تفسير سورة العلق

نظم الدرر
تفسير سورة سورة العلق من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

لما أمره سبحانه وتعالى في الضحى بالتحديث بنعمته، وذكره بمجامعها في ﴿ألم نشرح﴾ فأنتج ذلك إفراده بما أمره به في ختمها من تخصيصه بالرغبة إليه، فدل في الزيتون على أنه أهل لذلك لتمام قدرته الذي يلزم منه أنه لا قدرة لغيره إلا به، فأنتج ذلك تمام الحكمة فأثمر قطعاً البعث للجزاء فتشوف السامع إلى ما يوجب حسن الجزاء في ذلك اليوم وبأيّ وسيلة يقف بين يدي الملك الأعلى في يوم الجمع الأكبر من خصال الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فأرشد إلى ذلك في هذه السورة، فقال بادئاً بالتعريف بالعلم الأصلي ذاكراً أصل من خلقه سبحانه وتعالى في أحسن تقويم وبعض أطواره الحسنة والقبيحة تعجيباً من تمام قدرته سبحانه وتعالى وتنبيهاً على تعرفها وإنعام النظر فيها، وقدم الفعل العامل في الجار والمجرور هنا لأنه أوقع في النفس لكونها أول ما نزل فكان الأمر بالقراءة أهم: ﴿اقرأ﴾ وحذف مفعوله إشارة إلى انه لا قراءة إلا بما أمره به، وهي الجمع الأعظم، فالمعنى: أوجد القراءة لما لا مقروء غيره، وهو القرآن الجامع لكل خير، وأفصح له بأنه لا يقدر
152
على ذلك إلا مبعونة الله الذي أدبه فأحسن تأديبه، ورباه فأحسن تربيته، فقال ما أرشد المعنى إلى أن تقديره: حال كونك مفتتحاً القراءة ﴿باسم ربك﴾ أي بأن تبسمل، أو مستعيناً بالمحسن إليك لما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى بما خصك به في ﴿ألم نشرح﴾ أو بذكر اسمه، والمراد على هذا بالاسم الصفات العلى، وعبر به لأنه يلزم من حسن الاسم حسن مدلوله، ومن تعظيم الاسم تعظيم المسمى وجميع ما يتصف به وينسب إليه، قالوا: وهذا يدل على أن القراءة لا تكون تامة إلا بالتسمية، ولكونه في سياق الأمر بالطاعة الداعي إليها تذكر النعم لم يذكر الاسم الأعظم الجامع، وذكر صفة الإحسان بالتربية الجامع لما عداه وتأنيساً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكونه أول ما نزل حين حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بنفسه يتعبد بربه في غار حراء، فجاءه جبرائيل عليه الصلاة والسلام بخمس آيات من أول هذه السورة إلى قوله «ما لم يعلم» ولهذا السر ساقه مساق البسملة بعبارة هي أكثر تأنيساً في أول الأمر وأبسط منها، فأشار إلى الاسم الأعظم بما في مجموع الكلام من صفات الكمال، وأشار إلى عموم منة الرحمن بصفة الخلق المشار إلى تعميمها بحذف المفعول، وإلى خصوص صفة الرحيم بالأكرمية التي من شأنها
153
بلوغ النهاية، وذلك لا يكون بدون إفاضة العمل بما يرضي، فيكون سبباً للكرامة الدائمة، وبالتعليم الذي من شأنه أن يهدي إلى الرضوان، وأشار إلى الاستعاذة بالأمر بالقرآن لما أفهمه قوله سبحانه وتعالى:
﴿وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ [الإسراء: ٤٥]- أي من شياطين الإنس والجن- ﴿حجاباً مستوراً﴾ [الإسراء: ٤٥] وقوله تعالى: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ [النحل: ٩٨].
ولما خصه تشريفاً بإضافة هذا الوصف الشريف إليه، وصفه على جهة العموم بالخلق والأمر إعلاماً بأن له التدبير والتأثير، وبدأ بالخلق لأنه محسوس بالعين، فهو أعلق بالفهم، وأقرب إلى التصور، وأدل على الوجود وعظيم القدرة وكمال الحكمة، فكانت البداءة به في هذه السورة التي هي أول ما نزل أنسب الأمور لأن أول الواجبات معرفة الله، وهي بالنظر إلى أفعاله في غاية الوضوح فقال: ﴿الذي خلق *﴾ وحذف مفعوله إشارة إلى أنه له هذا الوصف وهو التقدير والإيجاد على وفق التقدير الآن وفيما يكون، فكل شيء يدخل في الوجود فهو من صنعه ومتردد بين إذنه ومنعه وضره ونفعه.
154
ولما كان الحيوان أكمل المخلوقات، وكان الإنسان أكمل الحيوان وزبدة مخضه، ولباب حقيقته وسر محضه، وأدل على تمام القدرة لكونه جامعاً لجميع ما في الأكوان، فكان خلقه أبدع من خلق غيره، فكان لذلك أدل على كمال الصانع وعلى وجوب إفراده بالعبادة، خصه فقال: ﴿خلق الإنسان﴾ أي هذا الجنس الذي من شأنه الأنس بنفسه وما رأى ما أخلاقه وحسه، وما ألفه من أبناء جنسه.
ولما كانت العرب تأكل الدم، وكان الله تعالى قد حرمه لأنه أصل الإنسان وغيره من الحيوان وهو مركب الحياة، فإذا أكل تطبع آكله بخلق ما هو دمه، قال معرفاً بأنه سبحانه وتعالى بنى هذه الدار على حكمة الأسباب مع قدرته على الإيجاد من غير تطوير في تسبيب: ﴿من علق *﴾ أي خلق هذا النوع من هذا الشيء وهو دم شديد الحمرة جامد غليظ، جمع علقة، وكذا الطين الذي يعلق باليد يسمى علقاً، وهم مقرّون بخلق الآدمي من الأمرين كليهما، فالآية من أدلة إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه على استعمال المشترك في معنييه، ولعله عبر به ليعم الطين فيكون - مع ما فيه من الإشارة إلى بديع الصنعة - إشارة إلى حرمة أكل ما هو أصلنا من الدم والتراب قبل أن يستحيل، فإذا
155
استحال وصف بالحلال لأن الاستحالات لها مدخل في الإحلالات في النكاح وغيره، واحمرار النطفة ليس استحالة لأنها كانت حمراء قبل قصر الشهوة لها، وربما ضعفت الشهوة عن قصرها فنزلت حمراء، فإذا تحول الدم لحماً صار إلى جنس ما يحل، وكذا إذا تحول التراب بمخالطة الماء تمراً أو حباً حل.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين﴾ [التين: ٧ - ٨] وكان معنى ذلك: أيّ شيء حمل عل هذا بعد وضوح الأمر لك وبيانه وقد نزهه سبحانه وتعالى عن التكذيب بالحساب وأعلى قدره عن ذلك، ولكن سبيل مثل هذا إذا ورد كسبيل قوله تعالى:
﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ [الزمر: ٦٥] وبابه، وحكم هذا القبيل واضح في حق من تعدى إليه الخطاب وقصد بالحقيقة به من أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حيث عدم عصمتهم وإمكان تطرق الشكوك والشبهة إليهم، فتقدير الكلام: أيّ شيء يمكن فيه أن يحملكم على التوقف أو التكذيب بأمر الحساب، وقد وضح لكم ما يرفع الريب ويزيل الإشكال، ألم تعلموا أن ربكم أحكم الحاكمين؟ أفيليق به وهو العليم الخبير أن يجعل اختلاف أحوالكم في
156
الشكوك بعد خلقكم في أحسن تقويم؟ أفيحسن أن يفعل ذلك عبثاً؟ وقد قال تعالى: ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً﴾ [ص: ٢٧ - ولكن قراءتنا - وما خلقنا السماء - لا بالجمع] فلما قرر سبحانه العبيد على أنه أحكم الحاكمين مع ما تقدم ذلك من موجب نفي الاسترابة في نوع الحق إذا اعتبر ونظر، ووقعت في الترتيب سورة العلق مشيرة إلى ما به يقع الشفاء، ومنه يعلم الابتداء والانتهاء، وهو كتابه المبين، الذي جعله الله تعالى تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمحسنين، فأمر بقراءته ليتدبروا آياته فقال ﴿اقرأ باسم ربك﴾ مستعيناً به فسوف يتضح سبيلك وينتهج دليلك ﴿تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً﴾ [الفرقان: ١] وأيضاً فإنه تعالى أعلم عباده بخلقه الإنسان في أحسن تقويم ﴿ثم رددناه أسفل سافلين﴾ [التين: ٥] وحصل منه على ما قدم بيانه افتراق الطرفين وتباين القائلين، كل ذلك بسابق حكمته وإرادته ﴿ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها﴾ وقد بين سبحانه لنا أقصى غاية ينالها أكرم خلقه وأجل عباده لديه من الصنف الإنساني، وذلك فيما أوضحت السورتان قبل من حال نبينا المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجليل وعده الكريم له في قوله ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ [الضحى: ٥] وفضل حال ابتداء ﴿ألم نشرح﴾ على تقدم سؤال ﴿رب اشرح﴾ [طه: ٢٥] إلى ما أشارت إليه آي السورتين من خصائصه الجليلة، وذلك أعلى مقام يناله أحد ممن ذكر، فوقع تعقيب - ذلك بسورة
157
تضمنت الإشارة إلى حال من جعل في الظرف الآخر من الجنس الإنساني، وذلك حال من أشير إليه من لدن قوله تعالى: ﴿أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى﴾ إلى قوله: ﴿كلا لا تطعه﴾ ليظهر تفاوت المنزلتين وتباين ما بين الحالتين، وهي العادة المطردة في الكتب، ولم يقع صريح التعريف هنا كما وقع في الظرف الآخرة ليطابق المقصود، ولعل بعض من لم يتفطن يعترض هنا بأن هذه السورة من أول ما أنزل فكيف يستقيم مرادك من ادعاء ترتيبها على ما تأخر عنها نزولاً، فنقول له: وأين غاب اعتراضك في عدة سور مما تقدم بل في معظم ذلك، وإلا فليست سورة البقرة من المدني، ومقتضى تأليفنا هذا بناء ما بعدها من السور على الترتيب الحاصل في مصحف الجماعة إنما هو عليها وفيها بعد من المكي ما لا يحصى، فإنما غاب عنك نسيان ما قدمناه في الخطبة من أن ترتيب السور ما هي عليه راجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام أكان ذلك بتوقيف منه أو باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم على ما قدمناه، فارجع بصرك، وأعد في الخطبة نظرك، والله يوفقنا إلى اعتبار بيناته وتدبر آياته، ويحملنا في ذلك على ما يقربنا إليه بمنه وفضله - انتهى.
ولما أتم سبحانه ما أراد من أمر الخلق وهو الإيجاد بالأسباب
158
بالتدريج، أخذ في التنبيه على عالم الأمر وهو الإبداع من غير أسباب، فقال مكرراً للأمر بالقراءة تنبيهاً على عظم شأنها وتأنيساً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومسكناً لروعه ومعلماً أن من جاءه الأمر من قبله ليس كأربابهم: ﴿اقرأ﴾ ولما كان قد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند هذا الأمر إخباراً بالواقع كما يقول لسان الحال لو لم ينطق بلسان المقال: ما أنا بقارىء، فكان التقدير: فربك الذي رباك فأحسن تربيتك وأدبك فأحسن تأديبك أمرك بالقراءة وهو قادر على جعلك قارئاً، عطف عليه قوله: ﴿وربك﴾ أي يكون التقدير: والحال أن الذي خصك بالإحسان الجم ﴿الأكرم *﴾ أي الذي له الكمال الأعظم مطلقاً من جهة الذات ومن جهة الصفات ومن جهة الأفعال، فلا يلحقه نقص في شيء من الأشياء أصلاً لأن حقيقته البعيد عن اللوم الجامع لمساوىء الأخلاق، فهو الجامع لمعالي الأخلاق، وليس غيره يتصف بذلك، فهو يعطيك ما لا يدخل تحت الحصر، وأشار إلى أن من ذلك أنه يفيض على أمته الأمية من العلم والحظ ما لم يفضه على أمة قبلها على قصر أعمارهم، فقال مشيراً إلى العلم التعليم، مشعراً بوصفه سبحانه بالمنح بالعلم إلى ترتيب الحكم بالأكرمية على هذا الوصف الناقل للإنسان من الحال العقلي السافل إلى هذا الحال
159
العالي الكامل ﴿الذي علّم﴾ أي بعد الحلم عن معاجلتهم بالعذاب والعقاب جوداً منه من غير مانع من خوف عاقبة ولا رجاء منفعة ﴿بالقلم *﴾ أي الكتابة به. ولما نبه بذلك على ما في الكتابة من المنافع التي لا يحيط بها غيره سبحانه وتعالى، لأنها انبنت عليها استقامة أمور الدنيا والدين في الدنيا والآخرة، وهي كافية في الدلالة على دقيق حكمته تعالى ولطيف تدبيره، زاد ذلك عظمة على وجه يعم غيره فقال: ﴿علّم﴾ أي العلم الضروري والنظري ﴿الإنسان﴾ أي الذي من شأنه الأنس بما هو فيه لا ينتقل إلى غيره بل ينساه إن لم يلهمه ربه إياه ﴿ما لم يعلم *﴾ أي بلطفه وحكمته لينتظم به حاله في دينه من الكتاب والسنة ودنياه من المعاملات والصنائع، فيفيض عليه من علمه اللدني الذي لا سبب له ظاهر ما يعرف به ترتيب المقدمات بالحدود والوسطى، فيعلم النتائج، وما يعرف به الحدسيات، وذلك بعد خلق القوى ونصب الدلائل وإنزال الآيات، ولو كان ذلك بالأسباب فقط لتساوى الناس في مدة التعليم وفي أصل المعلوم كما تساووا في مدة الحمل وأصل الإنسانية، وقد ذكر سبحانه مبدأ الإنسان ومنتهاه بنقله من أخس الحالات إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته،
160
قال الملوي: ولو كان شيء من العطاء والنعم أشرف من العلم لذكره عقب صفة الأكرمية - انتهى، وفي ذلك إشارة إلى مزيد كرم العلماء بالتعليم، وفي الآية الإشارة إلى مطالعة عالمي الخلق والأمر، قال الرازي، وفي كل من العالمين خصوص وعموم - انتهى، فالمعنى أنه يعلمك أيها النبي الكريم وإن كنت أمياً لا تعلم الآن شيئاً كما علم بالقلم من لم يكن يعلم، فتكون أنت - بما أشارت إليه صفة الأكرمية على ما أنت فيه من الأمية - أعلم من أهل الأقلام - وأعلى من كل مقام سام.
ولما كان الدم أكثر الأخلاط وأشدها هيجاناً، فإن مرضه لا يشبهه شيء من أمراض بقية الأخلاط، وكان مع ذلك سريع البرء إن أصيب علاجه وعولج بأمر قاهر أقوى منه، وكان العلم قرين الغنى في الأغلب، وكان زلة العالم تفوق زلة غيره، قال معرفاً بعد التعريف بالإلهيات بأمر النفس مبيناً لقسم الإنسان المردود أسفل سافلين مقرراً لحاله، ورادعاً له عن ضلاله: ﴿كلا﴾ أي ارتدع أيها العالم عن الطغيان إن نلت الغنى حقاً ﴿إن الإنسان﴾ أي هذا النوع الذي هو نوعك ومن شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه ﴿ليطغى *﴾ أي من شأنه - إلا من عصمه الله سبحانه - أن يزيد على الحد الذي لا ينبغي له مجاوزته كما يزيد الخلط الدموي، وأكده لما لأكثر الخلق من التكذيب به فإنه لا طاغي يقر بأنه طغى ﴿أن﴾ أي لأجل أن ﴿رآه﴾ أي علم الإنسان نفسه
161
علماً وجدانياً ﴿استغنى *﴾ أي وجد له الغنى، هذا هو الطبع الغالب في الإنسان متى استغنى عن شيء عمي عن مواضع افتقاره، فتغيرت أحواله معه، وتجاوز فيه ما ينبغي له الوقوف عنده «ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» ومن كان مفتقراً إلى شيء كان منطاعاً له كما في حديث آخر أهل النار خروجاً منها يقسم لربه أنه لا يسأل غير ما طلبه، فإذا أعطيته واستغنى به سأل غيره حتى يدخل دار القرار، ولعله نبه بهذا على أن هذه الأمة المحتاجة ستفتح لها خزائن الأرض فيطغيها الغنى كما أطغى من قبلها وإن كانوا هم ينكرون ذلك كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بشرهم بالفتوحات وقال: «إنه يغدى على أحدكم بصفحة ويراح عليه بأخرى ثم قال لهم: أنتم اليوم خير أم يومئذ، فقالوا: بل يومئذ، نتفرغ لعبادة ربنا، فقال: بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن يبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم»
أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كان لا دواء لذلك مثل تذكر الجزاء، قال معرفاً أن
162
الإنسان لا يزال مفتقراً إلى مولاه في حياته ومماته وغناه وفقره، محذراً له سوء حالاته مؤكداً لأجل إنكارهم ذلك: ﴿إن إلى ربك﴾ أي المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك، لا إلى غيره من التراب ونحوه ﴿الرجعى *﴾ أي الرجوع الأعظم الثابت الذي لا محيد عنه، أما في الدنيا فلا محيد عن الإقرار به، فإنه لا يقدر أحد على شيء إلا بتقديره، وأما في الآخرة فبما أثبت في برهانه في سورة التين، فيحاسب الناس بأعمالهم، ويجازي كل أحد بما يستحق من ثواب أو عقاب، ففيه وعيد للطاغي وتحقير - لغنى ينقطع.
ولما أخبر بطغيانه وعجل بذكر دوائه لأن المبادرة بالدواء لئلا يتحكم الداء واجبة، دل على طغيانه مخوفاً من عواقب الرجعى في أسلوب التقرير لأنه أوقع في النفس وأروع للّب لأن أبا جهل قال: «لئن رأيت محمداً يعفر وجهه لأفضخن رأسه بصخرة، فجاء ليفعل ما زعم فنكص على عقبيه ويبست يداه على حجره فسئل عما دهاه، فقال: إن بيني وبينه لهولاً وأجنحة، وفي رواية: لخندقاً من النار، وفي رواية: لفحلاً من الإبل، فما رأيت مثله، ولو دنوت منه لأكلني» وأصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقال: ﴿أرءيت﴾ تقدم
163
في الأنعام أن هذا الفعل إذا لم يكن بصرياً كان بمعنى أخبر، فالمعنى: أخبرني هل علمت بقلبك علماً هو في الجلاء كرؤية بصرك ﴿الذي ينهى *﴾ أي على سبيل التجديد والاستمرار.
ولما كان أفحش ما يكون صد العبد عن خدمة سيده، قال معبراً بالعبودية منكراً للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال العبودية: ﴿عبداً﴾ أي من العبيد ﴿إذا صلّى *﴾ أي خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي وصلته به، وهي أعظم أنواع العبادة لأنها مع كونها أقرب وصلة إلى الحق انقطاع وتجرد بالكلية عن الخلق، فكان نهيه له عن ذلك نهياً عن أداء الحق لأهله حسداً أو بغياً، فكان دالاًّ على أن من طبع أهل كل زمان عداوة أهل الفضل وصدهم عن الخير لئلا يختصوا بالكمال.
164
ولما كان هذا أمراً خارجاً عن الحد في الطغيان، وكان السؤال إنما هو عن رؤية حاله في نهيه العبد عن الصلاة، لا عن رؤية ذاته، فتشوف السامع إلى معرفة ذلك الحال، كرر التقرير بزيادة التعجيب من حاله والتحذير، فقال مكرراً العامل زيادة في التأكيد وبياناً لأن هذا في الحقيقة أول السؤال عن الحال: ﴿أرءيت﴾ أي أخبرني عن حاله ﴿إن كان﴾ أي هذا الناهي، وعبر بأداة الاستعلاء إشارة إلى أنه في غاية الثبات والتمكن فقال: ﴿على الهدى *﴾ أي الكامل
164
في الهداية فكف عن نهي هذا المصلي عن خدمة مولاه الذي هو معترف بسيادته وإن ادعى كذباً أن له شريكاً كما أنه لا ينهى عن السجود للأصنام.
ولما ذكر ما لعله يكون عليه في تكميل نفسه، ذكر ما لعله يعانيه من إنجاء غيره فقال: ﴿أو أمر﴾ أي ذلك الناهي ﴿بالتقوى *﴾ أي التي هي عماد الدين، وهي عمارة الباطن بالنور الناشئة عن الهدى، وعمارة الظاهرة لذلك، المترشحة من عمارة الباطن، الموجب لذلك، فأمر هذا المصلي بملازمة خدمة سيده المجمع على سيادته، ولا شك في توحيده بالربوبية بالإقبال على ما يرضيه من أفعال العبادة، ليكون ذلك وقاية لفاعل من سخطه فيأمن الهلاك، والجواب محذوف تقديره: ألم يكن خيراً له فليتدبر كل أمر من أموره فلا يقدم عليه حتى يعلم بالدليل أنه هدى وتقوى.
ولما كان التقدير حتماً كما هدى إليه السياق ما قدرته من جواب السؤالين، بنى عليه قوله زيادة في التوبيخ والتعجيب والتقريع استفهاماً عن حال لهذا الناهي مناف للحال الأول معيداً الفعل إيضاحاً لذلك: ﴿أرءيت﴾ أي أخبرني أيها السامع ولا تستعجل ﴿إن كذب﴾ أي أوقع هذا الناهي التكذيب بأن المصلي على الهدى بخدمة سيده
165
المتفق على سيادته، فكان بذلك مرتكباً للضلال الذي لا شك في كونه ضلالاً، ولا يدعو إليه إلا الهدى.
ولما كان المكذب قد لا يترك من كذبه، أشار إلى أن حال هذا على غير ذلك فقال: ﴿وتولى *﴾ أي وكلف فطرته الأولى بعد معالجتها الإعراض عن قبول الأمر بالتقوى، وذلك التولي إخراب الباطن بالأخلاق السيئة الناشئة عن التكذيب وإخراب الظاهر بالأعمال القبيحة الناشئة عن التكذيب، والجواب محذوف تقديره: ألم يكن ذلك التولي والتكذيب شراً له لأن التكذيب والتولي من غير دليل شر محض، فكيف إذا كان الدليل قائماً على ضدهما.
ولما عجب من حالته البعيدة عن العقل مع نفسه ومع أبناء جنسه، أنكر عليه معجباً من كونه يعلم أنه ليس بيده شيء، المنتج لأنه مراقب وحاله مضبوط غاية الضبط وينسى ذلك، فقال ذاكراً مفعول «أرءيت» الثاني وهو لا يكون إلا جملة استفهامية: ﴿ألم يعلم﴾ أي يقع له عمل يوماً من الأيام ﴿بأن الله﴾ أي وهو الملك الأعلى ﴿يرى *﴾ أي له صفتا البصر والعلم على الإطلاق، فهو يعلم كل معلوم ويبصر كل مبصر، ومن كان له ذلك كان جديراً بأن يهلك من يراه على الضلال والإضلال وينصر من يطيع أمره على كل من يعاديه، وإنما جاء هذا الاستفهام الإنكاري على هذا الوجه لأنهم يعترفون بكل ما أنكر عليهم
166
فيه ويلزمهم بما يفعلون من عداوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكونوا منكرين له، وذلك هو عين التناقض الذي لا أشنع عندهم منه، هذا ويمكن، وهو أحسن، أن تنزل الآية على الاحتباك فيقال: لما كان السؤال عن حال الناهي لأن الرؤية علميه لا بصرية، فتشوف السامع إلى معرفتها، وكان للناهي حالان: طاعة ومعصية، بدأ بالأولى لشرفها على الأسلوب الماضي في التقرير على سبيل التعجيب فقال: «أرءيت» أي أخبرني «إن كان» الناهي ثابتاً في نهيه هذا متمكناً «على الهدى» أي الكامل «أو» كان قد «أمر» في ذلك الأمر أو في أمر ما من عبادة الأوثان وغيرها «بالتقوى» وحذف جواب السؤال عن هذا الحال لدلالة جواب الحال الثاني عليه، وهو ألم يعلم بأن الله يرى كل ما يصح أن يرى، فينهى عنه إن كان مكروهاً ولا يقر عليه ويحاسب به ليزن هذا الناهي أفعاله بما شرعه سبحانه من الدليل العقلي والسمعي فيعلم أهي مما يرضيه ليقره عليه كما يقر سائر ما يرضيه أو يسخطه فيمنعه منه.
ولما ذكر ما يمكن أن يكون عليه حال الناهي من السداد، ذكر ما يمكن أن يكون عليه من الفساد، فقال مقرراً معجباً معيداً العامل لزيادة التعجيب على النمط الأول: «أرأيت إن كذب» أي هذا الناهي بالحق في وقت النهي - ولما كان لا يلزم من التكذيب التولي
167
قال: «وتولى» أي عن الدين بنهيه هذا، فكان على الضلال والهوى متمكناً في ذلك بحيث إنه لا يصدر عنه فعل إلا فاسداً «ألم يعلم بأن الله يرى» فيحاسب نفسه بما أرشد إليه سبحانه من البراهين فيعلم أن ما هو عليه من الرشد إن كان الله يقره عليه ويمكنه منه أو الغواية إن كان ينهاه عنه ولا يقره عليه، كما فعل بهذا الذي أقسم: ليرضخن رأس هذا المصلي، وأقدم عليه بصخرته وهو عند نفسه في غاية القدرة على ذلك بزعمه فمنعه الله منه ورده عنه فرجع على عقبيه خاسئاً ظاهراً عليه الجبن والرعب وغيرهما مما يتحاماه الرجال، ويأنف منه الضراغمة الأبطال، والاحتباك هنا بطلب «أرءيت» جملة ليس هو من التنازع لأنه يستدعي إضماراً والجمل لا تضمر، إنما هو من باب الحذف لدليل، فحذف الكون على الضلال ثانياً لدلالة الكون على الهدى عليه أولاً، وحذف «ألم يعلم بأن الله يرى» أولاً لدلالة ذكره آخراً عليه.
ولما كان هذا الخبيث معرضاً عن هذا العلم الذي هو معترف به كله، وإنما كان إعراضه لما عنده من الحظوظ والشهوات الموقعة له -
168
بحكم الرد أسفل سافلين - إلى رتبة البهائم، أتى بأعظم أدواث الردع فقال: ﴿كلا﴾ أي ليس عنده علم بشيء من ذلك لسفول رتبته عن رتبة البهائم ولا في يده شيء من الأشياء، فهو لا يقدر على شيء مما رامه من الأذى، فليرتدع عن تعاطي ذلك لأنه لا يضر إلا نفسه.
ولما كان نفي العلم عنه يوهم أنه في عداد الغافلين الذي لا ملامة عليهم، بين أن انتفاء العلم عنه ليس عن غفلة يعذر صاحبها، إنما هو عن تهاون بالخير ورضى بالعمى والتقليد، فهو من قسم الضال الذي فرط في استعمال القوة العلمية المذكور في الفاتحة، فاستأنف الإخبار عنه في جواب من يقول: فما يفعل به؟ معبراً بأداة الشك إقامة له ولغيره في محل الرجاء لانتهائه إبقاء للتكليف ومؤكداً لأنهم منكرون: ﴿لئن لم ينته﴾ أي يفتعل هذا الناهي لهذا العبد المطيع فيقف ويكف عما هو فيه من نهيه وتكذيبه وتوليه.
ولما كان الحال غير محتاج إلى أكثر من التأكد لإيقاع الفعل، عبر بالحقيقة ولم ينقلها إشارة إلى أن هذا الناهي أقل من أن يحتاج فيه إلى فعل شديد، بل أقل نفحة من العذاب تكفي في إهلاكه، وما كان أصل التأكيد إلاّ تطيبباً لقلوب الأولياء وتكذيباً للأعداء فقال:
169
﴿لنسفعاً﴾ أي والله لنأخذن ونقبضن قبضاً وأخذاً بشدة وعنف مع الجر والاجتذاب واللطم والدفع والغيظ أخذ من يعض مأخوذه ويذله ويسود وجهه ويقذره ﴿بالناصية *﴾ أي بالشعر الذي في مقدم رأسه وهو أشرف ما فيه، والعرب لا تأنف من شيء أنفتهم من أخذ الناصية، وإذا انتهكت حرمة الأشرف فما بالك بغيره، واستغنى بتعريف العهد عن الإضافة.
ولما كان من المعلوم أن من صار في القبضة على هذه الهيئة المهينة المزرية فهو هالك، اغتنى به عن أن يقول: ولنسحبنه بها على وجهه إلى النار، ووصفها بما يدل على ذلك فقال مبدلاً لأن البدل وصف بما قربه من المعرفة: ﴿ناصية﴾ أي عظيمة القبح ﴿كاذبة﴾ أي متعمدة للكذب ﴿خاطئة *﴾ فهي صادر عنها الذنب من الكذب وغيره من غير تعمد، فأغلب أحوالها على غير صواب تارة عن عمد وتارة عن غير عمد، وما ذاك إلا لسوء جبلة صاحبها حتى كاد لا يصدر عنه فعل سديد، ووصفها بما هو لصاحبها على الإسناد المجازي مبالغة في تكذيبه في أنه لا يقدر على منع المهتدي أو إذلاله أو شيء من أذاه إلا إن أذن له صاحب الأمر كله فيما يكون سبباً لزيادة رفعته، وفي العدول عن الحقيقة، كأن يقال: ناصية كاذب خاطىء، بالإضافة إلى هذا المجاز،
170
من الجزالة والفخامة والجلالة ما لا يخفى.
ولما كان هذا هو غاية الإهانة، وكان الكفار إنما يقصدون بأعراضهم الشماخة والأنفة والعز عن أن يكونوا أتباعاً أذناباً، وإنما عزهم بقومهم، وأقرب من يعتز به الإنسان أهل ناديه، وهم القوم الذين يجتمعون نهاراً ليحدث بعضهم بعضاً ويستروح بعضهم إلى بعضهم لما عندهم من التصافي لأنهم لا يتركون أشغالهم نهاراً ويجتمعون لذلك إلا عن ذلك، قال تعالى مسبباً عن أخذه على هذا الوجه المزري: ﴿فليدع﴾ أي دعاء استغاثة ﴿ناديه *﴾ أي القوم الذين كانوا يجتمعون معه نهاراً يتحدثون في مكان ينادي فيه بعضهم بعضاً من أنصاره وعشيرته ليخلصوه مما هو فيه، والذي نزلت فيه هو أبو جهل، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً.
ولما كان كأنه قيل: فلو دعا ناديه يكون ماذا؟ قال: ﴿سندع﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿الزبانية *﴾ أي الأعوان الموكلين بالنار ليجروه إليها، وهم في الأصل الشرط، الواحد زبنية كهبرية، من الزبن وهو الدفع أو زبني على النسبة، أصلها زباني والتاء عوض عن الياء، وهم كل من عظم خلقه، واشتد بطشه، وقد اجتمعت المصاحف العثمانية على حذف الواو من هذا الفعل خطأ، ولا موجب لحذفه من العربية لفظاً،
171
وكأن المعنى في ذلك - والله أعلم - أن لا يظن أنهم دعوا لرفعة لهم في ذواتهم يستعان بهم بسببها لأن معنى الواو عند الربانيين العلو والرفعة، إشارة إلى أنهم لا قوة لهم إلا بالقوي العزيز، أو يقال: إن الحذف دال على تشبيه الفعل بالأمر ليدل على أن هذا الدعاء أمر لا بد من إيقاع مضمونه، ومن إجابة المدعوين إلى ما دعوا إليه، وأن ذلك كله يكون على غاية الإحكام، والاتساق بين خطه ومعناه والانتظام، لا سيما مع التأكيد بالسين، الدال على تحتم الاتحاد والتمكين، أو يكون المعنى: إنا ندعوهم بأيسر دعاء وأسهل أمر، فيكون منهم ما لا يطاق ولا يستطاع دفاعه بوجه، فكيف لو أكدنا دعوتهم وقوينا عزمتهم.
ولما كان الذي تقدم نهي الناهي للمصلي والسفع بناصيته إن لم ينته وأمره بدعاء ناديه، وكان الحكم في الأول أنه لا يجيبه إلى ترك الصلاة، وفي الثاني أن الناهي لا ينتهي عن عصيانه بالتهديد وأنه لا يفيده دعاء ناديه، فالكل منفي، حسن كل الحسن الإتيان بأداة الردع فقال: ﴿كلا﴾ أي لا يقدر على دعاء ناديه ولا ينتهي عن أذاه للمطيع بالتهديد فليرتدع عن كل من ذلك.
ولما كان كأنه قيل: فما أفعل؟ قال معرفاً أن من علم أن
172
طبع الزمان وأهله الفساد، وجب عليه الإقبال على شأنه والإعراض عن سائر العباد ﴿لا تطعه﴾ أي في نهيه لك عن الطاعة بالصلاة أو غيرها.
ولما كان نهيه عن الصلاة التي هي عماد الدين، وكانت الصلاة يعبر عنها بالسجود لأنه - مع أنه جزؤها - هو أشرفها، وهو أيضاً يطلق على مطلق العبادة، قال تعالى مشيراً إلى النصر له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأتباعه على كل من يمنعهم عبادته: ﴿واسجد﴾ أي دم على صلاتك وخضوعك بنفسك وجدد ذلك في كل وقت. ولما كان السجود أقرب مقرب للعبد إلى الله قال: ﴿واقترب *﴾ أي اجتهد بسرك في بلوغ درجة القرب إلى ربك والتحبب إليه بكل عبادة لا سيما الصلاة فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وقد شرح هذا المقام كما تقدم في الفاتحة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أعوذ بعفوك من عقوبتك» فإن هذه الجملة أفادت - كما قال الإمام الغزالي في كتاب الشكر - مشاهدة أفعال الله فقط، فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله، فاستعاذ بفعله من فعله، قال: ثم اقترب ففني في مشاهدة الأحوال، وترقى إلى مصادر الأفعال، وهي الصفات، فقال: «أعوذ برضاك من سخطك» وهما صفتان، ثم رأى ذلك نقصاناً في التوحيد
173
فاقترب وترقى من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة الذات فقال «وأعوذ بك منك» فراراً منه إليه من غير رؤية فعل وصفة، ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ومستعيذاً ومثنياً ففني عن مشاهدة نفسه إذا رأى ذلك نقصاناً فاقترب فقال «أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي ثناء عليك» فقوله: «لا أحصي» خبر عن - فناء نفسه وخروجه عن مشاهدتها، وقوله: «أنت كما أثنيت» بيان أنه المثني والمثنى عليه، وأن الكل منه بدأ وإليه يعود، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، فكان أول مقامه نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل، فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذا انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق، ولقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرقى من مرتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية، فكان يستغفر الله من الأولى، ويرى ذلك نقصاً في سلوكه وتقصيراً في مقامه، وإليه الإشارة بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» فكان ذلك لترقيه إلى سبيعن مقاماً بعضها يعد نقصاً لنقص أوائلها وإن كان مجاوزاً أقصى غايات مقامات الخلق، ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى أواخرها، فكان استغفاره لذلك.
174
ولما قالت عائشة رضي الله عنها: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً» معناه: أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات، فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى ﴿ولئن شكرتم لأزيدنكم﴾ [إبراهيم: ٧] انتهى. وهو على ما ترى من النفاسة فمن أكثر من الدعاء في سجوده فقمن أن يستجاب له، والصلاة لا تكون إلا بالقراءة فإذا فعلت ذلك احتجبت عن الأغيار بحجاب منيع، فازددت صفاء وصنت حالك عن الغير - كما يرشد إليه ما في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام «ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه - والله أعلم» فقد رجع آخرها إلى الأول، على أحسن وجه وأجمل وأكمل - والله الهادي.
175
سورة القدر
مقصودها تفصيل الأمر الذي هو أحد قسمي ما ضمنه مقصود " اقرأ " وعلى ذلك دل اسمها لأن الليلة فضلت به، فهو من إطلاق المسبب على السبب، وهو دليل لمن يقول باعتبار تفضيل الأوقات لأجل ما كان فيها، كما قال ذلك اليهودي في اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى) اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة: ٣] وأفرده الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على ذلك وأعلمه أنه صار لنا عيدين: عيدا من جهة كونه يوم عرفة، وعيدا من جهة كونه يوم جمعة) بسم الله (الذي جل أمره وتنزه ذاته) الرحمن (الذي عمت رحمته فبدعت صفاته) الرحيم (الذي خص أهل التوحيد بإتمام النعمة فاختصت بهم جناته.
176
Icon