تشتمل سورة الإنسان على ثلاثة مقاصد :
الأول : كيف خلق الله الإنسان تتميما لما ذكر في آخر سورة القيامة، وذلك من أول السورة إلى قوله ﴿ سميعا بصيرا ﴾.
الثاني : في جزاء الشاكرين ومجازاة الكافرين، ووصف الجنة والنار، وذلك من قوله تعالى ﴿ إنا هديناه السبيل ﴾ إلى قوله :﴿ وكان سعيكم مشكورا ﴾.
الثالث : أمرُ النبي بالصبر، وذكر الله، والتهجد بالليل، وذلك من قوله تعالى ﴿ إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ﴾ إلى آخر السورة.
فتبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة على أساس الابتلاء، وتُختم ببيان عاقبة الابتلاء، فتوحي بذلك البدء والختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره، غير واع ولا مدرك، وهو مخلوق ليُبتلى، وقد وهبه الله نعمة الإدراك لينجح في الاختبار والابتلاء.
وقد سميت " سورة الإنسان " لقوله تعالى :﴿ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ﴾ وكذلك سورة الدهر بقوله : " حين من الدهر ". وسورة الأبرار بقوله : " إن الأبرار يشربون....... }.
ثم تفصّل السورة في صورة النعيم تفصيلا طويلا، وما في هذه الصورة من النعيم الحسي هو الذي جعل بعض العلماء يحتج أن هذه السورة مكية، لأن المشركين كانوا قريبي عهد بالجاهلية لا يؤمنون بالمحسوس من متاع الدنيا. وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلّع صنوف من الناس، ويُرضي رغباتهم. وقد تحدثت السورة عن النعيم الذي أعده الله في الآخرة لأهل الجنة، ثم ذكرت أوصاف هؤلاء السعداء بشيء من الإسهاب، بوفائهم بالنَذْر، وإطعام الفقراء ابتغاء مرضاة الله، وأشادت بما لهم عند الله من الأجر والكرامة في دار الإقامة، وأفاضت في سرد نعيم أهل الجنة في مأكلهم ومشربهم، وملبسهم، وخدمهم.
ثم أمرت الرسول الكريم بالصبر، وذكر ربه بكرة وأصيلا، وصلاة الليل، وأنذرت من يحبون الدنيا ويؤثرونها على الآخرة، . ثم خُتمت السورة ببيان أن هذا القرآن تذكرة لمن كان له قلب ﴿ فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاؤن إلا أن يشاء الله، إن الله كان عليما حكيما ﴾...
ﰡ
حين : وقت من الزمن غير محدود.
يخبر الله تعالى عباده في هذه الآية أنه قد مضى على الإنسان وقتٌ من الزمن غير معلوم لديه لم يكن شيئا يُذكر، ولا يعرف.
نبتليه : نختبره.
ثم أتبعه بذِكر العناصر الداخلة في تكوين الإنسان فقال :
﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾.
خلقنا هذا الإنسان من نطفة فيها أعدادٌ لا تحصى من الحُويّنات التي لا تُرى بالعين المجردة، وهذه النطفة تختلط ببيضةِ المرأة، وباتحادِهما يتكون الجنين، وهاتان النطفتان مخلوقتان من عناصر مختلفة، وتلك العناصرُ آتيةٌ من النبات والحيوان الداخلَين في طعام الآباء والأمهات، ومن الماء الذي يشربونه.. فهي أخلاط، كُونت ومزجت وصارت دماً، فنطفةً، فعلقة الخ.....
وقد خلقنا هذا الإنسان لِنبتليَه بالتكاليف فيما بعدُ، ثم أعطيناه السمع والبصر ليتمكن من استماع الآياتِ ومشاهدة الدلائل، ويعقِل ويفكر.
ثم ذكر أنه بعد أن ركّبه من هذه الأخلاط وأعطاه الحواسّ الظاهرة والباطنةَ، بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال فقال :
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
وبعد أن أعطيناه السمعَ والبصر والعقل، نصبنا له الدلائل في الأنفس والآفاق، ليتميز شكرُه من كفره، وطاعته من معصيته.
الأغلال : القيود، واحدها غل بضم الغين.
سعيرا : نارا.
ثم بين الله تعالى أن الناسَ انقسموا في ذلك فريقين : فريقاً جحدوا ولم يؤمنوا فأعدّ الله لهم عذاباً أليما منه قيود في أعناقهم وأيديهم، وناراً تشوي الوجوه والأجسام.
قراءات
قرأ نافع والكسائي وأبو بكر : سلاسلاً بالتنوين. والباقون : سلاسل بفتح اللام بغير تنوين.
مزاجُها : ما يمزج به.
الكافور : شجر من الفصيلة الغاريّة، يتخذ منه مادة شفافة بلورية الشكل رائحتها عطرية.
وفريقَ الأبرار الصادقين في إيمانهم يشربون شراباً لذيذا ممزوجاَ بماءِ الكافور ومن ماءٍ عذْب زلالٍ.
في هذه الآية الكريمة والآيات التي تليها عرضٌ وتفصيل لصور النعيم الذي أفاضه الله تعالى على عباده الأبرار في جنة الخلد، وهذا العرض من أطولِ
ما وردَ في القرآن الكريم لصُورِ النعيم ومشاهده. وقد بدأ ببيان أعمالهم وما قدّموا من خير للناس فقال :
﴿ يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾.
هؤلاء الأبرارُ يوفون بما أوجبوه على أنفسهم من نَذْرٍ في طاعة الله، ويخافون من هولِ يوم القيامة، ذلك اليوم المخيفِ الذي يعمّ شرُّه ويستطير بين الناس
إلا من رحمَ الله.
قمطريرا : شديد الشر مظلما. والفعل اقمطرّ الشر : اشتد وتجمع.
لا نريد عن عملنا هذا عِوَضاً ولا نريد منكم ثناء.
﴿ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ﴾.
إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربُّنا يوم القيامة، ويتلقّانا بلطفه في ذلك اليوم الشديد الهولِ والشر.
نضرة : حسنا وبهاء.
ثم بين الله تعالى انه أمَّنَ لهم مَطلبهم فقال :
﴿ فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ﴾
فحماهم اللهُ من شر ذلك اليوم وشدائده، وأعطاهم نضرةً وحُسناً في وجوههم وسروراً في قلوبهم.
﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً ﴾،
أعطاهم على صبرهم، وإحسانهم للناس، وإيمانهم الصادق، هذا النعيمَ في الجنة والخلودَ فيها، ولباسَ الحرير الذي كان ممنوعا في الدنيا.
الزمهرير : أشدُّ البرد.
ثم وصف شرابَهم وأوانيه والسقاةَ الذين يطوفون عليهم به، وما هم فيه من سعادةٍ أبدية فقال :
﴿ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ﴾.
يجلسون على أفخرِ الأسرّة والمقاعد متكئين عليها يتحدّثون ويتسامرون،
لا يجِدون في الجنة حَرّاً ولا بردا.
وذُللت قطوفها تذليلا : سخرت لهم ثمارها بحيث تكون في تناول أيديهم. القطوف : واحدها قِطف بكسر القاف وهو ما قطف من الثمر والعنقود.
وهم في جنةٍ وارفة الظلال، ثمارُها قريبة من متناول أيديهم، تغمرهم السعادةُ.
والقوارير : واحدها قارورة : إناء رقيق من الزجاج.
ويطوف عليهم الولدانُ من خَدَمهم بأوعية شرابٍ من فضة.
وبأكواب من زجاجٍ شفاف عليها غشاءٌ من فضة، قدّرها لهم السقاةُ الذين يطوفون عليهم على قَدْرِ كفايتهم وحاجاتهم وحسب ما يشتهون.
قراءات
قرأ حفص وأبو عمرو وابن ذكوان ﴿ قَوَارِيرَاْ، قَوَارِيرَاْ ﴾ بالألف من غير تنوين وقرأ ابن كثير : قواريراً بتنوين الأول وقوارير الثانية من غير تنوين. وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر :﴿ قَوَارِيرَاْ، قَوَارِيرَاْ ﴾ بالتنوين لهما. وقرأ حمزة : قوارير قوارير بعدم التنوين فيهما.
ثم وصف مشروبهم بأنه شرابٌ لذيذ منعش ممزوج بالزنجبيل.
ويُسْقَون من عين في الجنة اسمها السلسبيل، لسلاسَتها وسهولةِ مساغها.. وهذا كله ما هو إلا أسماء لما هو شبيهٌ بما في الدنيا. وهناك ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، وكل ما في الآخرة مغاير لما في حياتنا الدنيا.
ثم بين أوصافَ السقاةِ الذين يطوفون عليهم بذلك الشراب فقال :
﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾.
ويطوف على هؤلاء الأبرار من أهل الجنة ولدان يظلّون على ما هم عليه : من الشباب والنضارة والحُسن، منظرُهم مبهج مفرح، وإذا رأيتَ جماعةً منهم حسبتَهم لحُسنِ ألوانهم ونضارة وجوههم ورشاقتهم في الخدمة كأنهم لؤلؤ منثور.
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾
وإذا رأيتَ ما في الجنة من النعيم وما تفضّل الله به على عباده الأبرار من مظاهر الأنس والسرور، رأيت نعيماً لا يكاد يوصف، ومُلكاً كبيرا واسعا
لا غاية له، يختلف كل الاختلاف عما نراه في هذه الدنيا الفانية.
وفي الحديث القدسي :« أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ».
الإستبرق : نوع من الحرير الغليظ.
في هذه الآية الكريمة يصف الله تعالى ملبسَهم أنه من حريرٍ ناعم رقيقِ
هو السندس، وحريرٍ غليظ هو الديباج، ويلبسون الحليةَ من فضة وذهب كما جاء في آية أخرى في سورة فاطر :﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ﴾ [ الكهف : ٣١ ].
ثم ذكر شرابا آخر يُسقَونه يفوق النوعَين السابقين اللذَين مر أنهما يمزجان بالكافور والزنجبيل. فقال هنا :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ يطهُر شاربه، ويتلذّذ به فيصبح في منتهى السعادة والسرور.
قراءات :
قرأ نافع وحمزة وابن محيصن : عليهم بإسكان الياء وكسر الهاء. وقرأ الباقون عاليهم بنصب الياء وضم الهاء. وقرأ ابن كثير وأبو بكر وابن محيصن ثياب سندس خضر بجر خضرٍ نعتاً لسندس، ورفع إستبرق عطفا على ثياب. وقرأ نافع وحفص برفع خضر وإستبرق. وقرأ حمزة والكسائي بجر خضر وإستبرق.
وما زكَّوا به أنفسَهم من صفات الكمال فقال :
﴿ إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ﴾.
إن هذا الذي أعطيناكم من الكرامة جاءَ ثواباً لكم على ما كنتم تعملون، وكان عملكم مشكورا، رضيَه ربُّكم وحَمِدَكم عليه، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة. ﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية ﴾ [ الحاقة : ٢٤ ]. كل هذا يتلقَّونه من الله العليّ القدير، وهذا يعدِلُ كل ما تقدّم من أصناف النعيم، ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها، ويزيد في سرورهم وحبورهم.
كفورا : مشركا.
﴿ فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾ من مقاساة الشدائد في تبليغ الرسالة، فان العاقبة والنصر لك.
﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ أي : من المشركين، مهما أغْرَوْكَ به من متاع الدنيا.
ودُم على ذكر ربك، فصلّ الصلواتِ في الصباح والمساء.
وسبّحه : تهجّد له.
وأكثِر السجودَ في الليل وتهجّد به وسبّحه ليلاً طويلا مستغرقا في صلواتك ومناجاة ربك.
يوماً ثقيلا : يوم القيامة.
ثم أنكر الله تعالى على الكفار حُبَّ الدنيا والإقبال عليها، وإهمالَهم الآخرةَ ونسيانها فقال :
﴿ إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾.
إن هؤلاء المشركين يحبون الدنيا وتُعجِبُهم زينَتُها فهم يؤثرونها على الآخرة، وينسَون أن أمامهم يوماً شديدا فيه الحساب والجزاء.
ثم نعى عليهم شِركهم، وغفلتهم عن طاعة الله فقال :
﴿ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾.
نحن خلقناهم وأحكمنا خَلقهم في أحسنِ تقويم، وإذا شئنا أهلكناهم وأتينا بخير منهم بدلاً منهم.
﴿ إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾.
إن هذه الآيات بما فيها من ترتيب بديع، ومعنى لطيف، لهي تذكرة للعقلاء المتبصرين، فمن شاء اتخذ بالإيمان والتقوى إلى ربه طريقا يوصله إلى مغفرته وجنّته، فبابُه مفتوح دائما، ومغفرته وسعت كل شيء.
قراءات
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : وما تشاؤون بالياء، والباقون وما تشاؤون بالتاء.
﴿ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ في الآخرة هو عذاب جهنم وبئس المصير.
انتهت سورة الإنسان نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار، والمقربين الأخيار ويجعل سعينا لديه مشكورا.