تفسير سورة التغابن

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ التَّغَابُنِ
قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ... (١)﴾
عبر هنا وفي الجمعة عن التسبيح بالمستقبل، وفي الحديد والحشر والصف بلفظ الماضي، والجواب: أن الماضي [حقيقته*] الانقطاع وعدم التزايد، وعدم التغير والتجدد، والمستقبل من شأنه الدوام والتجدد والتغير، وهو قابل للتزايد، والعزة وصف ثابت للموصوف، لأنها من صفة ذاته لَا تتعلق بالغير، [**والملك معروض الغير، والزيادة والنقص لتعلقه بالغير]، تقول: ملك فلان أعظم من ملك فلان، قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) الآية، فهو يتزايد بحسب متملكاته، والتسبيح في آية الماضي يعقب بوصف العزة، وفي آية المستقبل يعقب وصفه الملك، فإن قلت: في آخر سورة الحشر (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، قلت: تقدمها (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) إلى آخره، عبر بالمضارع اعتبارا بما قبله، فإِن قلت: ذكر هنا متعلق التسبيح دون [وقته*]، وقال في الأنبياء (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، فذكر وقته دون متعلقه؟ فالجواب: أن المسبح هناك الملائكة، وهم معصومون، فمعلوم أنهم إنما يسبحون الله، وإنما يتوهم ذهول الذهن عن دوام تسبيحهم وانقطاعه، فذكر ما يتوهم جهله، والغفلة عنه وعنا [... ]. في أن العبد يخلق أفعاله وهل [التسبيح*] إما في الحال، فيكون عاما في كل شيء، فهو [مجاز*]، أو بلسان المقال، فيكون خاصا بالعاقل، فيتعارض التخصيص والمجاز، فإِن قلت: كيف يصح المجاز مع أن الحقيقة موجودة في البعض، والمسبح بلسان المقال؟ قلت: يصح؛ ألا ترى أن الفخر قال: في دلالة المطابقة والتضمن من حيث هو جزاؤه وكذا في [دلالة الالتزام*]، فرآه من حيث هو في [الدلالات الثلاث*]، فإن قلت: لم أعاد لفظ (ما) هنا دون الحديد؟ فالجواب: أنه لما ذكر السماوات والأرض هناك في أربعة مواضع، كانت بمنزلة الشيء الواحد*]، فاستغنى عن إعادة الموصول.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ... (٢)﴾
فصل هذه الجملة عما قبلها؛ لجريانها مجرى الدليل عليهما، كأنه قيل: [لِمَ*] يسبحونه؟ فقال: لأنه خلقهم.
قوله تعالى: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ).
وقال في سورة هود (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)، فأعاد المجرور هنا ولم يعده هناك؟ والجواب: أن المؤمنين هنا مخاطبون لقوله تعالى: (فَمِنْكُمْ)، فقصد كمال الفصل، لأنه بينهم وبين الكفار، لأنه من تمام الاعتناء بهم وتعظيمهم وتشريفهم بإفراد حكمهم، وهم هناك غائبون غير مقبل عليهم، فلم يحتج إلى الفصل بل جاء على الأصل؛ لأن حرف العطف ناب مناب تكرار الجار، وذكر البيانيون: الجمع والتفريق، ومثلوه بقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) الآية، وهذه الآية منه، وهو تقسيم مستوف إذ لَا ثالث، وقول ابن عطية: إن هذه الجملة في موضع الحال، وهْم لقول ابن مالك في آخر باب الحال: والجملة الحال لَا تقترن بها الفاء، فإن قلت: معلوم أن منهم المؤمن والكافر، فما فائدة الإخبار بهذا؟، قلت: أفاد باعتبار لازمه، أي كما تفقهون بأن خلقكم إنما هو بفعل الله، فكذلك خلق صفاتكم من الكفر والإيمان، ففيه رد على المعتزلة القائلين: بأن العبد يخلق أفعاله، فإن قلت: كيف يفهم هذا من حديث: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" قلت: ليس المراد الإيمان الأصلي، بل المراد الإيمان التكليفي ضد الكفر.
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ... (٣)﴾
نجد اللفظ ورد في القرآن كثيرا مقرونا بقوله (بِالْحَقِّ)، فإن قلت: ما أفاد مع أنه ظاهر في مذهب المعتزلة القائلين: بقاعدة التحسين والتقبيح ومراعاة الأصلح، ووجه الدليل من الآية أن الحق يستحيل أن يراد به أمر راجع إلى إنكار خلق الله تعالى لهما لاستحالة النقص عليه، فلم يبق أن يراد به إلا الأمر المصلح والحسن، وهذا مذهب المعتزلة القائلين: بأن الله لَا يفعل إلا الخير، ولا يخلق الشر بوجه؟ والجواب بأحد وجهين:
إما بأن معناه أنه خلقها مصاحبة لتصديقه لتطابق فعله، وخلقه لها وإخباره تعالى في الأول بأنه سيخلقها بحكمة متقنة، وقال الزمخشري: (بِالحَقِّ)، أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو اعتزال على مذهبه الفاسد في التحسين والتقبيح، ليسلم من نسبة النقص إلى إضافة النقص إلى الله تعالى ونحن لَا نجعل الباء سبباً على المصاحبة، فإن قلت: قال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)، فأتى فيه بالفاء على المضمر المفيد للتحقير، ولم يقل هنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ)، قلت: لمخالفة الحكماء في خلق الأنفس وفي الطبع والطبيعة دون هذا.
قوله تعالى: (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ).
الزمخشري: جعلهم أحسن الحيوان [وأبهاه*]، ومن ذلك أنه خلق منتصبا قائما غير منكب، قال: فإِن قلت: كم من [دميم*] مشوَّه الصورة سمج الخلقة، قلت: لَا سماجة ثَمَّ، ولكن الحسن كغيره على مراتب فهم حسن وأحسن منه، والكل حسن بالنسبة إلى غيرهم من الحيوانات انتهى، يرد عليه هذا الجواب: بأن الدميم القبيح المنظر إن أطلق عليه أنه قبيح فالسؤال وارد، وإن قال: إنه حسن فباطل يصدق نقيضه عليه، وهو قبيح، وإنما الجواب: أن الحسن يطلق باعتبارين:
أحدهما: ضد القبيح، تقول: هو في ذاته حسن، أي ليس بقبيح.
الثاني: باعتبار وروده على وفق المراد، والخيال المتصور في الذهن، فتقول: أحسن فلان صورة أحدب أعرج أحسن، أي أنابها على نحو ما أريد منه فإِتيان الصورة هو أن [يتخيل*] شيئا في ذهنه فيأتي به على نحو ما تخيل وما بذلك عليه.
قوله تعالى: [(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) *]
[هذا*] هو المراد في الآية، أي صوركم على وفق ما أراد منكم، وهو حسن في نوعه، فصور الأعرج مثلا على أحسن صورته في نوعه، والأقطع والأشل كذلك، فإِن قلت: يفوت معنى التفضيل في مزية الإنسان وتفضيله على غيره، والآية خرجت مخرج الامتنان، وهذا المعنى يشترك فيه الإنسان مع غيره؟ قلت: إنما اختص الإنسان بالذكر، لأنه أقرب إلى الفهم، قال تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
قوله تعالى: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).
كالنتيجة لمن لَا يخالف في المقدمتين، أي كما وافقتم وتحققتم أنه الذي خلقكم فصوركم، فتحققوا أنه يعيدكم بعد الموت، لأن بعض النَّاس أنكروا الإعادة، وفسره الزمخشري وابن عطية: بأن المراد: إليه مرجعكم فيجازيكم بالثواب والعقاب، فعليكم بشكره على نعمه والإيمان به.
قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ... (٤)﴾
لما تقدم أنه خلق السماوات فأتقنها، والإتقان دليل على العلم، فناسب تعقيبه به، وأتى أولا بعلم الذوات ثم بعلم الصفات، وهي القول سره وعلانيته، ثم [بعلم*] المعاني وهو ما في الصدور، وهو الكلام النفسي، وعبر عن الأولين بالفعل، [وفي*] الثالث بالاسم،
لأنه أخفاها مبالغة في الإخبار بعلمه بالإخفاء، وهو خاص بالله تعالى لَا يشاركه غيره، أو يكون من عطف الخاص على العام.
قوله تعالى: ﴿أَبَشَرٌ... (٦)﴾
إن كان استفهاما حقيقة فعطف (كفروا) عليه تأسيس، وإن كان بمعنى الإنكار فهو تأكيد؛ لإفادة الأول كفرهم، وعلى الأول يكون التولي حسيا، أي تولوا عن إتباعه ونصرته، وعلى الثاني: يكون معنويا، أي تولوا عن الإيمان به إلى الكفر.
قوله تعالى: (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ).
ابن عطية: السين في استفعل للطلب، وهو هنا للتحقيق، انتهى، وعلى هذا يكون (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، احتراسا خشية أن يتوهم أن السين هنا للطلب، وقول الزمخشري: الآية توهم وجود الاستغناء والتولي معا لَا وجه له، لقوله في مفصله مع سيبويه إن الواو لمطلق الجمع دون معية ولا ترتيب، إلا أن ابن مالك قال: ويترجح تأخير المؤخر بكثرة الاستعمال، فسؤال الزمخشري إنما هو على الأكثر.
قوله تعالى: ﴿يَسِيرٌ (٧)﴾
إما باعتبار قرب زمنه، أو أنه هين كما قال ابن عطية.
قوله تعالى: [(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... (٨) *]
إن قلت: الأصل تقديم [القرآن*]؛ لأنه السبب فيما قبله، فالجواب: أن المعجزة ما تظهر إلا على [يد*] الرسول، [فوجود*] الرسول متقدم على وجود المعجزة، إلا أن يقال: فرق بين دعوى الرسالة وبين الإيمان بها، فدعوى الرسالة متقدم على المعجزة وما نحن نتكلم إلا في الإيمان بالرسول، فإِنه متأخر عن الإيمان بالمعجزة، فيجاب عن السؤال: أن الآية خرجت مخرج الرد عليهم في إنكار البعث والمعاد، فالقرآن إنما ذكر من حيث دلالته على صحة البعث والمعاد والإيمان بالبعث، والمعاد متأخر عن الإيمان بالرسول.
قوله (يَوْمُ التَّغَابُنِ... (٩).. ، جعله الزمخشري: [تهكمًا*] لأن الغبن في البيع، هو البخس في ثمن السلعة، فكأنَّ هؤلاء يبخسوا بمالهم تهكما بهم على أن الحاكم عادل فلا [يبخس*]، وجعله ابن عطية مجازا في [إفادة*] لفظ التغابن، لأن التفاعل يقتضي أن الغبن في الجهتين، ويصح معنى التغابن باعتبار تفاوت درجات المؤمنين، أو على [**العجز به] بمعنى أن الإنسان مع نفسه [**يتجرد بها] [نفسا أخرى*] يتغابن معها.
قوله تعالى: (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ).
هذان معلقان على مجموع الإيمان والعمل، ولا يصح أن يكون كل واحد من فعلي الشرط يترتب عليه كل من جوزي، الجواب: لأن الشرطية لَا تتعدد بتعدد المقدم، والتكفير مخصوص بحقوق الغير إذ لَا [تنفع*] التوبة إن [... ] العمل الصالح، أبو عبد الله محمد بن محمد: فأما وظاهره أن التكفير متوقف على الأمرين، فيكون تكفيرا خاصا، قال شيخنا: وفسره الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد بن سلامه الأنصاري: العمل الصالح بفعل المسنونات، وهو غفلة منه، لأن هذا هو مذهب المعتزلة لأنهم يشترطون في الإيمان فعل المفروضات من الطاعة. فمن لم يفعلها ليس بمؤمن عندهم فيكون عطْف، (ويعمل صالحا) عليه عندهم تأكيدا، فيحتاجوا أن يفسروا العمل الصالح بفعل المسنونات، ونحن نقول: إن الإيمان حاصل بمجرد النطق بالشهادتين والعمل الصالح [مترتب عليه*]، والأول ترهيب، وهذا ترغيب.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا... (١٠)﴾
التكذيب بالآيات من لوازم الكفر؛ بخلاف العمل الصالح، فإنه ليس من لوازم الإيمان، فيرد السؤال لأي شيء رتب دخول الجنة وتكفير السيئات على الإيمان والعمل الصالح، ودخول النار على مجرد الكفر فقط، فيجاب: بأن الأول ترغيب في الطاعة، فناسب تكثير أسباب دخول الجنة تحريضا على فعلها، والثاني: ترهيب وتخويف، فناسب تقليل السبب على سبيل [التخويف والتفير عنه*]، والمعنى أن مجرد الكفر موجب لدخول النار، وإن لم يكن معه فسوق ولا فساد في الأرض ولا ظلم، فيقال للمؤمن: لَا [تكتف*] بإيمانك، وللكافر لَا [تعتقد*] أن مجرد كفرك لَا يضرك، فإن قلت: لم عبر في (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ) بالمضارع، وفي (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالماضي؟ فالجواب: أنه إشارة إلى أن ذلكَ خاص لمن سيحصل منه الإيمان إلى قيام الساعة، والإيمان وصف طرأ على الكفر، والكفر هو الأصل فيهم، لأنه أمر واقع منهم حاصل لهم، والإيمان طرأ عليه، وعبر في الأول: بـ (مَنْ) الشرطية، وفي الثاني: بالموصول، لأن الموصول أقرب للحصول من الشرطية، فإن قلت: لم قيد دخول المؤمنين بالأبدية ولم يقيد خلود الكافرين بها، مع أنه مؤبد، وكذلك قال في سورة هود (فَأما الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ)، الآية وزاد في [آخرها*] (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)، أي دائما غير منقطع عنهم؟ فالجواب: أنه زاد هنا (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، فناب مناب الأبدية، لأنه لَا يقال: بئس المصير، بالإطلاق إلا فيما هو [أسوأ*] المصير [وأدومه*]، وأسند تكفير السيئات، وإدخال الجنات إليه، ولم يسند إليه إدخال الكافرين النار، فلم
يقل: والذين كفروا يدخلهم النار تشريفا للمؤمنين وتحقيرا للكافرين وأدبا لهم، وإن كان الكل من فعله وخلقه.
قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ... (١١)﴾
يحتمل أن يعم اللفظ الخير والشر، وهو خاص بالشر، وهو الظاهر، ويتقرر وجه مناسبتها لما قبلها بأحد أمرين: إما بأنها تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله سلم، أي لا [تحزن*] على عدم إيمانهم، فإن ذلك بإرادة الله تعالى وإذنه.
وإما بأنه احتراس؛ لأنه لما تقدم أن من يؤمن بالله ويعمل صالحا، يجازى بتكفير السيئات، ومن يكفر بالله يجازى بدخول النار، أوهَم ترتب ذلك الجزاء على ما ذكر أن الإيمان والكفر من فعل المكلف وكسبه واختياره، فاحترس عن هذا التوهم بأن جميع الحوادث من خير وشر من الله تعالى، فمن أصابه هم وحزن من موت حبيب أو ذهاب مال، فلا يهتم لذلك؛ وليعتقد أن الله تعالى قدره وأراده وعلم وقوعه، لأن الإذن يشمل العلم والإرادة المخصصة له والقدرة المبرزة من العدم إلى الوجود، والآية دليل على أن الاستثناء من النفي إثبات، لأنه ليس المقصود نفي المصيبة، وإنَّمَا المقصود حصرها بالإذن.
قوله تعالى: [(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) *].
إن قلت: الهداية متقدمة على الإيمان، وسبب فيه، فكيف رتبت عليه؟ فالجواب: إما أنه مثل (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)، وإما بأن المراد بالإيمان مجرد التصديق، أي ومن يصدق بوجوده الله، يهده إلى التصديق بوحدانيته، لأنهما بابان في علم الكلام، [فالتصديق*] بالوجود غير التصديق بالوحدانية، ولا يقال: إنه يلزم عليه الخلف في الخبر من جهة أن المشركين بالله يصدقون بوجوده؛ لأنا نقول: المراد من يصدق بوجود الله في التصديق وحصول ذلك موجب للتصديق بالوحدانية.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
إن قلنا: إن المعدوم لَا يطلق عليه شيء، فيكون تأكيدا؛ لأنه مستفاد من قوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، لما تقدم من الإذن يشمل العلم والقدرة والإرادة، فكل حادث الله علمه بالحوادث بين الموجودات.
قوله تعالى: ﴿فَاحْذَرُوهُمْ... (١٤)﴾
الضمير المفعول، إما عائد على (عدوا)، فيكون الأمر بالحذر فيمن ثبت عداوته، أو عائد على الأزواج والأولاد، فالأمر بالمحاذرة عام في جميعهم، خشية أن يكون الذي وقع الركون إليه عدوا، والآية خطاب بالذات للرجال بالتحذير من زوجاتهم وأولادهم، ويحتمل أن يعم الخطاب الرجال والنساء، [فيكون مخصصا من ذلك بالتحذير من أزواجهم وأولادهم*].
قوله تعالى: (وَإِنْ تَعْفُوا).
العفو ترك الحق بعد ثبوته عند الحاكم، والصفح تركه بعد المطالبة به قبل ثبوته عند الحاكم، والمغفرة ترك المطالبة به من أصل، فالعطف ترق ولذلك خصص الأخير بقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) وفي آية أخرى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فينعقد من الآيتين الشكل الثالث، وذكر الأولاد في العداوة وفي الفتنة، دليل على شكيمتهم أشد من الزوجات، وذكر ابن عطية هنا والزمخشري من بعده؛ لأنه متأخر عنه حديث الله أعلم بصحته (١) عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يخطب إذ دخل الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما الحمرة، فهبط ورفعهما" إلى آخره.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥)﴾
دليل على عظم الشغل بهما، وخرج البخاري في كتاب الأنبياء عن أبي وائل عن حذيفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الفِتْنَةِ، قُلْتُ أَنَا كَمَا قَالَهُ: قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ، قُلْتُ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ، وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ»، قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، وَلَكِنِ الفِتْنَةُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ البَحْرُ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ، قَالَ: إِذًا لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا، قُلْنَا: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ البَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ الغَدِ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: البَابُ عُمَرُ.*].
قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ... (١٦)﴾
(١) الحديث عند الإمام أحمد وابن ماجه:
نصه عند الإمام أحمد:
[٢٢٩٩٥ - حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا، فَجَاءَ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمِنْبَرِ، فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: ١٥] نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا"]. اهـ
وعند ابن ماجه:
٣٦٠٠ - حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ بَرَّادِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، قَاضِي مَرْوَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، أَنَّ أَبَاهُ، حَدَّثَهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَأَقْبَلَ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُمَا فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ، فَقَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»، ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: ١٥] «رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ» ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ". اهـ
242
عارضها ابن عطية بقوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَق تُقَاتِهِ)، وظاهرها عموم التقوى في المستطيع وغيره، فمنهم من قال: هذه ناسخة لتلك، ومنهم من [لم*] يجعلها ناسخة؛ لأن النسخ إنما هو حيث التعارض ولا تعارض إلا لو كانت تلك أمرا، وهذه نهيا عن شيء واحد، أو تلك إثباتا وهذه نفيا لشيء واحد، وأما هنا فلا تعارض بين اللفظين، وإنما التعارض بين مفهوم هذه الآية ونص تلك؛ لأن مفهوم هذه أن غير المستطاع من التقوى غير مأمور به، فيرجع إلى نسخ النص المتواتر بالمفهوم، وفيه خلاف بين الأصوليين.
* * *
243
Icon