تفسير سورة الإنسان

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الإنسان مكية، وآيها إحدى وثلاثون.

هَلْ أتى استفهامُ تقريرٍ وتقريبٍ فإنَّ هَلْ بمَعْنى قَدْ والأصلُ أَهَلْ أَتَى
عَلَى الإنسان قبلَ زمانٍ قريب
حين الدهر أي طائفةٌ محدودةٌ كائنةٌ من الزمنِ الممتدِّ
لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً بلْ كانَ شيئاً منسياً غيرَ مذكورٍ بالإنسانية أصلاً كالعنصرِ والنطفةِ وغيرَ ذلكَ والجملةُ المنفيةُ حالٌ من الإنسان أي غيرَ مذكورٍ أو صفةٌ أُخرى لحينٌ على حذف العائدِ إلى الموصوف أي لمْ يكُن فيه شيئاً مذكُوراً والمرادُ بالإنسان الجنسُ فالإظهارُ في قوله تعالى
إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ لزيادة التقريرِ أو آدمَ عليه السَّلامُ وهو المرويُّ عن ابن عباسٍ وقتادة والثوريِّ وعكرمةَ والشعبيِّ قالَ ابنُ عباسٍ في روايةِ أبي صالحٍ عنْهُ مرتْ به أربعونَ سنةً قبلَ أنْ يُنفخَ فيه الروح وهو مُلقى بين مكةَ والطائفِ وفي روايةِ الضحاكِ عنه أنَّه خُلقَ من طينٍ فأقامَ أربعينَ سنةً ثمَّ من حمإٍ مسنون فأقامَ أربعينَ سنةً ثمَّ من صلصالٍ فأقامَ أربعينَ سنةً فتمَّ خلقُه بعدَ مائة وعشرين سنةً فتمَّ خلقُه بعدَ مائةٍ وعشرينَ سنةً ثمَّ نُفخ فيهِ الروحُ وحكَى الماوَرْدِيُّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن الحين المذكور ههنا هو الزمنُ الطويلُ الممتدُّ الذي لايعرف مقدارُه فيكونُ الأولُ إشارةً إلى خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام وهذا بياناً لخلقِ بنية
أمشاج أخلاط حمع مشجٍ أو مشيجٍ منْ مشجت الشيء إذا خلقته وصف النطفةَ بهِ لما أنَّ المرادَ بها مجموعُ الماءينِ ولكلَ منهُمَا أوصافٌ مختلفةٌ من اللون والرقةِ والغِلَظِ وخواصُّ متباينةٌ فإنَّ ماءَ الرجلِ أبيضُ غليظٌ فيه قوَّةُ العقدِ وماءَ المرأةِ أصفرُ رقيقٌ فيهِ قوةُ الانعقادِ يُخلقُ منهُمَا الولد فما كان م من عصبٍ وعظمٍ وقوةٍ فَمِنْ ماءِ الرُّجُلِ وما كانَ منْ لحمٍ ودمٍ وشعرٍ فَمِنْ ماءِ المرأةِ قالَ القرطبيُّ وقد رُويَ هذا مرفوعاً وقيلَ مفردٌ كأعشارٍ وأكياشٍ وقيلَ أمشاجٌ ألوانٌ وأطوارٌ فإنَّ النطفةَ تصيرُ علقةً ثمَّ مضغةً إلى تمام الخِلقةِ وقولُه تعالَى
نَّبْتَلِيهِ حالٌ منْ فاعلِ خلقنَا أيْ مريدينَ ابتلاءه بالتكليف فيما سيأتى أو ناقلينَ له من حالٍ إلى حال على طريقة الاستعارةِ كما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهُمَا نصرّفه في بطنِ أمه نطفةً ثمَّ علقةً إلى آخرِهِ
فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً ليتمكنَ من استماعِ الآياتِ التنزيليةِ ومشاهدةِ الآياتِ التكوينية
70
سورة الأنسان (٣ ٦)
فهو كالمسبب عن الابتداء فلذلكَ عُطِفَ على الخلقِ المقيدِ به بالفاءِ ورُتِّبَ عليه قوله تعالى
71
إنا اهديناه السبيل بإنزالِ الآياتِ ونصبِ الدلائل
إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالانِ من مفعولِ هدينَا أي مكّناهُ وأقدرناهُ على سلوكِ الطريقِ الموصلِ إلى البُغيةِ في حالتيهِ جميعاً وإمَّا للتفصيلِ أو التقسيمِ أيْ هديناهُ إلى ما يوصلُ إليها في حاليهِ جميعاً أو مقسوماً إليهما بعضُهم شاكرٌ بالاهتداءِ والأخذِ فيهِ وبعضُهم كفورٌ بالإعراضِ عنْهُ وقيلَ من السبيلِ أي عرفناهُ السبيلَ إما سبيلاً شاكراً أو كفوراً على وصفِ السبيلِ بوصف سالكه مجازا وقرئ أَمَّا بالفتحِ على حذفِ الجواب أى أم اشاكرا فتوفيقنا وأَمَّا كفوراً فبسوءِ اختيارِه لا بمجرد وإجبارنا من غيرِ اختيارٍ منْ قِبَلِه وإيرادُ الكفورِ لمراعاة الفواصلِ والإشعارِ بأنَّ الإنسانَ قلَّما يخلُو من كفرانٍ مَا وإنَّما المؤاخذُ عليه الكفرُ المفرطُ
إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين من أفراد الإنسان الذي هديناهُ السبيل
سلاسل بهَا يُقادُون
وأغلالا بها يُقيَّدونَ
وَسَعِيراً بهَا يُحرقُون وتقديمُ وعيدِهم معَ تأخرهم للجمع بينهُمَا في الذكر كما في قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ الآيةَ ولأنَّ الإنذارَ أهمُّ وأنفعُ وتصديرُ الكلامِ وختمُه بذكرِ المؤمنينَ أحسنُ على أنَّ في وصفِهم تفصيلاً ربَّما يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم وقرئ سلاسلاً للتناسب
إِنَّ الأبرار شروعٌ في بيانِ حُسنِ حالِ الشاكرينَ إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الكافرين وإيراداهم بعنوانِ البِرِّ للإشعارِ بمَا استحقُّوا بهِ ما نالُوه من الكرامةِ السنيةِ والأبرارُ جمعُ بَرَ أو بارَ كربَ وأربابٍ وشاهدٍ وأشهادٍ قيلَ هُو من يبرُّ خالقه أي يطيعه وقيل من يمتثلُ بأمرِه تعالى وقيلَ من يؤدِّي حقَّ الله تعالى ويوفِّي بالنذرِ وعنِ الحسنِ البرُّ منْ لايؤذى الذرَّ
يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ هي الزجاجةُ إذا كانتْ فيها خمرٌ وتُطلقُ على نفسِ الخمرِ أيضاً فمِنْ على الأولِ ابتدائيةٌ وعلى الثاني تبيعضية أو بيانيةٌ
كَانَ مِزَاجُهَا أي ما تمزجُ به
كافورا اى ماء وهو اسمُ عينٍ في الجنَّةِ ماؤُها في بياضِ الكافورِ ورائحتِه وبردِه والجملةُ صفةُ كأسٍ وقولُه تعالَى
عَيْناً بدلٌ من كافُوراً وعنْ قتادةَ تمزجُ لهم بالكافورِ وتختمُ لهم بالمسكِ وقيل تخلق لهم رائحةُ الكافورِ وبياضُه وبردُه فكأنَّها مُزجتْ بالكافورِ فعيناً على هذينِ القولينِ بدلٌ منْ محلِّ منْ كأسٍ على تقديرِ مضافٍ أي يشربونَ خمراً خمرَ عينٍ أو نُصب على الاختصاص وقولُه تعالى
يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله صفةُ عيناً أي يشربونَ بها الخمرَ لكونِها ممزوجةً بهَا وقيل ضُمِّن يشربُ مَعْنى يلتذُّ وقيل الياء بمَعْنى مِنْ وقيلَ زائدةٌ ويعضدُه قراءةُ ابنِ أبِي عبلة يشربها
71
سورة الإنسان آية (٧ ١١)
عباد الله وقيل الضميرُ للكأسِ والمَعْنى يشربونَ العينَ بتلكَ الكأسِ
يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً أي يُجرونها حيثما شاؤا من منازلهم اجراء سهلالا يمتنعُ عليهم بَلْ يَجْري جريا بقوة واندفاع والجملةُ صفةٌ أُخرى لعيناً وقولُه تعالى
72
يُوفُونَ بالنذر استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما لأجلِه رُزقُوا ما ذُكِرَ من النعيمِ مشتملٌ على نوع تفصيلٍ لما ينبئ عنه اسمُ الأبرارِ إجمالاً كأنَّه قيلَ ماذَا يفعلونَ حتَّى ينالُوا تلكَ الرتبةَ العاليةَ فقيلَ يُوفون بما أَوجبُوه على أنفسِهم فكيفَ بما أوجبَهُ الله تعالَى عليهم
ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ عذابُه
مُسْتَطِيراً فاشياً مُنتشراً في الأقطارِ غايةَ الانتشارِ من استطارَ الحريقُ والفجرُ وهُو أبلغُ من طارَ بمنزلة استنفرَ منْ نفرَ
وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ اى كأثنين على حُبِّ الطَّعامِ والحاجةِ إليهِ كما في قولِه تعالَى لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ أو على حُبِّ الإطعامِ بأنْ يكونَ ذلكَ بطيبِ النفسِ أو كائنينَ على حُبِّ الله تعالَى أو إطعاماً كائناً على حُبِّه تعالَى وهُو الأنسبُ لما سيأتِي من قولِه تعالَى لوجهِ الله
مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً أيَّ أسيرٍ فإنَّه كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُؤتَى بالأسيرِ فيدفعُه إلى بعضِ المسلمينَ فيقولُ أَحْسِنْ إليهِ أو أسيراً مؤمناً فيدخلُ فيه المملوكُ والمسجونُ وقد سمى رسول الله ﷺ الغريمَ أسيراً فقال غَريمُكَ أسيرُكَ فأحسِنْ إلى أسيرِكَ
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله على إرادة قول وهو في موقع الحالِ من فاعلِ يطعمونَ أي قائلينَ ذلكَ بلسانِ الحالِ أو بلسانِ المقالِ إزاحةً لتوهمِ المنِّ المبطلِ للصدقةِ وتوقعِ المكافأةِ المنقصةِ للأجرِ وعن الصديقةِ رضيَ الله تعالَى عنها أنَّها كانتْ تبعثُ بالصدقةِ إلى أهلِ بيتٍ ثم تسألُ الرسولَ ما قالُوا فإذَا ذكرَ دعاءَهُم دعتْ لَهُم بمثلِه ليبقَى ثوابُ الصدقةِ لها خالصاً عندج الله تعالَى
لاَ نُرِيدُ منكم جزاءا ولا شكورا أي شكرا وهو تقريرٌ وتأكيدٌ لما قبلَهُ
إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً أي عذابَ يومٍ عَبُوساً يعبسُ فيه الوجُوه أو يُشبه الأسدَ العَبُوسَ في الشِّدةِ والضَّراوةِ
قَمْطَرِيراً شديدَ العُبوسِ فلذلكَ نفعلُ بكُم ما نفعلُ رجاءَ أنْ يقينَا ربُّنا بذلكَ شره وقيل وهو تعليلٌ لعدم إرادةِ الجزاءِ والشكورِ أي إنَّا نخافُ عقابَ الله تعالى إنْ أردناهُمَا
فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم بسبب خوفِهم وتحفظِهم عنه
ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً أي أعطاهُم بدلَ عبوسِ الفُجَّارِ وحُزنِهم نضرةً في الوجوه وسُروراً في القلوبِ
72
سورة الإنسان آية (١٢ ١٤)
73
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ بصبرِهم على مشاقِّ الطاعاتِ ومهاجرةِ هَوَى النفسِ في اجتنابِ المُحرَّماتِ وإيثارِ الأموالِ
جَنَّةُ بستاناً يأكلُون منه ما شاؤا
وَحَرِيراً يلبسونَهُ ويتزينونَ به وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الحسنَ والحسين رضي الله عنهُمَا مَرِضا فعادهُما النبيُّ ﷺ في ناسٍ معَهُ فقالُوا لعلي رضي الله عنه لو نذرت على ولدكَ فنذرَ عليٌّ وفاطمةُ رضي الله تعالى عنهما وفضةُ جاريةٌ لهما إنْ برئَا مما بهمَا أنْ يصومُوا ثلاثةَ أيامٍ فشُفيا وما معهُم شيءٌ فاستقرضَ علي رضي الله عنه من شمعون الخيبرى ثلاث أصوعٍ من شعيرٍ فطحنتْ فاطمةُ رضيَ الله تعالى عنها صاعاً واختبزتْ خمسةَ أقراصٍ على عددِهم فوضعُوها بين أيديهِم ليُفطِرُوا فوقفَ عليهم سائلٌ فقالَ السَّلامُ عليكم أهلَ بيتِ محمدٍ مسكينٌ من مساكين المسلمينَ أطعمُوني أطعمكُم الله تعالَى من موائدِ الجنةِ فآثرُوه وباتوا لم يذقوا إلا الماءَ وأصبحُوا صياماً فلمَّا أمسَوا ووضعُوا الطعامَ بينَ أيديهِم وقفَ عليهم يتيمٌ فآثرُوه ثم وقفَ عليهم في الثالثةِ أسيرٌ ففعلُوا مثلَ ذلكَ فلما أصبحُوا أخذ عليٌّ بيدِ الحسن والحسين رضي الله عنهُم فأقبلُوا إلى النبيِّ ﷺ فلما أبصرهُم وهُم يرتعشونَ كالفراخِ من شدةِ الجُوع قال عليه الصلاة والسلام ما أشد ما يسؤوني ما أَرَى بكُم وقامَ فانطلقَ معهُم فَرَأى فاطمةَ في محرابِها قد التصقَ ظهرُها ببطنِها وغارتْ عيناهَا فساءَهُ ذلكَ فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ وقالَ خُذْها يا محمدُ هنَّأك الله تعالى في أهلِ بيتكَ فأَقْرأَهُ السورةَ
مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك حالٌ مِنْ هُمْ فِي جَزَاهُمْ والعاملُ فيها جَزَى وقيلَ صفةٌ لجنةً من غيرِ إبرازِ الضميرِ والأرائكُ هي السُّررُ في الحجالِ وقوله تعالى
لايرون فيها شمسا ولا زمهريرا إمَّا حالٌ ثانيةٌ من الضمير أو المستكنِّ في متكئينَ والمَعْنى أنَّه يمرُّ عليهم هواء معتدل لاحار محمٌّ ولا باردٌ مؤذٍ وقيلَ الزمهريرُ القمرُ في لغة طيئ والمعنى أن هواءها مضى بذاتِه لا يحتاجُ إلى شمسٍ ولا قمرٍ
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها عطفٌ على ما قبلَها حالٌ مثلُها أو صفةٌ لمحذوفٍ معطوفٍ على جنة واى جنة أخرى دانيةً عليهم ظلالُها على أنَّهم وُعدوا جنتينِ كما في قوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جنتان وقرئ دانيةٌ بالرفعِ على أنه خبرُ لظلاها والجملة في حين الحالِ والمعنى لا يَرَون فيها شمسا ولا زمهريرا أو والحالُ أنَّ ظلالَها دانيةٌ قالُوا معناهُ أنَّ ظلالَ أشجارِ الجنةِ قريبةٌ من الأبرارِ مظلةٌ عليهم زيادةً في نعيمِهم على مَعْنى أنه لوكان هناكَ شمسٌ مؤذيةٌ لكانتْ أشجارها مظلة عليهم أنَّه لا شمسَ ثمةَ ولا قمرَ
وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً أي سُخرتْ ثمارُها لمتناولها وسُهلَ أخذُها من الذُّلِّ وهو ضدُّ الصعوبةِ والجملةُ حالٌ من دانيةً أي تدنُو ظلالُها عليهم مُذلَّلة لهم قطوفُها أو معطوفةٌ على دانيةً عليهم ظلالُها ومذللةً قطوفُها وعلى تقديرِ رفعِ دانية فهي جملة ى فعليةٌ معطوفةٌ على جُملةٍ أسمية
73
سورة الإنسان آية (١٥ ٢١)
74
ويطاف عليهم بآنية مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ الكوبُ الكوز العظيم لا أُذنَ له ولاَ عروة
كانت قواريرا
قوارير مِن فِضَّةٍ أي تكونتْ جامعةً بين صفاءِ الزجاجةِ وشغيفها ولينِ الفِضَّةِ وبياضِها والجملةُ صفة الأكواب وقرئ بتنوينِ قواريرَ الثانِي أيضاً وقرئا بغير تنوين وقرئ الثَّانِي بالرَّفعِ على هيَ قواريرُ
قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً صفةٌ لقواريرَ ومعنى تقديرِهم لها أنَّهم قدَّروها في أنفسِهم وأرادُوا أنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ معينةٍ موافقةً لشهواتهم فجاءتْ حسبمَا قدَّرُوها أو قدَّرُوها بأعمالِهم الصالحةِ فجاءتْ على حسبِها وقيلَ الضميرُ للطائفينَ بهَا المدلولِ عليهم بقولِه تعالى وَيُطَافُ عليهم فالمعنى قدروا اشرابها على قدر اشتهائهم وقرئ قُدِّرُوها على البناءِ للمفعولِ أي جُعلوا قادرينَ لها كما شاؤا من قَدَر منقولاً من قدرت الشئ
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً أي ما يشبِهُ الزنجبيلَ في الطعمِ وكان الشرابُ الممزوجُ به أطيبَ ما تستطيبُه العربُ وألذَّ ما تستلذُّ به
عَيْناً بدلٌ من زنجبيلاً وقيلَ تمزجُ كأسُهم بالزنجبيلِ بعينِه أو يخلقُ الله تعالى طعم فيها فعيناً حينئذٍ بدلٌ من كأساً كأنَّه قيلَ ويُسقَون فيها كأساً كأسَ عين أو نُصب على الاختصاص
فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً لسلاسة انحدارِها في الحَلْقِ وسهولةِ مساغِها يقالُ شرابٌ سلسلٌ وسلسالٌ وسلسبيلٌ ولذلكَ حُكمَ بزيادةِ الباءِ والمرادُ بيانُ أنَّها في طعم الزنجبيلِ وليسَ فيها لذعةٌ بل نقيضُ اللذعِ هو السلاسةُ
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ أى دائمون على ماهم عليه من الطراوةِ والبهاءِ
إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً لحُسنِهم وصفاءِ ألوانِهم وإشراق وجوههم وانبثالثهم في مجالسهم ومنازلِهم وانعكاسِ أشعةِ بعضِهم إلى بعضٍ
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ ليسَ له مفعولٌ ملفوظٌ ولا مقدرٌ ولا منويٌّ بل معناهُ أنَّ بصرَكَ أينمَا وقعَ في الجنةِ
رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أي هنيئاً واسعاً وفي الحديثِ أدنى أهل الجنة منزلة ينظُر في مُلكِه مسيرةَ ألف عام يرى وأقصاه كمِا يَرى أدناهُ وقيلَ لا زوال وقيلَ إذَا أرادُوا شيئاً كانَ وقيلَ يُسلمُ عليهم الملائكةُ ويستأذنونَ عليهم
عاليهم ثياب
74
سورة الإنسان
آية (٢٢ ٢٥)
سُندُسٍ خُضْرٌ قيلَ عاليَهُم ظرفٌ على أنَّه خبرٌ مقدمٌ وثيابُ مبتدأٌ مؤخرٌ والجملةُ صفةٌ أُخرى لولدانٌ كأنَّه قيلَ يطوفُ عليهم ولدانٌ فوقَهُم ثيابُ الخ وقيلَ حالٌ منْ ضميرِ عليهم أوحسبتهم أي يطوفُ عليهم ولدانٌ عالياً للمطوف عليهم ثيابٌ الخ أو حسبتَهُم لؤلؤاً منثوراً عالياً لهم ثيابُ الخ وقرئ عاليهم بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه ثيابُ أي ما يعلوهم من لباسِهم ثيابُ سندسٍ وقرئ خضرٍ بالجرِّ حملاً على سندسٍ بالمَعْنى لكونِه اسمَ جنسٍ ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ بالرفعِ عطفاً على ثيابُ وقُرِىءَ برفعِ الأولِ وجرِّ الثانِي وقُرىءَ بالعكسِ وقُرِىءَ بجرِّهِما وقُرىءَ واستبرق يوصل الهمزةِ والفتحِ على أنه استفعلَ من البريقِ جُعل عَلَماً لهذا النوعِ من الثيابِ
وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ عطفٌ على يطوفُ عليهم ولا يُنافيه قولُه تعالى أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ لإمكانِ الجمعِ والمعاقبةِ والتبعيضِ فإنَّ حُلِيَّ أهلِ الجنةِ يختلفُ حسبَ اختلافِ أعمالِهم فلعلَّه تعالَى يفيضُ عليهم جزاءً لما عملُوه بأيديهم حلياً وأنواراً تتفاوتُ تفاوتَ الذهبِ والفضةِ أو حالٌ من ضميرِ عاليَهم بإضمارِ قَدْ وعلى هَذا يجوزُ أنْ يكونَ هذا للخدمِ وذاكَ للمخدومينَ
وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً هو نوعٌ آخرُ يفوقُ النوعينِ السالفينِ كما يرشدُ إليهِ إسنادُ سقيهِ إلى ربِّ العالمينَ ووصفُه بالطَّهوريةِ فإنَّه يطهرُ شاربَهُ عن دَنَسِ الميلِ إلى الملاذِّ الحسيةِ والركونِ إلى ما سِوى الحقِّ فيتجردُ لمطالعةِ جمالِه ملتذاً بلقائِه باقياً ببقائِه وهي الغايةُ القاصيةُ من منازلِ الصدِّيقينَ ولذلكَ خُتمَ بها مقالةُ ثوابِ الأبرارِ
75
إِنَّ هَذَا على إضمارِ القولِ أي يقال لهم أن هذا الذى كر من فنون الكراماتِ
كَانَ لَكُمْ جَزَاء بمقابلة أعمالِكم الحسنةِ
وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً مرضياً مقبُولاً مُقابَلاً بالثوابِ
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً أيْ مُفرقاً مُنجَّماً لحكم بالغة مقتضية له لا غيرُنَا كما يعربُ عنه تكريرُ الضميرِ معَ إنَّ
فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ بتأخير نصرك على الكفَّارِ فإنَّ له عاقبةً حميدةً
وَلاَ تطع منهم آثما أَوْ كَفُوراً أي كلَّ واحدٍ من مرتكبِ الإثمِ الدَّاعِي لكَ إليهِ ومن الغالِي في الكُفر الدَّاعِي إليهِ وأو للدلالة على أنَّهما سيَّانِ في استحقاق العصيانِ والاستقلالِ به والتقسيمُ باعتبار ما يدعُونَهُ إليه فإنَّ ترتبَ النَّهي على الوصفين مشعرٌ بعلَّيتِهما له فلا بد أن يكون النهيُ عن الإطاعةِ في الإثمِ والكفرِ فيما ليسَ بإثمٍ ولا كُفرٍ وقيلَ الآثمُ عُتبةُ فإنَّه كانَ ركابا للمأثم متعاطيات لأنواعِ الفسوقِ والكفورِ والوليدُ فإنه كان غاليا في الكُفر شديدَ الشكيمةِ في العُتوِّ
واذكر اسم رك بُكْرَةً وَأَصِيلاً وداومْ على ذكره في جميعِ الأوقاتِ اودم على صلاة الفجرِ والظهرِ والعصرِ فإنَّ الأصيلَ ينتظمُهما
75
سورة الإنسان (٢٦ ٣١)
76
ومن الليل فاسجد لَهُ
وبعضَ الليلَ فصلِّ له ولعلَّه صلاةُ المغربِ والعشاءِ وتقديمُ الظرفِ لما في صلاةِ الليلِ من مزيد كلفةٍ وخلوصٍ
وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
وتهجدْ له قِطَعاً من الليلِ طويلاً
إِنَّ هَؤُلآء
الكفرةَ
يُحِبُّونَ العالجة
وينهمكنون في لذاتِها الفانيةِ
وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ
أي أمامَهم لا يستعدونَ أو ينبذون وراءَ ظُهورهم
يَوْماً ثَقِيلاً
لا يعبأونَ به ووصفُه بالثقل لتشبيه شدتِه وهولِه بثقل شيءٍ فادحٍ باهظٍ لحامله بطريقِ الاستعارةِ وهو كالتعليل لما أُمِرَ به ونُهيَ عنه
نَّحْنُ خلقناهم
لا غيرُنا
وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ
أي أحكمنَا ربطَ مفاصلِهم بالأعصابِ
وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم
بعدَ إهلاكِهم
تَبْدِيلاً
بديعاً لا ريب فيهِ هو البعثُ كما ينبىء عنه كلمةُ إذَا أو بدَّلنا غيرَهُم ممن يطيعُ كقولِه تعالى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ واذ للدلالةِ على تحققِ القُدرةِ وقوةِ الداعيةِ
إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ
إشارةٌ إلى السورةِ أو الآياتِ القريبةِ
فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً
أي فمن شاء أن يتخذ إليهِ تعالى سبيلاً أي وسيلةً توصلُه إلى ثوابِه اتخذَهُ أي تقربَ إليهِ بالعمل بمَا في تضاعيفِها وقولُه تعالى
وما تشاؤن إلا أن يشاء الله
تحقيقٌ للحقِّ ببيان أنَّ مجردَ مشيئتِهم غيرُ كافيةٍ في اتخاذ السبيلِ كما هو المفهومُ من ظاهر الشرطية اي وما تشاؤن اتخاذَ السبيلِ ولا تقدرونَ على تحصيله في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ مشيئتِه تعالى تحصيلَه لكُم إذ لا دخلَ لمشيئة العبدِ إلا في الكسبِ وإنَّما التأثيرُ والخلقُ لمشيئة الله عزَّ وجلَّ وقُرىء يشاؤن بالياءِ وقُرىءَ إلاَّ ما يشاءُ الله وقولُه تعالَى
إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
بيانٌ لكون مشيئتِه تعالى مبنيةً على أساس العلمِ والحكمةِ والمَعْنى أنَّه تعالَى مبالِغٌ في العلمِ والحكمةِ فيعلمُ ما يستأهلُه كلُّ أحدٍ فلا يشاءُ لهم إلا ما يستدعيهِ علمُه وتقتضيِه حكمتُه وقولُه تعالى
يدخل من يشاء فى رَحْمَتِهِ
بيانٌ لأحكام مشيئتِه المترتبةِ على علمه وحكمتِه أي يُدخلُ في رحمتِه مَن يشاءُ أنْ يدخلَهُ فيها وهُو الذي يصرِفُ مشيئتَهُ نحوَ اتخاذِ السبيلِ إليهِ تعالى حيثُ يوفقُه لَما يَؤدِّي إلى دخول الجنةِ من الإيمانِ والطاعةِ
والظالمين
وهم الذينَ صَرفوا مشيئَتُهم إلى خلافِ ما ذُكِرَ
أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
أي متناهياً في الإيلامِ قالَ الزجاجُ نصبَ الظالمينَ لأنَّ ما قبلَهُ منصوبٌ أي يُدخلُ من يشاءُ في رحمته ويعذبُ الظالمينَ ويكونُ أعدَّ لَهُم تفسيراً لهَذا المضمرِ وقُرِىءَ بالرفع على
76
٧٧ سورة المرسلات (١ ٦) الابتداء عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ هَل أَتَى كانَ جزاؤُه على الله تعالَى جنة وحريرا
سورة المرسلات مكية الا آية ٤٨ فمدنية وآياتها خمسون

بسم الله الرحمن الرحيم

77
Icon