تفسير سورة الإنسان

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الإنسان١ وتسمى هل أتى والأمشاج والدهر
مقصودها ترهيب الإنسان بما دل عليه آخر القيامة من العرض٢ على الملك الديان بتعذيب٣ العاصي ٤في النيران٥ وتنعيم المطيع في الجنان بعد جمع الخلائق[ كلها-٦ ] الإنس والملائكة والجان وغير ذلك من الحيوان، ويكون لهم مواقف طوال وأهوال وزلزال، لكل منها أعظم شأن، وأدل ما فيها على ذلك الإنسان بتأمل آيته وتدبر٧ مبدئه وغايته، وكذا٨ تسميتها بهل أتى وبالدهر وبالأمشاج من غير ميل ولا اعوجاج ﴿ بسم الله ﴾ الملك الذي خلق الخلائق لمعرفة أسمائه الحسنى ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمهم بنعمه الظاهرة فرادى٩ ومثنى ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص منهم من اختاره لوداده١٠ بالنعمة الباطنة والمقام الأسنى.
١ السادسة والسبعون من سور القرآن الكريم، مكية، وعدد آيها ٣١..
٢ زيد في الأصل: الملك الجبار، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها..
٣ من ظ و م، وفي الأصل: من تعذيب..
٤ من ظ و م، وفي الأصل: بالنيران..
٥ من ظ و م، وفي الأصل: بالنيران..
٦ زيد من ظ..
٧ من ظ و م، وفي الأصل: تدبير..
٨ من م، وفي الأصل: لذا، وفي ظ: لذلك..
٩ من ظ و م، وفي الأصل: فردا..
١٠ من ظ و م، وفي الأصل: لوارده..

ولما تقدم في آخر القيامة التهديد على مطلق التكذيب، وأن
120
المرجع إلى الله وحده، والإنكار على من ظن أنه يترك سدى والاستدلال على البعث وتمام القدرة عليه، تلاه أول هذه بالاستفهام الإنكاري على ما يقطع معه بأن لا يترك سدى، فقال مفصلاً ما له سبحانه عليه من نعمة الإيجاد والإعداد والإمداد والإسعاد: ﴿هل أتى﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿على الإنسان﴾ أي هذا النوع الذي شغله عما يراد به ويراد له لعظم مقداره في نفس الأمر الأنس بنفسه والإعجاب بظاهر حسه والنسيان لما بعد حلول رمسه ﴿حين من الدهر﴾ أي مقدار محدود وإن قل من الزمان الممتد الغير المحدود حال كونه ﴿لم يكن﴾ أي في ذلك الحين كوناً راسخاً ﴿شيئاً مذكوراً *﴾ أي ذكراً له اعتبار ظاهر في الملأ الأعلى وغيره حتى أنه يكون متهاوناً به غير منظور إليه ليجوز أن يكون سدى بلا أمر ونهي، ثم يذهب عدماً ليس الأمر كذلك، بل ما أتى عليه شيء من ذلك بعد خلقه إلا وهو فيه شيء مذكور، وذلك أن الدهر هو الزمان، والزمان هو مقدار حركة الفلك - كما نقله الرازي في كتاب اللوامع في سورة «يس» عند قوله تعالى «ولا الليل سابق النهار» فإنه قال: الزمان ابتداؤه من حركات السماء فإن الزمان مقدار حركات الفلك - انتهى وآدم عليه السلام تم الخلق بتمام خلقه في آخر يوم الجمعة أول جمعة
121
كانت، وكانت طينته - قبل ذلك بمدة مخمرة هو فيها بين الروح والجسد، قال ابن مسعود رضي الله عنه: خلق الله آدم عليه السلام من تراب فأقام أربعين سنة ثم من طين أربعين سنة ثم من صلصال أربعين سنة ثم من حمإ مسنون أربعين سنة ثم خلقه بعد ستين ومائة سنة، وقال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة: فحينئذ ما أتى عليه زمان إلا وهو شيء مذكور إما بالتخمير وإما بتمام التصوير، فالاستفهام على بابه وهو إنكاري، وليست «هل» بمعنى «قد» إلا إن قدرت قبلها الهمزة، وكان الاستفهام إنكارياً لينتفي مضمون الكلام، والمراد أنه هو المراد من العالم، فحينئذ ما خلق الزمان إلا لأجله، فهو أشرف الخلائق، وهذا أدل دليل على بعثه للجزاء، فهل يجوز مع ذلك أن يترك سدى فيفنى المظروف الذي هو المقصود بالذات، ويبقى الظرف الذي ما خلق إلا صواناً له، والذي يدل على ذلك من أقوال السلف أنه روي أن رجلاً قرأها عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال: يا ليت ذلك لم يكن.
122
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: قوله تعالى: ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً﴾ [الإنسان: ١] تعريف الإنسان بحاله وابتداء أمره ليعلم أن لا طريق له للكبر واعتقاد السيادة لنفسه، وأن لا يغلطه ما اكتنفه من الألطاف الربانية والاعتناء الإلهي والتكرمة فيعتقد أنه يستوجب ذلك ويستحقه
﴿وما بكم من نعمة فمن الله﴾ [النحل: ٥٣] ولما تقدم في القيامة إخباره تعالى عن حال منكري البعث عناداً واستكباراً وتعامياً عن النظر والاعتبار ﴿أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه﴾ [القيامة: ٣] وقوله بعد ﴿فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى﴾ [القيامة: ٣١ - ٣٣] أي يتبختر عتواً واستكباراً ومرحاً وتجبراً، وتعريفه بحاله التي لو فكر فيها لما كان منه ما وصف، وذلك قوله ﴿ألم يكن نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى﴾ [القيامة: ٣٧ - ٣٨] أتبع ذلك بما هو أعرق في التوبيخ وأوغل في التعريف وهو أنه قد كان لا شيء فلا نطفة ولا علقة، ثم أنعم الله عليه بنعمة الإيجاد ونقله تعالى من طور إلى طور فجعله نطفة من ماء مهين في قرار مكين ثم كان علقة ثم مضغة إلى إخراجه وتسويته خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، فمن اعتبر اتصافه بالعدم ثم تقلبه في هذه الأطوار المستنكف حالها والواضح
123
فناؤها واضمحلالها، وأمده الله تعالى بتوفيقه عرف حرمان من وصف في قوله: «ثم ذهب إلى أهله يتمطى» فسبحان الله ما أعظم حلمه وكرمه ورفقه، ثم بين تعالى ما جعله للإنسان من السمع والبصر ابتلاء له، ومن أدركه أدركه الغلط وارتكب الشطط - انتهى.
ولما ذكر مطلق خلقه، وقرر أنه خلاصة الكون، شرع يذكر كيفية خلقه ويدل على ما لزم من ذلك من أنه ما خلق الخلق إلا لأجله وأنه لا يجوز أن يهمل فقال معلماً بالحال التي هي قيد الجملة ومحط الفائدة أنه ما خلق إلا للآخرة، مفصلاً أمر الإيجاد بالفاعل والصورة والمادة والغاية وأكده لإنكارهم له: ﴿إنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿خلقنا﴾ أي قدرنا وصورنا، وأظهر ولم يضمر لأن الثاني خاص والأول عام لآدم عليه الصلاة والسلام وجميع ولده فقال: ﴿الإنسان﴾ أي بعد خلق آدم عليه الصلاة والسلام ﴿من نطفة﴾ أي مادة هي ماء جداً من الرجل والمرأة، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة وهي المادة التي هي السبب الحامل للقوة المولدة.
124
ولما كان خلقه على طبائع مختلفة وأمزجة متفاوتة أعظم لأجره إن جاهد ما يتنازعه من المختلفات بأمر ربه الذي لا يختلف، وكانت أفعاله تابعة لأخلاقه وأخلاقه تابعة لجبلته قال: ﴿أمشاج﴾ أي أخلاط - جمع مشج أو مشيج مثل خدن وخدين وأخدان، وخلط وخليط وأخلاط، من مشجت الشيء - إذا خلطته، لأنه من مني الرجل ومني المرأة، وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص تجتمع مع الأخلاط وهي العناصر الأربعة، ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الشبه له، وما كان من عصب وعظم فمن نظفة الرجل، وما كان من دم ولحم وشعر فمن ماء المرأة، وقال يمان: كل لونين اختلطا فهو أمشاج، وقال قتادة: هي أطوار الخلق من النطفة وما بعدهما، وكما يشبه ما غلب عليه من باطن الأمشاج من الطيب والخبث، وكيفية تمشيجه أن الماء إذا وصل إلى قرار الرحم اختلط بماء المرأة ثم بدم الطمث وخثر حتى صار كالرائب ثم احمر وحينئذ يسمى علقة، فاذا اشتد ذلك الامتزاج وقوي وتمتن حتى استعد لأن يقسم فيه الأعضاء سمي مضغة، فإذا
125
أفيضت عليه صورة الأعضاء وتقسم كساه حينئذ مفيضه عز وجل لحماً، فأفاض عليه القوة العاقلة، ويسمى حينئذ جنيناً، وذلك بعد تقسم أجزائه إلى عظام وعروق وأعصاب وأوتار ولحم، فدور الرأس وشق في جانبيه السمع وفي مقدمه المبصر والأنف والفم، وشق في البدن سائر المنافذ ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد - والطحال والرئة والمثانة، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة مهينة كوّن منها العظام مع قوتها وشدتها وجعلها عماد البدن وقوامه وقدرها بمقادير وأشكال مختلفة، فمنها صغير وكبير، وطويل وقصير، وعريض ومستدير، ومجوف ومصمت، ودقيق وثخين، ولم يجعلها عظماً واحداً لأن الإنسان محتاج إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه ثم جعل بين تلك العظام مفاصل ثم وصلها بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقها بالطرف الآخر بالرباط له ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة، وفي الآخر حفراً موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها، وخلق الرأس مع كريته من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال وألف بعضها مع بعض، فجعل في القحف ستة وفي اللحى الأعلى أربعة عشر، واثنان للأسفل، والباقي في الأسنان، وجعل الرقبة
126
مركباً للرأس وركبها من سبع خرزات فيها تجويفات وزيادات ونقصانات لينطبق بعضها على بعض، وركب الظهر من أربع وعشرين خرزة وعظم العجز من ثلاثة أجزاء، وجعل من أسفله عظم العصعص أو اللفة من ثلاثة أجزاء مختلفة، ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتف وغيرها حتى بلغ مجموع عظام بدن الإنسان مائتي عظم وثمانية وأربعين عظماً سوى العظام التي حشا بها خلل المفاصل، وخلق سبحانه آلات التحريك للعظام وهي العضلات وهي خمسمائة وسبع وعشرون عضلة كل منها على قدر مخصوص ووضع مخصوص لو تغير عن ذلك أدنى تغير لاختلت مصالح البدن، وكذا الأعصاب والأوردة والشرايين، ثم انظر كيف خلق الظهر أساساً للبدن، والبطن حاوياً لآلات الغذاء والرأس مجمعاً للحواس، ففتح العين ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وأحكمها بحيث ينطبع في مقدار عدسة منها صورة السماوات على عظمها، وحماها بالأجفان لتسترها وتحفظها، ثم أودع الأذنين ماء مراً يدفع عنها الهوام وحاطهما بصدفين لجمع الصوت ورده إلى الصماخ وليحس بدبيب الهوام وجعل فيها تعريجاً لتطويل
127
الطريق فلا تصل الهوام إلى جرم الصماخ سريعاً، ثم رفع الأنف في الوجه وأودع فيه حاسة الشم للاستدلال بالروائح على الأطعمة والأغذية ولاستنشاق الروائح الطيبة لتكون مروحة للقلب، وأودع الفم اللسان وجعله على كونه لحمة واحدة معرباً عما في النفس، وزين القم بالأنسان فحدد بعضها لتكون آلة للنقب وحدد بعضها لتصلح للقطع، وجعل بعضها عريضاً مفلطحاً صالحاً للطحن وبيض ألوانها ورتب صفوفها وسوى رؤوسها ونسق ترتيبها حتى صارت كالدر المنظوم، ثم أطبق على الفم الشفتين وحسن لونهما لتحفظا منفذه وهيأ الحنجرة لخروج الصوت، وخالف أشكال الحناجر في الضيق والسعة والخشونة والملاسة والصلابة والرخاوة والطول والقصر، فاختلفت الأصوات بسببها ليميز السامع المصوّتين بسبب تمييز أصواتهم فيعرفهم وإن لم يرهم، وسخر كل عضو من أعضاء الباطن لشيء مخصوص، فالمعدة لإنضاج الغذاء، والكبد لإحالته إلى الدم، والطحال لجذب السواد، والمرارة لجذب الصفراء، والكلية لجذب الفضلة المائية، والمثانة لخدمة الكلية بقبول الماء عنها ثم إخراجه من طريقه، والعروق لخدمة الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن، وكان مبدأ ذلك كله النطفة على صغرها في داخل الرحم في ظلمات ثلاثة ولو كشف الغطاء وامتد البصر إليه لرأى التخطيط والتصوير يظهر عليه
128
شيئاَ فشيئاً ولا يرى المصور ولا الإله، فسبحانه ما أعظم شأنه وأبهر برهانه، فيالله العجب ممن يرى نقشاً حسناً على جدار فيتعجب من حسنه وحذق صانعه ثم لا يزال يستعظمه ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومصوره فلا تدهشه عظمته ويحيره جلاله وحكمته.
ولما كان الإنسان مركباً من روح خفيف طاهر وبدن هو مركب الحظوظ والشهوات واللوم والدنيات، فكان الروح بكماله والبدن بنقصانه يتعالجان، كل منهما يريد أن يغلب صاحبه، قوى سبحانه الروح بالشرع الداعي إلى معالي الأخلاق، الناهي عن مساويها، المبين لذلك غاية البيان على يد إنسان طبعه سبحانه على الكمال ليقدر على التلقي من الملائكة، فيكمل أبناء نوعه، فدل على ذلك بحال بناها من ضمير العظمة فقال مبيناً للغاية: ﴿نبتليه﴾ أي نعامله بما لنا من العظمة بالأمر والنهي والوعظ معاملة المختبر ونحن أعلم به منه، ولكنا فعلنا ذلك لنقيم عليه الحجة على ما يتعارفه الناس، فإن العاصي لا يعلم أنه أريد منه العصيان، وكذا الطائع، فصار التكليف بحسب وهمه لما خلق الله له من القوة والقدرة الصالحة في الجملة.
ولما ذكر الغاية، أتبعها الإعدادات المصححة لها فقال: ﴿فجعلناه﴾
129
أي بما لنا من العظمة بسبب ذلك ﴿سميعاً﴾ أي بالغ السمع ﴿بصيراً *﴾ أي عظيم البصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه، ومعرفة الحجج ببصيرته، فيصح تكليفه وابتلاؤه، فقدم العلة الغائية لأنها متقدمة في الاستحضار على التابع لها من المصحح لورودها، وقدم السمع لأنه أنفع في المخاطبات، ولأن الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية، قال الرازي في اللوامع وإلى هنا انتهى الخبر الفطري ثم يبتدىء منه الاختبار الكسبي - انتهى.
وذلك بنفخ الروح وهي حادثة بعد حدوث البدن بإحداث القادر المختار لها بعد تهيئة البدن لقبولها، ثم أفاض سبحانه على الجملة العقل، وجعل السمع والبصر اللتين له، ولعله خصهما لأنهما أنفع الحواس، ولأن البصر يفهم البصيرة وهي تتضمن الجميع، وجعل سبحانه له ذلك لاستقراء صور المحسوسات وانتزاع العلوم الكلية منها، وبذلك يكمل علمه الذي منه الدفع عن نفسه التي جعلها الله تعالى محل التكليف ليكمل تكليفه، وذلك أنه سبحانه ركبه من العناصر الأربعة، وجعل صلاحه بصلاحها، وفساده بفسادها
130
لتعاليها، فاضطر إلى قوى يدرك بها المنافي فيجتنبه والملائم فيطلبه، فرتب له سبحانه الحواس الخمس الظاهرة، فجعل السمع في الأذن، والبصر في العين، والذوق في اللسان، والشم في الأنف، وبث اللمس في سائر البدن، ليدفع به عن جميع الأعضاء ما يؤذيها، وهذه الحواس الظاهرة تنبعث عن قوة باطنة تسمى الحس المشترك بحمل ما أدركته فيرتسم هناك وهو في مقدم البطن الأول من الدماغ وينتقل ما ارتسم هنا إلى خزانة الخيال وهي في مؤخر هذا البطن من الدماغ فتحفظ فيها صورته وإن غابت عن الحواس، وثم قوة أخرى من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات الشخصية كعداوة زيد وصداقته تسمى الوهم ومحلها الدماغ كله والأخص بها التجويف الأوسط وخصوصاً مؤخره، وقوة أخرى أيضاً شأنها خزن ما أدركته القوة الوهمية من المعاني الجزئية تسمى الحافظة باعتبار، والذاكرة باعتبار، ومحلها التجويف المؤخر في الدماغ، وقوة أخرى من شأنها تفتيش تلك الخزائن وتركيب بعض مودعاتها مع بعض وتفصيل بعضها مع بعض ومحلها وسلطانها في أول التجويف الأوسط، وتلك
131
القوة تسمى مخيلة باعتبار تصريف الوهم لها ومفكرة باعتبار استعمال النفس لها، وقد اقتضت الحكمة الربانية تقديم ما يدرك الصور الجرمية وتأخير ما يدرك المعاني الروحانية، وتوسيط المتصرف فيهما بالحكم والاسترجاع للأمثال المنمحية من الجانبين، ثم لا تزال هذه القوى تخدم ما فوقها كما خدمتها الحواس الخمس إلى أن تصير عقلاً مستفاداً، وهو قوة للنفس بها يكون لها حضور المعقولات بالفعل، وهذا العقل هو غاية السلوك الطلبي للإنسان وهو الرئيس المطلق المخدوم للعقل بالفعل، وهو القوة التي تكون للنفس بها اقتدار على استحضار المعقولات - الثانية وهو المخدوم للعقل الهيولاني المشبه بالهيولى الخالية في نفسها عن جميع الصور، وهو قوة من شأنها الاستعداد المحض لدرك المعقولات باستعمال الحواس في تصفح الجزئيات واستقرائها المخدومات كلها للعقل العملي، وهو القوة النظرية المخدوم للوهم المخدوم لما بعده من الحافظة وما قبله من المتخيلة المخدومتين للخيال المخدوم للحس المشترك المخدوم للحواس الظاهرة.
ولما كان كأنه قيل: هبه خلق هكذا فكان ماذا؟ قال
132
شفاء لعيّ هذا السؤال وبياناً لنعمة الإمداد: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿هديناه﴾ أي بينا له لأجل الابتلاء ﴿السبيل﴾ أي الطريق الواضح الذي لا طريق في الحقيقة غيره، وهو طريق الخير الذي من حاد عنه ضل، وذلك بما أنزل من الكتب وأرسلنا من الرسل ونصبنا من الدلائل في الأنفس والآفاق، وجعلنا له من البصيرة التي يميز بها بين الصادق والكاذب وكلام الخلق وكلام الخالق والحق والباطل وما أشبهه.
ولما كان الإنسان عند البيان قد كان منه قسمان، وكان السياق لبيان تعظيمه بأنه خلاصة الكون والمقصود من الخلق، قال بانياً حالاً من ضميره في «هديناه» مقسماً له مقدماً القسم الذي أتم عليه بالبيان نعمة الهداية بخلق الإيمان، لأن ذلك أنسب بذكر تشريفه للإنسان، بجعله خلاصة الوجود وبقوله: «إن رحمتي سبقت غضبي» في سياق ابتداء الخلق، معبراً باسم الفاعل الخالي من المبالغة، لأنه لا يقدر أحد أن يشكر جميع النعم، فلا يسمى شكوراً إلا بتفضل من ربه عليه: ﴿إما شاكراً﴾ أي لإنعامه ربه عليه.
ولما كان الإنسان، لما له من النقصان، لا ينفك غالباً عن كفر ما، أتى بصيغة المبالغة تنبيهاً له على ذلك معرفاً له أنه لا يأخذه إلاّ
133
بالتوغل فيه ليعرف نعمة الحلم عنه فيحمله الخجل على الإقبال على من يرضى منه بقليل الشكر، ويحتمل أن يفهم ذلك أن من كفر نعمة واحدة فقد كفر الجميع فصار بليغ الكفر فقال: ﴿وإما كفوراً﴾ أي بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب وعبادة الغير والمعاندة فإحسانه غير موف إساءته مفرطة، وبدأ بالشكر لأنه الأصل، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث، ورواه أحمد بن منيع عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه ولفظه: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً» رواه الإمام أحمد أيضاً وأبو يعلى عن الأسود بن سريع رضي الله عنه.
134
ولما قسمهم إلى القسمين، ذكر جزاء كل قسم فقال مستأنفاً جواب من يسأل عن ذلك مبشراً للشاكر الذي استعد بعروجه في مراقي العبادات إلى ملكوت العلويات لروح وريحان وجنة نعيم، ومنذراً
134
للكافر الذي استعد بالهبوط في دركات المخالفات إلى التقيد بالسفليات لنزل من حميم وتصلية جحيم، مقدماً للعاصي لأن طريق النشر المشوش أفصح، وليعادل البداءة بالشاكر في أصل التقسيم ليتعادل الخوف والرجاء، وليكون الشاكر أولاً وآخراً، ولأن الانقياد بالوعيد أتم لأنه أدل على القدرة لا سيما في حق أهل الجاهلية الذين بعدت عنهم معرفة التكاليف الشرعية، وأكثر في القرآن العظيم من الدعاء بالترغيب والترهيب لأنه الذي يفهمه الجهال الذين هم أغلب الناس دون الحجج والبراهين، فإنها لا يفهمها إلا الخواص، وأكد لأجل تكذيب الكفار: ﴿إنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿أعتدنا﴾ أي هيأنا وأحضرنا بشدة وغلظة ﴿للكافرين﴾ أي العريقين في الكفر خاصة، وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل ترقياً فقال: ﴿سلاسلاً﴾ يقادون ويرتقون بها، وقراءة من نوّن مشيرة إلى أنها عظيمة جداً، وكذا وقف أبي عمرو عليه بالألف مع المنع من الصرف ﴿وأغلالاً﴾ أي جوامع تجمع أيديهم إلى أعناقهم فيها فيهانون بها ﴿وسعيراً *﴾ أي ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد.
ولما أوجز في جزاء الكافر، أتبعه جزاء الشاكر وأطنب فيه
135
تأكيداً للترغيب، فإن النفوس بعد كسر الوعيد لها تهتز لأدنى وعد وأقله فكيف بأتمه وأجله، فقال مستأنفاً مؤكداً لتكذيب الكافر مبيناً بذكر الخمر على هذه الصفة أنهم في أنهى ما يكون من رغد العيش لأنه يلزم من شربها جميع مقدماتها ومتمماتها: ﴿إن الأبرار﴾ بخصوصهم من عموم الشاكرين جمع بر كأرباب جمع رب، أو بار كأشهاد جمع شاهد، وهم الذين سمت هممهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فأنفقوا من مساكنة الدنيا ﴿يشربون﴾ أي ما يريدون شربه ﴿من كأس﴾ أي خمر - قاله الحسن وهو اسم لقدح تكون فيه ﴿كان مزاجها﴾ أي الذي تمزج به ﴿كافوراً *﴾ أي لبرده وعذوبته وطيب عرفه، وذكر فعل الكون يدل على أن له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد.
ولما كان الكافور أعلى ما نعهده جامداً، بين أنه هناك ليس كذلك، فقال مبدلاً من «كافور» :﴿عيناً يشرب بها﴾ أي بمزاجها
136
كما تقول: شربت الماء بالعسل ﴿عباد الله﴾ أي خواص الملك الأعظم وأولياؤه أي شراب أرادوه.
ولما كان المزاج يتكلف لنقله قال: ﴿يفجرونها تفجيراً *﴾ أي حال كونهم يشققونها ويجرونها بغاية الكثرة إجراء حيث أرادوا من مساكنهم وإن علت وغيرها.
ولما ذكر جزاءهم على برهم المبين لشكرهم، أتبعه تفصيله فقال مستأنفاً بياناً لأن شكرهم بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وعمارة الظاهر والباطن لأنهم جمعوا بين كرم الطبع ولطافة المزاج الحامل على تجويز الممكن المقتضي للإيمان بالغيب: ﴿يوفون﴾ أي على سبيل الاستمرار ﴿بالنذر﴾ وهذا كناية عن وفائهم بجميع أنحاء العبادة لأن من وفى بما أوجبه على نفسه كان بما أوجبه الله من غير واسطة أوفى، ويجوز أن يكون النذر كل ما تقدم إليهم فيه سبحانه.
ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم، قال عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين فهم يفعلون الوفاء لا لأجل الخوف بل لكرم الطبع: ﴿ويخافون﴾ أي مع فعلهم للواجبات ﴿يوماً كان﴾ أي كوناً هو في
137
جبلته ﴿شره﴾ أي ما فيه من الشدائد ﴿مستطيراً *﴾ أي موجود الطيران وجوداً كأنه بغاية الرغبة فيه فهو في غاية الانتشار، والخوف أدل دليل على عمارة الباطن، قالوا: وما فارق الخوف قلباً إلا خرب، من خاف أدلج، ومن أدلج المنزل، فالخوف لاجتناب الشر والوفاء لاجتلاب الخير.
ولما كان من خاف شيئاً سعى في الأمن منه بكل ما عساه ينفع فيه، وكان قد ذكر تذرعهم بالواجب، أتبعه المندوب دلالة على أنهم لا ركون لهم إلى الدنيا ولا وثوق بها، فقد جمعوا إلى كرم الطبع بالوفاء ورقة القلب شرف النفس بالانسلاخ من الفاني فقال: ﴿ويطعمون الطعام﴾ أي على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون على الدوام. ولما كان الإنسان قد يسمح بما لا يلذ له قال: ﴿على حبه﴾ أي حبه إياه حباً هو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه كما قال تعالى: ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ [آل عمران: ٩٢] ليفهم أنهم للفضل أشد بذلاً، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم أي الصحابة رضي الله عنهم - ولا نصيفه» لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته
138
بعد ﴿مسكيناً﴾ أي محتاجاً احتياجاً يسيراً، فصاحب الاحتياج الكثير أولى ﴿ويتيماً﴾ أي صغيراً لا أب له ذكراً كان أو أنثى ﴿وأسيراً *﴾ أي في أيدي الكفار أي أعم من ذلك، فيدخل فيه المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر أسيره على نفسه بالخبز، وكان الخبز إذ ذاك عزيزاً حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارمهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام، وذلك لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دفعهم إليهم قال: «استوصوا بهم خيراً» ومن حكم الأسير الحقيقي كل مضرور يفعلون ذلك والحال أنهم يقولون بلسان الحال أو القال إن احتيج إليه إزاحة لتوهم المن أو توقع المكافأة مؤكدين إشارة إلى أن الإخلاص أمر عزيز لا يكاد أحد يصدق أنه يتأتى لأحد: ﴿إنما نطعمكم﴾ أيها المحتاجون ﴿لوجه الله﴾ أي لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك، وعبر به لأن الوجه يستحيى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته.
ولما أثبتوا بهذا الإخلاص، حققوه بنفي ما يغير فيه، وفسروه
139
لما لا يكون إلا به فقالوا: ﴿لا نريد منكم﴾ أي لأجل ذلك ﴿جزاء﴾ أي لنا من أعراض الدنيا ﴿ولا شكوراً *﴾ بشيء من قول ولا فعل، وكأنه اختير هذا المصدر المزيد كالدخول والخروج والقعود إيماءً إلى أن المنفي ما يتكلف له، وأما مثل المحبة والدعاء فلا، ولو أرادوا شيئاً من ذلك لما كان لله، وروي في سبب نزول هذه الآية: «أن علياً وابنيه وأمهما فاطمة رضي الله عنهم أجمعين آثروا على أنفسهم ثلاثة أيام، وأصبحوا الرابع يرتعشون، فلما رآهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساءه ذلك، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه السورة مهنئاً له بها» ولا يستبعد الصبر على الجوع هذه المدة لأنه ربما كانت للنفس هيئة قوية من استغراق في محبة الله تعالى أو غير ذلك، فهبطت إلى البدن فشغلت الطبيعة عن تحليل الأجزاء فلا يحصل الجوع كما أنا نشاهد الإنسان يبقى في المرض الحاد مدة من غير تناول شيء من غذاء ولا يتأثر بدنه لذلك، فلا بدع أن تقف الأفعال الطبيعية في حق بعض السالكين وهو أحد القولين في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني».
140
ولما كانت الأنفس مجبولة على حب الجزاء والثناء، فكان لا يكاد يصدق أحد أن أحداً يفعل ما لا يقصد به شيئاً من ذلك، وكان
140
الله سبحانه وتعالى قد منَّ علينا بأن جعل العبادة لأجل خوفه ورجائه لا يقدح في الإخلاص، عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم: ﴿إنا نخاف﴾ ولما كان الخوف من المحسن بالنظر إلى إحسانه موجباً للخوف منه بالنظر إلى عزه وجبروته وسلطانه من باب الأولى قالوا: ﴿من ربنا﴾ أي الخالق لنا المحسن إلينا ﴿يوماً﴾ أي أهوال يوم هو - في غاية العظمة، وبينوا عظمته بقولهم: ﴿عبوساً﴾ أي ضيقاً - قاله ابن عباس رضي الله عنهما، نسبوا العبوس إليه لأنه في شدته كالأسد الغضوب، فهو موجب لعبوس الوجوه فيه أو هو لعبوس أهله ك «ليله قائم ونهاره صائم وعيشة راضية» ﴿قمطريراً *﴾ أي طويلاً - قاله ابن عباس رضي الله عنهما، أو شديد العبوس مجتمع الشر كالذي يجمع ما بين عينيه - مأخوذ من القطر لأن يومه يكون عابساً، وزيد فيه الميم وبولغ فيه بالصيغة، وهو يوم القيامة، يقال: اقمطر اليوم فهو مقمطر - إذا كان صعباً شديداً.
ولما كان فعلهم هذا خالصاً لله، سبب عنه جزاءهم فقال مخبراً أنه دفع عنهم المضار وجلب لهم المسار: ﴿فوقاهم الله﴾ أي الملك الأعظم بسبب خوفهم ﴿شر ذلك اليوم﴾ أي العظيم، وأشار إلى نعيم الظاهر بقوله: ﴿ولقّاهم﴾ أي تلقية عظيمة فيه وفي غيره ﴿نضرة﴾
141
أي حسناً ونعمة تظهر على وجوههم وعيشاً هنيئاً، وإلى نعيم الباطن بقوله: ﴿وسروراً *﴾ أي دائماً في قلوبهم في مقابلة خوفهم في الدنيا وعبوس الكفار في الآخرة وخزيهم - وهذا يدل على أن وصف اليوم بالعبوس للدلالة على المبالغة في عبوس أهله، وأشار إلى المسكن بقوله: ﴿وجزاهم بما صبروا﴾ أي بسبب ما أوجدوه من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الطيبات وبذل المحبوبات ﴿جنة﴾ أي بستاناً جامعاً يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون. ولما ذكر ما يكسو الباطن، ذكر ما يكسو الظاهر فقال: ﴿وحريراً *﴾ أي هو في غاية العظمة.
ولما ذكر أنه كفاهم المخوف وحباهم الجنة، أتبعه حالهم فيها وحالها فقال دالاًّ على راحتهم الدائمة: ﴿متكئين فيها﴾ أي لأن كل ما أرادوه حضر إليهم من غير حاجة إلى حركة أصلاً، ودل على الملك بقوله ﴿على الأرآئك﴾ أي الأسرة العالية التي في الحجال، لا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة، وقال بعضهم: هي السرير المنجد في قبة عليه شواره ونجده أي متاعه، وهي مشيرة إلى الزوجات لأن العادة جارية بأن الأرائك لا تخلو عنهن بل هي لهن لاستمتاع الأزواج بهن فيها.
ولما كانت بيوت الدنيا وبساتينها تحتاج إلى الانتقال منها
142
من موضع إلى موضع لأجل الحر أو البرد، بين أن جميع أرض الجنة وغرفها سواء في لذة العيش وسبوغ الظل واعتدال الأمر، فقال نافياً ضر الحر ثم البرد: ﴿لا يرون فيها﴾ أي بأبصارهم ولا بصائرهم أصلاً ﴿شمساً﴾ أي ولا قمراً ﴿ولا﴾ أي ولا يرون فيها أيضاً ببصائرهم أي لا يحسون بما يسمى ﴿زمهريراً *﴾ أي برداً شديداً مزعجاً ولا حراً، فالآية من الاحتباك: دل بنفي الشمس أولاً على نفي القمر، لأن ظهوره بها لأن نوره اكتساب من نور الشمس، ودل بنفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانياً على نفي الحر الذي سببه الشمس، فأفاد هذا أن الجنة غنية عن النيرين، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان لأنه لا تكليف فيها بوجه، وأنها ظليلة ومعتدلة دائماً لأن سبب الحر الآن قرب الشمس من مسامته الرؤوس، وسبب البرد بعدها عن ذلك.
ولما كانت ترجمة هذا كما مضى: جنة ظليلة ومعتدلة، عطف عليه بالواو دلالة على تمكن هذا الوصف وعلى اجتماعه مع ما قبله قوله: ﴿ودانية﴾ أي قريبة من الارتفاع ﴿عليهم ظلالها﴾ من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال ﴿وذللت قطوفها﴾ جمع قطف بالكسر
143
وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي المجنية ﴿تذليلاً *﴾ أي سهل تناولها تسيهلاً عظيماً لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كان من اتكاء وغيره، فإن كانوا قعوداً تدلت إليهم، وإن كانوا قياماً وكانت على الأرض ارتقت إليهم، وهذا جزاء لهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله.
ولما كان الدوران بالآنية متجدداً، عبر فيه بالمضارع، وبناه للمفعول أيضاً لأنه المقصود مطلقاً من غير تعيين طائف فقال: ﴿ويطاف﴾ أي من أيّ طائف كان لكثرة الخدم ﴿عليهم بآنية﴾ جمع إناء جزاء على طوافهم على المحتاجين بما يصلحهم.
ولما كان مقصود هذه السورة ترهيب الإنسان الموبخ في سورة القيامة من الكفر، وكان الإنسان أدنى أسنان المخاطبين في مراتب الخطاب، اقتصر في الترغيب في شرف الآنية على الفضة دون الذهب المذكور في فاطر والحج المعبر فيهما بالناس، فلعل هذا لصنف وذاك لصنف - أعلى منه مع إمكان الجمع والمعاقبة، وأما من هو أعلى من هذين الصنفين من الذين آمنوا ومن فوقهم فلهم فوق هذين الجوهرين من الجواهر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
144
قلب بشر فقال: ﴿من فضة﴾ أي اسمه ذلك، وأما الحقيقة فأين الثريا من يد المتناول.
ولما جمع الآنية خص فقال: ﴿وأكواب﴾ جمع كوب وهو كوز لا عروة له، فيسهل الشهرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة ﴿كانت﴾ أي تلك الأكواب كوناً هو من جبلتها ﴿قواريراً *﴾ أي كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق والزهارة، جمع قارورة وهي ما قر فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف، وقيل: هو خاص بالزجاج.
ولما كان هذا رأس آية، وكان التعبير بالقارورة ربما أفهم أو أوهم أنها من الزجاج، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة، قال معيداً للفظ أول الآية الثانية، تأكيداً للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبياناً لنوعها: ﴿قواريراً من فضة﴾ أي فجمعت صفتي الجوهرين المتباينين: صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه وبياض الفضة وشرفها ولينها، وقراءة من نوّن الاثنين صارفاً ما من حقه المنع مشيرة إلى عظمتها وامتداد كثرتها وعلوها في الفضل والشرف، وقراءة ابن كثير في الاقتصار على تنوين الأول للتنبيه على أنه رأس آية والثاني أول التي بعدها مع إفهام العظمة لأن الثاني إعادة للأول لما
145
تقدم من الإفادة، فكأنه منون، ووقف أبو عمرو على الأول بالألف مع المنع من الصرف لأن ذلك كاف في الدلالة على أنه رأس آية.
ولما كان الإنسان لا يجب أن يكون الإناء ولا ما فيه من مأكول أو مشروب زائداً عن حاجته ولا ناقصاً عنها قال: ﴿قدروها﴾ أي في الذات والصفات ﴿تقديراً *﴾ أي على مقادير الاحتياج من غير زيادة ولا نقص لأن ما أراد كل منها كان، لا كلفة ولا كدر ولا نقص.
ولما ذكر الأكواب، أتبعها غايتها فقال تخصيصاً بالعطف على ما تقديره: يسقون فيها ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم: ﴿ويسقون﴾ ممن أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة ﴿فيها﴾ أي الجنة أو تلك الأكواب ﴿كأساً﴾ أي خمراً في إناء ﴿كان مزاجها﴾ على غاية الإحكام ﴿زنجبيلاً *﴾ هو في غاية اللذة، وكانت العرب تستلذ الشراب الممزوج به لهضمه وتطييبه الطعم والنكهة.
146
ولما كان الزنجبيل عندنا شجراً يحتاج في تناوله إلى علاج، أبان أنه هناك عين لا يحتاج في صيرورته زنجبيلاً إلى أن تحيله الأرض بتخميره فيها حتى يصير شجراً ليتحول عن طعم الماء إلى طعم الزنجبيل خرقاً للعوائد
146
فقال: ﴿عيناً فيها﴾ أي الجنة يمزج فيها شرابهم كما يمزج بالماء.
ولما كان الزنجبيل يلذع الحق فتصعب إساغته قال: ﴿تسمى﴾ أي لسهولة إساغتها ولذة طعمها وسمو وصفها ﴿سلسبيلاً﴾ والسلسبيل والسلسل والسلسال ما كان من الشراب غاية في السلاسة، زيدت فيه الباء دلالة على المبالغة في هذا المعنى، قالوا: وشراب الجنة في برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك من غير لذع.
ولما ذكر المطوف به لأنه الغاية المقصودة، وصف الطائف لما في طوافه من العظمة المشهودة تصويراً لما هم فيه من الملك بعد ما نجوا منه من الهلك: ﴿ويطوف عليهم﴾ أي بالشراب وغيره من الملاذ والمحاب ﴿ولدان﴾ أي غلمان هم في سن من هو دون البلوغ «أقل أهل الجنة من يخدمه ألف غلام» ﴿مخلدون﴾ أي قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائماً من غير غلة ولا ارتفاع عن ذلك الحد مع أنهم مزينون بالخلد وهو الحلق والأساور والقرطة والملابس الحسنة ﴿إذ رأيتهم﴾ أي يا أعلى الخلق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت أثبت الناس نظراً أو أيها الرائي من كان في أي حالة رأيتهم
147
فيها ﴿حسبتهم﴾ من بياضهم وصفاء ألوانهم ولمع أنوارهم وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض وانبثاثهم في المجالس ذهاباً وإياباً ﴿لؤلؤاً منثوراً *﴾ وذلك كناية عن كثرتهم وانتشارهم في الخدمة وشرفهم وحسنهم؛ وعن بعضهم أن لؤلؤ الجنة في غاية الكبر والعظمة واختلاف الأشكال، وكأنه عبر بالحسبان إشارة إلى أن ذلك مطلق تجويز لا مع ترجيح، قال بعض المفسرين: هم غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين. وقال بعضهم: هم أطفال المشركين لأنهم ماتوا على الفطرة، وقال ابن برجان: وأرى والله أعلم أنهم من علم الله سبحانه وتعالى إيمانه من أولاد الكفار يكونون خدماً لأهل الجنة كما كانوا لهم في الدنيا سبياً وخداماً، وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم سناً وملكاً سروراً لهم، ويؤيد هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام «إن له لظئراً يتم رضاعه في الجنة» فإنه يدل على استقبال شأنه فيما هنالك وتنقله في الأحوال كالدنيا، ولا دليل على خصوصيته بذلك.
ولما ذكر المخدوم والخدم شرع في ذكر المكان فقال: ﴿وإذا رأيت﴾ أي أجلت بصرك، وحذف مفعوله ليشيع ويعم ﴿ثم﴾ أي هناك في أي مكان كان وأي شيء كان ﴿رأيت نعيماً﴾ أي ليس فيه كدر بوجه من الوجوه، ولما كان النعيم قد يكون في حالة وسطى قال:
148
﴿وملكاً كبيراً *﴾ أي لم يخطر على بال مما هو فيه من السعة وكثرة الموجود والعظمة أدناهم وما فيهم دني الذي ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ومهما أراده كان.
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم، ذكر لباسهم بانياً حالاً من الفاعل والمفعول: ﴿عليهم﴾ أي حال كون الخادم والمخدوم يعلو أجسامهم على سبيل الدوام، وسكن نافع وحمزة الياء على أنه مبتدأ وخبر شارح للملك على سبيل الاستئناف ﴿ثياب سندس﴾ وهو ما رق من الحرير ﴿خضر﴾ رفعه الجماعة صفة لثياب، وجره ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم صفة لسندس حملاً على المعنى فإنه اسم جنس ﴿وإستبرق﴾ وهو ما غلظ من الديباج يعمل بالذهب، أو هو ثياب حرير صفاق نحو الديباج - قاله في القاموس، رفعه ابن كثير ونافع وعاصم نسقاً على ثياب، وجره الباقون على سندس.
ولما كان المقصود لأرباب اللباس الفاخر الحلية، أخبر عن تحليتهم، وبني الفعل للمفعول دلالة على تيسر ذلك لهم وسهولته عليهم فقال: ﴿وحلّوا﴾ أي وجدت تحلية المخدومين والخدم ﴿أساور من فضة﴾ وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب، وتقدم سر تخصيص هذه السورة بالفضة والأساورة بجمع ما فيها من لذة الزينة لذة اتساع الملك فإنها
149
كناية عنه فإنه - كما قال الملوي - كان في الزمن القديم إذا ملك ملك أقاليم عظيمة كثيرة لبس سواراً وسمي الملك المسور لاتساع مملكته وعظمتها وكثرة أقاليمها، وإن لم تجمع أقاليم لم يسور فما ظنك بمن أعطى من ذلك جمع الكثرة، وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغ التحجيل في الوضوء كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» فلذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يرفع الماء إلى المنكبين وإلى الساقين.
ولما كان ربما ظن بما تقدم من ذلك الممزوج شيء من نقص لأجله يمزج كما هو في الدنيا، وكان قد قال أولاً ﴿يشربون﴾ بالبناء للفاعل، وثانياً (يسقون) بالبناء للمفعول، قال بانياً للفاعل بياناً لفضل ما يسقونه في نفسه وفي كونه من عند الإله الأعظم المتصف بغاية الإحسان على صفة من العظمة تليق بإحسانه سبحانه بما أفاده إسناد الفعل إليه: ﴿وسقاهم﴾ وعبر بصفة الإحسان تأكيداً لذلك فقال: ﴿ربهم﴾ أي الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم ﴿شراباً طهوراً *﴾ أي ليس هو كشراب الدنيا سواء كان من الخمر أو من الماء أو من غيرهما، بل هو بالغ الطهارة والوصف بالشرابية من العذوبة واللذة واللطافة، وهو مع ذلك آلة للتطهير البالغ للغير فلا يبقى في بواطنهم
150
غش ولا وسواس، ولا يريدون إلا ما يرضي مليكهم مما أسس على غاية الحكمة وفاق كامل وسجايا مطهرة وأخلاق مصطفاة لا عوج فيها، ولا يستحيل شيء من شرابهم إلى نجاسة من بول ولا غيره، بل يصير رشحاً كرشح المسك ويعطي الرجل شهوة مائة رجل في الأكل وغيره، فإذا أكل شرب فطهر باطنه ورشح منه المسك فعادت الشهوة، بل الحديث يدل على أن شهوتهم لا تنقضي أصلاً فإنه قال:
«يجد لآخر لقمة من اللذة ما يجد لأولها» يفعل بهم هذا سبحانه قائلاً لهم مؤكداً تسكيناً لقلوبهم لئلا يظنون أن ما هم فيه على وجه الضيافة ونحوها فيظنوا انقطاعه ﴿إن هذا﴾ أي الذي تقدم من الثواب كله ﴿كان﴾ أي كوناً ثابتاً ﴿لكم﴾ بتكويني إياه من قبل موتكم ﴿جزاء﴾ أي على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم فكنتم كلما عملتم عملاً كونت من هذا ما هو جزاء له ﴿وكان﴾ أي على وجه الثبات ﴿سعيكم﴾ ولما كان المقصود القبول لأن القابل الشاكر هو المعمول له، بني للمفعول قوله: ﴿مشكوراً *﴾ أي لا يضيع شيئاً منه ويجازى بأكثر منه أضعافاً مضاعفة.
151
ولما ذكر أنه بين للناس السبيل فانقسموا إلى مبصر شاكر وأعمى
151
كافر، وأتبعه جزاء الكافرين والشاكرين، وختمه بالشراب الطهور الذي من شأنه أن يحيي ميت الأراضي كما أن العلم الذي منبعه القرآن يحيي ميت القلوب، وسكن القلوب بتأييد الجزاء، وختم الكلام بالشكر كما بدأه به، وكان نصب ما يهدي جميع الناس أمراً لا يكاد يصدق قال ذاكراً لما شرف به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدنيا قبل الآخرة، وجعل الشراب الطهور جزاء له لما بينهما من المناسبة على سبيل التأكيد، وأكده ثانياً بما أفاد التخصيص لما لهم من الإنكار ولتطمئن أنفس أتباعه بما حث عليه من الصبر إلى وقت الإذن في القتال: ﴿إنا نحن﴾ أي على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها، لا غيرها ﴿نزلنا عليك﴾ وأنت أعظم الخلق إنزالاً استعلى حتى صار المنزل خلقاً لك ﴿القرآن﴾ أي الجامع لكل هدى، الحافظ من الزيغ، كما يحفظ الطب للصحيح صحة المزاج، الشافي لما عساه يحصل من الأدواء بما يهدي إليه من العلم والعمل، وزاد في التأكيد لعظيم إنكارهم فقال: ﴿تنزيلاً *﴾ أي على التدريج بالحكمة جواباً للسائل ورفقاً بالعباد فدرجهم في وظائف الدين تدريجاً موافقاً للحكمة، ولم يدع لهم شبهة إلا أجاب عنها، وعلمهم جميع الأحكام التي فيها رضانا، وأتاهم من المواعظ والآداب والمعارف
152
بما ملأ الخافقين وخصصناك به شكراً على سيرتك الحسنى التي كانت قبل النبوة، وتجنبك كل ما يدنس، فلما كان بتنزيلنا كان جامعاً للهدى لما لنا من إحاطة العلم والقدرة، فلا عجب في كونه جامعاً لهدى الخلق كلهم، لم يدع لهم في شيء من الأشياء لبساً، وهي ناظرة إلى قوله في القيامة ﴿لا تحرك به لسانك﴾ [القيامة: ١٦] الملتفتة إلى ما في المدثر من أن هذه تذكرة، الناظرة إلى ﴿أنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً﴾ المشيرة إلى ما في سورة الجن من أمر القرآن، فالحاصل أن أكثر القرآن في تقرير عظمة القرآن، فإنه المقصود بالذات من أمر الآية الكبرى التي إذا ثبتت تبعها جميع المراد من الشريعة وتفريق تقرير شأنه أتقن ما يكون في إحكام أمره، وذلك أن الحكيم إذا اهتم بشيء افتتح الكلام به، فإذا رأى من ينكره انتقل إلى غيره على قانون الحكمة، ثم يصير يرمي به في خلال ذلك، رمياً كأنه غير قاصد له، ولا يزال يفعل ذلك حتى يتقرر أمره غاية التقرير ويثبت في النفس من حيث لا يشعر.
ولما تقرر أن من الناس من ترك الهدى الذي هو البيان، فعمي
153
عنه لإعراضه عنه، سبب عن هذا الإنزال وذاك الضلال قوله منبهاً على أمراض القلوب، ومرشداً إلى دوائها: ﴿فاصبر لحكم ربك﴾ أي المحسن إليك بتخصيصه لك بهذه النعمة على ضلال من حكم بضلاله، وعلى كل ما ينوبك وأطعه في التعبد له بجميع ما أمرك به من الرفق إلى أن يأمرك بالسيف، واستعن على مر الصبر باستحضار أن المربي الشفيق يربي بما يشاء من المر والحلو على حسب علمه وحكمته، والصبر: حبس النفس وضبطها على مقاومة الهوى لئلا تنقاد إلى شيء من قبائح اللذات.
ولما أمره سبحانه بالصبر، وكان الأمر به مفهماً وجوده للمخالف، وكان المخالفون له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم القسم المضاد للشاكر وهم الكفرة، وكان ما يدعونه إليه تارة مطلق إثم، وأخرى كفراً وتارة غير ذلك، ذكر النتيجة ناهياً عن القسمين الأولين ليعلم أن المسكوت عنه لا نهي فيه فقال: ﴿ولا تطع منهم﴾ أي الكفرة الذين هم ضد الشاكرين ﴿آثماً﴾ أي داعياً إلى إثم سواء كان مجرداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له ﴿أو كفوراً *﴾ أي مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا فإن الحق أكبر من كل كبير،
154
وذلك أنهم كانوا مع شدة الأذى له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبذلون له الرغائب من الأموال، والتمليك والتزويج لأعظم نسائهم على أن يتبعهم على دينهم ويكف عما هو عليه والنهي عن الأحد المبهم نهي عن كل منهما، فإن كلاًّ منهما في أنه يجب اجتنابه في رتبة واحدة ﴿وذروا ظاهر الإثم وباطنه﴾ [الأنعام: ١٢٠] وكذا الانتهاء عنه لا يتحقق إلا بالانتهاء عن كل منهما، ولو عطف بالواو لم يفد ذلك لأن نفي الاثنين لا يستلزم نفي كل منهما، وأفهم ترتيب النهي على الوصفين أنه إذا دعاه الكفار إلى ما لا يتعلق به إثم ولا كفر جاز له قبوله.
ولما نهى عن طاعتهما القاطعة عن الله، أمر بملازمة الموصل إلى الله وهو الذكر من غير عائق الذي هو دواء لما عساه يلحق من الأدواء لمجرد رؤية الآثم أو الكفور لأرباب القلوب الصافية، والذكر مقدم على كل عبادة وإن وضع العباد لما كان طلباً للتوصل إلى نيل معرفة الله سبحانه، وكان التصور بحسب الاسم أول مراتب التصور طبعاً بدأ به وضعاً، وذلك لأن النفس تحب السفول لما لها من النقائص، فاحتاجت إلى سبب مشوق لها إلى الأعلى فوضعت لها العبادات، وأجلها العبادة المشفوعة بالفكر، لأنه السبب الموصل إلى المقصود ولا تفيد العبادة بدونه فقال: ﴿واذكر﴾ أي بلسانك ﴿اسم ربك﴾ أي المحسن
155
إليك بكل جميل ﴿بكرة﴾ عند قيامك من منامك الذي هو الموتة الصغرى وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم جيمعاً ﴿وأصيلاً *﴾ عند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطي هذا العالم لأجل إيجاد يوم الفصل، وفي ذكر الوقتين أيضاً إشارة إلى دوام الذكر، وذكر اسمه لازم لذكره، ويجوز أن يكون أمراً بالصلاة لأنها أفضل الأعمال البدنية لأنها أعظم الذكر لأنها ذكر اللسان والجنان والأركان فوظفت فيها أذكار لسانية وحركات وسكنات على هيئة مخصوصة من عادتها ألا تفعل إلا بين أيدي الملوك، فكان تنبيهها على وجود الصانع والاعتراف بإلهيته وتفرده أكثر فكانت أفضل، فيكون هذا على هذا أمراً بصلاتي الصبح والعصر، فإنه لم يكن أمر في أول الإسلام بغيرهما وبهما أمر من كان قبلنا، وهما أفضل الصلوات وكانتا ركعتين ركعتين، ويجوز أن يكون أمراً بصلاتي الصبح والظهر والعصر فإن الأصيل يتناول وقتيهما لأنه مطلق العشي، وأما المغرب والعشاء ونافلة الليل فدخلت في قوله: ﴿ومن الّيل﴾
156
أي بعضه والباقي للراحة بالنوم ﴿فاسجد له﴾ أي فصل له صلاتي المغرب والعشاء، وذكرهما بالسجود تنبيهاً على أنه أفضل الصلاة، فهو إشارة إلى أن الليل موضع الخضوع، وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص ومزيد الفضيلة لأن الالتفات فيه إلى جانب الحق أتم لزوال الشاغل للحواس من حركات الناس وأصواتهم وسائر الأحوال الدنيوية، فكان أبعد عن الرياء فكان الخشوع فيه واللذة التامة بحلاوة العبادة أوفى ﴿وسبحه﴾ أي بالتهجد ﴿ليلاً طويلاً *﴾ نصفه أو أكثر منه أو أقل، ولعله سماه تسبيحاً لأن مكابدة القيام فيه وغلبة النوم تذكر بما لله من العظمة بالتنزه عن كل نقيصة، ولأنه لا يترك محبوبه من الراحة بالنوم إلا من كان الله عنده في غاية النزاهة، وكان له في غاية المحبة.
ولما أنهى أمره بلازم النهي، علل النهي بقوله محقراً بإشارة القريب مؤكداً لما لهم من التعنت بالطعن في كل ما يذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إن هؤلاء﴾ أي الذين يغفلون عن الله من الكفرة وغيرهم فاستحقوا المقت من الله ﴿يحبون﴾ أي محبة تتجدد عندهم زيادتهم في كل وقت ﴿العاجلة﴾ أي ويأخذون منها ويستخفون لما حفت به من الشهوات زمناً قليلاً لقصور نظرهم وجمودهم على المحسوسات التي الإقبال عليها منشأ البلادة والقصور، ومعدن الأمراض للقلوب التي في الصدور، ومن تعاطى أسباب المرض مرض وسمي كفوراً، ومن
157
تعاطى ضد ذلك شفي وسمي شاكراً، ويكرهون الآخرة الآجلة ﴿ويذرون﴾ أي يتركون منها على حالة هي من أقبح ما يسوءهم إذا رأوه ﴿وراءهم﴾ أي أمامهم أي قدامهم على وجه الإحاطة بهم وهم عنه معرضون كما يعرض الإنسان عما وراءه، أو خلفهم لأنه يكون بعدهم لا بد أن يدركهم ﴿يوماً﴾ أي منها. ولما كان ما أعيا الإنسان وشق عليه ثقيلاً قال: ﴿ثقيلاً *﴾ أي شديداً جداً لا يطيقون حمل ما فيه من المصائب بسبب أنهم لا يعدون له عدته، فالآية من الاحتباك: ذكر الحب والعاجلة أولاً دلالة على ضدهما ثانياً، والترك والثقل ثانياً دلالة على ضدهما أولاً، وسر ذلك أن ما ذكره أدل على سخافة العقل بعدم التأمل للعواقب.
158
ولما كان تركهم لليوم الثقيل على وجه التكذيب الذي هو أقبح الترك، وكان تكذيبهم لاعتقادهم عدم القدرة عليه قال دالاً على الإعادة بالابتداء من باب الأولى: ﴿نحن خلقناهم﴾، بما لنا من العظمة لا غيرنا ﴿وشددنا أسرهم﴾ أي قوينا وأتقنا ربط مفاصلهم الظاهرة والباطنة بالأعصاب على وجه الإحكام بعد كونهم نطفة أمشاجاً
158
في غاية الضعف، وأصل الأسر، القد يشد به الأقتاب أو الربط والتوثيق، ولا شك أن من قدر على إنشاء شخص من نطفة قادر على أن يعيده كما كان لأن جسده الذي أنشأه إن كان محفوظاً فالأمر فيه واضح، وإن كان قد صار تراباً فإبداعه منه مثل إبداعه من النطفة، وأكثر ما فيه أن يكون كأبيه آدم عليه السلام بل هو أولى فإنه ترابه له أصل في الحياة بما كان حياً، وتراب آدم عليه السلام لم يكن له أصل قط في الحياة والإعادة أهون في مجاري عادات الخلق من الابتداء، ولذلك قال معبراً بأداة التحقق: ﴿وإذا شئنا﴾ أي بما لنا من العظمة أن نبدل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم ﴿بدلنا أمثالهم﴾ أي بعد الموت في الخلقة وشدة الأسر ﴿تبديلاً *﴾ أو المعنى: جئنا بأمثالهم بدلاً منهم وخلائف لهم، أو يكون المراد - وهو أقعد - بالمثل الشخص أي بدلنا أشخاصهم لتصير بعد القوة إلى ضعف وبعد الطول إلى قصر وبعد البياض إلى سواد وغير ذلك من الصفات كما شوهد في بعض الأوقات في المسخ وغيره، وكل ذلك دال على تمام قدرتنا وشمول علمنا.
ولما كان هذا دليلاً عظيماً على القدرة على البعث مخزياً لهم، قال مؤكداً لإنكارهم عناداً: ﴿إن هذه﴾ أي الفعلة البدائية، أو المواعظ
159
التي ذكرناها في هذه السورة وفي جميع القرآن ﴿تذكرة﴾ أي موضع ذكر عظيم للقدرة على البعث وتذكر عظيم لما فعلت في الإنشاء أولاً، وموعظة عظيمة فإن في تصفحها تنبيهات عظيمة للغافلين، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر نفسه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه، فمن أقبل هذا الإقبال علم أنا آتيناه من الآلات والدلائل ما إن سلك معه مجتهداً وصل دون ضلال ولذلك سبب عن كونها تذكرة قوله من خطاب البسط: ﴿فمن شاء﴾ أي أن يجتهد في وصوله إلى الله سبحانه وتعالى ﴿اتخذ﴾ أي أخذ بجهده من مجاهدة نفسه ومغالبة هواه ﴿إلى ربه﴾ أي المحسن إليه الذي ينبغي له أن يحبه بجميع قلبه ويجتهد في القرب منه ﴿سبيلاً *﴾ أي طريقاً واسعاً واضحاً سهلاً بأفعال الطاعة التي أمر بها لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس وأزلنا جميع موانع أنفسهم عمن شئنا وركزنا ذلك في الطباع، ولم يبق مانع من استطراق أصلاً غير مشيئتنا، والفطرة الأولى أعدل شاهد بهذا.
ولما أثبت لهم المشيئة التي هي مناط التكليف، وهي الكسب، وكان ربما ظن ظان أو ادعى مدع في خلق الأفعال كما قال أهل
160
الاعتزال، قال نافياً عنهم الاستقلال، لافتاً القول إلى خطابهم، وهو مع كونه خطاب قبض استعطافاً بهم إلى التذكر في قراءة الجماعة وبالغيب على الأسلوب الماضي في قراءة ابن كثير وابن عامر: ﴿وما تشاءون﴾ أي في وقت من الأوقات مشيئة من المشيئات لهذا وغيره على سبيل الاختراع والاستقلال ﴿إلا﴾ وقت ﴿أن يشاء الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه، فيوجد المعاني في أنفسكم على حسب ما يريد ويقدر على ما يشاء من آثارها، وقد صح بهذا ما قال الأشعرية وسائر أهل السنة من أن للعبد مشيئة تسمى كسباً لا تؤثر إلا بمشيئة الله تعالى وتحريكها لقدرة العبد، وانتفى مذهب القدرية الذين يقولون: إنا نحن نخلق أفعالنا، ومذهب الجبرية القائلين: لا فعل لنا أصلا، ومثَّل الملوي ذلك بمن يريد قطع بطيخة فحدد سكيناً وهيأها وأوجد فيها أسباب القطع وأزال عنها موانعه ثم وضعها على البطيخة فهي لا تقطع دون أن يتحامل عليها التحامل المعروف لذلك، ولو وضع عليها ما لم يصلح للقطع كحطبة مثلاً لم تقطع ولو تحامل، فالعبد كالسكين خلقه الله وهيأه بما أعطاه من القدرة للفعل، فمن قال: أنا أخلق فعلي مستقلاً به، فهو كمن قال: السكين تقطع بمجرد وضعها من غير تحامل، ومن قال: الفاعل هو الله، من غير
161
نظر إلى العبد أصلاً كان كمن قال: هو يقطع البطيخة بتحامل يده أو قصبة ملساء من غير سكين، والذي يقول: إنه باشر بقدرته المهيأة للفعل بخلق الله لها وتحريكها في ذلك الفعل كان كمن قال: إن السكين قطعت بالتحامل عليها، بهذا أجرى سبحانه عادته في الناس، ولو شاء غير ذلك فعل، ولا يخفى أن هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم قائلاً: ﴿إن الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿كان﴾ أي أزلاً وأبداً ﴿عليماً حكيماً *﴾ أي بالغ العلم والحكمة، فهو يمنع منعاً محكماً من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه، فمن علم في جبلته خيراً أعانه عليه، ومن علم منه الشر ساقه إليه وحمله عليه، وهو معنى ﴿يدخل من يشاء﴾ أي من علمه أهلاً للسعادة، ليس بظالم ﴿في رحمته﴾ بحكمته فييسر له اتخاذ السبيل الموصل إليه بأن يوفقه للعدل، ويعد له ثواباً جسيماً.
ولما بشر أهل العدل بالفعل المضارع المؤذن بالاستمرار، ولم يجعله ماضياً لئلا يتعنت متعنت ممن هو متلبس بالضلال فيقول: أنا لا أصلح لأنه ما أدخلني، عطف عليه ما لأضدادهم في جملة فعلية بناها على الماضي إعلاماً بأن عذابهم موجود قد فرغ منه فقال: ﴿والظالمين﴾ أي وأهان العريقين في وصف المشي على غير سنن مرضى كالماشي في الظلام فهو يدخلهم في نقمته وقد ﴿أعد لهم﴾
162
أي إعداداً أمضاه بعظمته، فلا يزاد فيه ولا ينقص أبداً ﴿عذاباً أليماً *﴾ فالآية من الاحتباك: ذكر الإدخال والرحمة أولاً دلالة على الضد ثانياً، والعذاب ثانياً دلالة على الثواب أولاً، وسر ذلك أن ما ذكره أولى بترغيب أهل العدل فيه وإن ساءت حالهم في الدنيا، وبترهيب أهل الظلم منه وإن حسنت حالهم في الدنيا، فقد رجع هذا الآخر المفصل إلى السعادة والشقاوة على أولها المؤذن بأن الإنسان معتنى به غاية الاعتناء، وأنه ما خلق إلا للابتلاء، فهو إما كافر مغضوب عليه، وإما شاكر منظور بعين الرضى إليه - فسبحان من خلقنا ويميتنا ويحيينا بقدرته والله الهادي.
163
سورة المرسلات
وتسمى العرف.
مقصودها الدلالة على آخر الإنسان من إثابة الشاكرين بالنعيم، وإصابة الكافرين بعذاب الجحيم، في يوم الفصل بعد جمع الأجساد وإحياء العباد بعد طي هذا الوجود وتغيير العالم المعهود بما له سبحانه من القدرة على إنبات النبات وإنشاء الأقوات وإنزال العلوم وإيساع الفهوم لأحياء الأرواح وإسعاد الأشباح بأسباب خفية وعلل مرئية وغير مرئية، وتطوير الإنسان في أطوار الأسنان، وإيداع الإيمان فيما يرضى من الأبدان، وإيجاد الكفران في أهل الخيبة والخسران، مع اشتراك الكل في أساليب هذا القرآن، الذي عجز الإنس والجان، عن الإتيان بمثل آية منه على كثرتهم وتطاول الزمان، واسمها المرسلات وكذا العرف واضح الدلالة على ذلك لمن تدبر الأقسام، وتذكر ما دلت عليه من معاني الكلام) بسم الله (الذي له القدرة التامة على ما يريد) الرحمن (الذي له عموم الإنعام على سائر العبيد) الرحيم (الذي خص أهل رضوانه بإتمام ذلك الإنعام وعنده المزيد.
164
Icon