ﰡ
وَهَذِهِ السُّورَة وَسُورَة " النَّاس " و " الْإِخْلَاص " : تَعَوَّذَ بِهِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين سَحَرَتْهُ الْيَهُود ; عَلَى مَا يَأْتِي.
وَقِيلَ : إِنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ كَانَ يُقَال لَهُمَا الْمُقَشْقِشَتَانِ ; أَيْ تُبْرِئَانِ مِنْ النِّفَاق.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَزَعَمَ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُمَا دُعَاء تَعَوَّذَ بِهِ، وَلَيْسَتَا مِنْ الْقُرْآن ; خَالَفَ بِهِ الْإِجْمَاع مِنْ الصَّحَابَة وَأَهْل الْبَيْت.
قَالَ اِبْن قُتَيْبَة : لَمْ يَكْتُب عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فِي مُصْحَفه الْمُعَوِّذَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَسْمَع رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذ الْحَسَن وَالْحُسَيْن - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا - بِهِمَا، فَقَدَّرَ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ : أُعِيذكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّة، مِنْ كُلّ شَيْطَان وَهَامَّة، وَمِنْ كُلّ عَيْن لَامَّة.
قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَهَذَا مَرْدُود عَلَى اِبْن قُتَيْبَة ; لِأَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ كَلَام رَبّ الْعَالَمِينَ، الْمُعْجِز لِجَمِيع الْمَخْلُوقِينَ ; و " أُعِيذكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّة " مِنْ قَوْل الْبَشَر بَيِّن.
وَكَلَام الْخَالِق الَّذِي هُوَ آيَة لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَم النَّبِيِّينَ، وَحُجَّة لَهُ بَاقِيَة عَلَى جَمِيع الْكَافِرِينَ، لَا يَلْتَبِس بِكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، عَلَى مِثْل عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود الْفَصِيح اللِّسَان، الْعَالِم بِاللُّغَةِ، الْعَارِف بِأَجْنَاسِ الْكَلَام، وَأَفَانِين الْقَوْل.
وَقَالَ بَعْض النَّاس : لَمْ يَكْتُب عَبْد اللَّه الْمُعَوِّذَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَمِنَ عَلَيْهِمَا مِنْ النِّسْيَان، فَأَسْقَطَهُمَا وَهُوَ يَحْفَظهُمَا ; كَمَا أَسْقَطَ فَاتِحَة الْكِتَاب مِنْ مُصْحَفه، وَمَا يَشُكّ فِي حِفْظه وَإِتْقَانه لَهَا.
فَرَدَّ هَذَا الْقَوْل عَلَى قَائِله، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ :" إِذَا جَاءَ نَصْر اللَّه وَالْفَتْح "، و " إِنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَر "، و " قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد " وَهُنَّ يَجْرِينَ مَجْرَى الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي أَنَّهُنَّ غَيْر طِوَال، وَالْحِفْظ إِلَيْهِنَّ أَسْرَع، وَنِسْيَانهنَّ مَأْمُون، وَكُلّهنَّ يُخَالِف فَاتِحَة الْكِتَاب ; إِذْ الصَّلَاة لَا تَتِمّ إِلَّا بِقِرَاءَتِهَا.
وَسَبِيل كُلّ رَكْعَة أَنْ تَكُون الْمُقَدِّمَة فِيهَا قَبْل مَا يَقْرَأ مِنْ بَعْدهَا، فَإِسْقَاط فَاتِحَة الْكِتَاب مِنْ الْمُصْحَف، عَلَى مَعْنَى الثِّقَة بِبَقَاءِ حِفْظهَا، وَالْأَمْن مِنْ نِسْيَانهَا، صَحِيح، وَلَيْسَ مِنْ السُّوَر مَا يَجْرِي فِي هَذَا الْمَعْنَى مَجْرَاهَا، وَلَا يَسْلُك بِهِ طَرِيقهَا.
وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَة " الْفَاتِحَة ".
وَالْحَمْد لِلَّهِ.
" قُلْ أَعُوذ بِرَبِّ الْفَلَق " رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر، قَالَ : أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِب، فَوَضَعْت يَدِي عَلَى قَدَمه، فَقُلْت : أَقْرِئْنِي سُورَة [ هُود ] أَقْرِئْنِي سُورَة يُوسُف.
فَقَالَ لِي :[ لَنْ تَقْرَأ شَيْئًا أَبْلَغ عِنْد اللَّه مِنْ " قُلْ أَعُوذ بِرَبِّ الْفَلَق " ].
قَالَ : وَسَمِعْته يَقْرَأ بِهِمَا فِي الصَّلَاة.
وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : أَصَابَنَا طَشّ وَظُلْمَة، فَانْتَظَرْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُج.
ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا مَعْنَاهُ : فَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ بِنَا، فَقَالَ : قُلْ.
فَقُلْت : مَا أَقُول ؟ قَالَ :( قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِين تُمْسِي، وَحِين تُصْبِح ثَلَاثًا، يَكْفِيك كُلّ شَيْء ) وَعَنْ عُقْبَة بْن عَامِر الْجُهَنِيّ قَالَ : قَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ قُلْ ].
قُلْت : مَا أَقُول ؟ قَالَ قُلْ :( قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد.
قُلْ أَعُوذ بِرَبِّ الْفَلَق.
قُلْ أَعُوذ بِرَبِّ النَّاس - فَقَرَأَهُنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ : لَمْ يَتَعَوَّذ النَّاس بِمِثْلِهِنَّ، أَوْ لَا يَتَعَوَّذ النَّاس بِمِثْلِهِنَّ ).
وَفِي حَدِيث أَبْنِ عَبَّاس " قُلْ أَعُوذ بِرَبِّ الْفَلَق وَقُلْ أَعُوذ بِرَبِّ النَّاس، هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ ".
وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اِشْتَكَى قَرَأَ عَلَى نَفْسه بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَيَنْفُث، كُلَّمَا اِشْتَدَّ وَجَعه كُنْت أَقْرَأ عَلَيْهِ، وَأَمْسَح عَنْهُ بِيَدِهِ، رَجَاء بَرَكَتهَا.
النَّفْث : النَّفْخ لَيْسَ مَعَهُ رِيق.
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَحَرَهُ يَهُودِيّ مِنْ يَهُود بَنِي زُرَيْق، يُقَال لَهُ لَبِيد بْن الْأَعْصَم، حَتَّى يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَل الشَّيْء وَلَا يَفْعَلهُ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَمْكُث - فِي غَيْر الصَّحِيح : سَنَة - ثُمَّ قَالَ :( يَا عَائِشَة أُشْعِرْت أَنَّ اللَّه أَفْتَانِي فِيمَا اِسْتَفْتَيْته فِيهِ.
أَتَانِي مَلَكَانِ، فَجَلَسَ أَحَدهمَا عِنْد رَأْسِي، وَالْآخَر عِنْد رِجْلِي، فَقَالَ الَّذِي عِنْد رَأْسِي لِلَّذِي عِنْد رِجْلِي : مَا شَأْن الرَّجُل ؟ قَالَ : مَطْبُوب.
قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ لَبِيد بْن الْأَعْصَم.
قَالَ فِي مَاذَا ؟ قَالَ فِي مُشْط وَمُشَاطَة وَجُفّ طَلْعَة ذَكَر، تَحْت رَاعُوفَة فِي بِئْر ذِي أَرْوَانَ ) فَجَاءَ الْبِئْر وَاسْتَخْرَجَهُ.
اِنْتَهَى الصَّحِيح.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس :( أَمَا شَعَرْت يَا عَائِشَة أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَنِي بِدَائِي ).
وَجَعَلَ جِبْرِيل يَرْقِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُول :[ بِاسْمِ اللَّه أَرْقِيك، مِنْ كُلّ شَيْء يُؤْذِيك، مِنْ شَرّ حَاسِد وَعَيْن، وَاَللَّه يَشْفِيك ].
فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، أَلَا نَقْتُل الْخَبِيث.
فَقَالَ :[ أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّه، وَأَكْرَه أَنْ أُثِير عَلَى النَّاس شَرًّا ].
وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ فِي تَفْسِيره أَنَّهُ وَرَدَ فِي الصِّحَاح : أَنَّ غُلَامًا مِنْ الْيَهُود كَانَ يَخْدُم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَسَّتْ إِلَيْهِ الْيَهُود، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخَذَ مُشَاطَة رَأْس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُشَاطَة بِضَمِّ الْمِيم : مَا يَسْقُط مِنْ الشَّعْر عِنْد الْمَشْط.
وَأَخَذَ عِدَّة مِنْ أَسْنَان مُشْطه، فَأَعْطَاهَا الْيَهُود، فَسَحَرُوهُ فِيهَا، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ لَبِيد بْن الْأَعْصَم الْيَهُودِيّ.
وَذَكَرَ نَحْو مَا تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِي السِّحْر وَحَقِيقَته، وَمَا يَنْشَأ عَنْهُ مِنْ الْآلَام وَالْمَفَاسِد، وَحُكْم السَّاحِر ; فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.
قَوْله تَعَالَى :" الْفَلَق " اُخْتُلِفَ فِيهِ ; فَقِيلَ : سِجْن فِي جَهَنَّم ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ أُبَيّ بْن كَعْب : بَيْت فِي جَهَنَّم إِذَا فُتِحَ صَاحَ أَهْل النَّار مِنْ حَرّه.
وَقَالَ الْحُبُلِيّ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن : هُوَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء جَهَنَّم.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : وَادٍ فِي جَهَنَّم.
وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : شَجَرَة فِي النَّار.
سَعِيد بْن جُبَيْر : جُبّ فِي النَّار.
النَّحَّاس : يُقَال لِمَا اِطْمَأَنَّ مِنْ الْأَرْض فَلَق ; فَعَلَى هَذَا يَصِحّ هَذَا الْقَوْل.
وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَالْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر أَيْضًا وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالْقُرَظِيّ وَابْن زَيْد : الْفَلَق، الصُّبْح.
وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
تَقُول الْعَرَب : هُوَ أَبْيَن مِنْ فَلَق الصُّبْح وَفَرَق الصُّبْح.
وَقَالَ الشَّاعِر :
يَا لَيْلَة لَمْ أَنَمْهَا بِتّ مُرْتَفِقًا | أَرْعَى النُّجُوم إِلَى أَنْ نَوَّرَ الْفَلَق |
وَقِيلَ : هُوَ التَّفْلِيق بَيْن الْجِبَال وَالصُّخُور ; لِأَنَّهَا تَتَشَقَّق مِنْ خَوْف اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ زُهَيْر :
مَا زِلْت أَرْمُقهُمْ حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ | أَيْدِي الرِّكَاب بِهِمْ مِنْ رَاكِس فَلَقَا |
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قَوْل النَّابِغَة :
وَعِيد أَبِي قَابُوس فِي غَيْر كُنْهِهِ | أَتَانِي وَدُونِي رَاكِس فَالضَّوَاجِع |
وَقِيلَ : الرَّحِم تَنْفَلِق بِالْحَيَوَانِ.
وَقِيلَ : إِنَّهُ كُلّ مَا اِنْفَلَقَ عَنْ جَمِيع مَا خُلِقَ مِنْ الْحَيَوَان وَالصُّبْح وَالْحَبّ وَالنَّوَى، وَكُلّ شَيْء مِنْ نَبَات وَغَيْره ; قَالَهُ الْحَسَن وَغَيْره.
قَالَ الضَّحَّاك : الْفَلَق الْخَلْق كُلّه ; قَالَ :
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبّ الْفَلَقْ | سِرًّا وَقَدْ أَوَّنَ تَأْوِينَ الْعُقُقْ |
فَلَقْت الشَّيْء فَلْقًا أَيْ شَقَقْته.
وَالتَّفْلِيق مِثْله.
يُقَال : فَلَقْته فَانْفَلَقَ وَتَفَلَّقَ.
فَكُلّ مَا اِنْفَلَقَ عَنْ شَيْء مِنْ حَيَوَان وَصُبْح وَحَبّ وَنَوَى وَمَاء فَهُوَ فَلَق ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" فَالِق الْإِصْبَاح " [ الْأَنْعَام : ٩٦ ] قَالَ :" فَالِق الْحَبّ وَالنَّوَى " [ الْأَنْعَام : ٩٥ ].
وَقَالَ ذُو الرُّمَّة يَصِف الثَّوْر الْوَحْشِيّ :
حَتَّى إِذَا مَا اِنْجَلَى عَنْ وَجْهه فَلَق | هَادِيه فِي أُخْرَيَات اللَّيْل مُنْتَصِب |
وَالْفَلَق أَيْضًا : الْمُطْمَئِنّ مِنْ الْأَرْض بَيْن الرَّبْوَتَيْنِ، وَجَمْعه : فُلْقَان ; مِثْل خَلَق وَخُلْقَان، وَرُبَّمَا قَالَ : كَانَ ذَلِكَ بِفَالِقِ كَذَا وَكَذَا ; يُرِيدُونَ الْمَكَان الْمُنْحَدِر بَيْن الرَّبْوَتَيْنِ، وَالْفَلَق أَيْضًا مِقْطَرَة السَّجَّان.
فَأَمَّا الْفِلْق ( بِالْكَسْرِ ) : فَالدَّاهِيَة وَالْأَمْر الْعَجَب ; تَقُول مِنْهُ : أَفْلَقَ الرَّجُل وَافْتَلَقَ.
وَشَاعِر مُفْلِق، وَقَدْ جَاءَ بِالْفِلْقِ أَيْ بِالدَّاهِيَةِ.
وَالْفِلْق أَيْضًا : الْقَضِيب يُشَقّ بِاثْنَيْنِ، فَيُعْمَل مِنْهُ قَوْسَانِ، يُقَال لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا فِلْق، وَقَوْلهمْ : جَاءَ بِعُلَق فُلَق ; وَهِيَ الدَّاهِيَة ; لَا يُجْرَى [ مُجْرَى عُمَر ].
يُقَال مِنْهُ : أَعْلَقْت وَأَفْلَقْت ; أَيْ جِئْت بِعُلَق فُلَق.
وَمَرَّ يَفْتَلِق فِي عَدْوِهِ ; أَيْ يَأْتِي بِالْعَجَبِ مِنْ شِدَّته.
قِيلَ : هُوَ إِبْلِيس وَذُرِّيَّته.
وَقِيلَ جَهَنَّم.
وَقِيلَ : هُوَ عَامّ ; أَيْ مِنْ شَرّ كُلّ ذِي شَرّ خَلَقَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
اُخْتُلِفَ فِيهِ ; فَقِيلَ : هُوَ اللَّيْل.
وَالْغَسَق : أَوَّل ظُلْمَة اللَّيْل ; يُقَال مِنْهُ : غَسَقَ اللَّيْل يَغْسِق أَيْ أَظْلَمَ.
قَالَ اِبْن قَيْس الرُّقَيَّات :
إِنَّ هَذَا اللَّيْل قَدْ غَسَقَا | وَاشْتَكَيْت الْهَمّ وَالْأَرَقَا |
يَا طَيْف هِنْد لَقَدْ أَبْقَيْت لِي أَرَقًا | إِذْ جِئْتنَا طَارِقًا وَاللَّيْل قَدْ غَسَقَا |
و " وَقَبَ " عَلَى هَذَا التَّفْسِير : أَظْلَمَ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَالضَّحَّاك : دَخَلَ.
قَتَادَة : ذَهَبَ.
يَمَان بْن رِئَاب : سَكَنَ.
وَقِيلَ : نَزَلَ ; يُقَال : وَقَبَ الْعَذَاب عَلَى الْكَافِرِينَ ; نَزَلَ.
قَالَ الشَّاعِر :
وَقَبَ الْعَذَاب عَلَيْهِمُ فَكَأَنَّهُمْ | لَحِقَتْهُمُ نَار السَّمُوم فَأُحْصِدُوا |
وَالْغَاسِق : الْبَارِد.
وَالْغَسَق : الْبَرْد ; وَلِأَنَّ فِي اللَّيْل تَخْرُج السِّبَاع مِنْ آجَامهَا، وَالْهَوَامّ مِنْ أَمَاكِنهَا، وَيَنْبَعِث أَهْل الشَّرّ عَلَى الْعَبَث وَالْفَسَاد.
وَقِيلَ : الْغَاسِق : الثُّرَيَّا ; وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا سَقَطَتْ كَثُرَتْ الْأَسْقَام وَالطَّوَاعِين، وَإِذَا طَلَعَتْ اِرْتَفَعَ ذَلِكَ ; قَالَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد.
وَقِيلَ : هُوَ الشَّمْس إِذَا غَرَبَتْ ; قَالَهُ اِبْن شِهَاب.
وَقِيلَ : هُوَ الْقَمَر.
قَالَ الْقُتَبِيّ :" إِذَا وَقَبَ " الْقَمَر : إِذَا دَخَلَ فِي سَاهُوره، وَهُوَ كَالْغِلَافِ لَهُ، وَذَلِكَ إِذَا خُسِفَ بِهِ.
وَكُلّ شَيْء أَسْوَد فَهُوَ غَسَق.
وَقَالَ قَتَادَة :" إِذَا وَقَبَ " إِذَا غَابَ.
وَهُوَ أَصَحّ ; لِأَنَّ فِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى الْقَمَر، فَقَالَ :[ يَا عَائِشَة، اِسْتَعِيذِي بِاَللَّهِ مِنْ شَرّ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْغَاسِق إِذَا وَقَبَ ].
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَقَالَ أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب عَنْ اِبْن الْأَعْرَابِيّ فِي تَأْوِيل هَذَا الْحَدِيث : وَذَلِكَ أَنَّ أَهْل الرِّيَب يَتَحَيَّنُونَ وَجْبَة الْقَمَر.
وَأَنْشَدَ :
أَرَاحَنِي اللَّه مِنْ أَشْيَاء أَكْرَههَا | مِنْهَا الْعَجُوز وَمِنْهَا الْكَلْب وَالْقَمَر |
هَذَا يَبُوح وَهَذَا يُسْتَضَاء بِهِ | وَهَذِهِ ضِمْرِز قَوَّامَة السَّحَر |
وَكَأَنَّ الْغَاسِق نَابهَا ; لِأَنَّ السُّمّ يَغْسِق مِنْهُ ; أَيْ يَسِيل.
وَوَقَبَ نَابهَا : إِذَا دَخَلَ فِي اللَّدِيغ.
وَقِيلَ : الْغَاسِق : كُلّ هَاجِم يَضُرّ، كَائِنًا مَا كَانَ ; مِنْ قَوْلهمْ : غَسَقَتْ الْقُرْحَة : إِذَا جَرَى صَدِيدهَا.
يَعْنِي السَّاحِرَات اللَّائِي يَنْفُثْنَ فِي عُقَد الْخَيْط حِين يَرْقِينَ عَلَيْهَا.
شَبَّهَ النَّفْخ كَمَا يَعْمَل مَنْ يَرْقِي.
قَالَ الشَّاعِر :
أَعُوذ بِرَبِّي مِنْ النَّافِثَات | فِي عِضَهِ الْعَاضِه الْمُعْضِه |
نَفَثْت فِي الْخَيْط شَبِيه الرُّقَى | مِنْ خَشْيَة الْجِنَّة وَالْحَاسِد |
فَإِنْ يَبْرَأ فَلَمْ أَنْفُث عَلَيْهِ | وَإِنْ يُفْقَد فَحُقَّ لَهُ الْفُقُود |
وَاخْتُلِفَ فِي النَّفْث عِنْد الرُّقَى فَمَنَعَهُ قَوْم، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ.
قَالَ عِكْرِمَة : لَا يَنْبَغِي لِلرَّاقِي أَنْ يَنْفُث، وَلَا يَمْسَح وَلَا يَعْقِد.
قَالَ إِبْرَاهِيم : كَانُوا يَكْرَهُونَ النَّفْث فِي الرُّقَى.
وَقَالَ بَعْضهمْ : دَخَلْت، عَلَى الضَّحَّاك وَهُوَ وَجِع، فَقُلْت : أَلَا أَعُوذك يَا أَبَا مُحَمَّد ؟ قَالَ : لَا شَيْء مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا تَنْفُث ; فَعَوَّذْته بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ.
وَقَالَ اِبْن جُرَيْج قُلْت لِعَطَاءٍ : الْقُرْآن يُنْفَخ بِهِ أَوْ يُنْفَث ؟ قَالَ : لَا شَيْء مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ تَقْرَؤُهُ هَكَذَا.
ثُمَّ قَالَ بَعْد : اُنْفُثْ إِنْ شِئْت.
وَسُئِلَ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ الرُّقْيَة يُنْفَث فِيهَا، فَقَالَ : لَا أَعْلَم بِهَا بَأْسًا، وَإِذَا اِخْتَلَفُوا فَالْحَاكِم بَيْنهمْ السُّنَّة.
رَوَتْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُث فِي الرُّقْيَة ; رَوَاهُ الْأَئِمَّة، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ أَوَّل السُّورَة وَفِي " الْإِسْرَاء ".
وَعَنْ مُحَمَّد بْن حَاطِب أَنَّ يَده اِحْتَرَقَتْ فَأَتَتْ بِهِ أُمّه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَنْفُث عَلَيْهَا وَيَتَكَلَّم بِكَلَامٍ ; زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظهُ.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْأَشْعَث : ذُهِبَ بِي إِلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَفِي عَيْنِي سُوء، فَرَقَتْنِي وَنَفَثَتْ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة مِنْ قَوْله : لَا يَنْبَغِي لِلرَّاقِي أَنْ يَنْفُث، فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إِلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ النَّفْث فِي الْعُقَد مِمَّا يُسْتَعَاذ بِهِ، فَلَا يَكُون بِنَفْسِهِ عُوذَة.
وَلَيْسَ هَذَا هَكَذَا ; لِأَنَّ النَّفْث فِي الْعُقَد إِذَا كَانَ مَذْمُومًا لَمْ يَجِب أَنْ يَكُون النَّفْث بِلَا عُقَد مَذْمُومًا.
وَلِأَنَّ النَّفْث فِي الْعُقَد إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ السِّحْر الْمُضِرّ بِالْأَرْوَاحِ، وَهَذَا النَّفْث لِاسْتِصْلَاحِ الْأَبْدَان، فَلَا يُقَاس مَا يَنْفَع بِمَا يَضُرّ.
وَأَمَّا كَرَاهَة عِكْرِمَة الْمَسْح فَخِلَاف السُّنَّة.
قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : اِشْتَكَيْت، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَقُول : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ فَأَرِحْنِي، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فَاشْفِنِي وَعَافِنِي، وَإِنْ كَانَ بَلَاء فَصَبِّرْنِي.
وَقَرَأَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَعَبْد الرَّحْمَن بْن سَابِط وَعِيسَى بْن عُمَر وَرُوَيْس عَنْ يَعْقُوب " مِنْ شَرّ النَّافِثَات " فِي وَزْن ( فَاعِلَات ).
وَرُوِيَتْ عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْقَاسِم مَوْلَى أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
وَرُوِيَ أَنَّ نِسَاء سَحَرْنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى عَشْرَة عُقْدَة، فَأَنْزَلَ اللَّه الْمُعَوِّذَتَيْنِ إِحْدَى عَشْرَة آيَة.
قَالَ اِبْن زَيْد : كُنَّ مِنْ الْيَهُود ; يَعْنِي السَّوَاحِر الْمَذْكُورَات.
وَقِيلَ : هُنَّ بَنَات لَبِيد بْن الْأَعْصَم.
قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " النِّسَاء " مَعْنَى الْحَسَد، وَأَنَّهُ تَمَنِّي زَوَال نِعْمَة الْمَحْسُود وَإِنْ لَمْ يَصِرْ لِلْحَاسِدِ مِثْلهَا.
وَالْمُنَافَسَة هِيَ تَمَنِّي مِثْلهَا وَإِنْ لَمْ تَزُلْ.
فَالْحَسَد شَرّ مَذْمُوم.
وَالْمُنَافَسَة مُبَاحَة وَهِيَ الْغِبْطَة.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ الْمُؤْمِن يَغْبِط، وَالْمُنَافِق يَحْسُد ].
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ :[ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اِثْنَتَيْنِ ] يُرِيد لَا غِبْطَة وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " النِّسَاء " وَالْحَمْد لِلَّهِ.
قُلْت : قَالَ الْعُلَمَاء : الْحَاسِد لَا يَضُرّ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ حَسَده بِفِعْلٍ أَوْ قَوْل، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْمِلهُ الْحَسَد عَلَى إِيقَاع الشَّرّ بِالْمَحْسُودِ، فَيَتْبَع مَسَاوِئَهُ، وَيَطْلُب عَثَرَاته.
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ إِذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ... ] الْحَدِيث.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَالْحَسَد أَوَّل ذَنْب عُصِيَ اللَّه بِهِ فِي السَّمَاء، وَأَوَّل ذَنْب عُصِيَ بِهِ فِي الْأَرْض، فَحَسَدَ إِبْلِيس آدَم، وَحَسَدَ قَابِيل هَابِيل.
وَالْحَاسِد مَمْقُوت مَبْغُوض مَطْرُود مَلْعُون وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ :
قُلْ لِلْحَسُودِ إِذَا تَنَفَّسَ طَعْنَة... يَا ظَالِمًا وَكَأَنَّهُ مَظْلُوم
هَذِهِ سُورَة دَالَّة عَلَى أَنَّ اللَّه سُبْحَانه خَالِق كُلّ شَرّ، وَأَمَرَ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَعَوَّذ مِنْ جَمِيع الشُّرُور.
فَقَالَ :" مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ ".
وَجَعَلَ خَاتِمَة ذَلِكَ الْحَسَد، تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمه، وَكَثْرَة ضَرَره.
وَالْحَاسِد عَدُوّ نِعْمَة اللَّه.
قَالَ بَعْض الْحُكَمَاء : بَارَزَ الْحَاسِد رَبّه مِنْ خَمْسَة أَوْجُه :
أَحَدهَا : أَنَّهُ أَبْغَضَ كُلّ نِعْمَة ظَهَرَتْ عَلَى غَيْره.
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ سَاخِط لِقِسْمَةِ رَبّه، كَأَنَّهُ يَقُول : لِمَ قَسَمْت هَذِهِ الْقِسْمَة ؟
وَثَالِثهَا : أَنَّهُ ضَادَّ فِعْل اللَّه، أَيْ إِنَّ فَضْل اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء، وَهُوَ يَبْخَل بِفَضْلِ اللَّه.
وَرَابِعهَا : أَنَّهُ خَذَلَ أَوْلِيَاء اللَّه، أَوْ يُرِيد خِذْلَانهمْ وَزَوَال النِّعْمَة عَنْهُمْ.
وَخَامِسهَا : أَنَّهُ أَعَانَ عَدُوّهُ إِبْلِيس.
وَقِيلَ : الْحَاسِد لَا يَنَال فِي الْمَجَالِس إِلَّا نَدَامَة، وَلَا يَنَال عِنْد الْمَلَائِكَة إِلَّا لَعْنَة وَبَغْضَاء، وَلَا يَنَال فِي الْخَلْوَة إِلَّا جَزَعًا وَغَمًّا، وَلَا يَنَال فِي الْآخِرَة إِلَّا حُزْنًا وَاحْتِرَاقًا، وَلَا يَنَال مِنْ اللَّه إِلَّا بُعْدًا وَمَقْتًا.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( ثَلَاثَة لَا يُسْتَجَاب دُعَاؤُهُمْ : آكِل الْحَرَام، وَمُكْثِر الْغِيبَة، وَمَنْ كَانَ فِي قَلْبه غِلّ أَوْ حَسَد لِلْمُسْلِمِينَ ).
وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم.