تفسير سورة المائدة

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة المائدة
مدنية إلا آية ٣ فنزلت بعرفات في حجة الوداع :
وآياتها ١٢٠ نزلت بعد الفتح.

سورة المائدة
مدنية إلا آية ٣ فنزلت بعرفات في حجة الوداع وآياتها ١٢٠ نزلت بعد الفتح (سورة المائدة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قيل: إن العقود هنا عقدة الإنسان مع غيره من بيع ونكاح وعتق وشبه ذلك، وقيل: ما عقده مع ربه من الطاعات: كالحج والصيام وشبه ذلك، وقيل: ما عقده الله عليهم من التحليل والتحريم في دينه، ذكر مجملا ثم فصل بعد ذلك في قوله:
أحلت لكم وما بعده بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ هي الإبل والبقر والغنم، وإضافة البهيمة إليها من باب إضافة الشيء إلى ما هو أخص منه لأن البهيمة تقع على الأنعام وغيرها، قال الزمخشري:
هي الإضافة التي بمعنى من كخاتم من حديد أي البهيمة من الأنعام، وقيل: هي الوحش كالظباء، وبقر الوحش والمعروف من كلام العرب أن الأنعام لا تقع إلّا على الإبل والبقر والغنم، وأن البهيمة تقع على كل حيوان ما عدا الإنسان إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يريد الميتة وأخواتها غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصب على الحال من الضمير في لكم وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال من محلي الصيد، وحرم جمع حرام وهو المحرم بالحج، فالاستثناء بإلّا من البهائم المحللة، والاستثناء بغير من القوم المخاطبين
لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قيل: هي مناسك الحج، كان المشركون يحجون ويعتمرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقيل لهم: لا تحلوا شعائر الله: أي لا تغيروا عليهم ولا تصدّوهم وقيل: هي الحرم، وإحلاله الصيد فيه، وقيل هي ما يحرم على الحاج من النساء والطيب والصيد وغير ذلك، وإحلاله: فعله وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ قيل: هو جنس الأشهر الحرام الأربعة، وهي رجب وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وقيل أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة وذو الحجة، وإحلالها هو: القتال فيها وتغيير حالها، وَلَا الْهَدْيَ هو ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام، ويذبح تقرّبا إلى الله فنهى الله أن يستحل بأن يغار عليه، أو يصد عن البيت وَلَا الْقَلائِدَ قيل: هي التي تعلق في أعناق الهدي، فنهى عن التعرّض لها، وقيل: أراد ذوات القلائد
من الهدي وهي البدن وجدّدها بالذكر بعد دخولها في الهدي اهتماما بها وتأكيدا لأمرها وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي قاصدين إلى البيت لحج أو عمرة، ونهى الله عن الإغارة عليهم أو صدّهم عن البيت، ونزلت الآية على ما قال السهيلي بسبب الحطم البكري واسمه: شريح بن ضبيعة أخذته خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقصد إلى الكعبة ليعتمر، وهذا النهي عن إحلال هذه الأشياء: عام في المسلمين والمشركين، ثم نسخ النهي عن قتال المشركين بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وبقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [التوبة: ٢٩] وبقوله: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: ١٧] يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً الفضل: الربح في التجارة، والرضوان:
الرحمة في الدنيا والآخرة وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا حللتم من إحرامكم بالحج فاصطادوا إن شئتم، فالأمر هنا إباحة بإجماع وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا معنى لا يجرمنكم: لا يكسبنكم، يقال: جرم فلان فلانا هذا الأمر إذا أكسبه إياه وحمله عليه، والشنآن: هو البغض والحقد، ويقال: بفتح النون وإسكانها، وأن صدوكم: مفعول من أجله، وأن تعتدوا: مفعول ثان ليجرمنكم، ومعنى الآية: لا تحملنكم عداوة قوم على أن تعتدوا عليهم من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، ونزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل، لأنهم كانوا قد صدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم، لأن الله علم أنهم يؤمنون وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وصية عامة، والفرق بين البرّ والتقوى أن البرّ عام في فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات، وفي كل ما يقرب إلى الله، والتقوى في الواجبات وترك المحرمات دون فعل المندوبات فالبرّ أعمّ من التقوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ الفرق بينهما أن الإثم كل ذنب بين العبد وبين الله أو بينه وبين الناس، والعدوان على الناس
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ تقدّم الكلام عليها في [البقرة: ١٧٣] وَالْمُنْخَنِقَةُ هي التي تخنق بحبل وشبهه وَالْمَوْقُوذَةُ هي المضروبة بعصا أو حجر وشبهه، والمتردية هي التي تسقط من جبل أو شبهه ذلك، والنطيحة هي التي نطحتها بهيمة أخرى وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي أكل بعضه، والسبع كل حيوان مفترس: كالذئب والأسد والنمر والثعلب والعقاب والنسر إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ قيل إنه استثناء منقطع، وذلك إذا أريد بالمنخنقة وأخواتها: ما مات من الاختناق والوقذ والتردية والنطح
وأكل السبع، والمعنى: حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم من غيرها، فهو حلال، وهذا قول ضعيف، لأنها إن ماتت بهذه الأسباب، فهي ميتة فقد دخلت في عموم الميتة فلا فائدة لذكرها بعدها، وقيل: إنه استثناء متصل، وذلك إن أريد بالمخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت ذكاته، والمعنى على هذا: إلى ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء فهو حلال، ثم اختلف أهل هذا القول هل يشترط أن تكون لم تنفذ مقاتلها أم لا؟ وأما إذا لم تشرف على الموت من هذه الأسباب، فذكاتها جائزة باتفاق وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ عطف على المحرمات المذكورة، والنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها، وليست بالأصنام لأن الأصنام مصوّرة والنصب غير مصوّرة وهي الأنصاب، والمفرد نصاب، وقد قيل: إن النصب بضمتين مفرد، وجمعه أنصاب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ عطف على المحرمات أيضا، والاستقسام. هو طلب ما قسم له، والأزلام هي السهام.
واحدها زلم بضم الزاي وفتحها، وكانت ثلاثة قد كتب على أحدها: افعل، وعلى الآخر:
لا تفعل، والثالث مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرا جعلها في خريطة كيس، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج له الذي فيه افعل: فعل ما أراد، وإن خرج له الذي فيه لا تفعل تركه، وإن خرج المهمل أعاد الضرب ذلِكُمْ فِسْقٌ الإشارة إلى تناول المحرمات المذكورة كلها، أو إلى الاستقسام بالأزلام، وإنما حرمه الله وجعله فسقا: لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، فهو كالكهانة وغيرها مما يرام به الاطلاع على الغيوب الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي يئسوا أن يغلبوه ويطلبوه، ونزلت بعد العصر من يوم الجمعة يوم عرفة في حجة الوداع، فذلك هو اليوم المذكور لظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين، ويحتمل أن يكون الزمان الحاضر لا اليوم بعينه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هذا الإكمال يحتمل أن يكون بالنصر والظهور أو بتعليم الشرائع وبيان الحلال والحرام فَمَنِ اضْطُرَّ راجع إلى المحرمات المذكورة قبل هذا، أباحها الله عند الاضطرار فِي مَخْمَصَةٍ في مجاعة غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هذا بمعنى غير باغ ولا عاد وقد تقدم في البقرة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قام مقام فلا جناح عليه، وتضمن زيادة الوعد.
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ سببها أن المسلمين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يحل لهم من المأكل؟ وقيل: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب، سألوه ماذا يحل لنا من الكلاب؟
فنزلت مبينة للصيد بالكلاب قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هي عند مالك الحلال، وذلك ممّا لم يرد تحريمه في كتاب ولا سنة وعند الشافعي: الحلال المستلذ، فحرم كل مستقذر كالخنافس والضفادع وشبهها لأنها من الخبائث وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على
الطيبات على حذف مضاف تقديره وصيد ما علمتم، أو مبتدأ وخبره فكلوا مما أمسكن عليكم وهذا أحسن، لأنه لا خلاف فيه، والجوارح هي الكلاب ونحوها مما يصطاد به وسميت جوارح لأنها كواسب لأهلها، فهو من الجرح بمعنى الكسب ولا خلاف في جواز الصيد بالكلاب، واختلف فيما سواها ومذهب الجمهور الجواز، للأحاديث الواردة في البازات وغيرها، ومنع بعض ذلك لقوله: مكلبين، فإنه مشتق من الكلب ونزلت الآية بسبب عديّ بن حاتم، وكان له كلاب يصطاد بها، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يحل من الصيد ومُكَلِّبِينَ أي معلمين للكلاب الاصطياد، وقيل: معناه أصحاب الكلاب وهو منصوب على الحال من ضمير الفاعل في علمتم ويقتضي قوله: علمتم ومكلبين أنه لا يجوز الصيد إلّا بجارح معلم، لقوله: وما علمتم وقوله مكلبين على القول الأول لتأكيده ذلك بقوله:
تعلمونهنّ، وحدّ التعليم عند ابن القاسم: أن يعلم الجارح الإشلاء «١» والزجر، وقيل:
الإشلاء خاصة، وقيل الزجر خاصة، وقيل: أن يجيب إذا دعي تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي تعلمونهن من الحيلة في الاصطياد وتأتي تحصيل الصيد، وهذا جزء مما علمه الله الإنسان، فمن للتبعيض، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، والجملة في موضع الحال أو استئناف فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الأمر هنا للإباحة ويحتمل أن يريد بما أمسكن، سواء أكلت الجوارح منه أو لم تأكل، وهو ظاهر إطلاق اللفظ، وبذلك أخذ مالك، ويحتمل أن يريد مما أمسكن ولم يأكل منه، وبذلك فسره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله فإن أكل منه فلا تأكل فإنه إنما أمسك على نفسه وقد أخذ بهذا بعض العلماء، وقد، ورد في حديث آخر إذا أكل فكل، وهو حجة لمالك وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا أمر بالتسمية على الصيد، ويجري الذبح مجراه، وقد اختلف الناس في حكم التسمية، فقال الظاهرية: إنها واجبة حملا للأمر على الوجوب، فإن تركت التسمية عمدا أو نسيانا، لم تؤكل عندهم وقال الشافعي: إنها مستحبة، حملا للأمر على الندب وتؤكل عنده، سواء تركت التسمية عمدا أو نسيانا، وجعل بعضهم الضمير في عليه عائدا على الأكل فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد ومذهب مالك أنه: إن تركنا التسمية عمدا لم تؤكل، وإن تركت نسيانا أكلت فهي عنده واجبة مع الذكر، ساقطة مع النسيان
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ معنى حل: حلال، والذين أوتوا الكتاب هم اليهود، والنصارى، واختلف في نصارى بني تغلب من العرب، وفيمن كان مسلما ثم ارتد إلى اليهودية أو النصرانية، هل يحل لنا طعامهم أم لا؟ ولفظ الآية يقتضي الجواز لأنهم من أهل الكتاب، واختلف في المجوس والصابئين. هل هم أهل كتاب أم لا؟.
(١). الإشلاء: معناه أن ينادي الكلب باسمه فيجيب وإذا زجر عن شيء ينزجر. [.....]
وأما الطعام، فهو على ثلاثة أقسام أحدها: الذبائح وقد اتفق العلماء على أنها مرادة في الآية، فأجازوا كل ذبائح اليهود والنصارى، واختلفوا فيما هو محرم عليهم في دينهم، هل يحل لنا أم لا على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والكراهة، وهذا الاختلاف مبني على هل هو من طعامهم أم لا فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه جاز، وإن أريد به ما يحل لهم منع، والكراهة توسط بين القولين القسم الثاني ما لا محاولة لهم فيه كالقمح والفاكهة فهو جائز لنا باتفاق، والثالث: ما فيه محاولة: كالخبز، وتعصير الزيت، وعقد الجبن وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه، فمنعه ابن عباس لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة، ولأنه يمكن أن يكون نجسا، وأجازه الجمهور، لأنه رأوه داخلا في طعامهم، هذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملا، فأما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه كالخمر والخنزير والميتة، فلا يجوز أصلا وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن النصارى، وقال: إنه ينجس البائع والمشتري والآلة، لأنهم يعقدونه بأنفحة الميتة، ويجري مجرى ذلك الزيت إذا علمنا أنهم يجعلونه في ظروف الميتة وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ هذه إباحة للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من طعامهم وَالْمُحْصَناتُ عطف على الطعام المحلل، وقد تقدّم أن الإحصان له أربعة معان: الإسلام، والتزوج والعفة، والحرية. فأما الإسلام فلا يصح هنا لقوله من الذين أوتوا الكتاب، وأما التزوج فلا يصح أيضا لأن ذات الزوج لا تحل لغيره، ويحتمل هنا العفة والحرية، فمن حمله على العفة أجاز نكاح المرأة الكتابية سواء كانت حرة أو أمة، ومن حمله على الحرية أجاز نكاح الكتابية الحرة ومنع الأمة، وهو مذهب مالك، ولا تعارض بين هذه الآية. وبين قوله: ولا تنكحوا المشركات لأن هذه في الكتابيات، والأخرى في المشركات، وقد جعل بعض الناس هذه ناسخة لتلك، وقيل: بالعكس، وقد تقدم معنى «فآتوهن أجورهن» ومعنى الأخدان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [النساء: ٢٥] الآية: نزلت في غزوة المريسيع، حين انقطع عقد عائشة رضي الله عنها، فأقام الناس على التماسه وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت الرخصة في التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر، ولذلك سميت الآية آية التيمم، وقد كان الوضوء مشروعا قبلها، ثابتا بالسنة، وقوله: إذا قمتم إلى الصلاة معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا. ويقتضي ظاهرها وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة، وهو مذهب ابن سيرين وعكرمة. ومذهب الجمهور: أنه لا يجب، واختلفوا في تأويل الآية على أربعة أقوال: الأول: أن وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة منسوخ بفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ صلّى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، والثاني: أن ما تقتضيه الآية من التجديد يحمل على الندب، والثالث: أن تقديرها إذا قمتم محدثين فإنما يجب على من أحدث، والرابع: أن تقديرها إذا قمتم من النوم فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ذكر في
223
هذه الآية. أربعة أعضاء اثنين محدودين «١»، وهما اليدان والرجلان واثنين غير محدودين وهما الوجه والرأس أما المحدودان فتغسل اليدان إلى المرفقين، والرجلان إلى الكعبين وجوبا بإجماع، فإنّ ذلك هو الحد الذي جعل الله لهما، واختلف هل يجب غسل المرفقين مع اليدين، وغسل الكعبين مع الرجلين أم لا، وذلك مبني على معنى إلى، فمن جعل إلى بمعنى مع في قوله إلى المرافق وإلى الكعبين أوجب غسلهما. ومن جعلها بمعنى الغاية لم يوجب غسلهما واختلف في الكعبين، هل هما اللذان عند معقد الشراك أو العظمان الناتئان في طرف الساق، وهو أظهر لأنه ذكرهما بلفظ التثنية، ولو كان اللذان عند معقد الشراك لذكرهما بلفظ الجمع كما ذكر المرافق، لأنه على ذلك في كل رجل كعب واحد وأما غير المحدودين، فاتفق على وجوب استيعاب الوجه. وحدّه طولا من أول منابت الشعر إلى آخر الذقن أو اللحية، وحدّه عرضا من الأذن إلى الأذن وقيل: من العذار إلى العذار، وأما الرأس، فمذهب مالك وجوب إيعابه كالوجه، ومذهب كثير من العلماء جواز الاقتصار على بعضه، لما ورد في الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم مسح على ناصيته، ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يجزئ على أقوال كثيرة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف في هذه الباء فقال قوم: إنها للتبعيض وبنوا على ذلك جواز مسح بعض الرأس، وهذا القول غير صحيح عند أهل العربية، وقال القرافي: إنها باء الاستعانة التي تدخل على الآلات وأن المعنى: امسحوا أيديكم برءوسكم، وهذا ضعيف لأن الرأس على هذا ما مسح لا ممسوح، وذلك خلاف المقصود، وقيل إنها زائدة وهو ضعيف، لأن هذا ليس موضع زيادتها والصحيح عندي: أنها باء الإلصاق التي توصل الفعل إلى مفعوله لأن المسح تارة يتعدّى بنفسه، وتارة بحرف الجر: كقوله: فامسحوا بوجوهكم، وكقوله: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ [ص: ٣٣] وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرئ وأرجلكم بالنصب عطفا على الوجوه والأيدي فيقتضي ذلك وجوب غسل الرجلين، وقرئ بالخفض «٢» فحمله بعضهم على أنه عطف على قوله: برءوسكم، فأجاز مسح الرجلين، روي ذلك عن ابن عباس، وقال الجمهور لا يجوز مسحهما بل يجب غسلهما وتأولوا قراءة الخفض بثلاثة تأويلات: أحدها: أنه خفض على الجوار لا على العطف. والآخر: أنه يراد به المسح على الخفين، والثالث: أن ذلك منسوخ بالسنة. والفرق بين الغسل والمسح أن المسح إمرار اليدين بالبلل الذي يبقى من الماء، والغسل عند مالك إمرار اليد بالماء، وعند الشافعي إمرار الماء، وإن لم يدلك باليد وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ تقدم الكلام على نظيرتها في
(١). محدود: أي له حدود واضحة.
(٢). وهي قراءة ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر وحجتهم ما روي عن ابن عباس.
224
النساء ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي من ضيق ولا مشقة كقول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «دين الله يسر» «١»، وباقي الآية تفضل من الله على عباده ورحمة وفي ضمن ذلك ترغيب في الطهارة وتنشيط عليها وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ هو ما وقع في بيعة العقبة وبيعة الرضوان، وكل موطن قال المسلمون فيه: سمعنا وأطعنا كُونُوا قَوَّامِينَ تقدم الكلام على نظيرتها في النساء وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ في سببها أربعة أقوال: الأول: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى بني النضير من اليهود، فهمّوا أن يصبوا عليه صخرة يقتلونه بها، فأخبره جبريل بذلك فقام من المكان، ويقوي هذا القول ما ورد في الآيات بعد هذا في غدر اليهود، والثاني: أنها نزلت في شأن الأعرابي الذي سل السيف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين وجده في سفر وهو وحده وقال له من يمنعك مني؟ قال: الله فأغمد السيف وجلس واسمه غورث بن الحارث المحاربي الغطفاني، والثالث: أنها فيما همّ به الكفار من الإيقاع بالمسلمين حين نزلت صلاة الخوف، والرابع: أنها على الإطلاق في دفع الله الكفار عن المسلمين اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً النقيب هو كبير القوم القائم بأمورهم إِنِّي مَعَكُمْ أي بنصري، والخطاب لبني إسرائيل، وقيل: للنقباء يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ اختلف هل أريد تحريف الألفاظ أو المعاني؟ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي على خيانة فهو مصدر
(١). رواه البخاري في كتاب الإيمان بلفظ: إن الدين يسر. عن أبي هريرة.
225
كالعاقبة، وقيل: على طائفة خائنة، وهو إخبار بأمر مستقبل فَاعْفُ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف والجزية
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أي ادّعوا أنهم أنصار الله، وسمّوا أنفسهم بذلك، ثم كفروا بالله ووصفوه بما لا يليق به، وتتعلق من الذين بأخذنا ميثاقهم والضمير عائد على النصارى فَأَغْرَيْنا أي أثبتنا وألصقنا، وهو مأخوذ من الإغراء.
يا أَهْلَ الْكِتابِ في الموضعين يعم اليهود والنصارى وقيل: إنها نزلت بسبب اليهود الذين كانوا بالمدينة فإنهم كانوا يذكرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويصفونه بصفته فلما حل بالمدينة كفروا به قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وفي الآية دلالة على صحة نبوته، لأنه بين لهم ما أخفوه مما في كتبهم، وهو أمي لم يقرأ كتبهم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي: يتركه ولا يفضحكم نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً الآية: رد على الذين قالوا: إنّ الله هو عيسى، وهم فرقة من النصارى يَخْلُقُ ما يَشاءُ إشارة إلى خلقه عيسى من غير والد وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى أي قالت: كل فرقة عن نفسها إنهم أبناء الله وأحباؤه، والبنوّة هنا بنوّة الحنان والرأفة، وقال الزمخشري:
المعنى نحن أشياع أبناء الله عندهم، وهما المسيح وعزير كما يقول حشم الملوك: نحن الملوك فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ ردّ عليهم، لأنهم قد اعترفوا أنهم يدخلون النار أياما معدودات، وقد أخذ الصوفية من الآية أن المحب لا يعذب حبيبه، ففي ذلك بشارة لمن أحبه الله وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قيل: جعل منكم ملوكا أي أمراء، وقيل: الملك من له مسكن وامرأة وخادم ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قيل: يعني المنّ والسلوى والغمام وغير ذلك من
الآيات، وعلى هذا يكون العالمين خاصا بأهل زمانهم، لأن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قد أوتيت من آياته مثل ذلك وأعظم، وقيل: المراد كثرة الأنبياء، فعلى هذا يكون عاما، لأن الأنبياء في بني إسرائيل أكثر منهم في سائر الأمم
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس، وقيل:
الطور، وقيل: دمشق الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قضى أن تكون لكم وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ يحتمل أن يريد الارتداد عن الدين والطاعة، والرجوع إلى الطريق الذي جاءوا منه فإنه روي أنه لما أمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها، وهمّوا أن يقدموا على أنفسهم رئيسا ويرجعوا إلى مصر قَوْماً جَبَّارِينَ هم العمالقة قالَ رَجُلانِ هما يوشع وكالب يَخافُونَ أي يخافون الله، وقيل:
يخافون الجبارين، ولكن الله أنعم عليهما بالصبر والثبوت لصدق إيمانهما ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب المدينة فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ إفراط في العصيان وسوء الأدب بعبارة تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الذين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون «١» لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي قاله موسى عليه السلام ليتبرأ إلى الله من قول بني إسرائيل، ويبذل جهده في طاعة الله ويعتذر إلى الله. وإعراب أخي عطف على نفسي لأن أخاه هارون كان يطيعه، وقيل: عطف على الضمير في لا أملك: أي لا أملك أنا إلا نفسي ولا يملك أخي إلا نفسه، وقيل: مبتدأ، وخبره محذوف أي أخي لا يملك إلا نفسه فَافْرُقْ بَيْنَنا أي فارق بيننا وبينهم فهو من الفرقة، وقيل: افصل بيننا وبينهم بحكم
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً الضمير في قال لله تعالى، وحرم الله على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة وتركهم في هذه المدة يتيهون في الأرض أي في أرض التيه وهو ما بين مصر والشام حتى مات كل من قال. إنا لن ندخلها. ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التيه أيضا. وقيل: إن موسى وهارون لم يكونا في التيه، لقوله فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتل الجبارين، وفتح المدينة، والعامل في
(١). هذا من كلام المقداد بن عمرو للنبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل موقعة بدر. انظر سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٦١٥.
أربعين: محرمة على الأصح، فيجب وصله معه وقيل: العامل فيه يتيهون فعلى هذا يجوز الوقف على قوله محرمة عليهم، وهذا ضعيف لأنه لا حامل على تقديم المعمول هنا مع أن القول الأوّل أكمل معنى لأنه بيان لمدّة التحريم والتيه يَتِيهُونَ أي يتحيرون، وروي أنهم كانوا يسيرون الليل كله، فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه فَلا تَأْسَ أي لا تحزن والخطاب لموسى، وقيل: لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ويراد بالفاسقين: من كان في عصره من اليهود نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هما قابيل وهابيل إِذْ قَرَّبا قُرْباناً روي أن قابيل كان صاحب زرع فقرب أرذل زرعه، وكان هابيل صاحب غنم فقرب أحسن كبش عنده، وكانت العادة حينئذ أن يقرب الإنسان قربانه إلى الله ويقوم يصلي، فإذا نزلت نار من السماء وأكلت القربان فذلك دليل على القبول وإلا فلا قبول، فنزلت النار فأخذت كبش هابيل ورفعته وتركت زرع قابيل فحسده قابيل فقتله إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ استدل بها المعتزلة وغيرهم على أن صاحب المعاصي لا يتقبل عمله، وتأولها الأشعرية بأن التقوى هنا يراد بها تقوى الشرك لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ الآية، قيل: معناها لئن بدأتني بالقتال لم أبدأك به، وقيل: إن بدأتني بالقتال لم أدافعك، ثم اختلف على هذا القول هل تركه لدفاعه عن نفسه تورعا وفضيلة؟ وهو الأظهر والأشهر، وكان واجبا عندهم أن لا يدافع أحد عن نفسه وهو قول مجاهد، وأما في شرعنا فيجوز دفع الإنسان عن نفسه بل يجب إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ الإرادة هنا ليست بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخيير في أهون الشرين كأنه قال: إن قتلتني، فذلك أحب إلي من أن أقتلك كما ورد في الأثر: «كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل» «١»، وأما قوله بإثمي وإثمك فمعناه بإثم قتلي لك لو قتلتك، وبإثم قتلك لي، وإنما يحمل القاتل الإثمين، لأنه ظالم، فذلك مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المتسابان ما قالا» «٢» فهو على البادئ، وقيل: بإثمي أي تحمل عني سائر ذنوبي، لأن الظالم تجعل عليه في القيامة ذنوب المظلوم، وبإثمك أي في قتلك لي، وفي غير ذلك من ذنوبك وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون من كلام هابيل، أو استئنافا من كلام الله تعالى
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً الآية: روي أن غرابين اقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر، ثم جعل القاتل يبحث عن التراب ويواري الميت، وقيل: بل كان غرابا واحدا يبحث ويلقي التراب على
(١). رواه أحمد من حديث خباب ج ٥/ ١٤٨.
(٢). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٦٤٥.
هابيل سَوْأَةَ أَخِيهِ أي عورته، وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، والضمير في أخيه عائد على ابن آدم، ويظهر من هذه القصة أن هابيل كان أول من دفن من بني آدم قالَ يا وَيْلَتى أصله يا ويلتي، ثم أبدل من الياء ألف وفتحت التاء وكذلك يا أسفا. ويا حسرتا فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على ما وقع فيه من قتل أخيه، واختلف في قابيل هل كان كافرا أو عاصيا، والصحيح أنه لم يكن في تلك المدة كافرا لأنه قصد التقرب إلى الله بالقربان، وأصبح هنا وفي الموضع عبارة عن جميع الأوقات لا مختصة بالصباح مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يتعلق بكتبنا، وقيل بالنادمين، وهو ضعيف كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي فرضنا عليهم أو كتبناه في كتبهم بِغَيْرِ نَفْسٍ معناه من غير أن يقتل نفسا يجب عليه القصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ يعني الفساد الذي يجب به القتل كالحرابة فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً تمثيل قاتل الواحد بقاتل الجميع يتصور من ثلاث جهات إحداها:
القصاص، فإن القصاص في قاتل الواحد والجميع سواء. الثانية: انتهاك الحرمة والإقدام على العصيان، والثالثة: الإثم والعذاب الأخروي. قال مجاهد: وعد الله قاتل النفس بجهنم والخلود فيها، والغضب واللعنة والعذاب العظيم، فلو قتل جميع الناس لم يزد على ذلك، وهذا الوجه هو الأظهر لأن القصد بالآية: تعظيم قتل النفس والتشديد فيه لينزجر الناس عنه، وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه.
وإحياؤها: هو إنقاذها من الموت كإنقاذ الحريق أو الغريق وشبه ذلك. وقيل: بترك قتلها، وقيل: بالعفو إذا وجب القصاص وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ الضمير لبني إسرائيل. والمعنى تقبيح أفعالهم، وفي ذلك إشارة إلى ما همّوا به من قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية: سببها عند ابن عباس: أن قوما من اليهود كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل، وقال جماعة: نزلت في نفر من عكل وعرينة أسلموا حسب الظاهر ثم إنهم قتلوا راعي النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخذوا إبله. ثم حكمها بعد ذلك في كل محارب، والمحاربة عند مالك هي: حمل السلاح على الناس في بلد أو في خارج بلد، وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد، وقوله: يحاربون الله: تغليظ ومبالغة، وقال بعضهم: تقديره يحاربون رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وذلك ضعيف، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر بعد ذلك وقيل: يحاربون عباد الله
وهو أحسن وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بيان للحرابة وهي على درجات: أدناها إخافة الطريق ثم أخذ المال ثم قتل النفس أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا الصلب مضاف إلى القتل.
وقيل: يقتل ثم يصلب ليراه أهل الفساد فينزجروا، وهو قول أشهب، وقيل يصلب حيا، ويقتل على الخشبة، وهو قول ابن القاسم أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ معناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد: قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقطع اليد عند مالك والجمهور من الرسغ، وقطع الرجل من المفصل، وذلك في الحرابة وفي السرقة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ مشهور مذهب مالك: أن ينفى من بلد إلى بلد آخر، ويسجن فيه إلى أن تظهر توبته، وروى عنه مطرف أنه يسجن في البلد بعينه، وبذلك قال أبو حنيفة، وقيل: ينفى إلى بلد آخر دون أن يسجن فيه، ومذهب مالك أن الإمام مخير في المحارب بين أن يقتله ويصلبه، أو يقتله ولا يصلبه أو يقطع يده ورجله، أو ينفيه، إلا أنه قال: إن كان قتل فلا بدّ من قتله، وإن لم يقتل، فالأحسن أن يأخذ فيه بأيسر العقاب، وقال الشافعي وغيره: هذه العقوبات مرتبة فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا نفي، وحجة مالك عطف هذه العقوبات بأو التي تقتضي التخيير خِزْيٌ فِي الدُّنْيا هو العقوبة، وعذاب الآخرة النار. وظاهر هذا أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحارب، بخلاف سائر الحدود، ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب فيها، والعذاب في الآخرة لمن لم يعاقب إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قيل:
هي في المشركين وهو ضعيف لأن المشرك لا يختلف حكم توبته قبل القدرة عليه وبعدها، وقيل: هي في المحاربين من المسلمين وهو الصحيح، وهم الذين جاءتهم العقوبات المذكورة، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، فقد سقط عنه حكم الحرابة لقوله:
فاعلموا أن الله غفور رحيم. واختلف [هل] يطالب بما عليه من حقوق الناس في الدماء والأموال أو لا؟ فوجه المطالبة بها أنها زائدة على حدّ الحرابة التي سقطت عنه بالتوبة، ووجه إسقاطها إطلاق قوله غفور رحيم.
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي ما يتوسل به ويتقرّب به إليه من الأعمال الصالحة والدعاء وغير ذلك
لِيَفْتَدُوا بِهِ إن قيل لم وحّد الضمير وقد ذكر شيئين وهما ما في الأرض ومثله؟ فالجواب أنه وضع المفرد في موضع الاثنين، وأجرى الضمير مجرى اسم الإشارة
كأنه قال يفتدوا بذلك، أو تكون الواو بمعنى مع عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم، وكذلك: نعيم مقيم وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما عموم الآية يقتضي قطع كل سارق إلا أن الفقهاء اشترطوا في القطع شروطا خصصوا بها العموم فمن ذلك من اضطره الجوع إلى السرقة لم يقطع عند مالك لتحليل الميتة له، وكذلك من سرق مال والده أو سيده، أو من سرق من غير حرز، [مكان محفوظ] أو سرق أقل من النصاب، وهو عند مالك ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما يساوي أحدهما، وأدلة التخصيص بهذه الأشياء في غير هذه الآية، وقد قيل: إن الحرز مأخوذ من هذه الآية، لأن ما أهمل بغير حرز أو ائتمن عليه، فليس أخذه سرقة وإنما هو اختلاس أو خيانة، وإعراب السارق عند سيبويه مبتدأ، وخبره محذوف: كأنه قال فيما يتلى عليكم السارق والسارقة، والخبر عند المبرد وغيره فاقطعوا أيديهما، ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ الآية: توبة السابق هي أن يندم على ما مضى، ويقلع فيما يستقبل، ويردّ ما سرق إلى من يستحقه، واختلف إذا تاب قبل أن يصل إلى الحاكم، هل يسقط عنه القطع وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية؟ أو لا يسقط عنه وهو مذهب مالك لأن الحدود عنده لا تسقط بالتوبة إلا عن المحارب للنص عليه يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
قدم العذاب على المغفرة لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة.
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية: خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم على وجه التسلية مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ هم المنافقون وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا يحتمل أن يكون عطفا على الذين قالوا آمنا، ثم يكون سماعون استئناف إخبار عن الصنفين المنافقين واليهود، ويحتمل أن يكون من الذين هادوا: استئنافا منقطعا مما قبله، وسماعون راجع إليهم خاصة سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ أي سماعون كلام قوم آخرين من اليهود الذين لا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلّم لإفراط البغضة والمجاهرة بالعداوة، فقوله: لم يأتوك صفة لقوم آخرين، والمراد بالقوم الآخرين يهود خيبر، والسماعون للكذب بنو قريظة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي يبدلونه من بعد أن يوضع في موضعه، وقصدت به وجوهه القويمة، وذلك من صفة اليهود يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ نزلت بسبب أن يهوديا زنى بيهودية فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهود عن
231
حد الزاني عندهم فقالوا: نجلدهما ونحمم وجوههما. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن في التوراة الرجم، فأنكروا ذلك، فأمرهم أن يأتوا بالتوراة فقرأوها، فجعل أحدهم يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع، فإذا آية الرجم فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باليهودي واليهودية فرجما، فمعنى قولهم إن أوتيتم هذا فخذوه: إن أوتيتم هذا الذي ذكرتم من الجلد والتحميم تسويد الوجه بالقار فخذوه واعملوا به، وإن لم تؤتوه أفتاكم محمد صلّى الله عليه وسلّم بغيره فاحذروا فِتْنَتَهُ أي ضلالته في الدنيا أو عذابه في الآخرة فِي الدُّنْيا خِزْيٌ الذلة والمسكنة والجزية سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إن كان الأول في اليهود فكررها هنا تأكيدا، وإن كان الأول في المنافقين واليهود فهذا في اليهود خاصة أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي للحرام من الرشوة والربا وشبه ذلك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ هذا تخيير للنبي صلّى الله عليه وسلّم في أن يحكم بين اليهود أو يتركهم وهو أيضا يتناول الحاكم، وقيل إنه منسوخ بقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ الآية: استبعاد لتحكيمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم لا يؤمنون به، مع أنهم يخالفون حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها، فمعنى ثم يتولون من بعد ذلك أي: يتولون عن اتباع حكم الله في التوراة من بعد كون حكم الله فيها موجودا عندهم، ومعلوما في قضية الرجم وغيرها وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني: أنهم لا يؤمنون بالتوراة وبموسى عليه السلام، وهذا إلزام لهم لأن من خالف كتاب الله وبدّله فدعواه الإيمان به باطلة النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا هم الأنبياء الذين بين موسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى أسلموا هنا أخلصوا لله وهو صفة مدح أريد به التعريض باليهود لأنهم بخلاف هذه الصفة، وليس المراد هنا الإسلام الذي هو ضد الكفر لأن الأنبياء لا يقال فيهم: أسلموا على هذا المعنى، لأنهم لم يكفروا قط، وإنما هو كقول إبراهيم عليه السلام: أسلمت لرب العالمين، وقوله تعالى فقل: أسلمت وجهي لله لِلَّذِينَ هادُوا متعلق بيحكم أي يحكم الأنبياء بالتوراة للذين هادوا، ويحملونهم عليها، ويتعلق بقوله فيه هدى ونور بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي كلفوا حفظه، والباء هنا سببية قاله الزمخشري، ويحتمل أن تكون بدلا من المجرور في قوله يحكم بها فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وما بعده خطابا لليهود، ويحتمل أن تكون وصية للمسلمين يراد بها التعريض باليهود، لأن ذلك من أفعالهم وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
232
اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
قال ابن عباس: نزلت الثلاثة في اليهود: الكافرون، والظالمون، والفاسقون، وقد روي في هذا أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال جماعة: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم، إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان، وقال الشافعي: الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها كتبنا بمعنى الكتابة في الألواح، أو بمعنى الفرض والإلزام، والضمير في عليهم لبني إسرائيل، وفي قوله فيها للتوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي تقتل النفس إذا قتلت نفسا، وهذا إخبار عما في التوراة وهو حكم في شريعتنا بإجماع، إلا أن هذا اللفظ عامّ، وقد خصص العلماء منه أشياء، فقال مالك: لا يقتل مؤمن بكافر للحديث الوارد في ذلك ولا يقتل حر بعبد، لقوله الحر بالحر والعبد بالعبد وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة [١٧٨] وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وما بعده حكم القصاص في الأعضاء، والقراءة بنصب العين وما بعده عطف على النفس، وقرئ بالرفع «١» ولها ثلاثة أوجه:
أحدها العطف على موضع النفس لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس والثاني العطف على الضمير الذي في الخبر وهو بالنفس، والثالث أن يكون مستأنفا مرفوعا بالابتداء وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ بالنصب عطف على المنصوبات قبله، وبالرفع على الأوجه الثلاثة التي في رفع العين، وهذا اللفظ عامّ يراد به الخصوص في الجراح التي لا يخاف على النفس منها فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فيه تأويلان: أحدهما من تصدق من أصحاب الحق بالقصاص وعفا عنه، فذلك كفارة له يكفر الله ذنوبه لعفوه وإسقاطه حقه، والثاني من تصدّق وعفا فهو كفارة للقاتل والجارح بعفو الله عنه في ذلك لأن صاحب الحق قد عفا عنه، فالضمير في له على التأويل الأوّل يعود على من التي هي كناية عن المقتول أو المجروح، أو الولي، وعلى الثاني يعود على القاتل أو الجارح وإن لم يجر له ذكر، ولكن سياق الكلام يقتضيه، والأوّل أرجح لعود الضمير على مذكور، وهو من، ومعناها واحد على التأويلين، والصدقة بمعنى العفو على التأويلين، إلا أن التأويل الأول بيان لأجر من عفا، وترغيب في العفو، والتأويل الثاني: بيان لسقوط الإثم عن القاتل أو الجارح إذا عفي عنه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ قد تقدم معنى مصدق في
(١). وهي قراءة الكسائي فقط.
البقرة، ولما بين يديه: يعني التوراة، لأنها قبله، والقرآن مصدق للتوراة والإنجيل، لأنهما قبله، ومصدقا: عطف على موضع قوله فيه هدى ونور، لأنه في موضع الحال
وَمُهَيْمِناً ابن عباس شاهدا، وقيل مؤتمنا عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ تضمن الكلام معنى: لا تنصرف أو لا تنحرف، ولذلك تعدى بعن لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [قال ابن عباس] : سبيلا وسنة، والخطاب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو الأمم، والمعنى أن الله جعل لكل أمة شريعة يتبعونها، وقد استدل بها من قال: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وذلك في الأحكام والفروع، وأما الاعتقاد، فالدين فيها واحد لجميع العالم، وهو الإيمان بالله، وتوحيده وتصديق رسله، والإيمان بالدار الآخرة فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ استدل به قوم على أن: تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وهذا متفق عليه في العبادات كلها، إلا الصلاة ففيها خلاف، فمذهب الشافعي أن تقديمها في أوّل وقتها أفضل، وعكس أبو حنيفة، وفي مذهب مالك خلاف وتفصيل، واتفقوا أن تقديم المغرب أفضل وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ عطف على الكتاب في قوله: وأنزلنا إليك الكتاب، أو على الحق في قوله: بالحق، وقال قوم:
إن هذا وقوله قبله فاحكم بينهم ناسخ لقوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم: أي ناسخ للتخيير الذي في الآية، وقيل: إنه ناسخ للحكم بالتوراة، ونزلت الآية بسبب قوم من اليهود، طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بينهم فأبى من ذلك، ونزلت الآية تقضي أن يحكم بينهم أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ توبيخ لليهود، وقرئ بالياء إخبارا عنهم، وبالتاء «١» خطابا لهم لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قال الزمخشري اللام للبيان: أي هذا الخطاب لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتبين لهم أنه لا أحسن من الله حكما
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ سببها موالاة عبد الله بن أبي بن سلول ليهود بني قينقاع، وخلع عبادة بن الصامت الحلف الذي كان بينه وبينهم، ولفظها عام، وحكمها باق، ولا يدخل فيه معاملتهم في البيع والشراء وشبهه فَإِنَّهُ مِنْهُمْ تغليظ في الوعيد، فمن كان يعتقد معتقدهم فهو منهم من كل وجه ومن خالفهم في اعتقادهم وأحبهم فهو منهم في المقت عند الله، واستحقاق
(١). في قراءة ابن عامر فقط: (تبغون).
العقوبة فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم المنافقون، والمراد هنا عبد الله بن أبي بن سلول ومن كان معه يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ كان عبد الله بن أبي يوالي اليهود ويستكثر بهم، ويقول: إني رجل أخشى الدوائر فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ الفتح هنا هو ظهور النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، والأمر من عنده: هو هلاك الأعداء بأمر من عنده لا يكون فيه تسبب لمخلوق، أو أمر من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بقتل اليهود فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ الضمير في فيصبحوا للمنافقين والذي أسروه هو قصدهم الاستعانة باليهود على المسلمين وإضمار العداوة للمسلمين وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرئ: يقول: بغير واو استئناف وإخبار، وقرئ بالواو والرفع وهو عطف جملة على جملة، وبالواو والنصب «١» «عطفا على أن يأتي بالله، أو عطفا على فيصبحوا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا الإشارة إلى المنافقين، لأنهم كانوا يحلفون أنهم مع المؤمنين، وانتصب جهد أيمانهم على المصدر المؤكد حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، أو من كلام الله، ويحتمل أن يكون دعاء أو خبرا.
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ خطاب على وجه التحذير والوعيد، وفيه إعلام بارتداد بعض المسلمين فهو إخبار بالغيب قبل وقوعه، ثم وقع فارتدّ في حياة رسول صلّى الله عليه وسلّم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وبنو مدلج قوم الأسود العنسي الذي ادعى النبوة، وقتل في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد الذي ادّعى النبوة ثم أسلم وجاهد، ثم كثر المرتدون، وفشا أمرهم بعد موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى كفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانت القبائل التي ارتدت بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبع قبائل بنو فزارة وغطفان وبنو سليم وبنو يربوع وكندة، وبنو بكر بن وائل، وبعض بني تميم، ثم ارتدت غسان في زمان عمر بن الخطاب، وهم [قوم] جبلة بن الأيهم الذي تنصر من أجل اللطمة فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأها، وقال: قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري «٢»
، والإشارة بذلك والله أعلم إلى أهل اليمن، لأن الأشعريين من أهل اليمن، وقيل: المراد أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردّة، ويقوي ذلك ما ظهر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الجد في قتالهم، والعزم عليه حين
(١). وهي قراءة أبو عمرو، وقرأ أهل الشام والحجاز: يقول بضم اللام. وقرأ أهل الكوفة: ويقول بالواو والضم.
(٢). روى الطبري بسنده إلى أبي موسى الأشعري هذا الحديث لدى تفسير هذه الآية.
خالفه في ذلك بعض الناس، فاشتد عزمه حتى وافقوه وأجمعوا عليه فنصرهم الله على أهل الردة، ويقوي ذلك أيضا أن الصفات التي وصف بها هؤلاء القوم هي أوصاف أبي بكر، ألا ترى قوله: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وكان أبو بكر ضعيفا في نفسه قويا في الله، وكذلك قوله: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ: إشارة إلى من خالف أبا بكر ولامه في قتال أهل الردّة فلم يرجع عن عزمه أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كقوله أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: ٢٩]، وإنما تعدّى أذلة بعلى، لأنه تضمن معنى العطف والحنوّ، فإن قيل: أين الراجع من الجزاء إلى الشرط؟ فالجواب: أنه محذوف تقديره من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم يقاتلونهم إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
ذكر الوليّ بلفظ المفرد إفرادا لله تعالى بهما، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قال إنما أولياؤكم لم يكن في الكلام أصل وتبع وَهُمْ راكِعُونَ قيل: نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه سأله سائل وهو راكع في الصلاة، فأعطاه خاتمه، وقيل: هي عامّة، وذكر الركوع بعد الصلاة لأنه من أشرف أعمالها، فالواو على القول الأوّل واو الحال، وعلى الثاني للعطف فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هذا من إقامة الظاهر مقام المضمر: معناه فإنهم هم الغالبون وَالْكُفَّارَ بالنصب عطف على الذين اتخذوا، وقرئ «١» بالخفض عطف على الذين أوتوا الكتاب، ويعضده قراءة ابن مسعود: ومن الكفار، ويراد بهم المشركون من العرب وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية: روي أن رجلا من النصارى كان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أنّ محمدا رسول الله قال: حرق الله الكاذب، فوقعت النار في بيته فاحترق هو وأهله «٢»، واستدل بعضهم بهذه الآية على ثبوت الأذان من القرآن ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ جعل قلة عقولهم علة لاستهزائهم بالدين
هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا هل تعيبون علينا وتنكرون منا إلا إيماننا بالله، وبجميع كتبه ورسله، وذلك أمر لا ينكر ولا يعاب، ونظير هذا في الاستثناء العجيب قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب
ونزلت الآية بسبب أبي ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وجماعة من اليهود
(١). وهي قراءة أبو عمرو والكسائي.
(٢). ذكر الطبري هذه الرواية عن السدّي.
سألوا رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم عن الرسل الذين يؤمن بهم فتلا: آمنا بالله وما أنزل إلينا إلى آخر الآية، فلما ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ قيل: إنه معطوف على آمنا، وقيل: على ما أنزل، وقيل: هو تعليل معطوف على تعليل محذوف تقديره: هل تنقمون منا إلا لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون، ويحتمل أن يكون: وأنّ أكثركم مبتدأ وخبره محذوف تقديره فسقكم معلوم، أو ثابت قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ لما ذكر أن أهل الكتاب يعيبون المسلمين بالإيمان بالله ورسله، ذكر عيوب أهل الكتاب في مقابلة ذلك ردّا عليهم، فالخطاب في أنبئكم لليهود، والإشارة بذلك إلى ما تقدّم من حال المؤمنين مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ هي من الثواب، ووضع الثواب موضع العقاب تهكما بهم نحو قوله: فبشرهم بعذاب أليم مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ يعني اليهود ومن في موضع رفع بخبر مبتدا مضمر تقديره: هو من لعنه الله، أو في موضع خفض على البدل من بشرّ ولا بدّ في الكلام من حذف مضاف تقديره بشر من أهل ذلك وتقديره دين من لعنه الله وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ مسخ قوم من اليهود قرودا حين اعتدوا في السبت ومسخ قوم منهم خنازير حين كذبوا بعيسى ابن مريم وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ القراءة بفتح الباء فعل معطوف على لعنه الله، وقرئ «١» بضم الباء وخفض الطاغوت على أن يكون عبد اسما على وجه المبالغة كيقظ أضيف إلى الطاغوت، وقرئ «٢» وعابد وعباد، وهو في هذه الوجوه عطف على القردة والخنازير شَرٌّ مَكاناً أي منزلة ونسب الشرّ للمكان وهو في الحقيقة لأهله، وذلك مبالغة في الذمّ وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت في منافقين من اليهود وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ تقديره: ملتبسين بالكفر، والمعنى: دخلوا كفارا وخرجوا كفارا، ودخلت قد على دخلوا وخرجوا: تقريبا للماضي من الحال أي ذلك حالهم في دخولهم وخروجهم على الدوام ب الْإِثْمِ الكذب وسائر المعاصي وَالْعُدْوانِ الظلم السُّحْتَ الحرام لَوْلا يَنْهاهُمُ عرض وتحضيض وتقريع لَبِئْسَ اللام في الموضعين للقسم
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غل اليد كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود ومنه:
ولا تجعل يدك مغلولة: أي لا تبخل كل البخل، ولا تبسطها كل البسط: أي لا تجد كل
(١). وقرأ حمزة (عبد). وقال الفراء: الباء تضمها العرب للمبالغة في المدح والذم.
(٢). لم يذكرها الطبري ولا ابن خالويه في كتاب الحجة ولا ابن زرعة في حجة القراءات والله أعلم. [.....]
237
الجود، وروي أنّ اليهود أصابتهم سنة جهد فقالوا هذه المقالة الشنيعة، وكان الذي قالها فنحاص، ونسبت إلى جملة اليهود، لأنهم رضوا بقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ يحتمل أن يكون دعاء أو خبرا، ويحتمل أن يكون في الدنيا أو في الآخرة، فإن كان في الدنيا، فيحتمل أن يراد به البخل أو غل أيديهم في الأسر، وإن كان في الآخرة، فهل جعل الأغلال في جهنم بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارة عن إنعامه وجوده، وإنما ثنيت اليدان هنا وأفردت في قول اليهود: يد الله مغلولة، ليكون ردّا عليهم ومبالغة في وصفه تعالى بالجود: كقول العرب:
فلان يعطي بكلتا يديه إذا كان عظيم السخاء كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ إيقاد النار عبارة عن محاولة الحرب، وإطفاؤها عبارة عن خذلانهم وعدم نصرهم، ويحتمل أن يراد بذلك أسلافهم، أو يراد من كان معاصرا للنبي صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم منهم، ومن يأت بعدهم، فيكون على هذا إخبار بغيب، وبشارة للمسلمين.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا الآية: يحتمل أن يراد أسلافهم والمعاصرون للنبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم، فيكون على هذا ترغيبا لهم في الإيمان والتقوى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إقامتها بالعلم والعمل وذكر الإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قيل: من فوقهم عبارة عن المطر، ومن تحت أرجلهم: عبارة عن النبات والزرع، وقيل: ذلك استعارة في توسعة الرزق من كل وجه أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي معتدلة، ويراد به من أسلم منهم: كعبد الله بن سلام، وقيل من لم يعاد الأنبياء المتقدمين يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أمر بتبليغ جميع ما أوحي إليه على الاستيفاء والكمال، لأنه كان قد بلغ وإنما أمر هنا ألا يتوقف عن شيء مخافة أحد وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ هذا وعيد على تقدير عدم التبليغ، وفي ارتباط هذا الشرط مع جوابه قولان: أحدهما أن المعنى إن تركت منه شيئا، فكأنك لم تبلغ شيئا، وصار ما بلغت لا يعتد به، فمعنى إن لم تفعل: إن لم تستوف التبليغ على الكمال، والآخر أن المعنى إن لم تبلغ الرسالة وجب عليك عقاب من كتمها، ووضع السبب موضع المسبب وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وعد وضمان للعصمة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخاف أعداءه ويحترس منهم في غزواته وغيرها، فلما نزلت هذه الآية قال: يا أيها الناس انصرفوا فإن الله قد
238
عصمني وترك الاحتراس
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية أي لستم على دين يعتد به يسمى شيئا حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وقوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ قال ابن عباس: يعني القرآن، ونزلت الآية بسبب رافع بن حارثة وسلام بن بشكم ورافع بن خزيمة وغيرهم من اليهود جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، فقالوا إنا نتبع التوراة ولا نتبع غيرها، ولا نؤمن بك ولا نتبعك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا تقدم الكلام على نظيرتها في [البقرة: ٦٢] وَالصَّابِئُونَ قراءة السبعة بالواو وهي مشكلة حتى قالت عائشة: هي من لحن كتاب المصحف، وإعرابها عند أهل البصرة مبتدأ وخبره محذوف تقديره: والصابئون كذلك وهو مقدم في نية التأخير، وأجاز بعض الكوفيين أن يكون معطوفا على موضع اسم إن، وقيل:
إن هنا بمعنى نعم وما بعدها مرفوع بالابتداء وهو ضعيف وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي بلاء واختبار، وقرئ «١» تكون بالرفع على أن تكون أن مخففة من الثقيلة، وبالنصب على أنها مصدرية فَعَمُوا وَصَمُّوا عبارة عن تماديهم على المخالفة والعصيان ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قيل: إن هذه التوبة رد ملكهم ورجوعهم إلى بيت المقدس بعد خروجهم منه، ثم أخرجوا المرة الثانية فلم ينجبر حالهم أبدا، وقيل: التوبة بعث عيسى عليه السلام، وقيل:
بعث محمد صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير من عموا وصموا أو فاعل على لغة أكلوني البراغيث والبدل أرجح وأفصح وَقالَ الْمَسِيحُ الآية: رد على النصارى، وتكذيب لهم وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يحتمل أن يكون من كلام المسيح، أو من كلام الله
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ الآية: رد على من جعله إلها وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ
(١). وهي قراءة أبو عمرو وحمزة والكسائي.
أي بليغة الصدق في نفسها، أو من التصديق، ووصفها بهذه الصفة دون النبوّة يدفع قول من قال: إنها نبية كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ استدلال على أنهما ليسا بإلهين لاحتياجهما إلى الغذاء الذي لا يحتاج إليه إلا محدث مفتقر، ومن كان كذلك فليس بإله، لأن الإله منزه عن صفة الحدوث، وعن كل ما يلحق البشر، وقيل: إن قوله يأكلان الطعام: كناية عن نقص البشر، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج اللفظ عن ظاهره، لأن الحجة قائمة بالوجهين ثُمَّ انْظُرْ دخلت ثم لتفاوت الأمرين ولقصد التعجيب من كفرهم بعد بيان الآيات قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية: إقامة حجة على من عبد عيسى وأمه وهما لا يملكان ضرا ولا نفعا قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ خطاب للنصارى، والغلوّ الإفراط وسبب ذلك كفر النصارى وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قيل: هم أئمتهم في دين النصرانية كانوا على ضلال في عيسى، وأضلوا كثيرا من الناس، ثم ضلوا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هم اليهود، والأول أرجح لوجهين: أحدهما أن الضلال وصف لازم للنصارى، ألا ترى قوله تعالى: ولا الضالين، والآخر أنه يبعد نهي النصارى عن اتباع اليهود، مع ما بينهم من الخلاف والشقاق عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي في الزبور والإنجيل لا يَتَناهَوْنَ أي لا ينهى بعضهم بعضا عَنْ مُنكَرٍ فإن قيل: لم وصف المنكر بقوله فعلوه والنهي لا يكون بعد الفعل؟ فالجواب: أن المعنى لا يتناهون عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر إن أرادوا فعله تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ إن أراد أسلافهم، فالرؤية بالقلب، وإن أراد المعاصرين للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم وهو الأظهر، فهي رؤية عين وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ يعني: ما اتخذوا الكفار أولياء..
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً الآية: إخبار عن شدة عداوة اليهود وعبدة الأوثان للمسلمين وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً الآية: إخبار أن النصارى أقرب إلى مودة المسلمين، وهذا الأمر باق إلى آخر الدهر فكل يهودي شديد العداوة للإسلام والكيد لأهله ذلِكَ بِأَنَّ
مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً
تعليل لقرب مودتهم، والقسيس العالم والراهب العابد وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ الآية هي في النجاشي، وفي الوفد الذين بعثهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سبعون رجلا، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن فبكوا كما بكى النجاشي، حين قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سورة مريم، وقال السهيلي: نزلت في وفد نجران، وكانوا نصارى عشرين رجلا، فلما سمعوا القرآن بكوا مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ من الأولى سببية والثانية بيان للجنس آمَنَّا أي بالقرآن من عند الله مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع المسلمين، وكذلك مع القوم الصالحين وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ توقيف «١» لأنفسهم، أو محاجة لغيرهم وَنَطْمَعُ قال الزمخشري: الواو للحال، وقال ابن عطية: لعطف جملة على جملة لا لعطف فعل على فعل لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ سببها أن قوما من الصحابة غلب عليهم خوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء، وبعضهم النوم بالليل، وبعضهم أكل اللحم، وهم بعضهم أن يختصوا، أو يسيحوا في الأرض، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم: «أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» «٢» وَلا تَعْتَدُوا أي لا تفرطوا في التشديد على أنفسكم أكثر مما شرع لكم وَكُلُوا أي تمتعوا بالمآكل الحلال، وبالنساء وغير ذلك، وإنما خص الأكل بالذكر، لأنه أعظم حاجات الإنسان
بِاللَّغْوِ تقدم في البقرة بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي بما قصدتم عقده بالنية، وقرئ عقدتم بالتخفيف» «٣»، وعاقدتم بالألف «٤» إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ اشتراط المسكنة دليل على أنه لا يجزي في الكفارة إطعام غني، فإن أطعم جهلا لم يجزيه على المشهور من المذهب، واشترط مالك أيضا أن يكونوا أحرارا مسلمين، وليس في الآية ما يدل على ذلك مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ اختلف في هذا التوسط
(١). توقيف معناها استفهام تقريري في هذا الكتاب.
(٢). رواه الإمام أحمد عن أنس ج ٣ ص ٣٠٤.
(٣). وهي قراءة حمزة والكسائي.
(٤). هي قراءة ابن عامر.
هل هو في القدر أو في الصنف، واللفظ يحتمل الوجهين، فأما القدر فقال مالك يطعم بالمدينة مدّا بمدّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وبغيرها: وسط من الشبع، وقال الشافعي وابن القاسم: يجزي المدّ في كل مكان وقال أبو حنيفة إن غدّاهم وعشاهم أجزأه، وأما الصنف فاختلف هل يطعم من عيش نفسه، أو من عيش أهل بلده؟ فمعنى الآية على التأويل الثاني من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم على الجملة، وعلى الأول يختص الخطاب بالمكفّر أَوْ كِسْوَتُهُمْ قال كثير من العلماء: يجزي ثوب واحد لمسكين، لأنه يقال فيه كسوة، وقال مالك: إنما يجزي ما تصح به الصلاة، فللرجل ثوب واحد، وللمرأة قميص وخمار أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ اشترط مالك فيها أن تكون مؤمنة لتقيدها بذلك في كفارة القتل، فحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، وأجاز أبو حنيفة هنا عتق الكافرة، لإطلاق اللفظ هنا، واشترط مالك أيضا أن تكون سليمة من العيوب وليس في اللفظ ما يدل على ذلك فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي من لم يملك ما يعتق ولا ما يطعم ولا ما يكسو فعليه صيام ثلاثة أيام، فالخصال الثلاث على التخيير، والصيام مرتب بعدها لمن عدمها، وهو عند مالك من لم يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه زيادة ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ معناه إذا حلفتم وخشيتم أو أردتم الحنث، واختلف هل يجوز تقديم الكفارة على الحنث أم لا وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي احفظوها فبروا فيها، ولا تحنثوا، وقيل: احفظوها بأن تكفروها إذا حنثتم، وقيل: احفظوها ألا تنسوها تهاونا بها الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ذكر في [البقرة: ٢١٩] وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ مذكوران في أول هذه السورة رِجْسٌ هو في اللغة: كل مكروه مذموم وقد يطلق بمعنى النجس وبمعنى الحرام وقال ابن عباس: معنى رجس سخط فَاجْتَنِبُوهُ نص في التحريم، والضمير يعود على الرجس الذي هو خبر عن جميع الأشياء المذكورة إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تقبيح للخمر والميسر، وذكر لبعض عيوبها، وتعليل لتحريمها، وقد وقعت في زمان الصحابة عداوة بين أقوام بسبب شربهم لها قبل تحريمها، ويقال إن ذلك كان سبب نزول الآية فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ توقيف يتضمن الزجر والوعيد ولذلك قال عمر لما نزلت: انتهينا انتهينا
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا فيها تأويلان: أحدهما أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها؟ فنزلت الآية
معلمة أنه: لا جناح على من شربها قبل التحريم، لأنه لم يعص الله بشربها حينئذ، والآخر أن المعنى رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموا من المطاعم إذا اجتنبوا الحرام منها، وعلى هذا أخذها عمر رضي الله عنه حين قال لقدامة: إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك، وكان قدامة قد شربها واحتج بهذه الآية على رفع الجناح عنه، فقال عمر: أخطأت التأويل إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا الآية قيل: كرر التقوى مبالغة، وقيل: الرتبة الأولى: اتقاء الشرك، والثانية اتقاء المعاصي، والثالثة: اتقاء ما لا بأس به حذرا مما به البأس، وقيل: الأولى للزمان الماضي والثانية للحال، والثالثة للمستقبل وَأَحْسَنُوا يحتمل أن يريد الإحسان إلى الناس، أو الإحسان في طاعة الله وهو المراقبة، وهذا أرجح لأنه درجة فوق التقوى، ولذلك ذكره في المرة الثالثة وهي الغاية، ولذلك قالت الصوفية: المقامات ثلاثة: مقام الإسلام ثم مقام الإيمان ثم مقام الإحسان لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي يختبر طاعتكم من معصيتكم بما يظهر لكم من الصيد مع الإحرام وفي الحرم، وكان الصيد من معاش العرب ومستعملا عندهم، فاختبروا بتركه كما اختبر بنو إسرائيل بالحوت «١» في السبت وإنما قلله في قوله: بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ إشعارا بأنه ليس من الفتن العظيمة، وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال مجاهد: الذي تناله الأيدي الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفرّ، والذي تناله الرماح كبار الصيد، والظاهر عموم هذا التخصيص لِيَعْلَمَ اللَّهُ أي يعلمه علما تقوم به الحجة، وذلك إذا ظهر في الوجود فَمَنِ اعْتَدى أي بقتل الصيد وهو محرم، والعذاب الأليم هنا في الآخرة
لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ معنى حرم داخلين في الإحرام وفي الحرم، والصيد هنا عامّ خصّص منه الحديث: الغراب والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور «٢». وأدخل مالك في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها، وقاس الشافعي على هذه الخمسة: كل ممّا لا يؤكل لحمه، ولفظ الصيد يدخل فيه ما صيد وما لم يصد مما شأنه أن يصاد وورد النهي هنا عن القتل قبل أن يصاد وبعد أن يصاد، وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله [الآتي] «وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما» وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً مفهوم الآية يقتضي أن جزاء الصيد على المتعمد لا على الناسي، وبذلك قال أهل الظاهر،
(١). حيثما ورد في هذا الكتاب فالمقصود به السمك على اختلاف أنواعه كما هو معروف في المغرب.
(٢). الحديث رواه أحمد عن عائشة وأوله: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: والحية والغراب: إلخ ج ٦ ص ١١٣.
243
وقال جمهور الفقهاء: المتعمد والناسي سواء في وجوب الجزاء، ثم اختلفوا في قوله متعمدا على ثلاثة أقوال: أحدها أن المتعمد إنما ذكر ليناط به الوعيد في قوله: ومن عاد فينتقم الله منه، إذ لا وعيد على الناسي، والثاني: أن الجزاء على الناسي بالقياس على المتعمد، والثالث: أن الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن وأنّ الجزاء على الناسي ثبت بالسنة فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ المعنى فعليه جزاء، وقرئ بإضافة جزاء إلى مثل، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول به، وقيل: مثل زائدة، كقولك: أنا أكرم مثلك أي: أكرمك، وقرئ فجزاء «١» بالتنوين، ومثل بالرفع على البدل أو الصفة، والنعم الإبل والبقر والغنم خاصة، ومعنى الآية عند مالك والشافعي: أنّ من قتل صيدا وهو محرم أنّ عليه في الفدية ما يشبه ذلك الصيد في الخلقة والمنظر، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الغزالة شاة، فالمثلية على هذا هي في الصورة والمقدار، فإن لم يكن له مثل أطعم أو صام، ومذهب أبي حنيفة أنّ المثل القيمة يقوّم الصيد المقتول، ويخير القاتل بين أن يصدّق بالقيمة أو يشتري بالقيمة من النعم ما يهديه يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ هذه الآية تقتضي أن التحكيم شرط في إخراج الجزاء، ولا خلاف في ذلك، فإن أخرج أحد الجزاء قبل الحكم عليه، فعليه إعادته بالحكم إلا حمام مكة، فإنه لا يحتاج إلى حكمين، قاله مالك، ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت فيه الصحابة، وفيما لم يحكموا فيه، لعموم الآية، وقال الشافعي: يكتفي في ذلك بما حكمت به الصحابة هَدْياً يقتضي ظاهره أن ما يخرج من النعم جزاء عن الصيد يجب أن يكون مما يجوز أن يهدى، وهو الجذع من الضأن والثني مما سواه، وقال الشافعي: يخرج المثل في اللحم ولا يشترط السن بالِغَ الْكَعْبَةِ لم يرد الكعبة بعينها، وإنما أراد الحرم، ويقتضي أن يصنع بالجزاء ما يصنع بالهدي من سوقه من الحلّ إلى الحرم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن اشتراه في الحرم أجزأه أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً عدّد تعالى ما يجب في قتل المحرم للصيد، فذكر أولا الجزاء من النعم، ثم الطعام ثم الصيام، ومذهب مالك والجمهور أنها: على التخيير، وهو الذي يقتضيه العطف بأو، ومذهب ابن عباس أنها: على الترتيب، ولم يبين الله هنا مقدار الطعام، فرأى العلماء أن يقدّر الجزاء من النعم. لأنهم اختلفوا في كيفية التقدير، فقال مالك: يقدر الصيد المقتول نفسه بالطعام الحب أو الدراهم، ثم تقوّم الدراهم بالطعام، فينظر كم يساوي من طعام أو من دراهم وهو حيّ، وقال بعض أصحاب مالك: يقدّر الصيد بالطعام أي يقال: كم كان يشبع الصيد من نفس، ثم يخرج قدر شبعهم طعاما، وقال الشافعي: لا يقدر الصيد نفسه، وإنما يقدّر مثله، وهو الجزاء الواجب على القاتل له
(١). وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين. والباقون بالضم فقط.
244
أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً تحتمل الإشارة بذلك أن تكون إلى الطعام وهو أحسن لأنه أقرب أو إلى الصيد، واختلف في تعديل الصيام بالطعام فقال مالك: يكون مكان كل مدّ يوما، وقال أبو حنيفة: مكان كل مدّين يوم، وقيل: مكان كل صاع يوما، ولا يجب الجزاء ولا الإطعام ولا الصيام إلا بقتل الصيد، لا بأخذه دون قتل لقوله: من قتله، وفي كل وجه يشترط حكم الحكمين، وإنما لم يذكر الله في الصيام والطعام استغناء بذكره في الجزاء لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ الذوق هنا مستعار لأن حقيقته بحاسة اللسان، والوبال سوء العاقبة، وهو هنا ما لزمه من التكفير عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أي عما فعلتم في الجاهلية من قتل الصيد في الحرم وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي من عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد النهي عن ذلك فينتقم الله منه بوجوب الكفارة عليه أو بعذابه في الآخرة.
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أحلّ الله بهذه الآية صيد البحر للحلال والمحرم، والصيد هنا المصيد، والبحر هو الماء الكثير: سواء كان ملحا أو عذبا، كالبرك ونحوها، وطعامه هو ما يطفو على الماء وما قذف به البحر لأنّ ذلك طعام وليس بصيد، قاله أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب، وقال ابن عباس: طعامه ما ملح منه وبقي مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ الخطاب بلكم للحاضرين في البحر، والسيارة المسافرون أي هو متاع ما تدومون به وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً الصيد هنا يحتمل أن يراد به المصدر أو الشيء المصيد أو كلاهما، فنشأ من هذا أن ما صاده المحرم فلا يحلّ له أكله بوجه، ونشأ الخلاف فيما صاد غيره، فإذا اصطاد حلال، فقيل: يجوز للمحرم أكله، وقيل: لا يجوز إن اصطاده لمحرم، والأقوال الثلاثة مروية عن مالك، وإن اصطاد حرام [محرم] لم يجز لغيره أكله عند مالك خلافا للشافعي جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أي أمرا يقوم للناس بالأمن والمنافع، وقيل: موضع قيام بالمناسك ولفظ الناس هنا عام، وقيل: أراد العرب خاصة، لأنهم الذين كانوا يعظمون الكعبة وَالشَّهْرَ الْحَرامَ يريد جنس الأشهر الحرم الأربعة، لأنهم كانوا يكفون فيها عن القتال وَالْهَدْيَ يريد أنه أمان لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وَالْقَلائِدَ كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئا من السمر، وإذا رجع تقلد شيئا من أشجار الحرم، ليعلم أنه كان في عبادة، فلا يتعرض له أحد بشيء، فالقلائد هنا هو ما تقلده المحرم من الشجر، وقيل: أراد قلائد الهدي، قال سعيد بن جبير: جعل الله هذه الأمور للناس في الجاهلية وشدّد في الإسلام ذلِكَ لِتَعْلَمُوا الإشارة إلى جعل هذه الأمور قياما للناس، والمعنى جعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل الأمور
245
لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ لفظ عام في جميع الأمور من المكاسب والأعمال والناس وغير ذلك لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ قيل سببها سؤال عبد الله بن حذافة من أبي؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم أبوك حذافة، وقال آخر: أين أبي قال: في النار، وقيل:
سببها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فقالوا يا رسول الله أفي كل عام؟
فسكت، فأعادوا، قال لا، ولو قلت: نعم لوجبت «١»، فعلى الأول تسؤكم بالإخبار بما لا يعجبكم، وعلى الثاني: تسؤكم بتكليف ما يشق عليكم، ويقوي هذا قوله عفا الله عنها: أي سكت عن ذكرها ولم يطالبكم بها كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عفا الله عن الزكاة في الخيل» «٢»، وقيل إن معنى عفا الله عنها: عفا عنكم فيما تقدم من سؤالكم فلا تعودوا إليه وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فيه معنى الوعيد على السؤال: كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم أبدي لكم ما يسؤوكم، والمراد بحين ينزل القرآن: زمان الوحي قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ الضمير في سألها راجع إلى المسألة التي دل عليها لا تسألوا، وهي مصدر، ولذلك لم يتعدّ بعن كما تعدى قوله إن تسألوا عنها، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا، فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أمروا به ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ لما سأل قوم عن هذه الأمور التي كانت في الجاهلية: هل تعظم لتعظيم الكعبة والهدي؟ أخبرهم الله أنه لم يجعل شيئا من ذلك لعباده أي لم يشرعه لهم، وإنما الكفار جعلوا ذلك، فأما البحيرة: فهي فعيلة بمعنى مفعولة من بحر إذا شق، وذلك أن الناقة إذا أنتجت عشرة أبطن شقوا آذانها، وتركوها ترعى ولا ينتفع بها، وأما السائبة فكان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، وأما الوصيلة فكانوا: إذا ولدت الناقة ذكرا وأنثى في بطن واحد قالوا: وصلت الناقة أخاها فلم يذبحوها، وأما الحامي فكانوا إذا نتج من صلب الجمل عشرة بطون قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه شيء وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي يكذبون عليه بتحريمهم ما لم يحرّم الله وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الذي يفترون على الله الكذب هم الذين اخترعوا تحريم تلك
(١). رواه أحمد عن ابن عباس ج ١/ ٤٦٤.
(٢). روى أحمد الحديث عن عليّ بن أبي طالب بلفظ: عفوت لكم عن صدقة الخيل. ج ١ ص ١٧٩.
الأشياء، والذين لا يعقلون هم أتباعهم المقلدون لهم
قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي يكفينا دين آبائنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ قال الزمخشري: الواو واو الحال، دخلت عليها همزة الإنكار، كأنه قيل: أحسبهم هذا وآباؤهم لا يعقلون، قال ابن عطية: ألف التوقيف [الاستفهام] دخلت على واو العطف، وقول الزمخشري أحسن في المعنى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قيل: إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: إنها خطاب للمسلمين من ذرية الذين حرّموا البحيرة وأخواتها، كأنه يقول: لا يضركم ضلال أسلافكم إذا اهتديتم، والقول الصحيح فيها ما ورد عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: «سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم» «١» ومثل ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ليس هذا بزمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم، فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ.
قال مكي: هذه الآية أشكل آية من القرآن إعرابا، ومعنى، وحكما، ونحن نبين معناها على الجملة، ثم نبين أحكامها وإعرابها على التفصيل، وسببها أنّ رجلين خرجا إلى الشام، وخرج معهما رجل آخر بتجارة، فمرض في الطريق فكتب كتابا قيد فيه كل ما معه، وجعله في متاعه وأوصى الرجلين أن يؤديا رحله إلى ورثته فمات فقدم الرجلان المدينة، ودفعا رحله إلى ورثته، فوجدوا فيه كتابه وفقدوا منه أشياء قد كتبها، فسألوهما فقالا لا ندري هذا الذي قبضناه، فرفعوهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبقى الأمر مدّة، ثم عثر على إناء عظيم من فضة، فقيل لمن وجده عنده من أين لك هذا، فقال اشتريته من فلان وفلان، يعني الرجلين، فارتفع الأمر في ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا فحلفا واستحقا، فمعنى الآية: إذا حضر الموت أحد في السفر، فليشهد عدلين بما معه، فإن وقعت ريبة في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا ولا بدّلا، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما إعراب الآية، وشهادة بينكم مرفوع بالابتداء وخبره: اثنان التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين أو مقيم شهادة بينكم اثنان إذا حضر أي قارب الحضور، والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة، وهذا على أن يكون
(١). ورد هذا الحديث بلفظ قريب منه في جامع الترمذي وسنن ابن ماجة في كتاب الفتن عن أبي ثعلبة الخشني.
إذا بمنزلة حين لا تحتاج جوابا، ويجوز أن تكون شرطية، وجوابها محذوف يدل عليه ما تقدم قبلها فإنّ المعنى: إذا حضر أحدكم الموت، فينبغي أن يشهد حين الوصية، ظرف العامل فيه حضر، ويكون بدلا من إذا ذَوا عَدْلٍ صفة للشاهدين منكم أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قيل: معنى منكم من عشيرتكم وأقاربكم، ومن غيركم، من غير العشيرة والقرابة وقال الجمهور: منكم أي من المسلمين، ومن غيركم من الكفار، إذا لم يوجد مسلم، ثم اختلف على هذا هل هي منسوخة بقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم فلا تجوز شهادة الكفار أصلا؟ وهو قول مالك والشافعي والجمهور أو هي محكمة، وأن شهادة الكفار جائزة على الوجه في السفر، وهو قول ابن عباس إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم، وجواب إن محذوف يدل عليه ما تقدّم قبلها، والمعنى: إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فشهادة بينكم شهادة اثنين تَحْبِسُونَهُما قال أبو علي الفارسي: هو صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: إن أنتم إلى قوله الموت ليفيد أن العدول إلى آخرين من غير الملة، إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض، وحلول الموت في السفر، وقال الزمخشري: تحبسونهما استئناف كلام من بعد الصلاة قال الجمهور: هي صلاة العصر، فاللام للعهد، لأنها وقت اجتماع الناس، وبعدها أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالأيمان، وقال: من حلف على سلعة بعد صلاة العصر، وكان التحليف بعدها معروف عندهم، وقال ابن عباس: هي صلاة الكافرين في دينهما لأنهما لا يعظمان صلاة العصر فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أي يحلفان ومذهب الجمهور أن تحليف الشاهدين منسوخ، وقد استحلفهما عليّ بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في صدقهما أو أمانتهما، وهذه الكلمة اعتراض بين القسم والمقسوم عليه، وجواب إن محذوف يدل عليه يقسمان لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً هذا هو المقسوم عليه، والضمير في به للقسم، وفي كان للمقسم له: أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا: أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريبا لنا، وهذا لأن عادة الناس الميل إلى أقاربهم وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وأدائها، وإضافتها إلى الله تعظيما لها
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي إن طلع بعد ذلك على أنهما فعلا ما أوجب إثما، والإثم الكذب والخيانة واستحقاقه الأهلية للوصف به فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أي اثنان من أولياء الميت، يقومان مقام الشاهدين في اليمين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أي من الذين استحق عليهم الإثم أو المال ومعناه من الذي جنى عليهم وهم أولياء الميت الْأَوْلَيانِ تثنية أولى بمعنى أحق:
أي الأحقان بالشهادة لمعرفتهما، والأحقان بالمال: لقرابتهما، وهو مرفوع على أنه خبر
ابتداء تقديره هما الأوليان، أو مبتدأ مؤخر تقديره الأوليان آخران يقومان، أو بدل من الضمير في يقومان، ومنع الفارسي أن يسند استحق إلى الأوليان، وأجازه ابن عطية، وأما على قراءة استحق بفتح التاء والحاء على البناء للفاعل، فالأوليان فاعل باستحق، ومعنى استحق على هذا أخذ المال وجعل يده عليه، والأوليان على هذا هما الشاهدان اللذان ظهرت خيانتهما: أي الأوليان بالتحليف والتعنيف والفضيحة، وقرئ الأولين جمع أول «١»، وهو مخفوض على الصفة للذين استحق عليهم، أو منصوبا بإضمار فعل ووصفهم بالأولية لتقدمهم على الأجانب في استحقاق المال وفي صدق الشهادة فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي يحلف هذان الآخران أن شهادتهما أحق: أي أصح من شهادة الشاهدين الذين ظهرت خيانتهما إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن اعتدينا، فإنا من الظالمين وذلك على وجه التبرئة ومثل قول الأولين إنا إذا لمن الآثمين ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها الإشارة بذلك إلى الحكم الذي وقع في هذه القضية ومعنى أدنى:
أقرب، وعلى وجهها أي كما وقعت من غير تغيير ولا تبديل أو يخافوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا.
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ هو يوم القيامة، وانتصب الظرف بفعل مضمر أي ماذا أجابكم به الأمم من إيمان وكفر وطاعة ومعصية؟ والمقصود بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم وانتصب ماذا أجبتم انتصاب مصدره، ولو أريد الجواب، لقيل بماذا أجبتم قالُوا لا عِلْمَ لَنا إنما قالوا ذلك تأدبا مع الله فوكلوا العلم إليه قال ابن عباس:
المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، وقيل معناه علمنا ساقط في جنب علمك ويقوي ذلك قوله إنك أنت علام الغيوب، لأنّ من علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر، وقيل ذهلوا عن الجواب لهول ذلك اليوم، وهذا بعيد لأنّ الأنبياء في ذلك اليوم آمنون، وقيل أرادوا بذلك توبيخ الكفار
إِذْ قالَ اللَّهُ يحتمل أن يكون إذ بدل من يوم يجمع، ويكون هذا القول يوم القيامة أو يكون العامل في إذ مضمرا، ويحتمل على هذا أن يكون القول في الدنيا أو يوم القيامة وإذا جعلناه يوم القيامة فقوله قال بمعنى يقول، وقد تقدم تفسير ألفاظ هذه الآية في آل عمران فَتَنْفُخُ فِيها الضمير المؤنث عائد على الكاف، لأنها صفة للهيئة، وكذلك الضمير في تكون، وكذلك الضمير المذكور في قوله في آل عمران فينفخ فيه عائد على
(١). قرأ حمزة وأبو بكر الأولين وقرأ حفص الأوليان.
249
الكاف أيضا، لأنها بمعنى مثل وإن شئت قلت: هو في الموضعين عائد على الموصوف المحذوف الذي وصف بقوله كهيئة فتقديره في التأنيث صورة، وفي التذكير شخصا أو خلقا وشبه ذلك، وقيل: المؤنث يعود على الهيئة والمذكر يعود على الطير، والطين، وهو بعيد في المعنى بِإِذْنِي كرره مع كل معجزة ردّا على من نسب الربوبية إلى عيسى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني اليهود حين همّوا بقتله فرفعه الله إليه وَإِذْ أَوْحَيْتُ معطوف على ما قبله، فهو من جملة نعم الله على عيسى والوحي هنا يحتمل أن يكون وحي إلهام أو وحي كلام وَاشْهَدْ يحتمل أن يكون خطابا لله تعالى أو لعيسى عليه السلام إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ نداؤهم له باسمه: دليل على أنهم لم يكونوا يعظمونه كتعظيم المسلمين لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، فإنهم كانوا لا ينادونه باسمه، وإنما يقولون: يا رسول الله يا نبي الله، وقولهم ابن مريم: دليل على أنهم كانوا يعتقدون فيه الاعتقاد الصحيح من نسبته إلى أمّ دون والد، بخلاف ما اعتقده النصارى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ظاهر هذا اللفظ أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى على إنزال المائدة وعلى هذا أخذه الزمخشري، وقال ما وصفهم الله بالإيمان، ولكن حكى دعواهم في قولهم: آمنا. وقال ابن عطية وغيره: ليس كذلك لأنهم شكوا في قدرة الله، لكنه بمعنى هل يفعل ربك هذا، وهل يقع منه إجابة إليه، وهذا أرجح، لأن الله أثنى على الحواريين في مواضع من كتابه، مع أنّ في اللفظ بشاعة تنكر، وقرئ تستطيع «١» بتاء الخطاب ربك بالنصب أي هل تستطيع سؤال ربك، وهذه القراءة لا تقتضي أنهم شكوا، وبها قرأت عائشة رضي الله عنها، وقالت: كان الحواريون أعرف بربهم من أن يقولوا: هل يستطيع ربك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ موضع أن مفعول بقوله يستطيع على القراءة بالياء، ومفعول بالمصدر، وهو السؤال المقدّر على القراءة بالتاء، والمائدة هي التي عليها طعام، فإن لم يكن عليها طعام فهي خوان قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فقوله لهم: اتقوا الله يحتمل أن يكون زجرا عن طلب المائدة، واقتراح الآيات، ويحتمل أن يكون زجرا عن الشك الذي يقتضيه قولهم: هل يستطيع ربك على مذهب الزمخشري، أو عن البشاعة التي في اللفظ وإن لم يكن فيه شك، وقوله: إن كنتم مؤمنين: هو على ظاهره على مذهب الزمخشري، وأما على مذهب ابن عطية وغيره، فهو تقرير لهم كما تقول: افعل كذا إن كنت رجلا، ومعلوم أنه رجل، وقيل: إنّ هذه
(١). وهي قراءة الكسائي فقط.
250
المقالة صدرت منهم في أوّل الأمر قبل أن يروا معجزات عيسى
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أي أكلا نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا أي نعاين الآية فيصير إيماننا بالضرورة والمشاهدة، فلا تعرض لنا الشكوك التي تعرض في الاستدلال وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا ظاهره يقوي قول من قال إنهم إنما قالوا ذلك قبل تمكن إيمانهم، ويحتمل أن يكون المعنى نعلم علما ضروريا لا يحتمل الشك وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ أي نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أجابهم عيسى إلى سؤال المائدة من الله، وروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر، وقام يصلي ويدعو ويبكي تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا قيل: نتخذ يوم نزولها عيدا يدور كل عام لأول الأمة، ثم لمن بعدهم، وقال ابن عباس: المعنى تكون مجتمعا لجميعنا أوّلنا وآخرنا في يوم نزولها خاصة لا عيدا يدور وَآيَةً مِنْكَ أي علامة على صدقي قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ أجابهم الله إلى ما طلبوا، ونزلت المائدة عليها سمك وخبز، وقيل زيتون وتمر ورمان وقال ابن عباس: كان طعام المائدة ينزل عليهم حيثما نزلوا وفي قصة المائدة قصص كثيرة غير صحيحة فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً عادة الله عز وجل عقاب من كفر بعد اقتراح آية فأعطيته، ولما كفر بعض هؤلاء مسخهم الله خنازير، قال عبد الله بن عمر: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون والمنافقون..
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال ابن عباس والجمهور: هذا القول يكون من الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، ليرى الكفار تبرئة عيسى مما نسبوه إليه، ويعلمون أنهم كانوا على باطل، وقال السدّي: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالوا، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، وسأل الله حينئذ عن ذلك، فقال: سبحانك الآية، فعلى هذا يكون إذ قال ماضيا في معناه كما هو لفظه، وعلى قول ابن عباس يكون بمعنى المستقبل ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ نفي يعضده دليل العقل لأنّ المحدث لا يكون إلها إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ اعتذار وبراءة من ذلك القول، ووكل العلم إلى الله لتظهر براءته، لأن الله علم أنه لم يقل ذلك تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك باللفظ مسلك المشاكلة، فقال في نفسك مقابلة لقوله في نفسي، وبقية قوله تعظيما لله، وإخبار بما
251
قال الناس في الدنيا أَنِ اعْبُدُوا أن حرف عبارة وتفسير أو مصدرية بدل من الضمير في به إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيها سؤالان الأول كيف قال وإن تغفر لهم وهم كفار والكفار لا يغفر لهم؟ والجواب أن المعنى تسليم الأمر إلى الله، وأنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه، لأن الخلق عباده، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله تعالى وعزته، وفرق بين الجواز والوقوع، وأما على قول من قال: إن هذا الخطاب لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء، فلا إشكال، لأن المعنى إن تغفر لهم بالتوبة، وكانوا حينئذ أحياء، وكل حيّ معرض للتوبة، السؤال الثاني: ما مناسبة قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم، لقوله: وإن تغفر لهم والأليق مع ذكر المغفرة أن لو قيل: فإنك أنت الغفور الرحيم؟ والجواب من ثلاثة أوجه. الأول يظهر لي أنه لما قصد التسليم لله والتعظيم له، كان قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم أليق، فإن الحكمة تقتضي التسليم له، والعزة تقتضي التعظيم له، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد ولا يغلبه غيره، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدم المغفرة لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته وأيهما فعل فهو جميل لحكمته. الجواب الثاني: قاله شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: إنما لم يقل الغفور الرحيم لئلا يكون في ذلك تعريض في طلب المغفرة لهم. فاقتصر على التسليم والتفويض دون الطلب. إذ لا تطلب المغفرة للكفار، وهذا قريب من قولنا. الثالث حكى شيخنا الخطيب أبو عبد الله بن رشيد عن شيخه إمام البلغاء في وقته حازم بن حازم أنه كان يقف على قوله: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ويجعل فإنك أنت العزيز استئنافا وجواب إن في قوله فإنهم عبادك كأنه قال إن تعذبهم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك على كل حال.
هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ عموم في جميع الصادقين، وخصوصا في عيسى ابن مريم فإن في ذلك إشارة إلى صدقه في الكلام الذي حكاه الله عنه، وقرأ غير نافع بقية القراء هذا يوم بالرفع على الابتداء أو الخبر، وقرأ نافع بالنصب وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون يوم ظرف لقال، فعلى هذا لا تكون الجملة معمول القول، وإنما معموله هذا خاصة والمعنى قال الله هذا القصص أو الخبر في يوم، وهذا بعيد مزيل لرونق الكلام، والآخر أن يكون هذا مبتدأ، ويوم في موضع خبره والعامل فيه محذوف تقديره هذا واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم، ولا يجوز أن يكون يوم مبنيا على قراءة نافع، لأنه أضيف إلى معرب، قاله الفارسي والزمخشري.
252
Icon