تفسير سورة الفيل

اللباب
تفسير سورة سورة الفيل من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية، وهي خمس آيات، وعشرون كلمة، وستة وتسعون حرفا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل في نزول السورة
روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم - ملك «اليمن» - بنى كنيسة ب «صنعاء» لم ير مثلها، وسمَّاها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من بني كنانة مختفياً، وجعل يبولُ ويتغوطُ في تلك الكنيسة ليلاً، فأغضبه ذلك.
وقيل : أجج ناراً فحملتها ريح فأحرقتها، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل له : رجل من أهل البيت الذي يحج العرب إليه، فحلف ليهدمنَّ الكعبة، فخرج بجيشه ومعه فيلٌ اسمه محمود، وكان قويًّا عظيماً وثمانية أخرى. وقيل : اثنا عشر. وقيل : ألف، وبعث رجلاً إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد ذلك أبرهة غضباً وحنقاً، فسار ليهدم الكعبة، فلما بلغ قريباً من «مكة» خرج إليه عبد المطلب، وعرض عليه ثلث أموال «تهامة»، ليرجع فأبى، وقدم الفيل، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك، وإذا وجهوه إلى «اليمن»، أو إلى سائر الجهات هرول، ثم إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج إليهم بسببها، فلما رآه أبرهة عظم في عينه، وكان رجلاً جسيماً، وقيل له : هذا أسد قريش، وصاحب عير «مكة»، فنزل أبرهة عن سريره، وجلس معه على بساطه، ثم قال لترجمانه : قل له : حاجتك، فلما ذكر حاجته قال له : سقطت من عيني، جئتُ لأهدم البيت الذي هو دينُك، ودين آبائك، لا تكلمني فيه، وألهاك عنه ذود لم أحسبها لك، فقال عبد المطلب : أنا ربّ الإبل، وإنَّ للبيت ربًّا سيمنعه، ثم رجع وأتى البيت، فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفرٌ من قريش يدعون الله تعالى، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب :[ مجزوء الكامل ]
٥٣٠٧- لاهُمَّ إنَّ العَبْدَ يَمْـ نَعُ رَحْلهُ فامْنَعْ حَلالَكْ
لا يَغلِبَنَّ صَليبهُمْ ومُحَالهُمْ عَدْواً مُحالَكْ
إن يَدخُلُوا البَلدَ الحَرَا مَ فأمْرٌ ما بَدَا لَكْ٤
وقال آخر :[ الرجز ]
٥٣٠٨- يَا ربِّ لا أرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا يَا ربِّ فامْنَعْ مِنهُمُ حِمَاكَا
إنَّ عَدُوَّ البَيْتِ مِنْ عَاداكَا إنَّهُمُ لنْ يَقْهَرُوا قُواكَا٥
فالتفت، وهو يدعو، فإذا هو بطير من ناحية «اليمن»، فقال : والله إنها لطير غريبة، ما هي بنجدية ولا تهامية، وكان مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه أكبر من العدسة، وأصغر من الحمصة.
قال الراوي : فأرسل عبد المطلب حلقة الكعبة ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعب الجبال، فتحرَّزُوا فيها ينظرون ما يفعل أبرهة إذا دخل «مكة»، فأرسل الله عليهم طيراً من البحر [ أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، فكان الحجر يقع ]٦ على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، فهلكوا في كل طريق، ومنهل.
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه رأى من تلك الأحجار عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري٧.
قال الراوي : وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون إلى الطَّريق التي منها جاءوا.
وروي أن أبرهة تساقطت أنامله، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانقلب هو ووزيره أبو يكسوم، وطائر يحلق فوقه حتى قدموا «صنعاء» وهو مثل فرخ الطائر.
وقيل : قدموا على النجاشي، فَقَصّ عليه القصة، فلما تممها وقع عليه الحجر فخرَّ ميتاً بين يديه.

مكية، وهي خمس آيات، وعشرون كلمة، وستة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾، هذه قراءة الجمهور، أعني: فتح الراء وحذف الألف للجزم.
وقرأ السلمي: «تَرْ» بسكون الراء، كأنه لم يعتمد بحذف الألف.
وقرأ أيضاً: «ترأ» بسكون الراء وهمزة مفتوحة، وهو الأصل، و «كَيْفَ» معلقة للرؤية، وهي منصوبة بفعل بعدها، لان «ألَمْ تَر كَيفَ» من معنى الاستفهام.

فصل في معنى الآية


المعنى: الم تخبر.
وقيل: ألم تعلم.
وقال ابن عباس: ألم تسمع؟ واللفظ استفهام والمعنى تقرير، والخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولكنه عام، أي: ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؟ أي: قد رايتم ذلك، وعرفتم موضع منتي عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟.

فصل في لفظ «الفيل»


الفيل معروف، والجمع: أفيال، وفيول، وفيلة.
قال ابن السكيت: ولا يقال: «أفيلة» والأنثى فيلة، وصاحبه: فيال.
496
قال سيبويه: يجوز أن يكون أصل «فيل» :«فُعْلاً» فكسر من أجل الياء، كما قالوا: أبيض وبيض.
وقال الأخفش: هذا لا يكون في الواحد، إنما يكون في الجمع، ورجل فيلُ الرأي، أي: ضعيف الرأي والجمع: أفيال، ورجل فالٌ: أي: ضعيف الرأي، مخطئ الفراسة، وقد فال الرأي، يفيلُ، فيُولة، وفيَّل رأيه تفييلاً: أي: ضعفه، فهو فيِّلُ الرأي.

فصل في نزول السورة


روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم - ملك «اليمن» - بنى كنيسة ب «صنعاء» لم ير مثلها، وسمَّاها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من بني كنانة مختفياً، وجعل يبولُ ويتغوطُ في تلك الكنيسة ليلاً، فأغضبه ذلك.
وقيل: أجج ناراً فحملتها ريح فاحرقتها، فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: رجل من أهل البيت الذي يحج العرب إليه، فحلف ليهدمنَّ الكعبة، فخرج بجيشه ومعه فيلٌ اسمه محمود، وكان قويًّا عظيماً وثمانية أخرى. وقيل: اثنا عشر. وقيل: ألف، وبعث رجلاً إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد ذلك أبرهة غضباً وحنقاً، فسار ليهدم الكعبة، فلما بلغ قريباً من «مكة» خرج إليه عبد المطلب، وعرض عليه ثلث أموال «تهامة»، ليرجع فأبى، وقدم الفيل، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك، وإذا وجهوه إلى «اليمن»، أو إلى سائر الجهات هرول، ثم إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج إليهم بسببها، فلما رآه أبرهة عظم في عينه، وكان رجلاً جسيماً وقيل له: هذا أسد قريش، وصاحب عير «مكة»، فنزل أبرهة عن سريره، وجلس معه على بساطه، ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك، فلما ذكر حاجته قال له: سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينُك، ودين آبائك، لا تكلمني فيه، وألهاك عنه ذود لم أحسبها لك، فقال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل، وإنَّ للبيت ربًّا سيمنعه، ثم رجع وأتى البيت، فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفرٌ من قريش يدعون الله تعالى، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب: [مجزوء الكامل]
٥٣٠٧ - لاهُمَّ إنَّ العَبْدَ يَمْ نَعُ رَحْلهُ فامْنَعْ حَلالَكْ
لا يَغلِبَنَّ صَليبهُمْ ومُحَالهُمْ عَدْواً مُحالَكْ
إن يَدخُلُوا البَلدَ الحَرَا مَ فأمْرٌ ما بَدَا لَكْ
وقال آخر: [الرجز]
497
٥٣٠٨ - يَا ربِّ لا أرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا يَا ربِّ فامْنَعْ مِنهُمُ حِمَاكَا
إنَّ عَدُوَّ البَيْتِ مِنْ عَاداكَا إنَّهُمُ لنْ يَقْهَرُوا قُواكَا
فالتفت، وهو يدعو، فإذا هو بطير من ناحية «اليمن»، فقال: والله إنها لطير غريبة، ما هي بجندية ولا تهامية، وكان مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه أكبر من العدسة، وأصغر من الحمصة.
قال الراوي: فأرسل عبد المطلب حلقة الكعبة ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعب الجبال، فتحرَّزُوا فيها ينظرون ما يفعل أبرهة إذا دخل «مكة»، فأرسل الله عليهم طيراً من البحر [أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار فكان الحجر يقع] على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، فهلكوا في كل طريق، ومنهل.
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه رأى من تلك الأحجار عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري.
قال الراوي: وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون إلى الطَّريق التي منها جاءوا.
وروي ان أبرهة تساقطت أنامله، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانقلب هو ووزيره أبو يكسوم، وطائر يحلق فوقه حتى قدموا «صنعاء» وهو مثل فرخ الطائر.
وقيل: قدموا على النجاشي، فَقَصّ عليه القصة فلما تممها وقع علي الحجر فخرَّ ميتاً بين يديه.

فصل في ميلاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ


حكى الماوردي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «وُلدتُ عَامَ الفِيْلِ».
وقال في كتاب «أعلام النبوةِ» : ولد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وكان بعد الفيل بخمسين يوماً، ووافق من شهور الروم العشرين من أشباط، في السَّنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان.
قال: وحكى أبو جعفر الطبري: أن مولده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لاثنين وأربعين سنة من ملك أنوشروان.
498
وقيل: إنه - عليه السلام - حملت به أمه في يوم عاشوراء من المحرم حكاه ابن شاهين أبو حفص في فضائل يوم عاشوراء، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلةً خلت من شهر رمضان، فكانت مدة الحمل ثمانية أشهر كملاً ويومين من التاسع.
وقال ابن العربي: قال ابن وهب عن مالكٍ: ولد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الفيل [قال] قيس بن مخرمة: ولدت أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الفيل.
وقال عبد الملك بن مروان لعتَّاب بن أسيد: أنت أكبر أم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أكبر مني وأنا أسنّ منه، ولد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الفيل، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس.

فصل في أن قصة الفيل من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ


قال بعض العلماء: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن كانت قبله، وقبل التحدي، لأنها كانت توكيداً لأمره، وتمهيداً لشأنه، ولما تلا عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه السورة كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الواقعة، ولهذا قال: «ألَمْ تَرَ» ولم يكن ب «مكة» أحد إلاَّ وقد رأى قائد الفيل، وسائقه أعميين [يتكففان] الناس.
قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - مع حداثة سنّها: «لقَدْ رَأيتُ قَائِدَ لفِيْلِ وسَائقَهُ أعْميَيْنِ يَسْتطعِمَانِ النَّاسَ».
قوله: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾، أي: في إبطال، وتضييع؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً بالقتل، والسبي، والبيت بالتخريب، والهَدْم.
قالت المعتزلة: إضافة الكيد إليهم دليل على أنه - تعالى - لا يرضى بالقبيح، إذ لو رضي لأضافه إلى ذاته.
قوله: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ﴾.
قال النحاة: «أبابيل» نعت ل «طير» لأنه اسم جمع.
وأبابيل: قيل: لا واحد له، كأساطير وعناديد.
وقيل: واحده: «إبَّول» ك «عِجَّول».
وقيل: «إبَّال»، وقيل: «إبِّيل» مثل سكين.
وحكى الرقاشيّ: «أبابيل» جمع «إبَّالة» بالتشديد.
499
وحكى الفرَّاء: «إبالة» مخففة.

فصل في لفظ «أبابيل»


الأبابيل: الجماعات شيئاً بعد شيء؛ قال: [الطويل]
٥٣٠٩ - طَريقٌ وجبَّارٌ رِوَاءٌ أصُولهُ عَليْهِ أبَابيلٌ من الطَّيْرِ تَنعَبُ
وقال آخر: [البسيط]
٥٣١٠ - كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصواتِ رَاحِلَتِي إذْ سَالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيلِ
قال أبو عبيدة: أبابيل: جماعات في تفرقة، يقال: جاءت الطير أبابيل من هاهنا، وهاهنا.
قال سعيد بن جبير: كانت طيراً من السَّماء لم ير مثلها.
«وروى الضحاك عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:» إنَّهَا طَيْرٌ بَينَ السَّماءِ والأرضِ تُعَشِّشُ وتُفرِّخُ «.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان لها خراطيم كخراطيم الفيلة، وأكفّ كأكفّ الكلاب.
وقال عكرمة: كانت طيراً خضراً خرجت من البحر، لها رُءُوس كرءوس السِّباع، ولم تر قبل ذلك، ولا بعده.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: هي أشبه شيء بالخطاطيف.
[وقيل: إنها أشبه بالوطاويط].
وقيل: إنها العنقاء التي يضرب بها الأمثال.
قال النحاس: وهذه الأقوال متفقة المعنى، وحقيقة المعنى: أنها جماعات عظام، يقال: فلان يؤبل على فلان، أي: يعظم عليه ويكثر، وهو مشتقّ من الإبل.
قال ابن الخطيب: هذه الآية ردّ على الملحدين جدًّا، لأنهم ذكروا في الزَّلازل، والرياح والصواعق، والخسف، وسائر الأشياء التي عذب الله - تعالى - بها الأمم أعذاراً
500
ضعيفة، أما هذه الواقعة، فلا يجري فيها تلك الأعذار، وليس في شيء من الطَّبائع والحيل أن يعهد طير معها حجارة، فيقصد قوماً دون قوم فيقتلهم، ولا يمكن أن يقال: إنه كسائر الأحاديث الضعيفة؛ لأنه لم يكن بين عام الفيل، ومبعث الرسول إلا نيفاً وأربعين سنة، ويوم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية، كان قد بقي جمع شاهدوا تلك الواقعة، فلا يجري فيها تلك الأعذار، ولو كان النقل ضعيفاً لكذبوه، فعلمنا أنه لا سبيل للطَّعن فيها.
قوله: ﴿تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ﴾، «بِحجَارَةِ» صفة ل «طير»، وقرأ العامة: «تَرْميهِمْ» بالتأنيث.
وأبو حنيفة، وابن يعمر، وعيسى، وطلحة: بالياء من أسفل، وهما واضحتان، لأن اسم الجمع يذكر ويؤنث.
ومن الثانية قوله: [البسيط]
٥٣١١ -..................................... كالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشُّؤبُوبِ ذي البَردِ
وقيل: الضمير لربِّك، أي: يرميهم ربك بحجارة، و «مِنْ سِجِّيل» صفة ل «حِجَارة» والسجيل، قال الجوهري: قالوا حجارة من طين، طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم، لقوله تعالى: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ﴾ [الذاريات: ٣٣].
وقال عبد الرحمن بن أبزى: «مِنْ سجِّيْلٍ» من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط.
وقيل: من الجحيم، وهي «سِجِّين» ثم أبدلت اللام نُوناً، كما قالوا في أصيلان: أصيلال، قال ابن مقبلٍ: [البسيط]
٥٣١٢ -..................................... ضَرْباً تَواصَتْ بِهِ الأبطالُ سِجِّنَا
إنما هو «سجيلاً».
وقال الزجاج: «مِنْ سجِّيل»، أي: مما كتب عليهم أن يعذبوا به، مشتق من السجل وقد تقدم القول في السجيل في سورة «هود».
501
قال عكرمة: [كانت ترميهم بحجارة معها]، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، وكان ذلك أول الجدري.
قال يونس وأبو عبيدة: والسجيل عند العرب: الشديد الصلب.
قال بعض المفسرين: إنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنهما: سجّ وجيل: فالسجُّ: الحجر، والجيل: الطِّين، أي من هذين الجنسين: الحجر والطين.
قال أبو إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة أنه قال: أول ما دامت الحصبة بأرض العرب ذلك وإنه أول ما رأى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشار ذلك العام.
قوله: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ﴾. «كَعصْفٍ» هو المفعول الثاني للجعل، بمعنى التصيير، وفيه مبالغة حسنة، وهو أنه لم يكفهم أم جعلهم أهون شيء من الزَّرع، وهو ما لا يجدي طائلاً، حتى جعلهم رجيعاً.
والمعنى: جعل الله تعالى أصحاب الفيل كورق الزروع إذا أكله الدواب، فرمت به من أسفل قاله ابن زيد وغيره، والعصف جمع واحده عصفة وعصافة، وأدخل الكاف في «كعصف» للتشبيه مع مثل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ومعنى مأكول أن المراد به قشر البُرّ يعني الغلاف الذي يكون كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة شبَّه تقطُّع أوصالهم بتفرُّق أجزائه، روي معناه عن ابن زيد، وغيره.
قال ابن إسحاق: لما رج الله الحبشة عن «مكة»، عظمت العرب قريشاً، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم، وكفاهم مئونة عدوهم، فكان ذلك نعمةً من الله عليهم.
روى الثَّعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَة ﴿الفيل﴾ عَافاهُ اللهُ تعَالى حياته مِنَ المسْخِ، والعَدُوِّ» والله أعلم.
502
سورة قريش
503
قوله :﴿ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴾، أي : في إبطال، وتضييع ؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً بالقتل، والسبي، والبيت بالتخريب، والهَدْم.
قالت المعتزلة١ : إضافة الكيد إليهم دليل على أنه - تعالى - لا يرضى بالقبيح، إذ لو رضي لأضافه إلى ذاته.
١ ينظر الرازي ٣٢/٩٢ – ٩٣..
قوله :﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ ﴾.
قال النحاة :«أبابيل » نعت ل «طير » ؛ لأنه اسم جمع.
وأبابيل : قيل : لا واحد له، كأساطير وعناديد.
وقيل : واحده :«إبَّول » ك «عِجَّول ».
وقيل :«إبَّال »، وقيل :«إبِّيل » مثل سكين.
وحكى الرقاشيّ :«أبابيل » جمع «إبَّالة » بالتشديد.
وحكى الفرَّاء :«إبالة » مخففة.

فصل في لفظ «أبابيل »


الأبابيل : الجماعات شيئاً بعد شيء ؛ قال :[ الطويل ]
٥٣٠٩- طَريقٌ وجبَّارٌ رِوَاءٌ أصُولهُ عَليْهِ أبَابيلٌ من الطَّيْرِ تَنعَبُ١
وقال آخر :[ البسيط ]
٥٣١٠- كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصواتِ رَاحِلَتِي*** إذْ سَالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيلِ٢
قال أبو عبيدة : أبابيل : جماعات في تفرقة، يقال : جاءت الطير أبابيل من هاهنا، وهاهنا.
قال سعيد بن جبير : كانت طيراً من السَّماء لم ير مثلها٣.
وروى الضحاك عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إنَّهَا طَيْرٌ بَينَ السَّماءِ والأرضِ تُعَشِّشُ وتُفرِّخُ ».
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - كان لها خراطيم كخراطيم الفيلة، وأكفّ كأكفّ الكلاب٤.
وقال عكرمة : كانت طيراً خضراً خرجت من البحر، لها رُءُوس كرءوس السِّباع، ولم تر قبل ذلك، ولا بعده٥.
وقالت عائشة - رضي الله عنها - : هي أشبه شيء بالخطاطيف٦.
[ وقيل : إنها أشبه بالوطاويط ].
وقيل : إنها العنقاء التي يضرب بها الأمثال.
قال النحاس : وهذه الأقوال متفقة المعنى، وحقيقة المعنى : أنها جماعات عظام، يقال : فلان يؤبل على فلان، أي : يعظم عليه ويكثر، وهو مشتقّ من الإبل.
قال ابن الخطيب٧ : هذه الآية ردّ على الملحدين جدًّا ؛ لأنهم ذكروا في الزَّلازل، والرياح، والصواعق، والخسف، وسائر الأشياء التي عذب الله - تعالى - بها الأمم أعذاراً ضعيفة، أما هذه الواقعة، فلا يجري فيها تلك الأعذار، وليس في شيء من الطَّبائع والحيل أن يعهد طير معها حجارة، فيقصد قوماً دون قوم فيقتلهم، ولا يمكن أن يقال : إنه كسائر الأحاديث الضعيفة ؛ لأنه لم يكن بين عام الفيل، ومبعث الرسول إلا نيفاً وأربعين سنة، ويوم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، كان قد بقي جمع شاهدوا تلك الواقعة، فلا يجري فيها تلك الأعذار، ولو كان النقل ضعيفاً لكذبوه، فعلمنا أنه لا سبيل للطَّعن فيها.
١ البيت للأعشى، ينظر ديوانه ١١، والقرطبي ٢٠/١٣٤، ومجمع البيان ١٠/٨٢٥، والبحر ٨/٥١١، والدر المصون ٦/١٣٤..
٢ ينظر القرطبي ٢٠/١٣٤، والبحر ٨/٥١١، والدر المصون ٦/ ٥٥٠..
٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٣٤٢)، والقرطبي (٢٠/١٣٤)..
٤ ينظر المصدر السابق وقد ذكراه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس..
٥ ينظر المصدر السابق..
٦ ينظر المصدر السابق..
٧ سقط من: ب..
قوله :﴿ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ ﴾، «بِحجَارَةِ » صفة ل «طير »، وقرأ العامة :«تَرْميهِمْ » بالتأنيث.
وأبو حنيفة، وابن يعمر١، وعيسى، وطلحة : بالياء من أسفل، وهما واضحتان ؛ لأن اسم الجمع يذكر ويؤنث.
ومن الثانية قوله :[ البسيط ]
٥٣١١-. . . *** كالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشُّؤبُوبِ ذي البَردِ٢
وقيل : الضمير لربِّك، أي : يرميهم ربك بحجارة، و «مِنْ سِجِّيل » صفة ل «حِجَارة » والسجيل، قال الجوهري٣ : قالوا حجارة من طين، طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم، لقوله تعالى :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ].
وقال عبد الرحمن بن أبزى :«مِنْ سجِّيْلٍ » من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط.
وقيل : من الجحيم، وهي «سِجِّين » ثم أبدلت اللام نُوناً، كما قالوا في أصيلان : أصيلال، قال ابن مقبلٍ :[ البسيط ]
٥٣١٢-. . . *** ضَرْباً تَواصَتْ بِهِ الأبطالُ سِجِّنَا سجينا٤
إنما هو «سجيلاً ».
وقال الزجاج :«مِنْ سجِّيل »، أي : مما كتب عليهم أن يعذبوا به، مشتق من السجل، وقد تقدم القول في السجيل في سورة «هود ».
قال عكرمة :[ كانت ترميهم بحجارة معها ]٥، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري، لم ير قبل ذلك اليوم٦.
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه : كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، وكان ذلك أول الجدري٧.
قال يونس وأبو عبيدة : والسجيل عند العرب : الشديد الصلب.
قال بعض المفسرين : إنهما كلمتان بالفارسية، جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنهما : سجّ وجيل : فالسجُّ : الحجر، والجيل : الطِّين، أي من هذين الجنسين : الحجر والطين.
قال أبو إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة أنه قال : أول ما دامت الحصبة بأرض العرب ذلك، وإنه أول ما رأى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشار ذلك العام.
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٥١٢، والدر المصون ٦/٥٧٠..
٢ عجز بيت للنابغة وصدره:
*** والخيل تمزع رهوا في أعنتها ***
ينظر ديوانه (١٤)، والبحر ٨/٥١٢، والدر المصون ٦/٥٥٠..

٣ ينظر: الصحاح ٥/١٧٢٥..
٤ عجز بيت وصدره:
*** ورجلة يضربون البيض من عرض ***
ينظر مجاز القرآن ٢/٣١٢، ومعاني القرآن وإعرابه ٥/٣٦٤، واللسان (سجل)، (رجل) والقرطبي ٢٠/١٣٥، والكشاف ٤/٩٠..

٥ سقط من: أ..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٣٤)..
٧ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ﴾. «كَعصْفٍ » هو المفعول الثاني للجعل، بمعنى التصيير، وفيه مبالغة حسنة، وهو أنه لم يكفهم أن جعلهم أهون شيء من الزَّرع، وهو ما لا يجدي طائلاً، حتى جعلهم رجيعاً.
والمعنى : جعل الله تعالى أصحاب الفيل كورق الزروع إذا أكله الدواب، فرمت به من أسفل، قاله ابن زيد وغيره، والعصف جمع واحده عصفة وعصافة، وأدخل الكاف في «كعصف » للتشبيه مع مثل قوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] ومعنى مأكول أن المراد به قشر البُرّ، يعني الغلاف الذي يكون فيه حبة القمح، يروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة، شبَّه تقطُّع أوصالهم بتفرُّق أجزائه، روي معناه عن ابن زيد١، وغيره.
قال ابن إسحاق : لما رج الله الحبشة عن «مكة »، عظمت العرب قريشاً، وقالوا : أهل الله قاتل عنهم، وكفاهم مئونة عدوهم، فكان ذلك نعمةً من الله عليهم.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٩٩)..
Icon