تفسير سورة العلق

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة العلق من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ١٩.

تفسير سورة «العلق»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)
[قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] : هو أولُ ما نَزَلَ من كِتَابِ اللَّه تعالى، نَزَلَ صَدْرُ [هذهِ الآية] إلى قوله: مَا لَمْ يَعْلَمْ في غارِ حِرَاء حَسْبَ ما ثَبَتَ في «صحيح البخاريِّ» وغيره، ومعنى قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي: اقرأ هذَا القرآنَ باسمِ ربِك، أي: مبتدِئاً باسْمِ ربكَ، وَيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المقروءُ الذي أُمِرَ بقراءتِه هو بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ كأنه قيل له: اقرأْ هذا اللفظَ، والعلقُ: جمع عَلَقَةٍ وهي القِطْعَةُ اليَسِيرَةُ من الدَّمِ، والإنْسَانُ هنا اسمُ جنسٍ، ثم قال تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ على جِهة التأنِيسِ كأنَّه يقول: امْضِ لِما أُمِرْتَ بهِ، وَرَبُّكَ ليسَ كهذهِ الأربابِ بلْ هُو الأكْرَمُ الذي لاَ يَلْحَقُه نقصٌ، ثم عدَّدَ تعالى نِعْمَةَ الكتابةِ بالقلم على الناسِ، وهي من أعظم النعم.
وعَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ قيل: هو آدمُ وقيل: [هو] اسم جنس وهو الأظهر.
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ٦ الى ١٣]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣)
وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى إلَى آخرِ السورةِ نَزَلَتْ في أبي جَهْلٍ، وذلكَ أنَّه طَغَى لِغِنَاهُ وكثرةِ مَنْ يَغْشَى نَادِيه، فناصب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونَهَاهُ عَنِ الصلاةِ في المسجدِ، وقال: لَئِنْ رأيتُ محمداً يسجُدُ عند الكعبةِ لأَطأَنَّ عنقَه، فيروى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ردّ عليه القول وانتهره، وعبارة الداوديّ: فتهدّده النبي صلّى الله عليه وسلّم، فَقَال أبو جهل: أتُهَدِّدُني؟ أما واللَّه إني لأكْثَرُ أهْلِ الوادِي نَادِياً فَنَزَلَتْ الآيةُ، انتهى.
وكَلَّا ردُّ على أبي جهلٍ، ويتَّجِه أَنْ تَكُونَ بمعنى: حقّا، والضمير في رَآهُ للإنسانِ المذكورِ، كأنَّه قال: أن رأَى نفسَه غَنِيًّا وهِي رُؤْيَةٌ قَلْبِيَّةٌ ولذلكَ جازَ أن يعمل فعل
الفاعِل في نفسِه كما تقول: وجَدْتُنِي/ وَظَنَنْتُنِي، ثم حقَّرَ تعالى غِنَى هذا الإنسانِ وحالَه بقولهِ: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي: بالحَشْرِ والبعثِ يومَ القيامةِ، وفي هذا الخبرِ وعيدٌ للطاغينَ من الناسِ، ثم صرَّح بذكْرِ النَّاهِي لمحمّد ع، ولا خِلاَفَ أن الناهِيَ أبو جهلٍ، وأن العبد المصلّي هو محمّد ع.
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١٤ الى ١٩]
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨)
كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)
وقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثَّلاثِ، يَصْلُحُ مَعَ كلِّ وَاحدٍ منها، ت: وفي قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى مَا يُثِير الهِمَمَ الرَاكِدَةَ، وَيُسِيلُ العيونَ الجَامِدَةَ، ويَبْعَثُ على الحياء والمراقبةِ، قال الغزالي:
اعلمْ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ على ضميرِكَ، ومشرفٌ على ظاهِرك وباطنِك، فَتَأَدَّبْ أيها المسكينُ ظَاهِراً وباطِناً بين يديه سبحانه واجتهدْ أن لا يَرَاكَ حيثُ نَهَاكَ وَلاَ يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ، ولاَ تَدَعْ عَنْكَ التفكرَ في قُرْبِ الأجلِ، وحلولِ الموتِ القاطِع للأملِ، وخروجِ الأمْرِ من الاختيَارِ، وحصولِ الحَسْرَةِ والنَّدَامةِ بطُولِ الاغترارِ، انتهى، ثم توعَّده تعالى لَئِنْ لم ينتَهِ لَيُؤْخَذَنَّ بناصيتهِ، فَيُجَرُّ إلى جَهَنَّمَ ذَلِيلاً، تقول العربُ: سَفَعْتُ بِيَدِي ناصية الفَرَسِ، والرَّجُلِ إذا جذبتُها مُذَلَّلَةً، وقال بعض العلماء بالتفسير: معناه لتُحْرَقَنَّ، من قولهم: سَفَعَتْه النارُ، واكْتَفَى بذكرِ الناصيةِ لِدلالتِها على الوَجْهِ والرأْسِ، والناصيةُ مُقَدَّمُ شَعْرِ الرأسِ، ثم أبْدَل النكرةَ من المعرفة في قوله: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ ووصفَها بالكَذِبِ والخَطَإ من حيثُ هي صفاتٌ لصاحِبها.
قوله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهْلَ مَجْلَسِهِ، والنَّادِي والنَّدي: المجلسُ، ومنه دَارُ النَّدْوَةِ، وقال البخاري قال مجاهد: نادِيَه: عشيرتَه «١».
وقوله: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أي: / ملائِكَة العَذابِ، ثم قال- تعالى- لنبيه- عليه السلام-: كَلَّا لاَ تُطِعْهُ أي: لا تَلْتَفِتْ إلى نَهْيِهِ وكلامه واسْجُدْ لربك واقْتَرِبْ إليه بسجودِك، وفي الحديث: «أَقْرَبُ ما يكونُ العبدُ من رَبّه إذا سَجَدَ، فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ في السجودِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُم»، ورَوَى ابنُ وهب عَنْ جماعةٍ من أهل العلم: أنّ قوله: وَاسْجُدْ: خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَأَن قَوْلَه: وَاقْتَرِبْ: خطابٌ لأَبِي جَهْلٍ، أي: إن
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٦٤٩)، (٣٧٦٩٠) عن ابن عبّاس، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٦٢٧)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
609
تَجْتَرِىءُ حتى تَرَى كَيْفَ تَهْلَكُ، ت: والتأويلُ الأول أظهر يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربه وهو ساجِدٌ» «١» وعنْ ربيعة بن كعب الأسلميِّ قال: كنت أبيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فآتيهِ بِوَضُوئِهِ وحَاجَتِه، فقال لي: سَلْ فقلتُ: أسألكَ مُرَافَقَتَكَ في الجنةِ، قالَ أوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَال: فأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» «٢» رواه الجماعة إلا البخاريَّ، ولفظُ الترمذي: «كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ بَابِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَأُعْطِيهِ وَضُوءَهُ، فَأَسْمَعُهُ الْهَوِيَّ مِنَ اللَّيْلِ يقول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه، وأَسْمَعُهُ الْهَوِيَّ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ» «٣»، قال الترمذيُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، وليس لربيعةَ في الكتب الستَّةِ سوى هذا الحديثِ، انتهى من «السلاح»، ورُوِيَ أن أبا جَهْلٍ جاءَ والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي، فَهمَّ بِأَنْ يَصِلَ إلَيْهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ الصلاة، ثمّ كعّ وَوَلَّى نَاكِصاً على عَقِبَيْهِ مُتَّقِياً بِيَدَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: لَقَدْ عَرَضَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقٌ مِنْ نَارٍ، وَهَوْلٌ وَأَجْنِحَةٌ، فيروى: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لأَخَذَتْهُ المَلاَئِكَةُ عِيَاناً» «٤» ت: ولما لم يَنْتَهِ عَدُوُّ اللَّهِ أَخَذَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمْكَنَ مِنْهُ، وذَكَرَ الوائليُّ الحَافِظُ في كتابِ «الإبَانَةِ» له مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بن مغول عن نافِع عن ابن عمر قال: «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ بِجَنَبَاتِ بَدْرٍ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الأَرْضِ في عُنُقِهِ سِلْسِلَةٌ يُمْسِكُ طَرَفهَا أَسْوَدُ، فَقال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اسْقِنِي، فَقَالَ ابن عُمَرَ: لاَ أَدْرِي أَعَرَفَ اسمي، أَوْ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَقَالَ لي الأَسْوَدُ: لاَ تَسْقِهِ فَإنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ اجتذبه، فَدَخَلَ الأرْضَ، قَالَ ابن عمر: فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرْتُه، فقال: «أَوَ قَدْ رَأَيْتَهُ؟
ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وهُوَ عَذَابُهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»
انتهى من «التَّذْكِرَة» للقرطبيِّ، وقد ذَكَرْتُ هذهِ الحكايةَ عَن أبي عمر بن عبد البر بأتَّم مِنْ هَذا عِنْد قوله تعالى:
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً... [فصلت: ٢٧] الآية.
(١) تقدّم تخريجه.
(٢) أخرجه مسلم (٢/ ٣٧٩- ٣٨٠) - الأبي، كتاب «الصلاة» باب: فضل السجود والحث عليه (٢٢٦/ ٤٨٩)، وأبو داود (١/ ٤٢١)، كتاب «الصلاة» باب: وقت قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم من الليل (١٣٢٠)، والترمذي (٥/ ٤٨٠- ٤٨١)، كتاب «الدعوات» باب: منه (٣٤١٦)، والنسائي (٢/ ٢٢٧)، كتاب «الافتتاح» باب:
فضل السجود (١١٣٨)، وابن ماجه (٢/ ١٢٧٦- ١٢٧٧)، كتاب «الدعاء» باب: ما يدعو به إذا تنبه من الليل (٣٨٧٩)، وأحمد (٤/ ٥٩). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(٣) ينظر: الحديث السابق.
(٤) أخرجه مسلم (٤/ ٢١٥٤)، كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب: قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٣٨/ ٢٧٩٧). [.....]
610
Icon