تفسير سورة الإنسان

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الدهر
وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلا قوله تعالى فاصبر لحكم ربك إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح.

سورة الإنسان
وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلّا من قوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان: ٢٤] إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أصله على ما قيل أهل على أن الاستفهام للتقرير أي الجمل على الإقرار بما دخلت عليه والمقرر به من ينكر البعث وقد علم أنهم يقولون نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك فيقال فالذي أوجده بعد إن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته وهَلْ بمعنى قد وهي للتقريب أي تقريب الماضي من الحال فلما سدت هَلْ مسد الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معا ثم صارت حقيقة في ذلك فهي للتقرير والتقريب واستدل على ذلك الأصل بقول زيد الخيل:
166
سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
وقيل هي للاستفهام ولا تقريب وجمعها مع الهمزة في البيت للتأكيد كما في قوله:
ولا للملبهم أبدا دواء بل التأكيد هنا أقرب لعدم الاتحاد لفظا على أن السيرافي قال: الرواية الصحيحة أم هل رأونا على أن أم منقطعة بمعنى بل وقال السيوطي في شرح شواهد المغني الذي رأيته في نسخة قديمة من ديوان زيد فهل رأونا بالفاء وعن ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى قد وفسرها بها جماعة من النحاة كالكسائي وسيبويه والمبرد والفراء وحملت على معنى التقريب، ومن الناس من حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة: مجازها قد أتى على الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي للاستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد من فسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر لا أنها بمعنى قد حقيقة وفي المغني ما تفيدك مراجعته بصيرة فراجعه والمراد بالإنسان الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس، والحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل والدَّهْرِ الزمان الممتد الغير المحدود ويقع على مدة العالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي وتوقف الإمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكر أي في المراد به عرفا في الإيمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال: والله لا أكلمه دهرا والمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه والمنكر عندهما كالحين وهو معرفا ومنكرا كالزمان ستة أشهر إن لم تكن نية أيضا وبها ما نوي على الصحيح وما اشتهر من حكاية اختلاف فتاوى الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام مستدلا كل بدليل.
وقوله صلّى الله عليه وسلم بعد الرفع إليه: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»
إلّا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم وليلة لما فيه من التيسير لا يصح كما لا يخفى على الناقد البصير ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة والمعنى هنا قد أتى أو هَلْ أَتى عَلَى جنس الْإِنْسانِ قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً بلى كان شيئا غير مذكور بالإنسانية أصلا أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معدوم لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنسانا ولا يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو المتوسطة وهي الأغذية أو القريبة وهي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة من العناصر وجملة لَمْ يَكُنْ إلخ حال من الإنسان أي غير مذكور وجوز أن تكون صفة لحين بحذف العائد عليه أي لم يكن فيه شيئا مذكورا كما في قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: ١٢٣] وإطلاق الْإِنْسانِ على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلا منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأيد الأول بقوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فإن الإنسان فيه معرفة معادة فلا يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموما وخصوصا فاتت الملايمة ولا شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا ولا وجه له ولا نقض به على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص. نعم دل قوله سبحانه مِنْ نُطْفَةٍ على أن المراد غيره أو هو تغليب وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازا في الإسناد أو الطرف ورويت إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبي وابن عباس أيضا وقال في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة
167
والطائف. وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سنة ثم من صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح. وحكى الماوردي عنه أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وروي نحوه عن عكرمة فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه قال إن من الحين حينا لا يدرك وتلا الآية فقال: والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه الله تعالى. ورأيت لبعض المتصوفة أن هل للاستفهام الإنكاري فهو في معنى النفي أي ما أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وظاهره القول بقدم الإنسان في الزمان على معنى أنه لم يكن زمان إلّا وفيه إنسان وهو القدم النوعي كما قال به من قال من الفلاسفة وهو كفر بالإجماع ووجه بأنهم عنوا شيئية الثبوت لقدم الإنسان عندهم بذلك الاعتبار دون شيئية الوجود ضرورة أنه بالنسبة إليها حادث زمانا ويرشد إلى هذا قول الشيخ محيي الدين في الباب ٣٥٨ من الفتوحات المكية لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله سبحانه:
«كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني»
فجعل نفسه كنزا والكنز لا يكون إلّا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلّا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ولا يخفى أن الأشياء كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده، ولعلهم يقولون الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: ١٢] والكلام في هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيد أنّا نقول كون هَلْ هنا للإنكار منكر وأن دعوى صحة ذلك لإحدى الكبر والذي فهمه أجلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الإخبار الإيجابي. أخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يقرأ «هل أتى على الإنسان شيء من الدهر لم يكن شيئا مذكورا» فقال ليتها تمت. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوقب في قوله هذا فأخذ عمودا من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا أَمْشاجٍ جمع مشج بفتحتين كسبب وأسباب، أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف، أو مشيج كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط ممتزج، يقال: مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج، وهو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن المراد بها مجموع ماء الرجل والمرأة والجمع قد يقال على ما فوق الواحد أو باعتبار الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظا وصفرة وبياضا وطبيعة وقوة وضعفا حتى اختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى بحكمته فخلقه بقدرته. وفي بعض الآثار أن ما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة، والحاصل أنه نزل الموصوف منزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه وقيل هو مفرد جاء على أفعال كأعشار وأكياش في قولهم برمة أعشار أي متكسرة وبرد أكيش أي مغزول غزله مرتين. واختاره الزمخشري والمشهور عن نص سيبويه وجمهور النحاة أن أفعالا لا يكون جمعا وحكي عنه أنه ذهب إلى ذلك في العام ومعنى نطفة مختلطة عند الأكثرين نطفة اختلط وامتزج فيها الماءان، وقيل: اختلط فيها الدم والبلغم والصفراء والسوداء وقيل الأمشاج نفس الأخلاط التي هي عبارة عن هذه الأربعة فكأنه قيل من نطفة هي عبارة عن أخلاط أربعة. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال: أمشاج أي ألوان أي ذات ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا ومكثا في قعر الرحم اخضرّا كما يخضر الماء بالمكث، وروي عن الكلبي وأخرج عن زيد بن أسلم أنه قال: الأمشاج العروق التي في النطفة، وروي
168
ذلك عن ابن مسعود أي ذات عروق، وروي عن عكرمة وكذا ابن عباس أنه قال «أمشاج» أطوار أي ذات أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة وهكذا إلى تمام الخلقة ونفخ الروح وقوله تعالى نَبْتَلِيهِ حال من فاعل خلقنا والمراد مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد على أن الحال مقدرة أو ناقلين له من حال إلى حال ومن طور إلى طور على طريقة الاستعارة لأن المنقول يظهر في كل طهور ظهورا آخر كظهور نتيجة الابتلاء والامتحان بعده. وروي نحوه عن ابن عباس وعلى الوجهين ينحل ما قيل إن الابتلاء بالتكليف وهو يكون بعد جعله سَمِيعاً بَصِيراً لا قبل فكيف يترتب عليه قوله سبحانه فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً وقيل الكلام على التقديم والتأخير والجملة استئناف تعليلي أي فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه وحكي ذلك عن الفراء وعسف لأن التقديم لا يقع في حاق موقعه لا لفظا لأجل الفاء ولا معنى لأنه لا يتجه السؤال قبل الجعل والأوجه الأول، وهذا الجعل كالمسبب عن الابتلاء لأن المقصود من جعله كذلك أن ينظر الآيات الآفاقية والأنفسية ويسمع الأدلة السمعية فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء ورتب عليه قوله تعالى إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ لأنه جملة مستأنفة تعليلية في معنى لأنا هديناه أي دللناه على ما يوصله من الدلائل السمعية كالآيات التنزيلية والعقلية كالآيات الأفاقية والأنفسية وهو إنما
يكون بعد التكليف والابتلاء إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالان من مفعول هدينا وإما للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات أي هديناه ودللناه على ما يوصل إلى البغية في حالتيه جميعا من الشكر والكفر أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والصفات أي هديناه السبيل مقسوما إليها بعضهم شاكر بالاهتداء للحق وطريقه بالأخذ فيه وبعضهم كفور بالأعراض عنه وحاصله دللناه على الهداية والإسلام فمنهم مهتد مسلم ومنهم ضال كافر وقيل حالان من السبيل أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا على وصف السبيل بوصف سالكه مجازا والمراد به لا يخفى وعن السدي أن السبيل هنا سبيل الخروج من الرحم وليس بشيء أصلا وقرأ أبو السمال وأبو العاج (١) أما بفتح الهمزة في الموضعين وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب وهي التي عدها بعض الناس على ما قال أبو حيان في حروف العطف وأنشدوا:
تلقحها إما شمال عرية وإما صبا جنح العشي هبوب
وجعلها الزمخشري أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط على معنى إِمَّا شاكِراً فبتوفيقنا وَإِمَّا كَفُوراً فبسوء اختياره وهذا التقدير إبراز منه للمذهب قيل ولا عليه أن يجعله من باب يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: ٢٦] كأنه قيل إِمَّا شاكِراً فبهدايتنا أي دعائنا أو أقدارنا على ما فسر به الهداية وَإِمَّا كَفُوراً فبها أيضا لاختلاف وجه الدعاء لأن الهداية هاهنا ليست في مقابلة الضلال وهذا جار على المذهبين وسالم عن حذف ما لا دليل عليه، وجوز في الانتصاف أن يكون التقدير إِمَّا شاكِراً فمثاب وَإِمَّا كَفُوراً فمعاقب وإيراد الكفور بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما، وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط إِنَّا أَعْتَدْنا هيأنا لِلْكافِرِينَ من أفراد الإنسان الذي هديناه السبيل سَلاسِلَ بها يقادون وَأَغْلالًا بها يقيدون وَسَعِيراً بها يحرقون وتقديم وعيدهم مع تأخرهم للجمع بينهما في الذكر كما في قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: ١٠٦] الآية ولأن الإنذار أنسب بالمقام وحقيق بالاهتمام ولأن تصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن وصفهم تفصيلا ربما يخل تقديمه بتجارب أطراف النظم الكريم. وقرأ نافع
(١) قوله وأبو العاج وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك.
169
والكسائي وأبو بكر والأعمش «سلاسلا» بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة منه وقفا وقال الزمخشري وفيه وجهان أحدهما أن تكون هذه النون بدلا عن حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف. والثاني أن يكون صاحب القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف. وفي الأول أن الإبدال من حروف الإطلاق في غير الشعر قليل كيف وضم إليه إجراء للوصل مجرى الوقف. وفي الثاني تجويز القراءة بالتشهي دون سداد وجهها في العربية والوجه أنه لقصد الازدواج والمشاكلة فقد جوزوا لذلك صرف ما لا ينصرف لا سيما الجمع فإنه سبب ضعيف لشبهه بالمفرد في جمعه كصواحبات يوسف ونواكسي الأبصار ولهذا جوز بعضهم صرفه مطلقا كما قيل.
والصرف في الجمع أتى كثيرا حتى ادعى قوم به التخييرا
وحكى الأخفش عن قوم من العرب أن لغتهم صرف كل ما لا ينصرف إلّا أفعل من وصرف «سلاسلا» ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة وفي مصحف أبيّ وعبد الله بن مسعود وروى هشام عن ابن عامر «سلاسل» في الوصل وسلاسلا بألف دون تنوين في الوقف إِنَّ الْأَبْرارَ شروع في بيان حسن حال الشاكرين إثر بيان حال سوء الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية مع تجديد صفة مدح لهم والأبرار جمع بر كربّ وأرباب أو بار كشاهد وأشهاد بناء على أن فاعلا يجمع على أفعال والبر المطيع المتوسع في فعل الخير وقيل من يؤدي حق الله تعالى ويوفي بالنذر وعن الحسن هو الذي لا يؤذي الذر ولا يرضى الشر يَشْرَبُونَ في الآخرة مِنْ كَأْسٍ هي كما قال الزجاج الإناء إذا كان فيه الشراب فإذا لم يكن لم يسم كأسا وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا والمشهور أنها تطلق حقيقة على الزجاجة إذا كانت فيها خمر ومجازا على الخمر بعلاقة المجاورة والمراد بها هاهنا قيل الخمر فمن تبعيضية أو بيانية وقيل الزجاجة التي فيها الخمر ف مِنْ ابتدائية وقوله تعالى كانَ مِزاجُها كافُوراً أظهر ملاءمة للأول والظاهر أن هذا على منوال كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: ١٧ وغيرها] والمجيء بالفعل للتحقيق الدوام، وقيل كانَ تامة من قوله تعالى كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: ١١٧ وغيرها] والمزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به فهو اسم آلة، وكافور على ما قال الكلبي علم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور وعرفه وبرده وصرف لتوافق الآي والكلام على حذف مضاف أي ماء كافور والجملة صفة كَأْسٍ وهذا القول خلاف الظاهر ولعله إن لم يصح فيه خبر لا يقبل. وقرأ عبد الله «قافورا» بالقاف بدل الكاف وهما كثيرا ما يتعاقبان في الكلمة كقولهم عربي قح وكح وقوله تعالى عَيْناً بدل من كافور وقال قتادة يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك وذلك لبرودة الكافور وبياضه وطيب رائحته، فالكافور بمعناه المعروف وقيل إن خمر الجنة قد أودعها الله تعالى إذ خلقها أوصاف الكافور الممدوحة فكونه مزاجا مجاز في الإنصاف بذلك فعينا على هذين القولين بدل من محل كَأْسٍ على تقدير مضاف أي يشربون خمرا خمر عين أو نصب على الاختصاص بإضمار أعني أو أخص كما قال المبرد وقيل على الحال من ضمير مِزاجُها وقيل من كَأْسٍ وساغ لوصفه وأريد بذلك وصفها بالكثرة والصفاء وقيل منصوب بفعل يفسره ما بعد أعني قوله تعالى يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ على تقدير مضاف أيضا أي يشربون ماء عين يشرب بها إلخ. وتعقب بأن الجملة صفة عَيْناً فلا يعمل فعلها بها وما لا يعمل لا يفسر عاملا وأجيب بمنع كونها صفة على هذا الوجه والتركيب عليه نحو رجلا ضربته نعم هي صفة عين على غير هذا الوجه والباء للإلصاق، وليست للتعدية وهي متعلقة معنى بمحذوف أي يشرب الخمر ممزوجة بها أي بالعين عِبادُ اللَّهِ
170
وهو كما تقول شربت الماء بالعسل هذا إذا جعل كافور علم عين في الجنة وأما على القولين الآخرين فقيل وجه الباء أن يجعل الكلام من باب:
يجرح في عراقيبها نصلي لإفادة المبالغة. وقيل: الباء للتعدية وضمن يَشْرَبُ معنى يروى فعدي بها وقيل هي بمعنى من، وقيل: هي زائدة والمعنى يشربها كما في قول الهزلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لحج خضر لهن نئيج
ويعضد هذا قراءة ابن أبي عبلة «يشربها» وقيل ضمير بِها للكأس، والمعنى يشربون العين بتلك الكأس وعليه يجوز أن يكون عَيْناً مفعولا ليشرب مهدما عليه وعِبادُ اللَّهِ المؤمنون أهل الجنة يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً صفة أخرى لعينا أي يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم إجراء سهلا لا يمتنع عليهم على أن التنكير للتنويع. أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن شوزب أنه قال: معهم قضبان ذهب يفجرون بها فيتبع الماء قضبانهم. وفي بعض الآثار أن هذه العين في دار رسول الله صلّى الله عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين يُوفُونَ بِالنَّذْرِ استئناف مسوق لبيان ما لأجله يرزقون هذا النعيم مشتمل على نوع تفصيل لما ينبىء عنه اسم الأبرار إجمالا كأنه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك المرتبة العالية؟ فقيل: يوفون إلخ، وأفيد أنه استئناف للبيان ومع ذلك عدل عن أوفوا إلى المضارع للإستحضار والدلالة على الاستمرار والوفاء بالنذر كناية عن أداء الواجبات كلها العلم ما عداه بالطريق الأولى وإشارة النص فإن من أوفى بما أوجبه على نفسه كان إيفاء ما أوجبه الله تعالى عليه أهم له وأحرى، وجعل ذلك كناية هو الذي يقتضيه ما روي عن قتادة وعن عكرمة ومجاهد إبقاؤه على الظاهر قالا: أي إذا نذروا طاعة فعلوها وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ عذابه مُسْتَطِيراً فاشيا منتشرا في الأقطار غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وللطلب أيضا دلالة على ذلك لأن ما يطلب من شأنه أن يبالغ فيه. وفي وصفهم بذلك إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي كائنين على حب الطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه فهو من باب التتميم ويجاوبه من القرآن قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: ٩٢] وروي عن ابن عباس ومجاهد أو على حب الإطعام بأن يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف، وإليه ذهب الحسن بن الفضل وهو حسن أو كائنين على حب الله تعالى أو إطعاما كائنا على حبه تعالى ولوجهه سبحانه وابتغاء مرضاته عز وجل وإليه ذهب الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني. ف عَلى حُبِّهِ من باب التكميل وزيفه بعضهم وقال الأول هو الوجه ويجاوبه القرآن على أن في قوله تعالى لوجه الله بعد غنية عن قوله سبحانه لوجه الله وفيه نظر بل لعله الأنسب لذاك، وذكر الطعام مع أن الإطعام يغني عنه لتعيين مرجع الضمير على الأول، ولأن الطعام كالعلم فيما فيه قوام البدن واستقامة البنية وبقاء النفس ففي التصريح به تأكيد لفخامة فعلهم على الأخيرين ويجوز أن يعتبر على الأول أيضا ثم الظاهر أن المراد بإطعام الطعام حقيقته. وقيل هو كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه فكأنه ينفعون بوجوه المنافع مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً قيل أي أسير كان،
فعن الحسن أنه صلّى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: «أحسن إليه» فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه
وقال قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.
171
وأخرج ابن عساكر عن مجاهد أنه قال: لما صدر النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالأسارى من بدر أنفق سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن وسعد وأبو عبيدة بن الجراح على أسارى مشركي بدر، فقالت الأنصار:
قتلناهم في الله وفي رسوله صلّى الله عليه وسلم وتعينونهم بالنفقة؟ فأنزل الله تعالى فيهم تسعة عشرة آية إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ- إلى قوله تعالى- عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا
[الإنسان: ٥- ١٨] ففيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من أهل الشرك حسن ويرجى ثوابه، والخبر الأول قال ابن حجر لم يذكره من يعتمد عليه من أهل الحديث.
وقال ابن العراقي: لم أقف عليه، والخبر الثاني لم أره لفرد غير ابن عساكر ولا وثوق لي بصحته وهو يقتضي مدنية هذه الآيات وقد علمت الخلاف في ذلك نعم عند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وقال ابن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. قال الطيبي هذا إنما يستقيم إذا اتفق الإطعام في دار الحرب من المسلم لأسير في أيديهم. وقيل هو الأسير المسلم ترك في بلاد الكفار رهينة وخرج لطلب الفداء. وروى محيي السنة عن مجاهد وابن جبير وعطاء أنهم قالوا: هو المسجون من أهل القبلة وفيه دليل على أن إطعام أهل المحبوس المسلمين حسن، وقد يقال: لا يحسن إطعام المحبوس لوفاء دين يقدر على وفائه إنما امتنع عنه تعنتا ولغرض من الأغراض النفسانية. وعن أبي سعيد الخدري هو المملوك والمسجون وتسمية المسجون أسيرا مجاز لمنعه عن الخروج، وأما تسمية المملوك فمجاز أيضا لكن قيل باعتبار ما كان وقيل باعتبار شبهه به في تقييده بأسار الأمر وعدم تمكنه من فعل ما يهوى وعد الغريم أسيرا
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك»
وهو على التشبيه البليغ إلّا أنه قيل في هذا الخبر ما قيل في الخبر الأول وقال أبو حمزة اليماني: هي الزوجة وضعّفه هاهنا ظاهر إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ على إرادة قول هو في موضع الحال من فاعل يُطْعِمُونَ أي قائلين ذلك بلسان الحال لما يظهر عليهم من إمارات الإخلاص وعن مجاهد إما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى سبحانه به عليهم ليرغب فيه راغب أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المن المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر وعن الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى لها ثواب الصدقة خالصا عند الله عز وجل. وجوز أن يكون قولهم هذا لهم لطفا وتفقيها وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله تعالى وليس بذاك وقوله سبحانه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً بالأفعال وَلا شُكُوراً ولا شكرا وثناء بالأقوال تقرير وتأكيد لما قبله إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي عذاب يوم فهو على تقدير مضاف أو أن خوفه كناية عن خوف ما فيه عَبُوساً تعبس فيه الوجوه على أنه من الإسناد المجازي كما في نهاره صائم فقد روي عن ابن عباس أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران أو يشبه الأسد العبوس على أنه من الاستعارة المكنية التخييلية لكن لا يخفى أن العبوس ليس من لوازم الأسد وإنما اشتهر وصفه به ففي التخييلية ضعف ما وقيل إنه من التشبيه البليغ قَمْطَرِيراً شديد العبوس ويقال شديدا صعبا كأنه التف شره ببعضه وقيل طويلا وهو رواية عن ابن عباس وجاء قماطر وأنشدوا لأسد بن ناغصة:
واصطليت الحروب في كل يوم باسل الشر فمطرير الصباح
172
وقول آخر:
وإلى الأول ذهب الزجاج فقال: القمطرير الذي يعبس حتى يجتمع ما بين عينيه، ويقال: اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وزمت بأنفها وجمعت قطريها أي جانبيها كأنها تفعل ذلك إذا لحقت كبرا. وقيل: لتضع حملها فاشتقاقه عنده على ما قيل من قطر بالاشتقاق الكبير والميم زائدة وهذا لا يلزم الزجاج فيجوز أن يكون مشتقا كذلك من القمط، ويقال: قمطه إذا شده وجمع أطرافه وفي البحر يقال: اقمطر فهو مقمطر وقمطرير وقماطر إذا صعب واشتد واختلف في هذا الوزن وأكثر النحاة لا يثبتون افمعل في أوزان الأفعال وهذه الجملة جوز أن تكون علة لإحسانهم وفعلهم المذكور كأنه قيل نفعل بكم ما نفعل لأنّا نخاف يوما صفته كيت وكيت، فنحن نرجو بذلك أن يقينا ربنا جل وعلا شره، وأن تكون علة لعدم إرادة الجزاء والشكور أي إنّا لا تريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدفة وإلى الوجهين أشار في الكشاف وقال في الكشف: الثاني أوجه ليبقى قوله لوجه الله خالصا غير مشوب بحظ النفس من جلب نفع أو دفع ضر ولو جعل علة للإطعام المعلل على المعنى إنما خصصنا الإحسان لوجهه تعالى لأنّا نخاف يوم جزائه ومن خافه لازم الإخلاص لكان وجها فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ بسبب خوفهم وتحفظهم عنه. وقرأ أبو جعفر «فوقّاهم» بشد القاف وهو أوفق بقوله تعالى وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً أي أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا بصبرهم على مشاق الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال مأكلا وملبسا جَنَّةً بستانا عظيما يأكلون منه ما شاؤوا وَحَرِيراً يلبسونه ويتزينون به
ومن رواية عطاء عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما جدهما محمد صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعادهما من عادهما من الصحابة فقالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام شكرا فألبس الله تعالى الغلامين ثوب العافية. وليس عند آل محمد قليل ولا كثير فانطلق علي كرم الله تعالى وجهه إلى شمعون اليهودي الخيبري فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها فقامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف بالباب سائل فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا شيئا إلّا الماء وأصبحوا صياما، ثم قامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى صاع آخر فطحنته وخبزته وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف يتيم بالباب، وقال:
السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، يتيم من أولاد المهاجرين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة، فآثروه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح وأصبحوا صياما فلما كان يوم الثالث قامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى الصاع الثالث وطحنته وخبزته وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب فأتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف أسير بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنا أسير محمد عليه الصلاة والسلام أطعموني أطعمكم الله، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّا الماء القراح. فلما أصبحوا أخذ علي كرم الله تعالى وجهه الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورآهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: «يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم» وقام فانطلق معهم إلى فاطمة رضي الله
173
تعالى عنها فرآها في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع فرق لذلك صلّى الله عليه وسلم وساءه ذلك فهبط جبريل عليه السلام فقال: خذها يا محمد هنّاك الله تعالى في أهل بيتك قال: «وما آخذ يا جبريل» فاقرأه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ
السورة
وفي رواية ابن مهران فوثب النبي صلّى الله عليه وسلم حتى دخل على فاطمة فأكب عليها يبكي فهبط جبريل عليه السلام بهذه الآية إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ
إلى آخره وفي رواية عن عطاء أن الشعير كان عن أجرة سقي نخل وأنه جعل في كل يوم ثلث منه عصيدة فآثروا بها
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في قوله سبحانه وَيُطْعِمُونَ إلخ نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليهم وسلم
ولم يذكر القصة والخبر مشهور بين الناس وذكره الواحدي في كتاب البسيط وعليه قول بعض الشيعة:
إلا إلام وحتى متى... أعاتب في حب هذا الفتى
وهل زوجت غيره فاطم... وفي غيره هل أتى هل أتى
وتعقب بأنه خبر موضوع مفتعل كما ذكره الترمذي وابن الجوزي وآثار الوضع ظاهرة عليه لفظا ومعنى، ثم إنه يقتضي أن تكون السورة مدنية لأن بناء علي كرم الله تعالى وجهه على فاطمة رضي الله تعالى عنها كان بالمدينة وهي عند ابن عباس المروي هو عنه على ما أخرج النحاس مكية وكذا عند الجمهور في قول. وأقول أمر مكيتها ومدنيتها مختلف فيه جدا كما سمعت فلا جزم فيه بشيء وابن الجوزي نقل الخبر في تبصرته ولم يتعقبه على أنه ممن يتساهل في أمر الوضع حتى قالوا إنه لا يعول عليه في هذا الباب فاحتمال أصل النزول في الأمير كرم الله تعالى وجهه وفاطمة رضي الله تعالى عنها قائم ولا جزم بنفي ولا إثبات لتعارض الأخبار ولا يكاد يسلم المرجح عن قيل وقال، نعم لعله يترجح عدم وقوع الكيفية التي تضمنتها الرواية الأولى، ثم إنه على القول بنزولها فيهما لا يتخصص حكمها بهما بل يشمل كل من فعل مثل ذلك كما ذكره الطبرسي من الشيعة في مجمع البيان راويا له عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وعلى القول بعدم النزول فيهما لا يتطامن مقامهما ولا ينقص قدرهما إذ دخولهما في الأبرار أمر جلي بل هو دخول أولى فهما هما وماذا عسى يقول امرؤ فيهما سوى أن عليا مولى المؤمنين ووصي النبي وفاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي وأما الحسنان فالروح والريحان وسيدا شباب الجنان وليس هذا من الرفض بشيء بل ما سواه عندي هو الغيّ:
أنا عبد الحق لا عبد الهوى... لعن الله الهوى فيمن لعن
ومن اللطائف على القول بنزولها فيهم أنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين وإنما صرح عز وجل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول وقرة عين الرسول لئلا تثور غيرتها الطبيعية إذا أحست بضرة وهي في أفواه تخيلات الطباع البشرية ولو في الجنة مرة. ولا يخفى عليك أن هذا زهرة ربيع ولا تتحمل الفرك ثم التذكير على ذلك أيضا من باب التغليب.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «جازاهم»
على وزن فاعل مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ حال من (هم) في جَزاهُمْ والعامل جزى وخص الجزاء بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم ولا يضر في ذلك قوله تعالى بِما صَبَرُوا لأن الصبر في الدنيا وما تسبب عليه في الآخرة وقيل صفة الجنة ولم يبرز الضمير مع أن الصفة جارية على غير من هي عليه فلم يقل متكئين هم فيها لعدم الإلباس كما في قوله:
قومي ذري المجد بانوها وقد علمت... بكنه ذلك عدنان وقحطان
174
وأنت تعلم هذا رأي الكوفية ومذهب البصرية وجوب إبراز الضمير في ذلك مطلقا وفي البيت كلام وقيل يجوز كونه حالا مقدرة من ضمير صَبَرُوا وليس بذاك والْأَرائِكِ جمع أريكة وهي السرير في الحجلة من دونه ستر ولا يسمى مفردا أريكة وقيل هو كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة وكان تسميته بذلك لكونه مكانا للإقامة أخذا من قولهم أرك بالمكان أروكا أقام، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك الشجر المعروف ثم استعمل في غيره من الإقامات وقوله تعالى لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً إما حال ثانية من الضمير أو حال من المستكن في مُتَّكِئِينَ وجوز فيه كونه صفة لجنة أيضا والمراد من ذلك أن هواءها معتدل لا حر شمس يحمي ولا شدة برد يؤذي. وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر» فقصد بنفي الشمس نفيها ونفي لازمها معا لقوله سبحانه وَلا زَمْهَرِيراً فكأنه قيل لا يرون فيها حرا ولا قرا.
وقيل الزمهرير القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيىء وأنشد:
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر
وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر
وليس هذا لأن طبيعته باردة كما قيل لأنه في حيز المنع بل قيل إنه برهن على أن الأنوار كلها حارة فيحتمل أن ذلك للمعانه أخذا له من ازمهر الكوكب لمع، والمعنى على هذا القول أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس ولا قمر. وفي الحديث: إن الجنة لا خطر بها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد الحديث ثم إنها مع هذا قد يظهر فيها نور أقوى من نورها كما تشهد به الأخبار الصحيحة. وفي بعض الآثار عن ابن عباس بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوءا كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنة: يا رضوان ما هذا وقد قال ربنا لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً فيقول لهم رضوان: ليس هذا بشمس ولا قمر ولكن علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما ضحكا فأشرقت الجنان من نور ثغريهما.
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها عطف على الجملة وحالها حالها أو صفة لمحذوف معطوف على جنة فيما سبق أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها على أنهم وعدوا جنتين كما في قوله تعالى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ
175
جَنَّتانِ
[الرحمن: ٤٦] وقرأ أبو حيوة «دانية» بالرفع وخرج على أن دانية خبر مقدم لظلالها والجملة في حيز الحال على أن الواو عاطفة أو حالية أو في حيز الصفة على أن الواو عاطفة أيضا أو للإلصاق على ما يراه الزمخشري. وقال الأخفش «ظلالها» مرفوع بدانية على الفاعلية واستدل بذلك على جواز عمل اسم الفاعل من غير اعتماد نحو قائم الزيدون وقد علمت أنه لا يصلح للاستدلال لقيام ذلك الاحتمال على أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ مقدر فيعتمد أي وهي دانية عليهم ظلالها. وقرأ أبيّ «ودان» كقاض ولا يتم الاستدلال به للأخفش أيضا وإن كان بينه وبين ما تقدم فرق ما. وقرأ الأعمش «ودانيا عليهم» نحو خاشعا أبصارهم والمراد أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي سخرت ثمارها لمتناولها وسهل أخذها من الذل وهو ضد الصعوبة. قال قتادة ومجاهد وسفيان: إن كان الإنسان قائما تناول الثمر دون كلفة، وإن كان قاعدا أو مضطجعا فكذلك فهذا تذليلها لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك، والجملة حال من ضمير دانِيَةً أي تدنو ظلالها عليهم مذللة لهم قطوفها أو معطوفة على ما قبلها وهي فعلية معطوفة على اسمية في قراءة «دانية» بالرفع ونكتة التخالف أن استدامة الظل مطلوبة هنالك والتجدد في تذليل القطوف على حسب الحاجة وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ جمع إناء ككساء وأكسية، وهو ما يوضع فيه الشيء والأواني جمع الجمع مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب وهو قدح لا عروة له كما قال الراغب وفي القاموس: كوز لا عروة له أو لا خرطوم له، وقيل: الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة كانَتْ أي تلك الأكواب قَوارِيرَا جمع قارورة وهي إناء رقيق من الزجاج يوضع فيه الأشربة ونصبه على الحال فإن كان تامة وهو كما تقول خلقت قوارير وقوله تعالى قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ بدل والكلام على التشبيه البليغ فالمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ولين الفضة وبياضها. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة مع صفاء القوارير. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: ليس في الجنة شيء إلّا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلّا قوارير من فضة. وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر بتنوين «قوارير» في الموضعين وصلا وإبداله ألفا وقفا وابن كثير يمنع صرف الثاني ويصرف الأول لوقوعه في الفاصلة وآخر الآية، وقف عليه بألف مشاكلة لغيره من كلمات الفواصل والتنوين عند الزمخشري في الأول بدل من ألف الإطلاق كما في قوله:
يا صاح ما هاج العيون الذرفن وفي الثاني للاتباع فتذكر والقراءة بمنع صرفهما لحفص وابن عامر وحمزة وأبي عمرو وقرأ الأعمش الثاني «قوارير» بالرفع أي هي قوارير قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي قدروا تلك القوارير في أنفسهم فجاءت حسب ما قدروا لا مزيد على ذلك ولا يمكن أن يقع زيادة عليه، وفي معناه قول الطائي:
ولو صورت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطباع
فإنه ينبىء عن كون نفسه خلقت على أتمّ ما ينبغي من مكارم الصفات بحيث لا مزيد على ذلك فضمير قَدَّرُوها للأبرار المطاف عليهم أو قدروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب. قال ابن عباس: أتوا بها على الحاجة لا يفضلون شيئا ولا يشتهون بعدها شيئا وعن مجاهد تقديرها أنها ليست بالملأى التي تفيض ولا بالناقصة التي تغيض، فالضمير على ما هو الظاهر للسقاة الطائفين بها المدلول عليه بقوله تعالى يُطافُ عَلَيْهِمْ. وقد روى عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال قدرتها السقاة وقيل: المعنى قدروها
176
بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها والضمير على هذا قيل للملائكة وقيل للسقاة. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس والسلمي والشعبي وقتادة وزيد بن علي والجحدري والأصمعي عن أبي عمرو وابن عبد الخالق عن يعقوب وغيرهم «قدروها» على البناء للمفعول واختلف في تخريجها فقال أبو علي: كان اللفظ قدروا عليها، وفي المغني قلب لأن حقيقته أن يقال قدرت عليهم فهو نحو قوله تعالى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص: ٧٦] وقول العرب إذا طلعت الجوزاء ارتقى العود على الحرباء. وقال الزمخشري: وجه ذلك أن يكون من قدرت الشيء بالتخفيف أي بينت مقداره فنقل إلى التفعيل فتعدى لاثنين أحدهما الضمير النائب عن الفاعل، والثاني ها والمعنى جعلوا قادرين لها كما شاؤوا وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهّم ففسر بعضهم هذا بأن في الكلام حذفا وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها فحذف على فصار قدر نائب الفاعل ثم حذف فصار ريهم نائب الفاعل ثم حذف وصاروا والجمع نائب الفاعل واتصل المفعول الثاني بقدر فصار قدرها وقال أبو حيان الأقرب أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديرا فحذف المضاف وهو الري وأقيم الضمير مقامه فصار قدروا منها ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قَدَّرُوها فلم يكن فيه إلّا حذف مضاف واتساع في المجرور.
ولا يخفى أن القلب زيف وما قرره البعض تكلف جدا وفي كون ما اختاره أبو حيان أقرب مما اختاره جار الله نظر ولعله أكثر تكلفا منه. وقوله تعالى وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا يجري فيه معظم ما جرى في قوله تعالى يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً إلخ من الأوجه والزنجبيل قال الدينوري نبت في أرض عمان وهو عروق تسري في الأرض وليس بشجرة ومنه ما يحمل من بلاد الزنج والصين وهو الأجود وكانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيلتذون ولذا يذكرونه في وصف رضاب النساء قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبيل باتا بفيها وأريا مسورا
وقال عمرو المسيب بن علس:
وكان طعم الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر
وعده بعضهم في المعربات وكون الزنجبيل اسما لعين في الجنة مروي عن قتادة وقال: يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة، والظاهر أنهم تارة يشربون من كأس مزاجها كافور وتارة يسقون من كأس مزاجها زنجبيل، ولعل ذكر يُسْقَوْنَ هنا دون يَشْرَبُونَ لأنه الأنسب بما تقدمه من قوله تعالى وَيُطافُ عَلَيْهِمْ إلخ ويمكن أن يكون فيه رمز إلى أن هذه الكأس أعلى شأنا من الكأس الأولى. وعن الكلبي يسقى بجامين الأول مزاجه الكافور والثاني مزاجه الزنجبيل، والسلسبيل كالسلسل والسلسال قال الزجاج: ما كان من الشراب غاية في السلاسة وسهولة الانحدار في الحلق. وقال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلّا في القرآن وكأن العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها قال عكرمة: عين سلسل ماؤها، وقال مجاهد: حديدة الجري سلسلة سهلة المساغ، وقال مقاتل: عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاؤوا وهي على ما روي عن قتادة عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن تتسلسل إلى الجنان. وفي البحر الظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلا بمعنى توصف بأنها سلسة الانسياغ سهلة في المذاق ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية وقد روي عن طلحة
177
أنه قرأه بغير ألف جعله علما لها فإن كان علما فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسب للفواصل كما قيل في «سلاسلا» «وقواريرا» وزعم الزمخشري أن الباء زيدت فيه حتى صارت الكلمة خماسية، فإن عنى أنها زيدت حقيقة فليس بجيد لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسل ولا في سلسال صح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفا في المادة انتهى. وفي الكشف لا يريد الزيادة المصطلحة ألا ترى إلى قوله حتى صارت خماسية وهو أيضا من الاشتقاق الأكبر فلا تغفل. وقال بعض المعربين سَلْسَبِيلًا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها وعزوه إلى علي كرم الله تعالى وجهه وهو غير مستقيم بظاهره إلّا أن يراد أن جملة قول القائل سَلْسَبِيلًا جعلت اسما للعين كما قيل تأبط شرا وذرى حبا، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلّا من سال إليها سبيلا بالعمل الصالح وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع، وعزوه إلى مثل الأمير كرم الله تعالى وجهه أبدع ونص بعضهم على أنه افتراء عليه كرم الله تعالى وجهه وفي شعر ابن مطران الشاشي:
سلسبيلا فيها إلى راحة النفس... براح كأنها سلسبيل
وفيه الجناس الملفق واستعمله غير واحد من المحدثين وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي دائمون على ما هم فيه من الطراوة والبهاء وقيل مقرطون بخلدة وهي ضرب من القرطة
وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن أنس مرفوعا: «إنهم ألف خادم»
وفي بعض الآثار أضعاف ذلك:
والجود أعظم والمواهب أوسع ويختلف ذلك قلة وكثرة باختلاف أعمال المخدومين إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض، وقيل شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وعليه هو من تشبيه المفرد لأن الانبثاث غير ملحوظ والخطاب في رَأَيْتَهُمْ للنبي صلّى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه وكذا في قوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي هناك يعني في الجنة وهو في موضع النصب على الظرف، ورأيت منزل منزلة اللازم فيفيد العموم في المقام الخطابي فالمعنى أن بصرك أينما وقع في الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عظيم القدر لا تحيط به عبارة وهو يشمل المحسوس والمعقول. وقال عبد الله بن عمرو الكلبي: عريضا واسعا يبصر أدناهم منزلة في الجنة في ملك مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه وذلك لما يعطي من حدة النظر أو هو من خصائص الجنة.
وقال مجاهد: هو استئذان الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون عليهم إلّا بإذن. وقال الترمذي: وأظنه كما ظن أبو حيان الحكيم لا أبا عيسى المحدث صاحب الجامع هو ملك التكوين والمشيئة إذا أرادوا شيئا كان، وقيل هو النظر إلى الله عز وجل وقيل غير ذلك وقيل الملك الدائم الذي لا زوال له. وزعم الفراء أن المعنى وَإِذا رَأَيْتَ ما ثَمَّ رَأَيْتَ إلخ وخرج على أنه أراد أن ثَمَّ ظرف لمحذوف وقع صلة لموصول محذوف هو مفعول رَأَيْتَ والتقدير وَإِذا رَأَيْتَ ما ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً إلخ فحذف ما كما حذف في قوله تعالى لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: ٩٤] أي ما بينكم وتعقبه الزجاج ثم الزمخشري بأنه خطأ لأنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة وأنت تعلم أن الكوفيين يجيزون ذلك ومنه قوله:
فمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
178
أراد ومن يمدحه فحذف الموصول وأبقى صلته وقد يقال إن ذلك إنما يرد لو أراد أن الموصول مقدر أما لو أراد المعنى وأن الظرف يغني غناء المفعول به فهو كلام صحيح لأن الظرف والمرئي كليهما الجنة. وقرأ حميد الأعرج «ثمّ» بضم الثاء حرف عطف وجواب إِذا على هذا المحذوف يقدر بنحو تحيّر فكرك أو بنحو رأيت عاملا في نَعِيماً عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ قيل عالِيَهُمْ ظرف بمعنى فوقهم على أنه خبر مقدم وثِيابُ مبتدأ مؤخر والجملة حال من الضمير المجرور في عالِيَهُمْ فهي شرح لحال الأبرار المطوّف عليهم. وقال أبو حيان: إن عالي نفسه حال من ذلك الضمير وهو اسم فاعل وثِيابُ مرفوع على الفاعلية به ويحتاج في إثبات كونه ظرفا إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك ثوب مثلا ومثله فيما ذكر عالية. وقيل: حال من ضمير لقاهم أو من ضمير جزاهم وقيل من الضمير المستتر في مُتَّكِئِينَ والكل بعيد وجوز كون الحال من مضاف مقدر قبل نَعِيماً أو قبل مُلْكاً أي رأيت أهل نعيم أو أهل ملك عاليهم إلخ وهو تكلف غير محتاج إليه. وقيل: صاحب الحال الضمير المنصوب في حَسِبْتَهُمْ فهي شرح لحال الطائفين ولا يخفى بعده لما فيه من لزوم التفكيك ضرورة أن ضمير سَقاهُمْ فيما بعد كالمتعين عوده على الأبرار وكونه من التفكيك مع القرينة المعينة وهو مما لا بأس به ممنوع.
واعترض أيضا بأن مضمون الجملة يصير داخلا تحت الحسبان وكيف يكون ذلك وهم لابسون الثياب حقيقة بخلاف كونهم لؤلؤا فإنه على طريق التشبيه المقتضي لقرب شبههم باللؤلؤ أن يحسبوا لؤلؤا. وأجيب بأن الحسبان في حال من الأحوال لا يقتضي دخول الحال تحت الحسبان ورفع خُضْرٌ على أنه صفة ثِيابُ وإِسْتَبْرَقٌ على أنه عطف على ثِيابُ والمراد وثياب إستبرق. والسندس قال ثعلب: ما رق من الديباج، وقيل: ما رق من ثياب الحرير والفرق أن الديباج ضرب من الحرير المنسوج يتلون ألوانا. وقال الليث: هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز وهو معرب بلا خلاف بين أهل اللغة على ما في القاموس وغيره. وزعم بعض أنه مع كونه معربا أصله سندي بياء النسبة لأنه يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما قال في سادي سادس وهو كما ترى. والإستبرق قيل: ما غلظ من ثياب الحرير، وقال أبو إسحاق: الديباج الصفيق الغليظ الحسن، وقال ابن دريد: ثياب حرير نحو الديباج. وعن ابن عبادة هو بردة حمراء وقيل هو المنسوج من الذهب وهو اسم أعجمي معرب عند جمع أصله بالفارسية استبره، وفي القاموس معرب استروه وحكي ذلك عن ابن دريد وأنه قال: إنه سرياني وقيل معرب استفره وما في صورة الفاء ليست فاء خالصة وإنما هي بين الفاء والباء، وقيل: عربي وافقت لغة العرب فيه لغة غيرهم واستصوبه الأزهري وكما اختلفوا فيه هل هو معرب أو عربي اختلفوا هل هو نكرة أو علم جنس مبني أو معرب أو ممنوع من الصرف وهمزته همزة قطع أو وصل، والصحيح على ما قال الخفاجي أنه نكرة معرب مصروف مقطوع الهمزة كما يشهد به القراءة المتواترة، وسيعلم إن شاء الله تعالى حال ما يخالفها وفي جامع التعريب أن جمعه أبارق وتصغيره أبيرق حذفت السين والتاء في التكسير لأنهما زيدتا معا فأجري مجرى الزيادة الواحدة وفي المسألة خلاف أيضا مذكور في محله ولم يذكر لون هذا الإستبرق. وأشار ناصر الدين إلى أنه الخضرة ف خُضْرٌ وإن توسط بين المعطوف والمعطوف عليه فهو لهما وعلى كل حال هذه الثياب لباس لهم وربما تشعر الآية بأن تحتها ثيابا أخرى وقيل على وجه الحالية من ضمير مُتَّكِئِينَ أن المراد فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس إلخ. وحاصله أن حجالهم مكللة بالسندس والإستبرق. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة «عاليهم» بسكون الياء وكسر الهاء وهي رواية أبان عن عاصم فهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء على
179
أنه مبتدأ «وثياب» خبره وعند الأخفش فاعل سد مسد الخبر وقيل على أنه خبر مقدم «وثياب» مبتدأ مؤخر وأخبر به عن النكرة لأنه نكرة وإضافته لفظية وهو في معنى الجماعة كما في سامِراً تَهْجُرُونَ [المؤمنون:
٦٧] على ما صرح به مكي ولا حاجة إلى التزامه على رأي الأخفش. وقيل: هو باق على النصب والفتحة مقدرة على الياء وأنت تعلم أن مثله شاذ أو ضرورة فلا ينبغي أن يخرج عليه القراءة المتواترة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن علي «عاليتهم» بالياء والتاء مضمومة وعن الأعمش أيضا وأبان عن عاصم فتح التاء الفوقية وتخريجهما كتخريج «عاليهم» بالسكون والنصب. وقرأ ابن سيرين ومجاهد في رواية وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضا «عليهم» جارا ومجرورا فهو خبر مقدم وثِيابُ مبتدأ مؤخر. وقرأت عائشة «علتهم» بتاء التأنيث فعلا ماضيا «فثياب» فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة «ثياب سندس» بتنوين «ثياب» ورفع «سندس» على أنه وصف لها وهذا كما نقول ثوب حرير تريد من هذا الجنس. وقرأ العربيان ونافع في رواية «وإستبرق» بالجر عطفا على «سندس». وقرأ ابن كثير وأبو بكر بجر «خضر» صفة ل «سندس» وهو في معنى الجمع. وقد صرحوا بأن وصف اسم الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث بالجمع جائز فصيح وعليه يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرعد: ١٢] والنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: ١٠] وقد جاء «سندسة» في الواحدة كما قاله غير واحد وجوز كونه صفة لثياب وجره للجوار وفيه توافق القراءتين معنى إلّا أنه قليل. وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو بخلاف عنهما وحمزة والكسائي «خضر وإستبرق» بجرهما وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الألف وفتح القاف كما في عامة كتب القراءات ويفهم من الكشاف أنه قرأ بالقطع والفتح وأن غيره قرأ بما تقدم وهو خلاف المعروف، وخرج الفتح على المنع من الصرف للعلمية والعجمة وغلظ بأنه نكرة يدخله حرف التعريف فيقال: الإستبرق وقيل إن ذاك كذا والوصل مبني على أنه عربي مسمى باستفعل من البريق يقال برق وإستبرق كعجب واستعجب فهو في الأصل فعل ماض ثم جعل علما لهذا النوع من الثياب فمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل دون العجمة وتعقب بأن كونه معربا مما لا ينبغي أن ينكر.
وقيل هو مبني منقول من جملة فعل وضمير مستتر وحاله لا يخفى. واختار أبو حيان أن «إستبرق» على قراءة ابن محيصن فعل ماض من البريق كما سمعت وأنه باق على ذلك لم ينقل ولم يجعل علما للنوع المعروف من الثياب وفيه ضمير عائد على السندس أو على الأخضر الدال عليه خُضْرٌ كأنه لما وصف بالخضرة وهي مما يكون فيها لشدتها دهمة وغيش أخبر أن في ذلك اللون بريقا وحسنا يزيل غبشه فقيل وَإِسْتَبْرَقٌ أي برق ولمع لمعانا شديدا ثم قال معرضا بمن غلطه كأبي حاتم والزمخشري وهذا التخريج أولي من تلحين قارئ جليل مشهور بمعرفة العربية وتوهيم ضابط ثقة قد أخذ عن أكابر العلماء انتهى. وقيل: الجملة عليه معترضة أو حال بتقدير قد أو بدونه وَحُلُّوا أَساوِرَ جمع سوار وهو معروف وذكر الراغب أنه معرب دستواره مِنْ فِضَّةٍ هي فضة لائقة بتلك الدار، والظاهر أن هذا عطف على يَطُوفُ عَلَيْهِمْ واختلافهما بالمضي والمضارعة لأن الحالية مقدمة على الطواف المتجدد ولا ينافي ما هنا قوله تعالى أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ٢١ [الكهف:
٣١، الحج: ٢٣، فاطر: ٣٣] لإمكان الجمع بتعدد الأساور لكل والمعاقبة بلبس الذهب تارة الفضة أخرى، والتبعيض بأن يكون أساور بعض ذهبا وبعض فضة لاختلاف الأعمال. وقيل: هو حال من ضمير عالِيَهُمْ بإضمار قد أو بدونه فإن كان الضمير للطائفين على أن يكون عالِيَهُمْ حالا من ضمير حسبتهم جاز أن يقال الفضة للخدم والذهب للمخدومين. وجوز أن يكون المراد بالأساور الأنوار الفائضة على أهل الجنة المتفاوتة لتفاوت الأعمال تفاوت الذهب والفضة والتعبير عنها بأساور الأيدي لأنه جزاء ما عملته أيديهم، ولا يخفى أن
180
هذا مما لا يليق بالتفسير. وحري أن يكون من باب الإشارة ثم إن التحلية إن كانت للولدان فلا كلام ويكونون على القول الثاني في مُخَلَّدُونَ مسورين (مقرطين) وهو من الحسن بمكان وإن كانت لأهل الجنة المخدومين فقد استشكل بأنها لا تليق بالرجال وإنما تليق بالنساء والوالدان، وأجيب بأن ذلك مما يختلف باختلاف العادات والطبائع ونشأة الآخرة غير هذه النشأة ومن المشاهد في الدنيا أن بعض ملوكها يتحلون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي مما هو عند بعض الطباع أولى بالنساء وللصبيان ولا يرون ذلك بدعا ولا نقصا كل ذلك لمكان الإلف والعادة، فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة في الجنة الميل إلى الحلي مطلقا لا سيما وهم جرد مرد أبناء ثلاثين. وقيل إن الأساور إنما تكون لنساء أهل الجنة والصبيان فقط لكن غلب في اللفظ جانب التذكير وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً هو نوع آخر يفوق النوعين السابقين، وهما ما مزج بالكافور وما مزج بالزنجبيل كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين ووصفه بالطهورية. قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيطهر بذلك قلوبهم وبطونهم ويفيض عرقا من جلودهم مثل ريح المسك. وعن مقاتل هو ماء عين على باب الجنة من ساق شجرة من شرب منه نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسد وما كان في جوفه من قذر وأذى أي إن كان فالطهور عليهما بمعنى المطهر وقد تقدم في ذلك كلام فتذكر.
وقال غير واحد أريد أنه في غاية الطهارة لأنه ليس برجس كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس لأن الدار ليست دار تكليف أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة. ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك، وقيل: أريد بذاك الشراب الروحاني لا المحسوس وهو عبارة عن التجلي الرباني الذي يسكرهم عما سواه:
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ونور ولا نار وروح ولا جسم
ولعل كل ما ذكره ابن الفارض في خمريته التي لم يفرغ مثلها في كأس إشارة إلى هذا الشراب وإياه عنى بقوله:
سقوني وقالوا لا تغنّ ولو سقوا جبال حنين ما سقوني لغنت
ويحكى أنه سئل أبو يزيد عن هذه الآية فقال سقاهم شرابا طهرهم به عن محبة غيره ثم قال: إن الله تعالى شرابا ادخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم إياه فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتصلوا فهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: ٥٥] وحمل بعضهم جميع الأشربة على غير المتبادر منها، فقال: إن الأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة وعظمائهم عليهم السلام على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوي البدن، وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة فبعضها كافورية على طبع البرد واليبس ويكون صاحب ذلك في الدنيا في مقام الحزن والبكاء والانقباض، وبعضها يكون زنجبيليا على طبع الحر واليبس ويكون صاحبه قليل الالتفات إلى السوي قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات ثم لا يزال الروح البشري منتقلا من ينبوع إلى ينبوع ومن نور إلى نور ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله، فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة بل فنيت لأن نور ما سوى الله يضمحل في مقابلة نور جلال الله سبحانه وكبريائه وذلك آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء
181
والكمال، ولهذا ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار بقوله جل وعلا وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا الذي ذكر من فنون الكرامات الجليلة الشأن كانَ لَكُمْ جَزاءً بمقابلة أعمالكم الصالحة التي اقتضاها حسن استعدادكم واختياركم، والظاهر أن المجيء بالفعل للتحقيق والدوام وجوز أن يكون المراد كان في علمي وحكمي وكذا في قوله تعالى وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي مرضيا مقبولا أو مجازى عليه غير مضيع، والكلام على ما روي عن ابن عباس على إضمار القول أي ويقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم ما أعد لهم إن هذا إلخ والغرض أن يزداد سرورهم فإنه يقال للمعاقب هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وللمثاب هذا بطاعتك وعملك الحسن فيزداد سروره ويكون ذلك تهنئة له، وجوز أن يكون خطابا من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه بعد أن شرح ثواب أهل الجنة قال: إن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معشر عبادي وكان سعيكم مشكورا، وقيل: وهو لا يغني عن الإضمار ليرتبط بما قبله وقد ذكر سبحانه من الجزاء ما تهش له الألباب وأعقبه جل وعلا بما يدل على الرضا الذي هو أعلى وأغلى لدى الأحباب:
إذا كنت عني يا منى القلب راضيا أرى كل من في الكون لي يتبسم
وروي من طرق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة وقد أنزلت عليه وعنده رجل من الحبشة أسود، فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة خرجت نفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة».
ولما ذكر سبحانه أولا حال الإنسان وقسمه إلى الطائع والعاصي وأمعن جل شأنه فيما أعده للطائع مشيرا إلى عظم سعة الرحمة ذكر ما شرف به نبيه صلّى الله عليه وسلم إزالة لوحشته وتقوية لقلبه فقال عز قائلا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أي أنزلناه مفرقا منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة لحكم بالغة مقتضية له لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير مع أن سواء كان المنفصل تأكيدا أو فصلا أو مبتدأ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بتأخير نصرك على الكفار فإن له عاقبة حميدة وَلا تُطِعْ قلة صبر منك على أذاهم وضجرا من تأخر نصرك مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قيل إن أَوْ لأحد الشيئين في جميع مواقعها، ويعرض لها معان أخر كالشك والإباحة وغيرهما فيكون أصل المعنى هنا وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ أحد النوعين ولما كان أحد الأغلب عليه في غير الإثبات العموم واحتمال غيره احتمال مرجوح صار المعنى على النهي عن إطاعة هذا وهذا، ولم يؤت بالواو لاحتمال الكلام عليه النهي عن المجموع ويحصل امتثاله بالانتهاء عن واحد دون الآخر، فلا يرد أن لا تطلع أحد النوعين يحصل الامتثال به بترك إطاعة واحد من إطاعة الآخر إذ يقال لمن فعل ذلك إنه لم يطع أحدهما، ومن هنا قيل إن أَوْ في الإثبات تفيد أحد الأمرين، وفي النفي تفيد نفي كلا الأمرين جميعا، ولعل ما ذكر في معنى كلام ابن الحاجب حيث قال: إن وضع أَوْ لإثبات الحكم لأحد الأمرين إلّا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن أحد الأمرين غير حاجز عن الآخر مثل قولك جالس الحسن أو ابن سيرين سمي إباحة وإن حجر فهو لأحد الأمرين. واستشكل بعضهم وقوعها في النهي ك لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً إذا لو انتهى عن أحدهما لم يمتثل. ومن ثم حملها بعضهم يعني أبا عبيدة على أنها بمعنى الواو والأول أن تبقى على بابها وإنما جاء التعميم فيها من وراء ذلك وهو النهي الذي فيه معنى النفي لأن المعنى قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفورا أي واحدا منهما، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتا في المعنى فيصير المعنى ولا تطع واحدا منهما فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي وهي على بابها فيما ذكر لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر انتهى. وعليه ما قيل إن إفادة العموم في النفي والنهي الذي
182
في معناه لما أن تقيض الإيجاب الجزئي السلب الكلي. وقريب من ذلك قول الزجاج إن أَوْ هاهنا أوكد من الواو لأنك إذا قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص، فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل لأن يعصي ويعلم منه النهي عن إطاعتهما معا كما لا يخفى. وأفاد جار الله أن أَوْ باقية على حقيقتها وأن النهي عن إطاعتهما جميعا إنما جاء من دلالة النص وهي المسمى مفهوم الموافقة بقسميه الأولي والمساوي فتأمل. والمراد بالآثم والكفور جنسهما وتعليق النهي بذلك مشعر بعلية الوصفين له فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الإثم والكفر لا فيما ليس بإثم ولا كفر، والمراد ولا تطع مرتكب الإثم الداعي لك إليه أو مرتكب الكفر الداعي إليه أي لا تتبع أحدا من الآثم إذا دعاك إلى الإثم، ومن الكفور إذا دعاك إلى الكفر فإنه إذا قيل لا تطع الظالم فهم منه لا تتبعه في الظلم إذا دعاك إليه ومنع هذا الفهم مكابرة فلا يتم الاستدلال بالآية على عدم جواز الاقتداء بالفاسق إذا صلى إماما ثم إن التقسيم باعتبار ما يدعوان إليه من الكفر والإثم المقابل له لا باعتبار الذوات حتى يكون بعضهم آثما وبعضهم كفورا فيقال: كيف ذلك وكلهم كفرة والمبالغة في «كفور» قيل لموافقة الواقع وهذا كقوله تعالى لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: ١٣٠] واعتبار رجوعها إلى النهي كاعتبار رجوعها إلى النفي على ما قيل في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] كما ترى، وقيل الآثم المنافق والكفور المشرك المجاهر. وقيل الآثم عتبة بن ربيعة، والكفور الوليد بن المغيرة لأن عتبة كان ركابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق، وكان الوليد غاليا في الكفر شديد الشكيمة في العتو وعن مقاتل أنهما قالا له صلّى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر ونحن
نرضيك بالمال والتزويج فنزلت.
وقيل الكفور أبو جهل والآية نزلت فيه والأولى ما تقدم. وفي النهي مع العصمة إرشاد لغير المعصوم إلى التضرع إلى الله تعالى والرغبة إليه سبحانه في الحفظ عن الوقوع فيما لا ينبغي وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وداوم على ذكره سبحانه في جميع الأوقات أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن الأصيل قد يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب فينتظمهما وَمِنَ اللَّيْلِ أي بعضه فَاسْجُدْ فصلّ لَهُ عز وجل على أن السجود مجاز عن الصلاة بذكر الجزء وإرادة الكل وحمل ذلك على صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف للاعتناء والاهتمام لما في صلاة الليل. من مزيد كلفة وخلوص وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وتهجد له تعالى قطعا من الليل طويلا فهو أمر بالتهجد على ما اختار له بعضهم. وتنوين لَيْلًا للتبعيض وأصل التسبيح التنزيه ويطلق على مطلق العبادة القولية والفعلية. وعن ابن زيد وغيره أن ذلك كان فرضا ونسخ فلا فرض اليوم إلّا الخمس وقال قوم: هو محكم في شأنه عليه الصلاة والسلام. وقال آخرون: هو كذلك مطلقا على وجه الندب وفي تأخير الظرف قيل دلالة على أنه ليس بفرض كالذي قبله وكذا في التعبير عنه بالتسبيح وفيه نظر وقال الطيبي: الأقرب من حيث النظم أنه تعالى لما نهى حبيبه صلّى الله عليه وسلم عن إطاعة الآثم والكفور وحثه على الصبر على أذاهم وإفراطهم في العداوة، وأراد سبحانه أن يرشده إلى متاركتهم عقب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته بالعبادة ليلا ونهارا بالصلوات كلها من غير اختصاص وبالتسبيح بما يطيق على منوال قوله تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: ٩٧، ٩٨] انتهى. وهو حسن إِنَّ هؤُلاءِ الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وينهمكون في لذاتها الفانية وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ أي أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا هو يوم القيامة وكونه أمامهم ظاهر أو يذرون وراء ظهورهم يوما ثقيلا لا يعبئون به فالظرف قيل على الأول حال من يَوْماً وعلى هذا ظرف يَذَرُونَ ولو جعل على وتيرة واحدة في التعلق صح أيضا ووصف اليوم بالثقيل لتشبيه شدته وهو له بثقل شيء قادح باهظ لحامله بطريق الاستعارة، والجملة كالتعليل لما أمر به ونهى
183
عنه كأنه قيل لا نطعمهم واشتغل بالأهم من العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة وقيل: إن هذا يفيد ترهيب محب العاجل وترغيب محب الآجل والأول علة للنهي عن إطاعة الآثم والكفور والثاني علة للأمر بالعبادة نَحْنُ خَلَقْناهُمْ لا غيرنا وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق والأسر في الأصل الشد والربط وأطلق على ما يشد به ويربط كما هنا، وإرادة الأعصاب والعروق لشبهها بالحبال المربوط بها ووجه الشبه ظاهر ومن هنا قد يقول العارف من كان أسره من ذاته وسجنه دنياه في حياته فليشك مدة عمره وليتأسف على وجوده بأسره والمراد شدة الخلق وكونه موثقا حسنا.
ومنه فرس ما سور الخلق إذا كان موثقه حسنا. وعن مجاهد الأسر الشرج وفسر بمجرى الفضلة وشد ذلك جعله بحيث إذا خرج الأذى انقبض. ولا يخفى أن هذا داخل في شدة الخلق وكونه موثقا حسنا وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق تَبْدِيلًا بديعا لا ريب فيه يعني البعث والنشأة الأخرى فالتبديل في الصفات لأن المعاد هو المبتدأ ولكون الأمر محققا كائنا جيء بإذا وذكر المشيئة لإبهام وقته ومثله شائع كما يقول العظيم لمن يسأله الإنعام إذا شئت أحسن إليك ويجوز أن يكون المعنى وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم ممن يطيع فالتبديل في الذوات وإذا التحقق قدرته تعالى عليه وتحقق ما يقتضيه من كفرهم المقتضي لاستئصالهم فجعل ذلك المقدور المهدد به كالمحقق وعبر عنه بما يعبر به عنه ولعله الذي أراده الزمخشري بما نقل عنه من قوله إنما جاز ذلك لأنه وعيد جيء به على سبيل المبالغة كان له وقتا معينا ولا يعترض عليه بقوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: ٣٨] لأن النكات لا يلزم اطرادها فافهم. والوجه الأول أوفق بسياق النظم الجليل إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ إشارة إلى السورة أو الآيات القرآنية فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي فمن شاء أن يتخذ إليه تعالى سبيلا أي وسيلة توصله إلى ثوابه اتخذه أي تقرب إليه بالطاعة فهو توصل أيضا السبيل للمقاصد وَما تَشاؤُنَ أي شيئا أو اتخاذ السبيل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلّا وقت مشيئة الله تعالى لمشيئتكم. وقال الزمخشري: أي وَما تَشاؤُنَ الطاعة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تعالى قسركم عليها وهو تحريف للآية بلا دليل، ويلزمه على ما في الانتصاف أن مشيئة العبد لا يوجد إلّا إذا انتفت وهو عن مذهب الاعتزال بمعزل وأبعد منزل. والظاهر ما قررنا لأن المفعول المحذوف هو المذكور أولا كما تقول: لو شئت لقتلت زيدا أي لو شئت القتل لا لو شئت زيدا ولا يمكن للمعتزلة أن ينازعوا أهل الحق- في ذلك لأن المشيئة ليست من الأفعال الاختيارية وإلّا لتسلسلت بل الفعل المقرون بها منها فدعوى استقلال العبد مكابرة وكذلك دعوى الجبر المطلق مهاترة والأمر بين الأمرين لإثبات المشيئتين وحاصله على ما حققه الكوراني أن العبد مختار في أفعاله وغير مختار في اختياره والثواب والعقاب لحسن الاستعداد النفس الأمري وسوئه فكل يعمل على شاكلته وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وفي التفسير الكبير هذه الآية من الآيات التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر فالقدري يتمسك بالجملة الأولى ويقول إن مفادها كون مشيئة العبد مستلزمة للفعل وهو مذهبي والجبري يتمسك بضم الجملة الثانية ويقول إن مفادها أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد فيتحصل من الجملتين أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد وأن مشيئة العبد مستلزمة لفعل العبد كما تؤذن به الشرطية فإذن مشيئة الله تعالى مستلزمة لفعل العبد لأن مستلزم المستلزم مستلزم وذلك هو الجبر وهو صريح مذهبي وتعقب بأن هذا ليس بالجبر المحض المسلوب معه الاختيار بالكلية بل يرجع أيضا إلى أمر بين أمرين وقدر بعض الأجلة مفعول يَشاءَ الاتخاذ والتحصيل ردا للكلام على الصدر. فقال: إن قوله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إلخ تحقيق للحق ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في
184
اتخاذ السبيل كما هو المفهوم من ظاهر الشرطية أي وما تشاؤون اتخاذ السبيل ولا تقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات إلّا وقت مشيئته تعالى اتخاذه وتحصيله لكم إذ لا دخل لمشيئة العبد إلّا من الكسب وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله عز وجل وفيه نوع مخالفة للظاهر كما لا يخفى. نعم قيل إن ظاهر الشرطية أن مشيئة العبد مطلقا مستلزمة للفعل فيلزم أنه متى شاء فعلا فعله مع أن الواقع خلافه فلا بد مما قاله هذا البعض، وجعل الجملة الثانية تحقيقا للحق وأجيب بأنها للتحقيق على وجه آخر وذلك أن الأولى أفهمت الاستلزام والثانية بينت أن هذه المشيئة المستلزمة لا تتحقق إلّا وقت مشيئة الله تعالى إياها فكأنه قيل: وما تشاؤون مشيئة تستلزم الفعل إلّا وقت أن يشاء الله تعالى مشيئتكم تلك فتأمل. وأنت تعلم أن هذه المسألة من محار الأفهام ومزال أقدام أقوام بعد أقوام وأقوى شبه الجبرية أنه قد تقرر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد فإن وجب صدور الفعل فلا اختيار
وإلّا فلا صدور وبعبارة أخرى أن جميع ما يتوقف عليه الفعل إذا تحقق فإما أن يلزم الفعل فيلزم الاضطرار أولا فيلزم جواز تخلف المعلول عن علته التامة بل مع الصدور الترجح بلا مرجح فقد قيل إنها نحو شبهة ابن كمونة في التوحيد يصعب التفصي عنها وللفقير العاجز جبر الله تعالى فقره ويسّر أمره عزم على تأليف رسالة إن شاء الله تعالى في ذلك سالكا فيها بتوفيقه سبحانه أحسن المسالك وإن كان الكوراني قدس سره لم يدع فيها مقالا وأوشك أن يدع كل من جاء بعد فيها بشيء عليه عيالا والله تعالى الموفق. وقرأ العربيان وابن كثير «وما يشاؤون» بياء الغيبة وقرأ ابن مسعود «إلّا ما يشاء الله» وما فيه مصدرية كأن في قراءة الجماعة وقد أشرنا إلى أن المصدر في محل نصب على الظرفية بتقدير المضاف الساد هو مسده وهو ما اختاره غير واحد وتعقبة أبو حيان بأنهم نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلّا المصدر المصرح فلا يجوز أجيئك أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وإنما يجوز أجيئك صياح الديك وكأنه لهذا قيل إن أَنْ يَشاءَ بتقدير حرف الجر والاستثناء من أعلم الأسباب أي وَما تَشاؤُنَ بسبب من الأسباب إلا بأن يشاء الله تعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً مبالغا في العلم فيعلم مشيئات العباد المتعلقة بالأفعال التي سألوها بألسنة استعداداتهم حَكِيماً مبالغا في الحكمة فيفيض على كما هو الأوفق باستعداده وما هو عليه في نفس الأمر من المشيئة أو أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد من الطاعة وخلافها فلا يشاء لهم إلّا ما يستدعيه علمه سبحانه وتقتضيه حكمته عز وجل وقيل عَلِيماً أي يعلم ما يتعلق به مشيئة العباد من الأعمال حَكِيماً لا يشاء إلّا على وفق حكمته وهو أن يشاء العبد فيشاء الرب سبحانه وتعالى لا العكس ليتأتى التكليف من غير انفراد لأحد المشيئتين عن الأخرى وفيه بحث وقوله تعالى يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ إلخ بيان لما تضمنته الجملة قيل أي يدخل سبحانه في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهو الذي علم فيه الخير حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة وَالظَّالِمِينَ أي لأنفسهم وهم الذين علم فيهم الشر أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً متناهيا في الإيلام ونصب الظَّالِمِينَ بإضمار فعل يفسره أعد إلخ وقدر يعذب وقد يقدر أو عد أو كافأ أو شبه ذلك ولم يقدر أعد لأنه لا يتعدى باللام. وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة «والظالمون» على الابتداء وقراءة الجمهور أحسن. وإن أوجبت تقديرا للطباق فيها وذهابه في هذه إذ الجملة عليها اسمية والأولى فعلية. ولا يقال زيادة التأكيد في طرف الوعيد مطلوبة لأنّا نقول الأمر بالعكس لو حقق لسبق الرحمة الغضب. وقرأ عبد الله «وللظالمين» بلام الجر فقيل متعلق بما بعد على سبيل التوكيد. وقيل هو بتقدير أعد للظالمين أَعَدَّ لَهُمْ والجمهور على الأول ثم إن هذه السورة وإن تضمنت من سعة رحمة الله عز وجل ما تضمنت إلّا أنها أشارت من عظيم جلاله سبحانه وتعالى إلى ما أشارت
185
أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والضياء في المختارة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي ذر قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حتى ختمها ثم قال: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل».
وهذا كالظاهر فيما قلنا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار والمقربين الأخيار فيرزقنا جنة وحريرا ويجعل سعينا لديه مشكورا بحرمة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأهل بيته المطهرين من الرجس تطهيرا.
186
Icon