تفسير سورة المنافقون

أضواء البيان
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحِيمِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ.
قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُنَافِقُونَ: جَمْعُ مُنَافِقٍ، وَهُوَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَيُسِرُّ الْكُفْرَ.
(قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ)، أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ نِفَاقًا وَخَوْفًا، وَلَمْ يَقُولُوهُ خَالِصًا مِنْ قُلُوبِهِمْ. وَلِذَا قَالَ اللَّهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، وَإِنَّمَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِمْ حَقٌّ ; لِأَنَّ بَوَاطِنَهُمْ تُكَذِّبُ ظَوَاهِرَهُمْ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا كَسْرُ هَمْزَةِ إِنَّ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهَا بَعْدَ فِعْلٍ مُعَلَّقٍ بِاللَّامِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفُتِحَتْ، لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْمَصْدَرِ.
وَلِأَبِي حَيَّانَ قَوْلٌ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ إِذْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُمْ: (نَشْهَدُ) يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ، وَلِذَلِكَ تُلُقِّيَ بِمَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ، وَكَذَا فِعْلُ الْيَقِينِ، وَالْعَلَمُ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، أَعْنِي: بِقَصْدِ التَّوْكِيدِ بِإِنَّ وَاللَّامِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَصْلُ الشَّهَادَةِ أَنْ يُوَاطِىءَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ، هَذَا بِالنُّطْقِ وَذَلِكَ بِالِاعْتِقَادِ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ، وَفَضَحَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ.
أَيْ: لَمْ تُوَاطِئُ قُلُوبُهُمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى تَصْدِيقِكَ، وَاعْتِقَادُهُمْ أَنَّكَ غَيْرُ رَسُولٍ، فَهُمْ كَاذِبُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَنْ عَرَفَ حَالَهُمْ، أَوْ كَاذِبُونَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، إِذْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كَذِبٌ.
وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، بَيْنَ شَهَادَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيذَانًا بِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالُوا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [٤٨ ٢٨ - ٢٩].
تَنْبِيهٌ
188
فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبْحَثٌ بَلَاغِيٌّ فِي تَقْسِيمِ الْكَلَامِ إِلَى خَبَرٍ وَإِنْشَاءٍ فَقَالُوا: الْخَبَرُ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لِذَاتِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَنْحَصِرُ فِيهِمَا بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالْمُخْبِرُ إِمَّا صَادِقٌ وَإِمَّا كَاذِبٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ أَوْ عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ، وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالِاعْتِقَادِ.
قَالَ السَّعْدُ فِي التَّلْخِيصِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: صِدْقُ الْخَبَرِ وَكَذِبُهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ، لَا لِلْوَاقِعِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ عَدَمَ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْخَطَأِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْكَذِبِ.
وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: مَا كَذَبَ وَلَكِنَّهُ وَهِمَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجَاحِظِ وَهُوَ صِدْقُ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ مُسْتَدِلًّا بِالْآيَةِ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، مَعَ قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ مَعَ أَنَّ خَبَرَهُمْ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا مَا قَالُوا فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ لِذَلِكَ.
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْجَاحِظِ الْقَوْلُ بِوُجُودِ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَهِيَ عَدَمُ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَوْ طَابَقَ الْوَاقِعَ، وَلَكِنْ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ يَرُدُّ هَذَا الْمَذْهَبَ وَيُبْطِلُ اسْتِدْلَالَ الْجَاحِظِ وَمَنْ وَافَقَهُ بِالْآيَةِ ; لِأَنَّ تَكْذِيبَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُنْصَبٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ قَالُوا نَشْهَدُ، وَالشَّهَادَةُ أَخَصُّ مِنَ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوا شَهَادَتَهُمُ التَّأْكِيدَ الْمُشْعِرَ بِالْقَسَمِ وَالْمُوحِيَ بِمُطَابَقَةِ الْقَوْلِ لِمَا فِي الْقَلْبِ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ مَقَامُ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي كَوْنِ إِخْبَارِهِمْ بِصُورَةِ الشَّهَادَةِ وَالْحَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَهُوَ عَدَمُ مُطَابَقَتِهَا لِاعْتِقَادِهِمْ.
وَالْقُرْآنُ يَنْفِي وُجُودَ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [١٠ ٣٢].
أَمَّا فِقْهُ الْيَمِينِ وَمَا تَنْعَقِدُ بِهِ وَأَحْكَامُهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذَا الْمَبْحَثُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ الْآيَةَ [٥ ٨٩].
189
وَذُكِرَ فِي مَعْنَى لَغْوِ الْيَمِينِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ:
الثَّانِي مِنْهُمَا: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ فَيُظْهِرُ خِلَافَهُ وَعَزَاهُ لِمَالِكٍ، وَأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَسَاقَ أَسْمَاءَ كَثِيرِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَدِّ اللُّغَوِيِّ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّينَ، وَالْحَدِّ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ يُقْبَلُ شَرْعًا مَا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ ; لِأَنَّهُ حَدُّ عِلْمِهِ، وَلِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الشَّرْعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً.
قُرِئَ (أَيْمَانَهُمْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ يَمِينٍ، وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا مِنَ الْإِيمَانِ ضِدِّ الْكُفْرِ، أَيْ: مَا أَظْهَرُوهُ مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ.
وَمِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ إِذَا كَانَ فِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ، وَفِيهَا مَا يُرَجِّحُ إِحْدَاهُمَا، وَتَقَدَّمَ كَلَامُ أَبِي حَيَّانَ تَخْرِيجَهُ عَلَى الْيَمِينِ.
وَلِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ التَّدْرِيسِ قَوْلُهُ: الْأَيْمَانُ جُمَعُ يَمِينٍ، وَهِيَ الْحَلِفُ وَالْجُنَّةُ التُّرْسُ، وَهُوَ الْمِجَنُّ الَّذِي تُتَّقَى بِهِ السُّيُوفُ وَالنِّبَالُ وَالسِّهَامُ فِي الْحَرْبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ نِفَاقِهِمْ أَوْ سُمِعَتْ عَنْهُمْ كَلِمَةُ كُفْرٍ، حَلَفُوا بِاللَّهِ أَنَّهُمْ مَا قَالُوا ذَلِكَ وَمَا فَعَلُوهُ، فَيَجْعَلُونَ حَلِفَهُمْ تُرْسًا يَقِيهِمْ مِنْ مُؤَاخَذَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَنْبِهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الْآيَةَ [٩ ٧٤]. وَقَالَ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ الْآيَةَ [٩ ٥٦]. وَقَالَ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الْآيَةَ [٩ ٦٢]، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ أَيْمَانًا عَلَى أَيْمَانِهِمْ.
وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: أَنَّ أَيْمَانَهُمْ وَحَلِفَهُمْ مُنْصَبٌّ عَلَى دَعْوَى إِيمَانِهِمْ، فَلَا انْفِكَاكَ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْإِيمَانَ ; لِأَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَالْيَمِينُ أَخَصُّ مِنَ الْإِيمَانِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَخَصِّ يَقْتَضِي وُجُودَ الْأَعَمِّ، فَالْحَلِفُ عَلَى الْإِيمَانِ يَسْتَلْزِمُ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَزِيَادَةً، وَمُجَرَّدُ دَعْوَى الْإِيمَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّأْكِيدَ بِالْإِقْسَامِ وَالْحَلِفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
190

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ التَّغَابُنِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّسْبِيحِ وَمَدْلُولِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَشْرِ» وَ «الْحَدِيدِ»، وَهَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالتَّسْبِيحِ، وَالْفِعْلُ هُنَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَالتَّذْيِيلُ هُنَا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، نَافِذٌ فِيهِ أَمْرُهُ، مَاضٍ فِيهِ حُكْمُهُ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ أَمْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٦٧ ١].
وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «يس» : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٣٦ ٨٢ - ٨٣].
وَمِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَتَصْرِيفِهِ لِأُمُورِ مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، أَنْ جَعَلَ الْعَالَمَ كُلَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ بِحَمْدِهِ تَنْفِيذًا لِحِكْمَةٍ فِيهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٨ ٧٠]، فَجَمَعَ الْحَمْدَ وَالْحُكْمَ مَعًا لِجَلَالَةِ قُدْرَتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَقَدَّرَ عَلَى قَوْمٍ مِنْكُمُ الْكُفْرَ، وَعَلَى قَوْمٍ مِنْكُمُ الْإِيمَانَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَهْدِي كُلًّا لِمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [٨٧ ٣]، فَيَسَّرَ الْكَافِرَ إِلَى الْعَمَلِ بِالْكُفْرِ، وَيَسَّرَ الْمُؤْمِنَ لِلْعَمَلِ بِالْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ». اهـ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا النَّصَّ مِنْ مَأْزِقِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ، وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يُؤْمِنُونَ أَنَّ كُلًّا بِقَدَرِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الْعَقِيدَةِ الْوَاسِطِيَّةِ: وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ
195
قَوْلِ: إِنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى عَمَلِهِ لَا اخْتِيَارَ لَهُ كَالْوَرَقَةِ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ. وَبَيْنَ قَوْلِ: إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ، وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِمَشِيئَتِهِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [٨١ ٢٩].
وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَقْوَالَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مَا اسْتَدَلَّتْ بِهِ، الْأُولَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا، وَخَلَقَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا».
بِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ أَوْ بَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ أَوْ بَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا».
وَقَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: تَعَلَّقَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ بِكُلِّ مَعْلُومٍ، فَيَجْرِي مَا عَلِمَ وَأَرَادَ وَحَكَمَ.
الثَّانِيَةُ: مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ ثُمَّ كَفَرُوا وَآمَنُوا، قَالُوا: وَتَمَامُ الْكَلَامِ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [٢٤ ٤٥]، قَالُوا: فَاللَّهُ خَلَقَهُمْ وَالْمَشْيُ فِعْلُهُمْ.
وَاخْتَارَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُمْ كَافِرِينَ وَمُؤْمِنِينَ لَمَا وَصَفَهُمْ بِفِعْلِهِمْ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ». الْحَدِيثَ. اهـ.
وَبِالنَّظَرِ فِي هَاتَيْنِ الْمَقَالَتَيْنِ نَجِدُ الْآتِيَ:
أَوَّلًا: التَّشْبِيهُ فِي الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَسْلَمُ ; لِأَنَّ وَصْفَ الدَّوَابِّ فِي حَالَةِ الْمَشْيِ لَيْسَ وَصْفًا فِعْلِيًّا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ضِمْنِ خَلْقِهِ تَعَالَى لَهَا وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا فِعْلٌ فِي ذَلِكَ.
ثَانِيًا: مَا اسْتَدَلَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ» لِبَيَانِ الْمَصِيرِ وَالْمُنْتَهَى، وَفْقَ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ وَالْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ.
196
قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: أَيْ بِسَبَبِ اتِّخَاذِهِمْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً وَخَفَاءِ كُفْرِهِمُ الْبَاطِنِ، تَمَكَّنُوا مِنْ صَدِّ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَظُنُّونَهُمْ إِخْوَانًا وَهُمْ أَعْدَاءٌ، وَشَرُّ الْأَعْدَاءِ مَنْ تَظُنُّ أَنَّهُ صَدِيقٌ وَلِذَا حَذَّرَ اللَّهُ نَبِيَهُ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [٦٣ ٤]، وَصَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَتَعْوِيقِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ ; كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا الْآيَةَ [٣٣ ١٨]. وَبِقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ الْآيَةَ [٩ ٨١]. وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا الْآيَةَ [٣ ١٦٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: (سَاءَ) فِعْلٌ جَامِدٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ بِمَعْنَى بِئْسَ. اهـ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى تِلْكَ الْإِسَاءَةَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عِدَّةِ جِهَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [٢ ٩]. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [٤ ١٤٢].
وَكَانَ خِدَاعُهُمْ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَخِدَاعُهُمْ بِالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [٤٨ ١١].
وَخِدَاعُهُمْ فِي الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ [٤ ١٤٢].
وَفِي الْجِهَادِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [٣٣ ١٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الطَّبْعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ نَتِيجَةٌ لِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ ١٥٥]. وَكَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [٦١ ٥].
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا، أَيْ: بِأَلْسِنَتِهِمْ نِفَاقًا ثُمَّ كَفَرُوا بِقُلُوبِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ. اهـ.
وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [٢ ٧] فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ بَعْدَ هَذَا الطَّبْعِ، وَمَعَ هَذَا الْخَتْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [١٨ ٥٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.
فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِحَصْرِ الْعَدَاوَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ مَعَ وُجُودِهَا فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ، وَلَكِنَّ إِظْهَارَ الْمُشْرِكِينَ شِرْكَهُمْ، وَإِعْلَانَ الْيَهُودِ كُفْرَهُمْ مَدْعَاةٌ لِلْحَذَرِ طَبْعًا.
أَمَّا هَؤُلَاءِ فَادِّعَاؤُهُمُ الْإِيمَانَ وَحَلِفُهُمْ عَلَيْهِ، قَدْ يُوحِي بِالرُّكُونِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ رَغْبَةً فِي تَأْلِيفِهِمْ، فَكَانُوا أَوْلَى بِالتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَلِقُوَّةِ مُدَاخَلَتِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا يُمَكِّنُهُمْ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ شُئُونِهِمْ.
وَقَدْ جَاءَ فِي آخِرِ السُّورَةِ كُلِّهِ كَاشِفًا لِحَقِيقَتِهِمْ وَمُبَيِّنًا شِدَّةَ عَدَاوَتِهِمْ سَوَاءٌ فِي قَوْلِهِمْ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [٦٣ ٧]، أَوْ فِي تَآمُرِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِمْ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [٦٣ ٨]. وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [٦٣ ٦].
(هُمْ) هُنَا الْمُنَافِقُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [٩ ٦٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [٣٩ ٦٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ.
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [١٨ ٤٦]، وَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَ لَهْوِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، بِأَنَّ الْعَبْدَ يُفْتَنُ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي فِي سُورَةِ «التَّغَابُنِ» : إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [٦٤ ١٥].
أَيْ: لِمَنْ سَخَّرَ الْمَالَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَبِالتَّأَمُّلِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَآخِرِ الَّتِي قَبْلَهَا نَجِدُ اتِّحَادًا فِي الْمَوْضُوعِ وَالتَّوْجِيهِ.
فَهُنَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [٦٢ ١١].
وَجَاءَ عَقِبَهُ مُبَاشَرَةً سُورَةُ: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [٦٣ ١]، وَلَعَلَّهُ مِمَّا يُشْعِرُ أَنَّ الَّذِينَ بَادَرُوا بِالْخُرُوجِ لِلْعِيرِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَتَبِعَهُمُ الْآخَرُونَ لِحَاجَتِهِمْ لِمَا تَحْمِلُ الْعِيرُ، وَهُنَا بَعْدَمَا رَكَنَ الْمُنَافِقُونَ لِلْمَالِ جَاءَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا فَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ فِتْنَةً لَهُمْ فِي مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَمْوَالِ خُصُوصَ ذِكْرِ الْخُطْبَةِ وَالْعِيرِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا، أَوْ عُمُومَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُكْتَسَبَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ.
فِيهِ الْإِنْفَاقُ مِنْ بَعْضِ مَا رَزَقَهُمْ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَبْحَثُ الِاقْتِصَادِ فِي الْإِنْفَاقِ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [٢ ٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا.
وَكَذَلِكَ لَا يُقَدِّمُهَا عَلَيْهِ ; كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [١٠ ٤٩].
وَبَيَّنَ تَعَالَى عَدَمَ تَأَخُّرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ وُعِدُوا بِأَنَّهُمْ يَصَّدَّقُونَ وَيَكُونُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ، مُشِيرًا لِلسَّبَبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [٦٤ ١١] أَيْ: لَوْ أَخَّرَكُمْ ; لَأَنَّ شِيمَتَكُمُ الْكَذِبُ وَخَلْفُ الْوَعْدِ، وَأَنَّ هَذَا دَأَبُ أَمْثَالِهِمْ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ
193
[١٤ ٤٤].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [٢٣ ٩٩ - ١٠٠].
فَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا، تُعَادِلُ فِي مَاصَدَقِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
أَيْ: لَوْ أَخَّرَهُمْ لَنْ يَصْدُقُوا، وَلَنْ يَكُونُوا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِمَا سَيَكُونُ، كَإِحَاطَتِهِ بِمَا قَدْ كَانَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
194
Icon