد الرّحمن بن حسين المكي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا قطع من ثمر معلّق ولا في حريسة الجبل، فإذا آواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجنّ».
ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أثبت القطع في الثمر إذا سرق من جرينه، وفي الحريسة إذا أخذت من مراحها، ونفاه في سرقتهما قبل ذلك، فعلم أن المراح حرز للحريسة، والجرين حرز للثمر، وأن أخذهما من غير حرزهما لا قطع فيه وذلك يقضي باعتبار الأخذ من الحرز شرطا لوجوب القطع فيهما. وحيث لا فرق بين مال ومال، كان الأخذ من الحرز شرطا لوجوب القطع في سرقة كل مال.
وأما المعقول: فإن الله- تعالى- قد جعل الأموال مهيأة للانتفاع بها، فكانت موضع أطماع الناس، وموطن رغباتهم، واقتضت حكمته جل شأنه اختصاص الناس بالملك لأن ترك الأشياء مباحة للكل يجعل النفوس في جشع دائم، وحرص شديد لما جبلت عليه من الأثرة، وحب الذات، فيكون ذلك مثار الفتن، وسبب النزاع المستمر.
وإذا كانت رغبة النفوس في المال قوية وشغفها به أمر مطبوعة عليه، ووجد الاختصاص في الملكية، كان لا بد من شيء يحفظ المال على من اختص به. لذلك وجد النهي والزجر عن أخذ مال الغير بدون رضاه ليرتدع بذلك أصحاب المروءة، والديانة كما وجه الأمر للمالك بحفظ ماله حتى لا يكون طعمة لذوي الأطماع الخبيثة، والنفوس الدنيئة، الذين لا تؤثر فيهم الموعظة، ولا تفيدهم النصيحة حتى يروا العذاب رأي العين.
فإذا قام المالك بما طلب منه، ولم يفرط في صون المال من ناحيته. ثم اقتحم الغير عليه مأمنه، وهتك ما به الصون، كان من الحكمة أن يعاقب بالقطع لارتكابه تلك الجريمة بعد توجيه النهي إليه، وزجره بالعقاب الأخروي. -
377
فالنصاب: ربعُ دينارٍ أو ثلاثةُ دراهم، أو ما يساوي ثلاثة «١» دراهم، وقوله:
- وإذا لم يقم المالك بما طلب منه، وقصر في الصون انتفى القطع لعدم تمام الجريمة بتفريطه.
واستدل الظاهرية ومن وافقهم بعموم قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: ٣٨].
فإن الله- تعالى- قد رتب وجوب القطع على السرقة، فكانت هي العلة، فمتى تحققت السرقة وجب القطع مطلقا أخذ المسروق من حرزه أو لا.
وأجيب عنه: أن عموم الآية مخصوص بالسنة التي دلت على اعتبار الأخذ من الحرز شرطا في وجوب القطع.
هذا والحق ما ذهب إليه الجمهور من القول بأن الأخذ من الحرز شرط في وجوب القطع لقوة دليله، وضعف دليل مخالفه، حتى قال ابن المنذر: إن اعتبار أخذ المسروق من حرزه شرطا لوجوب القطع يكاد يكون أمرا مجمعا عليه.
وأحقيته من جهة النظر ظاهرة، فإن الأموال غير المحرزة شبيهة بالأموال الضائعة، فالاعتداء عليها ناقص، فلا يتناسب مع القطع.
أما الأموال المحرزة، فالاعتداء عليها كامل بمسارقة عين المالك وهتك الحرز، وإخراجها منه.
فالتناسب ظاهر بينهما.
ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشبهاوي.
(١) يرى جمهور الفقهاء أن السارق لا يقطع إلا إذا سرق نصابا.
ويرى أهل الظاهر، والخوارج، وطائفة من المتكلمين أنه يقطع في القليل والكثير، وليس هناك نصاب محدود لوجوب القطع في السرقة.
وعلم أن جمهور الفقهاء قد اتفقوا على اعتبار النصاب شرطا لوجوب القطع. ومع اتفاقهم على هذا قد اختلفوا اختلافا كثيرا في مقداره الذي لا يقطع السارق من أقل منه، ويقطع فيه وفيما زاد عليه.
فيرى الشافعي وأصحابه أنه ربع دينار، أو ما قيمة ربع دينار سواء أكان قيمة ثلاثة دراهم، أم أكثر، أم أقل منها. فلا قطع عندهم في أقل من ربع دينار- ولو كان قيمة ثلاثة دراهم. كما لا قطع في ثلاثة دراهم، إلا إذا كانت قيمتها ربع دينار.
ويرى مالك، وأصحابه في المشهور عنهم أنه ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما قيمته ثلاثة دراهم.
فيقطع السارق عندهم في ربع دينار، وإن لم تكن قيمته ثلاثة دراهم، ويقطع في ثلاثة دراهم وإن لم تكن قيمة ربع دينار. ويقطع في غير النقدين من العروض بما قيمته ثلاثة دراهم، وإن لم تكن قيمة ربع دينار.
ويرى أحمد، وأصحابه في المشهور عنهم أنه ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما قيمة تساوي أحدهما.
فيقطع السارق في ربع دينار، وإن لم يساو ثلاثة دراهم، ويقطع في ثلاثة دراهم، وإن لم تساو ربع دينار، ويقطع في سرقة غير النقدين بما قيمته ربع دينار، أو ثلاثة دراهم.
ويرى أبو حنيفة، وأصحابه في المشهور عنهم أنه عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم.
فلا قطع عندهم في أقل من عشرة دراهم، ولو كانت قيمة ربع دينار كما لا قطع في غير الفضية من الذهب، أو العروض بما قيمته أقل من عشرة دراهم، ولو كانت قيمته تساوي ربع دينار. استدل الشافعي، وأصحابه أولا: بما رواه أحمد، ومسلم، والنّسائي، وابن ماجة عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع يد السّارق إلّا في ربع دينار فصاعدا». -
378
..
- ووجه الدلالة من الحديث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أثبت القطع في ربع دينار، ونفاه عما دون ذلك لأن الحديث قضية محصورة بالنفي، وإلا فتنحل إلى قضيتين: إحداهما موجبة، وهي: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا، سواء أكان قيمة ثلاثة دراهم، أم أقل أم أكثر. وثانيتهما: سالبة، وهي لا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار، سواء أكان ذلك الأقل قيمته ثلاثة دراهم، أم أقل أم أكثر.
فالقضية الأولى تثبت القطع في ربع دينار، وإن لم يكن قيمة عشرة دراهم، وفي ذلك رد على أبي حنيفة وأصحابه.
والثانية تقتضي نفي القطع في أقل من ربع دينار، ولو كان قيمة ثلاثة دراهم، وفي ذلك رد على مالك، وأحمد، وأصحابهما.
والحديث بجملته يدل على أن الذهب هو الأصل الذي يصار إليه في معرفة قيمة المسروق، فإنه تحديد من الشارع بالقول لا يجوز العدول عنه، وقوم ما عداه به، ولو كان المسروق فضة.
وثانيا: بما رواه النسائي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع يد السّارق فيما دون ثمن المجنّ» قيل لعائشة: ما ثمن المجنّ؟ قالت: ربع دينار. فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد نفى القطع فيما ثمنه دون ربع دينار وأثبته فيما ثمنه ربع دينار بنفيه القطع فيما دون ثمن المجن إذ كان ثمن المجن ربع دينار ببيان السيدة عائشة رضي الله عنها.
والحديث صريح في أن العروض إنما تقوم بالذهب من غير نظر إلى الفضة أصلا لأن البيان من السيدة عائشة في حكم المرفوع، فهو تحديد من الشارع بالنص لا يجوز العدول عنه.
وأجيب عنه من قبل أبي حنيفة، وأصحابه: بأن التقويم أمر ظني تخميني، فيجوز أن تكون قيمة المجن عند عائشة- رضي الله عنها- ربع دينار، وتكون عند غيرها أكثر، فالاعتماد على قول عائشة يقتضي ثبوت القطع مع وجود شبهة.
ورد هذا الجواب: بأن السيدة عائشة- رضي الله عنها- لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه، إلا عن تحقيق لعظم أمر القطع..
واستدل مالك، وأحمد وأصحابهما، بما رواه مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم» ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قطع فيما قيمته ثلاثة دراهم، ولم يستفسر عن كون هذه الثلاثة تساوي ربع دينار، أو تقل عنه. وذلك يقضي باعتبار القطع في ثلاثة دراهم، وإن لم تساو ربع دينار، وبذلك يخص مفهوم حديث عائشة- رضي الله عنها- ويكون مفهومه: حينئذ لا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار، إلا إذا ساوى ثلاثة دراهم فتقطع.
والحديث صريح في أن العروض تقوم بالدراهم من غير نظر إلى الذهب أصلا. وأجب عنه من قبل الشافعي، وأصحابه: بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنما ترك الاستفسار، لأن طرف الدينار في عهده صلّى الله عليه وسلّم: كان اثني عشر درهما، فمعلوم أن ثلاثة دراهم تساوي ربع دينار، وذلك لا يقتضي أن الدراهم الثلاثة معتبرة في القطع، وفي التقويم حتى ولو تغير صرف الدينار، فإنها قضية عين لا عموم لها.
واستدل أبو حنيفة وأصحابه، أولا: بما رواه أحمد، والدارقطني عن الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قطع إلّا في عشرة دراهم».
ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نفى القطع في أقل من عشرة دراهم، سواء أكان ذلك الأقل يساوي ربع دينار، أم يزيد أم يقل عنه، وفي ذلك رد على الأئمة الثلاثة، وأصحابهم وأثبته في عشرة دراهم، وذلك-
379
أَيْدِيَهُما يعني: أَيْمانَ النوعَيْن «١»، والنَّكَال: العذابُ، والنِّكْل: القيد.
- يقتضي أن العشرة الدراهم هي المعتبرة في القطع.
وأجيب عنه: بأن الحديث لا يصلح للاستدلال، فإن الحجاج بن أرطاة مدلس، ولم يسمع هذا الحديث من عمرو بن شعيب.
وثانيا: بما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع يد السّارق فيما دون ثمن المجنّ» : قال عبد الله: وكان ثمن المجنّ عشرة دراهم.
ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نفى القطع فيما ثمنه دون عشرة دراهم بنفيه القطع فيما دون ثمن المجن وأثبته في عشرة دراهم إذ كان ثمن المجن عشرة دراهم كما قال عبد الله.
والحديث صريح في أن العروض تقوم بالدراهم من غير ملاحظة كون الذهب أصلا إذ قوم المجن بها وهو عرض، وأجيب عنه: بأنه لا يصلح للاستدلال لأن في إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن، ولا يحتج بمثله إذا جاء بالحديث معنعنا، وبذلك لا يصلح لمعارضة حديث عائشة في تقدير ثمن المجن بربع دينار، وحديث ابن عمر في تقديره بثلاثة دراهم، ولو سلمت صلاحيته للمعارضة تعين طرحه هو، ومعارضة من الروايات الواردة في تقدير ثمن المجن لعدم ما يدفع به التعارض، ووجب العمل بما تفيده رواية عائشة من إثبات القطع في ربع دينار، وهو دون عشرة دراهم.
ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشهاوي، «نيل الأوطار» (٧/ ١٠٥)، «المغني» لابن قدامه (١٠/ ٢٤٣).
(١) اختلف الفقهاء في محل القطع من السارق: فذهب الحنفية، والحنابلة إلى أنه اليد اليمنى، والرجل اليسرى وذهب المالكية، والشافعية: إلى أنه اليدان والرجلان، وذهب داود، وربيعة: إلى أنه اليدان فقط.
وذهب عطاء إلى أنه اليد اليمنى خاصة.
استدل الحنفية، والحنابلة بأدلة: منها ما يخص اليد اليمنى، ومنها ما يعم اليد اليمنى، والرجل اليسرى.
أما ما يخص اليد اليمنى: فقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: ٣٨].
ووجه الدلالة: أن المراد بأيديهما: أيمانهما لقراءة عبد الله بن مسعود: فاقطعوا أيمانهما، وهي خبر مشهور مقيد لإطلاق الآية، فالذي يقطع من السارق والسارقة بنص الآية اليد اليمنى، فاليد اليسرى خارجة من إطلاق الآية بهذه القراءة، ولم يثبت في السنة من طريق صحيح تعلق القطع بها في السرقة، فعلم من ذلك أنها ليست محلا للقطع.
وأما ما يعم اليد اليمنى، والرجل اليسرى: فأولا: ما رواه الدارقطني عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فإن عاد ضمنته السجن حتى يحدث خيرا، إني لأستحي من الله أن أدعه ليس له يد يأكل بها، ويستنجي بها، ورجل يمشي عليها.
وثانيا: ما رواه ابن أبي شيبة أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن السارق، فكتب إليه بمثل قول علي.
وثالثا: ما رواه ابن أبي شيبة أن عمر- رضي الله عنه- قال: «إذا سرق فاقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله، ولا تقطعوا يده الأخرى، وذروه يأكل بها ويستنجي بها».
ورابعا: ما رواه ابن أبي شيبة أن عمر- رضي الله عنه- استشار الصحابة في سارق، فأجمعوا على مثل-
380
وقوله سبحانه: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ... الآية:
- قول علي.
فهذه الآثار جميعها صريحة في أن ما يقطع من السارق إنما هو اليد اليمنى، والرجل اليسرى، ثم إن عاد إلى السرقة بعد قطعهما، أودع السجن حتى يظهر صلاح حاله.
واستدل المالكية، والشافعية بأدلة: منها ما يخص اليدين، ومنها ما يعم اليدين والرجلين.
أما ما يخص اليدين: فأولا: قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: ٣٨] فإن اسم السيد يطلق على اليد اليسرى، كما يطلق على اليد اليمنى... وقد أمر الله- تعالى- بقطع يدي كل من السارق والسارقة، فظاهر النص قطعهما معا لولا قيام الإجماع على عدم قطعهما معا في سرقة واحدة، وعلى عدم الابتداء باليسرى.
وأجيب عنه بأن نص الآية لا يتناول اليد اليسرى لتقييده باليمنى من قراءة عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-.
وثانيا: ما رواه مالك في «الموطأ» عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه أن رجلا من اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر الصديق، فشكا إليه أن عامل اليمن ظلمه، فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر- رضي الله عنه- وأبيك ما ليلك بليل سارق ثم إنهم غدوا عند أسماء بنت عيمس امرأة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- فجعل الرجل يطوف معهم، ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاء به، فاعترف الأقطع، أو شهد عليه، فأمر به أبو بكر فقطعت يده اليسرى. وقال أبو بكر: لدعاؤه على نفسه أشد عليه من سرقته فهذا أشد صريح في أن اليد اليسرى محل للقطع، وإلا لما صح لأبي بكر قطعها.
وأجيب عنه: بأن سارق حلي أسماء لم يكن أقطع اليد، والرجل، بل كان أقطع اليد اليمنى فقط، فقد قال محمد بن الحسن في «موطئه» : قال الزهري: ويروى عن عائشة قالت: إنما كان الذي سرق حلي أسماء أقطع اليد اليمنى، فقطع أبو بكر رجله اليسرى، قال: وكان ابن شهاب أعلم بهذا الحديث من غيره.
وأما ما يعم اليدين، والرجلين: فما رواه الدارقطني من طريق الواقدي، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سرق السّارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله» فهذا الحديث صريح في أن القطع يتعلق بجميع أطراف السارق.
وأجيب عنه: بأنه لا يصلح للاحتجاج، فإن في طريقه الواقدي، وفيه مقال، وقد روي هذا المعنى من طرق كثيرة لم تسلم من الطعن. فقد قال الطحاوي: تتبعنا هذه الآثار، فلم نجد بشيء منها أصلا ومما يدل على عدم صلاحيته للحجبة عدم استدلال الصحابة به حينما استشارهم علي- رضي الله عنه- في سارق أقطع اليد والرجل، فلم يقطعه، وجلده جلدا شديدا، ودعوى الجهل به بعيدة، فإن مثل هذا لا يخفى على الصحابة- رضوان الله عليهم- فعدم احتجاجهم به ليس إلا لضعفه، أو نسخه، فإن الحدود كان فيها تغليظ في الابتداء، ألا ترى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قطع أيدي العرنيين، وسمل أعينهم، ثمّ نسخ ذلك.
واستدل داود، ومن وافقه بقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: ٣٨].
ووجه الدلالة: أن الله- تعالى- قد نص على قطع اليدين، ولم ينص على قطع الرجلين، فلو كان قطع الرجلين مطلوبا لأمر به- تعالى- والسنة لم يرد فيها من طريق صحيح ما يفيد قطعهما في السرقة، والذي ورد في السنة صحيحا جميعه يتعلق بقطع اليد، فقد قال- عليه الصلاة والسلام-: «لو سرقت فاطمة بنت-
381
جمهورُ العلماءِ على أَنَّ توبة السارق لا تُسْقِطُ عنه القَطْعَ، وقال الشافعيُّ: إذا تاب السارق قبل أنْ يتلبَّس الحُكَّام بأخْذه، فتوبته تَدْفَعُ عنه حُكْمَ القطع قياساً على توبة المُحَارِبِ.
وقوله سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أي: فلا معقِّب لحكمه سبحانه، ولا معتَرِضَ عليه، يفعلُ ما يَشَاء لا إله إلا هو.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
- محمّد لقطع محمّد يدها». وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع اليد إلّا في ربع دينار فصاعدا» وأمثال ذلك كثير كله متعلق بقطع اليد، ولم يرد الرجل فيها ذكر، وفي ذلك دليل صحيح على أن القطع إنما يتعلق باليدين دون الرجلين وأجيب عنه من قبل الحنفية، والحنابلة بأنه لا دلالة في الآية على أن اليد اليسرى محل للقطع، فإن المراد من قوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أيمانهما. لقراءة عبد الله بن مسعود: «فاقطعوا أيمانهما» وقطع الرجل اليسرى قد ثبت بالسنة الصحيحة، وإجماع الصحابة على ذلك مما يقطع بصحة السنة الواردة بقطع الرجل اليسرى بعد قطع اليد اليمنى.
واستدل عطاء بقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: ٣٨].
فإن المراد من قوله: «أيديهما» أيمانهما لقراءة عبد الله: «فاقطعوا أيمانهما»، فإنها مقيدة لإطلاق الآية، فاليد اليسرى ليست مرادة، ولم يثبت في السنة من طريق صحيح قطع غيرها من الأطراف، فوجب الاقتصار عليها.
وأجيب عنه: بأن السنة الصحيحة قد أثبتت قطع الرجل اليسرى في السرقة، وقام الإجماع على ذلك.
هذا والراجح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، من أن محل القطع إنما هو اليد اليمنى، والرجل اليسرى، لقوة أدلته، أو لأن القطع إنما شرع للزجر لا للإتلاف، وفي استيفاء الأطراف الأربعة بالقطع إتلاف، أو شبهة إتلاف، وشبهة الإتلاف منزل منزلة الإتلاف فيما يدرأ بالشبهات، والزجر يتحقق بالقطع مرتين، فإن إزالة عضوين من الجسم لهما قيمتهما في البطش، والمشي لأبلغ عظة وأقوى زاجرا لمن خبثت نفسه، ومال به هواه.
ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشهاوي.
382
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ... الآية: تسليةٌ لنبيِّه- عليه السلام- وتقويةٌ لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين واليهود، والمعنى: قد وعَدْناك النصْرَ والظهورَ عليهم، فلا يحزنْكَ ما يقعُ منهم، ومعنى المسارعة في الكُفْرِ: البِدَارُ إلى نَصْره، والسعْيُ في كيد الإسلام، وإطفاءِ نوره، قال مجاهدٌ وغيره:
قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يراد به المنافقون «١» /.
وقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ: يراد به اليهودُ، ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين لأن جميعهم يَسْمَعُ الكذبَ، بعضَهُم مِنْ بعض، ويقبلونه ولذلك جاءَتْ عبارة سَمَاعهم في صيغَةِ المبالغة إذِ المرادُ أنهم يُقْبِلُونَ ويستزيدون من ذلك.
وقوله سبحانه: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ: يحتمل أنْ يريد: يَسْمَعُون منهم، وذكر الطبريُّ «٢» عن جابر أن المراد بالقوم الآخرينَ يَهُودُ فَدَكَ «٣»، وقيل: يهود خَيْبَر، ويحتمل أنْ يكون معنى سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ بمعنى: جواسيسَ مُسْتَرِقِينَ الكلامَ لينقلوه لقوم آخرينَ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقُونَ ويهودُ المدينة، قلْتُ: وهذا هو الذي نَصَّ عليه ابنُ إسحاق في السِّيَرِ «٤».
قال ع «٥» : وقيل لسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: هل جرى للجاسُوسِ ذكْرٌ في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ.
وقوله سبحانه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ: هذه صفةُ اليهود في معنى ما حرَّفوه من التوراةِ، وفيما يحرِّفونه من الأقوال عند كذبهم مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ، أي: من بعد أن وضع مواضعه، وقصدت به وجهه القويمة، يقولون إن أوتيتم هذا، فخذوه، روي أنَّ يهود فَدَك قالوا ليهودِ المدينةِ: استفتوا محمَّداً، فإن أفتاكم بما نَحْنُ عليه من الجَلْد والتَّجْبِيَةِ، فخذوه، وإن أفتاكم بالرَّجْم، فاحذروا الرجْمَ قاله الشعبيُّ وغيره «٦» وقيل غير هذا من وقائعهم، فالإشارة ب هذا إلى التحميمِ والجَلْدِ في الزنا، على قولٍ، ثم قال
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٧٤) برقم (١١٩٣١)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٩١).
(٢) ينظر: «الطبري» (٤/ ٥٧٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٧٤) برقم (١١٩٣٣)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٩٢).
(٤) ذكره ابن عطية، (٢/ ١٩٢).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٩٢).
(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٧٧) برقم (١١٩٤٠). [.....]
383
تعالى لنبيِّه- عليه السلام- على جهة قَطْع الرجاء منهم: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي: محنَتَهُ بالكفر، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سَبَقَ لهم في علْمه ألاَّ يطهِّر قلوبَهُم، وأنْ يكونوا مُدَنَّسِينَ بالكُفْر، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ بالذِّلَّة والمَسْكَنة الَّتي ضُرِبَتْ عليهم في أقطار الأرْضِ، وفي كلِّ أُمَّة.
قال ص: سَمَّاعُونَ، أي: هم سمَّاعون، ومثله أكَّالون. انتهى.
وقوله سبحانه: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ: فعَّالون بناءُ مبالغة، أي: يتكرَّر أَكْلُهم، ويَكْثُر، والسُّحْت: كل ما لا يَحِلُّ كسبه من المال.
وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ: تخييرٌ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ولحكَّامِ أُمَّتِهِ بعده، وقال ابنُ عباس وغيره: هذا التخْييرُ منسوخٌ بقوله سبحانه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «١» [المائدة: ٤٩]، وقال كثيرٌ من العلماء: هي مُحْكَمَة، وهذا هو الأظهر إن شاء اللَّه، وفِقْهُ هذه الآية أنَّ الأَمَّة مُجْمِعَة فيما علمتُ على أنَّ حاكم المسلمين يحْكُمُ بيْنَ أهْل الذمَّة في تظالمهم، وأمَّا نوازل الأحْكَام التي لا تَظَالُمَ فيها، فالحاكمُ مخيَّر، وإذا رضي به الخَصْمان، فلا بد من رضا أساقِفَتِهِمْ أو أحبارهم قاله ابن القاسِمِ في «العتبية»، قلت: وعبارة الداوديُّ قال مالك: ولا يَحْكُمُ بينهم، إذا اختار الحكم إلا في المظالم، فيحكم بينهم بما أنزل اللَّه، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أنْ يعلنوه، فيعاقَبُونَ بسبب إعلانه، ثم يردُّون إلى أساقفتهم، قال مالك: وإنما رجم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اليهودِيَّيْنِ قبل أنْ تكون لهم ذمَّة. انتهى.
وقال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» : إنما أَنْفَذَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحُكْمَ بينهم ليحقِّق تحريفَهُم، وتبديلَهم، وكَذِبَهم، وكَتْمَهم ما في التوراة، / ومنه صفته صلّى الله عليه وسلّم فيها، والرجْمُ على زناتهم، وعنه أخبر اللَّه تعالى بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة: ١٥] فيكون ذلك من آياته الباهرةِ، وحُجَجِهِ البيِّنة، وبراهينِهِ القاطعةِ الدَّامغة للأَمَّة المُخْزية اليهودية. انتهى.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً: أمَّنَ اللَّه سبحانَهُ نبيَّه من ضررهم، إذا أعْرَضَ عنهم، وحقَّر في ذلك شأنهم، وَإِنْ حَكَمْتَ، أي: اخترت الحكْمَ في نازلةٍ مَّا، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، أيْ: بالعدل، ثم قال سبحانه:
(١) ذكره ابن عطية (٢/ ١٩٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٠٣)، وعزاه لابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه»، والطبراني، والحاكم، وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.
384
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ المعنى: وكيفَ يحكِّمونك بنيَّةٍ صادقةٍ، وهم قد خالفوا حُكْمَ التوراة التي يصدِّقون بها، وتولَّوْا عن حُكْمِ اللَّه فيها فأنْتَ الذي لا يؤمِنُونَ بك- أحرى بأن يخالفوا حُكْمَك، وهذا بيِّن أنهم لا يحكِّمونه- عليه السلام- إلا رغبةً في ميله إلى أهوائهم.
وقوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أي: مِنْ بعد كونِ حكمِ اللَّه في التوراة في الرجْمِ وما أشبهه.
وقوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني: بالتوراة وبموسى.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٤]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
وقوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً، أي: إرشاد في المعتقَدِ والشرائعِ، والنورُ: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، والنَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا: هم مَن بُعِثَ من لدنْ موسَى بنِ عمرانَ إلى مدة نبيِّنا محمَّد- عليه السلام-، وأسلموا: معناه أخْلَصُوا وجوهَهُم ومقاصِدَهم للَّه سبحانه، وقوله: لِلَّذِينَ هادُوا: متعلِّق ب يَحْكُمُ أي:
يَحْكُمُونَ بمقتضَى التوراةِ لبني إسرائيل وعليهم، وَالرَّبَّانِيُّونَ: عطف على النبيِّين، أي:
ويحكم بها الرَّبَّانِيُّون، وهم العلماءُ، وقد تقدَّم تفسير الرَّبَّانِيِّ، والأحْبَارُ أيضاً: العلماءُ، واحدُهم: حِبْرٌ- بكسر الحاء، وفتحها-، وكثُر استعمال الفَتْح فرقًا بينه وبين «الحِبْرِ» الذي يُكْتَبُ به، وإنما اللفظ عامٌّ في كلِّ حَبْرٍ مستقيمٍ فيما مضى من الزمان قبل مبعَثِ نبيِّنا محمد- عليه السلام-.
وقوله سبحانه: بِمَا اسْتُحْفِظُوا، أي: بسبب استحفاظ اللَّه تعالى إياهم أمر التَّوْراة، وأخْذِهِ العهدَ علَيْهم في العملِ والقَوْلِ بها، وعرَّفهم ما فيها، فصَارُوا شُهَداء عليه، وهؤلاء ضيَّعوا لَمَّا استحفظوا حتى تبدَّلتِ التوراةُ، والقُرآنُ بخلافِ هذا لقوله تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩].
وقوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ: حكايةٌ لما قيل لعلماء بني إسرائيل.
وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا: نَهْيٌ عن جميع المكاسِبِ الخبيثةِ بالعلْمِ والتحيُّلِ للدنيا بالدِّين، وهذا المعنى بعينه يتناوَلُ علماء هذه الأمة وحُكَّامَها، ويحتملُ أنْ يكون قوله:
385
واختلف العلماء في المراد بقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.
فقالتْ جماعة: المرادُ: اليهودُ بالكافرين والظَّالمين والفاسِقِينَ وروي في هذا حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ طريق البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قال الفَخْر «١» : وتمسَّكت الخوارجُ بهذه الآية في التكْفِير بالذَّنْب، وأجيبَ بأنَّ الآية نزلَتْ في اليهود، فتكون مختصَّة بهم، قال الفَخْر:
وهَذا «٢» ضعيفٌ لأن الاعتبار بعمومِ اللفظِ، لا بخصوصِ السبَبِ/.
قلْتُ: وهذه مسألةُ خلافٍ في العامِّ الوارِدِ على سببٍ، هَلْ يبقى على عمومه، أو يُقْصرُ على سببه «٣» ؟ انتهى.
وقالتْ جماعة عظيمةٌ من أهل العلمِ: الآيةُ متناولة كلَّ مَنْ لم يحكُمْ بما أنزل اللَّه، ولكنَّها في أمراء هذه الأمَّة- كُفْرُ معصية لا يخرجهم عن الإيمان «٤»، وهذا تأويل حسن،
(١) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٦).
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٦).
(٣) ينظر: «تفعيل مذاهب علماء الأصول في البحر المحيط» (٣/ ٢١٢).
(٤) قد ورد في القرآن آيات يؤخذ منها حكم ترك العلم بما أنزله الله تعالى من الأحكام. ومن تلك الآيات قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: ٤٤]. وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: ٤٥]. وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: ٤٧]. وقوله: فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: ٦٥].
ففي الآيات الأول وصف الله- تعالى- من لم يحكم بما أنزله بالكفر، والظلم والفسق، وفي الآية الأخيرة أقسم أنه لا يوجد الإيمان إلا إذا حكم الرسول في الشجار، ولم يوجد في النفوس حرج من حكمه، وسلم له كل التسليم. وذلك لأن الرسول لا يحكم إلا بما يشرعه الله له. فمن لم يرض بحكمه، فهو غير راض بشرعه، تعالى، وذلك يقتضي عدم الإيمان. ثم إن الكفر، والظلم والفسق التي وصف الله تعالى بما من لم يحكم بما أنزله واردة في تلك الآيات بمعناها اللغوي. وهي في اللغة تصدق على كل معصية، سواء كانت كفرا أو غيره، فمن فعل معصية دون الكفر صدق عليه لغة أنه كافر، وظالم، وفاسق. وكذلك من كفر بالله تعالى يصدق عليه في اللغة أنه كافر وظالم وفاسق. وعلى هذا فهذه الآيات محتملة لأن يراد منها الكفر الاصطلاحي وهو الخروج من الملة، ولأن يراد منها ما دون ذلك من المعاصي. ولهذا اختلفت أقوال المفسرين فيها فمنهم: من حمل الكفر وغيره فيها على الاصطلاحي وقال: إنها خاصة بأهل الكتاب. ومنهم من قال: المراد من هذه الأوصاف ما دون الكفر الاصطلاحي من المعاصي الكبيرة، ومن هؤلاء ابن عباس، وعلي بن الحسين فقد نقل عنهما أنهما قالا فيها: كفر ليس ككفر الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك. والمراد: أن عدم الحكم بما أنزل الله، وتركه إلى غيره ليس كفرا بمعنى الخروج من الدين، ولكنه من أكبر الذنوب. -
386
وقيل لحذيفة بْنِ اليَمَان: أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل، فقال: نِعْمَ الإخْوَةُ لَكُمْ بنو
- والمختار في ذلك التفصيل وهو أن من ترك ذلك استقباحا لحكمه تعالى، أو استهزاء به، أو ترجيحا لغيره عليه فهو كافر بمعنى أنه خارج من الدين. ومن تركه لغلبة الهوى عليه، أو لعلة أخرى غير الاستقباح والاستهزاء، والترجيح للغير فقد فعل ذنبا كبيرا لكنه دون الكفر. وكذلك يفصل في مفهوم الآية الأخيرة بأن يحمل النفي الوارد فيها على نفي أصل الإيمان إذا كان ترك تحكيم الرسول استقباحا أو استهزاء بشرعه، وعلى نفي كمال الإيمان إذا كان تركه لعلة أخرى غير ذلك لا توجب الكفر، وهذا التفصيل في مفهوم الآيات إنما أخذه العلماء من قواعد الدين التي تفيد ذلك.
ومن هنا يعلم حكم العمل بالقوانين الوضعية، وهو أن من عمل بها مستقبحا لحكمه تعالى أو مستهزئا به فهو كافر بمعنى أنه خارج من الدين، ومن عمل بها لعلة أخرى كغلبة الهوى، أو جهل أن الشريعة الإسلامية يوجد بها من القوانين ما يصلح لأن يتحاكم إليه، فقد ارتكب إثما عظيما، لكنه دون الكفر.
وإذا علم هذا فعلى من تقع المسئولية والإثم في ترك حكمه تعالى؟ والجواب: أن الإثم في ذلك يقع على جميع الأمة لأن القيام بتنفيذ أحكامه- تعالى- من فروض الكفايات التي إن لم يقم بها البعض يأثم الجميع، غير أن الإثم في ذلك يتفاوت بالنسبة لأقدار أفراد الأمة. فأصحاب الرأي والنفوذ الذين يمكنهم أن يطالبوا ويسعوا للعمل بحكمه تعالى إثمهم في ترك ذلك أعظم من أثم عامة الأمة الذين ليس لهم من الرأي والنفوذ مثلهم.
وليس الإثم خاصا بالقاضي الذي يحكم بهذه القوانين بل الإثم متعلق بكل الأمة كما قلنا. نعم إن القاضي يختص بإثم خاص غير الإثم الذي يشارك فيه الأمة، وهو إثم المساعدة على تنفيذ غير حكمه تعالى، فكان الواجب عليه، حيث لم يستطع الحكم بما أنزل الله تعالى ألّا يحكم بغيره. وقد يكون العمل بهذه القوانين لا إثم فيه لا على الأمة، ولا على القاضي، وذلك إذا غلبت أمة مسلمة على أمرها، ولم يكن لها من الأمر شيء، وأجبرتها الدولة الغالبة على العمل بهذه القوانين الوضعية، بحيث لم تستطع العمل بقانون دينها، ففي هذه الحالة لا إثم على الأمة، ولا على القاضي إذا كان لا يمكن التنحي عن الحكم بهذه القوانين بل قد يثاب على حكمه بها إذا كانت مصلحة أمته في قيامه هو بالحكم دون غيره لأنه في مثل هذه الحالة لا تكون دار هذه الأمة المغلوبة دار إسلام بل دار حرب، ودار الحرب يجوز فيها التعامل بالعقود الفاسدة في المعاملات والحدود، ونحوها لأن أغلبها موكول لاجتهاد الحاكم أما العبادات وما في معناها كالطلاق والنكاح فلا يجوز العمل فيها بغير حكمه تعالى بأي حال من الأحوال. ثم إذا نظرنا للواقع عندنا في ديارنا المصرية نجد أن الدافع للعمل بهذه القوانين لم يكن استقباح حكمه تعالى، أو تفضيل غيره عليه حتى يكون كفرا بمعنى الخروج من الدين وإنما الدافع إليه هو عدم العلم بما في التشريع الإسلامي من المزايا التي تجعله صالحا لمسايرة أحوال المجتمع، وأن يستنبط منه ما يفوق هذه التنظيمات في إقامة العدل، وإصلاح النظام. يدلك على هذا أن الدولة العلية عند ما أدخلت هذه القوانين في محاكمها كانت تقصد من ذلك تحقيق مصلحة الأمة، بدليل ما جاء في مرسوم العمل بهذه التنظيمات الذي أصدره السلطان عبد المجيد من أن الأخذ بها لا ينافي الدين لأنه يحث على الإصلاح والنظام، واستصدر فتوى من شيخ الإسلام حينئذ هناك بأن ذلك لا ينافي الإسلام، ثم تبعتها مصر في العمل بتلك التنظيمات على ذلك القصد، ثم أدخلت فيها قوانين أوربا الحديثة على اعتبار أنها نوع من ذلك الإصلاح.
فالدافع الحقيقي هو حب الإصلاح، والميل إلى تقليد أوربا في أنظمة حكمها، لا كراهية أحكام الدين، -
387
إسْرَائِيلَ، إنْ كَانَتْ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ، وَلَهُمْ كلّ مرّة، لتسلكنّ طريقهم قذّ الشّراك «١».
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
وقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ... الآية، أي: وكتبنا على بني إسرائيل في التوراة، ومعنى هذه الآية: الخَبَرُ بأن اللَّه تعالى كتَبَ فرضاً على بني إسرائيل أنه مَنْ قَتَل نفساً، فيجب في ذلك أخْذُ نفسه، ثم هذه الأعضاءُ المذكورةُ كذلك، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأُمَّة بما علم من شرع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس: «ورخَّص اللَّه لهذه الأُمَّة، ووسَّع لها بالدِّيَة، ولم يجعلْ لبني إسرائيل ديةً فيما نَزَّل على موسى «٢»، والجمهور أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ: عمومٌ يراد به الخصوصُ في المتماثلين كما ورد في الحديث، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» «٣»، وكذلك قوله سبحانه: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ: عموم
- ولولا تقاعس العلماء عن الجد في استنباط أنظمة من التشريع الإسلامي تساير هذه الأنظمة في سهولتها وترتيبها ما لجأت الحكومات الإسلامية إلى العمل بهذه القوانين. ويدلك على هذا أن الخديوي إسماعيل باشا كان قد طلب من العلماء أن يستنبطوا له من الشرع الإسلامي قوانين مرتبة كترتيب قوانين أوربا لتكون قانونا للمحاكم المصرية: فاختلفوا وتكاسلوا فما وسعه إلا العمل بهذه القوانين. هكذا رأيت في بعض الكتب.
وعلى هذا، فالعمل بهذه القوانين في بلادنا ليس كفرا لما تبين لك من الدافع إليه- اللهم إلا إذا كان بعض الحكام والقضاة يستقبح حكمه تعالى أو يستهزىء به- فإن من يفعل ذلك منهم يكون كافرا- وإنما العمل بها من الذنوب الكبيرة التي هي دون الكفر، وليس العمل بهذه القوانين إجباريا من الدولة الإنجليزية المحتلة لبلادنا لأن الأخذ بهذه التنظيمات كان من أيام تبعيتها للدولة العلية. والإنجليز بما عرف عنهم من عدم التعرض للشؤون الداخلية في البلاد التي يحكمونها لا يعارضون إذا أرادت الأمة العمل بقانون دينها فلا يقال: إنا مرغمون على العمل بها فلا إثم علينا، فإذا أرادوا الخروج من الإثم فما عليهم إلا المبادرة بتأليف لجنة تقتبس من التشريع الإسلامي قانونا منظما كهذه القوانين، وما أيسر ذلك وأقربه، ثم إحلاله عند إتمامه محل هذه القوانين بالمحاكم. إنهم إن بادروا بذلك خرجوا من الإثم وأرضوا عنهم خالقهم وأمتهم، وكفلوا لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة، ونسأله تعالى التوفيق.
ينظر: «قضاء الإسلام» لشيخنا علي سيد أحمد.
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٩٦).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٥٩٩) (١٢٠٧٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٩٧).
(٣) أخرجه أبو داود (٤/ ٦٧٠)، كتاب «الديات»، باب إيقاد المسلم بالكافر، حديث (٤٥٣١)، والترمذي (٤/ ٢٥) كتاب «الديات»، باب دية الكافر، حديث (١٤١٣) وابن ماجة (٢/ ٨٨٧) كتاب «الديات»، باب لا يقتل مسلم بكافر، حديث (٢٦٥٩) وأحمد (٢/ ١٩٤) والبيهقي (٨/ ٢٩- ٣٠) كتاب «الجنايات»، باب لا قصاص باختلاف الدينين كلهم من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده به.
وقال الترمذي: حديث حسن.
يراد به الخصوصُ فيما لا يخافُ منها على النفْسِ، وكُتُبُ الفقْهِ محَلُّ استيعابِ الكلامِ على هذه المعانيِ.
قال ص: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ، أيْ: ذاتُ قصاصٍ. انتهى.
وقوله سبحانه: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، المعنى: أنَّ من تصدَّق بجُرْحه أو دمِ وليه، وعفا، فإنَّ ذلك العَفْوَ كفَّارة لذنوبه يعظم اللَّه أجره بذلك، قال ابن عمر وغيره «١»، وفي معناه حديثٌ مرويٌّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قلت: وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ فِي جَسَدِهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ إلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً»، رواه الترمذيُّ «٢». انتهى.
وقيل: المعنى: فذلك العفو كفَّارة للجارحِ عن ذلك الذنْبِ كما أن القِصَاص كفَّارة، فكذلك العفو كفَّارة وأما أجر العافي، فعلى اللَّه تعالى قاله ابن عبَّاس وغيره «٣».
وقيل: المعنى: إذَا جنى جانٍ، فجُهِلَ، وخَفِيَ أمره، فتصدَّق هذا الجاني بأن اعترفَ بذلك، ومكَّنَ من نفسه فذلك الفعل كفّارة لذنبه.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٦ الى ٥٠]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٠٠) وعزاه لعبد الله بن عمر، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٩٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» بنحوه (٢/ ٥١١)، وعزاه للديلمي عن ابن عمر.
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ١٤- ١٥)، كتاب «الديات»، باب ما جاء في العفو، حديث (١٣٩٣)، وابن ماجة (٢/ ٨٩٨) كتاب «الديات»، باب العفو في القصاص، حديث (٢٦٩٣) كلاهما من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن أبي الدرداء به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء، وأبو السفر اسمه: سعيد بن أحمد ويقال: ابن محمد الثوري.
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ٦٠١، ٦٠٢) برقم (١٢٠٩١، ١٢١٠٣)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٩٨)، والسيوطي (٢/ ٥١١) وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.
389
وقوله سبحانه: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ... الآية: الضمير في آثارِهِمْ للنبيِّين.
وقوله: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ: خُصَّ المتقون بالذِّكْر لأنهم المقصودُ به في عِلْمِ اللَّه وإنْ كان الجميعُ يدعى إلى توحيدِ اللَّه، ويوعَظُ، ولكنَّ ذلك على غَيْرِ المتَّقين عَمًى وحَيْرةٌ.
وقرأ حمزة «١» وحده: «وَلِيَحْكُمَ» - بكسرِ اللامِ، وفتحِ الميمِ- على «لام كَيْ»، ونصبِ الفعلِ بها، والمعنى: وآتيناه الإِنجيل ليتضمَّن الهدى والنور والتصديق، ولِيَحْكُمَ أهله بما أنزل اللَّه فيه، وقرأ باقي السبْعَةِ: «وَلْيَحْكُمْ» - بسكون لامِ الأمرِ، وجزمِ الفعلِ-، ومعنى أمره لهم بالحكم: أي: هكذا يجبُ عليهم.
قُلْتُ: وإذْ من لازم حكمهم بما أنزلَ اللَّه فيه اتباعهم لنبيِّنا محمد- عليه السلام- والإيمانُ به كما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيلِ، قال الفَخْر «٢» : قيل: المرادُ:
ولْيحكُمْ أهل الإنجيل بما أنزل اللَّه فيه من الدلائلِ الدالَّة على نبوَّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم قيل:
والمرادُ بالفاسقين: مَنْ لم يَمْتَثِلْ من النصارَى. انتهى، وحَسُن عَقِبَ ذلك التوقيفُ على وعيدِ/ مَنْ خالف ما أنزل اللَّه.
وقوله سبحانه: وَمُهَيْمِناً، أي: جعل اللَّه القُرآن مهيمناً على الكُتُب، يشهد بما فيها من الحقائقِ، وعلى ما نسبه المحرِّفون إليها، فيصحِّح الحقائق، ويُبْطِلُ التحريفَ، وهذا هو معنى مُهَيْمِناً، أي: شاهدٌ، ومصدِّقٌ، ومؤتَمَنٌ، وأمينٌ حسَبَ اختلافِ عبارة المفسِّرين في اللفظة، وقال المبرِّد: «مهَيْمِن» : أصله «مؤيمن» بني من «أمين» أبدلت
(١) وحجة الباقين في تسكين الميم: أن الله- سبحانه- أمرهم بالعمل بما في الإنجيل، كما أمر نبينا صلّى الله عليه وسلّم في الآية التي بعدها بالعمل بما أنزل الله إليه في الكتاب بقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.
ينظر: «السبعة» (٢٤٤)، و «الحجة» (٣/ ٢٢٧)، و «حجة القراءات» (٢٢٧)، و «العنوان» (٨٧)، و «شرح شعلة» (٣٥١)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٢٣٠)، و «إتحاف» (١/ ٥٣٦)، و «معاني القراءات» (١/ ٣٢٢). [.....]
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ١٠).
390
همزتُهُ هاءً كما قالوا: أَرَقْتُ المَاءَ، وَهَرَقْتُهُ واستحسنه الزَّجَّاج.
وقوله سبحانه: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ: المعنى عند الجمهور: إن اخترت أنْ تحكم، فاحكم بينهم بما أنْزَلَ اللَّه، وليسَتْ هذه الآيةُ بناسخةٍ لقوله: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: ٤٢].
ثم حذَّر اللَّه تعالى نبيَّه- عليه السلام- من اتباع أهوائهم.
وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، أي: لكلِّ أمة قاله الجمهور، وهذا عندهم في الأحكامِ، وأما في المعتَقَدَاتِ، فالدِّين واحدٌ لجميع العالَمِ، ويحتملُ أنْ يكون المرادُ الأنبياءَ، لا سيَّما وقد تقدَّم ذكرهم، وذكر ما أُنْزِلَ عليهم، وتجيء الآيةُ، معَ هذا الاحتمال تنبيهاً لنبيِّنا محمَّد- عليه السلام-، أيْ: فاحفظ شرعتك ومنهاجَكَ لئلاَ تستزلَّك اليهودُ، أو غيرُهم في شيء منْه، وأكثرُ المتأوِّلين على أن الشِّرْعَة والمِنْهَاجَ بمعنًى واحدٍ، وهي الطريقُ، وقال ابن عباس وغيره: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً: سبيلاً وسُنَّة «١»، ثم أخبر سبحانه أنه لَوْ شاء، لَجَعَل النَّاس أُمَّةً واحدةً، ولكنه لم يشأْ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم مِنَ الكُتُب والشرائع كذا قال ابنُ جُرَيْج «٢» وغيره.
ثم أمر سبحانه باستباق الخيراتِ في امتثال الأوامر، وخَتَمَ سبحانه بالموعظةِ والتَّذْكير بالمعادِ، فقال: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً، والمعنى: فالبِدَار البِدَارَ.
وقوله سبحانه: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، معناه: في الثَّوَاب والعقَاب، فتُخْبَرُونَ به إخبار إيقاعٍ، وهذه الآية بارعةُ الفَصَاحة، جَمَعتِ المعانِيَ الكثيرةَ في الألفاظِ اليسيرة، وكُلُّ كتابِ اللَّه كذلك، إلاَّ أنَّا بقصورِ أفهامنا يَبِينُ لنا في بَعْضٍ أكثرُ ممَّا يبينُ لنا في بعض.
وقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ... الآية: الهوى مقصورٌ يجمعُ على أهْوَاء، والهَوَاء ممدودٌ يُجْمع على أَهْوِيَةٍ، ثم حذَّر تعالى نبيَّه- عليه السلام- من اليهودِ أنْ يفتنوه بأنْ يَصْرِفُوه عن شيء ممَّا أنزل الله عليه من الأحكام
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦١١) (١٢١٤٣)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٢/ ٤٣)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٠١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥١٣)، وعزاه لعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، من طرق عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦١٢) برقم (١٢١٥٤).
391
لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا له مراراً: احكم لنا في نازلةِ كَذَا بكَذَا، ونَتَّبِعَكَ على دينك.
وقوله سبحانه: فَإِنْ تَوَلَّوْا، قبله محذوفٌ، تقديره: فإِنْ حكَّموك واستقاموا، فَنِعِمَّا ذلك، وَإِن تَوَلَّوْا، فَاعْلَمْ... الآية، وخصَّص سبحانه إصابتهم ببَعْض الذنوبِ دون كلِّها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا، وذنُوبُهم نوعانِ: نوعٌ يخصُّهم، ونوعٌ يتعدى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنين، وبه توعَّدهم اللَّه في الدنيا، وإنما يعذَّبون بالكُلِّ في الآخرة.
وقال الفَخْر «١» : وجوزُوا ببَعْض الذنوبِ في الدنيا، لأنَّ مجازَاتهُمْ بالبَعْض- كافٍ في إهلاكهم وتدميرِهِمْ. انتهى.
وقوله سبحانه: فَاعْلَمْ... الآية: وعد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد أنجزه بقصَّة بني قَيْنُقَاعٍ، وقصَّةِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، وإجلاءِ عُمَرَ أهْلَ خيبَرٍ وفَدَك وغيرهم.
وقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ/ لَفاسِقُونَ: إشارة إليهم، ويندرجُ في عمومِ الآية غَيْرُهُمْ.
وقوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ: إشارة إلى الكُهَّان الذين كانُوا يأخْذُون الحُلْوَان «٢»، ويحكُمُون بحَسَب الشهوات، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً، أي: لا أحد أحسنُ منه حكماً تبارك وتعالى.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ: نهى اللَّه سبحانه المؤمنين بهذه الآية عَن اتخاذِ اليهودِ والنصارى أولياءَ في النُّصْرة والخُلْطة المؤدِّية إلى الامتزاج والمعاضَدَة، وحُكْمُ هذه الآيةِ باقٍ، وكلُّ من أكثر مخالطة هذين الصّنفين، فله
(١) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ١٤).
(٢) حلوان الكاهن: هو ما يعطاه من الأجر والرشوة على كهانته.
ينظر: «النهاية» (١/ ٤٣٥) (حلن).
392
حَظُّه من هذا المَقْت الذي تضمَّنه قوله تعالى: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وسببُ نزولِ هذه الآيةِ أنَّه لَمَّا انقضت بدْرٌ وشَجَر أمر بني قينقاع، أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَتْلهم، فقام دُونَهم عبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ مخاصِماً، وقال: يا محمَّد، أَحْسِنْ في مَوَالِيَّ، فَإنِّي امرؤ أَخَافَ الدوائِرَ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قَدْ وهبتُهُمْ لك «١»، ونزلَتِ الآية في ذلك. وقوله عزَّ وجلَّ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ: جملةٌ مقطوعة من النَّهْيِ.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: إنحاء على عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ، وعلى كلِّ من اتصف بهذه الصفة.
وقوله سبحانه: فَتَرَى الَّذِينَ: المعنى: فترى يا محمد، الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إشارةً إلى عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ ومَنْ تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قَيْنُقَاعٍ.
وقوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ: لفظٌ محفوظٌ عن عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ ومن تبعه من المنافقين، ودَائِرَةٌ: معناه نَازِلَةٌ من الزمان، وإنما كان ابن أبيٍّ يظهر أنه يستَبْقِيهم لِنُصْرة النبيِّ- عليه السلام-، وأنه الرأْيُ، وكان يبطنُ خلافَ ذلك.
وقوله سبحانه: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وهو ظهور نبيه- عليه السلام-، وعلوّ كلمته، وتمكينُهُ مِنْ بني قَيْنُقَاعٍ وقريظَةَ والنَّضِيرِ، وفَتْحُ مكَّة، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يُهْلِكُ بِهِ أعداءَ الشرع، وهو أيضاً فتْحٌ لا يقع فيه للبَشَر سبَبٌ.
وقرأ ابن الزُّبَيْر «٢» :«فَيُصْبِحَ الفُسَّاقُ على مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادمين».
وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، قرأ «٣» نافعٌ وغيره: «يَقُولُ» - بغير واو-، وقرأ حمزة وغيره: «وَيَقُولُ»، وقرأ أبو عمرو وحْده:
«وَيَقُولَ» - بالواو، ونصبِ اللامِ- فذَهَبَ كثيرٌ من المفسِّرين إلى أنَّ هذا القولَ مِنَ المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتْحُ، وحصَلَتْ ندامةُ المنافقين، وفَضَحهم الله تعالى، فحينئذ:
(١) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (٤/ ٦١٥) (١٢١٦٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٠٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥١٥) وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير عن عطية بن سعد.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٠٥)، و «البحر المحيط» (٣/ ٥٢٠).
(٣) ينظر: «السبعة» (٢٤٥). و «الحجة» (٣/ ٢٢٩)، و «حجة القراءات» (٢٢٩)، و «العنوان» (٨٨)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٢٣٠)، و «شرح شعلة» (٣٥١)، وإتحاف» (١/ ٣٧)، و «معاني القراءات» (١/ ٣٣٣).
393
يقول المؤمنون: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا... الآية.
وتحتمل الآيةُ أنْ تكون حكايةً لقولِ المؤمنين في وقْتِ قولِ الذين في قلوبهم مرضٌ:
نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ: إذ فُهِمَ منهم أنَّ تمسُّكهم باليهودِ إنما هو إرصاد لِلَّهِ ولرسولِهِ، فمَقَتَهم النبيُّ- عليه السلام- والمؤمنون، وترك لهم النبيُّ- عليه السلام- بني قَيْنُقَاعٍ رغْبةً في المصلحة والأُلْفة، وأما قراءة أَبي عَمْرٍو: «وَيَقُولَ» - بالنصب-، فلا يتجه معها أَنْ يكون قولَ المؤمنين إلاَّ عند الفَتْح، وظُهورِ ندامة المنافقينَ، وفَضيحَتِهِمْ.
وقوله تعالى: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ: نصْبُ «جَهْدَ» على المصدر المؤكِّد، والمعنى:
أهؤلاء هم المُقْسِمُون باجتهاد منهم في الأيمانِ إنهم لَمَعَكُمْ، قد ظهر الآنَ منهم مِنْ موالاة اليهودِ، وخَذْلِ الشريعةِ- ما يُكَذِّبُ أيمانهم.
وقوله: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ: يحتملُ أنْ يكون/ إخباراً من اللَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يكون مِنْ قول المؤمنين، ويحتمل أنْ يكون قوله: حَبِطَتْ دعاءً، أي: بطلت أعمالهم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٤ الى ٥٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ... الآية: خطابٌ للمؤمنين إلى يوم القيامة، ومعنى الآية أَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ وعَدَ هذه الأمة أنَّ من ارتدَّ منها، فإنه يجيءُ سبحانه بقومٍ ينصُرُونَ الدِّين، ويُغْنُونَ عن المرتدِّين.
قال الفَخْر «١» : وقدَّم اللَّه تعالى محبَّته لهم على محبَّتهم له إذ لولا حُبُّه لهم، لما وفَّقهم أنْ صاروا محبِّين له. انتهى، وفي كتاب «القصد إلى اللَّه سبحانه» للمُحَاسِبِيِّ، قُلْتُ للشيخ: فَهَلْ يَلْحَقُ المحبِّينَ للَّه عزَّ وجلَّ خَوْفٌ؟ قال: نَعَمِ، الخَوْفُ لازمٌ لهم كما لزمهم الإيمَانُ لا يزولُ إلاَّ بزَوَاله، وهذا هو خَوْفُ عذابِ التَّقْصيرِ في بدايتهم حتى إذا صاروا
(١) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٢١).
394
إلى خَوْفِ الفَوْت، صاروا إلى الخوف الذي يكُونُ في أعلى حالٍ، فكان الخوف الأوَّلُ يطرقهم خطراتٍ، وصارِ خوْفُ الفَوْتِ وطنات، قلْتُ: فما الحالَةُ التي تَكْشِفُ عن قلوبهم شَدِيدَ الخَوْف والحُزْن؟ قال: الرجاءُ بحُسْن الظَّنِّ لمعرفتهم بسعة فَضْل اللَّه عزَّ وجلَّ، وأَمَلُهُمْ منه أنْ يظفروا بمرادهم، إذا وَرَدُوا عليه، ولولا حُسْن ظنِّهم بربِّهم، لَتَقطَّعت أنفسهم حسراتٍ، وماتوا كَمَداً، قلْتُ: أيُّ شيءٍ أكثَرُ شُغْلِهِمْ، وما الغالبُ على قلوبِهِمْ في جميعِ أحوالهم؟ قال: كثرةُ الذِّكْر لمحبوبهم على طريق الدوامِ والاستقامةِ، لا يَمَلُّونَ، ولا يَفْتُرُون، وقد أجمع الحكماءُ أنَّ من أحَبَّ شيئاً، أكْثَرَ مِنْ ذكره، ثم قال: قال ذُو النُّونِ: مَا أُولِعَ أحَدٌ بذكْرِ اللَّه إلا أفاد منْهُ حُبَّ اللَّهِ تعالَى. انتهى.
وفي الآية إنحاءٌ على المنافِقِينَ، وعلى من ارتد في مدة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال الفَخْر «١» : وهذه الآيةُ إخبارٌ بغَيْبٍ، وقد وقع الخَبَر على وَفْقِهِ فيكون معجزاً، وقد ارتدَّتِ العربُ وغيرهم أيام أبِي بَكْر، فنَصَر اللَّه الدِّين، وأتى بخَيْرٍ منهم. انتهى.
وقوله سبحانه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، معناه: متذلِّلين مِنْ قِبَلِ أنفسهم، غَيْرَ متكبِّرين، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: ٢٩] وكقوله- عليه السلام-: «المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ»، وفي قراءة «٢» ابن مسعودٍ: «أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ غُلَظَاءَ عَلَى الكَافِرِينَ».
وقوله تعالى: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ: إشارةٌ إلى الرَّدِّ على المنافقين في أَنَّهم يعتَذِرُونَ بممالأَة الأحْلاَفِ والمعارِفِ مِنَ الكفَّار، ويراعُونَ أمرهم، قُلْتُ: وخرَّج أبو بكرِ بْنُ الخطيبِ بسنده على أبي ذِر، قال: «أَوْصَانِي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِسَبْعٍ: أوْصَانِي أَنْ أَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ فَوْقِي- يعني: فِي شَأْنِ الدُّنْيَا-، وأوْصَانِي بِحُبِّ المَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ الحَقَّ وَإنْ كَانَ مُرًّا، وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإنْ أَدْبَرَتْ، وَأَوْصَانِي أَلاَّ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَوْصَانِي ألاَّ أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً، وَأَوْصَانِي أَنْ أسْتَكْثِرَ مِنْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ» «٣». انتهى.
وقوله سبحانه: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ: الإشارةُ ب «ذلك» إلى كون القومِ يحبّون الله
(١) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٢٠).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٠٨)، و «البحر المحيط» (٣/ ٥٢٤)، و «الدر المصون» (٢/ ٥٤٩).
(٣) أخرجه أحمد (٥/ ١٧٣) وذكره الهيثمي في «المجمع» (٣/ ٩٦) وقال: ورجاله ثقات إلا أن الشعبي لم أجد له سماعا من أبي ذر.
395
عزّ وجلّ ويحبّهم، وواسع: ذو سَعَةٍ فيما يملكُ ويُعْطِي وينعم به سبحانه.
وقوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ... الآية: «إنما» في هذه الآية حاصرةٌ، وقرأ ابن مسعود «١» :«إنَّمَا/ مَوْلاَكُمُ اللَّهُ»، والزكاةُ هنا: لفظٌ عامٌّ للزكاةِ المفروضةِ، والتطوُّعِ بالصدَقَةِ، ولكلِّ أفعالِ البِرِّ، إذ هي مُنَمِّيَةٌ للحسنات، مطَهِّرة للمَرْءِ مِنْ دَنَسِ السيِّئات، ثم وصفهم سبحانه بتَكْثير الركُوعِ، وخُصَّ بالذكْر لكونه مِنْ أعظم أركان الصلاة، وهي هيئَةُ تواضعٍ، فعبَّر عن جميعِ الصلاَةِ كما قال سبحانه: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج: ٢٦] هذا هو الصحيحُ. ، وهو تأويل الجمهورِ، ولكن اتفق مع ذلك أنَّ عليَّ بْنَ أبي طالِبٍ (رضي اللَّه عنه) أعطى خاتَمَهُ، وهو راكعٌ «٢».
قال السُّدِّيُّ: وإن اتفَقَ ذلك لعليٍّ، فالآية عامَّة في جميعِ المؤمنين «٣».
ثم أخبر تعالى: أنَّ مَنْ يتولَّى اللَّه ورسولَهُ والمؤمنين، فإنه غالبٌ كُلَّ مَنْ ناوأه، وجاءَتِ العبارةُ عامَّة في أنَّ حِزْبَ اللَّه هم الغالِبُون، ثم نهى سبحانه المؤمنينَ عنِ اتخاذ الَّذينَ اتخذوا دينَنَا هُزُواً ولعباً، وقد ثبت استهزاء الكُفَّار في قوله سبحانه: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: ٩٥] وثبت استهزاء أهْل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاءُ المُنَافِقِينَ في قولهم لشياطينهم: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: ١٤].
ثم أمر سبحانه بتَقْواه، ونبَّه النفوسَ بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وقوله سبحانه: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً... الآية: إنحاءٌ على اليَهُودِ، وتبيينٌ لسوء فعلهم.
وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ: معنى المحاورةِ: هَلْ تَنْقِمُونَ منا إلا مجموعَ هذه الحالِ مِنْ أنا مؤمنون، وأنتم فاسقون كما تقول لمن تخاصمه: هل تَنْقِمُ مني إلاَّ أَنْ صَدَقْتُ أَنَا، وَكَذَبْتَ أَنْتَ، وقال بعضُ المتأوِّلين: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ: معطوفٌ علَى ما كأَنَّه قال: إِلاَّ أَنْ آمنَّا باللَّهِ وبكُتُبِهِ، وبأنَّ أكثركم فاسقُونَ، وهذا مستقيم المعنى، وقال:
(١) ينظر: «الشواذ» ص (٣٩)، و «الكشاف» (١/ ٦٤٨)، و «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٠٨)، و «البحر المحيط» (٣/ ٥٢٥)، و «الدر المصون» (٢/ ٥٥١).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٢٨) (١٢٢١٥)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٠٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٢٠)، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن عساكر عن سلمة بن كهيل. [.....]
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٢٨) (١٢٢١٥)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٠٨).
396
أَكْثَرَكُمْ، من حيث إنَّ فيهم مَنْ آمن كابن سلام وغيره.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً، يعني: مرجعاً عند اللَّه يوم القيامة ومنه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ [البقرة: ١٢٥]، ومشى المفسِّرون في هذه الآية على أنَّ الذين أُمِرَ- عليه السلام- أنْ يقول لهم: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ هم اليهودُ والكُفَّار المتَّخِذُون دينَنَا هُزُواً ولعباً قال ذلك «١» الطبريُّ «٢»، وتُوبِعَ عليه، ولم يُسْنِدْ في ذلك إلى متقدِّم شيئاً، والآيةُ تحتملُ أنْ يكون القول للمؤمنين، أي: قُلْ يا محمَّد، للمؤمنين: هَلْ أنبئكم بِشَرٍّ مِنْ حال هؤُلاء الفاسِقِينَ في وَقْتِ المَرْجِعَ إلى اللَّهِ أولئك أسلافهم الَّذين لعنهم اللَّه، وغَضِبَ عليهم.
وقوله سبحانه: وَجَعَلَ، هِيَ بمعنى «صَيَّرَ»، وقد تقدَّم قصص مَسْخِهِمْ قِرَدَةً في «البقرة»، وعَبَدَ الطَّاغُوتَ: تقديره: ومَنْ عبَدَ الطاغوتَ، وقرأ حمزةُ وحده «٣» «وعَبُدَ الطَّاغُوتِ» - بفتحِ العين، وضمِّ الباءِ، وكسرِ التاء مِنَ الطاغوت- وذلك أنَّ «عَبُدَ» لفظُ مبالغةٍ كقَدُسَ.
قال الفَخْر: قيل: الطاغوتُ هنا: العِجْلُ، وقيل: الطاغوتُ أحبارهم، وكلُّ من أطاع أحداً في معصية اللَّهِ فقد عبده. انتهى.
ومَكاناً: يحتمل أن يريد في الآخرةِ، فالمكان على وجْهه، أي: المحلّ إذْ محلُّهم جهنَّم، ويحتملُ أنْ يريد في الدنيا، فهي استعارةٌ للمكانةِ، والحالة.
وقوله سبحانه: وَإِذا جاؤُكُمْ يعني: اليهودَ، وخاصَّة المنافقين منهم قاله ابن
(١) ينظر: «الطبري» (٤/ ٦٣٢).
(٢) ذكره الطبري في «تفسيره»، (٤/ ٦٣٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢١١).
(٣) ينظر: «السبعة» (٢٤٦)، و «الحجة» (٣/ ٢٣٦)، و «إعراب القراءات» (١/ ١٤٧)، و «العنوان» (٨٨)، و «حجة القراءات» (٢٣١)، و «شرح شعلة» (٣٥٣)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٢٣٣)، و «إتحاف» (١/ ٥٣٩)، و «معاني القراءات» (١/ ٣٣٥).
عباس «١» وغيره.
وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ: أي: من الكُفْر، والرؤيةُ هنا تَحْتملُ أن تكون قلبية، وأن تكون بصريّة، وفِي الْإِثْمِ، أي: موجباتِ الإثمِ، واللامُ في:
لَبِئْسَ: لام قَسَم.
وقوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ: تحضيضٌ في ضمنه توبيخٌ لهم، قال الفَخْر «٢» : والمعنى: هَلاَّ ينهاهم. انتهى.
قال الطبريُّ «٣» : كان العلماءُ يقُولُون: ما في القرآن آيةٌ هي أشَدُّ توبيخاً للعلماءِ من هذه الآية، ولا أخْوَفُ عليهم منْها.
وقال الضحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ: ما في القُرآنِ آيةٌ أخْوَفُ عندي منها «٤» إنَّا لا ننهى وقال نحو هذا ابنُ عَبَّاس «٥».
وقوله سبحانه: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ: ظاهره أنَّ الإثم هنا يرادُ به الكُفْر، ويحتمل أن يراد سَائِرُ أقوالهم المُنْكَرَة في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وقرأ «٦» ابن عباس: «بِئْسَ مَا كَانُوا يصنعون» بغير لام قسم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٤]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
وقوله سبحانه وتعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ... إلى قوله: لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ: هذه الآيةُ تعديدُ كبيرةٍ في أقوالهم وكُفْرهم، أي: فَمَنْ يقول هذه العظيمة، فلا
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٦٣٧)، وابن عطية (٢/ ٢١٤).
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٣٤).
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ٦٣٧).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٣٨) (١٢٢٤٣)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢١٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٢٤)، وعزاه لابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر عن الضحاك بن مزاحم.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٣٨) (١٢٢٤٣)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢١٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٢٤) وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ عن ابن عباس.
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢١٤)، و «البحر المحيط» (٣/ ٥٣٢)، و «الدر المصون» (٢/ ٥٦٥).
398
يُسْتنكَرُ نفاقُهُ وسعْيُهُ في رَدِّ أمر اللَّه تعالى.
قال ابن عباس وجماعة: معنى قولهم: التبخيلُ وذلك أنهم لحقَتْهم سَنَةٌ وجَهْدٌ، فقالوا هذه المقالة، يعْنُونَ بها أنَّ اللَّه بَخِلَ عليهم بالرِّزْقِ والتوسعَةِ، تعالَى اللَّه عن قَوْلِهِمْ «١»، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: ٢٩] فإن المراد: لا تَبْخَلْ ومنه قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ... »
الحديثَ، وذكر الطبري والنَّقَّاش أن هذه الآية نزلَتْ في فِنْحَاص اليَهُودِيِّ، وأنه قالها «٢».
وقوله سبحانه: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ: خبرٌ يحتملُ في الدنيا، ويحتمل في الآخرة، فإن كان خبراً عن الدنيا، فالمعنى: غُلَّت أيديهم عن الخَيْرِ والإنفاقِ في وجوه البِرِّ ونحوه، وإذا كان خبراً عن الآخرة، فالمعنى: غُلَّتْ في النار، قلْتُ: ويَحْتَمِلُ الأمْرَيْنِ معاً.
وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ: العقيدةُ في هذا المعنى: نَفْيُ التشبيه عن اللَّه سبحانه، وأنه ليس بِجِسْمٍ، ولا له جارِحَةٌ، ولا يُشَبَّهُ، ولا يُكَيَّفُ، ولا يَتحيَّز، ولا تَحُلُّهُ الحوادثُ، تعالى عما يقول المبطلون عُلُوًّا كبيراً، قال ابن عبَّاس في هذه الآية: يَداهُ:
نعمتاه «٣»، ثم اختلفت عبارة النَّاس في تَعْيِين «٤» النعمتَيْن:
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» بنحوه (٤/ ٦٤٠) برقم (١٢٢٤٦)، وابن عطية (٢/ ٢١٤).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٤٠) برقم (١٢٢٥١) عن عكرمة.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٤٠)، ولم يعزه لأحد وذكره ابن عطية (٢/ ٢١٥).
(٤) أقول وبالله التوفيق: وإنما يجب أن يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١] بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري:
من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فيمن أثبت لله- تعالى- ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى- ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى فالاستواء على العرش صفة لله تعالى يجب الإيمان بها بلا كيف، ويكل العلم فيه إلى الله- عز وجل- وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليا، وعلاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، وما أظنك إلا ضالا. ، ثم أمر به فأخرج.
ينظر: «البغوي» (٢/ ١٦٥). [.....]
399
فقيل: نعمةُ الدنيا، ونعمةُ الآخرةِ، وقيل: النعمة الظاهرة، والنعمة الباطنةُ، والظاهر أن قوله سبحانه: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارةٌ عن إنعامه على الجملة، وعبَّر عنها باليدَيْن جرياً على طريقة العرب في قولهم: فُلاَنٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ ومنه قول الأعشى: [الطويل]
فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ إلى آخر الآية- خطاباً لأمَّة نبينا محمد- عليه السلام-.
يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَة وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالمَالِ تُنْفِقُ «١»
ويؤيِّد أن اليدَيْن هنا بمعنى الإنعامِ- قرينةُ الإنفاق، ثم قال تعالى لنبيِّه- عليه السلام-: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ، يعني: اليهودَ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً، ثم قال سبحانه: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، العداوة: أخصُّ من البغضاء لأن كلَّ عدوٍّ، فهو يُبْغضُ، وقد يُبْغضُ مَنْ ليس بعدُوٍّ، والبغضاء: قد لا تتجاوَزُ النفوسَ، وقد ألقى اللَّه سبحانه الأمرَيْن على بني إسرائيل.
قال الفَخْر «٢» : وقد أوقع اللَّه بَيْنَ فِرَقِهِمْ الخصومةَ الشَّديدة، وانتهى أمرهم إلى أنْ يُكَفِّرَ بعضهم بعضاً، وفي قوله: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ... الآية: قولان:
أحدهما: أن المراد ما بَيْن اليهودِ والنصارى من العداوةِ لأنه جرى ذكْرُهُمْ في قوله:
لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: ٥١]، وهذا/ قول الحسنِ ومُجَاهد «٣».
والثاني: ما وقع من العداوة بين فِرَقِ اليهود، فإنَّ بعضهم جبريَّةٌ وبعضهم قَدَرية، وبعضهم مُوَحِّدة، وبعضهم مُشَبِّهة، وكذلك بَيْن فرقِ النصارى كالمَلْكَانِيَّة، والنُّسْطُورِيَّة، واليَعْقُوبيَّة «٤». انتهى.
(١) البيت في ديوانه (٢٢٥)، و «الدر المصون» (٢/ ٥٦٦)، و «البحر المحيط» (٣/ ٥٣٥).
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٣٨).
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ٦٤٢) برقم (١٢٢٥٤) عن مجاهد.
(٤) ونقل عن طوائف النصارى القول بالاتحاد، وعن بعضهم القول بالحلول، وعن بعضهم القول بأن عيسى ابن الله، وعن بعض طوائف اليهود القول بأن عزيرا ابن الله. واختلف النقل عن النصارى في معنى الاتحاد. فقيل: معناه أن الكلمة وهي صفة العلم ظهرت في عيسى وصارت معه هيكلا. وقيل: معناه المخارجة بمعنى أن تكون من الكلمة وعيسى شيء ثالث- وأما القول بالحلول فمعناه على رأي بعض فرقهم: أن الكلمة وهي صفة العلم حلت في المسيح، وعلى رأي البعض الآخر: أن ذات الله حلت في المسيح. ولما كان كلامهم في الحلول والاتحاد مضطربا وغير منضبط على وجه صحيح، فنذكر الصور العقلية التي تتأتى في الاتحاد والحلول فنقول: إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح، أو حلول ذاته فيه، أو حلول صفته فيه، وكل ذلك إما ببدن عيسى أو بنفسه وإما ألّا يقولوا بشيء من ذلك. وحينئذ فإما أن يقولوا: أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أولا. ولكن خصه الله بالمميزات، وسماه ابنا تشريفا كما سمى إبراهيم خليلا، فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة للأدلة التي أحالت حلول الله واتحاده، والسابع-
400
وقوله سبحانه: كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ: استعارة بليغة، قال
- باطل لما ثبت أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، وبقي احتمال اتحاد الكلمة بذات المسيح، وهو باطل أيضا لأن الكلمة المراد منها عندهم صفة العلم والاتحاد بجميع معانيه وأفراده مستحيل على الله بالأدلة السابقة والشبهة التي أوقعت النصارى في هذه الكلمات هي ما جاء في الإنجيل في عدة مواضع من ذكر الله بلفظ الأب، وذكر عيسى بلفظ الابن، وذكر الاتحاد والحلول تصريحا أو تلويحا، فمن ذلك ما جاء في إنجيل (يوحنا) في الصحاح الرابع عشر (يا فيلسوف من يراني ويعاينني، فقد رأى الأب، فكيف بقول: أنت أرنا الأب، ولا تؤمن أني بأبي وأبي بي واقع واقع، وأن الكلام الذي أتكلم به ليس من قبل نفسي، بل من قبل أبي الحال في، وهو الذي يعمل هذه الأعمال التي أعمل آمن وصدق أني بأبي وأبي بي) هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربية المتداول عندهم، فأخذ بعضهم الاتحاد من قوله: (من يراني ويعاينني فقد رأى الأب) وأخذ بعضهم الحلول من قوله: (أبي الحال في)، وأخذ النبوة من التصريح بلفظ الأب مرة بعد أخرى، وهذا لا يصلح دليلا لوجهين:
الوجه الأول: توافرت الأدلة على حصول التغيير والتبديل في الإنجيل، فاحتمل أن يكون ذلك المذكور في إنجيل يوحنا مما حصل فيه التغيير والتبديل، فلا يصلح حينئذ أن يكون دليلا، فلا يصح به الاستدلال.
الثاني: أن نتنزل ونقول: لا تغيير ولا تبديل في ذلك المنقول، لكن دلالته على مدعاهم ليست يقينية لجواز أن يكون المراد من الاتحاد الذي فهمه بعضهم من الجملة الأولى الاتحاد في بيان طريق الحق، وإظهار كلمة الصدق كما يقال: أنا وفلان واحد في هذا القول، ولجواز أن يكون المراد من الحلول المصرح به في بعض الجمل حلول آثار صنع الله من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ولجواز أن يكون المراد من الأب المبدئ، فإن القدماء كانوا يطلقون الأب على المبدئ فمضى قوله: أبي مبدئي وموجدي وسمى عيسى ابنا تشريفا له كما سمى إبراهيم خليلا.
وأيضا فمن كان متوجها لشيء ومقيما عليه يقال له: ابنه كما يقال: أبناء الدنيا، وأبناء السبيل، فجاز أن يكون تسمية عيسى بالابن لتوجهه، في أكثر الأحوال إلى الحق، واستغراقه أغلب الأوقات في جناب القدس، ومما يؤكد ذلك أنه جاء في الصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا حيث دعا عيسى للحواريين ما لفظه: «وكما أنت يا أبي بي وأنا بك، فليكونوا هم أيضا نفسا واحدا يؤمن أهل العلم، بأنك أنت أرسلتني، وأنا قد استودعتهم بالمجد الذي مجدتني به، ودفعته إليهم ليكونوا على الإيمان، كما أنا وأنت أيضا واحد، وكما أنت حال فيّ كذلك أنا فيهم ليكون كمالهم واحدا» هذا لفظ الإنجيل، وقد تبين منه معنى الاتحاد والحلول على وجه مغاير لما فهموه، وجاء في الصحاح التاسع عشر ما لفظه: «إني صاعد إلى أبيكم وإلهي وإلهكم» وهذا يدل بواسطة العطف على أن المراد من الأب الإله، وعلى أنه مساو لهم في معنى النبوة والعبودية، فهذه النصوص تدحض حجتهم، وتلزمهم إذا أرادوا الحق بالرجوع إلى ما قضت به الأدلة العقلية المتقدمة من استحالة الاتحاد والحلول والنبوة.
أما بعض اليهود الذين قالوا: أن عذيرا ابن الله، فقد أشار الله- تعالى- إليه بقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] نسب الله ذلك القول إلى اليهود، مع أنه قول لطائفة منهم، جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد والسبب الذي دعا هذه الطائفة إلى القول بأن عزيرا ابن الله أن اليهود تركوا العمل بما في التوراة، وعملوا بغير الحق فعاقبهم الله تعالى بأن أنساهم التوراة، ونسخها من صدورهم، فتضرع عزير إلى الله، وابتهل إليه، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه به، فلما جربوه-
401
مجاهد: معنى الآيةِ: كلَّما أوقدوا ناراً لحَرْبِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أطفأها اللَّه «١»، فالآيةُ بشارةٌ لنبيِّنا محمد- عليه السلام- وللمؤمنين، وباقي الآية بيّن.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا... الآية: هذه الآية تحتملُ أنْ يراد بها معاصرو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتحتملُ أنْ يراد بها الأسلافُ، والمعاصِرُونَ.
وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ، أي: أظهروا أحْكَامها، فهي كإقامةِ السُّوق، وإقامةِ الصَّلاةِ.
وقوله سبحانه: وَالْإِنْجِيلَ: يقتضي دخُولَ النصارى في لفظُ أهْلِ الكتابِ في هذه الآية، قلْتُ: وقال مكِّيٌّ: معنى: أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ: أيْ: عملوا بما فيهما، وأقروا بصفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبنبوَّته. انتهى من «الهداية».
وقوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ: معناه: مِنْ وحْيٍ وسُنَنٍ على ألْسِنَةِ الأنبياء- عليهم السلام-، واختُلِفَ في معنى: مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، فقال ابن عباس وغيره: المعنى: لأعطتهم السماءُ مطَرها، والأرض نباتَهَا بفَضْلِ اللَّه تعالى «٢»، وقال الطبريُّ «٣» وغيره: إن الكلام استعارة ومبالغةٌ في التوسِعَةِ كما يقالِ: فُلاَنٌ قد عمَّهُ الخَيْرُ مِنْ قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ.
وقوله سبحانه: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ: معناه: معتدِلَةٌ، والقَصْد والاقتصاد: الاعتدال والرفْقُ والتوسُّط الحَسَن في الأقوال والأفعال، قال ابنُ زَيْد: وهؤلاءِ هُمْ أهْل طاعَةِ اللَّه من
- وجدوه صادقا فيه، فقالوا: ما تيسر لهذا العزير دون سواه إلا لأنه ابن الله، وهذه شبهة واهية لا يصح الاستناد إليها لأن إجابة المطلب مرتبطة بالقبول والقرب من الله، والخضوع لأوامره، واجتناب نواهيه لا بالنبوة كما يزعمون.
ينظر: «الدرر السنية في تنزيه الحضرة الإلهية» لشيخنا أحمد المستكاوي.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٤٤) برقم (١٢٢٥٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢١٦).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٤٥) برقم (١٢٢٦١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٢٧)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
(٣) ينظر: الطبري (٤/ ٦٤٥).
أهْل الكتاب «١».
قال ع «٢» : وهذا هو الراجِحُ.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... الآية: هذه الآية أمْرٌ مِنَ اللَّه تعالى لنبيِّه- عليه السلام- بالتبليغِ على الاستيفاء والكمالِ لأنه قد كان بلّغ صلّى الله عليه وسلّم، وإنما أُمِرَ في هذه الآيةِ بِأَلاَّ يتوقَّفَ عن شَيْء مخافةَ أحَدٍ وذلك أنَّ رسالته- عليه السلام- تضمَّنت الطَّعْنَ على أنواع الكَفَرة، وبيان فساد حالهم، فكان يلقى منهم صلّى الله عليه وسلّم عَنَتاً، وربَّما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية، فقال الله تعالى له: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، أيْ:
كاملاً، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، قالتْ عائشةُ أمُّ المؤمنين (رضي اللَّه عنها) :«مَنْ زَعَمَ أنَّ محمداً كَتَمَ شيئاً مِنَ الوَحْيِ، فقد أَعْظَم الفريةَ، والله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... الآية»، وقال عبدُ اللَّهِ بنُ شَقِيقٍ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعقبه أصحابُهُ يحْرُسُونه، فلما نزلَتْ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، خرَجَ، فقَالَ: «يَا أَيُّها النَّاسُ، الحقوا بِمَلاَحِقِكُمْ فَإنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي» «٣»، قلْتُ: وخرَّج الترمذيُّ هذا الحديثَ أيضاً من طريق عائشة «٤»، وكما وجَبَ عليه التبليغُ- عليه السلام-، وجب على علماءِ أمته، وقد قال- عليه السلام-: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة» «٥»، وعن زيدِ بنِ ثابتٍ (رضي اللَّه عنه) قَالَ: سَمِعْتُ
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٤٦) برقم (١٢٢٧١)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢١٧).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٧٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٤٧) رقم (١٢٢٧٧) عن عبد الله بن شقيق.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٣٠)، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.
(٤) أخرجه الترمذي (٥/ ٢٥١) كتاب «التفسير»، باب سورة المائدة رقم (٣٠٤٦)، والحاكم (٢/ ٣١٣)، والطبري (٤/ ٦٤٧) رقم (١٢٢٧٩) من طريق سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحرس، ولم يذكروا فيه عائشة.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٢٩) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وأبي نعيم، والبيهقي كلاهما في «الدلائل».
(٥) أخرجه البخاري (٦/ ٥٧٢) كتاب «أحاديث الأنبياء»، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث (٣٤٦١)، -[.....]
403
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امرأ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً، فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلٍ فِقْهٍ إلى مَنْ لَيْسَ بِفَقِيةٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»، رواه أبو داودَ، واللفظ له، والترمذيُّ والنسائِيُّ وابنُ ماجه، وابن حِبَّانَ في «صحيحِهِ»، وقال التِّرمذيُّ/: هذا حديثٌ حسنٌ، ورواه مِنْ حديث ابن مسعود، وقال: حسن صحيح «١». انتهى من «السلاح».
- والترمذي (٥/ ٣٩) كتاب «العلم»، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، حديث (٢٦٦٩) وقال:
حسن صحيح.
(١) ورد من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وجبير بن مطعم.
فأما حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي (٥/ ٣٣) في العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (٢٦٥٧، ٢٦٥٨)، وابن ماجة (١/ ٨٥) في المقدمة، باب من بلغ علما (٢٣٢) والحميدي في «مسنده» (٨٨)، وأحمد (١/ ٤٣٧)، والشافعي في «مسنده» (١/ ١٦)، وأبو يعلى (٥٢٢٦، ٥٢٩٦)، وابن حبان (٧٤، ٧٥، ٧٦) موارد، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» برقم (٦، ٧، ٨)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١٨٨، ١٨٩، ١٩٠، ١٩١)، وأبو نعيم في «الحلية» (٧/ ٣٣١). والخطيب في «الكفاية» ص (١٧٣)، وفي «شرف أصحاب الحديث» ص (١٨، ١٩)، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (١/ ١٥- ١٦، ٤٣)، وفي «الدلائل» (٦/ ٥٤٠) والقضاعي في «مسند الشهاب» (١٤١٩، ١٤٢٠)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (٢/ ٩، ١٠) وأبو الشيخ في «الأمثال» (٢٠٤)، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (٢/ ٩٠)، والحاكم في «معرفة علوم الحديث» ص (٣٢٢) من طرق عنه.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأما حديث زيد بن ثابت أخرجه أبو داود (٢/ ٣٤٦) في العلم، باب فضل نشر العلم (٣٦٦٠)، والترمذي (٢٦٥٦) وابن ماجة (٢٣٠)، وأحمد (٥/ ١٨٣) وابن حبان (٧٢- ٧٣) موارد، والدارمي (١/ ٧٥)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢/ ٢٣٢)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١٨٤، ١٨٥، ١٨٦، ١٨٧)، وابن أبي عاصم في «السنة» (٩٤)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (٢/ ١١)، والرامهرمزي (٤٢٣) والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص ١٧، ١٨) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (٢/ ٧١).
وقال الترمذي: حديث حسن.
وأما حديث جبير بن مطعم فأخرجه ابن ماجة (٢٣١)، وأحمد (٤/ ٨٠، ٨٢) والدارمي (١/ ٧٤- ٧٥) والطبراني في «الكبير» (١٥٤١)، وأبو يعلى في مسنده (٧٤١٣) والقضاعي في «مسند الشهاب» (١٤٢١) والطحاوي في «المشكل» (٢/ ٢٣٢) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (٢/ ١٠)، وابن حبان في «المجروحين» (١/ ٤- ٥)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١٩٥)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ٨٧) من طرق عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير عن أبيه.
وأخرجه ابن ماجة (٢٣١)، والطبراني في «الكبير» (١٥٤٢)، والطحاوي في «المشكل» (٢/ ٢٣٢) من طريق ابن إسحاق، عن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الزهري، عن محمد بن جبير به.
وقال البوصيري في «الزوائد» (١/ ٩٩) : هذا إسناد ضعيف لضعف عبد السلام..
وأخرجه الطبراني (١٥٤٣) وابن أبي حاتم (١/ ١٠) من طريق ابن إسحاق، عن عمرو بن أبي عمرو، عن محمد بن جبير، عن أبيه به. -
404
وقال محمد بن كَعْبٍ القُرَظِيُّ: نزِلَتْ هذه الآيةُ بسبب الأعرابيِّ الذي اخترط سيْفَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ليقتُلَهُ به «١».
قال ابنُ العربيِّ: قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ: معناه: يَجْعَلْ بينَكَ وبينهم حجاباً يمنع من وصُولِ مكروههم إلَيْك كَعِصَامِ الْقِرْبَةِ الذي يَمْنَعُ سَيَلاَنَ الماءِ منها، ولعلمائنا في الآية تأويلاتٌ.
أصحها: أنَّ العصمة عامَّة في كلِّ مكروهٍ، وأنَّ الآية نزلَتْ بعد أن شجّ وجهه، وكسرت رباعيته صلّى الله عليه وسلّم «٢».
وقيل: إنه أراد مِنَ القتل خاصَّة، والأول أصحّ، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أُوتِيَ بَعْضَ هذه العَصْمَةِ بمكَّة في قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: ٩٥] ثم كمُلَتْ له العصْمَةُ بالمدينةِ، فعُصِمَ من النَّاس كلِّهم. انتهى من كتابه في تفسير أفعال اللَّه الواقعة في القرآن.
ثم أمر تعالى نبيَّه- عليه السلام- أنْ يقولَ لأهْل الكتابِ الحاضِرِينَ معه: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ، أيْ: على شيءٍ مستقيمٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، وفي إقامتهما الإيمانُ بنبيِّنا محمَّد- عليه السلام-، قلْتُ: وهذه الآية عنْدِي مِنْ أَخْوَفِ آية في القرآنِ كما أشار إلى ذلك سفيانُ، فتأمَّلها حقَّ التأمُّل.
وقوله سبحانه: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ... الآية: يعني به القرآن.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)
- وأخرجه أبو يعلى في «مسنده» (٧٤١٤)، والحاكم (١/ ٨٧- ٨٨) من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن أبي عمرو عن عبد الرّحمن بن الحويرث عن محمد بن جبير به.
وتابعه عليه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو به، وأخرجه الدارمي في «سننه» (١/ ٧٤).
وأخرجه الطبراني (١٥٤٤)، والحاكم (١/ ٨٧) من طريق نعيم بن حماد قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن محمد بن جبير. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٤٨) (١٢٢٨١)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢١٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٣٠)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي.
(٢) أخرجه مسلم (٣/ ١٤١٧)، كتاب «الجهاد والسير»، باب غزوة أحد (١٠٤- ١٧٩١).
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: الذين آمنوا: لفظٌ عامٌّ لكلِّ مؤمنٍ من مِلَّةِ نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ومِنْ غَيْرها من المِلَلِ، فكأنَّ ألفاظ الآية حُصِرَ بها الناسُ كلُّهم، وبُيِّنَتِ الطوائفُ على اختلافها، وهذا هو تأويلُ الجمهور، وقد مَضَى الكلامُ في «سورة البقرة»، فراجعْهُ هناك، وقرأ الجمهورُ: «وَالصَّابِئُونَ»، وقرىء خارجَ السبعة «١» :
«والصَّابِئِينَ»، وهي بيِّنة الإعراب، وأما على قراءة الجمهورِ، فاختلف في إعرابها، ومَذْهَبُ سبيَوَيْهِ، والخَلِيلِ، ونُحَاةِ البَصْرة: أنه من المقدَّم الذي معناه التأْخِيرُ، كأنَّه قال: إنَّ الذين آمنوا والذين هَادُوا، مَنْ آمَنَ باللَّه واليومِ الآخِرِ وعَمِلَ صالحاً، فلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنُونَ، والصَّابِئُونَ والنصارى كذلك.
قال ص: ووجه ثانٍ أنَّ خبر «إنَّ» محذوفٌ، أي: إنَّ الذين آمنوا لهم أجرهم، وخبر «الصّابئين» : مَنْ آمَنَ وما بعده، قال ابنُ عُصْفُورٍ وهو حَسَنٌ جدًّا إذ ليس فيه أكثر من حَذْفِ خبرِ «إنَّ» للفهم، وهو جائزٌ في فصيحِ الكلامِ. انتهى.
قلتُ: قال ابْنُ مالكٍ: وهو أسهلُ من التقديمِ والتأخيرِ، وقيل: إن الصابِئين في موضِعِ نَصْبٍ، ولكنه جاء على لغة بَلْحَارِثِ الذين يَجْعَلُونَ التثنيةَ بالأَلِفِ على كل حال، والجَمْعَ بالواو على كُلِّ حال قاله أبو البقاء، وقيل غير هذا.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧١ الى ٧٥]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
(١) وهي قراءة عثمان، وأبي بن كعب، وعائشة، وسعيد بن جبير، والجحدري، كما في «المحتسب» (١/ ٢١٧).
وينظر: «الكشاف» (١/ ٦٦٢)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٢١٩)، و «البحر المحيط» (٣/ ٥٤١)، و «الدر المصون» (٢/ ٥٧٦).
406
وقوله سبحانه: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ: المعنى في هذه الآيةِ: وظَنَّ هؤلاءِ الكفرةُ باللَّه، والعصاةُ مِنْ بني إسرائيل ألاَّ يكونَ مِنَ اللَّه ابتلاءٌ لهُمْ وأخذ في الدنيا، فلَجُّوا في شهواتهم، وعَمُوا فيها، إذْ لم يُبْصِرُوا الحقّ، وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» «١».
وقوله سبحانه: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قالتْ جماعة من المفسِّرين: هذه التوبةُ هِيَ رَدُّهم إلى بَيْتِ المَقْدِس بعد الإخراج الأول، ورَدُّ مُلْكِهِمْ وحَالِهِم، ثم عَمُوا وصَمُّوا بعد ذلك حتى أُخْرِجُوا الخرجةَ الثانيةَ، ولم ينجبرُوا أبداً، ومعنى: تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي:
رجَعَ بهم إلى الطاعةِ والحقِّ، ومِنْ فصاحة القُرآن: / استناد هذا الفعْلِ الشريفِ إلى اللَّه تعالى، واستناد العمى وَالصَّمَمَ اللَّذَيْن هما عبارةٌ عن الضَّلال إليهم، ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكَّداً بلام القَسَمِ عن كُفْر القائلين: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قولُ اليَعْقُوبِيَّةِ من النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيحِ لهم، فقال:
وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ الآية، فضَلُّوا هم، وكفروا بسَبَب ما رأَوْا على يديه من الآيات.
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٥٥) كتاب «الأدب»، باب في الهوى حديث (٥١٣٠)، وأحمد (٥/ ١٩٤، ٦/ ٤٥٠) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢/ ١/ ١٧٢)، والدولابي في «الكنى» (١/ ١٠١) وابن عدي في «الكامل» (٢/ ٤٧٢) والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (٢/ ٣٢٨) وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص ٢٠)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (٢١٩) كلهم من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبيه مرفوعا وهذا إسناد ضعيف لاختلاط ابن أبي مريم.
وأخرجه أحمد (٥/ ١٩٤) عن أبي اليمان، عن أبي مريم به، إلا أنه رواه موقوفا.
قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص ١٨١- ١٨٢).
وقد بالغ الصغاني فحكم عليه بالوضع، وكذا تعقبه العراقي، وقال: إن ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بكذب، إنما سرق له حلي فأنكر عقله، وقد ضعفه غير واحد، ويكفينا سكوت أبي داود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن انتهى، وفي الباب مما لم يثبت عن معاوية، قال العسكري: أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن من الحب ما يعميك عن طريق الرشد ويصمك عن استماع الحق، وأن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمه حبه عن العدل، وأعماه عن الرشد، وكذا قال بعض الشعراء.
وعين أخي الرضى عن ذاك تعمى وقال آخر:
فعين الرضى عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
وعن ثعلب قال: تعمى العين عن النظر إلى مساويه، وتصم الأذن عن استماع العذل فيه وأنشأ يقول:
وكذبت طرفي فيك والطرف صادق وأسمعت أذني فيك ما ليس تسمع
وقيل تعمى وتصم عن الآخرة، وفائدته النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق في حبه.
407
وقوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ، يحتملُ أن يكون من قول عيسى- عليه السلام- لبني إسرائيل، ويحتمل أنْ يكون إخباراً من اللَّه سبحانه لنبيِّه محمد- عليه السلام-.
وقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ...
الآية: إخبارٌ مؤكِّد كالذي قبله، عن هذه الطائفة النَّاطقة بالتثليث، وهم فِرَقٌ، منهم النُّسْطُورِيَّة وغيرهم، ولا معنى لذكْر أقوالهم في كُتُب التَّفْسِير.
وقوله سبحانه: ثالِثُ ثَلاثَةٍ: لا يَجوزُ فيه إلاَّ الإضافةُ، وخفض «ثلاثة» لأن المعنى أحدُ ثلاثةٍ، فإنْ قلت: زَيْدٌ ثَالِثُ اثنين، أَوْ رَابِعُ ثَلاَثَةٍ، جاز لك أنْ تضيفَ كما تقدَّم، وجاز ألاَّ تضيفَ، وتَنْصِب «ثَلاَثة» على معنى: زَيْدٌ يربِّع ثلاثةً.
وقوله سبحانه: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ... الآية: خَبَرٌ صادِعٌ بالحَقِّ، وهو سبحانه الخالِقُ المُبْدِعُ المتَّصِفُ بالصفات العُلاَ، سبحانه وتعالى عَمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيراً، ثم توعَّدهم، إنْ لم ينتهوا عما يقولُونَ، ثم رَفَق جلَّ وعلا بهم بتحضيضه إيَّاهم على التوبة، وطَلَبِ المَغْفرة، ثم وصَفَ نفسه سبحانه بالغُفْرَانِ والرَّحْمة استجلابا للتائِبِينَ وتَأْنيساً لهم ليكونوا على ثِقَةٍ من الانتفاعِ بتوبتهم.
قال ص: لَيَمَسَّنَّ: اللامُ فيه جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ قبل أداة الشرطِ. انتهى.
وقوله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ: بناءُ مبالغةٍ مِنَ الصِّدْقِ، ويحتملُ من التَّصْديق وبه سُمِّيَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ (رضي اللَّه عنه) وهذه الصفةُ لمريم تدفع قولَ مَنْ قال: إنها نَبِيَّةٌ.
وقوله سبحانه: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ: تنبيهٌ على نقص البشريَّة، وعلى حالٍ مِنَ الاحتياجِ إلى الغذاء تنتفي معها الألوهيّة، ويُؤْفَكُونَ: معناه: يصرفون ومنه قوله عز وجل: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: ٩]، والأرْضُ المأْفُوكَةُ الَّتِي صُرِفَتْ عن أن ينالها المَطَرُ، والمَطَرُ في الحقيقةِ هو المَصْرُوفُ، ولكنْ قيل: أرضٌ مأفوكة لما كانت مأفوكا عنها.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
وقوله تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ...
الآية: الضَّرُّ- بفتح الضاد-: المصدَرُ، وبضمها الاسم، وهو عدم الخير، والسَّمِيعُ لأقوالهم والْعَلِيمُ بنيَّاتهم، والغُلُوُّ: تجاوُزُ الحدِّ من غَلاَ السَّهْمُ إذا تجاوَزَ الغَرَضَ المقصُودَ، وتلك المسافَةُ هي غَلْوَتُهُ، وهذه المخاطَبَةُ هي للنصارَى الذي غَلَوْا في عيسى، والقوم الذين نُهِيَ النصارى عن اتباع أهوائهم هو بَنُو إسرائيل، ووَصَف تعالى اليهودَ بأنهم ضَلُّوا قديماً، وأضلوا كثيراً من أتباعهم، ثم أكَّد الأمر بتَكْرار قوله تعالى: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٨ الى ٨١]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
وقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ... الآية: قال ابنُ عباس (رضي اللَّه عنه) : لُعِنُوا بكلِّ لسانٍ لُعِنُوا في التوراةِ، وفي الزَّبُورِ، والإنجيلِ، والفُرْقَانِ «١».
وقوله سبحانه: كانُوا لاَ يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ... الآية: ذَمَّ اللَّه سبحانه هذه الفِرْقَةَ الملْعُونَةَ بأنهم كانوا لا يَتَنَاهَوْن عن منكرٍ فعلوه، أي: أنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي، / وإن نهى منهم ناه، لم يمتنعْ عن مواصلةِ العاصِي، ومؤاكلتِهِ، وخُلْطَتِهِ ورَوَى ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ، إذَا رأى أَخَاهُ على ذَنْبٍ، نَهَاهُ عَنْهُ تَعْذِيراً، فَإذَا كَانَ مِنَ الغَدِ، لَم يَمْنَعْهُ مَا رأى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ أَوْ خَلِيطَهُ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ تعالى ذَلِكَ مِنْهُمْ، ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ على لِسَانِ نَبِيِّهِمْ دَاوُدَ وعيسى»، قال ابنُ مسعود: وكانَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، وَقَالَ: «لاَ، وَاللَّهِ حتى تَأْخُذُوا على يَدِ الظَّالِمِ، فَتَأطُرُوهُ عَلَى الحَقِّ أَطْراً» «٢»،
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٦٥٦) (١٢٣٠٣)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٢٣).
(٢) أخرجه الترمذي (٥/ ٢٥٢) كتاب «التفسير»، باب سورة المائدة، حديث (٣٠٤٧) وأبو داود (٢/ ٥٢٤- ٥٢٥) كتاب «الملاحم»، باب الأمر والنهي، حديث (٤٣٣٦) وابن ماجة (٢/ ١٣٢٨) كتاب «الفتن»، باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حديث (٤٠٠٦) من طريق علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث، عن محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبعضهم يقول عن أبي عبيدة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا.
409
والإجماعُ على أن النهْيَ عن المنْكَرِ- واجبٌ لمن أطاقه، ونهى بمعروفِ، أي: برفْقٍ، وقَوْلٍ معروفٍ، وأمْنِ الضرر عليه، وعلى المؤمنين، فإن تعذَّر على أحَدٍ النَّهْيُ لشيءٍ من هذه الوجوه، ففَرْضٌ عليه الإنكارُ بقلبه، وألاَّ يخالِطَ ذا المُنْكَرِ، وقال حُذَّاق أهْل العِلْم:
لَيْسَ مِنْ شروط الناهِي أنْ يكون سليماً من المَعْصية، بل ينهَى العُصَاةُ بعضُهم بعضاً.
وقوله سبحانه: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ: اللامُ لامُ قسَمٍ، وروى أبو داود عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ»، أو قَالَ: «كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ» «١». انتهى.
وقوله تعالى لنبيِّه محمَّد- عليه السلام-: تَرى كَثِيراً يحتمل أن تكون رؤيةَ عَيْن فلا يريد إلاَّ معاصريه، ويحتمل أنْ تكونَ رُؤْيَة قَلْب وعلى هذا، فيحتمل أن يريد المعاصرين له، ويحتمل أن يريد أسلافهم، والَّذِينَ كَفَرُوا: عبدة الأوْثَان.
وقوله سبحانه: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ... الآية، أي: قدَّمته للآخرة، واجترحته، ثم فسَّر ذلك قولُه تعالى: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ف أَنْ سَخِطَ: في موضع رَفْعٍ بدَلٍ من ما، ويحتمل أن يكون التقدير: هو أنْ سَخِطَ اللَّه عليهم.
وقوله تعالى: وَالنَّبِيِّ إنْ كان المرادُ الأَسْلاَفَ، فالنبيُّ: داودُ وعيسى، وإنْ كان المرادُ معاصري نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فالمراد ب «النبيّ» هو صلّى الله عليه وسلّم.
وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قوله سبحانه: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ كلامٌ منقطعٌ من ذكر بني إسرائيل، وأنه يعني به المنافقين ونحوه لمجاهد «٢».
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٥٢٧- ٥٢٨)، كتاب «الملاحم»، باب الأمر والنهي، حديث (٤٣٤٤)، وابن ماجة (٢/ ١٣٢٩) كتاب «الفتن»، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث (٤٠١١) من طريق عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري به.
وأخرجه الحميدي (٧٥٢)، والحاكم (٤/ ٥٠٥- ٥٠٦) من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري به.
وقال الحاكم: تفرد به ابن جدعان، ولم يحتج به الشيخان وقال الذهبي في «التلخيص» : هو صالح الحديث.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٢٥).
410

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
وقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا...
الآية: اللامُ في قوله: لَتَجِدَنَّ: لام ابتداءٍ، وقال الزَّجَّاج «١» : هي لامُ قَسَمٍ، وهذا خبر مُطْلَقٌ منسحبٌ على الزمان كلِّه، وهكذا هو الأمر حتَّى الآن، وذلك أن اليهودَ مَرَنُوا على تكذيبِ الأنبياء وقَتْلِهِمْ، ومَرَدُوا على استشعار اللعْنَةِ، وضَرْبِ الذِّلَّة والمَسْكنة، فهم قد لَجَّتْ عداوتهم، وكَثُر حَسَدهم، فهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين وكذلك المشركون عبدةُ الأوثانِ والنِّيران، وأما النصارى، فإنهم يعظمون من أهْلِ الإسلام مَنِ استشعروا مِنه صِحَّة دِينٍ، ويستهينُونَ مَنْ فهموا منه الفِسْقَ، فهم إنْ حاربوا، فإنما حَرْبهم أَنَفَةٌ، لا أنَّ شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا، فَسِلْمُهم صافٍ، واليهودُ (لعنهم اللَّه) ليسوا على شيء من هذه الخِلالِ، بل شأنهم الخُبْث، واللَّيُّ بالألسنة، والمَكْر، والغَدْر، ولم يصفِ اللَّه تعالَى النصارى بأنهم أهْلُ وُدٍّ، وإنما وصفهم بأنهم أقرَبُ من اليهود والمشركين، وفي قوله سبحانه: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى: إشارةٌ إلى معاصري نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم/ من النصارى بأنهم ليسوا على حقيقيَّة النصرانيَّة، وإنما هو قولٌ منهم، وزَعْم.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً... الآية: معناه: ذلك بأن منهم أهْلَ خشْيَةٍ وانقطاع إلى اللَّه تعالى، وعبادةٍ، وإنْ لم يكونوا على هُدًى، فهم يَميلُونَ إلى أهل العبادةِ والخَشْيَةِ، وليس عند اليهود ولا كان قَطُّ- أهْلُ دياراتٍ وصوامِعَ وانقطاعٍ عن الدنيا، بل هم معظِّمون لها، متطاولُون في البنيان، وأمورِ الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة فلذلك لا يرى فيهم زاهد، قال الفَخْر «٢» : القُسُّ والْقِسِّيسُ: اسمُ رئيس النصارى، والجمْعُ: قِسِّيسُونَ، وقال قُطْرُب: القُسُّ والقِسِّيس: العَالِمُ بلغة الرُّوم، وهذا مما وقع الوِفَاقُ فيه بَيْن اللغتَيْنِ. انتهى.
ووصف اللَّه سبحانه النصارى، بأنهم لا يستكبرون، وهذا موجودٌ فيهم حتى الآن، واليهوديُّ متى وجد عِزًّا، طغى وتكبَّر، ثم مدحهم سبحانه، فقال: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ
(١) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (٢/ ١٩٩).
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٥٦).
411
إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ... الآية: قال النوويُّ: ينبغي للقارىء أن يكون شأنُهُ الخشوعَ والتدبُّر والخضوعَ فهذا هو المقصود المطلوبُ، وبه تنشرح الصدورُ، وتستنيرُ القُلُوب، ودلائلُه أكْثَرُ من أنْ تُحْصَر، وأشهرُ من أنْ تُذْكَر، وقد بات جماعةٌ من السَّلَف يتلو الواحدُ منهم آيةً واحدةً، ليلةً كاملةً، أو معظمَ ليلةٍ يتدَبَّرها، وصُعِقَ جماعاتٌ منهم عند سماع القرآن، وقراءتِهِ، وماتَ جماعاتٌ منهم، ويستحب البكاءُ والتباكِي لِمَنْ لا يقدر على البكاء فإن البكاء عند القراءة صفةُ العارفين، وشعارُ عُبَّادِ اللَّه الصَّالحين، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: ١٠٩] وقد وردَتْ آثار كثيرة في ذلك. انتهى من «الحلية» للنوويِّ.
وذكر ابن عباس وابن جُبَيْر ومجاهد أنَّ هذه الآية نزلَتْ بسبب وَفْدٍ بعثهم النجاشيّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليروه ويعرفوا حاله، فقرأ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليهم القُرآن، فَبَكَوْا وآمَنُوا، ورَجعُوا إلى النجاشيِّ، فآمن، ولم يَزَلْ مؤمناً حتى ماتَ، فصلى عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «١»، وروي أنَّ نَعْشَ النجاشيِّ كُشِفَ للنبيِّ- عليه السلام- فكان يراه مِنْ موضعه بالمدينةِ وجاء الخَبَرُ بعد مدة أنَّ النجاشيَّ دُفِنَ في اليوم الذي صلّى فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليه، قال أبو صالح: كانوا سبعةً وستين رجلاً «٢»، وقال ابن جُبَيْرٍ: كانوا سبعين، عليهم ثيابُ الصُّوف، وكُلُّهم صاحبُ صَوْمَعَة اختارهم النجاشيُّ «٣».
وصَدْرُ الآية في قُرْب المودَّة عامٌّ فيهم، ولا يتوجَّه أنْ يكون صَدْر الآية خاصًّا فيمن آمن، وإنما وقع التخصيص مِنْ قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا، وجاء الضمير عامّا إذا قد تُحْمَدُ الجماعةُ بفعْلِ واحدٍ منهم، وفي هذا استدعاء للنصارى، ولُطْفٌ من اللَّه بهم ليؤمنوا.
قال ص: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ: «مِن» الأولى لابتداءِ الغاية.
قال أبو البقاء: ومعناها: مِنْ أجْل الذي عَرَفُوا، و «من» الثانية لبيان «ما» الموصولة.
انتهى.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ٣) برقم (١٢٣١٩) عن مجاهد، (١٢٣١٨) عن سعيد بن جبير، (١٢٣٢٠) عن ابن عباس، وذكره ابن عطية (٢/ ٢٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٣٧)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، عن سعيد بن جبير، وعزاه أيضا لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن مجاهد. [.....]
(٢) أخرجه الطبري (٥/ ٥) برقم (١٢٣٢٦)، وذكره ابن عطية (٢/ ٢٢٦).
(٣) أخرجه الطبري (٥/ ٦) برقم (١٢٣٢٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ٢٢٦)، والسيوطي (٢/ ٥٣٧) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
412
قال العراقيُّ: تَفِيضُ، أي: تسيل منها العَبْرَةُ، وفي الحديثِ: «اقرءوا القُرْآنَ، وابكوا، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا، فَتَبَاكَوْا»، خرَّجه البزِّار «١». انتهى من «الكوكب الدري»، وفيه عن البزَّار أيضاً أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ ذُبَابٍ دُمُوعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ حتى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهِ». انتهى.
وقولهم: مَعَ الشَّاهِدِينَ، يعني: نبيّنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، وأمته قاله ابن عباس «٢» وغيره، وقال «٣» الطبريُّ: لو قال قائلٌ: معنى ذلك: «مع الشاهِدينَ بتَوْحيدك من جميع العَالَمِ»، لكان صواباً، وهو كلامٌ صحيحٌ وكأن ابنَ عَبَّاس خصَّص أمة محمد لقول اللَّه سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً... [البقرة: ١٤٣] الآية، وقولهم: وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ: توقيفٌ لأنفسهم أو مُحَاجَّةٌ لِمَنْ عارضهم من الكفار، والقومُ الصالِحُون: محمَّد صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه قاله ابن زيد وغيره «٤» من المفسِّرين، ثم ذكر تعالى ما أثابهم به مِنَ النعيم على إيمانهم وإحسانهم، ثم ذكر سبحانه حال الكافرين المكذّبين، وأنهم قرناء الجحيم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ... الآية: قال ابن عباس وغيره «٥» نزلَتْ بسبب جماعة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلغَتْ منهم المواعظ، وخوفُ اللَّه تعالى إلى أنْ حرَّم بعضهم النساء، وبعضُهم النوْمَ بالليلِ، والطِّيبَ، وهَمَّ بعضهم بالاختصاءِ، فبلَغَ ذلك النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أَمَّا أنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وآتي
(١) تقدم «تفسيره» في أول التفسير.
(٢) أخرجه الطبري (٥/ ٧) برقم (١٢٣٣٦)، وذكره ابن عطية (٢/ ٢٢٧).
(٣) ينظر: الطبري (٥/ ٨).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢/ ٨) (١٢٣٣٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٢٦).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١١) (١٢٣٥١)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٢٨)، و «صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس» (ص ١٨٦/ ٣٣٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٤٤) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس.
413
النِّسَاءَ، وَأَنَالُ الطِّيبَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي»، قال الطبريُّ: كان فيما يتلى:
«مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِكَ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِكَ، وَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ»، والطيباتُ في هذه الآية: المستلَذَّات بدليل إضافتها إلى ما أحلَّ اللَّه وبقرينة ما ذُكِرَ من سبب الآية.
وقوله سبحانه: وَلا تَعْتَدُوا، قال عكرمة وغيره: معناه: في تحريم ما أحلَّ اللَّه «١»، وقال الحسنُ بنُ أبي الحَسَنِ: المعنى: ولا تعتدُوا، فَتُحِلُّوا ما حرَّم اللَّه «٢»، فالنهْيَان على هذا تضمَّنا الطرفَيْن كأنه قال: لا تشدِّدوا فتحرِّموا حلالاً، ولا تترخَّصوا فتحلُّوا حراماً، قلتُ: وروى مالكٌ في «الموطإ»، عن أبي النَّضْر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لَمَّا ماتَ عثمانُ بْنُ مظعونٍ، ومُرَّ بجَنَازَتِهِ: «ذَهَبْتَ، وَلَمْ تَلْتَبِسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ» «٣».
قال أبو عمر في «التمهيد» : هذا الحديثُ في «الموطإ» مقطوعٌ، وقد رُوِّينَاه متصلاً مُسْنَداً من وجه صالحٍ حسن، ثم أسند أبو عمر عن عائشةَ، قالَتْ: «لمَّا ماتَ عُثْمَانُ بنُ مظعونٍ، كشف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الثَّوْبَ عن وجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وبكى بُكَاءً طويلاً، فلما رُفِعَ عَلَى السَّرِيرِ، قَالَ: طوبى لَكَ يَا عُثْمَان! لَمْ تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا وَلَمْ تَلْبَسْهَا» «٤».
قال أبو عمر: كان عثمانُ بنُ مظعونٍ أحد الفُضَلاء العُبَّاد الزاهدين في الدنيا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتبتِّلين منهم، وقد كان هو وعليُّ بن أبي طالب هَمَّا أنْ يترهَّبا ويَتْرُكَا النساء، ويُقْبِلا على العبادة، ويحرِّما طيِّباتِ الطعامِ على أنفسهما، فنزلت:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية. ونقل هذا مَعْمَرٌ وغيره عن قتادة «٥». انتهى.
وقوله سبحانه: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ: معناه: شدَّدتم، وعَقْدُ اليمينِ كَعَقْدِ الحبل والعهد قال الحطيئة: [البسيط]
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١٣) (١٢٣٥٦)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٢٨).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١٣) (١٢٣٥٨)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٢٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٤٧) وعزاه لعبد بن حميد، عن الحسن.
(٣) أخرجه مالك في «الموطأ» (١/ ٢٤٢) كتاب «الجنائز»، باب جامع الجنائز، حديث (٥٤).
(٤) أخرجه أبو داود (٣/ ٣٠١) كتاب «الجنائز»، باب في تقبيل الميت، حديث (٣١٦٣) والترمذي (٣/ ٣١٤- ٣١٥) كتاب «الجنائز»، باب ما جاء في تقبيل الميت، حديث (٩٨٩) من حديث عائشة.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١٠) (١٢٣٤٦).
414
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمُ شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا «١»
قال «٢» الفَخْر: وأما وجه المناسبة بَيْنَ هذه الآية والَّتي قبلها، فهو ما تقدَّم مِنْ أنَّ قوماً من الصحابة (رضي اللَّه عنهم) حَرَّموا على أنفسهم المطاعِمَ والمَلاَذَّ، وحلفوا على ذلك، فلمَّا نهاهم/ اللَّه تعالى عن ذلك، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فكيف نصنع بأَيْمَانِنَا؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. انتهى.
وقوله سبحانه: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ، أي: إشباعهم مرةً واحدةً، وحكم هؤلاءِ ألاَّ يتكرَّر واحدٌ منهم في كفَّارة «٣» يمينٍ واحدةً.
واختلفَ في معنى قوله سبحانه: مِنْ أَوْسَطِ، فرأى مالك وجماعةٌ معه هذا التوسُّط في القَدْر، ورأى ذلك جماعةٌ في الصِّنْف، والوَجْهُ أن يُعَمَّ بلفظ «الوسَطِ» القَدْرُ والصِّنْفُ، فرأى مالكٌ أنْ يُطْعَمَ المسكينُ ب «المدينة» مدّا بمدّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذلك رطل
(١) البيت للحطيئة ص (١٥)، واللسان (عنج).
وعقد الحبل والعهد يعقده عقدا، وأعقدت العسل والدواء أعقدهما إعقادا والعناج: حبل يشدّ أسفل الدلو إذا كانت ثقيلة، ثم يشد إلى العراقيّ، فإذا انقطعت الأوذام، فانقلبت، أمسكها العناج، يقال: قد عنجت الدلو أعنجها، واسم الحبل: العناج. والكرب: عقد الرشاء الذي يشدّ على العراقي، يقال:
أكربت الدلو أكربها إكرابا، والعراقي: العودان المصلبان اللذان تشدّ إليهما الأوذام، فأراد أنهم إذا عقدوا لجارهم عقدا أحكموه.
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٦١). [.....]
(٣) لا نعلم خلافا بين العلماء في أن المكفر بالإطعام يخرج عن عهد الكفارة بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين ما وجب له.
كما لا نعلم خلاف بينهم أيضا في أنه لا يخرج عن عهدة الكفارة بدفعه ما وجب عليه من الطعام لمسكين واحد في يوم واحد دفعة واحدة لأن ذلك لا يسمى إطعام عشرة مساكين لا حقيقة ولا حكما. فهو مخالف لظاهر الآية. وليس في السنة ما يؤيده.
وإنما الخلاف بينهم في دفع ما وجب عليه من الطعام لمسكين واحد في عشرة أيام، أو في يوم واحد على دفعات متفرقة على سبيل التمليك.
فجمهور العلماء، ومنهم الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور من مذهبه ذهبوا إلى أن ذلك لا يجوز، ولا يخرج به المكفر عن العهدة، ولا بد من إعطاء تسعة مساكين آخرين لكل واحد منهم ما وجب له، فعدد العشرة عندهم معتبر.
ومنهم من ذهب إلى أن ذلك جائز، ومسقط للعهدة، وهو الإمام أبو حنيفة وأصحابه، والإمام أحمد في رواية، غير أن الحنفية يجيزون دفعها لمسكين واحد في أيام متعددة من غير خلاف بينهم، وأمّا دفعها له في يوم واحد على دفعات على سبيل التمليك، فذلك محل خلاف بينهم.
ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسن الكاشف.
415
وثُلُثٌ، وهذا لضيقِ المعيشة بالمدينة، ورأى في غيرها أنْ يتوسَّع، ورأى من يقول: إنَّ التوسُّط إنما هو في الصِّنْف أنْ يكون الرجُلُ المكفِّر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد، وينحطُّ عن الأعلى، ويكفِّرُ بالوَسَط من ذلك، ومذهب «المدونة» أنْ يراعي المكفِّر عيش البلد، وتأويلُ العلماء في الحانث في اليمين باللَّه: أنه مخيَّر في الإطعام، أو الكُسْوة، أو العِتْق، والعلماءُ على أنَّ العتق أفضلُ ذلك، ثم الكسوة، ثم الإطعام، وبدأ اللَّه تعالى عباده بالأيسر، فالأيسر، قال الفَخْر «١» : وبدأ سبحانه بالإطعام لأنه أعمُّ وجوداً، والمقصودُ منه التنبيهُ على أنه سبحانه يُرَاعِي التخفيفَ، والتسهيلَ في التكاليفِ، وثانيها: أنَّ الإطعام أفضلُ، قلتُ: وهذا هو مشهورُ مذهب مالكٍ. انتهى، ويجزىء عند مالكٍ من الكُسْوَة في الكفارة ما يجزىء في الصّلاة «٢».
(١) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٦٤- ٦٥).
(٢) النوع الثاني من الأنواع المخيّر فيها في كفارة اليمين، هي كسوة عشرة مساكين، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة: ٨٩].
اتفقت كلمة الفقهاء على أن المكفر إذا أعطى لكل مسكين من العشرة ثوبين فأكثر، كفاه ذلك، وسقطت عنه الكفارة.
ولكنهم اختلفوا في أقل ما يعطاه المسكين الواحد: فذهب الشافعي- رضي الله عنه-، وجمهور أهل الظاهر: إلى أن أقل ما يعطاه المسكين الواحد هو ما يطلق عليه اسم الكسوة، كالمنديل، أو العمامة، أو الإزار، ولا يشترط أن يكون صالحا للمعطى، بل جائز أن يعطى ما يصلح للكبير للصغير، وما للرجل للمرأة وبالعكس، كما لا يشترط أن يكون جديدا.
وذهب الإمام مالك، وأصحابه إلى أن المجزئ من ذلك ثوب تصح فيه الصّلاة، فإن كان المسكين رجلا وجب أن يعطى ثوبا يستر جميع البدن، وإن كان امرأة وجب أن تعطى ثوبا تستر به جميع بدنها، وخمارا تغطي به رأسها، وفي ذلك يقول مالك في الموطأ: «أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة أنه إن كسا الرجال كساهم ثوبا ثوبا، وإن كسا النساء كساهم ثوبين ثوبين درعا وخمارا وذلك أدنى ما يجزىء كلّا في صلاته» وليس بلازم أن يكون الثوب، أو ما معه جديدا، بل يكفي أن يكون صالحا للبس كما أنه ليس بلازم أن يكون المسكين كبيرا، بل الصغير والكبير في الكسوة سواء.
وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى أن المجزئ من ذلك هو ما يستر البدن، ويسمى به الشخص مكتسيا، وذلك كالقميص، أو الإزار السابخ، أو القباء، أو الكساء أو الملحفة، وخالفهما الإمام محمّد حيث قال: يجزىء من ذلك ثوب تصح فيه الصلاة للرجل والمرأة، فيجوز عنده السراويل للرجل لأنه يسمى لابسا شرعا، ولا يجزىء عندهما لأن لابسه لا يسمى مكتسيا عرفا.
وذهب الإمام أحمد إلى أن المجزئ من ذلك ثوب يصح للرجل أن يصلّي فيه، وللمرأة درع وخمار، وقال: لا يجزىء إزار وحده أو سروال.
ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسن الكاشف.
416
وقوله سبحانه: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، أيْ: مؤمنة قاله مالك «١» وجماعةٌ لأن هذا المطْلَق راجعٌ إلى المقيدِ في عِتْقِ الرقبة في قَتْل الخطإ.
وقوله سبحانه: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ: معناه: لم يجدْ في ملكه أحد هذه الثلاث
(١) ذهب الجمهور، ومنهم مالك، والشافعي، وأحمد في مشهور مذهبه، والأوزاعي: إلى أن عتق الرقبة الكافرة في كفارة اليمين لا يجزىء، ولا تسقط الكفارة به.
وذهب الإمام أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، وعطاء، وأبو ثور إلى أن ذلك مجزىء، ومسقط للكفارة، وهو رواية عن الإمام أحمد.
احتج الجمهور بما رواه مسلم، والنّسائيّ عن معاوية بن الحكم قال: «كانت لي جارية فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: عليّ رقبة. أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين الله؟ فقالت في السّماء فقال: من أنا؟
فقالت: أنت رسول الله. فقال صلّى الله عليه وسلّم: أعتقها، فإنّها مؤمنة»
.
ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخّر الجواب عن السائل، حتى علم ما عليه تلك الرقبة من الإيمان أو الكفر، فلما تأكد له إيمانها، أجابه صلّى الله عليه وسلّم بأن يعتقها، وقال له: «فإنّها مؤمنة». فلو لم يكن وصف الإيمان له دخل في إجزاء العتق، لما كان لهذا التأخير فائدة، ومثل ذلك يجلّ عنه مقام الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام علّق عتقها على الإيمان، وتعليق ذلك يدل على أن الإيمان علّة الإجزاء لأن تعلّق الحكم بالمشتق مؤذن بأن مبدأ الاشتقاق علة فيه.
وقالوا: إن الرقبة في الآية، وإن كانت مطلقة غير مقيدة بوصف الإيمان، إلا أن هذا الحديث يصلح أن يكون مقيدا لها، فيكون المقصود من الرقبة فيها: هي الرقبة المؤمنة أو يقال: إن كفارة اليمين قد اتحد الحكم فيها مع كفارة القتل، ففي كل وجب عتق رقبة، واختلف سببهما إذ كفارة اليمين سببها اليمين، وكفارة القتل سببها القتل، والمطلق والمقيد متى اتحد حكمهما حمل المطلق على المقيد، وإن اختلف سببهما متى وجدت علّة جامعة بينهما، فتكون الرقبة في كفارة اليمين محمولة على الرقبة في كفارة القتل، فتقيد بالإيمان، كما قيدت به في كفارة القتل لأن العلة التي تجمعهما: هي حرمة السبب.
واحتج الإمام أبو حنيفة، ومن معه بأن الآية غير مقيدة، فهي شاملة للرقبة المؤمنة، وللرقبة الكافرة، والمطلق يجب بقاؤه على إطلاقه، حتى يرد من الشرع ما يقيده، ولم يرد ما يقيد الرقبة بالإيمان هاهنا، فكانت باقية على إطلاقها، فعتق الكافرة مجزىء كعتق المسلمة، وليس حمل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم مع اختلاف السبب أمرا متفقا عليه، بل نحن لا نقول به، وبالنظر في وجهة كل نجد أن مذهب الجمهور هو الراجح، لأن الحديث المتقدم مقيد للآية، فلم تبق على إطلاقها ولأن الكفارة عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل، فوجب أن تكون خاصة بأهل عبادته من المؤمنين كمال الزكاة، وذبائح النّسك.
نعم، إن الإسلام دين الرحمة العامة، والصدقة فيه حتى على الكفار غير المحاربين مستحبة، ولكن فرقا بين الصدقة المطلقة، وبين العبادات المحددة المقيدة، فتكفير الذنب إنما يرجى بما في العتق من إعانة العتيق على طاعته تعالى، حتى من قال بإجزاء الكافرة لا يمكنه أن ينكر أن الاحتياط في إبراء الذمة إنما هو بإعتاق الرقبة المؤمنة، فتقديم المجمع عليه المتيقن إجزاؤه أولى بالاعتبار من المظنون المختلف فيه.
ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسن الكاشف.
417
المذكورة. واختلفَ العلماءُ في حدِّ هذا العادِمِ، ومتى يصحُّ له «١» الصيام فقال الشافعيُّ ومالكٌ وجماعة من العلماء: إذا كان المكفِّر لا يملك إلاَّ قوته، وقُوتَ عياله، يَوْمَهُ وليلته، فله أنْ يصوم، فإن كان عنده زائدٌ على ذلك مَا يُطْعِم عشرةَ مساكينَ، لزمه الإطعام، قال «٢» الطبريُّ: وقال آخرون: جائز لِمَنْ لم يكُنْ له فضْلٌ على رأس ماله الذي يتصرَّف به في معايشه أنْ يصوم، وقرأ أبيُّ بن كعبٍ، وابن مسعود: «ثلاثة أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ»، وقال بذلك جماعة.
وقال مالك وغيره: إن تابع، فحَسَنٌ، وإن فرق، أجزأ، وقوله: إِذا حَلَفْتُمْ، معناه: وأردتم الحِنْثَ، أو وقعتم فيه.
(١) من خصال كفارة اليمين هي صيام ثلاثة أيّام، والعلماء متفقون على أن تلك الخصلة لا ينتقل إليها المكفر إلا بعد العجز عن الخصال السابقة لقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة: ٨٩].
ولكنهم مختلفون في شيء آخر وراء هذا، وهو: هل يجب التتابع في صوم تلك الأيام الثلاثة بحيث لا يتخللها فطر أو لا يجب ذلك فيه خلاف.
ذهبت الشافعية في الراجح من مذهبهم، والمالكية، والظاهرية، وأحمد في رواية عنه: إلى عدم اشتراط التتابع محتجين بأنه صوم نزل به القرآن غير مقيد بالتتابع، فجاز متفرقا ومتتابعا لأنّه لم يوجد من السنة دليل ثابت يصح أن يقيد به هذا الإطلاق، فالتقييد بالتتابع تقييد بلا دليل.
وذهبت الحنفية، وأحمد في مشهور مذهبه، والثّوريّ وأبو عبيد: إلى اشتراط التتابع محتجين بقراءة أبيّ، وابن مسعود «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام متتابعات» قائلين: إن ثبت القرآن بهذا كان حجة ووجب حمل المطلق على المقيد لأن القرآن يفسّر بعضه بعضا، وإن لم تثبت القرآنية بهذا، فلا يخرج ذلك عن أن يكون رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمعها ابن مسعود، وأبي معه، فلها حكم الحديث المرفوع، وهو حجة، فيقيد به مطلق الكتاب، وأيّا ما كان، فالتتابع ثابت بهذا، فلا يصح التفريق في الصّيام ونحن إذا نظرنا إلى وجهة كل نجد أن القول بالتتابع هو الراجح، لأن القائلين بعدم التتابع قد حملوا المطلق في تحرير الرقبة على المقيد فيها في كفارة القتل، حتى أوجبوا اعتبار وصف الإيمان في الرقبة مع أن السبب فيهما مختلف، وليس لهم مستند في ذلك إلا أن كلّا من الكفارتين تجمعهما علة واحدة هي: حرمة السبب، وهذه العلة بذاتها موجودة في الصوم في كفارة اليمين، وقراءة أبيّ، وابن مسعود: «فصيام ثلاثة أيّام متتابعات». فهذه القراءة، وإن لم تثبت قرآنية هذا اللفظ لأن القرآن لا يثبت بالآحاد إلّا أنها رواية عن صحابي سمعها من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلا ينبغي أن يتقوّل عليه ما لم يقله لأنه يعرف حقّ المعرفة معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «من كذب عليّ متعمّدا، فليتبوّأ مقعده من النّار» فتكون مقيدة للآية.
فقول من قال: إن الآية مطلقة، ولم يرد ما يقيدها لا يقبل بعد البيان السابق، وخصوصا إذا أمكن حمل المطلق هاهنا على المقيد في كفارة القتل، أو الظهار، ولا مانع منه.
ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسانين الكاشف، «الخطيب على المنهاج» (٤/ ٣٢٨)، «الشرح الكبير» (٢/ ١١٨)، «المغني» (١١/ ٢٧٣)، «فتح القدير» (٤/ ١٨).
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٥/ ٣٠).
418

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ... الآية:
قال ع «١» : وفي معنى الأزلام: الزَّجْرُ بالطيرِ، وأخْذُ الفألِ في الكتب ونحوه ممَّا يصنعه الناسُ، وأخبر سبحانه أنَّ هذه الأشياء رجْسٌ، قال ابن عباس في هذه الآية: رِجْسٌ:
سَخَطَ «٢»، وقال ابن زَيْدٍ: الرجْسُ «٣» الشرُّ.
قال ع «٤» : الرِّجْس: كلُّ مكروهٍ ذميمٍ، وقد يقال للعذابِ والرجْزِ: العذابُ لا غَيْر، والرِّكْس: العَذِرَةُ لا غَيْر، والرِّجْسُ يقال للأمرين.
وقوله سبحانه: فَاجْتَنِبُوهُ: أمر باجتنابه، فحرمت الخمر بظاهر القرآن، ونصِّ الأحاديث، وإجماع الأمة، وأمْرُ الخمر إنما كان بتدريجٍ ونوازلَ كثيرةٍ كقصَّة حمزة، حين جَبَّ الأسْنِمَة، وقولِهِ: وهل أنتم إلا عبيدُ أبِي، ثم أعلم سبحانه عباده أنَّ الشيطان إنَّمَا يريد أنْ تقع العداوةُ بسَبَبِ الخَمْر، وما يعتري عليها بَيْنَ المؤمنينِ، وبسبب المَيْسر إذ كانوا يتقَامَرُونَ عَلَى الأموال حتى رُبَّما بَقِيَ المقمور فقيراً، فَتَحْدُثُ من ذلك ضغائِنُ وعداواتٌ، فإن لم يصلِ الأمر إلى حَدِّ العداوة، كانَتْ بغضاء، ولا تحسُنُ عاقبة قومٍ متباغضين، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَاناً» «٥»، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين، ويجاهَدُ العدوُّ، والبغضاءُ تنقضُ عُرَى الدِّين، وتهدم عمادَ الحمايةِ، وكذلك أيضاً يريدُ الشيطانُ أنْ يصدَّ المؤمنين عَنْ ذكْر اللَّه، وعنِ الصلاة، ويشغلهم عنها باتباع الشهواتِ، والخمرُ والميسرُ والقمَارُ كلُّه مِنْ أعظم الآفات في ذلك، وفي قوله سبحانه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ: وعيدٌ زائد على معنى: «انتهوا».
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٣٣).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ٣٣) (١٢٥٤)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٣٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٦٦) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق علي، عن ابن عباس.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ٣٣) (١٢٥١٥)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٣٣).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٣٣).
(٥) تقدم تخريجه.

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٣ الى ٩٤]

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
وقوله سبحانه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا...
الآية: قال ابن عباس وغيره: لما نزل تحريمُ الخَمْر، قال قومٌ من الصحابة: يا رسول اللَّه، كَيْفَ بِمَنْ مات مِنَّا، وهو يشربها، ويأكل المَيْسِرَ، ونحو هذا من القَوْل، فنزلَتْ هذه الآية «١»، وهذا نظيرُ سؤالِهِمْ عَمَّن مات على القبلة الأولى، والجُنَاحُ: الإثم والحَرَج، والتَّكرار في قوله سبحانه: «اتَّقوا» يقتضي في كلِّ واحدة زيادةً على التي قبلها، وفي ذلك مبالغةٌ في هذه الصِّفَات لهم، وليسَتِ الآيةُ وقفاً على مَنْ عمل الصالحاتِ كلَّها، واتقى كلَّ التقوى، بل هي لكلِّ مؤمن، وإن كان عاصياً أحياناً إذا كان قد عَمِلَ من هذه الخصالِ المَمْدُوحة ما استحق به أنْ يوصف بأنه مؤمنٌ عامل للصالحات متَّقٍ في غالبِ أمره، محسنٌ، فليس على هذا الصِّنْف جُنَاحٌ فيما طعم ممَّا لم يُحَرَّم عليه، وطَعِمُوا: معناه:
ذَاقُوا فصَاعداً في رُتَب الأكل والشُّرب، وقد يستعار للنوم وغيره، وحقيقتُهُ في حاسَّة الذّوق.
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ، أي: ليختبرنَّكم ليرى طاعتكم مِنْ معصيتكم، وقوله: «بشيءٍ» يقتضي تبعيضاً، و «مِنْ» : يحتمل أنْ تكون للتبعيض، ويحتمل أنْ تكون لبيانِ الجِنْس كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠].
وقوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ: معناه: ليستمرَّ علمه تعالى عليه، وهو موجودٌ إذ قد علم تعالى ذلك في الأزل، وبِالْغَيْبِ: قال الطبريُّ «٢» : معناه: في الدنيا حيثُ لا يَرَى العبْدُ ربَّه، فهو غائبٌ عنه، والظاهر أنَّ المعنى: بالغَيْب من الناس، أي: في الخَلْوة ممَّن خاف اللَّه. انتهى، قلتُ: وقول الطبريِّ أظهر، ثم توعَّد تعالى من اعتدى بعد النهْيِ بالعذابِ الأليم، وهو عذابُ الآخرة.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ٣٨) (١٢٥٢٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٣٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٦٧)، وعزاه لابن مردويه، من طريق العوفي، عن ابن عباس.
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٥/ ٤١).

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٥ الى ٩٨]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ... الآية: الصَّيْد:
مصدرٌ عومِلَ معاملةَ الأسماء، فأوقع على الحَيَوانِ المَصِيدِ، ولفظُ الصيد هنا عامٌّ، ومعناه الخصوصُ فيما عدا ما استثني، وفي الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالفَأْرَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ العَقُورُ» «١»، وأجمع النَّاس على إباحة قتل الحَيَّة، وبَسْطُ هذا في كتب الفقه، وحُرُمٌ: جمع حرامٍ، وهو الذي يدخُلُ في الحَرَم، أو في الإحرام، واختلف في قوله: مُتَعَمِّداً، فقال مجاهد وغيره:
معناه: متعمِّداً لقتله، ناسياً لإحرامه «٢»، فهذا يُكَفِّرُ، وأما إنْ كان ذاكراً لإحرامه، فهو أعظم
(١) ورد هذا الحديث عن ابن عمر، وعائشة، وحفصة، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وأبي رافع، وأبي هريرة.
أما حديث ابن عمر فله طرق.
فأخرجه مسلم (٢/ ٨٥٨) كتاب «الحج»، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، حديث (٧٣/ ١٢٠٠) وأبو داود (٢/ ٤٢٤) كتاب «المناسك»، باب ما يقتل المحرم من الدواب، حديث (١٨٤٦)، والنسائي (٥/ ١٩٠٠) كتاب «الحج»، باب قتل الغراب، وأحمد (٢/ ٨) وابن الجارود رقم (٤٤٠) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢/ ١٦٥) والبيهقي (٥/ ٢٠٩) كتاب «الحج»، باب ما للمحرم قتله من دواب البر في الحلّ والحرم، والحميدي (٢/ ٢٧٩) رقم (٦١٩) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٤/ ٢٩٢- ٢٩٣) وأبو يعلى (٩/ ٣١١) رقم (٥٤٢٨) من طريق الزهري عن سالم، عن أبيه مرفوعا.
وأخرجه مالك (١/ ٣٥٦) كتاب «الحج»، باب ما يقتل المحرم من الدواب حديث (٨٨) والشافعي في «المسند» (١/ ٣١٩) كتاب «الحج»، باب فيما يباح للمحرم... (٧٣٥) والبخاري (٦/ ٣٥٥) كتاب «بدء الخلق»، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم... (٣٣١٥) ومسلم (٢/ ٨٥٨) كتاب «الحج»، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، حديث (٧٦/ ١١٩٩) والنسائي (٥/ ١٨٧- ١٨٨) كتاب «الحج»، باب ما يقتل المحرم من الدواب. [.....]
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ٤١) برقم (١٢٥٥١)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٣٧).
421
مِنْ أن يكفِّر، وقد حَلَّ ولا رخْصَة له.
وقال جماعة من أهْل العلْمِ، منهم ابن عباس ومالكٌ والزُّهْرِيُّ وغيرهم: المتعمِّد:
القاصد للقتلِ، الذَّاكرُ لإِحرامه «١»، فهو يكفِّر، وكذلك الناسِي والقاتلُ خطأً يكفِّران، وقرأ نافع «٢» وغيره: «فَجَزَاءُ مِثْلِ»، - بإضافة الجزاء إلى «مثل» -، وقرأ حمزة وغيره: «فَجَزَاءُ» - بالرفع-، «مِثْلُ» - بالرفع أيضاً-، واختلفَ في هذه المماثلة، كيف تكُون، فذهب الجمهور إلى أنَّ الحَكَمين ينظران إلى مِثْلِ الحيوان المَقْتُول في الخِلْقَة، وعظم المرأى، فيجعلانِ ذلك من النَّعَم جزاءه/، وذهب الشَّعْبيُّ وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة يُقَوَّم الصيدُ المقتول، ثم يشتري بقيمته نِدٌّ من النَّعَم، ورد الطبريُّ «٣» وغيره هذا القولَ، والنَّعَم: لفظ يقع علَى الإبل والبَقَر والغَنَم، إذا اجتمعت هذه الأصنافُ، فإن انفرد كلُّ صِنْفٍ لم يُقَلْ «نَعَم» إلا للإبل وحْدها، وقَصَرَ القرآنُ هذه النازَلَة على حَكَمين عدْلَيْن عالِمَيْن بحُكْم النازلة، وبالتقدير فيها، وعلى هذا جمهورُ الناس.
قال ابنُ وهْب في «العتبية» : من السنة أن يُخَيِّرَ الحَكَمان مَنْ أصاب الصيد كما خَيَّره اللَّه تعالى في أنْ يخرج هَدْياً بالغَ الكَعْبة، أو كفارةً طعامَ مساكينَ، أو عَدْلَ ذلك صياماً، فإن اختار الهَدْيَ، حَكَما عليه بما يريانِهِ نَظيراً لما أصاب ما بينهما وبَيْن أن يكون عَدْلَ ذلك شاةً لأنها أدنَى الهَدْيِ، فما لم يبلُغْ شاةً، حَكَمَا فيه بالطعامِ، ثم خُيِّر في أنْ يطعمه أو يصوم مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يوماً، وكذلك قال مالكٌ في «المدوَّنة» : إذا أراد المصيبُ أنْ يطعم أو يصوم، فَإنْ كان لِمَا أصاب نظيرٌ من النَّعَم، فإنه يقوَّمُ صيدُهُ طعاماً، لاَ دَرَاهِمَ، قال: وإن قوَّماه دراهمَ، واشتري بها طعامٌ، لَرَجَوْتُ أنْ يكون واسعاً، والأول أصْوَبُ، فإنْ شاء، أطعمه، وإلا صام مَكَانَ كلِّ مُدٍّ يوماً، وإن زاد ذلك على شهرين، أو ثلاثة، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقالُ: كَمْ مِنْ رجلٍ يَشْبَعُ من هذا الصيدِ، فيعرف العددَ، ثم يقال: كَمْ من الطعامِ يُشْبِعُ هذا العَدَدَ؟ فإن شاء، أخرج ذلك الطعام، وإن شاء، صام عدد أمداده، وهذا قولٌ حسنٌ احتاط فيه لأنه قد تكونُ قيمةُ الصيدِ مِنَ الطعامِ قليلةً، فبهذا النَّظَر يكثر الإطعام.
(١) ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٢٧).
(٢) ينظر: «الحجة» (٣/ ٢٥٤)، و «حجة القراءات» (٢٣٥)، و «إعراب القراءات» (١/ ١٤٩)، و «العنوان» (٨٨)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٢٣٥)، و «شرح شعلة» (٣٥٤)، و «إتحاف» (١/ ٥٤٢)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٣٨).
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (٥/ ٤٨).
422
وقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ذكرت «الكعبة» لأنها أم الحَرَم، والحَرَمُ كلُّه مَنْحَرٌ لهذا الهَدْيِ ولا بد أن يجمع في هذا الهَدْي بَيْن الحِلِّ والحَرَمِ حتى يكون بالِغَ الكعبة، فالهَدْيُ لا ينحر إلا في الحَرَمِ.
واختلفَ في الطَّعَام، فقال جماعةٌ: الإطعام والصَّوْمِ حيث شاء المكفِّر من البلاد، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: الهَدْيُ والإطعام بمكَّة «١»، والصوم حيث شِئْتَ.
وقوله سبحانه: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ: الذوق هنا مستعارٌ، والوبالُ: سوءُ العاقبةِ، والمرعَى الوَبِيلُ هو الذي يتأذى به بَعْد أكله، وعبَّر ب أَمْرِهِ عن جميع حاله مِنْ قتلٍ وتكْفيرٍ، وحكمٍ علَيْه، ومُضِيِّ مالِهِ، أو تعبِهِ بالصَّوْمِ، واختلف في معنى قوله سبحانه:
عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ... الآية: فقال عطاءُ بن أبي رباح، وجماعة: معناه: عفا اللَّه عما سَلَفَ في جاهليَّتكم مِنْ قتلكم الصيد في الحرمة «٢»، ومَنْ عاد الآنَ فِي الإسلام، فإن كان مستحلاًّ، فينتقم اللَّه منه في الآخرة، ويكفَّرُ في ظاهر الحُكْم، وإن كان عاصياً، فالنقْمَةُ هي في إلزامُ الكَفَّارة فقَطْ، قالوا: وكلَّما عاد المُحْرِمُ، فهو يكفِّر.
قال ع «٣» : ويخاف المتورِّعون أنْ تبقى النِّقْمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالكٍ ونظرائه، وأصحابِهِ (رحمهم اللَّه)، وقال ابن عباس وغيره: أما المتعمِّد، فإنه يكفِّر أول مرَّةٍ، وعفا اللَّه عن ذَنْبه، فإن اجترأ، وعاد ثانياً، فلا يُحْكَم عليه، ويقال له: ينتقم اللَّه منْكَ «٤» كما قال اللَّه تعالى.
وقوله سبحانه: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ: تنبيهٌ على صفتين تقتضيان خَوْفَ من له بصيرةٌ، ومن خاف، ازدجر، ومن هذا المعنى قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «من خاف أدلج «٥»، ومن
(١) ذكره ابن عطية (٢/ ٢٤٠).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ٥٩) (١٢٦٤٠)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٨٤)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن عطاء.
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٢٤٠).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ٦١) (١٢٦٥٥)، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٦٥)، وابن عطية (٢/ ٢٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٥٨٤)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، من طريق عكرمة عن ابن عباس.
(٥) يقال: أدلج- بالتخفيف-: إذا سار من أول الليل.
ينظر: «النهاية» (٢/ ١٢٩).
423
أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ» «١»، قلت: والصيد لِلَّهْوِ مكروه، وروى أبو داود في سُنَنه، عن ابنِ عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ سَكَنَ البَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتبع الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أتَى السُّلْطَانَ، افتتن» «٢». انتهى.
وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ... الآية: البَحْر: الماء الكثيرُ، مِلْحاً كان أو عَذْباً، وكلُّ نهر كبير: بحرٌ، وطعامه: هو كل ما قَذَفَ به، وما طَفَا عليه قاله جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب مالك.
ومَتاعاً: نصبٌ على المَصْدر، والمعنى: مَتَّعَكُمْ به متاعاً تنتفعون به، وتأتدمون، ولَكُمْ: يريد حاضري البحر ومدنه، ولِلسَّيَّارَةِ: المسافرينَ، واختلف في مقتضى قوله سبحانه: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً، فتلقاه بعضهم على العُمُوم من جميع جهاته فقالوا: إنَّ المُحْرِمَ لا يحلُّ له أنْ يصيد، ولا أنْ يأمر من يَصِيد، ولا أن يأكل صيداً صِيدَ من أجله، ولا مِنْ غير أجله، وأنَّ لَحْم الصيد بأيِّ وجه كان حرامٌ على المُحْرِمِ، وكان عمر بنُ الخطَّاب (رضي اللَّه عنه) لاَ يرى بأساً للمُحْرِمِ أنْ يأكل ما صَادَهُ حلالٌ لنفسه، أو لحلالِ مثله «٣»، وقال بمثل قولِ عمر- عثمانُ بنُ عفَّان والزُّبَيْر بنُ العَوَّام وهو الصحيح «٤» لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَكَلَ مِنَ الحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ أبو قَتَادَةَ، وهو حلال، والنبيّ- عليه السلام- محرم «٥».
(١) أخرجه الترمذي (٤/ ٥٤٦) كتاب «صفة القيامة»، باب من خاف أدلج، حديث (٢٤٥٠) والحاكم (٤/ ٣٠٧- ٣٠٨) من طريق هاشم بن القاسم، عن أبي عقيل الثقفي، عن يزيد بن سنان، عن بكير بن فيروز، عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(٢) أخرجه أبو داود (٢/ ١٢٤) كتاب «الصيد»، باب في اتباع الصيد، حديث (٢٨٥٩)، والترمذي (٤/ ٥٢٣)، كتاب «الفتن»، حديث (٢٢٥٦) والنسائي (٧/ ١٩٥- ١٩٦) كتاب «الفرع والعتيرة»، باب اتباع الصيد، وأحمد (١/ ٣٥٧) وابن أبي شيبة (١٢/ ٣٣٦) وأبو نعيم في «الحلية» (٤/ ٧٢) والبيهقي (١٠/ ١٠١)، والطبراني في «الكبير» (١١/ ٥٦- ٥٧) رقم (١١٠٣٠) كلهم من طريق سفيان الثوري عن أبي موسى اليماني، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري.
(٣) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (٥/ ٦٤) (١٢٦٧١) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٤٢).
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٤٢).
(٥) أخرجه البخاري (٦/ ٩٨)، كتاب «الجهاد»، باب ما قيل في الرماح، حديث (٢٩١٤)، ومسلم (٢/ ٨٥٢)، كتاب «الحج»، باب تحريم الصيد للمحرم، حديث (٥٧/ ١١٩٦)، وأبو داود (٢/ ٤٢٨، -[.....]
424
ثم ذكَّر سبحانه بأمر الحَشْر والقيامةِ، مبالغةً في التحذير ولما بان في هذه الآيات تعظيمُ الحَرَمِ والحُرْمة بالإحرام من أجْل الكعبة، وأنَّها بيْتُ اللَّه تعالى، وعنصر هذه الفَضَائلَ ذَكَرَ سبحانه في قوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ تنبيهاً سَنَّهُ في الناس، وهداهم إلَيْهِ، وحَمَلَ عليه الجاهليَّة الجهلاَءَ من التزامهم أنَّ الكعبة قِوَامٌ، والهَدْي قِوَامٌ، والقلائد قِوَام، أي: أمر يقوم للناس بالتَّأمين، ووَضْعِ الحربِ أوزارها، وأعلَمَ تعالى أنَّ التزامَ النَّاس لذلك هو ممّا شرعه وارتضاه، وجَعَلَ، في هذه الآيةِ: بمعنى «صَيَّر»، والكَعْبَة بيْتُ مكة، وسمي كعبةً لتربيعه، قال أهْل اللُّغَة: كلُّ بَيْتٍ مربَّع، فهو مكعَّب، وكَعْبة، وذهب بعض المتأوِّلين إلى أنَّ معنى قوله تعالى: قِياماً لِلنَّاسِ، أي: موضع وُجُوب قيامٍ بالمناسك والتعبُّدات، وضَبْطِ النفوسِ في الشهر الحرام، ومع الهَدْيِ والقلائدِ، قال مَكِّيٌّ:
معنى قِياماً لِلنَّاسِ، أي: جعلها بمنزلة الرئيس الَّذي يقُومُ به أمر أتباعه، فهي تحجزهم عَنْ ظُلْم بعضهم بعضاً، وكذلك الهَدْيُ والقلائد جُعِلَ ذلك أيضاً قياماً للناس فكان الرجُلُ إذا دَخَل الحَرَمِ أَمِنَ مِنْ عدوه، وإذا ساق الهَدْي كذلك، لم يعرض لَهُ، وكان الرجُلُ إذا أراد الحجَّ، تقلَّد بقلادة مِنْ شعر، وإذا رجع تقلَّد بقلادة من لِحَاءِ شَجَر الحَرَمِ، فلا يعرض له، ولا يؤذى حتى يَصِلَ إلى أَهله، قال ابنُ زيد: كان الناسُ كلُّهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضُهُم عن بعض، ولم يكُنْ في العرب ملوكٌ تدفع عن بعضهم ظُلْمَ بعضٍ، فجعل اللَّه لهم البَيْتَ الحرامَ قياماً يدفَعُ بعضَهُمْ عن بعض. انتهى من «الهداية».
والشهرُ هنا: اسمُ جنسٍ، والمراد الأشهر الثلاثةُ بإجماع من العرب، وشَهْرُ مُضَرَ، وهو رَجَبٌ، وأما الهَدْيُ، فكان أماناً لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادةٍ لم يأت لحَرْبٍ، وأما القلائد، فكذلك كان الرجُلُ إذا خَرَج يريدُ الحَجِّ/، تقلَّد مِنْ لحاء السَّمُرِ أو غيره
- ٤٢٩)، كتاب «المناسك» (الحج)، باب لحم الصيد للمحرم، حديث (١٨٥٢)، والترمذي (٣/ ٢٠٤، ٢٠٥)، كتاب «الحج»، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، حديث (٨٤٧)، والنسائي (٥/ ١٨٢)، كتاب «الحج»، باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد، وابن ماجة (٢/ ١٠٣٣)، كتاب «المناسك»، باب الرخصة في ذلك إذا لم يصد له، حديث (٣٠٩٣)، ومالك (١/ ٣٥٠)، كتاب «الحج»، باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد، حديث (٧٦)، وأحمد (٥/ ٣٠٢). والدارمي (٢/ ٣٨) كتاب «المناسك»، باب في أكل لحم الصيد للمحرم إذا لم يصد هو، والشافعي (١/ ٣٢١) كتاب «الحج»، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم (٨٣٧)، والحميدي (١/ ٢٠٤) رقم (٤٢٤) وعبد الرزاق (٨٣٣٧، ٨٣٣٨)، وابن خزيمة (٤/ ١٧٦) رقم (٢٦٣٥) وابن الجارود (٤٣٥) والدارقطني (٢/ ٢٩١) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢/ ١٧٣- ١٧٤) والبيهقي (٥/ ١٨٩) والبغوي في «شرح السنة» (٤/ ١٥٧- بتحقيقنا) من طرق عن أبي قتادة به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
425
شيئاً، فكان ذلك أماناً له، وكذلك إذا انصرفوا، تقلَّدوا من شجر الحَرَمِ، وقوله ذلِكَ:
إشارةٌ إلى أنَّ جعل اللَّه هذه الأمور قياماً.
وقوله سبحانه: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: عامٌّ عموماً تامًّا في الجزئيَّات ودَقائِقِ الموجودات، والقولُ بغير هذا إلحاد في الدّين وكفر.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
وقوله سبحانه: مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ... الآية: إخبارٌ للمؤمنين مضمَّنه الوعيدِ، إنِ انحرفوا، ولم يمتثلُوا ما بلغ الرسُولُ إليهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ، قلت: قال الشيخُ أبو مَدْيَن (رضي اللَّه عنه) : الحَقُّ تعالى مطَّلع على السرائر والظواهرِ في كلِّ نَفَسٍ وحالٍ، فأيُّما قلْبٍ رآه مؤثراً له، حَفِظَهُ من الطوارق والمِحَنِ ومضلاَّت الفِتَن، وقال (رحمه الله) : ما عرف الحَقَّ مَنْ لم يُؤْثره، وما أطاعه مَنْ لم يَشْكُرْه.
انتهى.
وقوله تعالى: قُلْ لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ... ألاية: لفظ عامٌّ في جميع الأمور، فيتصوَّر في المكاسِب، وعدد النَّاس، والمعارفِ مِنَ العلوم ونحوِهَا، فالخبيثُ مِنْ هذا كلِّه لا يُفْلِحُ ولا يُنْجِبُ، ولا تحسُنُ له عاقبةٌ، والطَّيِّبُ وإنْ قَلَّ: نافعٌ جميل العاقبة، ويَنْظُرُ إلى هذه الآيةِ قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: ٥٨]، والخبث: هو الفساد الباطنُ في الأشياء حتى يظن بها الصَّلاح، وهي بخلافِ ذلك. وقوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ: تنبيهٌ على لزوم الطَّيِّب في المعتقَدِ والعملِ، وخُصَّ أولو الألباب بالذِّكْر لأنهم المتقدِّمون في مَيْز هذه الأمور، والذين لا ينبغي لهم إهمالها مع ألبابهم وإدراكهم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ... الآية:
اختلف الرواةُ في سببها، والظاهرُ مِنَ الروايات أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَلَحّت علَيْه الأعراب والجُهَّال بأنواع من السؤالاتِ، حَسْبَما هو معلومٌ في الروايات، فزَجَرهم اللَّه تعالى عَنْ ذلك بهذه الآيةِ، وأشْيَاء: اسمٌ لجَمْعِ شيْءٍ، قال ابنُ عباس: معنى الآية: لا تسأَلُوا عن
426
أشياء في ضِمْن الأنباء عنْها مساءَةٌ لكم «١» إما بتكليفٍ شرعيٍّ يلزمكم، وإما بخَبَر يسوءُكم، ولكن إذا نزل القرآن بشيء، وابتدأكم ربُّكم بأمر، فحينئذٍ إنْ سألتم عن تَفْصيله وبَيَانِهِ بيّن لكم، وأبدي، ويحتمل قوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أنْ يكون في معنى الوعيدِ كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم، لَقِيتُمْ غِبَّ ذلك وصعوبته، قال النوويُّ: وعن أبي ثعلبة الخشنيّ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ، لاَ عَنْ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا»، ورُوِّينَاه في «سنن الدارقطنيِّ» «٢».
انتهى، وفي «صحيح البخاريِّ»، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إنَّما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ واختلافهم على أَنْبِيَائِهِمْ، فَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فاجتنبوه، وَإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فأتوا منه ما استطعتم» «٣». انتهى.
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٤٦).
(٢) أخرجه الدارقطني (٤/ ١٨٤) كتاب «الرضاع»، حديث (٤٢) والحاكم (٤/ ١١٥) والبيهقي (١٠/ ١٣) كتاب «الضحايا»، باب ما لم يذكر تحريمه، وأبو نعيم في «الحلية» (٩/ ١٧) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (٢/ ٩) كلهم من طريق داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني به.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ١٧٤) وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
وذكره أيضا الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣/ ٧٢) رقم (٢٩٠٩)، وعزاه لمسدد، وقال:
رجاله ثقات، إلا أنه منقطع.
وللحديث شاهد من حديث أبي الدرداء.
أخرجه الدارقطني (٤/ ٢٩٨) باب الصيد والذبائح والأطعمة، حديث (١٠٤) من طريق نهشل الخراساني عن الضحاك بن مزاحم، عن طاوس، عن أبي الدرداء، وقال أبو الطيب آبادي في «التعليق المغني» (٤/ ٢٩٧) : نهشل الخراساني. قال إسحاق بن راهويه: كان كذابا، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك. وقال يحيى، والدارقطني: ضعيف.
ويبدو أن للحديث طريقا آخر، فقد ذكره الهيثمي في «المجمع» (١/ ١٧٤) وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» و «الصغير»، وفيه أصرم بن حوشب، وهو متروك، ونسب إلى الوضع.
(٣) أخرجه البخاري (١٣٠/ ٢٦٤) كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة»، باب الاقتداء بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديث (٧٢٨٨) ومسلم (٤/ ١٨٣١) كتاب «الفضائل»، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم، حديث (١٣١/ ١٣٣٧)، وأحمد (٢/ ٢٥٨) والحميدي (٢/ ٤٧٧) رقم (١١٢٥) وأبو يعلى (١١/ ١٩٥) رقم (٦٣٠٥) كلهم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم».
ومن طريق أبي الزناد أخرجه البغوي في «شرح السنة» (١/ ١٧٧- بتحقيقنا) وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة.
فأخرجه مسلم (٢/ ٩٧٥) كتاب «الحج»، باب فرض الحج مرة في العمر حديث (٤١٢/ ١٣٣٧) -
427
وعَفَا اللَّهُ عَنْها: معناه: تركَها، ولم يُعَرِّفْ بها، قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ...
الآية: قال الطبريُّ «١» : كقومِ صالحٍ في سؤالهم الناقة وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدةَ، أي: وكطلب الأممِ قديماً التعمُّقَ في الدِّين من أنبيائها، ثم لم تف بما كلّفت.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
وقوله سبحانه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ... الآية:
أي: لم يجعلْ سبحانه شيئاً مِنْ ذلك، ولا سَنَّهُ لعباده، المعنى: ولكن الكُفَّار فعلوا ذلك/ كعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وغيره مِنْ رؤسائهم يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بقولهم: هذه قربةٌ إلى اللَّهِ، وَأَكْثَرُهُمْ، يعني: الأتْبَاعَ لاَ يَعْقِلُونَ، بل يتّبعون هذه الأمور تقليدا، وجَعَلَ في هذه الآية: لا يتَّجه أنْ تكون بمعنى «خَلَقَ»، ولا بمعنى «صَيَّرَ»، وإنما هي بمعنى: «مَا سَنَّ ولا شَرَعَ».
قال ص: مَّا جَعَلَ: ذَهَبَ ابن عطيةَ والزمخشريُّ «٢» إلى أنها بمعنى: «شرع»،
- والنسائي (٥/ ١١٠) كتاب «الحج»، باب وجوب الحج، وأحمد (٢/ ٤٤٧- ٤٤٨، ٤٥٧، ٤٦٧، ٥٠٨) وابن خزيمة رقم (٢٥٠٨) من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة. وأخرجه عبد الرزاق (١١/ ٢٢٠) رقم (٢٠٣٧٤) ومسلم (٤/ ١٨٣١) كتاب «الفضائل»، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم (١٣١/ ١٣٣٧) وأحمد (٢/ ٣١٣) والبغوي في «شرح السنة» (١/ ١٧٦- بتحقيقنا) من طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة.
وأخرجه أحمد (٢/ ٢٤٧، ٤٢٨، ٥١٧)، والحميدي (٢/ ٤٧٧) رقم (١١٢٥) وابن حبان (٢٠٩٧- الإحسان) من طريق محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم (٤/ ١٨٣١) كتاب «الفضائل»، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم حديث (١٣١/ ١٣٣٧)، والترمذي (٥/ ٤٥- ٤٦) كتاب «العلم»، باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديث (٢٦٧٩) من طريق همام بن المنبه، عن أبي هريرة به.
(١) ينظر: الطبري (٥/ ٨٦، ٨٧).
(٢) محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي، الزمخشري، جار الله أبو القاسم ولد سنة (٤٦٧ هـ) في زمخشر (من قرى خوارزم)، من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب، سافر إلى مكة، فجاور بها زمنا، فلقب بجار الله. أشهر كتبه: «الكشاف» و «أساس البلاغة» و «المفصل» ومن كتبه:
«المقامات» و «مقدمة الأدب» و «نوابغ الكلم» و «ربيع الأبرار». توفي بالجرجانية بخوارزم سنة (٥٣٨ هـ).
ينظر: «وفيات الأعيان» (٢/ ٨١)، «لسان الميزان» (٦/ ٤)، «الجواهر المضيئة» (٢/ ١٦٠)، «آداب اللغة» (٣/ ٤٦)، «الأعلام» (٧/ ١٧٨).
428
قال ابن «١» عطيَّة: ولا تكونُ بمعنى «خلق»، لأن اللَّه تعالى خَلَقَ هذه الأشياء كلَّها، ولا بمعنى «صيَّر» لعدم المفعولِ الثاني، قال أبو حيَّان «٢» : ولم يذكر النحويُّون لها هذا، وقد جاء حَذْفُ أحد مفعولَيْ «ظَنَّ» وأخواتِها قليلاً، فتحمل هذه على حَذْفِ المفعولِ الثانيِ، أي: ما صَيَّر اللَّه بحيرةً ولا سائبةً ولا وصيلةً ولا حامياً- مشروعاً، وهو أولى من إثبات معنًى لم يُسْمَعْ فيها، وذكر أبو البقاء أنها هنا بمعنى «سَمَّى» انتهى.
قُلْتُ: وحاصل كلامِ أبي حيَّان أنه شهادةٌ على نفْيٍ، وعلى تقدير صحَّته، فيحمل كلام ابن عطيَّة على أنه تفسيرُ معنًى، لا تفسير إعرابٍ.
وبحيرة: فعليةٌ بمعنى مَفْعُولة، وبَحَرَ: شَقَّ، كانوا إذا نُتِجَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ بُطُونٍ، شَقُّوا أذنها بِنِصْفَيْن طُولاً، فهي مَبْحُورة، وتُرِكَتْ ترعى، وتَرِدُ الماء، ولا ينتفعُ بشيء منْها، ويحرَّمُ لحْمُها إذا ماتَتْ على النساء، ويُحلَّلُ للرِّجَال وذلك كلُّه ضلالٌ، والسائبة: هي الناقة تسيَّب للآلهة، والناقةُ أيضاً إذا تابَعَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ إناثاً ليس فيهِنَّ ذكَرٌ، سُيِّبَتْ، وكانت السوائبُ أيضاً في العرب كالقُرْبة عند المرَضِ يُبْرَأُ منه، والقُدُوم من السفرِ، وإذا نزل بأحدهم أمْرٌ يُشْكَرُ اللَّه تعالى عليه، تقرَّب بأنْ يسيِّب ناقةً، فلا ينتفعُ منها بِلَبَنٍ، ولا ظَهْر، ولا غَيْره، يَروْنَ ذلك كعِتْقَ بني آدمَ ذكَره «٣» السُّدِّيُّ وغيره، وكانَتِ العربُ تعتقدُ أنَّ مَنْ عَرَضَ لهذه النوقِ، فأخذها أو انتفع منْهَا بشيْءٍ، فإنه تلحقه عُقُوبةٌ مِنَ اللَّه، والوصيلةُ: قال أكثر النَّاس: إن الوصيلَةَ في الغَنَمِ، قالوا إذا وَلَدتِ الشاة ثلاثةَ بُطونٍ، أو خمسةً، فإن كان آخرها جَدْياً، ذبحوه لِبَيْت الآلهة، وإن كان عَنَاقاً، استحيوها، وإن كان جَدْيٌ وعَنَاقٌ، استحيوهما، وقالوا: هذه العَنَاقُ وَصَلَتْ أخاهَا، فمنعتْهُ مِنْ أنْ يُذْبَحَ، وعلى أن الوَصِيلة في الغَنَم، جاءت الرِّوايات عن أكثر الناس، وروي عَنِ ابن المسيَّب أن الوصيلة مِنَ الإبل، وأما الحامِي فإنه الفَحْل من الإبل، إذا ضَرَبَ في الإبل عشر سنين «٤»، وقيل: إذا وُلِدَ من صُلْبه عَشْرٌ، وقيل: إذا وُلِدَ مِن وَلَدِ ولده، قالوا: حمى ظهره، فسيَّبوه، لا يركب، ولا يسخَّر في شيء، وعبارةُ الفَخْر «٥» : وقيل: الحامِي: الفَحْلُ إذا رَكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ. انتهى، قلتُ: والذي في «البخاريِّ» : والحامِ: فحلُ الإبلِ يضرب الضّراب المعدود، وإذا قضى
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٤٧).
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٤/ ٣٨).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ٩١) (١٢٨٤٣).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ٩١) (١٢٨٤٤)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٤٨).
(٥) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٩١).
429
ضِرَابه، وَدَعُوهُ للطَّواغيتِ، وأعْفَوْه من الحمل، فلم يُحْمَلْ شيءٌ عليه، وسمَّوْه الحامِيَ.
انتهى.
وقوله سبحانه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، يعني: لهؤلاءِ الكفار المستنِّينَ بهذه الأشياء:
تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، يعني: القرآن الذي فيه التحريمُ الصحيحُ، قالُوا حَسْبُنا، معناه: كفانا.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...
الآية: قال أبو ثعلبة الخُشَنِيُّ: سَأَلتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ هذه الآيةِ، فَقَالَ: «ائتمروا بِالمَعْرُوفِ وانهوا عَنِ المُنْكَرِ، فَإذَا رَأَيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَشُحًّا مُطَاعاً، وإعْجَابَ كُلِّ ذِيَ رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَّةِ نَفْسِكَ، / وذَرْ عَوَامَّهُمْ فَإنَّ وَرَاءَكِمُ أَيَّاماً أَجْرُ العَامِلِ فِيهَا كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» «١»، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي لاَ نَظَرَ لأحَدٍ مَعهُ لأنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِلصَّلاَحِ صادرٌ عن النبيِّ- عليه السلام-، وجملةُ ما عليه أهْلُ العِلْمِ في هذا أنَّ الأمر بالمعروفِ متعيِّن، متى رُجِيَ القبولُ، أو رُجِيَ ردُّ الظالم، ولو بعنف ما لم يَخَفِ الآمرُ ضرراً يلحقه في خاصَّته، أو فتنةً يُدْخِلُها على المُسْلمين إما بشَقِّ عَصَا، وإما بضَرَرٍ يلحق طائفةً من الناس، فإذا خيف هذا، ف عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ: محكَمٌ واجبٌ أنْ يوقَفَ عنده.
وقوله سبحانه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، هذا تذكيرٌ بالحَشْر وما بعده، وذلك مُسَلٍّ عن أمور الدنيا، مكروهِهَا ومحبوبِها، رُوِيَ عن بعض الصالحين أنه قال: ما مِنْ يَوْمٍ إلاَّ ويجيءُ الشيطانُ، فيقول: ما تأكلُ، وما تلبسُ، وأين تَسْكُنُ، فأقول له: آكُلُ المَوْتَ، وألبس الكفن، وأسكن القبر.
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٥٢٦) في الملاحم، باب الأمر والنهي (٤٣٤١) والترمذي (٥/ ٢٤٠) في التفسير:
باب «من سورة المائدة» (٣٠٥٨) وابن ماجة (٢/ ١٣٣٠- ١٣٣١) في الفتن، باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ (٤٠١٤)، وأبو نعيم في «الحلية» (٢/ ٣٠) والطبري (٥/ ٩٧) برقم (١٢٨٦٦- ١٢٨٦٧)، والحاكم (٤/ ٣٢٢) وابن حبان (١٨٥٠- موارد). والبيهقي في السنن (١٠/ ٩١- ٩٢)، والبغوي في «شرح السنة» (٧/ ٣٥٨) (٤٠٥١) عن عتبة بن أبي حكيم، حدثني عمرو بن جارية اللخمي، حدثنا أبو أمية الشعباني به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
قال ع «١» : فَمَنْ فكَّر في مرجعه إلى اللَّه سبحانه، فهذا حاله، قلْتُ: وخرَّج البغويُّ في «المسند المنتخب»، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالاً تَعْزُبُ عَنْكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَتُوشِكُ العوازب أن تئوب إلى أَهْلِهَا، فَمَسْرُورٌ بِهَا، وَمَكْظُومٌ» «٢». انتهى من «الكوكب الدري»، والله المستعان.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ... الآيةَ، إلى قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: ١٠٩] : قال مكِّيٌّ: هذه الآياتُ عند أهْل المعانِي مِنْ أشكل ما في القرآن إعراباً، ومعنًى، وحُكْماً.
قال ع «٣» : وهذا كلام من لم يقع له الثَّلَجُ في تفسيرها وذلك بيِّن من كتابه، وباللَّه نستعين.
لا نَعْلَمُ خلافاً أن سبب هذه الآيةِ أنّ تميما الدّاريّ «٤»...
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥٠). [.....]
(٢) أخرجه الطبراني في «الكبير» (٢/ ٩٤) رقم (١٤١٦) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عبد الله الشامي، عن عائذ الله أبي إدريس، عن ثوبان مرفوعا.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٢٣٤) وقال: رواه الطبراني في «الكبير»، وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥٠).
(٤) هو: تميم بن أوس بن حارثة (خارجة) ابن سود (سواد) ابن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار... أبو رقية. الداري. قال ابن حجر في الإصابة: مشهور في الصحابة، وكان نصرانيا، وقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي صلّى الله عليه وسلّم قصة الجساسة والدجال، فحدث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عنه بذلك على المنبر، وعد ذلك من مناقبه.
قال ابن السكن: أسلم سنة تسع هو وأخوه نعيم ولهما صحبة.
وقال ابن إسحاق: قدم المدينة، وغزا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقال أبو نعيم: كان راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين، وهو أول من أسرج السراج في المسجد. -
431
وعَدِيَّ بْن بَدَّاء «١»، وكانا نصرانيَّيْنِ، سافرا إلى المدينةِ، يريدانِ الشامَ لتجارتهما، وقَدِمَ المدينة أيضاً ابْنُ أَبِي مَارِية مولى عَمْرِو بنِ العاصِي، يريد الشامَ تاجِراً، قال الفخْر «٢» : وكان مُسْلماً، فخرَجُوا رفاقة، فمرض ابنُ أبي مارية في الطريقِ، وأوصى إلى تميمٍ وعديٍّ أنْ يؤدِّيَا رَحْلَهُ إلى أوليائه من بني سَهْم «٣»، وروى ابْنُ عباس عن تميمٍ الداريِّ أنه قال: بَرِىءَ النَّاسُ من هذه الآيةِ غيري وغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاء، وذكر القصَّة «٤»، إلا أنه قال: وكان معه جَامُ فِضَّةٍ، يريد به المُلْكَ، فأخذتُهُ أَنَا وعديٌّ، فبْعنَاه بألفٍ، وقَسَّمنا ثمنه، فلما أسلَمْتُ بعد قُدُومِ رسُولِ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم المدينةَ، تَأَثَّمْتُ من ذلك، فأتيْتُ أهْلَهُ، فأخبرتهم الخبر، وأدَّيْتُ خمسمائة، فوثَبُوا إلى عَدِيٍّ فأتوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحلَفَ عمْرُو بن العاصِي، ورجُلٌ آخر معه، ونُزِعَتْ من عَدِيٍّ خَمْسُمِائَةٍ «٥».
قال ع «٦» : واختلفتِ ألفاظ هذه القصَّة، وما ذكرتُهُ هو عمود الأمْر، ولم تصحَّ لعديٍّ صُحْبة فيما عَلِمْتُ، ولا ثبت إسلامه، وقد صنَّفه في الصحابة بعض المتأخّرين، ولا وجه
- رواه الطبراني من حديث أبي هريرة، وأول من قص وذلك في عهد عمر. رواه ابن إسحاق بن راهويه، وانتقل إلى الشام بعد مقتل عثمان.
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (١/ ٢٥٦)، «الإصابة» (١/ ١٩١)، «الثقات» (٣/ ٣٩)، «الجرح والتعديل» (٢/ ٤٤٠)، «تقريب التهذيب» (١/ ١١٣)، «سير أعلام النبلاء» (٢/ ٤٤٢)، «جمهرة أنساب العرب» (٤٥٤)، (٤٢٢)، «المتفردات والوحدان» (٦٢)، «مشاهير علماء الأمصار» (٥٢).
(١) عدي بن بدّاء: بتشديد الدال قبلها موحدة مفتوحة.
قال ابن حبان: له صحبة، وأخرجه ابن منده، فأنكر عليه ذلك أبو نعيم، وقال: لا يعرف له إسلام.
قال ابن عطيّة: لا يصح لعدي عندي صحبة، وقد وضعه بعضهم في الصحابة، ولا وجه لذكره عندي فيهم، وقوّى ذلك ابن الأثير بأن السياق عند ابن إسحاق: فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يستحلفوا عديّا بما يعظم على أهل دينه.
والذي عندي أن بداء، بفتح الموحدة وتشديد الدال مقصور، وقيل: ممدود. ورأيته بخط الخطيب في سياق القصة عن تفسير مقاتل عديّ بن بندا، بنون بين الموحدة والدال.
ينظر ترجمته في: «الإصابة» (٤/ ٣٨٧)، «الثقات» (٣/ ٣١٨)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٣٧٦)، «أسد الغابة» ت (٣٦٠٥).
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٩٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١١٥) (١٢٩٧٠)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٢/ ٧٤)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥٠).
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥٠).
(٥) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥١).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥١).
432
عندي لذكْره في الصَّحابة.
وأما معنى الآية مِنْ أولها إلى آخرها، فهو أن اللَّه سبحانه أخبر المؤمنين أنَّ حكمه في الشهادةِ عَلَى المُوصِي، إذا حضره الموتُ: أنْ تكونَ شهادة عَدْلَيْنِ، فإن كان في سَفَرٍ، وهو الضَّرْب في الأرض، ولم يكن معه من المؤمنين أحدٌ، فليُشْهِدْ شاهدَيْنِ ممن حَضَرَهُ مِنْ أهْل الكُفْر، فإذا قدما، وأَدَّيا الشهادةَ على وصيَّته، حَلَفَا بعد الصَّلاة أنهما ما كَذَبَا، ولا بَدَّلاَ، وأنَّ ما شهدْنَا به حقٌّ ما كتمنا فيه/ شهادةَ اللَّه، وحُكِمَ بشهادتهما، فإن عُثِرَ بعد ذلك على أنهما كَذَبَا، أو خَانَا، أو نَحْوِ هذا ممَّا هو إثْم، حَلَفَ رُجلانِ مِنْ أولياء المُوصِي في السفر، وغُرِّمَ الشاهدانِ ما ظَهَرَ علَيْهما، هذا معنى الآيةِ على مذهب أبي موسَى الأشعريِّ، وابن عبَّاس، وسعيدِ بْنِ المسيَّب، ويحيى بن يَعْمَرَ، وابنِ جُبَيْر، وأبي مِجْلَزٍ، وإبراهيم، وشُرَيْحٍ، وعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وابن سِيرِينَ، ومجاهدٍ وغَيْرِهم «١»، قالوا: ومعنى قوله:
مِنْكُمْ، أي: مِنَ المؤمنين، ومعنى: مِنْ غَيْرِكُمْ، أي: من الكافرين.
قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلَتْ، ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون في التِّجارة مع أنواع الكَفَرة، واختلفتْ هذه الجماعةُ المذْكُورة، فمذهبُ أبي مُوسَى الأشعريِّ وغيره أن الآية مُحْكَمَةٌ، ومذهب جماعة منهم أنها منسوخةٌ بقوله:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: ٢] وبما عليه إجماعُ جمهور النَّاس أن شهادة الكُفَّار لا تجوزُ.
قال ع «٢» : ولنرجع الآنَ إلى الإعراب، ولنقصِدِ القَوْل المفيد لأن الناس خلطوا في تفسيره هذه الآية تخليطاً شديداً، وذِكْرُ ذلك والرَّدُّ عليه يطولُ، وفي تَبْيِينِ الحَقِّ الذي تتلَقَّاه الأذهانُ بالقَبُول مَقْنَعٌ، واللَّه المستعان.
فقوله تعالى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ، هي الشهادةُ «٣» التي تُحْفَظُ لتؤدى، ورفعها بالابتداء،
(١) ذكره ابن عطية (٢/ ٢٥١).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥٢).
(٣) الشهادات: جمع شهادة: وتجمع باعتبار أنواعها. وإن كانت في الأصل مصدرا. تعريف الشهادة:
للشهادة في اللغة معان: منها: الإخبار بالشيء خبرا قاطعا. تقول: شهد فلان على كذا، أي أخبر به خبرا قاطعا. ومنها: الحضور. تقول: شهد المجلس أي حضره قال تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥] وقال عليه الصلاة والسلام: «الغنيمة لمن شهد الرفعة» أي حضرها. ومنها:
الاطلاع على الشيء، ومعاينته، تقول: شهدت كذا. أي اطلعت عليه وعاينته. ومنها: إدراك الشيء.
تقول: شهدت الجمعة. أي أدركتها، ومنها: الحلف: تقول أشهد بالله لقد كان كذا. أي: أحلف. -
433
والخَبَرُ في قوله: اثْنانِ، وقوله تعالى: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: إذا قارب الحضُورَ، والعاملُ في «إذا» المصدرُ الذي هو «شهادة»، وهذا على أنْ تجعل «إذا» بمنزلة «حِينَ»، لا تحتاج إلى جوابٍ، ولك أن تجعل «إذا» في هذه الآية المحتاجةَ إلى الجوابِ، لكن استغني عن جوابها بما تقدَّم في قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذ المعنى: إذا حَضَر أحدَكُمُ المَوْتُ، فينبغي أن يُشْهِدَ، وقوله: حِينَ الْوَصِيَّةِ: ظرْفُ زمانٍ، والعاملُ فيه حَضَرَ، وإنْ شِئْتَ، جعلته بَدَلاً مِنْ «إذا»، وقوله: ذَوا عَدْلٍ: صفة لقوله: اثْنانِ، ومِنْكُمْ: صفةٌ أيضاً بعد صفةٍ، وقوله: مِنْ غَيْرِكُمْ: صفة ل آخَرانِ وقوله:
تَحْبِسُونَهُما: صفة ل آخَرانِ أيضاً، واعترض بَيْن الموصوفِ والصفةِ بقوله: إِنْ أَنْتُمْ، إلى الْمَوْتُ، وأفاد الاِعتراضُ أنَّ العدول إلى آخرَيْنِ من غَيْر الملَّة، إنما يكونُ مع ضَرُورة السَّفَر، وحلولِ الموتِ فيه، واستغني عن جواب «إنْ» لِمَا تقدَّم من قوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وقال جمهورٌ مِن العلماء: الصلاةُ هنا صلاةُ العَصْر، وقال ابنُ عباس:
إنما هي صلاة الذِّمِّيِّين «١»، وأما العصر، فلا حُرْمَة لها عنْدَهما، والفاءُ في قوله:
فَيُقْسِمانِ: عاطفةٌ جملةً على جملةٍ لأن المعنى تَمَّ في قوله: مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ، وقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ شرطٌ لا يتَّجه تحليفُ الشاهدَيْن إلا به، والضميرُ في قول الحالِفَيْن:
لاَ نَشْتَرِي بِهِ: عائدٌ على القَسَمِ، أو على اسم اللَّهِ، وقوله: لاَ نَشْتَرِي جوابٌ يقتضيه قوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لأن «أقسم» ونحوه يتلقى بما تتلقى به الإيْمَانُ، وقوله:
ثَمَناً، أي: ذا ثَمَنٍ، وخُصَّ ذو القربى بالذِّكْر لأن العرب أمْيَلُ النَّاس إلى قراباتهم، واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يُسْتَسْهَل، وقوله: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ، أضاف الشهادةَ إلَيْه تعالى مِنْ حيث هو الآمِرُ بإقامتها، الناهِي عن كتمانها، وروي عن الشِّعْبِيِّ وغيره: «شَهَادَةً» - بالتنوين-، «اللَّه» - بقطع الألف دون مَدٍّ وخفضِ الهاءِ-، وقال أيضاً:
- ومنها: العلم، قال تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة: ٦] أي عليم. والفعل من باب علم.
وقد تسكن هاؤه فتقول: شهد فلان شهادة، وجمع الشاهد، شهد وشهود وأشهاد، والمشاهدة المعاينة.
عرفها الشافعية بأنها: إخبار صادق بلفظ الشهادة لإثبات حق لغيره على غيره، في مجلس القضاء، ولو بلا دعوى.
عرفها المالكية بأنها: إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه.
عرفها الحنفية بأنها: إخبار بحق للغير على آخر.
ينظر: «مغني المحتاج» (٤/ ٤٢٦)، «أدب القضاء» لابن أبي الدم (١/ ١٧٥)، «نهاية المحتاج» (٨/ ٢٧٧)، «حاشية الدسوقي» (٤/ ١٦٤)، «الدرر» (٢/ ٢٧٠)، «الفتاوى الهندية» (٣/ ٤٥٠). [.....]
(١) أخرجه الطبري بنحوه (٥/ ١١١) برقم (١٢٩٥٨)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥٣).
434
يقف على الهاء مِن: «شهادة» بالسكون، ثم يقطع الألفَ المكتوبَةِ منْ غير مَدٍّ كما تقدَّم، ورُوِيَ عنه كان يقرأ: / «آللَّهِ» - بمد ألفِ الإستفهامِ في الوجْهَيْن-، أعني: بسكون الهاء من «شهادة»، وتحريكها منوَّنةً منصوبةً، ورُوِيَتْ هذه التي هي تَنْوينُ «شهادة»، ومدُّ ألف الاستفهام بَعْدُ عن عَلِيِّ بن أبي طالب، قال أبو الفَتْح: إنما تُسَكَّن هاء «شهادة» في الوقْف عليها.
وقوله سبحانه: فَإِنْ عُثِرَ: استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه، واسْتَحَقَّا إِثْماً: معناه: استوجباه مِنَ اللَّه، وكانا أهْلاً له لأنهما ظَلَمَا وخَانَا.
وقوله تعالى: فَآخَرانِ، أي: إذا عُثِرَ على خيانتهما، فَالأَوْلَيَانِ باليمينِ وإقامةِ القضية: آخرَانِ من القَوْم الذين هُمْ ولاة المَيِّت، واستَحَقَّ عليهم حظُّهم، أو نصيبهم، أو مالهم، أو مَا شِئْتَ من هذه التقديراتِ، وقرأ نافعٌ «١» وغيره: «استحق» - مضمومةَ التاءِ-، «والأَوْلَيَانِ» على تثنية الأولى، ورُوِيَ عنِ ابنِ كَثِيرٍ: «استحق» - بفتح التاء- وكذلك روى حَفْصٌ عن عاصم.
وفي قوله: اسْتَحَقَّ: استعارة لأنه وَجْه لهذا الاستحقاق إلاَّ الغلبة على الحالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعَدَمه لقرابَتِه أو لأهل دِينه، فاستحق هنا كما تقول لظالمٍ يظلمُكَ:
«هذا قَدِ استحق علَيَّ مالِي أوْ مَنْزِلِي بظلمه»، فتشبهه بالمستَحِقِّ حقيقةً إذْ تصوَّر تصوُّره، وتملَّك تملُّكه وهكذا هي «استحقَّ» في الآية على كلِّ حال، وإنْ أسندتَّ إلى النصيب ونحوه.
وقرأ حمزة «٢» وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر: «استحق» - بضم التاء-، «الأَوَّلِينَ» : على جَمْعِ أوَّل ومعناها: من القومِ الذين استحق عليهم أمْرُهُمْ إذْ غُلِبُوا علَيْه، ثم وصَفَهم بأنَّهم أوَّلُون، أي: في الذِّكْر في هذه الآية، وذلك في قوله: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ، ثم بعد ذلك قال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وقوله: فَيُقْسِمانِ، يعني: الآخَرَيْنِ اللذَيْنِ يقُومانِ مَقَامَ شاهِدَيِ الزُّورِ، وقولُهما: لَشَهادَتُنا أي: لَمَا أَخْبَرْنَا نَحْنُ به، وذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ القصَّة- أحقُّ مما ذَكَراه أوَّلاً وحرَّفاه، وَمَا اعْتَدَيْنا في قولنا هذا، وقولهما:
(١) ينظر: «السبعة» (٢٤٨، ٢٤٩)، و «الحجة» (٣/ ٢٦٠- ٢٦١)، و «حجة القراآت» (٢٣٨)، و «العنوان» (٨٨)، و «إعراب القراآت» (١/ ١٤٩- ١٥٠)، و «شرح شعلة» (٣٥٥)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٢٣٧)، و «إتحاف» (١/ ٥٤٣)، و «معاني القراآت» (١/ ٣٤١).
(٢) ينظر السابق.
435
إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ: تَبَرٍّ في صيغة الاِستعظامِ والاِستقباحِ للظُّلْمِ.
وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ... الآية: الإشارة ب «ذلك» هي إلى جميع مَا حَدَّ قَبْلُ مِنْ حَبْسِ الشاهدَيْن من بعد الصلاة لليمينِ، ثم إنْ عثر على جَوْرهما، رُدَّتِ اليمينُ، وغَرِمَا، فذلك كلُّه أقربُ إلى اعتدال هذا الصِّنْف فيما عسى أنْ ينزل من النوازلِ لأنهم يخافُونَ الفضيحة، وردَّ اليمين هذا قولُ ابنِ عبَّاس «١»، وجُمِعَ الضميرُ في يَأْتُوا ويَخافُوا إذ المرادُ صِنْفٌ ونوعٌ من الناسِ، والمعنى: ذلك الحُكْم كلُّه أقربُ إلى أنْ يأتوا، وأقربُ إلى أنْ يخافوا، وباقي الآية بيِّن.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
وقوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ذهب قومٌ إلى أن العاملَ في يَوْمَ: ما تقدَّم مِنْ قوله تعالى: لاَّ يَهْدِي، وذلك ضعيفٌ، ورصْفُ الآيةِ وبراعَتُها إنما هو أنْ يكونَ هذا الكلامُ مستأنَفاً، والعاملُ مقدَّر، إما «اذكر»، أو: «تَذَكَّرُوا»، أو «احذروا»، ونحو هذا ممَّا حَسُنَ اختصاره لعِلْم السامعِ به، والإشارة بهذا اليوم إلى يومِ القيامةِ، وخُصَّ الرسلُ بالذكْر لأنهم قادةُ الخَلْق، وهم المكلَّمون أوَّلاً، وماذا أُجِبْتُمْ: معناه: ماذا أجابَتْكُمْ الأُمَمُ، وهذا السؤالُ للرُّسُل إنما هو لتقُومَ الحجة على الأممِ، واختلف الناسُ في معنى قولهم- عليهم السلام-: لاَ عِلْمَ لَنا: قال الطبريُّ «٢» : ذُهِلُوا عن الجوابِ، لهولِ المَطْلَع وقاله الحسنُ «٣»، وعن مجاهدٍ أنه قال: يَفْزَعُون، فيقولُون: لا علْمَ لنا، وضعَّف «٤» بعضُ النَّاس هذا المنْزَع بقوله تعالى: / لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ
(١) أخرجه الطبري بنحوه (٥/ ١٢٣) (١٢٩٨٣)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥٦).
(٢) ينظر الطبري (٥/ ١٢٥).
(٣) أخرجه الطبري بنحوه (٥/ ١٢٦) برقم (١٢٩٩١).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١٢٦) برقم (١٢٩٩٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥٦)، -
436
[الأنبياء: ١٠٣]، وقال ابنُ عبَّاس: معنى الآية: لاَ عِلْمَ لنا إلا ما علَّمتنا أنْتَ أعلم به منَّا، وقولُ «١» ابنِ عباس حَسَن، وهو أصوبُ هذه المناحِي لأنه يتخرَّج على التسليم للَّه تعالى، وردِّ الأمر إلَيْه إذ هو العالِمُ بجميعِ ذلك على التَّفْصيل والكمالِ، فرأَوُا التسليمَ والخضوعَ لعلْمه المحيطِ سبحانه، قال مكِّيٌّ: قال ابنُ عباس: المعنى: لا علم لنا إلاَّ عِلمٌ أنت أعلَمُ به «٢» منَّا، وهو اختيار «٣» الطبريِّ، وقيل: لما كان السؤالُ عامًّا يقتضي بعمومه سؤالَهُم عَنْ سِرِّ الأمم وعلانِيَتِها، رَدُّوا الأمر إلَيْهِ إذ ليس عندهم إلاَّ علْمُ الظاهر قال مكِّيٌّ: وهذا القولُ أحبُّ الأقوالِ إلَيَّ، قال: ومعنى مسألة اللَّه الرُسلَ عمَّا أَجِيبُوا، إنما هو لمعنَى التوبيخِ لمَنْ أرسلوا إليه كما قال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ [التكوير: ٨]، انتهى من «الهداية».
وقوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ... الآية: قالَ هنا بمعنى يَقُولُ لأن ظاهر هذا القولِ أنه في القيامة تقدمة لقوله سبحانه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: ١١٦].
وقوله سبحانه: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى، أي: من قبورهم، وكفُّ بني إسرائيل عنه- عليه السلام- هو رَفْعُهُ حِينَ أحاطوا به في الَبيْتِ مع الحواريِّين، وكذلك مَنْعُه منْهم قَبْل ذلك إلى تلك النازلةِ الأخيرةِ، فهناك ظَهَر عِظَمُ الكَفِّ.
وقوله سبحانه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ، هو مِنْ جملة تعديدِ النّعم على عيسى- عليه السلام-: وأَوْحَيْتُ في هذا الموضع: إما أن يكون وحْيَ إلهامٍ أَو وحْيَ أمْرٍ، وبالجملةِ فهو إلقاءُ معنًى في خفاءٍ، أوْصَلَهُ سبحانه إلى نفوسهم، كيف شاء، والرسولُ في هذه الآية: عيسى، وقولُ الحواريِّين: وَاشْهَدْ: يحتملُ أن يكون مخاطبةً منهم للَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يكون لعيسى.
- والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٦٠٦) وعزاه للفريابي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١٢٦) برقم (١٢٩٩٤)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥٧) والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٦٠٧)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي، عن ابن عباس.
(٢) ينظر السابق.
(٣) ينظر: الطبري (٥/ ١٢٦).
437

[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]

إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)
وقوله سبحانه: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ... الآية: اعتراضٌ أثناء وَصْفِ حالِ قول اللَّه لعيسى يوم القيامة، مضمّن الاعتراض إخبار نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأمته بنازلةِ الحواريِّين في المائدة، إذ هي مثالٌ نافعٌ لكلِّ أُمَّة مع نبيِّها تقتدِي بمحاسِنِهِ، وتزدجرُ عمَّا ينفُر منه مِنْ طلب الآياتِ ونحوه، وقرأ الجمهورُ: «هَلْ يَسْتَطِيعُ ربُّك» - بالياءِ ورَفْعِ الباءِ- من «رَبُّكَ»، والمعنى: هلْ يفعلُ ربُّك هذا، وهلْ تَقَعُ منه إجابةٌ إليه، ولم يكُنْ منهم هذا شَكًّا في قدرة اللَّه سبحَانَهُ إذ هم أعرفُ باللَّه مِنْ أنْ يشكُّوا في قُدْرته، وقرأ الكسائيُّ «١» :«هلْ تسْتَطِيعُ رَبَّكَ» - بالتاء ونصبِ الباءِ مِنْ «رَبَّكَ» -، والمعنى: هل تَسْتطيعُ سؤَالَ ربِّك، وأدغم اللام في التاء، أعني الكسائيَّ، وقال قومٌ: قال الحواريُّون هذه المقالةَ فِي صَدْر الأمر قبل عِلْمهم بأنه يُبْرِىءُ الأكمه والأبْرَصَ، ويُحْيِي الموتى، ويظهر من قوله- عليه السلام-: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: إنكارٌ لقولهم، واقتراحهم الآياتِ، والتعرُّضِ لسَخطِ اللَّه بها، وقلَّةِ طُمَأْنينتهم إلى ما قد ظهر، ولمَّا خاطبهم- عليه السلام- بهذه المخاطَبَة، صرَّحوا بمقاصدهم الَّتي حملَتْهم على طَلَب المائدةِ، فقالوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها فنَشْرُفَ في العالَم، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا، أي: تسكُنَ فِكرُنَا في أمرك بالمعايَنَةِ لأَمْرٍ نازلٍ من السماء بأعيننا، وَنَعْلَمَ علْمَ الضرورةِ والمشاهدةِ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا فلا تَعْرِضُنا الشُّبَهُ التي تَعْرِضُ في عِلْم الاستدلالِ وهذا يؤيِّد أنَّ مقالتهم كانَتْ في مبدأ أَمْرهم، ثم استمروا على إيمانهم، وصَبَرُوا، وهَلَكَ مَنْ كَفَر، وقولهم: وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ، أي: من الشاهدينَ بهذه النازلةِ، النَّاقلين لها إلى غيرنا الدَّاعين إلى هذا الشَّرْع/ بسببها، ورُوِيَ أن الذي نَحَا بهم هذا المنحى مِنَ الاقتراح هو أنَّ عيسى قال لهم مرَّةً: «هَلْ لَكُمْ فِي صِيَامِ ثَلاَثِينَ يَوْماً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ إنْ سَأَلْتُمُوهُ حَاجَةً، قَضَاهَا»، فَلَمَّا صَامُوهَا، قَالُوا: يا معلِّم الخَيْر، إنَّ حقَّ مَنْ عمل عملاً أنْ يُطْعَمَ، فَهَلْ يستطيعُ ربُّكَ، فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصّوم.
(١) والمعنى على هذه القراءة: هل تقدر يا عيسى أن تسل ربك، فإنهم كانوا مؤمنين، وكانت عائشة تقول:
كان القوم أعلم بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربك، إنما قالوا: هل تستطيع ربك.
ينظر: «السبعة» (٢٤٩)، و «الحجة» (٣/ ٢٧٣)، و «حجة القراءات» (٢٤٠- ٢٤١)، و «العنوان» (٨٨)، و «إعراب القراءات» (١/ ١٥٠)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٢٣٩)، و «شرح الشعلة» (٣٥٦)، و «إتحاف» (١/ ٥٤٥)، و «معاني القراءات» (١/ ٣٤٣).

[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]

قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
وقوله سبحانه: قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ...
الآية، أي: أجابهم عيسى- عليه السلام- إلى ما سألوا، فيروى أنه لَبِسَ جُبَّة شَعْرٍ، ورداءَ شَعْرٍ، وقام يصلِّي، ويبْكِي، والعيدُ: المجتمعُ، وقوله: لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا، رُوِيَ عن ابن «١» عَبَّاس أن المعنى: يكون مجتمعاً لجميعنا أوّلِنا وآخرنا، قال: فأكل من المائدة حِينَ وُضِعَتْ أولُ النَّاس كما أكل آخرهم، وَآيَةً مِنْكَ، أيْ: وعلامةً على صِدْقي، فأجاب اللَّه تعالى دعوةَ عيسى- عليه السلام-، وقال: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ، ثم شَرَطَ عليهم سبحانه شرْطَهُ المتعارَفَ في الأمم أنه مَنْ كَفَر بعد آية الاقتراح، عُذِّب أشدَّ عذابٍ، والجمهور أنَّ المائدة نزلَتْ كما أخبر اللَّه سبحانه، واختلفوا في كيفيَّة ذلك، فقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: نزلَتِ المائدةُ خُبْزاً وسَمَكاً، وقال عطية: المائدةُ سمكَةٌ فيها طَعْمُ كُلِّ طعامٍ، وقال ابنُ عبَّاس: نزل خُوَانٌ عليه خْبُزٍ وسَمَكٌ يأكلون منه أينما نَزَلُوا، إذا شاءوا «٢»، وقال عمَّار بن ياسر: سألوا عيسى مائدةً يكون عليها طعامٌ لا ينفَذُ، فقيل لهم: إنها مقيمةٌ لكم ما لم تُخَبِّئُوا، أو تخونُوا، فإن فعلتم، عُذِّبتم، قال: فما مضى يومٌ حتى خَبَّئُوا، وخانوا، يعني: بني إسرائيل، فمُسِخُوا قردةً وخنازيرَ «٣»، وقال ميسرة: كانَتِ المائدة، إذا وُضِعت لبني إسرائيل، اختلفت عليهم الأيدِي بكلِّ طعامٍ إلا اللحم «٤»، وأكثَرَ الناسُ في قصص المائدةِ ممّا رأيت اختصاره لعدم سنده.
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٦١).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١٣٣) برقم (١٣٠١٠) وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٦١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٦١٣)، وعزاه لابن جرير، وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» من طريق عكرمة، عن ابن عباس. [.....]
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١٣٤) برقم (١٣٠١٦)، وذكره ابن عطية (٢/ ٢٦١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٦١٢)، وعزاه للترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب «الأضداد»، وأبي الشيخ، وابن مردويه عن عمار.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١٣٥) برقم (١٣٠٢٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٦١).

[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٦ الى ١١٨]

وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)
وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ... الآية: اختلف المفسِّرون في وَقْت وقوعِ هذا القَوْل، فقال السدي وغيره: لما رفَع اللَّه عيسى إلى السماء، قالَتِ النصارى ما قالَتْ، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله تعالى عَنْ قولهم، فقال: سُبْحانَكَ... «١» الآية، ويجيء على هذا قولُهُ:
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، أي: في التوبة مِنَ الكُفْر لأن هذا قاله، وهم أحياء في الدنيا، وقال ابن عباس، وجمهورُ النَّاس: هذا القولُ مِنَ اللَّه إنما هو يَوْمَ القيامة يقوله اللَّه له على رءوس الخلائقِ، فَيَرَى الكفَّار تبرِّيَهُ منهم، ويعلَمُون أنّ ما كانوا فيه باطل، فقال «٢» على هذا التأويلِ بمعنى: «يَقُولُ» ونُزِّل الماضِي موضِعَ المستقبلِ لدلالته على كون الأمر وثبوته، وقولُه آخِراً: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ: معناه: إن عذَّبَتْ العالَمَ كلَّه، فبحقِّك، فهم عبادُكَ تصنعُ بحَقِّ المُلْكِ ما شِئْت لا اعتراض علَيْك، وإن غفَرْتَ وسبَقَ ذلك في عِلْمك فلأنك أهْلٌ لذلك لا معقِّب لحكمك، ولا مُنَازَعَ لك، فيقولُ عيسى هذا على جهة التسليمِ والتعزِّي عنهم، مع علمه بأنهم كَفَرةٌ قد حُتِمَ عليهم العذابُ، وهذا القولُ عنْدِي أَرجَحُ ويتقوَّى بما يأتي بعدُ، وهو قوله سبحانه: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة: ١١٩].
وقوله: سُبْحانَكَ، أي: تنزيهاً لك عَنْ أن يقال هذا، ويُنْطَقَ به مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، أي: ما يكون/ لبَشَرٍ مُحْدَثٍ أنْ يَدَّعِيَ الألوهية، ثم قال: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ لأنك أحطت بكلِّ شيء علماً، وأحصيتَ كلَّ شيء عدداً، فوفَّق اللَّه عيسى لهذه الحُجَّة البالغةِ، وقوله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي، خصَّ النفْسَ بالذكْرِ لأنها مَظِنَّةُ الكَتْم والانطواء على المعلومات.
والمعنى: أن اللَّه- سبحانه- يعلم ما في نَفْسِ عيسى، ويعلم كل أَمْرِهِ مما عسى ألا يكون في نفسه.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١٣٧) برقم (١٣٠٣١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٢٦٢)، والسيوطي (٢/ ٦١٥)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٦٢).
وقوله: وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ: معناه: ولا أعلم ما عندك من المعلومات، وما أحَطْتَ به، وذكْر «النفْس» هنا مقابلةٌ لَفْظِيَّةٌ، وفي اللسان العربي يقتضيها الإيجَازُ وهذا ينظر من طَرْفٍ خَفِيٍّ إلى قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: ٥٤] واللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: ١٥] فتسمية العُقُوبَةِ باسم الذَّنْبِ إنما قاد إليها طَلَبُ المُقَابَلَةِ اللفظية، إذ هي من فَصِيحِ الكلام، وبَارِعِ العبارة.
ثم أقر عيسى- عليه السلام- للَّه تعالى بأنه- سبحانه- عَلاَّمُ الغيوب، أي: ولا عِلْمَ لي أنا بغيب.
وقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي: أي: قبضتني بالرَّفْعِ، والتصيير في السّماء، والرَّقِيبَ:
الحافظ المراعي.
وقوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ: أي: في قدرتك، الْحَكِيمُ في أفعالك.
والمعنى: إن يكن لك في النَّاسِ مُعَذَّبُونَ، فهم عبادك، وإن يكن مغفور لهم، فَعزَّتُكَ وحكمتك تَقْتَضِي هذا كله.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٩ الى ١٢٠]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فدخل تحت هذه العِبَارَةِ كل مؤمن باللَّه- سبحانه-، وكُلُّ ما كان أتقى، فهو أَدْخَلُ في العبارة، وجاءت هذه العبارة مُشِيرَةً إلى عيسى- عليه السلام- في حاله، وصدْقه فيحصل له بذلك في المَوْقِفِ شَرَفٌ عظيم، وإن كان اللفظ يعمه وسواه.
ثم ذكر- تعالى- ما أعدَّهُ لهم برحمته، وطوله، جعلنا اللَّه منهم بمَنِّهِ، وسَعَةِ جُودِهِ، لا رَبّ غيره، ولا مرجو في الدَّارَيْنِ سواه، وباقي الآية بَيِّنٌ. جعل اللَّه ما كتبناه من هذه الأحرف نوراً يسعى بين أيدينا بمَنِّهِ. والحمد للَّه كما هو أهْلُهُ، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم.
Icon