تفسير سورة الإنسان

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الإِنْسَانِ
(مَكِّيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (١)
المعنى ألم يأت عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، - وقد كان شيئاً إلَّا أَنَّهُ كَانَ
تُرَاباً وَطِيناً إلى أن نفخ فيه الروح فلم يكن قبل نفخ الروح فيه شيئاً مَذْكُوراً، ويجوز أن يكون يعنى به جميع الناس، ويكون المعنى أنهم كانوا نُطَفاً ثم عَلَقاً
ثم مُضَغاً إلى أن صاروا شيئاً مَذْكُوراً.
ومعنى (هَلْ أتى) قد أتى على الإنسان، أي ألم يأت على الِإنْسَانِ حين
من الدهر (١).
* * *
وقوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢)
(أَمْشَاجٍ) أخلاط مَنَيٍّ ودم، ثم ينقل مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ.
وَوَاحِدُ الأمشاج [مَشِيجٌ]، ومعنى نبتليه نختبره يدل عليه: (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً).
أي جعلناه كذلك لنختبره.
* * *
قوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣)
معناه هديناه الطريق إما لِشَقوةٍ وإما لِسَعَادَةٍ.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿هَلْ أتى﴾: في «هل» هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ، أي: هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه: أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا، فإنه يكونُ الجوابُ: أتى عليه ذلك، وهو بالحالِ المذكورةِ، كذا قاله الشيخ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً. وقال مكي في تقرير كونها على بابِها من الاستفهام. «والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه. فيقال له: مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه؟ وهو معنى قولِه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٦٢]، أي: فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً بعد أن لم يكُنْ قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه وعَدَمِه» انتهى. فقد جَعَلها لاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ وما أشبهه. والثاني: أنها بمعنى «قد» قال الزمخشري: «هل بمعنى» قد «في الاستفهام خاصة. والأصل: أهل بدليلِ قولِه:
٤٤٣٠ سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا... أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ
فالمعنى: أقد أتى، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً، أي: أتى على الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً، أي: كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور»
انتهى. فقولُه: «على التقريرِ» يعني المفهومَ من الاستفهامِ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ «هل». وقوله: «والتقريب» يعني المفهومَ مِنْ «قد» التي وقع مَوْقِعَها «هل». ومعنى قولِه «في الاستفهام خاصةً» أنَّ «هل» لا تكونُ بمعنى «قد» إلاَّ ومعها استفهامٌ/ لفظاً كالبيتِ المتقدِّم، أو تقديراً كالآية الكريمةِ. فلو قلتَ: «هل جاء زيدٌ» تعني: قد جاء، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى «قد» من غيرِ هذا القيدِ. وبعضُهم لا يُجيزه ألبتَّةََ، ويَتَأّوَّل البيتَ: على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ:
٤٣٣١ فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به..........................
فالباءُ بمعنى «عن»، وهي مؤكِّدةٌ لها، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه:
٤٤٣٢ فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي... ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ
فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى. ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى «قد»، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر: وهو أَنْ يقولَ: في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ «هل» على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى «قد» لأنَّ «قد» مختصَّةٌ بالأفعالِ. وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ «قد» لا تباشِرُ الأسماءَ.
قوله: ﴿لَمْ يَكُن﴾ في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من «الإِنسان»، أي: هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ. والثاني: أنها في موضعِ رفع نعتاً ل «حينٌ» بعد نعتٍ. وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه: حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (٤)
الأجود في العربية ألا يُصْرَف سَلَاسِلَ، ولكن لما جُعِلَتْ رَأْسَ آيَةٍ
صرفت ليكون آخر الآي على لفظٍ وَاحدٍ (١).
* * *
قوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥)
الأبرار واحدهم بَرٌّ.
(يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا).
يجوز " في اللغة أن يكونَ طَعْمُ الطيب فيها والكَافورِ، وجائز أن يمزج
بالكافور فلا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم فيما يأكلون
ويشربون ضَررٌ ولا نَصَبٌ.
والكأس في اللغة الِإناء إذا كان فيه الشرَابُ.
فإذا لم يكن فيه الشراب لم يسم كأساً.
قال الشاعر:
صَبَنْتِ الكأْسَ عَنَّا أُمَّ عمروٍ وكانَ الكأْسُ مَجْراها اليَمِينا
* * *
وقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (٦)
(عيناً) جائز أن يكون من صفة الكأس.
والأجود أن يكون المعنى من عَيْنٍ.
قوله: (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا).
معناه تجري لهم تلك العين كما يحِبُّون.
* * *
قوله: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (٧)
معناه يبلغ أقصى المبالغ فيه.
* * *
قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿سَلاَسِلَ﴾: قرأ نافعٌ والكسائيُّ وهشام وأبو بكر بالتنوين، والباقون بغيرِ تنوينٍ، ووقَفَ هؤلاءِ وحمزةُ وقنبلٌ عليه بالألفِ بلا خلافٍ. وابنُ ذكوانَ والبزيُّ وحفصٌ بالألفِ وبدونِها، فعَنْ ثلاثتِهم الخلافُ، والباقون وقَفوا بدون ألفٍ بلا خلافٍ. فقد تَحَصَّل لك من هذا أن القُرَّاءَ على [أربع] مراتبَ: منهم مَنْ يُنَوِّنُ وصْلاً، ويقفُ بالألفِ وَقْفاً بلا خلافٍ وهم نافعٌ والكسائيُّ وهشامٌ وأبو بكر، ومنهم مِنْ لا يُنَوِّنُ ولا يأتي بالألفِ وقفاً بلا خلافٍ، وهما حمزةُ وقنبلٌ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقف بالألفِ بلا خلافٍ، وهو أبو عمروٍ وحدَه، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقفُ بالألف تارةٍ وبدونِها أخرى، وهم ابنُ ذكوانَ وحفصٌ والبزيُّ، فهذا نهايةُ الضبطِ في ذلك.
فأمَّا التنوينُ في «سلاسل» فذكَرُوا له أوجهاً منها: أنه قَصَد بذلك التناسُبَ؛ لأنَّ ما قبلَه وما بعده منونٌ منصوبٌ. ومنها: أن الكسائيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ الكوفةِ حَكَوا عن بعض العربِ أنهم يَصْرِفُون جميعَ ما لا ينصَرِفُ، إلاَّ أفعلَ منك. قال الأخفش: «سَمِعْنا من العربِ مَنْ يَصْرِفُ كلَّ ما لا يَنْصَرِف؛ لأنَّ الأصل في الأسماء الصرفُ، وتُرِك الصرفُ لعارضٍ فيها، وأنَّ الجمعَ قد جُمِع وإنْ كان قليلاً. قالوا: صواحِب وصواحبات. وفي الحديث:» إنكن لصَواحِبات يوسف «وقال الشعر:
٤٤٣٩ قد جَرَتِ الطيرُ أيامِنينا................................
فجمع»
أيامِن «جَمْعَ تصحيحِ المذكر. وأنشدوا:
٤٤٤٠ وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ... خُضُعَ الرِّقابِ نواكِسي الأبصارِ
بكسرِ السينِ مِنْ نواكِس، وبعدَها ياءٌ تَظهرُ خطاً لا لفظاً لذهابِها لالتقاءِ الساكنين، والأصلُ:»
نواكِسِين «فحُذِفَتِ النونُ للإِضافةِ، والياءُ لالتقاءِ الساكَنيْن. وهذا على رواية كسرِ السينِ، والأشهرُ فيها نصبُ السينِ فلمَّا جُمِع شابَهَ المفرداتِ فانصَرَفَ. ومنها أنه مرسومٌ في إمامِ الحجازِ والكوفةِ بالألفِ، رواه أبو عبيدٍ، ورواه قالون عن نافعٍ. وروى بعضُهم ذلك عن مصاحفِ البصرةِ أيضاً.
وقال الزمخِشريُّ:»
وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ هذه النونُ بدلاً من حرفِ الإِطلاقِ ويَجْري الوصل مَجْرى الوقفِ. والثاني: أَنْ يكونَ صاحبُ هذه القراءةِ مِمَّنْ ضَرِيَ بروايةِ الشِّعْر، ومَرَنَ لسانُه على صَرْفِ ما لا ينصرف «. قلت: وفي هذه العبارةِ فَظاظةٌ وغِلْظة، لا سيما على مَشْيَخَةِ الإِسلام وأئمةِ العلماءِ الأعلامِ.
ووَقَفَ هؤلاء بالألفِ ظاهراً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْه/ فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموع. وقولهم: قد جُمِع، نحو: صَواحبات وأيامِنين لا يَقْدَحُ؛ لأنَّ المَحْذورَ جمعُ التكسيرِ، وهذا جمعُ تصحيحٍ، وعَدَمُ وقوفِهم بالألفِ واضحٌ أيضاً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْ ووقفَ بالألفِ فإتْباعاً للرَّسمِ الكريمِ كما تقدَّمَ، وأيضاً فإنَّ الرَّوْمَ في المفتوحِ لا يُجَوِّزُه القُرَّاءُ، والقارىءُ قد يُبَيِّنُ الحركةَ في وَقْفِه فأَتَوْا بالألفِ لَتَتَبيَّنَ بها الفتحةُ. ورُوِيَ عن بعضٍ أنه يقول:»
رَأَيْتُ عُمَرا «بالألف يعني عُمَرَ بن الخطاب. والسَّلاسِلُ: جمع سِلْسلة، وقد تقدَّم الكلامُ فيها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
هذه الهاء تعود على الطعام، المعنى يطعمون الطعام أشد ما تكون
حاجتهم إليه للمسكين، وَوَصَفُهُم الله بالأثرة عَلَى أنْفُسِهِم.
(وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا).
الأسير قيل كان في ذلك الوقت من الكُفَّار، وقَدْ مُدِحَ من يطعم الأسير
وهو كافرٌ، فكيف بأسَارَى المسلمين.
وهذا يدل عَلَى أَنَ في إطعام أهل الحبوس ثواباً جزيلا، وأَهْل الحبوس أُسَرَاء.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (٩)
المعنى يقولون إنما نطعمكم لوجه اللَّه، أي لطلب ثواب اللَّه - عزَّ وجلَّ -
وجائر أن يكونوا يطعمون ولا ينطقونَ هذا القول ولكن معناهم في أطعَامِهمِ
هذا، فَتُرْجِمَ مَا في قُلُوبِهِم، وكذلك:
* * *
(إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (١٠)
العبوس الذي يُعَبِّسُ الوُجُوهَ، وهذا مثل قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ).
وقَمْطَرِيراً، يقال يوم قمطرير ويؤْم قُماطر إذا كان شَديداً غليظاً، وجاء في
التفسير أن قمطريرا معناه تَعْبسُ فَيجمعُ مَا بينَ العينين وهذا سائغ في اللغة.
يقال اقمَطَرتْ النَّاقَةُ إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وَرمَتْ بأنفها.
* * *
وقوله (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (١٣)
واحدتها أريكة، وجاء في التفسير أَنَهَا من الحِجَالُ فيها الفرش وفيها
الأسِرَّةُ.
وفي اللغة أن كل متكأ عليه فَهُوَ أريكَة.
ونصب (مُتَّكِئِينَ) على الحال
المعنى وجزاهم جنَّة في حَالِ اتكائهم فيها.
وكذلك: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤)
وجائز أن يكون دانية نعتاً للجنة.
المعنى وجزاهم جنة دانية عَليْهِمْ ظِلَالُهَا (١)
* * *
(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَدَانِيَةً﴾: العامة على نصبِها وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها عطفُ على محلِّ «لا يَرَوْن». الثاني: أنها معطوفة على «مُتَّكئين»، فيكونُ فيها ما فيها. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ودانيةً عليهم ظلالُها علامَ عُطِف؟ قلت: على الجملةِ التي قبلها، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ، وهذه حالٌ مثلُها عنهم، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في» عليهم «إلاَّ أنَّها اسمٌ مفردٌ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ، تقديره: غيرَ رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية. ودخلت الواوُ للدَّلالة على أن الأمرَيْن مجتمعان لهم. كأنَّه قيل: وجَزاهم/ جنةً جامِعِيْنَ فيها: بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم. الثالث: أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي: وجنةً دانِيَةً، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها صفةٌ ل» جنةٌ «الملفوظِ بها، قاله الزجَّاج.
وقرأ أبو حيوةَ»
ودانِيَةٌ «بالرفع. وفيها وجهان، أظهرهما: أَنْ يكونَ» ظلالُها «مبتدأ و» دانيةٌ «خبرٌ مقدمٌ. والجملةُ في موضعِ الحال. قال الزمخشري:» والمعنى: لا يَرَوْنَ فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً، والحالُ أنَّ ظلالَها دانِيَةٌ عليهم «. والثاني: أَنْ ترتفعَ» دانيةٌ «بالابتداء، و» ظلالُها «فاعلٌ به، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ الفاعلِ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو:» قائمٌ الزيدون «، فإنَّ» دانية «لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّا ذكره النَّحْويُّون، ومع ذلك فقد رُفِعَتْ» ظلالُها «وهذا لا حُجَّة له فيه؛ لجوازِ أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدَّماً كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء:»
وحُكِيَ بالجَرِّ أي: في جنَّةٍ دانية. وهو ضعيفٌ؛ لأنه عُطِفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ «. قلت: يعني أنَّه قُرِىء شاذاً» ودانِيَةٍ «بالجَرِّ على أنها صفةٌ لمحذوفٍ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قولِه:» لا يَرَوْنَ فيها «أي: ولا في جنةٍ دانيةٍ. وهو رَأْيُ الكوفيين: حيث يُجَوِّزون العطفَ على الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ؛ ولذلك ضَعَّفَه، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة.
وأمَّا رَفْعُ»
ظلالُها «فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و» عليهم «خبرٌ مقدمٌ، ولا يرتفع ب» دانية «؛ لأنَّ» دنا «يتعدَّى ب» إلى «لا ب» على «. والثاني: أنها مرفوعةٌ ب» دانية «على أَنْ تُضَمَّن معنى» مُشْرِفَة «لأنَّ» دنا «و» أَشْرَفَ «يتقاربان، قال معناه أبو البقاء، وهذان الوجهان جاريان في قراءةِ مَنْ نصبَ» دانيةً «أيضاً.
وقرأ الأعمش»
ودانِياً «بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين مرفوعِه ب» عليهم «، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ.
وقرأ أُبَيٌّ «ودانٍ عليهم»
بالتذكير مرفوعاً، وهي شاهدةٌ لمذهبِ الأخفشِ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ. وإنْ لم يَعْتَمِد. ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدَّماً لعدمِ المطابقةِ. وقال مكي: «وقُرِىء» دانِياً «ثم قال:» ويجوزُ «ودانيةٌ» بالرفعِ، ويجوزُ «دانٍ» بالرفعِ والتذكيرِ «ولم يُصَرِّح بأنهما قُرِئا، وقد تقدَّم أنهما مقروءٌ بهما فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على ذلك.
قوله: ﴿وَذُلِّلَتْ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال عطفاً على»
دانِيَةً «فيمَنْ نَصَبَها أي: ومُذَلَّلةً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في» عليهم «سواءً نَصَبْتَ» دانِيَةً «أو رَفَعْتَها، أم جَرَرْتَها. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً. وأمَّا على قراءةِ رفعِ» ودانيةٌ «فتكونُ جملةً فعليةً عُطِفَتْ على اسميَّةٍ. ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما تقدَّمَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
هذا كقوله تعالى: (قطوفها دانية).
وقيل كلما أرادوا أنْ يَقْطَعُوا شيئاً منها ذُلِّلَ لَهُمْ، ودنا منهم قُعُوداً كانوا أَوْ مُضْطَجِعينَ أَوْ قِيَاماً.
* * *
(وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ)
قرئت غير مصروفة، وهذا الاختيار عند النحويين البصريين لأنَّ كل
جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف.
وقد فسرنا ذلك فيما سلف من الكتاب.
ومَن قرأ (قواريراً) فصرف الأول فلأنَّهُ رأسُ آية، وترك صرف الثاني لأنه
ليس بآخر آية، ومن صرف الثاني أتبْعَ اللَّفْظَ اللفظ، لأن العرب رُبَّما قَلَبَتْ إعراب الشيء ليتبع اللفظ اللفظ، فيقولون: هذا حُجْر ضَبِّ خَرِبٍ، وإنما الخرب من نعت الحُجْرِ، فكيف بما يترك صرفه، وجميع ماَ يترك صرفه يجوز صرفه في الشِعْرِ.
* * *
ومعنى (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (١٦)
أصل القوارير التي في الدنيا من الرمل، فأعلم اللَّهُ أن فضل تلك القوارير أن أَصْلَها مِنْ فِضةٍ يرى من خارجها مَا فِي دَاخِلها
ومعنى: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا).
أَي جُعِلَت بكون الِإناء عَلى قَدْرِ ما يحتاجون إليه وُيرِيدُونَهُ.
وَقُرِئَتْ (قُدِّرُوها تَقْدِيراً). أي جعلت لهم على قدر إرادتهم (١).
* * *
(وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (١٧)
أي يجمع طعم الزنجبيل، والعرب تصف الزنجبيل، وهو مستطاب
عندها جدًّا
قال الشاعر:
كأَنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ... باتا بِفيها وأَرْياً مَشُورا
فجائز أن يكون طعم الزنجبيل فيها، وجائز أن يكون مزاجها وَلَا غائِلَةَ لَهُ
كما قلنا في الكافور.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ﴾: اختلف القُراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في ﴿سَلاَسِلَ﴾. واعلَمْ أنَّ القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ، إحداها: تنوينُهما معاً، والوقفُ عليهما: بالألفِ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر. الثانيةُ: مقابِلَةُ هذه، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ، لحمزةَ وحدَه. الثالثة: عَدَمُ تنوينِهما، والوقفُ عليهما بالألف، لهشامٍ وحدَه. الرابعة: تنوينُ الأولِ دونَ الثاني، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها، لابنِ كثيرٍ وحدَه. الخامسةُ: عَدَم تنوينِهما معاً، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها: لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ.
فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع، ذاك على مَفاعلِ، وذا على مَفاعيل. والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد. وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جداً. وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني، فإنَّه/ ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ. ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الأولِ. والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ. وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة.
وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما، ووقف على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ. وفَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ. وحَصَل مِمَّا تقدَّم في «سلاسل» وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ. وتقدَّم الكلامُ على «قوارير» في سورةِ النمل ولله الحمدُ.
وقال الزمخشري: «وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ» يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم، كقولِه:
٤٤٤٨ يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ... وفي انتصابِ «قوارير» وجهان، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان. والثاني: أنها حالٌ، و «كان» تامةٌ أي: كُوِّنَتْ فكانَتْ. قال أبو البقاء: «وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ. وقرأ الأعمش» قواريرُ «بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي: هي قوارير. و» مِنْ فضة «صفةٌ ل» قوارير «.
قوله: ﴿قَدَّرُوهَا﴾ صفةٌ ل»
قواريرَ «. والواو في» قَدَّروها «فيه وجهان، أحدهما: أنَّه للمُطافِ عليهم. ومعنى تقديرهم إياها: أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم، فجاءَتْ كما قَدَّروا.
والثاني: أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم، مِنْ قولِه تعالى: «ويُطافُ»
والمعنى: أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً.
وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ «قُدِّرُوْها» مبنياً للمفعول. وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال: «كأنَّ اللفظ: قُدِّروا عليها. وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال: قُدِّرَتْ عليهم، فهي مثلُ قولِه: ﴿لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة﴾ [القصص: ٧٦] ومثلُ قولِ العرب:» إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء «. وقال الزمخشري:» ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ. تقول: قَدَرْتُ [الشيءَ] وقَدَرَنيه فلان، إذا جعلك قادراً له ومعناه: جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا «. وقال أبو حاتم:» قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم «ففَسَّر بعضُهم قولَ أبي حاتمٍ هذا قال:» فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ: وهو أنه كان: «قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها» ثم حُذِفَ «على» فصار: «قَدْرُ رِيِّهم» على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، ثم حُذِف «قَدْرُ» فصار «رِيُّهم» ما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل «. قلت: وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه.
وقال الشيخ:»
والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة: «قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً» فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه، فصار التقديرُ: قُدِّروا مِنْها، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ «مِنْ» ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار: «قُدِّرُوْها» فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل «. قلت: وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله: (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (١٨)
المعنى يسقون عيناً، وسَلْسَبِيل اسم العَيْن إلا أنه صرف لأنه رأس آية.
وسَلْسَبيل في اللغَةِ صفَة لما كان في غاية السلاسة، فكأنَّ العيق - واللَّه أعلم - سميت بصفتها (١).
* * *
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (١٩)
أي يخدمهم وصفاء مُخَلَّدُونَ، وتأويل (مُخَلَّدُونَ) أي لا يجوز واحد منهم
حَدَّ الوَصَافة أَبداً هو وصيف، والعرب تقول للرجل الذي لا يشيب: هو
مُخَلَّدٌ. ويقال مُخَلَّدُونَ محلَّون عليهم الحلَى، ويقال لجماعة الحلى الخَلَدَة.
* * *
وقوله: (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا).
أي هم في حسن ألوأنهم وصفائها كاللؤلؤ المنثور.
* * *
قوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠)
جاء في التفسير أنه " ملكا كبيراً " أنهم تسلم عليهم الملائكة.
وجَاء أَيضاً تستأذن عليهم الملائكة، وَ (ثَمَّ) يعنَى به الجنة، والعامل في (ثَمَّ) مَعْنَى رَأيْتَ.
المعنى وَإذَا رأيت ببصرك (ثَمَّ).
وقيل المعنى وإذا رأيت مَا (ثَمَّ) رَأَيتَ نَعِيماً
وهذا غَلَطٌ لأن ما موصولة بقوله (ثَمَّ) على هذا التفسير -
ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن " رأيت " يتعدى في المعنَى إلى (ثَمَّ).
* * *
وقوله: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (٢١)
(عَالِيْهُمْ)
بإسكان الياء، وَقرِئَتَ (عَالِيَهُمْ) - بفتح الياء - وقرئت عَلَيْهم - بغير ألف (ثِيَابُ سُنْدُسٍ).
وهذه الثلاثة توافق المصحف وكلها حسن في العربية، وقرئ على وجهين
غير هذه الثلاثة.
قرئت (عَالِيَتُهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ) - بالرفع والتأنيث -
وَ (عَالِيَتَهُمْ) بالنَّصْبِ - وهذا الوجهان جَيِّدان في العربية إلا أَنَهمَا يخالفان
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿سَلْسَبِيلاً﴾: السَّلْسَبيل: ما سَهُل انحدارُه في الحَلْف. قال الزجاج: «هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ السَّلاسَة». وقال الزمخشري: «يقال: شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ وسَلْسبيل، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ خماسيَّةً، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ». قال الشيخ: «فإنْ كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ؛ لأنَّ الباءَ ليسَتْ من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ، وإنْ عَنَى أنها حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال فَيَصِحُّ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه، وكان مختلفاً في المادة». وقال ابن الأعرابي: «لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في القرآنِ». وقال مكي: «هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ، فلذلك صُرِفَ».
ووزن سَلْسَبيل: فَعْلَلِيْل مثلَ «دَرْدَبيس». وقيل: فَعْفَليل؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ. وقرأ طلحةُ «سَلْسَبيلَ» دونَ تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث؛ لأنها اسمٌ لعَيْنٍ بعينها، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءةِ العامَّةِ؟ فيُجاب: بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على جهة الإطلاقِ المجرَّدِ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين ﴿سَلاَسِلَ﴾ [الإِنسان: ٤] ﴿قَوَارِيرَاْ﴾ [الإِنسان: ١٥] وقد تقدَّمَ. وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن: مِنْ فعلِ أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ. والتقدير: سَلْ أنت سَبيلا إليها. قال الزمخشري: «وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ معناه: سَلْ سبيلاً إليها». قال: «وهذا غيرُ مستقيمٍ على ظاهِره، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملةَ قولِ القائلِ» سَلْ سبيلاً «جَعِلَتْ عَلَماً للعين، كما قيل: تأبَّط شَرَّاً وذَرَّى حبَّا. وسُمِّيت بذلك لأنه لا يَشْرَبُ منها إلاَّ مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالِح، وهو مع استقامتِه في العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام أَبْدَعُ. وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين:
٤٤٥١ سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْ... سِ براحٍ كأنَّها سَلْسَبيلُ
قال الشيخ بعد تعجُّبِه مِنْ هذا القول:»
وأَعْجَبُ مِنْ ذلك توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه «. قلت: ولو تأمَّل ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه، ولم يتعجَّبْ منه؛ لأنَّ الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القولِ غاية التشنيع. وقال أبو البقاء:» والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ «. وفي قوله:» كلمة واحدة «تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
261
المصحف، ولا أرى القراءة بهما، وقرَّاء الأمصار ليس يَقْرَأُونَ بِهِمَا (١).
فأما تفسير إسكان (عَالِيهِمْ) بإسكان الياء، فيكون رفعه بالابتداء، ويكون خبره (ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ).
ومن نَصَبَ فقال: (عَالِيَهُمْ) بفتح الياء، فقال بعض النحويين إنه
ينصبه على الظرْفِ، كما تقول فوقَهُم ثياب، وهذا لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفاً لم يَجُزْ إسكان الياء.
ولكن نصبه على الحال من شيئين:
أحدهما من الهاء والميم، المعنى يطوف على الأبرار وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ عَالِياً الأبْرَارَ ثيابُ سندسٍ لأنه وقدْ وصف أحوالهم في الجنَّةِ، فيكون المعنى يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء.
ويجوز أن يكون حالا من الولدان.
المعنى إذا رَأَيْتَهُمْ حسبتهم لُؤلُؤاً منثوراً في حال علو الثياب إياهم.
فالنصب على هذا بين.
فأما " عَلَيْهم ثيابُ سُنْدُسٍ " فرفع كقولك عليك مَالٌ فترفعُهُ بالابتداء، ويكون المعنى وثياب سندس عليهم.
وتفسير نصب عاليتهم ورفعها كتفسير عاليهم.
والسندس الحرير. وقد قرئت خُضرٌ وخُضْرٍ.
فمن قرأ (خضرٌ) فهو أحسن لأنه يكون نعتاً للثياب، فلفظ الثياب لفظ الجميع، وخُضْرٌ لفظها لفظ الجمع.
ومن قرأ خُضْرٍ فهو من نعت السندس، والسُّندُسُ في المعنى راجع إلى
الثياب.
وقرئت (وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو الدِّيبَاج الصَّفِيق الغليظ الخشن.
وقرئت بالرفع والجر.
فمن رفع فهو عطف على ثياب
المعنى عليهم إستبرق.
ومن جر عطف على السندس.
ويكون المعنى: عليهم ثياب من هذين النوعين ثياب سندس وإستبرق. وقرئت (وَإِسْتَبْرَقَ) على وجهين غير هذين الوجهين، كلاهما ضَعِيف
في العربية جدًّا، قرئت (وَإِسْتَبْرَقَ) وَحُلُّوا - بنصب (إِسْتَبْرَقَ) - وهو في موضع الجر ولم يصرف، قرأها ابن مُحْيصِن، وزعموا أنه لم يصرفه لأن (وَإِسْتَبْرَق) اسم أعجمى، وأصله بالفارسية استبره، فلما حول إلى العربية لم يصرف وهذا غلط لأنه نكرة ألا ترى أن الألف واللام يدخلانه، تقول: السندس والإستبرق.
والوجه الثاني، واستبرَق وَحُلُّوا - بطرح الألف - جعل الألف ألف
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿عَالِيَهُمْ﴾: قرأ نافعٌ وحمزةٌ بسكونِ الياءِ وكسرِ الهاء، والباقون بفتح الياءِ وضَمِّ الهاء. لَمَّا سَكَنَتِ الياءُ كُسِرَتْ الهاءُ، ولَمَّا تَحَرَّكَتْ ضُمَّت على ما تَقَرَّرَ في هاءِ الكنايةِ أولَ هذا الموضوعِ. فإمَّا قراءةُ نافعٍ وحمزةَ ففيها أوجهٌ، أظهرُها: أَنْ تكونَ خبراً مقدَّماً. و «ثيابُ» مبتدأٌ مؤخرٌ، والثاني: أنَّ «عالِيْهم» مبتدأ و «ثيابُ» مرفوعٌ على جهةِ الفاعلية، وإنْ لم يعتمد الوصفُ، وهذا قولُ الأخفشِ.
والثالث: أنَّ «عالِيْهم» منصوبٌ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، قاله أبو البقاء. وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجهٌ، وهي وارِدَة هنا؛ إلاَّ أنَّ تقديرَ الفتحةِ من المنقوصِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو شذوذٍ، وهذه القراءةُ متواترةٌ فلا ينبغي أَنْ يُقالَ به فيها.
وأمَّا قراءةُ مَنْ نَصَبَ ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه ظرفٌ خبراً مقدماً، و «ثيابُ» مبتدأٌ مؤخرٌ كأنه قيل: فوقَهم ثيابُ. قال أبو البقاء: «لأنَّ عالِيَهم بمعنى فَوْقَهم. وقال ابن عطية:» ويجوز في النصبِ أَنْ تكونَ على الظرف لأنَّه بمعنى فوقهم «. قال الشيخ:» وعالٍ وعالية اسمُ فاعلٍ، فيحتاج في [إثبات] كونِهما ظرفَيْن إلى أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ كلامِ العرب: عالِيَك أو عاليتُك ثوبُ «. قلت: قد وَرَدَتْ ألفاظٌ مِنْ صيغةِ أسماءِ الفاعِلِيْن ظروفاً نحو: خارجَ الدار وداخلَها وباطنَها وظاهرَها. تقول: جلَسْتُ خارج الدارِ، وكذلك البواقي فكذلك هذا.
الثاني: أنَّه حالٌ من الضمير في ﴿عَلَيْهِمْ﴾ [الإِنسان: ١٩]. الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ ﴿حَسِبْتَهُمْ﴾ [الإِنسان: ١٩]. الرابع: أنه حالٌ مِنْ مضافٍ مقدرٍ، أي: رَأَيْتَ أهلَ نعيم ومُلكٍ كبير عالَيهم. ف»
عاليَهم «حالٌ مِنْ» أهل «المقدرِ. ذكرَ هذه الأجهَ الثلاثةَ الزمخشريُّ فإنه قال:» وعاليَهم بالنصبِ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في «يَطوف عليهم» أو في «حَسِبْتَهم»، أي: يطوفُ عليهم وِلْدانٌ عالياً للمَطوفِ عليهم ثيابٌ، أو حَسِبْتَهم لؤلؤاً عاليَهم ثيابٌ. ويجوزُ أَنْ يراد: [رأيت] أهلَ نعيم «. قال الشيخ:» أمَّأ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في «حَسِبْتَهم» فإنه لا يعني إلاَّ ضمير المفعول، وهو لا يعودُ إلاَّ على «وِلدانٌ» ولذلك قدَّر «عاليَهم» بقوله: «عالياً لهم»، أي: للوِلْدان. وهذا لا يَصْلُحُ؛ لأنَّ الضمائر الآتية بعد ذلك تَدُلُّ على أنها للمَطوفِ عليهم مِنْ قوله: «وحُلُّوا» و «سَقاهم» و ﴿إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً﴾ وفَكُّ الضمائر وَجَعْلُ هذا لذا، وهذا لذا، مع عدمِ الاحتياجِ والاضطرارِ إلى ذلك، لا يجوزُ. وأمَّا جَعْلُه حالاً مِنْ محذوفٍ وتقديرُه: أهلَ نعيم فلا حاجةَ إلى ادِّعاء الحَذْفِ مع صحةِ الكلامِ وبراعتِه دونَ تقديرِ ذلك المحذوفِ «.
قلت: جَعْلُ أحَدِ الضمائر لشيءٍ والآخرِ لشيءٍ آخرَ لا يمنعُ صحةَ ذلك مع ما يميِّزُ عَوْدَ كلِّ واحدٍ إلى ما يليقُ به، وكذلك تقديرُ المحذوفِ غيرُ ممنوعٍ أيضاً، وإنْ كان الأحسنُ أَنْ تتفقَ الضمائرُ، وأن لا يُقَدَّرَ محذوفٌ، والزمخشريُّ إنما ذَكَرَ ذلك على سبيل التجويزِ، لا على أنَّه أَوْلى أو مساوٍ، فَيُرَدُّ عليه بما ذكره.
الخامس: أنه حالٌ مِنْ مفعول «لَقَّاهم»
. السادس: أنه حال مِنْ مفعول «جَزاهُمْ» ذكرهما مكي. وعلى هذه الأوجهِ التي انتصبَ فيها على الحالِ يرتفعُ به «ثيابُ» على الفاعلية، ولا تَضُرُّ إضافتُه إلى معرفةٍ في وقوعِه حالاً؛ لأنَّ الإِضافةَ لفظيةٌ، كقولِه تعالى: ﴿عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] [وقولِه:]
٤٤٥٢ يا رُبَّ غابِطِنا.....................................
ولم يؤنَّثْ «عالياً» لأنَّ مرفوعَه غير حقيقيِّ التأنيثِ. السابع: أَنْ ينتصِبَ «عاليَهم» على الظرفيةِ، ويرتفع «ثيابُ» به على جهة الفاعلية. وهذا ماشٍ على قولِ الأخفش والكوفيين حيث يُعملون الظرفَ وعديلَه وإنْ لم يَعْتمد، كما تقدَّم ذلك في الوصفِ. وإذا رُفعَ «عاليَهم» بالابتداء و «ثيابُ» على أنه فاعلٌ به كان مفرداً على بابِه لوقوعِه موقعَ الفعلِ، وإذا جُعل خبراً مقدَّماً كان مفرداً مُراداً به الجمعُ، فيكونُ كقولِه تعالى: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ القوم﴾ [الأنعام: ٤٥]، أي: أدبار، قاله مكي.
وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي «عاليتُهم» مؤنثاً بالتاء مرفوعاً. والأعمش وأبان عن عاصم كذلك، إلاَّ أنه منصوبٌ، وقد عَرَفْتَ الرفعَ والنصبَ ممَّا تقدَّم، فلا حاجةَ لإِعادتهما. وقرأَتْ عائشة رضي الله عنها «عَلِيَتْهم» فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة، و «ثيابُ» فاعلٌ به، وهي مقوِّيَةٌ للأوجه المذكورة في رفع «ثياب» بالصفةِ في قراءة الباقين كما تقدَّم تفصيلُه.
وقرأ ابنُ سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة وخلائق «عليهم»، جارَّاً ومجروراً، وإعرابُه كإعرابِ «عاليَهم» ظرفاً في جوازِ كونِه خبراً مقدَّماً، أو حالاً ممَّا تقدَّم، وارتفاعُ «ثيابُ» به على التفصيلِ المذكورِ آنفاً.
وقرأ العامَّةُ/ «ثيابُ سُنْدُسٍ» بإضافةِ الثيابِ لِما بعدها. وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلةَ «ثيابٌ» منونةً «سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ» برفعِ الجميعِ، ف «سندسٌ» نعتٌ ل «ثيابٌ» لأنَّ السُّنْدسَ نوعٌ، و «خُضْرٌ» نعتٌ ل «سندس»؛ إذ السندسُ يكونُ أخضرَ وغيرَ أخضرَ، كما أنَّ الثيابَ يكونُ سُنْدُساً وغيرَه. و «إستبرقٌ» نَسَقٌ على ما قبلَه، أي: وثياب استبرق.
واعلَمْ أنَّ القرَّاءَ السبعةَ في «خُضْر وإستبرق» على أربع مراتبَ، الأولى: رَفْعُهما، لنافعٍ وحفصٍ فقط. الثانية: خَفْضُهما، للأخوَيْن فقط.
الثالثة: رَفْعُ الأولِ وخفضُ الثاني لأبي عمروٍ وابنِ عامرٍ فقط. الرابعةُ عكسُ الثالثةِ، لابنِ كثيرٍ وأبي بكرٍ فقط. فأمَّا القراءةُ الأولى: فإنَّ رَفْعَ «خُضْرٌ» على النعتِ ل ثياب، ورَفْعَ «إستبرقٌ» نَسَقاً على الثياب، ولكن على حَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرقٍ. ومثلُه: «على زيدٍ ثوبُ خَزٍّ وكتَّانٌ» أي: وثوبُ كُتَّانٍ. وأمَّا القراءةُ الثانية فيكونُ جَرُّ «خُضْرٍ» على النعتِ لسُنْدسٍ. ثم اسْتُشْكِل على هذا وَصْفُ المفردِ بالجمعِ فقال مكي: «هو اسمٌ للجمع. وقيل: هو جمعُ سُنْدُسَة» كتَمْر وتَمْرة، واسمُ الجنسِ وَصْفُه بالجمع سائغٌ فصيحٌ. قال تعالى: ﴿وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال﴾ [الرعد: ١٢]. وإذا كانوا قد وَصَفوا المفردَ المُحَلَّى لكونِه مُراداً به الجنسُ بالجمعِ في قولِهم: «أَهْلَكَ الناسَ الدِّينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ»، وفي التنزيل: ﴿أَوِ الطفل الذين﴾ [النور: ٣١] فَلأَنْ يُوْجَدَ ذلك في أسماءِ الجموعِ أو أسماءِ الأجناسِ الفارقِ بينها وبين واحدِها تاءُ التأنيثِ بطريقِ الأَوْلى. وجَرُّ «إستبرق» نَسَقاً على «سندسٍ» لأنَّ المعنى: ثيابٌ مِنْ سُندسٍ وثيابٌ مِنْ إستبرق.
وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فرَفْعُ «خُضْرٌ» نعتاً ل «ثيابٌ» وجَرُّ «إستبرقٍ» نَسَقاً على «سُنْدُسٍ»، أي: ثيابٌ خضرٌ مِنْ سُندسٍ ومِنْ إستبرقٍ، فعلى هذا يكون الإِستبرقُ أيضاً أخضرَ.
وأمَّا القراءةُ الرابعة فجَرُّ «خُضْرٍ» على أنه نعتٌ لسُنْدس، ورَفْعُ «إستبرقٌ» على النَّسَقِ على «ثياب» بحَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرق. وتقدَّم الكلامُ على مادةِ السُّنْدُس والإِستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف.
وقرأ ابنُ مُحيصنٍ «وإستبرقَ» بفتحِ القافِ. ثم اضطرب النَّقْلُ عنه في الهمزة: فبعضُهم يَنْقُل عنه أنه قَطَعها، وبعضهم ينقُلُ عنه أنه وَصَلَها.
فقال الزمخشري: «وقُرِىءَ» وإسْتبرقَ «نصباً في موضعِ الجرِّ على مَنْعِ الصرفِ؛ لأنَّه أعجميٌّ وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه نكرةٌ يَدْخُلُهُ حرفُ التعريف. تقول:» الإِستبرق «إلاَّ أَنْ يَزْعُمَ ابن مُحيصن أنه يُجْعَلُ عَلَماً لهذا الضَّرْبِ من الثيابِ. وقُرِىءَ» واستبرقَ «بوصْل الهمزةِ والفتح، على أنَّه مُسَمَّى باسْتَفْعل من البَريق، ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنَّه مُعَرَّب مشهورٌ تعريبُه، وأنَّ أصلَه اسْتَبْرَه. وقال الشيخ:» ودلَّ قولُه «إلاَّ أَنْ يزعمَ ابنُ محيصن» وقولُه بعدُ: «وقُرىء» واسْتبرق «بوَصْلِ الألفِ والفتح أنَّ قراءةَ ابنِ محيصن هي بقَطْعِ الهمزةِ مع فتحِ القافِ. والمنقولُ عنه في كتبِ القراءاتِ أنَّه قرأ بوَصْل الألفِ وفتح القافِ». قلت: قد سَبَقَ الزمخشريُّ إلى هذا مكيٌّ فقال: «وقد قرأ ابنُ محيصن بغيرِ صَرْفٍ، وهو وهمٌ إنْ جعلَه اسماً لأنه نكرةٌ منصرفةٌ. وقيل: بل جَعَله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ فهو جائزٌ في اللفظِ، بعيدٌ في المعنى.
وقيل: إنَّه في الأصلِ فعلٌ ماضٍ على اسْتَفْعل مِنْ بَرِقَ، فهو عربيٌّ من البريق، لمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ ألفُه؛ لأنه ليس مِنْ أصلِ الأسماءِ أَنْ يدخلَها ألفُ الوصلِ، وإنما دَخَلَتْ في أسماءٍ معتلةٍ مُغَيَّرَةٍ عن أصلِها معدودةٍ لا يُقاسُ عليها «انتهى. فدلَّ قولُه:»
قُطِعَتْ ألفُه «/ إلى آخرِه أنه قرأ بقطعِ الهمزةِ وفتحِ القافِ. ودلَّ قولُه أولاً:» وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ «أنه قرأ بوَصْلِ الألفِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أ
262
وصل، وجعله مُسمًّى بالفعل من البريق، وهذا خطأ لأن الإستبرق معروف
معلوم أنه اسم نُقِل من العجمية إلى العربية كما سمي الديباج وهو منقول من
الفارسية.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)
جاء في التفسير أنهم إذا شربوه ضمِرَت بُطُونُهم وَرَشَحَتْ جُلُودَهم عرقاً
كرائحة المسك، وقيل إنه طهور ليس برجس كخمر الدنيا.
* * *
قوله: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٢٤)
أو ههنا أوكد من الواو، لأن الواو إذَا قُلتَ: لا تطع زيداً وعَمراً فأطاع
أحدهما كان غير عاص، لأنه أمره ألا يطيع الاثنين.
فإذا قالَ (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)
" أو " قد دلت على أنَّ كل واحد منهما أهل لأن يعصى، وكما أنك إذا
قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو: اتبع الحسن أو ابن سيرين، فقد
قلت: هذان أهل أن يُتبَعَا، وكل واحد منهما أهل وقد فسرنا مثل هذا التفسير في غَيْرِ هذا الحرف في أول سورة البقرةِ في قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى آخر الآية -
وَبَعْدَ ذلك (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) وتأويله مِثْلُهُم لأنك إنْ جَعَلْتَ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، أو مَثلَّتَهُم بالصَّيِّبٍ أوْ بِهِمَا جميعاً فأنت مُصِيبٌ.
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥)
الأصيلُ العَشِى، يقال: قَدْ أَصَلْنَا إذا دخلوا في الأصيل، وهو العشِي.
* * *
قوله: (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (٢٨)
(أَسْرَهُمْ) خلقهم جاء في التفسير أيضاً مَفَاصِلُهُمْ. -
وقوله (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٣٠)
أي لستم تشاءون إلا بمشيئة اللَّه.
* * *
(وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٣١)
نصب (الظالمين) لأن قبله مَنْصُوباً.
المعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذبُ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، ويكون (أَعَدَّ لَهُمْ) تفسيراً لهذَا المضمر.
وقرئت (والظالمون) ولا أرى القراءة بها، من وجهين:
أحدهما خلاف المصحف.
والآخر إن كانت تجوز في العربية على أن يرفع الظالمين بالابتداء.
والذي بعد الظالمين خبر الابتداء، فإن الاختيار عند النحويين
البصريين النصب، يقول النحْوِيُونَ أعطيت زيداً وعَمْراً أَعَدَدْتُ له بُرا.
فيختارون النصب على معنى وَبَرَرْتُ عَمراً وَأَبر عَمراً أعددت له بُرا، فلا
يختارون للقرآن إلا أَجْوَد الوجوه، وهذا مع موافقة المصحف.
Icon