ﰡ
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ ؛ أي الرَّحِيْمُ بعبادهِ، الغَفُورُ لِمَنِ استحقَّ المغفرةَ.
قرأ حمزةُ والكسائيُّ (عَالِمِ الْغَيْب) بخفضِ الميمِ على وزن فِعَالِ على المبالغةِ، كقولهِ : عَلاَّمِ الْغُيُوب، وقرأ نافعُ وابنُ عامرٍ :(عَالِمُ) برفعِ الميمِ على تقدير : هو عالِمٌ، وقرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمر وعاصمُ (عَالِمِ) بالكسرِ نعتٌ لقولهِ (وَرَبي).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾ ؛ أي لا يغيبُ عنه ولا يبعدُ عليه معرفةُ وزنِ ذرَّةٍ، ﴿ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ وخصَّ الذرَّةَ بالذِّكر لأنَّها أصغرُ شيءٍ يدخلُ في أوهامِ البَشَرِ، وهذا مَثَلٌ ؛ لأنه سُبْحَانَهُ لا يخفَى عليه ما هو دُونَ الذرةِ، والمعنى : اللهُ يعلمُ كلَّ شيءٍ دَقَّ أو جَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ ؛ الكتابُ الْمُبيْنُ في هذه الآيةِ هو اللَّوحُ الْمَحفوظُ.
قرأ ابنُ كثيرٍ (ألِيْمٌ) بالرفعِ على نعتِ العذاب، وقرأ الباقونَ بالخفضِ على نعتِ الرِّجْزِ.
وقوله تعالى ﴿ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾ يعني مؤمنِي أهلِ الكتاب. وقال قتادةُ :(يَعْنِي أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وقولهُ ﴿ هُوَ الْحَقَّ ﴾ إنَّما دَخلت (هُوَ) في هذا الموضعِ للفصلِ عند البصريِّين، ويُسمَّى ذلك عِمَاداً، ولا يدخلُ العِمَادُ إلاّ في المعرفةِ، قال الشاعرُ : لَيْتَ الشَّبَابُ هُوَ الرَّجِيْعُ عَلَى الْفَتَى وَالشِّيْبُ كَانَ هُوَ الْبَدِئُ الأَوَّلُ
فردَّ اللهُ عليهم مقالَتَهم بقوله :﴿ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ ﴾ ؛ أي ليسَ الأمرُ على ما قالوا من افتراءِ وجنون، كأنه قالَ : لا هذا ولا ذاكَ، ولكنَّ الذين لا يؤمنونَ بالبعثِ في الآخرةِ، والخطأ البعيدِ في الدُّنيا.
والمعنى : أنَّ الإنسانَ حيث ما نظرَ رأى السماءَ فوقَهُ، والأرضَ قُدَّامَهَُ وخلفَهُ وعن يَمينهِ وعن شِمالهِ، فكأنهُ تعالَى قال : إنَّ أرضِي وسَمائِي محيطةٌ بهم، وأنا القادرُ عليهم، إنْ شِئْتُ خسفْتُ بهم، وإنْ شئتُ أُسقِطْ عليهم قطعةً من السماءِ.
قرأ حمزةُ والكسائي وخلَف :(إنْ يَشَأْ) و(يَخْسِفْ) و(يُسْقِطْ) في ثلاثَتها بالياءِ لذكرِ الله تعالى قبلَهُ، وقَوْلُهُ تَعَالَى (أفْتَرَى) ألفُ استفهامٍ دخلَتْ على ألفِ الوَصلِ فلذلك سَقطَتْ.
وقَوْلُهُ :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ ؛ أي إنِّ فيما ذُكِرَ من مَنيعهِ وقدرتهِ وفيما تَرونَ من السَّماء والأرضِ لعلامةٌ تدلُّ على قُدرةِ اللهِ تعالى على البعثِ، وعلى مَن يشاءُ من الخسفِ بهم، لكلِّ عبدٍ أنابَ إلى الله ورجعَ إلى طاعتهِ وتأمَّلَ ما خلقَ. قال الحسنُ :(الْمُنِيْبُ : الرَّاجِعُ إلَى اللهِ تَعَالَى بقَلْبهِ وَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَإذا نَوَى نَوَى للهِ، وَإذا قَالَ قَالَ للهِ، وَإذا عَمِلَ عَمِلَ للهِ).
وقال القُتَيْبيُّ :(أصْلُهُ مِنَ التَّأْويْب، وَهُوَ السَّيْرُ باللَّيْلِ كُلِّهِ، كَأَنَّهُ أرَادَ ادْنِي النَّهَارَ كُلَّهُ بالتَّسْبيْحِ مَعَهُ). وَقِيْلَ : تسيرُ معه كيفَ شاءَ.
وقوله (وَالطَّيْرَ)، قرأ العامةُ بالنصب، وله وجوهٌ ؛ أحدُها : بالفعلِ ؛ تقديرهُ : وسخَّرنَا له الطيرَ، تقول : أطعَمتهُ طَعَاماً ومَاءً أي وسَقيتهُ ماءً. والثانِي : بالنِّداءِ، يعني بالعطفِ على موضعِ النداء، لأنَّ موضعَ كلَّ مُنادَى النصبُ. والثالث : بنَزعِ الخافضِ، كأنه قالَ : أوِّبي مَعَهُ الطَّيرَ، كما يقالُ : لو تركتَ الناقةَ وفصِيلَها لرَضَعَها ؛ أي مع فصِيلها. وقرأ يعقوبُ (والطَّيْرُ) بالرفعِ عَطفاً على الجبالِ. وَقِيْلَ : على الابتداءِ، قال الشاعرُ : ألاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَاكُ سِيرَا فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خََمَرَ الطَّرِيْقِيُروى هذا البيتُ بنصب (الضَّحَّاكَ) ورفعهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ ؛ أي جعلنَا له الحديدَ لَيِّناً يضربهُ كيفَ شاءَ من غيرِ نارٍ ولا مِطرَقَةٍ، وكان عندَهُ مثلُ الشَّمعِ والطينِ المسلول والعَجِينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ﴾ ؛ أي قُلنا له اعْمَلْ دُرُوعاً واسعاتٍ تامَّاتٍ يجرُّها لابسُها على الأرضِ، فكان داودُ عليه السلام أوَّلُ مَن عَمِلَ الدُّروعَ، والسَّابغُ : هو الذي يغطِّي كلَّ ما على الرجُلِ حتى يفضُلَ، فكان داودُ يبيعُ كلَّ درعٍ بأربعَةِ آلاَفٍ، فيأكلُ ويُطعِمُ عيَالَهُ ويتصدَّقُ على الفُقَرَاءِ والمساكينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ ؛ أي اجْعَلْ حِلَقَ الدِّرعِ متتابعةً مُتناسقةً بعضُها إلى بعضٍ على مقدارٍ مَعلُومٍ لا يتفاوتُ على وجهٍ، ولا تنفذُ فيه السِّهامُ ولا السِّنانُ. يقال : سَرَدَ الكلامَ يسرِدُهُ إذا ذكَرَهُ بالتأليفٍ على وجه تحصلُ به الفائدةُ، ومِن هذا يقالُ لصانعِ الدُّروعِ : سَرَّادٌ وَزَرَّادٌ. والسُّرُودُ والزُّرُدُ للوَصْلِ.
وقال بعضُهم : السَّرْدُ سَمْرُكَ طَرَفَي الْحَلَقِ ؛ أي لا تَجعَلِ المساميرَ دِقَاقاً فتنغلقَ، ولا غِلاَظاً فتكسرَ الحلَقُ، واجعَلْ ذلك على قَدْر الحاجةِ. والقولُ الأولُ أقربُ إلى الآيةِ، لأن الدروعَ التي عمِلَها داودُ كانت بغيرِ المساميرِ ؛ لأنه كانت معجزةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً ﴾ ؛ أي قالَ اللهُ لآلِ داودَ : اعْمَلُوا صَالِحاً فيما بينَكم وبينَ ربكُم، ﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ ؛ من شُكرٍ وطاعةٍ.
قال الفرَّاءُ :(نُصِبَ (الرِّيحَ) عَلَى الْمَفْعُولِ ؛ أيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيْحَ). وقرأ عاصمُ (الرِّيْحُ) بالرفعِ على معنى : ولَهُ تسخيرُ الرِّيحُ، والمعنى أنَّ الريحَ كانت تسيرُ في اليومِ مسيرةَ شَهرَينِ للرَّاكب الْمُسرعِ.
قَولُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾ ؛ أي أذبْنَا له عَينَ النُّحاسِ، فسَالَتْ له ثلاثةَ أيَّامٍ كما يسيلُ الماءُ، وإنَّما انتفعَ الناسُ بما أخرجَ الله لسُليمانَ، وكان قبلَ سُليمان لا يذوبُ. والقِطْرُ هو الرَّصَاصُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ ؛ أي وسخَّرنا له من الجنِّ ﴿ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ مِنَ القُصُور والبُنيانِ، ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ﴾ ؛ أي مَن يَمِلْ من الشَّياطينِ عن أمرِنا الذي أمَرْناهُ من الطاعةِ لسُليمانَ، ﴿ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ ؛ أي مِن عذاب النَّار الموقَدَةِ. وَقِيْلَ : إنَّ اللهَ تعالى وَكَّلَ مَلَكاً بيدهِ سوطٌ من نارٍ، فمَن زَاغَ منهم مِن طاعةِ سُليمانَ ضَرَبَهُ ضربةً أحرقَتْهُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَمَاثِيلَ ﴾ أي تَماثيلَ كلِّ شيءٍ، يعني صُوَراً من نُحاسٍ وزُجاجٍ ورُخامٍ، كانت الجنُّ تعمَلُها، وكانوا يصوِّرُون له الأنبياءَ والملائكةَ في المسجدِ ليَرَاهَا الناسُ فيزدادوا عبادةً، وهذا يدلُّ على أن التصويرَ كان مُباحاً في ذلكَ الزمانِ، ثُم صارَ حَرَاماً في شَريعةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ كما رُوي في الحديثِ :" إنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتاً فِيْهِ صُورَةٌ " ورُويَ :" لَعَنَ اللهُ الْمُصَوِّرِيْنَ بمَا صَوَّرُواْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ ﴾ ؛ الْجِفَانُ جمع جُفْنَةٍ وهي القَصْعَةُ الكبيرةُ من الصُّفُرِ. وقَوْلُهُ ﴿ كَالْجَوَابِ ﴾ أي كالحِيَاضِ العِظَامِ، فهي كحِيَاضِ الإبلِِ، والْجَوَابُ جمعُ الْجَابيَةِ، وسُمِّيَ الحوضُ جَابيَةً ؛ لأنه يَجْبي الماءَ ؛ أي يَجمعهُ، والجِبَايَةُ جمعُ الماءِ. يقالُ : إنه كان يجتمعُ على جَفْنَةٍ واحدةٍ ألفُ رجُلٍ يأكلون بين يديهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ﴾ ؛ أي ثابتاتٌ عِظَامٍ من الْحَجَرِ كالجبالِ لا تُرْفَعُ مِن أماكِنها، ولكن يوقدُ تحتَها حتى ينطَبخَ ما فيها من الأطعمةِ فيأكلُ منها الألُوفُ، وكانت هذه الأعمالُ التي يعملونَها معجزةً لسُليمانَ عليه السلام.
وقَولُهُ تَعَالَى :﴿ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً ﴾ ؛ أي قُلنا لَهم : اعمَلُوا بطاعةِ اللهِ شُكْراً لَهُ على هذه النِّعَمِ التي مَنَّ بها عليكُم. وَقِيْلَ : انتصبَ قوله (شُكْراً) على المصدريَّة. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ ؛ أي قليلٌ مِن عبادِي مَن يَشْكُرُ لِي ؛ لأن الشَّاكِرِينَ وَإنْ كَثُرُوا فقَليلٌ في جَنْب مَن لَم يشكُرْ.
وقوله ﴿ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ﴾ دابَّةُ الأرضِ هي الأَرْضَةُ التي تأكلُ الخشبَ، وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ مِنسَأَتَهُ ﴾ أي عصاهُ التي كان يَتَّكِئُ علَيها.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ ؛ أي فلمَّا سَقَطَ سليمانُ لتَآكُلِ الْمِنْسَأَةِ، تَبَيَّنَ الجِنُّ للإنسِ ؛ أي ظَهَرُوا أنَّهم لا يعلمونَ الغيبَ، فلو عَلِمُوا ما عَمِلُوا له سَنةً وهو ميِّتٌ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ أي في العذاب مِن أعمالِهم الشاقَّة التي كانوا يعملونَها في بناءِ بيتِ المقدس وغيرهِ، فلمَّا عَلِمُوا بموتهِ لسُقوطِ العصَا ترَكُوا الأعمالَ.
ثُم أن الشياطينَ قالوا للأَرْضَةِ : لو كُنْتِ تأكلينَ الطَّعامَ لآتيناكِ بأطيَب الطعامِ، ولو كُنْتِ تشرَبينَ الشرابَ لآتيناكِ بأطيب الشراب، ولَكِنَّا سننقلُ إليكِ الطينَ والماءَ، فهُمْ ينقلونَ إليها ذلك حيث كانَتْ، فما رأيتموهُ من الطِّينِ في جَوفِ الخشب فهو مما ينقلهُ الشياطينُ إليها شُكراً لَها!
وسُميتِ العصا مِنْسَأَةً لأنه يَنْسَأُ بها الغنمُ وغيرهُ ؛ أي يؤَخِّرُ ويطردُ، يقال : أنْسَأَ اللهُ في أجَلهِ ؛ أي أخَّرَ اللهُ في أجَلهِ. وأكثرُ القرَّاء يقرأون (مِنْسَأَتَهُ) بالهمزةِ، وقرأ أبو عمرٍو ونافع بتركِ الهمزةِ، وهما لُغتَانِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ﴾ أي ظَهَرَ أمرُهم. وَقِيْلَ : في موضع النصب تقديرهُ : عَلِمَتْ وأيْقَنَتِ الجنُّ ﴿ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ﴾، وكان الإنسُ قَبْلَ هذا يظنُّونَ أن الشَّياطينَ يعلمونَ السِّرَّ يكون بين اثنَينِ، فظَهَرَ لَهم يومئذٍ أنَّهم لا يعلمونَ ذلكَ.
قال أهلُ التَّّاريخِ : كان عُمْرُ سليمانَ ثلاثاً وخمسينَ سَنةً، ومدَّة مُلكهِ أربعون سَنةً، ومَلَكَ يومَ مَلَكَ وهو ابنُ ثلاثَ عشرةَ سَنةً، وابتدأ في بناءِ بيت المقدسِ لأربعِ سِنين مَضَينَ من مُلكهِ، وكان عُمْرُ داودَ مائة وأربعون سنة.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي مَسْكَنِهِمْ ﴾ أنه كانت مساكِنُهم بمَأْرَبَ مِن اليَمَنِ (آيَةً) أي علامةً يدلُّ على قُدرةِ اللهِ وأنَّ الْمُنْعِمَ عليهم هو اللهُ تعالى. ثُم فسَّر تلكَ الآيةِ فقالَ :﴿ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾ ؛ أي عَن يَمين وَادِيهم وشِمالهِ قد أحاطَتَا بذلك الوادِي الذي بين مسَاكِنهم.
والمعنى لقد كان لأهلِ سَبَأَ في مواضِعِهم علامةٌ، وهي جَنَّتَانِ ؛ أي بُستَانَانِ ؛ إحدَاهُما عن يَمينِ الطريقِ، وأُخرَى عن يسار الطَّريقِ، ويقالُ : كان بُستَانَين عن يَمين الطريقِ وبُستانَين عن شِمال الطريقِ، إلاّ أنَّ البَساتينَ كلَّ واحدٍ مِن الجانبين سُمي جَنَّةً لاتِّصالِ بعضِها ببعضٍ، وكانوا في النِّعمةِ بحيثُ كانتِ المرأةُ تَمشِي في تلك الطريقِ بين البساتينِ وعلى رأسِها الزَّنبيلُ فيمتلئُ من ألوانِ الفاكهةِ مِن غيرِ أن تَمَسَّ شيئاً بيدِها.
قرأ حمزةُ والنخعيُّ وحفص (فِي مَسْكَنِهِمْ) بفتحِ الكاف على الواحدِ، وقرأ الأعمشُ والكسائي وخلَف :(مَسْكِنَهُمْ) بكسر الكاف على الواحد أيضاً، وقرأ الباقون :(مَسَاكِنِهِمْ) على الجمعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ ﴾ ؛ أي قيلَ لَهم :(كُلُوا مِنْ رِزْقِ ربَكُمْ) يعني هذه النِّعَمَ، ﴿ وَاشْكُرُواْ لَهُ ﴾ ؛ أي للهِ على نعمةِ هذه، وهذا حدُّ الكلامِ، اثُم ابتدأ فقال :﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ﴾ ؛ أي هذه بلدةٌ طيبة أو لكُم بلدةٌ طيبة، يعني ليست بسَبْخَةٍ، ولَم يكن يُرَى بعوضةٌ قَطُّ، ولا ذُبابٌ ولا بَرغُوثٌ ولا حيَّةٌ ولا عقربٌ، وأنَّ الرجلَ الغريبَ ليأتِيَها وفي ثوبهِ القملُ والدوابُّ، فحين يرَى بُيوتَهم تَموتُ الدوابُ والقملُ. والمعنى : بلدةٌ طيِّبةُ الهواءِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ ؛ أي غفورُ الخطَايَا، كثيرُ العطايَا.
قال وهبُ :(بَعَثَ اللهُ تَعَالَى إلَى سَبَأ ثَلاَثَةَ عَشَرَ نَبيّاً، فَدَعَوْهُمْ إلَى اللهِ وَذكَّرُوهُمْ نِعَمَهُ، وَخَوَّفُوهُمْ عِقَابَهُ، فَكَذبُوهُمْ وَقََالُواْ : مَا نَعْرِفُ للهِ عَلَيْنَا نِعْمَةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ﴾، قال ابنُ الأعرَابيِّ :(الْعَرِمُ : السَّيْلُ الَّذِي لاَ يُطَاقُ)، وقال مقاتلُ :(الْعَرِمُ وَادِي سَبَأ). وَقِيْلَ : العَرِمُ : المطرُ الشديدُ الذي يأتِي منه سَيْلٌ لا يطاقُ دَفْعُهُ، وعَرْمَةُ الماءِ ذهَابُهُ في كلِّ مذهبٍ.
وَقِيْلَ : العَرِمُ هو الفَأرُ الذي نَقَبَ السدَّ عليهم، وصِفَةُ ذلكَ : أن الماءَ كان يأتِي أرضَ سَبَأ مِنَ الشَّجرِ وأوديةِ اليَمَنِ، فَرَدَمُوا رَدْماً بين جَبلَين وحبَسُوا الماءَ في ذلك الرَّدْمِ، وجعَلُوا لذلكَ الرَّدمِ ثلاثةَ أبوابٍ بعضُها فوق بعضٍ، وكانوا يَسْقُونَ مِن الباب الأعلى، ثُم مِن الباب الثانِي، ثم مِن الباب الأسفَلِ، فلا ينفذُ الماءُ حتى يأتِي ماءُ السَّنة الثانيةِ، فأخصَبُوا وكَثُرَتْ أموالُهم. فلمَّا كذبُوا الرُّسُلَ بعثَ اللهُ عليهم جِرْذاً نقبَ ذلك الرَّدْمَ، فاندفعَ الماءُ عليهم وعلى جنَّتَيهِم، فدَفَنَ السَّيلُ بُيوتَهم وأغرقَ جنَّتَيهِم وخرَّبَ أراضَيهِم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ﴾ ؛ أي بدَّلنَاهم بالجنَّتَين اللَّتين أهلكنَاهما جنَّتين، ﴿ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ ؛ الأُكُلُ : اسمٌ لِمَا يؤكَلُ. والْخَمْطُ : شَجَرُ الأرَاكِ، ويقالُ : الْخَمْطُ كلُّ نَبْتٍ قد أخذ طَعْماً مِن مرارةٍ حتى لا يُمكنُ أكلهُ. وَقِيْلَ : هو شجرٌ ذاتُ شَوكٍ.
قرأ أبو عمرٍو ويعقوبُ (أُكُلِ خَمْطٍ) بالإضافةِ، وقرأ الباقون (أُكُلٍ) بالتَّنوينِ، وهما مُتقاربان في المعنى.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَثْلٍ ﴾ ؛ الأثْلُ : ما عَظُمَ من شَجَرِ الطَّرْفَاءِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ ؛ والسِّدْرُ إذا كان بَرِّيّاً لا يُنتفَعُ به ولا يصلحُ ورَقُهُ للغُسُولِ، كما يكونُ ورَقُ السِّدر الذي نَبَتَ على الماءِ. ومعنى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ يعني أن الْخَمْطَ وَالأثْلَ كان أكثرَ في الجنَّتين المبدَّلَتين من السِّدر. قال قتادةُ :(كَانَ شَجَرُ الْقَوْمِ مِنْ خَيْرِ الشَّجَرِ، فَبَدَّلَهُ اللهُ مِنْ شَرِّ الشَّجَرِ بأعْمَالِهِمْ)، والسِّدْرُ هو شجرُ النَّبْقِ.
قرأ أهلُ الكوفةِ :(نُجَازي) بالنُّونِ وكسرِ الزَّاي. ونُصِبَ (الكَفُورَ) لقولهِ (جَزَيْنَاهُمْ) ولَم يقل جُوزُوا، وقرأ الآخرونَ (يُجَازيُ) بياءٍ مضمومة ورفعِ (الْكَفُورُ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ ﴾ مَن قرأ بالنصب فهو اسمُ قبيلةٍ، فلِهَذا لَم ينصرِفْ، ومَن نَوَّنَهُ وخفضَهُ فهو اسمٌ لرَجُلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ﴾ ؛ أي جعلنا القُرَى مُوَاصَلةً بقدر السَّير المتَّصلِ على قدر الْمَقِيْلِ والمبيتِ مِن قريةٍ إلى قرية، أنعَمْنا عليهم في مَسِيرِهم كما أنعَمْنا عليهم في مسَاكنِهم، فقُلنَا لَهم :﴿ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ﴾ ؛ إنْ شِئْتُم باللَّيالِي وإنْ شِئتُمْ بالأيَّامِ، ﴿ آمِنِينَ ﴾ ؛ مِن الظُّلمِ والجوعِ والعطشِ وعن جميع ما يُخَافُ في الطريقِ.
ومعنَى الآيةِ :﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ﴾ من القريةِ إلى القريةِ مِقْدَاراً واحداً، نِصْفَ يَوْمٍ، وقُلنا لَهم :﴿ سِيرُواْ فِيهَا ﴾ في تِلكَ القُرَى، ﴿ لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ﴾ ؛ لِيْلاً شِئتُمْ السيرَ أو نَهاراً ﴿ آمِنِينَ ﴾ من الجوعِ والعطَشِ والسِّباعِ والتَّعب ومِن كلِّ خوفٍ.
ثم إنَّهم بطَرُوا النعمةَ، وسألُوا أن تكونَ القُرَى والمنازلَ بعضُها أبعدَ من بعضٍ، ﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ﴾ ؛ أي اجعَلْ بيننا وبين الشَّامِ فَلَوَاتٍ وَمَفَاوزَ لنَركَبَ عليها الرَّواحِلَ ونَتَزَوَّدَ الأَزْوَادَ، ذلك أنَّهم قالوا لو كانَتْ ثِمارُنا أبعدَ مما هي لكان أجدرَ أن نشتَهِيَها، فاجعَلْ بين منازلنا وبين مقصَدِنا الْمَفَاوزَ. ويقالُ : كانت هذه المسألةُ من تُجَّارُهم ليربَحُوا في أمولِهم.
قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو (بَعِّدْ) على وجهِ الدُّعاء. وقرأ ابنُ الحنفيَّة ويعقوب (رَبُّنَا) برفعِ الباء (بَاعَدَ) بألفٍ وفتح العينِ والدلالةِ على الخبر، استبعَدُوا أسفارَهم بَطَراً منهم وأشَراً. وقرأ الباقونَ (رَبَّنَا) بفتح الباء و(بَاعِدْ) بالألفِ وكسرِ العين وجزمِ الدَّالِ على الدُّعاء. وقد قُرئَ (بَعُدَ) بضمِّ العين و(بَيْنُ) بالرفع ؛ أي بَعُدَ مَا يتَّصِلُ بسفَرِنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ ؛ يعني بتَرْكِ الشُّكرِ والطاعةِ، وَقِيْلَ : بالكُفرِ، ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ ؛ لِمَن بعدَهم يتحدَّثون بأمرِهم وشأنِهم، ولَم يبقَ منهم ولا مِن ديارهم أثرٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ ؛ أي فرَّقنَاهم في البلادِ المختلفة كلَّ تفريقٍ، وذلك أنَّهم شُرِّدُوا في البلادِ، وصَارُوا بحيث يتمثلُ بهم العربُ يقولون : تفرَّقَ القومُ أيدِي سَبََأَ وأيَادِي سَبَأ.
قال الشعبيُّ :(أمَّا غَسَّانُ فَلَحِقُواْ بالشَّامِ، وَأمَّا الأَنْصَارُ فَلَحِقُواْ بيَثْرِبَ، وَأمَّا خُزَاعَةُ فَلَحِقُواْ بتُهَامَةَ، وَأمَّا الأَزْدُ فَلَحِقُواْ بعُمَانَ) وَكَانَتْ غَسَّانُ مُلُوكَ الشَّامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ ؛ أي فيما فُعِلَ بسَبأ ﴿ لآيَاتٍ ﴾ ؛ لَعِبَرٍ ودلالاتٍ ﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ ﴾، عنِ معاصيِ اللهِ، ﴿ شَكُورٍ ﴾ ؛ لأَنْعُمِهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ أي على أهلِ سَبأ، وقال مجاهدُ : عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إلاَّ مَنْ أطَاعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ وهمُ الَّذين قَالَ اللهُ تَعَالَى فيهِم﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾[الاسراء : ٦٥].
وَقِيْلَ : إن إبليسَ لَمَّا وَسْوَسَ إلى آدمَ وعمِلتْ فيه وَسْوَسَتُهُ، طَمِعَ في ذرِّيته ؛ فقال : إنَّهُ مع فضلهِ وعقْلهِ، وعَمِلَتْ فيه وسْوَسَتِي ؛ فكيفَ لا تعملُ في ذرِّيتهِ ؟ فأخبرَ اللهُ في هذه الآيةِ : أنَّ القومَ اتبعُوهُ فصدَّقُوا ظَنَّهُ، إلاَّ طائفةً مِن المؤمنينَ لَم يتَّبعوهُ في شيءٍ.
وَقِيْلَ : إنَّ ابليسَ لَمَّا سألَ النَّظِرَةَ فأَنْظَرَهُ اللهُ تعالى قال : لأَضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأُمَوِّهَنَّهُمْ، ولَم يكن في وقتِ هذه المقالةِ مُستَيقِناً، وإنَّما قالَ ظَنّاً منهُ، فلما اتَّبَعُوهُ وأطاعوهُ صَدَقَ عليهم ما ظَنَّهُ فيهم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ ؛ أي ما كانَ لأبليسَ عليهم من حُجَّةٍ ولا نَفَاذِ أمْرٍ إلاّ بالتَّزيين والوَسْوَسَةِ. وقَوْلُهُ :﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ﴾ ؛ أي ما كان تُسْلِيْطُنَا إياه عليهم إلاّ لنعلمَ المؤمنينَ مِن الشاكرين.
والمعنى : ما سَلَّطْنَاهُ عليهم إلاّ لنعلمَ إيْمانَ المؤمنِ ظَاهراً وكُفْرَ الكافرِ ظَاهِراً، وقد يذكرُ العلمُ ويراد به الإظهارُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ ﴾ ؛ أي عالِمٌ بكلِّ شيء مِن الإيْمَانِ وشَكٍّ وغيرِ ذلك.
وَقِيْلَ : معناهُ : ادْعُوا الذين زَعمتُم أنَّهم آلهةٌ لكم لكي يرزُقوكم ويدفَعُوا عنكم الشدائدَ، ثُم إنَّهم لا يَملكون مِثْقَالَ ذرَّةٍ ؛ أي لَم يخلِقُوا زنَةَ ذرَّة في السَّموات ولا في الأرضِ، فمِن أينَ يستَحقُّون العبادةَ؟!
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ ﴾ ؛ أي ما لَهم في السَّموات والأرضِ مِنْ شِرْكٍ في خَلْقِهما، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ ﴾ ؛ أي وما اللهُ تعالى منهم من مُعِينٍ فيما خَلَقَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ ؛ أي ولا تنفعُ شفاعةُ مَلَكٍ مقرَّبٍ ولا نَبيٍّ ولا أحدٍ حتى يأْذنَ اللهُ له في الشَّفاعةِ. وهذا تكذيبٌ مِن الله لَهم حيثُ قالُوا : هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ.
قرأ أبو عَمرٍو وحمزةُ والكسائي وخلف (أُذِنَ) بضمِّ الألفِ، وقرأ غيرُهم بالفتحِ، فمَن فَتَحَ كان المعنى لِمَن أذِنَ اللهُ له في الشَّفاعةِ، وكذلك مَن قرأ بالضمِّ لأنَّ الآذِنَ هو اللهُ تعالى في القِراءَتين جميعاً.
واختلَفُوا في هذه الكتابةِ والموصُوفِين بهذه الصِّفةِ، مَن هم ؟ ومَن النَّصَب الذي مِن أجلهِ فَزَّعَ عن قلوبهم ؟ فقال قومٌ : همُ الملائكةُ. واختلَفُوا في سبب ذلك، فقال بعضُهم : إنَّما فَزَّعَ عن قلوبهم مِن غَشْيَةٍ تصيبُهم عند سَماعِ كلامِ الله عَزَّ وَجَلَّ.
قال عبدُالله بنُ مسعودٍ :(إذا تَكَلَّمَ اللهُ تَعَالَى بالْوَحْيِ، سَمِعَ أهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً مِثْلَ صَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ، فِيُصْعَقُونَ لِذلِكَ وَيَخُرُّونَ سُجَّداً، فَإذا عَلِمُوا أنَّهُ وَحْيٌ فَزَّعَ عَنْ قُلُوبهِمْ فَتُرَدُّ إلَيهِمْ، فَيُنَادِي أهْلُ السَّمَواتِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً :(ماذا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيرُ).
وعن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنهُ قال :" إنَّ اللهَ تَعَالَى إذا تَكَلَّمَ بالْوَحْيِ، سَمِعَ أهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فيُصْعَقُونَ فَلاَ يَزَالُونَ كَذلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيْلُ، فَيَقُولُونَ لَهُ : مَاذا قَالَ رَبُّكَ ؟ قَالَ : يَقُولُ الْحَقَّ ".
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" إذا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بأَجْنِحَتِهَا خُضُوعاً لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإذا فَزَّعَ عَنْ قُلُوبهِمْ، قَالُواْ : مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُواْ : الْحَقَّ ".
وقال ﷺ :" إذا تَكَلَّمَ اللهُ بالْوَحْيِ، أخَذتِ السَّمَوَاتُ مِنْهُ رَجْفَةً أوْ رَعْدَةً شَدِيْدَةً خَوْفاً مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَإذا سَمِعَ ذلِكَ أهْلُ السَّمََوَاتِ صُعِقُواْ وَخَرُّواْ سُجَّداً، فَيَكُونُ أوَّلُ مَنْ رَفَعَ رَأسَهُ جِبْرِيْلُ عليه السلام، فَيُكَلِّمُهُ اللهُ مِنْ وَحْيهِ بمَا أرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيْلُ بالْمَلاَئِكَةِ، فَكُلَّمَا مَرَّ بسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلاَئِكَتُهَا : مَاذا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيْلُ ؟ فَيَقُولُ جِبْرِيْلُ : قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيْرُ، فَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيْلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيْلُ بالْوَحْيِ حَيْثُ أمَرَ اللهُ ".
وقال مقاتلُ والكلبيُّ :(لَمَّا كَانَتِ الْفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ ﷺ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ عَاماً، فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً ﷺ كَلَّمَ اللهُ تَعَالَى جِبْرِيْلَ بالرِّسَالَةِ إلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَسَمِعَتِ الْمَلاَئِكَةُ الصَّوْتَ بالْوَحْيِ، فَظَنُّواْ أنَّهَا الْقِيَامَةُ قَامَتْ، فَصُعِقُواْ مِمَّا سَمِعُواْ، فَلَمَّا انْحَدَرَ جِبْرِيْلُ بالرِّسَالَةِ، جَعَلَ أهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ يَسْأَلُونَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَرُّفِ بَعْدَ مَا انْكَشَفَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبهِمْ، قَالُواْ : مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالَ جِبْرِيْلُ وَمَنْ مَعَهُ : قَالَ الْحَقَّ).
وَقِيْلَ : لَمَّا سَمعَتِ الملائكةُ الوحيَ صُعِقُوا فَخَرُّوا سُجَّداً ظَانِّينَ أنَّها القيامةُ، فلما نَزَلَ جبريلُ بالوحيِ انكشَفَ فزَعُهم فرَفَعُوا رُؤوسَهم، وقال بعضُهم لبعضٍ :(مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُواْ الْحَقَّ) يعنِي الوحيَ ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ أي الغالبُ القاهر السيِّدُ المطاعُ الكبيرُ العظيم، فلا شيءَ أعظمَ منهُ.
وقرأ الحسنُ (حَتَّى إذا فَزِعَ عَنْ قُلُوبهِمْ) بالعَينِ المعجمةِ والزَّاي بمعنى فَزِعَتْ قلوبُهم من الفزَعِ، وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قولَهُ ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ راجعٌ إلى المشرِكينَ، فإنَّهم إذا شاهَدُوا أهوالَ يومِ القيامةِ غَشِيَ عليهم، فيُزِيلُ اللهُ ذلك عن قلوبهم، ثُم تقولُ لَهم الملائكةُ : مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ في الدُّنيا والآخرةِ ؟ فيقولونَ : الْحَقَّ، فأَقَرُّوا حين لا ينفعُهم الإقرارُ.
ثُم أمَرَ بأنْ يُخبرَهم أنَّهم على الضَّلالِ بعبادةِ غيرِ الله تعالى بقولهِ تعالى :﴿ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ ؛ وهذا على وجهِ الإنصَافِ في الحجَّة لاستمالةِ قُلوبهم، كما يقولُ القائلُ من المسَارعِين : أحَدُنا كاذبٌ ؛ وهو يعلمُ أنَّهُ صادقٌ وصاحبهُ كاذبٌ.
والمعنى : مَا نحنُ وأنتم إلاَّ على أمرٍ واحدٍ ؛ أحدُ الفرِيقَين مهتَدٍ والآخرُ ضَالٌّ، فالنبيُّ ﷺ ومَنِ اتَّبَعَهُ على الْهُدَى، ومَن خالفَهُ في ضَلالٍ مُبينٍ.
وَقِيْلَ : معنَى ﴿ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ يعنُونَ التَّوراةَ والإنجيلَ، وذلك : أنَّهُ لَمَّا قالَ مؤمِنُوا أهلِ الكتاب : إنَّ صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ في كِتَابنا وهو نبيٌّ مبعوثٌ، كَفَرَ أهلُ مكَّةَ بكِتَابهم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ ﴾ ؛ أي ولو ترَى يا مُحَمَّدُ مُشرِكي مكَّة مَحبُوسُونَ في الْمَحْشَرِ للحِسَاب يومَ القيامةِ، يتجَاوَبونَ فيما بينِهم يرُدُّ بعضُهم على بعضٍ القولَ في الجدالِ، ويحمِلُ كلُّ واحدٍ منهُم الذنبَ على صاحبهِ، فيقولُ الأتبَاعُ لرُؤسَائِهم :﴿ لَوْلاَ أَنتُمْ ﴾ ؛ ودعَاؤُكم إيَّانا إلى الكُفرِ، ﴿ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ كغِيرِنا، بل أنتُم منعتُمونا وصدَدتُمونا عنِ الإيْمانِ.
فأجَابَهم رؤسَاؤُهم على وجهِ الإنكار :﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ ﴾ باختياركم الكُفرَ على الإيْمانِ.
فقالَ الأتباعُ للرُّؤسَاءِ :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الَّيلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾ ؛ قال الأخفشُ :(اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لاَ يَمْكُرَانِ بأَحَدٍ، وَلَكِنْ يُمْكَرُ فِيْهِمَا، وَهَذا كَقَوْلِهِ﴿ مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ﴾[محمد : ١٣] وَهَذا مِنْ سَعَةِ الْعَرَبيَّةِ).
والمعنى : بل مَكْرُكم بنَا في الليلِ والنهار إذ تأمُرونَنا، وكذلك يقالُ : فلانٌ نَهارُ صائمٍ وليلهُ قائمُ، وقال الشَّاعرُ :(مَا لَيْلُ الْمِطَي بنَائِمِ). ومثلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ ﴾[محمد : ٢١]. وَقِيْلَ : مكرُ اللَّيلِ والنهار بهم طولُ السَّلامةِ فيهما، كقولهِ﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾[الحديد : ١٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ ﴾ ؛ أي أضْمَرُوها في أنفسِهم ؛ لأن موضعَ النَّدامَةِ القلبُ. وَقِيْلَ : أظهَرُوها فيما بينهم، أقبلَ بعضُهم يَلُومُ بَعْضاً، ويعرضُ بعضُهم بعضاً الندامةَ، وهذا مِن ألفاظِ الأضدَادِ، يقالُ : أسَرَّ إذا كَتَمَ، وأسَرَّ إذا أظهَرَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ أي غُلَّتْ أيْمَانُهم إلى أعناقِهم، ﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ من الشِّركِ في الدُّنيا.
فقَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبيِّهِ عليه السلام :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ ؛ يعني أنَّ بَسْطَ الرزقِ وتضييقهِ مِن الله تعالى بفعلهِ إبتلاءً وامتحاناً، ولا يدلُّ البسطُ على رضَا اللهِ تعالى، ولا التضييقُ على سَخَطِهِ، ﴿ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ يعني أهلَ مكَّة لا يعلمونَ حين ظَنُّوا أنَّ أموالَهم وأولادَهم دليلٌ على كرامةِ اللهِ لَهم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأُوْلَـائِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ ؛ أي لَهم الجزاءُ الْمُضَاعَفُ على حسَنَاتِهم بالحسَنةِ الواحدةِ عشراً، ﴿ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ﴾ ؛ الجنَّة، ﴿ آمِنُونَ ﴾ ؛ مِن كلِّ آفَةٍ ومَكروهٍ. والغُرْفَةُ : هي البيوتُ فوقَ الأبنية.
قرأ حمزةُ (وَهُمْ فِي الْغُرْفَةِ) على الواحدةِ، لقوله﴿ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ﴾[الفرقان : ٧٥]، وقرأ الباقون (فِي الْغُرُفَاتِ) على الجمعِ، لقوله﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ ﴾[العنكبوت : ٥٨]، وقرأ يعقوبُ (فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءًَ) بالنصب مُنَوَّناً (الضِّعْفُ) بالرفع تقديرهُ : فأولئكَ لَهم الضعفُ جَزاءً على التقديرِ والتأخيرِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ ؛ أي ما أنفَقتُم من مالٍ في غير إسْرافٍ ولا تَقتِيرٍ فهو يُخلِفُهُ في الدُّنيا بالعِوَضِ، وفي الآخرةِ بالحسَناتِ والدَّرجَاتِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ لكم أو علَيكم، يقالُ : أخلَفَ اللهُ لَهُ وعليهِ ؛ إذا أبدلَ اللهُ لَهُ ما ذهبَ عنهُ، وعن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قَالَ :" مَنْ فَقِهَ الْمُرَادَ فَقِهَ فِي مَعِيْشَتِهِ ".
وقال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : وَمَا أنْفَقْتُمْ فِي الْخَيْرِ وَالْبرِّ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، إمَّا أنْ يُعَجِّلَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإمَّا أنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الآخِرَةِ). وعن سعيدِ بن بشَّار قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبحُ الْعِبَادُ فِيْهِ إلاَّ وَمَلَكَانِ أحَدُهُمَا يَقُولُ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً " وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ ؛ أي وهو خيرُ الْمُخْلِفِيْنَ، وإنَّما خَيْرُ الرَّازِقينَ لأنه قَدْ يُقالُ : رزَقَ السُّلطانُ الْجُنْدَ.
ثُم خوَّفَهم وأخبرَ عن عاقبةِ مَن كذبَ قبلَهم فقال :﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ ﴾ ؛ يعني أمم كافرة، ﴿ وَمَا بَلَغُواْ ﴾ ؛ يعني أهلَ مكَّة، ﴿ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾ ؛ أي ما بَلَغَ هؤلاءِ الذين أُرسِلْتَ إليهم عُشْرَ ما أُوتِيَ الأممُ قبلَهم من القوَّة والعُدَّة، ﴿ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ ؛ فَانْظُرْ كيفَ كان إنْكَاري عليهم وتَعذِيبي لَهم، ألَيسُوا مُهلَكِين بالعذاب إذ لَم يُؤمِنُوا به مِعْشَارَ. والعُشْرُ والعَشِيرُ جزءٌ من عشرةٍ. قال ابنُ عبَّاس :(الْمَعْنَى : وَمَا بَلَغَ قَوْمُكَ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَطُولِ الْعُمُرِ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾ ؛ وذلكَ أنَّ المشركينَ قالُوا : إنَّ مُحَمَّداً ساحرٌ مجنونٌ! فقال اللهُ تعالى :﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾ وما صَاحِبُكم بمجنُونٍ، فعلَى هذا المعنى يكونُ قولهُ ﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾ ابتداءُ كلامٍ مِن اللهِ تعالى، ويجوزُ أن يكونَ المعنى : ثُم تتفكَّرُوا فتعلَمُوا بُطلاَن قولِكم في نِسْبَتِهِ إلى الجنونِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي ما هُو إلاَّ رسولٌ مُخَوِّفٌ، ﴿ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ ؛ أي بينَ يدَي القيامةِ لكي تُخَلِّصُوا أنفُسَكم من عذاب اللهِ بالتَّلافِي والتَّوبةِ.
ويجوزُ أن يكون هذا اسْتِفْهَاماً، كأنَّهُ قالَ : وأيُّ شيءٍ يُبدِئُ الباطلُ ؟ وأيُّ شيء يعيدهُ ؟ وعنِ ابنِ مسعودٍِ قال :" دَخَلَ رَسُُولُ اللهِ ﷺ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسُتُّونَ صَنَماً، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بعُودٍ مَعَهُ وَيَقُولُ :" جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيْدُ " أيْ ذهبَ الباطلُ بحيثُ لا يبقَى له بقيَّة، لا إقبالٌ ولا إدبارٌ ولا إبداءٌ ولا إعادة كما قَالَ تَعَالَى﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ﴾[الأنبياء : ١٨]. ويقالُ : فلانٌ ظهرَتْ عليه الحجَّة، فما يُبدِئُ وما يعيدُ، ومَا يحل وما يَمرُّ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ ؛ يعنِي من القُبُور حيثُ كانوا، فَهُمْ مِن اللهِ قريبٌ لا يبعُدونَ عنه ولا يَفُوتُونَهُ. تعني هذه الآيةِ ؛ قال بعضُهم : أرادَ بقولهِ ﴿ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾ مما أصَابَهم يومَ بدرٍ عند القتالِ. وقال بعضُهم : أرادَ به يومَ القيامةِ إذ فَزِعُوا مِن مُشاهدَةِ عذاب جهنَّم، وعلِمُوا أنَّهم لا يفُوتُونَ للهَ، وأُخِذُوا بالعذاب مِن مكانٍ قريبٍ إلى جهنَّم فقُذِفُوا فيها.
﴿ وَقَالُواْ ﴾، عندَ رُؤيَةِ العذاب :﴿ آمَنَّا بِهِ ﴾، أي آمَنَّا باللهِ تعالَى وبرسُولهِ، يقولُ اللهُ تعالى :﴿ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ ؛ أي أينَ لَهم تَنَاوُلُ ما أرادُوا بُلُوغَهُ مِن مكانٍ بعيد، يعني مِن الآخرةِ وقد تركوهُ في الدُّنيا ؟ يعني أنَّهم قد تَعَذرَ عليهم تناولُ الإيْمانِ كما يتعذرُ على الإنسانِ تناوُلُ النُّجومِ.
والتَّنَاوُشُ هو التَّنَاوُلُ، نِشْتُهُ أنُوشُهُ نَوْشاً، إذا تَنَاوَلَهُ، كأنَّهُ قالَ : وأنَّى لَهُمُ التوبةُ. وَقِيْلَ : ما يتَمَنَّوْنَ. قال ابنُ عبَّاس :(يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ حِيْنَ لاَ رَدَّ).
قرأ أبُو عمرٍو والأعمشُ وحمزة والكسائيُّ وخلف :(التَّنَاؤُشُ) بالمدِّ والهمزةِ، وهو الإبطاءُ والبُعْدُ ؛ أي مِن أينَ لَهم أن يتحرَّكُوا فيما لا حيلةَ لَهم فيهِ. يقالُ : أنَشْتُ الشَّيءَ ؛ إذا أخذتهُ مِن بعيدٍ، والنَّيْشُ : الشيءُ البطيءُ. وقرأ الباقونَ بغيرِ همزةٍ من التَّناوُلِ، يقالُ : نِشْتُهُ إذا تناوَلتهُ، وَتَنَاوَشَ القومُ في الحرب إذا تدَانَوا وتناولَ بعضُهم بعضاً.
واختارَ أبو عُبيد تركَ الهمزِ ؛ لأنه قالَ :(مَعْنَاهُ مِنَ التَّنَاوُلِ، فَإذا هُمِزَ كَانَ مَعْنَاهُ الْبُعْدُ فكيف يقول :﴿ وَأَنَّى لَهُمُ ﴾ البُعْدُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيْدٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ يعني أنَّهم يريدونَ أنْ يتناوَلُوا التوبةَ، وقد صَارُوا في الآخرةِ، وإنَّما تُقْبَلُ التوبةُ " في الدنيا " وقد ذهبَتِ الدُّنيا فصارت بعيداً مِن الآخرةِ.
ومعنى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ بِالْغَيْبِ ﴾ أنْ يقذِفُون مُحَمَّداً ﷺ بالظَّنِّ لا باليقينِ، والغيبُ على هذا الظَّنُّ، وهو ما غَابَ عِلمُه عنهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ يعني بُعْدَهم عن الحقِّ. وقال قتادةُ :(مَعْنَى ﴿ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ يَقُولُونَ : لاَ بَعْثَ وَلاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ).
وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنه قالَ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ سَبَأ لَمْ يَبْقَ رَسُولٌ وَلاَ نَبيٌّ إلاَّ كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفِيْقَاً وَمُصَافِحاً ".