ﰡ
هى مدنية، وآياتها إحدى وثلاثون، نزلت بعد سورة الرحمن.
وصلتها بما قبلها، أنه ذكر فى السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار يوم القيامة، وذكر فى هذه ما يلقاه الأبرار من النعيم المقيم فى تلك الدار.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)شرح المفردات
هل: أي قد، حين: أي طائفة محدودة من الزمان، والدهر: الزمان غير المحدود، أمشاج: أي أخلاط واحدها مشج (بفتحتين) ومشيج، نبتليه: أي نختبره، السبيل: الطريق، أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات.
المعنى الجملي
أخبر سبحانه أنه قد جاء على الإنسان حين من الزمان لم يكن شيئا يذكر ويعرف، ثم ذكر أن أبناء آدم كانوا نطفا فى الأصلاب، ثم علقا، ثم مضغا فى الأرحام، ثم أوضح لهم السبيل، وبيّن لهم طريقى الخير والشر، فمنهم الشاكر ومنهم الكفور.
الإيضاح
(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) أي قد أتى على هذا النوع نوع الإنسان زمن لم يكن موجودا حتى يعرف ويذكر.
وفى الآية ما يشير إلى ما قاله علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) من أن الإنسان لم بوجد على الأرض إلا بعد خلقها بأحقاب طوال، فقد كانت الأرض أوّلا ملتهبة بعد أن انفصلت من الشمس، ثم أخذت قشرتها تبرد بالتدريج، وأمكن أن ينبت فيها النبات، ثم بعض الطيور، ثم بعض الحيوان الداجن، ثم الإنسان وقد بينا ذلك عند تفسير قوله تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» وذكرنا هناك أن الأيام هى الأطوار التي مر عليها خلق السموات والأرض إلى آخر ما قلنا هناك.
ثم أتبع ذلك بذكر العناصر الداخلة فى تكوين الإنسان فقال:
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) أي إنا خلقنا الإنسان من نطفة اختلط فيها ماء الرجل بماء المرأة، مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد إذا شبّ وبلغ الحلم. قال الحسن: نختبر شكره فى السراء، وصبره فى الضراء.
وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: الأمشاج الحمرة فى البياض والبياض فى الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة، قال الهذلي يصف سهما:
كأن الريش والفوقين منه | خلاف النّصل سيط به مشيج |
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء والامتحان، وهو السمع والبصر فقال:
(فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي جعلناه كذلك ليتمكن من استماع الآيات ومشاهدة الدلائل والتعقل والتفكر.
فهو إما أن يرجع إلى حب المادة والاستكانة لهذه المشاهدات، وإما أن يتفكر ويجدّ بالعلم والعمل، ليصل إلى عالم الكمال والجمال، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: «نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً».
والخلاصة- نحن نعامله معاملة المختبر له، أيميل إلى أصله الأرضى، فيكون حيوانا نباتيا معدنيا شهوانيا، أم يكون إلهيّا معتبرا بالسمع والبصر والفكر، وهى من عوالم أرقى من عالم المادة التي تكوّن منها.
ثم ذكر أنه بعد أن ركّبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال فقال:
(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي فأعطيناه السمع والبصر والفؤاد، ونصبنا له الدلائل فى الأنفس والآفاق، لتكون مسرحا لفكره، ومغنما لعقله.
ثم بين أن الناس انقسموا فى ذلك فريقين فقال:
(إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي فبعض اهتدى وعرف حق النعمة فشكر، وبعض أعرض فكفر.
وإجمال ذلك- إنا هديناه السبيل ليتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته.
ونحو الآية قوله: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» وقوله: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ».
وروى مسلم عن أبى مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها».
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٤ الى ١٢]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢)
شرح المفردات
أعتدنا: أي هيأنا وأعددنا، والأغلال: واحدها غلّ (بالضم) وهو القيد، والسعير: النار الموقدة، والأبرار: واحدهم برّ. قال فى الصحاح: جمع البر الأبرار، وجمع البارّ البررة، والأبرار هم أهل الطاعة والإخلاص والصدق وقال قتادة: هم الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر، وقيل هم الصادقون فى إيمانهم، المطيعون لربهم، الذين سمت همتهم عن المحقرات، فظهرت فى قلوبهم ينابيع الحكمة، والكأس: هى الإناء الذي فيه الشراب، وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو للمراد كما قال أبو نواس:
وكأس شربت على لذة... وأخرى تداويت منها بها
وقال عمرو بن كلثوم:
صبنت الكأس عنا أم عمرو... وكان الكأس مجراها اليمينا
كأن سبيئة من بيت رأس... يكون مزاجها عسل وماء
وجعلت كالكافور لما فيه من البياض وطيب الرائحة والبرودة، بها: أي منها، يفجرونها: أي يجرونها إلى منازلهم وقصورهم حيث شاءوا، يوفون بالنذر: أي يؤدون ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات، شره: أي شدائده، مستطيرا: أي فاشيا منتشرا فى الأقطار من قولهم: استطار الحريق والفجر إذا انتشر، عبوسا:
أي تعبس فيه الوجوه، قمطريرا: أي شديد العبوس، تقول العرب يوم قمطرير وقماطر، وأنشد الفراء:
بنى عمنا هل تذكرون بلاءنا... عليكم إذ
وقاهم: أي دفع عنهم، لقّاهم: أي أعطاهم، نضرة:
أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: نضرة فى وجوههم، وسرورا فى قلوبهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه هدى الإنسان لطريق الخير وطريق الشر فى قوله:
«وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» ثم أردفه ببيان أن الناس انقسموا فى ذلك فريقين: فريق وقفه الله واعتدى وشكر، وفريق أضله الله وكفر أعقب ذلك بما أعده لكل منهما يوم القيامة، فأعد للأولين جنات ونعيما، فهم يشربون الخمر (وهى ألذ شراب لديهم) ممزوجة بماء عذب زلال، طيب الرائحة، تأتيهم إلى غرفهم متى شاءوا وكيف أرادوا، ويلبسون الحرير ويجلسون على الأرائك لا يرون فيها حرّا ولا قرّا، ثم ذكر ما أعدوه فى الدنيا لنيلهم هذا الثواب العظيم، فبين أنهم يطعمون الطعام للفقراء البائسين واليتامى والأسارى، ويؤدون ما وجب عليهم لربهم، ويخافون عذاب يوم القيامة وأعد للآخرين سلاسل وقيودا ونارا تشوى الوجوه والأجسام.
(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً) أي إنا هيأنا لمن كفروا بنعمتنا وخالفوا أمرنا- سلاسل بها يقادون إلى الجحيم، وأغلالا بها تشد أيديهم إلى أعناقهم كما يفعل بالمجرمين فى الدنيا، ونارا بها يحرقون.
ونحو الآية قوله: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» وبعد أن ذكر ما أعده للكافرين بين ما أعده للشاكرين من شراب شهىّ ولباس بهيّ فقال:
(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي إن الذين بروا بطاعتهم ربهم فأدّوا فرائضه واجتنبوا معاصيه- يشربون من خمر كان مزاج ما فيها من الشراب كالكافور طيب رائحة وبردا وبياضا.
وهذا المراج من عين يشرب منها عباد الله المتقون وهم فى غرف الجنات، يسوقونها إليهم سوقا سهلا إلى حيث يريدون، وينتفعون بها كما يشاءون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يحبون وصوله إليه.
قال مجاهد: يقودونها حيث شاءوا، وتتبعهم حيث مالوا.
ثم ذكر ما لأجله استحقوا الكرامة فقال:
(١) (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، ومن أوفى بما أوجبه على نفسه فهو على الوفاء بما أوجبه الله عليه أولى.
وقضارى ذلك- إنهم يؤدونه ما أوجبه الله عليهم بأصل الشرع، وبما أوجبوه على أنفسهم بالنذر.
(٣) (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أي ويطعمون الطعام وهم فى محبة له وشغف به- المسكين العاجز عن الاكتساب، واليتيم: الذي مات كاسبه، والأسير: المأخوذ من قومه، المملوكة رقبته، الذي لا يملك لنفسه قوة ولا حيلة.
والمراد من إطعام الطعام الإحسان إلى المحتاجين ومواساتهم بأى وجه كان، وإنما خص الطعام لكونه أشرف أنواع الإحسان، لا جرم أن عبر به عن جميع وجوه المنافع.
ونحو الآية قوله: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ».
وقد وصّى رسول الله ﷺ بالإحسان إلى الأرقّاء حتى كان آخر ما أوصى به أن جعل يقول: «الصلاة وما ملكت أيمانكم».
وبعد أن ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين- بيّن أن لهم فى ذلك غرضين:
(١) رضا الله عنهم، وإلى ذلك أشار بقوله:
(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) فلا نمنّ عليكم ولا نتوقع منكم مكافأة ولا غيرها مما ينقص الأجر، وقد كانت عائشة رضى الله عنها تبعث الصدقة إلى أهل بيت من البيوت ثم تسأل المبعوث، فإن ذكر دعاء دعت بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله.
ثم أكد هذا ووضحه بقوله:
(لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها،
(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا ويتلقانا بلطفه فى ذلك اليوم العبوس القمطرير.
وبعد أن حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعة لغرضين: طلب رضا الله، والخوف من يوم القيامة- بيّن أنه أعطاهم الغرضين فأشار إلى الثاني بقوله:
(فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي فدفع الله عنهم ما كانوا فى الدنيا يحذرون من شر ذلك اليوم العبوس بما كانوا يعملون مما يرضى ربهم عنهم.
وأشار إلى الأول بقوله:
(وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي وأعطاهم نضرة فى وجوههم وسرورا فى قلوبهم ونحو الآية قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ».
وقد جرت العادة أن القلب إذا سرّ استنار الوجه،
قال كعب بن مالك: وكان رسول الله ﷺ إذا سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر، وقالت عائشة رضى الله عنها: دخل علىّ رسول الله ﷺ مسرورا تبرق أسارير وجهه- الحديث.
(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدى إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكول هنى، وحريرا منه ملبس بهى، ونحو الآية قوله: «وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ»
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١٣ الى ٢٢]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧)
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
الأرائك: واحدتها أريكة، وهو السرير فى الحجلة (الناموسية) والزمهرير:
البرد الشديد، دانية: أي قريبة، ظلالها: أي ضلال أشجارها، وذلّلت: أي سخرت ثمارها وسهل أخذها وتناولها، والقطوف: الثمار، واحدها قطف (بكسر القاف) وآنية: واحدها إناء، وهو ما يوضع فيه الشراب، والأكواب: واحدها كوب، وهو كوز لا عروة له، والقوارير: واحدتها قارورة، وهى إناء رقيق من الزجاج، قدّروها تقديرا: أي قدرها السقاة على قدر رىّ شاربها، كأسا: أي خمرا، والزنجبيل: نبت فى أرض عمّان وهو عروق تسرى فى الأرض وليس بشجر، ومنه ما يأتى من بلاد الزنج والصين وهو الأجود، قاله أبو حنيفة الدينوري، وكانت العرب تحبه فى الشراب، لأنه يحدث لذعا فى اللسان إذا مزج بالشراب، قال الأعشى.
كأن القرنفل والزنجبيل باتا بفيها وأريا مشورا والسلسبيل: الشراب اللذيذ، تقول العرب: هذا شراب سلسل وسلسال وسلسبيل:
أي طيب الطعم لذيذه، وتسلسل الماء فى الحلق: جرى، مخلدون: أي دائمون على
المعنى الجملي
بعد أن ذكر طعام أهل الجنة ولباسهم- أردفه وصف مساكنهم، ثم وصف شرابهم وأوانيه وسقاته، ثم أعاد الكلام مرة أخرى بذكر ما تفضل به عليهم من فاخر اللباس والحلي، ثم ألمع إلى أن هذا كان جزاء لهم على ما عملوا، وما زكوا به أنفسهم من جميل الخصال، وبديع الخلال.
الإيضاح
(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أي متكئين فى الجنة على السرر فى الحجال، ليس لديهم حرّ مزعج ولا برد مؤلم، بل جوّ واحد معتدل دائم سرمدى، فهم لا يبغون عنها حولا.
والخلاصة- إنهم لا يرون فى الجنة حر الشمس، ولا برد الزمهرير، ومنه قول الأعشى:
منعّمة طفلة كالمها... لم تر شمسا ولا زمهريرا
وفى الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ».
(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي إن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار، مظلة عليهم زيادة فى نعيمهم.
(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) أي سخرت للقائم والقاعد والمتكئ، قال مجاهد:
إن قام ارتفعت منه بقدر، وإن قعد تدلّت له حتى ينالها، وكذلك إذا اضطجع، لا يردّ اليد عنها بعد ولا شوك.
وبعد أن وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم- وصف شرابهم وأوانيه فقال:
(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي يدير عليهم خدمهم كؤوس السراب والأكواب من الفضة.
وقد تكوّنت وهى جامعة لصفاء الزجاجة وشفيفها، وبياض الفضة ولينها، وقد قدّرها لهم السقاة الذين يطوفون عليهم للسقيا على قدر كفايتهم وريهم، وذلك ألذّ لهم وأخف عليهم، فهى ليست بالملأى التي تفيض، ولا بالناقصة التي تغيض.
والخلاصة- إن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء فى صفاء الزجاج، فيرى ما فى باطنها من ظاهرها.
أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال: «ليس فى الجنة شىء إلا قد أعطيتم فى الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة». ولا منافاة بين كون الأوانى من الفضة، وبين كونها من الذهب كما ذكر فى قوله: «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ» لأنهم تارة يسقون بهذه، وتارة يسقون بتلك.
وبعد أن وصف أوانى مشروبهم وصف المشروب نفسه فقال:
(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا) أي ويسقى الأبرار فى الجنة خمر ممزوجة بالزنجبيل، وقد كانوا يحبون ذلك ويستطيبونه، كما قال المسيّب بن علس يصف رضّاب امرأة:
وكأن طعم الزنجبيل به | إذ ذقته بسلاقة الخمر |
وهذا كله ما هو إلا أسماء لما هو شبيه بما فى الدنيا، وهناك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، فالمعانى غير ما نعهد، والألفاظ لمجرد تخيل شىء مما نراه كما قال ابن عباس.
ثم ذكر أوصاف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب فقال:
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة يأتون على ما هم عليه: من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون ولا يتغيرون ولا تضعف أجسامهم عن الخدمة.
(إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي إذا رأيت هؤلاء الولدان خلتهم لحسن ألوانهم، ونضارة وجوههم وانتشارهم فى قضاء حوائج سادتهم- كأنهم اللؤلؤ المنثور «واللؤلؤ المنثور أجمل فى النظر من اللؤلؤ المنظوم» ولأنهم إذا كانوا كذلك كانوا سراعا فى الخدمة.
وعن المأمون أنه قال ليلة زفّت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو على بساط منسوج من الذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، ونظر إليه فاستحسن ذلك المنظر: لله درّ أبى نواس كأنه أبصر هذا حيث قال:
يسقون من ورد البريص عليهم | كأسا يصفّق بالرحيق السلسل |
كأن صغرى وكبرى من قواقعها | حصباء در على أرض من الذهب |
(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) أي وإذا نظرت فى الجنة رأيت نعيما عظيما وملكا كبيرا لا يحيط به الوصف.
وقد اختلفوا فى المراد من هذا الملك الكبير، فقيل إن أدناهم منزلة من ينظر
ولم يجىء فى الأخبار الصحيحة ما يفسر هذا الملك الكبير، فأولى بنا أن نؤمن به ونترك تفصيله إلى علام الغيوب.
وبعد أن وصف شرابهم وآنيته وما هم فيه من النعيم، وصف ملابسهم فقال:
(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) أي إن لباس أهل الجنة فى الجنة الحرير، ومنه سندس، وهو رفيع الديباج للقمصان والغلائل ونحوها مما يلى أبدانهم، وإستبرق: وهو غليظ الديباج لا معه مما يلى الظاهر كما هو المعهود فى لباس الدنيا.
وبعدئذ ذكر حليّهم فقال:
(وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي وقد حلوا أساور من فضة، وجاء هنا «مِنْ فِضَّةٍ» وفى سورة فاطر «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ» لأنهم قد يجمعون بينهما، أو يلبسون الذهب تارة والفضة أخرى.
وقال سعيد بن المسيّب: لا أحد من أهل الجنة إلا وفى يده ثلاثة أسورة واحدة من ذهب، وأخرى من فضة، وثالثة من لؤلؤ.
والتحلّي مما يختلف باختلاف العادات والطبائع، ونشأة الآخرة غير هذه النشأة، ومن المشاهد فى الدنيا أن بعض الملوك يتحلّون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي، ولا يرون فى ذلك بأسا لمكان الإلف والعادة فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة فى الجنة حبّ التحلي دائما.
ثم ذكر أنهم يسقون شرابا آخر يفوق النوعين السابقين، وهما ما يمزج بالكافور وما يمزج بالزنجبيل فقال:
(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي وسقاهم ربهم غير ما سلف شرابا يطهّر شاربه من الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله، والتلذذ بلقائه، وهذا منتهى درجات الصديقين.
ولم يذكر الكتاب ما يبين نوع ذلك الشراب، فلندع أمره إلى الله ونؤمن به كما أخبر به فى كتابه.
وبعد أن شرح أحوال السعداء وما يلقونه من وافر النعيم الذي يتجلى فى مشربهم وملبسهم ومسكنهم بيّن أن هذا جزاء لهم على ما قدموا من صالح الأعمال، وما زكّوا به أنفسهم من صفات الكمال فقال:
(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي ويقال لهؤلاء الأبرار حينئذ: إن هذا الذي أعطيناكم من الكرامة كان لكم ثوابا على ما كنتم تعملون من الصالحات، وكان عملكم فيها مشكورا، حمدكم عليه ربكم ورضيه لكم، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة.
والغرض من ذكر هذا القول لهم زيادة سرورهم، فإنه إذا قيل للمعاقب:
هذا بعملك الرديء ازداد غمه وألم قلبه، وإذا قيل للمثاب: هذا بطاعتك وعملك الحسن، ازداد سروره وكان تهنئة له:
ونحو الآية قوله: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» وقوله: «وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٣ الى ٣١]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
نزّلنا عليك القرآن تنزيلا: أي أنزلناه عليك مفرقا منجما، حكم ربك: هو أخير نصرك على الكفار إلى حين، والآثم: هو الفاجر المجاهر بالمعاصي، والكفور:
هو المشرك المجاهر بكفره، بكرة وأصيلا: أي أول النهار وآخره، والمراد بذلك جميع الأوقات، أسجد: أي صلّ، سبحه: أي تهجد، وراءهم: أي أمامهم، شددنا أسرهم: أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق، بدّلنا أمثالهم: أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم فى شدة الخلق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال الآخرة وبيّن عذاب الكفار على سبيل الاختصار وثواب المطيعين على سبيل الاستقصاء، إرشادا لنا إلى أن جانب الرحمة مقدم على جانب العقاب- أردف ذلك ذكر أحوال الدنيا، وقدّم أحوال الطيعين، وهم الرسول ﷺ وأمته على أحوال المتمردين والمشركين:
وقبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من الأمر والنهى أمره بالصبر على ما يناله من أذى قومه إزالة لوحشته، وتقوية لقلبه، حتى يتم فراغ قلبه، ويشتغل بطاعة ربه وهو على أتمّ ما يكون سرورا ونشاطا.
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) أي إنا أنزلنا عليك القرآن مفرقا منجما فى مدى ثلاث وعشرين سنة ليكون أسهل لحفظه وتفهّمه ودراسته، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجدّ فى الكون، فتكون تثبيتا لايمان المؤمنين، وزيادة فى تقوى المتقين.
وقد يكون المعنى: نزلنا عليك ولم تأت به من عندك كما يدعيه المشركون، ويراد من ذلك تثبيت قلب رسوله ﷺ وشرح صدره، وأن الذي أنزل عليه وحي لا كهانة ولا سحر، وبذا تزول الوحشة من قول الكفار: إنه كهانة أو سحر.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر لما ابتلاك به ربك وامتحنك به من تأخير نصرك على المشركين، ومقاساة الشدائد فى تبليغ رسالته ووحيه الذي أنزله عليك، فإن لذلك عاقبة حميدة، وغاية يثلج لها فؤادك.
(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي ولا تطع كلا من مرتكب الإثم والمتجاوز الحد فى الكفر، فإذا قال لك الآثم كعتبة بن ربيعة: اترك الصلاة وأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بلا مهر، أو قال لك الكفور الوليد بن المغيرة: أنا أعطيك من المال حتى ترضى إذا رجعت عن هذا الأمر، فلا تطع واحدا منهما ولا من غيرهما، فقد أعددنا لك النصر فى الدنيا، والجنة فى الآخرة.
وقصارى ذلك- لا تتبع أحدا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم، ولا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر، وهذا ما يفهم من قولك: لا تطع الظالم- من أن المعنى- لا تتبعه فى الظلم إذا دعاك إليه.
ونهيه ﷺ عن طاعة الآثم والكفور وهو لا يطيع واحدا منهما، إشارة إلى أن الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد، لما ركب فى طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيئات، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإرشاده لكان
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي ودم على ذكره فى جميع الأوقات بقلبك ولسانك.
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي وصلّ بعض الليل كصلاة المغرب والعشاء.
(وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) أي وتهجد له طائفة من الليل، ونحو هذا ما جاء فى قوله:
«وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» وقوله: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا».
ثم قال منكرا على الكفار وأشباههم حب الدنيا والإقبال عليها، وترك الآخرة وراءهم ظهريّا.
(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا) أي إن هؤلاء المشركين بالله يحبون الدنيا وتعجبهم زينتها، وينهمكون فى لذاتها الفانية، ويدعون خلف ظهورهم العمل لليوم الآخر وما لهم فيه النجاة من أهواله وشدائده.
والخلاصة- لا تطع الكافرين واشتغل بالعبادة، لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا، فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة.
ثم بغى عليهم تركهم للعبادة، وعفلتهم عن طاعة بارئهم وموجدهم من العدم فقال:
(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أي كيف يغفلون عنا ونحن الذين خلقناهم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالعروق والأعصاب، أفبعد هذا نتركهم سدى؟.
(وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا) أي وإذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم.
ونحو الآية قوله: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً» وقوله: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» وقوله: «عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ».
وقد جرت سنة الله بأن يزيل ما لا يصلح للرقى من خلقه، فهو يهلك هؤلاء ويبدل أمثالهم فيجعلهم مكانهم، كما هى قاعدة بقاء الصلاح والأصلح، وإهلاك ما لا يصلح للبقاء.
وبعد أن ذكر أحوال السعداء والأشقياء أرشد إلى أن فى هذا الذكر تذكرة وموعظة للخلق، وفوائد جمة لمن ألقى سمعه، وأحضر قلبه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه، فقال:
(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي إن هذه السورة بما فيها من ترتيب بديع، ونسق عجيب، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، تذكرة للمتأملين، وتبصرة للمستبصرين، فمن شاء الخير لنفسه فى الدنيا والآخرة، فليتقرب إلى ربه بالطاعة، ويتبع ما أمره به، وينته عما نهاه عنه، ليحظى بثوابه، ويبتعد عن عقابه.
(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي وما تشاءون اتخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة ولا تقدرون على تحصيلها إلا إذا وفقكم الله لاكتسابها، وأعدّكم لنيلها، إذ لا دخل لمشيئة العبد إلا فى الكسب، وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله عز وجل، فمشيئة العبد وحدها لا نأتى بخير، ولا تدفع شرا، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة، ويؤجر على قصد الحير كما
فى حديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».
(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) فيهديه ويوفقه للطاعة بحسب استعداده.
(وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي والذين ظلموا أنفسهم فماتوا على شركهم، أعدّ لهم فى الآخرة عذابا مؤلما موجعا، هو عذاب جهنم وبئس المصير.
نسأل الله أن يجعلنا من الأبرار، والمقربين الأخيار، ويجعل سعينا مشكورا لديه.
ما تضمنته السورة من المقاصد
اشتملت هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد:
(١) خلق الإنسان.
(٢) جزاء الشاكرين والجاحدين.
(٣) وصف الجنة والنار.
(٤) أمر النبي ﷺ بالصبر وذكر الله والتهجد بالليل.