تفسير سورة الإنسان

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الإنسان
وهي مكية، وحكى بعضهم الإجماع على أنها مدنية، وعدد آياتها إحدى وثلاثون وتشمل الكلام على البعث، وعلى خلق الإنسان وهدايته للخير والشر، ثم بيان عاقبة كل، مع ذكر أعمال الأبرار وجزائهم.
الإنسان: بعثه وخلقه وتكليفه [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤)
المفردات:
حِينٌ الحين: جزء محدود من الزمان شامل للقليل والكثير. الدَّهْرِ:
الزمان الممتد الذي ليس بمحدود. نُطْفَةٍ: هي القليل من الماء. أَمْشاجٍ:
جمع مشج، أى: أخلاط. نَبْتَلِيهِ: نختبره. هَدَيْناهُ: دللناه وأرشدناه إلى الطريق. أَعْتَدْنا: هيأنا. سَلاسِلَ: قيودا توضع في الأرجل.
وَأَغْلالًا: أطواقا توضع في الأيدى.
792
المعنى:
هل أتى على الإنسان وقت من الزمن لم يكن شيئا مذكورا؟ وقد علم الله أنهم يقرون فيقولون: نعم قد أتى عليه ذلك، فيقال لهم: الذي أوجده من العدم بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه من العدم «١» ؟ والإنسان من حيث هو إنسان مر عليه حين من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه، وهذا الزمن لا يعلمه إلا الله.
هذا الإنسان الذي خلق من العدم كيف خلق؟ يقول الله- تعالى- مجيبا ومؤكدا:
إنا خلقناه من نطفة أمشاج، يا سبحان الله! يقول الله تعالى: إنا خلقنا الإنسان من نطفة موصوفة بأنها أخلاط، فيها نوازع الخير والشر كامنة، وفيها صفات للإنسان مختلفة، وفيها اتجاهات له متباينة. ولو شاء ربك لجعل الناس على نظام واحد وطريقة واحدة كلهم للخير أو كلهم للشر، ولكنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولأجل هذا الاختلاف خلقهم، فبه يعمر الكون، وتكون الدنيا والآخرة.
خلقنا ربك من نطفة فيها أخلاط ليبتلينا، إنا خلقناه من نطفة أمشاج حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره فيما سنكلفه به من شرائع.
ولهذا جعلناه سميعا بصيرا، أى: فترتب على إرادة الابتلاء أن خلق الله فينا قوة العقل والإدراك لنميز بعقولنا التي كان طريقها المهم السمع والبصر، ولكن هل يكفى العقل وحده لإدراك الخير والشر؟ لا.. ولهذا قال: إنا هديناه السبيل العام، أى: دللناه وبينا له طريق الخير وطريق الشر بواسطة الشرائع والرسل بعد أن منحناه العقل والنظر.
فالله- سبحانه- خلق الإنسان، وفيه نوازع الخير والشر، والاتجاهات المختلفة المتباينة ثم رزقه عقلا وفكرا، وأرشده بعد ذلك إلى سبيل الخير والشر بواسطة الكتب والرسل.. إنا هديناه السبل حالة كون الإنسان إما شاكرا وإما كفورا، فهو بعد ذلك إما شاكرا لربه نعمه سالكا سبل الخير مستحقّا دار الكرامة، وإما كفورا لنعم ربه لم يقم بحقها فكفر وكذب وعمل سيئا، فاستحق دار الإهانة، وهذا ما أعد لكل من الفريقين فريق الشاكرين وفريق الكافرين. إنا هيأنا للكافرين في جهنم سلاسل توضع في أرجلهم وأغلالا في أيديهم وأعناقهم: ونارا مستعرة يصلونها وبئس القرار قرارهم.
(١) هذا المعنى على أن (هل) استفهامية، وهي تفيد التقرير، وبعضهم يقول: إنها بمعنى (قد) وتفيد التقرير، والمآل واحد على المعنيين.
793
الأبرار: أعمالهم وجزاؤهم [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٥ الى ٢٢]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤)
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
794
المفردات:
الْأَبْرارَ: جمع بر. وهو من جمع بين الصدق والتقوى والإخلاص.
كَأْسٍ الكأس: تطلق على إناء الخمر وعلى الخمر نفسها. مِزاجُها: ما تمزج به. كافُوراً: طيب معروف له رائحة جميلة. يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً فجر الماء وفجره: إذا أخرجه من الأرض وشق طريقا يجرى فيه، والمراد أنها تحت أمرهم.
بِالنَّذْرِ النذر: هو ما التزمته منه قربة لله، والوفاء به إنفاذه حسب ما التزمته.
مُسْتَطِيراً: منتشرا فاشيا في كل جهة. مِسْكِيناً: هو من أسكنه فقره وحاجته أو ذله حتى كان قليل الحركة. وَيَتِيماً اليتم: التفرد، وهو هنا من فقد أباه حتى أصبح وحيدا بلا عائل. وَأَسِيراً: من أسر في حرب إسلامية مع الكفار. عَبُوساً: شديد الهول عظيم الخطر. قَمْطَرِيراً: شديدا مظلما.
وَلَقَّاهُمْ: ألقى عليهم وأعطاهم. نَضْرَةً وَسُرُوراً: حسنا وفرحا.
مُتَّكِئِينَ الاتكاء: الجلوس بتمكن وراحة. وغالبا يكون على شق واحد مع الاعتماد على وسادة. الْأَرائِكِ: جمع أريكة وهي السرير عليه الأستار والكلة- الناموسية- زَمْهَرِيراً: بردا قارسا. وَذُلِّلَتْ: سهلت حتى صارت في متناول الأيدى. قُطُوفُها: جمع قطف وهو العنقود ساعة يقطف. بِآنِيَةٍ:
هي صحاف الطعام. وَأَكْوابٍ: جمع كوب: آنية الشراب، والكوب قدح مستدير الرأس لا عروة فيه، ولا خرطوم، وهو ما نسميه الآن- كوبة-وارِيرَ
: جمع قارورة وهي الوعاء الزجاجي المعروف. زَنْجَبِيلًا: نبات له طعم حريف ورائحة جميلة. سَلْسَبِيلًا: الشراب السهل المرور في الحلق لعذوبته، واسم عين في الجنة. سُندُسٍ: من الثياب المصنوعة من الحرير. وَإِسْتَبْرَقٌ:
نسيج من حرير سميك. وَحُلُّوا ألبسوا حلية. شَراباً طَهُوراً: نقيّا من الشوائب.
المعنى:
تلك سنة القرآن يتبع الترهيب بالترغيب، ويتكلم على الكفار ونهايتهم ثم على الأبرار من المؤمنين وخاتمتهم، ليظهر الفرق جليا فيكون ذلك أدعى إلى الإيمان وعدم التكذيب.
795
إن الأبرار لفي نعيم، يشربون شرابا ممزوجا بالكافور، هذا الشراب مستمد من عين جارية لا ينفد ماؤها، أعنى عينا يشربها عباد الله، يجرونها حيث شاءوا فهي طوع إرادتهم.
وكأن سائلا سأل: بماذا استحقوا تلك الكرامة، وهذا النعيم؟ والجواب: إنهم يوفون بالنذر، ويخافون يوم الحساب فإن شره مستطير، وهم يتمتعون بخلق كريم فاضل، والوفاء بالنذر الشرعي الذي هو قربة إلى الله كنذر صيام أو صلاة أو صدقة دليل على قوة الإيمان ومضاء العزيمة في الخير، وإذا وفي الإنسان بالنذر لأنه التزام، فالوفاء بالواجب المكلف به شرعا أحرى وأهم له، بل هو من باب أولى، تلك هي الخصلة الأولى للأبرار. والخصلة الثانية: خوفهم من الحساب، فهذا الخوف يدعوهم إلى عمل الصالح من الأعمال، وترك الفحش من السيئات، وهذا اليوم جدير بالخوف من العقلاء لأن فيه شرا مستطيرا منتشرا في كل جهة.
والخصلة الثالثة: تمسكهم بالخلق الفاضل، وتحليهم بكرم الفعال كإطعام الطعام للمحتاجين، وبالتجربة كان الإطعام والبذل لله دليلا على صدق الإيمان، وقوة اليقين هؤلاء يساعدون المحتاج، ويمدون إليه يد المعونة وخاصة الإطعام، والمحتاج مسكين قانع أو يتيم محروم أو أسير ذليل، هم يطعمون الطعام مع حبه وشدة الحاجة إليه.
وقد روى عن علىّ- كرم الله وجهه- وزوجه فاطمة- رضى الله عنها- أنهما نذرا لله نذرا إن شفى الحسن والحسين سبطا رسول الله فسيصومان ثلاثة أيام، فشفاهما الله فصاما ولم يكن عند هما إلا ما يفطرهما فقط، وعند المغرب سألهما مسكين طعاما، فأعطياه الطعام مع الحاجة إليه وباتا على الطوى: وفي اليوم الثاني سألهما يتيم فأعطياه مع شدة الحاجة، وفي اليوم الثالث سألهما أسير فأعطياه وقد صاما ثلاثة أيام متوالية بلا طعام.. عند ذلك نزل جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآيات ثم قال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك.
هذا هو الإيمان السليم من كل شائبة، يطعمون الطعام على حبه قائلين بلسان الحال لا بلسان المقال، قالوا: إنا نخاف من ربنا عذاب يوم تعبس فيه الوجوه من كثرة ما تلاقى: عبوسا لشدة هوله وعظيم خطره على العباد، يوما عبوسا قمطريرا، أى:
شديدا مظلما.
796
كافأهم الله على ذلك بأن وقاهم شر ذلك اليوم وألقى عليهم بدل العبوس والظلمة والشدة والرهق حسنا وبهجة وبهاء. وسرورا، أعطاهم جنة تجرى من تحتها الأنهار، أكلها دائم، وظلها كذلك، وتلك عقبى المتقين، وأعطاهم جنة وكساهم حريرا، وأجلسهم على الأرائك متكئين جلسة المتمكن الهادئ فارغ البال، وهم في تلك الجنة، لا يرون شمسا محرقة، ولا يحسون بردا شديدا، بل هم في جو هادئ حالم لا يشعرون بما يكدرهم.
وهذه الجنة قد دنت عليهم ظلالها الوارفة، وكانت ثمارها سهلة التناول، يتناولها الشخص بلا تعب ولا مشقة، يا سبحان الله!! وهم فيها مكرمون، لهم خدم وحشم، ويطوف عليهم غلمان لهم بآنية من فضة فيها طعامهم، ويطاف عليهم بأكواب من فضة، فيها شرابهم، هذه الأكواب فيها صفاء الزجاج وبياض الفضة ونضرتها، وهذه الأوانى قد قدرت لهم تقديرا تامّا فليست صغيرة لا تفي بما يطلبون، ولا كبيرة تزيد على ما يحتاجون.
وهم في الجنة يسقون فيها شرابا تارة يمزج بالكافور كما مضى، وطورا يمزج بالزنجبيل، وهذا الشراب مستمد من عين لا تنقطع تسمى سلسبيلا لأنها سهلة لينة هينة، ولهم خدم يطوفون عليهم، هؤلاء الولدان مخلدون في نضرة الشباب وروعة الحسن والجمال إذا رأيتهم مقبلين ومدبرين حسبتهم لؤلؤا منثورا في الصفاء والنظافة والجمال.
وإذا رأيت هناك- ونسأل الله الكريم أن يرينا ذلك- رأيت نعيما لا يقادر قدره، ولا يدرى كنه، ورأيت ملكا كبيرا، يتضاءل أمامه ملك كسرى وقيصر، وما مر من وصف لبعض مشاهد الجنة فوصف تقريبي فقط، ونعيمها الحقيقي لا يعلمه إلا خالقه، وهم في الجنة تعلوهم ثياب من سندس رقيق أخضر، ومن إستبرق سميك كل بما يناسبه، وألبسوا حلية هي أساور من فضة أو ذهب، وسقاهم ربك شرابا لا يدرى وصفه، شراب طهور نقى من كل الشوائب.
إن هذا كان لكم أيها العاملون الشاكرون جزاء على أعمالكم، وكان سعيكم مشكورا.
797
توجيهات للنبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٣ الى ٣١]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
المفردات:
آثِماً: كثير الإثم. كَفُوراً: شديد التعصب للكفر. بُكْرَةً وَأَصِيلًا: أول النهار وآخره. الْعاجِلَةَ: الدنيا. وَيَذَرُونَ: يتركون.
ثَقِيلًا: شديدا. وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ: ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق، وفي القاموس: الأسر: شدة الخلق والخلق، والمراد: أحكمنا خلقهم.
تَذْكِرَةٌ: عظة وعبرة.
لقد جمعت هذه السورة بين تذكير الإنسان بخلقه ونشأته ثم تكليفه بالشرائع، ووعظه ببيان أحوال المكذبين يوم القيامة والمؤمنين، ومع هذا فقد ظل المشركون على
798
ما هم عليه، فكان من الخير أن تختم السورة بتوجيهات شديدة للنبي صلّى الله عليه وسلّم تنفعه في هذا الوضع.
المعنى:
إنا نحن نزلنا عليك القرآن يا محمد: نزلناه تنزيلا، فهذا القرآن حق لا شك فيه ولا مراء، وليس عليك إلا اتباعه، وعلينا وحدنا نصرة المؤمنين وخذلان الكافرين، فالأمر كله لله الذي أنزل القرآن كتابا محكما لا يأتيه الباطل أبدا، وإذا كان الأمر كذلك فاصبر لحكم ربك فإنه هو الحكم العدل، سيقضي بينك وبينهم بالقول الفصل، وما عليك شيء سوى الصبر، وإياك أن تطيع منهم آثما كثير الذنوب كعتبة بن ربيعة الذي كان يعرض على النبي أن يترك دينه نظير تزويجه بنتا جميلة من بناته، ولا تطع منهم كفورا قوى الشكيمة في الكفر شديد التعصب للجاهلية كأبى جهل والوليد بن المغيرة، الذي
يروى عنه أنه كان يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع عن هذا الأمر وسأعطيك مالا حتى ترضى، ولهذا قال له ربه: اصبر حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا، ولا تطع منهم آثما أو كفورا.
ولهذا لا بد لمقابلة هذه الشدائد من التذرع بسلاح الإيمان القوى: ألا وهو الذكر في الصباح والمساء والغدو والرواح فإنه الحصن الحصين، والسجود لله في الليل وتسبيحه في وقت طويل منه.
وأما هؤلاء الكفار فدعهم لخالقهم فهو أعلم بهم وأدرى، إنهم يحبون العاجلة ويجرون وراء الدنيا وزينتها الفانية، ويتركون وراءهم يوما شديد الهول، يوما تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، فنحن خلقناهم، وأحكمنا خلقهم وتصويرهم. وإذا شئنا بدلنا بهم أمثالهم تبديلا، فربك على كل شيء قدير، وهذا تهديد لهم كبير.
إن هذه السورة وأمثالها- يا محمد- تذكرة وعظة فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيل الخير الموصلة للخير في الآخرة. ومن شاء لم يتعظ واتخذ طريق الضلال والإثم والفسوق والعصيان إلى ربه؟ وهذا أسلوب تطمين وتهدئة لخاطر النبي الكريم.
799
فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، إذ السبل مفتحة أمام العبد وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «١» ولكن اعلموا أن الأمر مع هذا لله، وما تشاءون إلا وقت أن يشاء الله، فللعبد مشيئة جزئية هي مناط الثواب والعقاب، ولله المشيئة الإلهية.
إن الله كان عليما بخلقه حكيما في كل أفعاله.
ثم ختمت السورة ببيان عاقبة الفريقين: أما أحدهما فالله يدخله في رحمته وجنته ورضوانه، وأما الآخر فهم الظالمون وقد أعد الله لهم عذابا أليما.
(١) - سورة البلد آية ١٠.
800
Icon