مدنية إلا آية ٣ فنزلت بعرفات في حجة الوداع :
وآياتها ١٢٠ نزلت بعد الفتح.
ﰡ
مدنية إلا آية ٣ فنزلت بعرفات في حجة الوداع وآياتها ١٢٠ نزلت بعد الفتح (سورة المائدة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قيل: إن العقود هنا عقدة الإنسان مع غيره من بيع ونكاح وعتق وشبه ذلك، وقيل: ما عقده مع ربه من الطاعات: كالحج والصيام وشبه ذلك، وقيل: ما عقده الله عليهم من التحليل والتحريم في دينه، ذكر مجملا ثم فصل بعد ذلك في قوله:
أحلت لكم وما بعده بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ هي الإبل والبقر والغنم، وإضافة البهيمة إليها من باب إضافة الشيء إلى ما هو أخص منه لأن البهيمة تقع على الأنعام وغيرها، قال الزمخشري:
هي الإضافة التي بمعنى من كخاتم من حديد أي البهيمة من الأنعام، وقيل: هي الوحش كالظباء، وبقر الوحش والمعروف من كلام العرب أن الأنعام لا تقع إلّا على الإبل والبقر والغنم، وأن البهيمة تقع على كل حيوان ما عدا الإنسان إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يريد الميتة وأخواتها غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصب على الحال من الضمير في لكم وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال من محلي الصيد، وحرم جمع حرام وهو المحرم بالحج، فالاستثناء بإلّا من البهائم المحللة، والاستثناء بغير من القوم المخاطبين
لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قيل: هي مناسك الحج، كان المشركون يحجون ويعتمرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقيل لهم: لا تحلوا شعائر الله: أي لا تغيروا عليهم ولا تصدّوهم وقيل: هي الحرم، وإحلاله الصيد فيه، وقيل هي ما يحرم على الحاج من النساء والطيب والصيد وغير ذلك، وإحلاله: فعله وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ قيل: هو جنس الأشهر الحرام الأربعة، وهي رجب وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وقيل أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة وذو الحجة، وإحلالها هو: القتال فيها وتغيير حالها، وَلَا الْهَدْيَ هو ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام، ويذبح تقرّبا إلى الله فنهى الله أن يستحل بأن يغار عليه، أو يصد عن البيت وَلَا الْقَلائِدَ قيل: هي التي تعلق في أعناق الهدي، فنهى عن التعرّض لها، وقيل: أراد ذوات القلائد
الرحمة في الدنيا والآخرة وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا حللتم من إحرامكم بالحج فاصطادوا إن شئتم، فالأمر هنا إباحة بإجماع وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا معنى لا يجرمنكم: لا يكسبنكم، يقال: جرم فلان فلانا هذا الأمر إذا أكسبه إياه وحمله عليه، والشنآن: هو البغض والحقد، ويقال: بفتح النون وإسكانها، وأن صدوكم: مفعول من أجله، وأن تعتدوا: مفعول ثان ليجرمنكم، ومعنى الآية: لا تحملنكم عداوة قوم على أن تعتدوا عليهم من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، ونزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل، لأنهم كانوا قد صدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم، لأن الله علم أنهم يؤمنون وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وصية عامة، والفرق بين البرّ والتقوى أن البرّ عام في فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات، وفي كل ما يقرب إلى الله، والتقوى في الواجبات وترك المحرمات دون فعل المندوبات فالبرّ أعمّ من التقوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ الفرق بينهما أن الإثم كل ذنب بين العبد وبين الله أو بينه وبين الناس، والعدوان على الناس
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ تقدّم الكلام عليها في [البقرة: ١٧٣] وَالْمُنْخَنِقَةُ هي التي تخنق بحبل وشبهه وَالْمَوْقُوذَةُ هي المضروبة بعصا أو حجر وشبهه، والمتردية هي التي تسقط من جبل أو شبهه ذلك، والنطيحة هي التي نطحتها بهيمة أخرى وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي أكل بعضه، والسبع كل حيوان مفترس: كالذئب والأسد والنمر والثعلب والعقاب والنسر إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ قيل إنه استثناء منقطع، وذلك إذا أريد بالمنخنقة وأخواتها: ما مات من الاختناق والوقذ والتردية والنطح
واحدها زلم بضم الزاي وفتحها، وكانت ثلاثة قد كتب على أحدها: افعل، وعلى الآخر:
لا تفعل، والثالث مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرا جعلها في خريطة كيس، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج له الذي فيه افعل: فعل ما أراد، وإن خرج له الذي فيه لا تفعل تركه، وإن خرج المهمل أعاد الضرب ذلِكُمْ فِسْقٌ الإشارة إلى تناول المحرمات المذكورة كلها، أو إلى الاستقسام بالأزلام، وإنما حرمه الله وجعله فسقا: لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، فهو كالكهانة وغيرها مما يرام به الاطلاع على الغيوب الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي يئسوا أن يغلبوه ويطلبوه، ونزلت بعد العصر من يوم الجمعة يوم عرفة في حجة الوداع، فذلك هو اليوم المذكور لظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين، ويحتمل أن يكون الزمان الحاضر لا اليوم بعينه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هذا الإكمال يحتمل أن يكون بالنصر والظهور أو بتعليم الشرائع وبيان الحلال والحرام فَمَنِ اضْطُرَّ راجع إلى المحرمات المذكورة قبل هذا، أباحها الله عند الاضطرار فِي مَخْمَصَةٍ في مجاعة غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هذا بمعنى غير باغ ولا عاد وقد تقدم في البقرة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قام مقام فلا جناح عليه، وتضمن زيادة الوعد.
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ سببها أن المسلمين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يحل لهم من المأكل؟ وقيل: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب، سألوه ماذا يحل لنا من الكلاب؟
فنزلت مبينة للصيد بالكلاب قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هي عند مالك الحلال، وذلك ممّا لم يرد تحريمه في كتاب ولا سنة وعند الشافعي: الحلال المستلذ، فحرم كل مستقذر كالخنافس والضفادع وشبهها لأنها من الخبائث وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على
تعلمونهنّ، وحدّ التعليم عند ابن القاسم: أن يعلم الجارح الإشلاء «١» والزجر، وقيل:
الإشلاء خاصة، وقيل الزجر خاصة، وقيل: أن يجيب إذا دعي تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي تعلمونهن من الحيلة في الاصطياد وتأتي تحصيل الصيد، وهذا جزء مما علمه الله الإنسان، فمن للتبعيض، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، والجملة في موضع الحال أو استئناف فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الأمر هنا للإباحة ويحتمل أن يريد بما أمسكن، سواء أكلت الجوارح منه أو لم تأكل، وهو ظاهر إطلاق اللفظ، وبذلك أخذ مالك، ويحتمل أن يريد مما أمسكن ولم يأكل منه، وبذلك فسره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله فإن أكل منه فلا تأكل فإنه إنما أمسك على نفسه وقد أخذ بهذا بعض العلماء، وقد، ورد في حديث آخر إذا أكل فكل، وهو حجة لمالك وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا أمر بالتسمية على الصيد، ويجري الذبح مجراه، وقد اختلف الناس في حكم التسمية، فقال الظاهرية: إنها واجبة حملا للأمر على الوجوب، فإن تركت التسمية عمدا أو نسيانا، لم تؤكل عندهم وقال الشافعي: إنها مستحبة، حملا للأمر على الندب وتؤكل عنده، سواء تركت التسمية عمدا أو نسيانا، وجعل بعضهم الضمير في عليه عائدا على الأكل فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد ومذهب مالك أنه: إن تركنا التسمية عمدا لم تؤكل، وإن تركت نسيانا أكلت فهي عنده واجبة مع الذكر، ساقطة مع النسيان
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ معنى حل: حلال، والذين أوتوا الكتاب هم اليهود، والنصارى، واختلف في نصارى بني تغلب من العرب، وفيمن كان مسلما ثم ارتد إلى اليهودية أو النصرانية، هل يحل لنا طعامهم أم لا؟ ولفظ الآية يقتضي الجواز لأنهم من أهل الكتاب، واختلف في المجوس والصابئين. هل هم أهل كتاب أم لا؟.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [النساء: ٢٥] الآية: نزلت في غزوة المريسيع، حين انقطع عقد عائشة رضي الله عنها، فأقام الناس على التماسه وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت الرخصة في التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر، ولذلك سميت الآية آية التيمم، وقد كان الوضوء مشروعا قبلها، ثابتا بالسنة، وقوله: إذا قمتم إلى الصلاة معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا. ويقتضي ظاهرها وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة، وهو مذهب ابن سيرين وعكرمة. ومذهب الجمهور: أنه لا يجب، واختلفوا في تأويل الآية على أربعة أقوال: الأول: أن وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة منسوخ بفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ صلّى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، والثاني: أن ما تقتضيه الآية من التجديد يحمل على الندب، والثالث: أن تقديرها إذا قمتم محدثين فإنما يجب على من أحدث، والرابع: أن تقديرها إذا قمتم من النوم فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ذكر في
(٢). وهي قراءة ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر وحجتهم ما روي عن ابن عباس.
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أي ادّعوا أنهم أنصار الله، وسمّوا أنفسهم بذلك، ثم كفروا بالله ووصفوه بما لا يليق به، وتتعلق من الذين بأخذنا ميثاقهم والضمير عائد على النصارى فَأَغْرَيْنا أي أثبتنا وألصقنا، وهو مأخوذ من الإغراء.
يا أَهْلَ الْكِتابِ في الموضعين يعم اليهود والنصارى وقيل: إنها نزلت بسبب اليهود الذين كانوا بالمدينة فإنهم كانوا يذكرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويصفونه بصفته فلما حل بالمدينة كفروا به قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وفي الآية دلالة على صحة نبوته، لأنه بين لهم ما أخفوه مما في كتبهم، وهو أمي لم يقرأ كتبهم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي: يتركه ولا يفضحكم نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً الآية: رد على الذين قالوا: إنّ الله هو عيسى، وهم فرقة من النصارى يَخْلُقُ ما يَشاءُ إشارة إلى خلقه عيسى من غير والد وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى أي قالت: كل فرقة عن نفسها إنهم أبناء الله وأحباؤه، والبنوّة هنا بنوّة الحنان والرأفة، وقال الزمخشري:
المعنى نحن أشياع أبناء الله عندهم، وهما المسيح وعزير كما يقول حشم الملوك: نحن الملوك فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ ردّ عليهم، لأنهم قد اعترفوا أنهم يدخلون النار أياما معدودات، وقد أخذ الصوفية من الآية أن المحب لا يعذب حبيبه، ففي ذلك بشارة لمن أحبه الله وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قيل: جعل منكم ملوكا أي أمراء، وقيل: الملك من له مسكن وامرأة وخادم ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قيل: يعني المنّ والسلوى والغمام وغير ذلك من
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس، وقيل:
الطور، وقيل: دمشق الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قضى أن تكون لكم وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ يحتمل أن يريد الارتداد عن الدين والطاعة، والرجوع إلى الطريق الذي جاءوا منه فإنه روي أنه لما أمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها، وهمّوا أن يقدموا على أنفسهم رئيسا ويرجعوا إلى مصر قَوْماً جَبَّارِينَ هم العمالقة قالَ رَجُلانِ هما يوشع وكالب يَخافُونَ أي يخافون الله، وقيل:
يخافون الجبارين، ولكن الله أنعم عليهما بالصبر والثبوت لصدق إيمانهما ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب المدينة فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ إفراط في العصيان وسوء الأدب بعبارة تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الذين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون «١» لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي قاله موسى عليه السلام ليتبرأ إلى الله من قول بني إسرائيل، ويبذل جهده في طاعة الله ويعتذر إلى الله. وإعراب أخي عطف على نفسي لأن أخاه هارون كان يطيعه، وقيل: عطف على الضمير في لا أملك: أي لا أملك أنا إلا نفسي ولا يملك أخي إلا نفسه، وقيل: مبتدأ، وخبره محذوف أي أخي لا يملك إلا نفسه فَافْرُقْ بَيْنَنا أي فارق بيننا وبينهم فهو من الفرقة، وقيل: افصل بيننا وبينهم بحكم
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً الضمير في قال لله تعالى، وحرم الله على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة وتركهم في هذه المدة يتيهون في الأرض أي في أرض التيه وهو ما بين مصر والشام حتى مات كل من قال. إنا لن ندخلها. ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التيه أيضا. وقيل: إن موسى وهارون لم يكونا في التيه، لقوله فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتل الجبارين، وفتح المدينة، والعامل في
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً الآية: روي أن غرابين اقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر، ثم جعل القاتل يبحث عن التراب ويواري الميت، وقيل: بل كان غرابا واحدا يبحث ويلقي التراب على
(٢). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٦٤٥.
القصاص، فإن القصاص في قاتل الواحد والجميع سواء. الثانية: انتهاك الحرمة والإقدام على العصيان، والثالثة: الإثم والعذاب الأخروي. قال مجاهد: وعد الله قاتل النفس بجهنم والخلود فيها، والغضب واللعنة والعذاب العظيم، فلو قتل جميع الناس لم يزد على ذلك، وهذا الوجه هو الأظهر لأن القصد بالآية: تعظيم قتل النفس والتشديد فيه لينزجر الناس عنه، وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه.
وإحياؤها: هو إنقاذها من الموت كإنقاذ الحريق أو الغريق وشبه ذلك. وقيل: بترك قتلها، وقيل: بالعفو إذا وجب القصاص وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ الضمير لبني إسرائيل. والمعنى تقبيح أفعالهم، وفي ذلك إشارة إلى ما همّوا به من قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية: سببها عند ابن عباس: أن قوما من اليهود كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل، وقال جماعة: نزلت في نفر من عكل وعرينة أسلموا حسب الظاهر ثم إنهم قتلوا راعي النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخذوا إبله. ثم حكمها بعد ذلك في كل محارب، والمحاربة عند مالك هي: حمل السلاح على الناس في بلد أو في خارج بلد، وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد، وقوله: يحاربون الله: تغليظ ومبالغة، وقال بعضهم: تقديره يحاربون رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وذلك ضعيف، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر بعد ذلك وقيل: يحاربون عباد الله
وقيل: يقتل ثم يصلب ليراه أهل الفساد فينزجروا، وهو قول أشهب، وقيل يصلب حيا، ويقتل على الخشبة، وهو قول ابن القاسم أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ معناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد: قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقطع اليد عند مالك والجمهور من الرسغ، وقطع الرجل من المفصل، وذلك في الحرابة وفي السرقة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ مشهور مذهب مالك: أن ينفى من بلد إلى بلد آخر، ويسجن فيه إلى أن تظهر توبته، وروى عنه مطرف أنه يسجن في البلد بعينه، وبذلك قال أبو حنيفة، وقيل: ينفى إلى بلد آخر دون أن يسجن فيه، ومذهب مالك أن الإمام مخير في المحارب بين أن يقتله ويصلبه، أو يقتله ولا يصلبه أو يقطع يده ورجله، أو ينفيه، إلا أنه قال: إن كان قتل فلا بدّ من قتله، وإن لم يقتل، فالأحسن أن يأخذ فيه بأيسر العقاب، وقال الشافعي وغيره: هذه العقوبات مرتبة فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا نفي، وحجة مالك عطف هذه العقوبات بأو التي تقتضي التخيير خِزْيٌ فِي الدُّنْيا هو العقوبة، وعذاب الآخرة النار. وظاهر هذا أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحارب، بخلاف سائر الحدود، ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب فيها، والعذاب في الآخرة لمن لم يعاقب إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قيل:
هي في المشركين وهو ضعيف لأن المشرك لا يختلف حكم توبته قبل القدرة عليه وبعدها، وقيل: هي في المحاربين من المسلمين وهو الصحيح، وهم الذين جاءتهم العقوبات المذكورة، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، فقد سقط عنه حكم الحرابة لقوله:
فاعلموا أن الله غفور رحيم. واختلف [هل] يطالب بما عليه من حقوق الناس في الدماء والأموال أو لا؟ فوجه المطالبة بها أنها زائدة على حدّ الحرابة التي سقطت عنه بالتوبة، ووجه إسقاطها إطلاق قوله غفور رحيم.
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي ما يتوسل به ويتقرّب به إليه من الأعمال الصالحة والدعاء وغير ذلك
لِيَفْتَدُوا بِهِ إن قيل لم وحّد الضمير وقد ذكر شيئين وهما ما في الأرض ومثله؟ فالجواب أنه وضع المفرد في موضع الاثنين، وأجرى الضمير مجرى اسم الإشارة
قدم العذاب على المغفرة لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة.
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية: خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم على وجه التسلية مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ هم المنافقون وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا يحتمل أن يكون عطفا على الذين قالوا آمنا، ثم يكون سماعون استئناف إخبار عن الصنفين المنافقين واليهود، ويحتمل أن يكون من الذين هادوا: استئنافا منقطعا مما قبله، وسماعون راجع إليهم خاصة سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ أي سماعون كلام قوم آخرين من اليهود الذين لا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلّم لإفراط البغضة والمجاهرة بالعداوة، فقوله: لم يأتوك صفة لقوم آخرين، والمراد بالقوم الآخرين يهود خيبر، والسماعون للكذب بنو قريظة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي يبدلونه من بعد أن يوضع في موضعه، وقصدت به وجوهه القويمة، وذلك من صفة اليهود يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ نزلت بسبب أن يهوديا زنى بيهودية فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهود عن
قال ابن عباس: نزلت الثلاثة في اليهود: الكافرون، والظالمون، والفاسقون، وقد روي في هذا أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال جماعة: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم، إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان، وقال الشافعي: الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها كتبنا بمعنى الكتابة في الألواح، أو بمعنى الفرض والإلزام، والضمير في عليهم لبني إسرائيل، وفي قوله فيها للتوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي تقتل النفس إذا قتلت نفسا، وهذا إخبار عما في التوراة وهو حكم في شريعتنا بإجماع، إلا أن هذا اللفظ عامّ، وقد خصص العلماء منه أشياء، فقال مالك: لا يقتل مؤمن بكافر للحديث الوارد في ذلك ولا يقتل حر بعبد، لقوله الحر بالحر والعبد بالعبد وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة [١٧٨] وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وما بعده حكم القصاص في الأعضاء، والقراءة بنصب العين وما بعده عطف على النفس، وقرئ بالرفع «١» ولها ثلاثة أوجه:
أحدها العطف على موضع النفس لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس والثاني العطف على الضمير الذي في الخبر وهو بالنفس، والثالث أن يكون مستأنفا مرفوعا بالابتداء وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ بالنصب عطف على المنصوبات قبله، وبالرفع على الأوجه الثلاثة التي في رفع العين، وهذا اللفظ عامّ يراد به الخصوص في الجراح التي لا يخاف على النفس منها فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فيه تأويلان: أحدهما من تصدق من أصحاب الحق بالقصاص وعفا عنه، فذلك كفارة له يكفر الله ذنوبه لعفوه وإسقاطه حقه، والثاني من تصدّق وعفا فهو كفارة للقاتل والجارح بعفو الله عنه في ذلك لأن صاحب الحق قد عفا عنه، فالضمير في له على التأويل الأوّل يعود على من التي هي كناية عن المقتول أو المجروح، أو الولي، وعلى الثاني يعود على القاتل أو الجارح وإن لم يجر له ذكر، ولكن سياق الكلام يقتضيه، والأوّل أرجح لعود الضمير على مذكور، وهو من، ومعناها واحد على التأويلين، والصدقة بمعنى العفو على التأويلين، إلا أن التأويل الأول بيان لأجر من عفا، وترغيب في العفو، والتأويل الثاني: بيان لسقوط الإثم عن القاتل أو الجارح إذا عفي عنه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ قد تقدم معنى مصدق في
وَمُهَيْمِناً ابن عباس شاهدا، وقيل مؤتمنا عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ تضمن الكلام معنى: لا تنصرف أو لا تنحرف، ولذلك تعدى بعن لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [قال ابن عباس] : سبيلا وسنة، والخطاب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو الأمم، والمعنى أن الله جعل لكل أمة شريعة يتبعونها، وقد استدل بها من قال: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وذلك في الأحكام والفروع، وأما الاعتقاد، فالدين فيها واحد لجميع العالم، وهو الإيمان بالله، وتوحيده وتصديق رسله، والإيمان بالدار الآخرة فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ استدل به قوم على أن: تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وهذا متفق عليه في العبادات كلها، إلا الصلاة ففيها خلاف، فمذهب الشافعي أن تقديمها في أوّل وقتها أفضل، وعكس أبو حنيفة، وفي مذهب مالك خلاف وتفصيل، واتفقوا أن تقديم المغرب أفضل وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ عطف على الكتاب في قوله: وأنزلنا إليك الكتاب، أو على الحق في قوله: بالحق، وقال قوم:
إن هذا وقوله قبله فاحكم بينهم ناسخ لقوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم: أي ناسخ للتخيير الذي في الآية، وقيل: إنه ناسخ للحكم بالتوراة، ونزلت الآية بسبب قوم من اليهود، طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بينهم فأبى من ذلك، ونزلت الآية تقضي أن يحكم بينهم أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ توبيخ لليهود، وقرئ بالياء إخبارا عنهم، وبالتاء «١» خطابا لهم لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قال الزمخشري اللام للبيان: أي هذا الخطاب لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتبين لهم أنه لا أحسن من الله حكما
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ سببها موالاة عبد الله بن أبي بن سلول ليهود بني قينقاع، وخلع عبادة بن الصامت الحلف الذي كان بينه وبينهم، ولفظها عام، وحكمها باق، ولا يدخل فيه معاملتهم في البيع والشراء وشبهه فَإِنَّهُ مِنْهُمْ تغليظ في الوعيد، فمن كان يعتقد معتقدهم فهو منهم من كل وجه ومن خالفهم في اعتقادهم وأحبهم فهو منهم في المقت عند الله، واستحقاق
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ خطاب على وجه التحذير والوعيد، وفيه إعلام بارتداد بعض المسلمين فهو إخبار بالغيب قبل وقوعه، ثم وقع فارتدّ في حياة رسول صلّى الله عليه وسلّم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وبنو مدلج قوم الأسود العنسي الذي ادعى النبوة، وقتل في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد الذي ادّعى النبوة ثم أسلم وجاهد، ثم كثر المرتدون، وفشا أمرهم بعد موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى كفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانت القبائل التي ارتدت بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبع قبائل بنو فزارة وغطفان وبنو سليم وبنو يربوع وكندة، وبنو بكر بن وائل، وبعض بني تميم، ثم ارتدت غسان في زمان عمر بن الخطاب، وهم [قوم] جبلة بن الأيهم الذي تنصر من أجل اللطمة فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأها، وقال: قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري «٢»، والإشارة بذلك والله أعلم إلى أهل اليمن، لأن الأشعريين من أهل اليمن، وقيل: المراد أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردّة، ويقوي ذلك ما ظهر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الجد في قتالهم، والعزم عليه حين
(٢). روى الطبري بسنده إلى أبي موسى الأشعري هذا الحديث لدى تفسير هذه الآية.
ذكر الوليّ بلفظ المفرد إفرادا لله تعالى بهما، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قال إنما أولياؤكم لم يكن في الكلام أصل وتبع وَهُمْ راكِعُونَ قيل: نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه سأله سائل وهو راكع في الصلاة، فأعطاه خاتمه، وقيل: هي عامّة، وذكر الركوع بعد الصلاة لأنه من أشرف أعمالها، فالواو على القول الأوّل واو الحال، وعلى الثاني للعطف فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هذا من إقامة الظاهر مقام المضمر: معناه فإنهم هم الغالبون وَالْكُفَّارَ بالنصب عطف على الذين اتخذوا، وقرئ «١» بالخفض عطف على الذين أوتوا الكتاب، ويعضده قراءة ابن مسعود: ومن الكفار، ويراد بهم المشركون من العرب وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية: روي أن رجلا من النصارى كان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أنّ محمدا رسول الله قال: حرق الله الكاذب، فوقعت النار في بيته فاحترق هو وأهله «٢»، واستدل بعضهم بهذه الآية على ثبوت الأذان من القرآن ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ جعل قلة عقولهم علة لاستهزائهم بالدين
هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا هل تعيبون علينا وتنكرون منا إلا إيماننا بالله، وبجميع كتبه ورسله، وذلك أمر لا ينكر ولا يعاب، ونظير هذا في الاستثناء العجيب قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهنّ فلول من قراع الكتائب |
(٢). ذكر الطبري هذه الرواية عن السدّي.
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غل اليد كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود ومنه:
ولا تجعل يدك مغلولة: أي لا تبخل كل البخل، ولا تبسطها كل البسط: أي لا تجد كل
(٢). لم يذكرها الطبري ولا ابن خالويه في كتاب الحجة ولا ابن زرعة في حجة القراءات والله أعلم. [.....]
فلان يعطي بكلتا يديه إذا كان عظيم السخاء كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ إيقاد النار عبارة عن محاولة الحرب، وإطفاؤها عبارة عن خذلانهم وعدم نصرهم، ويحتمل أن يراد بذلك أسلافهم، أو يراد من كان معاصرا للنبي صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم منهم، ومن يأت بعدهم، فيكون على هذا إخبار بغيب، وبشارة للمسلمين.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا الآية: يحتمل أن يراد أسلافهم والمعاصرون للنبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم، فيكون على هذا ترغيبا لهم في الإيمان والتقوى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إقامتها بالعلم والعمل وذكر الإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قيل: من فوقهم عبارة عن المطر، ومن تحت أرجلهم: عبارة عن النبات والزرع، وقيل: ذلك استعارة في توسعة الرزق من كل وجه أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي معتدلة، ويراد به من أسلم منهم: كعبد الله بن سلام، وقيل من لم يعاد الأنبياء المتقدمين يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أمر بتبليغ جميع ما أوحي إليه على الاستيفاء والكمال، لأنه كان قد بلغ وإنما أمر هنا ألا يتوقف عن شيء مخافة أحد وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ هذا وعيد على تقدير عدم التبليغ، وفي ارتباط هذا الشرط مع جوابه قولان: أحدهما أن المعنى إن تركت منه شيئا، فكأنك لم تبلغ شيئا، وصار ما بلغت لا يعتد به، فمعنى إن لم تفعل: إن لم تستوف التبليغ على الكمال، والآخر أن المعنى إن لم تبلغ الرسالة وجب عليك عقاب من كتمها، ووضع السبب موضع المسبب وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وعد وضمان للعصمة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخاف أعداءه ويحترس منهم في غزواته وغيرها، فلما نزلت هذه الآية قال: يا أيها الناس انصرفوا فإن الله قد
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية أي لستم على دين يعتد به يسمى شيئا حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وقوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ قال ابن عباس: يعني القرآن، ونزلت الآية بسبب رافع بن حارثة وسلام بن بشكم ورافع بن خزيمة وغيرهم من اليهود جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، فقالوا إنا نتبع التوراة ولا نتبع غيرها، ولا نؤمن بك ولا نتبعك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا تقدم الكلام على نظيرتها في [البقرة: ٦٢] وَالصَّابِئُونَ قراءة السبعة بالواو وهي مشكلة حتى قالت عائشة: هي من لحن كتاب المصحف، وإعرابها عند أهل البصرة مبتدأ وخبره محذوف تقديره: والصابئون كذلك وهو مقدم في نية التأخير، وأجاز بعض الكوفيين أن يكون معطوفا على موضع اسم إن، وقيل:
إن هنا بمعنى نعم وما بعدها مرفوع بالابتداء وهو ضعيف وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي بلاء واختبار، وقرئ «١» تكون بالرفع على أن تكون أن مخففة من الثقيلة، وبالنصب على أنها مصدرية فَعَمُوا وَصَمُّوا عبارة عن تماديهم على المخالفة والعصيان ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قيل: إن هذه التوبة رد ملكهم ورجوعهم إلى بيت المقدس بعد خروجهم منه، ثم أخرجوا المرة الثانية فلم ينجبر حالهم أبدا، وقيل: التوبة بعث عيسى عليه السلام، وقيل:
بعث محمد صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير من عموا وصموا أو فاعل على لغة أكلوني البراغيث والبدل أرجح وأفصح وَقالَ الْمَسِيحُ الآية: رد على النصارى، وتكذيب لهم وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يحتمل أن يكون من كلام المسيح، أو من كلام الله
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ الآية: رد على من جعله إلها وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً الآية: إخبار عن شدة عداوة اليهود وعبدة الأوثان للمسلمين وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً الآية: إخبار أن النصارى أقرب إلى مودة المسلمين، وهذا الأمر باق إلى آخر الدهر فكل يهودي شديد العداوة للإسلام والكيد لأهله ذلِكَ بِأَنَّ
تعليل لقرب مودتهم، والقسيس العالم والراهب العابد وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ الآية هي في النجاشي، وفي الوفد الذين بعثهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سبعون رجلا، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن فبكوا كما بكى النجاشي، حين قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سورة مريم، وقال السهيلي: نزلت في وفد نجران، وكانوا نصارى عشرين رجلا، فلما سمعوا القرآن بكوا مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ من الأولى سببية والثانية بيان للجنس آمَنَّا أي بالقرآن من عند الله مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع المسلمين، وكذلك مع القوم الصالحين وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ توقيف «١» لأنفسهم، أو محاجة لغيرهم وَنَطْمَعُ قال الزمخشري: الواو للحال، وقال ابن عطية: لعطف جملة على جملة لا لعطف فعل على فعل لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ سببها أن قوما من الصحابة غلب عليهم خوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء، وبعضهم النوم بالليل، وبعضهم أكل اللحم، وهم بعضهم أن يختصوا، أو يسيحوا في الأرض، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم: «أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» «٢» وَلا تَعْتَدُوا أي لا تفرطوا في التشديد على أنفسكم أكثر مما شرع لكم وَكُلُوا أي تمتعوا بالمآكل الحلال، وبالنساء وغير ذلك، وإنما خص الأكل بالذكر، لأنه أعظم حاجات الإنسان
بِاللَّغْوِ تقدم في البقرة بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي بما قصدتم عقده بالنية، وقرئ عقدتم بالتخفيف» «٣»، وعاقدتم بالألف «٤» إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ اشتراط المسكنة دليل على أنه لا يجزي في الكفارة إطعام غني، فإن أطعم جهلا لم يجزيه على المشهور من المذهب، واشترط مالك أيضا أن يكونوا أحرارا مسلمين، وليس في الآية ما يدل على ذلك مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ اختلف في هذا التوسط
(٢). رواه الإمام أحمد عن أنس ج ٣ ص ٣٠٤.
(٣). وهي قراءة حمزة والكسائي.
(٤). هي قراءة ابن عامر.
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا فيها تأويلان: أحدهما أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها؟ فنزلت الآية
لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ معنى حرم داخلين في الإحرام وفي الحرم، والصيد هنا عامّ خصّص منه الحديث: الغراب والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور «٢». وأدخل مالك في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها، وقاس الشافعي على هذه الخمسة: كل ممّا لا يؤكل لحمه، ولفظ الصيد يدخل فيه ما صيد وما لم يصد مما شأنه أن يصاد وورد النهي هنا عن القتل قبل أن يصاد وبعد أن يصاد، وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله [الآتي] «وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما» وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً مفهوم الآية يقتضي أن جزاء الصيد على المتعمد لا على الناسي، وبذلك قال أهل الظاهر،
(٢). الحديث رواه أحمد عن عائشة وأوله: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: والحية والغراب: إلخ ج ٦ ص ١١٣.
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أحلّ الله بهذه الآية صيد البحر للحلال والمحرم، والصيد هنا المصيد، والبحر هو الماء الكثير: سواء كان ملحا أو عذبا، كالبرك ونحوها، وطعامه هو ما يطفو على الماء وما قذف به البحر لأنّ ذلك طعام وليس بصيد، قاله أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب، وقال ابن عباس: طعامه ما ملح منه وبقي مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ الخطاب بلكم للحاضرين في البحر، والسيارة المسافرون أي هو متاع ما تدومون به وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً الصيد هنا يحتمل أن يراد به المصدر أو الشيء المصيد أو كلاهما، فنشأ من هذا أن ما صاده المحرم فلا يحلّ له أكله بوجه، ونشأ الخلاف فيما صاد غيره، فإذا اصطاد حلال، فقيل: يجوز للمحرم أكله، وقيل: لا يجوز إن اصطاده لمحرم، والأقوال الثلاثة مروية عن مالك، وإن اصطاد حرام [محرم] لم يجز لغيره أكله عند مالك خلافا للشافعي جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أي أمرا يقوم للناس بالأمن والمنافع، وقيل: موضع قيام بالمناسك ولفظ الناس هنا عام، وقيل: أراد العرب خاصة، لأنهم الذين كانوا يعظمون الكعبة وَالشَّهْرَ الْحَرامَ يريد جنس الأشهر الحرم الأربعة، لأنهم كانوا يكفون فيها عن القتال وَالْهَدْيَ يريد أنه أمان لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وَالْقَلائِدَ كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئا من السمر، وإذا رجع تقلد شيئا من أشجار الحرم، ليعلم أنه كان في عبادة، فلا يتعرض له أحد بشيء، فالقلائد هنا هو ما تقلده المحرم من الشجر، وقيل: أراد قلائد الهدي، قال سعيد بن جبير: جعل الله هذه الأمور للناس في الجاهلية وشدّد في الإسلام ذلِكَ لِتَعْلَمُوا الإشارة إلى جعل هذه الأمور قياما للناس، والمعنى جعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل الأمور
سببها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فقالوا يا رسول الله أفي كل عام؟
فسكت، فأعادوا، قال لا، ولو قلت: نعم لوجبت «١»، فعلى الأول تسؤكم بالإخبار بما لا يعجبكم، وعلى الثاني: تسؤكم بتكليف ما يشق عليكم، ويقوي هذا قوله عفا الله عنها: أي سكت عن ذكرها ولم يطالبكم بها كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عفا الله عن الزكاة في الخيل» «٢»، وقيل إن معنى عفا الله عنها: عفا عنكم فيما تقدم من سؤالكم فلا تعودوا إليه وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فيه معنى الوعيد على السؤال: كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم أبدي لكم ما يسؤوكم، والمراد بحين ينزل القرآن: زمان الوحي قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ الضمير في سألها راجع إلى المسألة التي دل عليها لا تسألوا، وهي مصدر، ولذلك لم يتعدّ بعن كما تعدى قوله إن تسألوا عنها، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا، فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أمروا به ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ لما سأل قوم عن هذه الأمور التي كانت في الجاهلية: هل تعظم لتعظيم الكعبة والهدي؟ أخبرهم الله أنه لم يجعل شيئا من ذلك لعباده أي لم يشرعه لهم، وإنما الكفار جعلوا ذلك، فأما البحيرة: فهي فعيلة بمعنى مفعولة من بحر إذا شق، وذلك أن الناقة إذا أنتجت عشرة أبطن شقوا آذانها، وتركوها ترعى ولا ينتفع بها، وأما السائبة فكان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، وأما الوصيلة فكانوا: إذا ولدت الناقة ذكرا وأنثى في بطن واحد قالوا: وصلت الناقة أخاها فلم يذبحوها، وأما الحامي فكانوا إذا نتج من صلب الجمل عشرة بطون قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه شيء وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي يكذبون عليه بتحريمهم ما لم يحرّم الله وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الذي يفترون على الله الكذب هم الذين اخترعوا تحريم تلك
(٢). روى أحمد الحديث عن عليّ بن أبي طالب بلفظ: عفوت لكم عن صدقة الخيل. ج ١ ص ١٧٩.
قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي يكفينا دين آبائنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ قال الزمخشري: الواو واو الحال، دخلت عليها همزة الإنكار، كأنه قيل: أحسبهم هذا وآباؤهم لا يعقلون، قال ابن عطية: ألف التوقيف [الاستفهام] دخلت على واو العطف، وقول الزمخشري أحسن في المعنى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قيل: إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: إنها خطاب للمسلمين من ذرية الذين حرّموا البحيرة وأخواتها، كأنه يقول: لا يضركم ضلال أسلافكم إذا اهتديتم، والقول الصحيح فيها ما ورد عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: «سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم» «١» ومثل ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ليس هذا بزمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم، فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ.
قال مكي: هذه الآية أشكل آية من القرآن إعرابا، ومعنى، وحكما، ونحن نبين معناها على الجملة، ثم نبين أحكامها وإعرابها على التفصيل، وسببها أنّ رجلين خرجا إلى الشام، وخرج معهما رجل آخر بتجارة، فمرض في الطريق فكتب كتابا قيد فيه كل ما معه، وجعله في متاعه وأوصى الرجلين أن يؤديا رحله إلى ورثته فمات فقدم الرجلان المدينة، ودفعا رحله إلى ورثته، فوجدوا فيه كتابه وفقدوا منه أشياء قد كتبها، فسألوهما فقالا لا ندري هذا الذي قبضناه، فرفعوهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبقى الأمر مدّة، ثم عثر على إناء عظيم من فضة، فقيل لمن وجده عنده من أين لك هذا، فقال اشتريته من فلان وفلان، يعني الرجلين، فارتفع الأمر في ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا فحلفا واستحقا، فمعنى الآية: إذا حضر الموت أحد في السفر، فليشهد عدلين بما معه، فإن وقعت ريبة في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا ولا بدّلا، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما إعراب الآية، وشهادة بينكم مرفوع بالابتداء وخبره: اثنان التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين أو مقيم شهادة بينكم اثنان إذا حضر أي قارب الحضور، والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة، وهذا على أن يكون
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي إن طلع بعد ذلك على أنهما فعلا ما أوجب إثما، والإثم الكذب والخيانة واستحقاقه الأهلية للوصف به فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أي اثنان من أولياء الميت، يقومان مقام الشاهدين في اليمين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أي من الذين استحق عليهم الإثم أو المال ومعناه من الذي جنى عليهم وهم أولياء الميت الْأَوْلَيانِ تثنية أولى بمعنى أحق:
أي الأحقان بالشهادة لمعرفتهما، والأحقان بالمال: لقرابتهما، وهو مرفوع على أنه خبر
أقرب، وعلى وجهها أي كما وقعت من غير تغيير ولا تبديل أو يخافوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا.
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ هو يوم القيامة، وانتصب الظرف بفعل مضمر أي ماذا أجابكم به الأمم من إيمان وكفر وطاعة ومعصية؟ والمقصود بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم وانتصب ماذا أجبتم انتصاب مصدره، ولو أريد الجواب، لقيل بماذا أجبتم قالُوا لا عِلْمَ لَنا إنما قالوا ذلك تأدبا مع الله فوكلوا العلم إليه قال ابن عباس:
المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، وقيل معناه علمنا ساقط في جنب علمك ويقوي ذلك قوله إنك أنت علام الغيوب، لأنّ من علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر، وقيل ذهلوا عن الجواب لهول ذلك اليوم، وهذا بعيد لأنّ الأنبياء في ذلك اليوم آمنون، وقيل أرادوا بذلك توبيخ الكفار
إِذْ قالَ اللَّهُ يحتمل أن يكون إذ بدل من يوم يجمع، ويكون هذا القول يوم القيامة أو يكون العامل في إذ مضمرا، ويحتمل على هذا أن يكون القول في الدنيا أو يوم القيامة وإذا جعلناه يوم القيامة فقوله قال بمعنى يقول، وقد تقدم تفسير ألفاظ هذه الآية في آل عمران فَتَنْفُخُ فِيها الضمير المؤنث عائد على الكاف، لأنها صفة للهيئة، وكذلك الضمير في تكون، وكذلك الضمير المذكور في قوله في آل عمران فينفخ فيه عائد على
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أي أكلا نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا أي نعاين الآية فيصير إيماننا بالضرورة والمشاهدة، فلا تعرض لنا الشكوك التي تعرض في الاستدلال وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا ظاهره يقوي قول من قال إنهم إنما قالوا ذلك قبل تمكن إيمانهم، ويحتمل أن يكون المعنى نعلم علما ضروريا لا يحتمل الشك وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ أي نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أجابهم عيسى إلى سؤال المائدة من الله، وروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر، وقام يصلي ويدعو ويبكي تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا قيل: نتخذ يوم نزولها عيدا يدور كل عام لأول الأمة، ثم لمن بعدهم، وقال ابن عباس: المعنى تكون مجتمعا لجميعنا أوّلنا وآخرنا في يوم نزولها خاصة لا عيدا يدور وَآيَةً مِنْكَ أي علامة على صدقي قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ أجابهم الله إلى ما طلبوا، ونزلت المائدة عليها سمك وخبز، وقيل زيتون وتمر ورمان وقال ابن عباس: كان طعام المائدة ينزل عليهم حيثما نزلوا وفي قصة المائدة قصص كثيرة غير صحيحة فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً عادة الله عز وجل عقاب من كفر بعد اقتراح آية فأعطيته، ولما كفر بعض هؤلاء مسخهم الله خنازير، قال عبد الله بن عمر: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون والمنافقون..
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال ابن عباس والجمهور: هذا القول يكون من الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، ليرى الكفار تبرئة عيسى مما نسبوه إليه، ويعلمون أنهم كانوا على باطل، وقال السدّي: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالوا، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، وسأل الله حينئذ عن ذلك، فقال: سبحانك الآية، فعلى هذا يكون إذ قال ماضيا في معناه كما هو لفظه، وعلى قول ابن عباس يكون بمعنى المستقبل ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ نفي يعضده دليل العقل لأنّ المحدث لا يكون إلها إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ اعتذار وبراءة من ذلك القول، ووكل العلم إلى الله لتظهر براءته، لأن الله علم أنه لم يقل ذلك تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك باللفظ مسلك المشاكلة، فقال في نفسك مقابلة لقوله في نفسي، وبقية قوله تعظيما لله، وإخبار بما
هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ عموم في جميع الصادقين، وخصوصا في عيسى ابن مريم فإن في ذلك إشارة إلى صدقه في الكلام الذي حكاه الله عنه، وقرأ غير نافع بقية القراء هذا يوم بالرفع على الابتداء أو الخبر، وقرأ نافع بالنصب وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون يوم ظرف لقال، فعلى هذا لا تكون الجملة معمول القول، وإنما معموله هذا خاصة والمعنى قال الله هذا القصص أو الخبر في يوم، وهذا بعيد مزيل لرونق الكلام، والآخر أن يكون هذا مبتدأ، ويوم في موضع خبره والعامل فيه محذوف تقديره هذا واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم، ولا يجوز أن يكون يوم مبنيا على قراءة نافع، لأنه أضيف إلى معرب، قاله الفارسي والزمخشري.