تفسير سورة الجمعة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة الجمعة
فيها آيتان

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
المسألة الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْجُمُعَةِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْكُفَّارِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَغَيْرِهَا وَهَا هُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْجُمُعَةُ. وَإِنَّمَا خُصَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْكُفَّارِ ؛ تَشْرِيفًا [ لَهُمْ ] بِالْجُمُعَةِ، وَتَخْصِيصًا دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّحِيحِ :«نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ من بَعْدِهِمْ ؛ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ ».
المسألة الثَّانِيَةُ : الْجُمُعَةُ خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَيَوْمُ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَفْضَلُ الْأَيَّامِ. رُوِيَ أَنَّ «جِبْرِيلَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِيَدِهِ مِرْآةٌ فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ : يَا جِبْرِيلُ ؛ مَا هَذِهِ الْمِرْآةُ ؟ قَالَ : يَوْمُ الْجُمُعَةِ. قَالَ : مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ الَّتِي فِيهَا ؟ قَالَ : السَّاعَةُ وَفِيهَا تَقُومُ ».
كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :«خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَم وَفِيهِ أُهْبِطَ [ مِنْ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ ]، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ » كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ : الْجُمُعَةُ فَرْضٌ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا قُرْآنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ، وَهِيَ ظُهْرُ الْيَوْمِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا يُحْكَى فِي ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا مَا يُؤْثَرُ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْعَرُوسُ عَنْهَا ؛ فَإِنَّ الْعَرُوسَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِأَجْلِ الْعُرْسِ، فَكَيْفَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
وَلَهَا شُرُوطٌ وَأَرْكَانٌ فِي الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ، فَشُرُوطُ الْوُجُوبِ سَبْعَةٌ :
الْعَقْلُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْإِقَامَةُ، وَالْقَرْيَةُ.
وَأَمَّا شُرُوطُ الْأَدَاءِ فَهِيَ :
الْإِسْلَامُ، فَلَا تَصِحُّ من كَافِرٍ. وَالْخُطْبَةُ، وَالْإِمَامُ الْقَيِّمُ لِلصَّلَاةِ لَيْسَ الْأَمِيرُ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ كَلِمَةً بَدِيعَةً : إنَّ لِلَّهِ فَرَائِضَ فِي أَرْضِهِ لَا يُضَيِّعُهَا [ إنْ ] وَلِيَهَا وَالٍ أَوْ لَمْ يَلِهَا.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : من شُرُوطِ أَدَائِهَا الْمَسْجِدُ الْمُسْقَفُ. وَلَا أَعْلَمُ وَجْهَهُ.
وَمِنْهَا الْعَدَدُ، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ. وَإِنَّمَا حَدُّهُ جَمَاعَةٌ تَتَقَرَّى بِهِمْ بُقْعَةٌ، وَمِنْ أَدَائِهَا الِاغْتِسَالُ، وَتَحْسِينُ الشَّارَةِ، وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ ﴾ :
النِّدَاءُ هُوَ الْأَذَانُ، وَقَدْ بَيَّنَّا جُمْلَةً مِنْهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَقَدْ «كَانَ الْأَذَانُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجُمُعَةِ كَسَائِرِ الْأَذَانِ فِي الصَّلَوَاتِ ؛ يُؤَذِّنُ وَاحِدٌ إذَا جَلَسَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ، ثُمَّ زَادَ عُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَانًا ثَالِثًا عَلَى الزَّوْرَاءِ، حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا سَمِعُوا أَقْبَلُوا، حَتَّى إذَا جَلَسَ عُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَخْطُبُ عُثْمَانُ ».
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ الْآذَانَ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدًا، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ »، وَسَمَّاهُ فِي الْحَدِيثِ ثَالِثًا ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الْإِقَامَةِ فَجَعَلَهُ ثَالِثَ الْإِقَامَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ » يَعْنِي الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ ؛ فَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّهُ أَذَانٌ أَصْلِيٌّ، فَجَعَلُوا الْمُؤَذِّنَيْنِ ثَلَاثَةً، فَكَانَ وَهْمًا، ثُمَّ جَمَعُوهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ وَهْمًا عَلَى وَهْمٍ، وَرَأَيْتهمْ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ يُؤَذِّنُونَ بَعْدَ أَذَانِ الْمَنَارِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ تَحْتَ الْمِنْبَرِ فِي جَمَاعَةٍ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ عِنْدَنَا فِي الدُّوَلِ الْمَاضِيَةِ ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ.
المسألة الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ لِلصَّلَاةِ ﴾ ؛ يَعْنِي بِذَلِكَ الْجُمُعَةَ دُونَ غَيْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كَوْنُ الصَّلَاةِ الْجُمُعَةَ هَاهُنَا مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا من نَفْسِ اللَّفْظِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ مَعْلُومٌ من نَفْسِ اللَّفْظِ بِنُكْتَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ :﴿ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ﴾، وَذَلِكَ يُفِيدُهُ ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ نِدَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ ؛ فَأَمَّا غَيْرُهَا فَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ الْجُمُعَةِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ بِهَا وَإِضَافَتِهِ إلَيْهَا مَعْنًى وَلَا فَائِدَةٌ.
المسألة السَّادِسَةُ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : كَانَ اسْمُ الْجُمُعَةِ فِي الْعَرَبِ الْأَوَّلِ عُرُوبَةً، فَسَمَّاهَا الْجُمُعَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ ؛ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا إلَى كَعْبٍ قَالَ الشَّاعِرُ :
لَا يُبْعِدُ اللَّهُ أَقْوَامًا هُمْ خَلَطُوا يَوْمَ الْعُرُوبَةِ أَصْرَامًا بِأَصْرَامٍ
المسألة السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ ﴿ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ :
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النِّيَّةُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
الثَّانِي أَنَّهُ الْعَمَلُ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ وقَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السَّعْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ.
وَيُحْتَمَلُ ظَاهِرُهُ رَابِعًا : وَهُوَ الْجَرْيُ وَالِاشْتِدَادُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الصَّحَابَةُ الْأَعْلَمُونَ، وَالْفُقَهَاءُ الْأَقْدَمُونَ، وَقَرَأَهَا عُمَرُ :" فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ " فِرَارًا عَنْ ظَنِّ الْجَرْيِ وَالِاشْتِدَادِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ذَلِكَ. وَقَالَ : لَوْ قَرَأْت فَاسْعَوْا لَسَعَيْت حَتَّى سَقَطَ رِدَائِي.
وَقَرَأَ ابْنُ شِهَابٍ : فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ سَالِكًا تِلْكَ السُّبُلَ، وَهُوَ كُلُّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمْ، لَا قِرَاءَةٌ قُرْآنٍ مُنَزَّلٍ، وَجَائِزٌ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّفْسِيرِ فِي مَعْرِضِ التَّفْسِيرِ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ النِّيَّةُ ؛ فَهُوَ أَوَّلُ السَّعْيِ وَمَقْصُودُهُ الْأَكْبَرُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ السَّعْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا عِيسَى بْنَ جُبَيْرٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ من كِبَارِ الصَّحَابَةِ يَمْشِي إلَى الْجُمُعَةِ رَاجِلًا. وَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ :«مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ. فَذَلِكَ فَضْلٌ وَأَجْرٌ لَا شَرْطٌ ».
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْعَمَلُ فَأَعْمَالُ الْجُمُعَةِ هِيَ : الِاغْتِسَالُ، وَالتَّمَشُّطُ، وَالِادِّهَانُ، وَالتَّطَيُّبُ، وَالتَّزَيُّنُ بِاللِّبَاسِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَادِيثُ بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ؛ وَظَاهِرُ الْآيَةِ وُجُوبُ الْجَمِيعِ، لَكِنَّ أَدِلَّةَ الِاسْتِحْبَابِ ظَهَرَتْ عَلَى أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ، فَقَضَى بِهَا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.
المسألة الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْخُطْبَةُ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الصَّلَاةُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ [ وَاجِبٌ ] الْجَمِيعُ أَوَّلُهُ الْخُطْبَةُ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عَقِبَ النِّدَاءِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا، إلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْمَاجِشُونِ فَإِنَّهُ رَآهَا سُنَّةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا أَنَّهَا تُحَرِّمُ الْبَيْعَ، وَلَوْلَا وُجُوبُهَا مَا حَرَّمَتْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَا يُحَرِّمُ الْمُبَاحَ.
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الصَّلَاةُ فَالْخُطْبَةُ من الصَّلَاةِ، وَالْعَبْدُ يَكُونُ ذَاكِرًا لِلَّهِ [ بِفِعْلِهِ ] كَمَا يَكُونُ مُسَبِّحًا لِلَّهِ بِفِعْلِهِ.
المسألة التَّاسِ
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ من اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاَللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ :
الْأُولَى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ :«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَدَخَلَتْ عِيرٌ إلَى الْمَدِينَةِ، فَالْتَفَتُوا، فَخَرَجُوا إلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ :﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا. . . ﴾ الْآيَةُ كُلُّهَا.
الثَّانِيَةُ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ :«كَانَ النَّاسُ قَرِيبًا من السُّوقِ، فَرَأَوْا التِّجَارَةَ، فَخَرَجُوا إلَيْهَا، وَتَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ إذَا كَانَتْ لَهُمْ عُرْسٌ يَمُرُّونَ بِالْكِيرِ يَضْرِبُونَ بِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ نَاسٌ، فَغَضِبَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ ».
الثَّالِثُ من حَدِيثِ مُجَاهِدٍ :«نَزَلَتْ مَعَ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ تِجَارَةٌ بِأَحْجَارِ الزَّيْتِ فَضَرَبُوا طَبْلَهُمْ، يُعَرِّفُونَ بِإِقْبَالِهِمْ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَعَاتَبَهُمْ اللَّهُ وَنَزَلَتْ الْآيَةُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَوْ تَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ لَسَالَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَارًا ».
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَخْطُبُ قَائِمًا، كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَخَطَبَ عُثْمَانُ قَائِمًا حَتَّى رَقَّ فَخَطَبَ قَاعِدًا.
وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ قَاعِدًا مُعَاوِيَةُ، وَدَخَلَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَقَالَ : اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْخَبِيثَ يَخْطُبُ قَاعِدًا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ :
﴿ وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ﴾ إشَارَةً إلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرُبَاتِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَكِنْ فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ الْوَاجِبِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَفِي الْإِطْلَاقِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ مُعَاوِيَةَ إنَّمَا خَطَبَ قَاعِدًا لِسِنِّهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي قَعْدَتِهِ رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَالَ كَثِيرٌ من عُلَمَائِنَا : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ الْخُطْبَةَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : إنَّهَا سُنَّةٌ. وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
Icon