تفسير سورة المنافقون

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾؛ معناهُ: إذا جاءَك يا مُحَمَّدُ منافِقُوا أهلِ المدينةِ عبدُالله بنُ أُبَي وأصحابهُ.
﴿ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ ﴾، قالُوا: نُقسِمُ إنَّكَ لرسولُ اللهِ، وعلى ذلكَ ضَمِيرُنا واعتقادُنا.
﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾، من غيرِ شهادة المنافقين وحلفِهم ﴿ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾؛ أي واللهُ يخبر أنَّ المنافقين لكَاذبون فيما يعتقدونَهُ بقُلوبهم وما يقُولون بأَلسِنَتِهم، فهُم كاذِبون في إخبارهم عمَّا في ضَمائرِهم، فأمَّا شَهادتُهم بألسِنتهم أنه رسولُ الله فقد كانت صِدْقاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾؛ أي سُتْرَةً يدفعون بها عن أنفُسِهم السَّبي والقتلِ والجزية كمَن أعدَّ على نفسهِ جُنَّةً لدفعِ الجراح. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي مَنَعُوا الناسَ عن طاعةِ الله وامَتنعوا عنها.
﴿ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾؛ في نفاقِهم من الكذب والخيانة. وفي هذه الآيةِ دليلٌ أنَّ قولَ الرجُلِ: أشْهَدُ، يمينٌ؛ لأنَّ القومَ قالوا (نَشْهَدُ) فجعلَهُ اللهُ يَميناً في هذهِ الآية، وعلى هذا أُقسِمُ وأعزِمُ وأحلِفُ، كلُّها إيمانٌ عند أبي حنيفةَ وصَاحِبَيْهِ، والثوريِّ والأوزاعي. وقال مالكُ: (إنْ أرَادَ بهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ)، وقال الشافعيُّ: (أُقْسِمُ لَيْسَ بيَمِينٍ وَأُقْسِمُ باللهِ يَمِينٌ). وفي قراءةِ الحسن (اِتَّخَذُوا إيْمَانَهُمْ) بكسر الألف، أي إنَّا مُؤمِنون، اتَّخذوهُ تُقْيَةً عن القتلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾؛ أي ذلك الحكمُ بنفَاقِهم، ويقالُ: ذلك الصدُّ بأنَّهم كانوا مُؤمنين في العَلانِيَةِ بحضرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإذا عادُوا إلى قَومِهم ثبَتُوا على الكفرِ في السرِّ، فأورثَ ذلك طَبْعاً على قُلوبهم فهُم لا يفقَهُون الإيمانَ والقرآنَ، ولا يَعُونَ ما يُوعَظُونَ به.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾؛ أي في صحَّة أجسامِهم وحُسنِ مَنظَرِهم؛ لأنَّهم يكونون على صُورةٍ حَسنة، وكان عبدُالله بن أُبَي رجُلاً فَصِيحاً لَسِناً، وكانوا إذا قالُوا شَيئاً أصغَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِحُسنِ كلامِهم، ولهذا أُدخلت اللامُ في ﴿ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾، ويجوزُ أن يكون معناه: إلى قولِهم. قَوْلُهُ تَعَاَلَى: ﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾؛ فيه بيانٌ في تركِ التفهُّم والاستبصار بمنْزِلة الْخُشُب الْمُسَنَّدَةِ إلى الجدار، لا ينتفعُ إلاَّ بالنظرِ إليها، والْخُشُبُ لا أرواحَ فيها ولا تعقلُ ولا تفهمُ، وكذلك المنافقون لا يَسمعون الإيمانَ ولا يعقلونَهُ. و(الْمُسَنَّدَةُ) الْمُمَالَةُ إلى الجدار، ويُقرأ (خُشُبٌ، وَخُشْبٌ) بجزم الشِّين، ومنها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي يظُنُّون مِن الْجُبنِ والخوفِ أنَّ كلَّ مَن خاطبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فإنما يُخاطِبهُ في أمرِهم وكشفِ نفاقهم. ويقالُ: لا يسمعون صَوتاً إلاَّ ظنُّوا أنْ قد أتوا (فإذا نادَى مُنادٍ في العسكرِ، وانفلَتَتْ دابَّة، أو أنشِدَتْ ضالَّةٌ، ظنُّوا أنُّهم يُرَادُون مما في قلوبهم من الرُّعب) أنْ يكشفَ اللهُ أسرارَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُمُ ٱلْعَدُوُّ ﴾؛ ابتداءُ كلامٍ، والمعنى: هُمْ على الحقيقةِ العدوِّ الأدنَى إليكَ.
﴿ فَٱحْذَرْهُمْ ﴾؛ يا مُحَمَّدُ ولا تَأْمَنْهُمْ وإنْ أظهَرُوا أنَّهم معكَ، ولا تُطلِعْهُمْ على سرِّكَ كأَنَّهم عيونٌ لأعدائِكَ من الكفَّار. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾؛ أي لعَنَهم اللهُ وأخزَاهم وأحَلَّهم محلَّ مَن يقاتلهُ عدُوّاً قاهراً له.
﴿ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي يُصرَفُون من الحقِّ إلى الباطلِ.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾؛ أي إذا قيلَ لهؤلاء المنافقين بعدَ ما افتُضِحُوا: هَلُمُّوا إلى رسولِ اللهِ يستغفِرْ لكم ذُنوبَكم، عطَفُوا رُؤوسَهم استهزاءً به ورغبةً عن الاستغفار، ورأيتَهم يصدُّون عن الاستغفار وعن طلب المغفرةِ. ومعنى ﴿ يَصُدُّونَ ﴾ أي يَمتَنِعُونَ، ويَمنَعُونَ غيرَهم عن طلب المغفرةِ، وهم مُستكبرون عن استغفار رسولِ الله لَهم وعن قبولِ الحقِّ. وذلك: أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا رَجَعَ مِنْ أُحُدٍ بكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَقَتَهُ الْمُسْلِمُونَ وَعَنَّفُوهُ، فَقالَ لَهُ بَنُوا أبيهِ؛ إئْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَكَ، قَالَ: لاَ أذْهَبُ إلَيْهِ وَلاَ أُريدُ أنْ يَسْتَغْفِرَ لِي. ومن قرأ (لَوَوْا) بالتخفيفِ فهو من لَوَى يَلْوِي إذا صَرَفَ الشيءَ وقلبه.
قولهُ تعالى: ﴿ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾؛ أي سواءٌ عليهم الاستغفارُ وتركهُ.
﴿ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ ﴾؛ لإبطانِهم الكفرَ. وهذا في قومٍ مَخصُوصِينَ عَلِمَ اللهُ أنَّهم لا يُؤمنون فلم يستغفِرْ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ ﴾.
" وذلك: أنَّ أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا نُزُولاً عَلَى الْمَاءِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، إذْ وَقَعَ بَيْنَ غُلاَمٍ لِعُمَرَ رضي الله عنه مِنْ بَنِي غِفَارٍ يَقُالُ لَهُ: جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ يَقُودُ لِعُمَرَ فَرَسَهُ وَبَيْنَ غُلاَمٍ لِعَبْدِاللهِ بْنِ أبي سَلُولٍ يُقَالُ لَهُ: سِنَانُ الْجُهَنِيُّ، فَأَقْبَلَ جَهْجَاهُ يَقُودُ فَرَسَ عُمَرَ فَازْدَحَمَ هُوَ وَسِنَان عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلاَ، فَصَرَخَ سِنَانُ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار، وَصَرَخَ الْغِفَاريُّ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ. فَاشْتَبَكَ النَّاسُ وَعَلَتِ الأَصْوَاتُ. فَقَالَ عبْدُاللهِ بْنُ أبَيٍّ: مَا أدْخَلْنَا هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فِي دِيَارنَا إلاَّ لِيَرْكَبُوا أعْنَاقَنَا، وَاللهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إلاَّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ! أمَا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذلَّ، يَعْنِي الأَعَزَّ نَفْسَهُ وَالأَذلَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم! ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: هَذا مَا فَعَلْتُمُوهُ لِنَفْسِكُمْ أحْلَلْتُمُوهُمْ بلاَدَكُمْ، قَاسَمْتُمُوهُمْ أمْوَالَكُمْ، أمَا وَاللهِ لَوْ أمْسَكْتُمْ طَعَامَكُمْ وَمَنَعْتُمْ أصْحَابَ هَذا الرَّجُلِ الطَّعَامَ لَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَرَجَعُوا إلَى عَشَائِرِهِمْ، وَتَحَوَّلُوا عَنْ بلاَدِهِمْ، فَلاَ تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفَضُّوا؛ أيْ يَتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِ مُحَمَّدٍ. فَسَمِعَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ كَلاَمَهُ، فَقَالَ: وَاللهِ أنْتَ الذلِيلُ الْبَغِيضُ، الْقَلِيلُ الْمَبْغُوضُ فِي قَوْمِكَ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فِي عَزِّ الرَّحْمَنِ وَعِزَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: ثُمَّ ذهَبَ زَيْدٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأخْبَرَهُ بذلِكَ وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب رضي الله عنه فَقَالَ: دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذْ تَرْعَدُ لَهُ أنْفٌ كَثِيرٍ بيَثْرِبَ. فَقَالَ عُمَرُ: فَإنْ كَرِهْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَمُرْ سَعِدَ بْنَ مُعَاذٍ أوْ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أوْ عَبَّادَ بْنَ بشْرٍ فَلْيَقْتُلُوهُ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذا تَحَدَّثَ النَّاسُ أنَّ مُحَّمَداً يَقْتُلُ أصْحَابَهُ؟ لاَ وَلَكِنِ أذِّنْ بالرَّحِيلِ " وَذلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يُرْتَحَلُ فِيْهَا، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَأَرْسَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: " أنْتَ صَاحِبُ هَذا الْكَلاَمِ الَّذِي بَلَغَنِي؟ " فَقَالَ: وَالَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا قُلْتُ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ، وَإنَّ زَيْداً لَكَاذِبٌ. وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي قَوْمِهِ شَرِيفاً عَظِيماً، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الأَنْصَار: يَا رَسُولَ اللهِ شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ، لاَ تُصَدِّقْ عَلَيْهِ كَلاَمَ صَبيٍّ مِنْ غِلْمَانِ الأَنْصَار، عَسَى أنْ يَكُونَ هَذا الصَّبيُّ وَهِمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ، فَعَذرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. وَفَشَتِ الْمَلامَةُ مِنَ الأَنْصَار لِزَيْدٍ وَكَذبُوهُ، فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ: مَا أرَدْتَ يَا وَلَد إلاَّ أنْ كَذبَكَ رَسُولُ اللهِ وَالنَّاسُ وَمَقَتُوكَ. وََكَانَ زَيْدٌ يُسَايرُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحَى بَعْدَ ذلِكَ أنْ يَدْنُو مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَبَلَغَ وَلَدَ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ مَا كَانَ مِنْ أمْرِ أبيهِ، فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَنِي أنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ لِمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَمُرْنِي فَأَنَا أحْمِلْ إلَيْكَ دُأبَتَهُ، وَإنِّي أخْشَى أنْ تَأْمُرَ بهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلاَ تَدَعُنِي نَفْسِي أنْ أنْظُرَ إلَى قَاتِلِهِ يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ، فَأَخَافُ أنْ أقْتُلَهُ فَأَقْتُلَ مُؤْمِناً بكَافِرٍ فَأَدْخُلَ النَّارَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " بَلْ تَرْفُقُ بهِ وَتُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا ". وَكَذلِكَ جَاءَ أُسَيدُ بْنُ حُضَيرٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ كُنْتَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْشَى فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: " أوَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ؟ زَعَمَ أنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذلَّ " فَقَالَ أُسَيْدُ: بَلْ أنْتَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ تُخْرِجُهُ إنْ شِئْتَ، هُوَ وَاللهِ الذلِيلُ وَأنْتََ الْعَزِيزُ، فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ جَاءَ اللهُ بكَ، وَإنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظُمُونَ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتوِّجُوهُ، فَهُوَ يَرَى أنَّكَ سَلَبْتَهُ مُلْكَهُ. ثم سارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى وافَى المدينةَ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ﴿ هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ ﴾ الآية إلى قولهِ: ﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ ﴾؛ فَأَخَذ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأُذُنِ زَيْدٍ فَقَالَ: " يَا زَيْدُ إنَّ اللهَ صَدَّقَكَ ". وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ بقُرْب الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أرَادَ أنْ يَدْخُلَهَا جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُاللهِ حَتَّى أنَاخَ عَلَى مَجَامِعِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَمَنَعَ أبَاهُ أنْ يَدْخُلَهَا، فَقَالَ لَهُ: مَا لكَ؟ قَالَ: وَيْلَكَ! وَاللهِ لاَ تَدْخُلُهَا أبَداً إلاَّ أنْ يَأْذنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِتَعْلَمَنَّ الْيَوْمَ مَنِ الأَعَزُّ وَمَنِ الأَذلُّ. فَشَكَا عَبْدُاللهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا مَنَعَ ابْنَهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " أنْ دَعْهُ يَدْخُلُ " فَقَالَ: أمَّا إذا جَاءَ أمْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَعَمْ. فَلَبثَ بَعْدَ أنْ دَخَلَ أيَّاماً قَلاَئِلَ ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي هو الرزَّاقُ لهؤلاءِ المهاجرِين لاَ هُوَ؛ لأنَّ خزائنَ السَّماوات والأرضِ المطرَ والنباتَ، وهما للهِ فلا يقدرُ أحدٌ أن يُعطِي شيئاً إلاَّ بإذنهِ ولا يمنعهُ شيئاً وبمشيئتهِ ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ إنما أمرهُ إذا أرادَ شيئاً أنْ يقول له كُنْ فيكونُ. وقال الجنيدُ: (خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ الْغَيْبُ، وَخَزَائِنُ الأَرْضِ الْقُلُوبُ، وَهُوَ عَلاَّمُ الْغُيُوب مُقَلِّبُ الْقُلُوب). وقال رجلٌ لحاتم الأصَمّ: (من أين تأكل؟ فقال: ﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ ﴾ يعني مِن هذه الغَزوَةِ وهي غزوةُ بني الْمُصْطَلِقِ حيٌّ من هُذيلٍ.
﴿ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ ﴾ قد ذكرنا قائلَ هذه المقالة وهو عبدُالله بن أُبَي. قِيْلَ: إنَّ إبنَهُ عبدُالله قَالَ لَهُ: أنْتَ وَاللهِ الأَذَلُّ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَعَزُّ. وكان عبدُالله بن أُبَي يعني بالأعزِّ نفسَهُ، فردَّ اللهُ عليه فقال: ﴿ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ فعزَّةُ الله تعالى بقَهرهِ لخلقهِ، ولرَسُولهِ بإظهار دينهِ على الأديان كلِّها، وعزَّةُ المؤمنين نَصرهُ إيَّاهم على أعدائِهم فهم ظَاهِرُونَ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ ولو عَلِمُوا ما قالوا هذه المقالةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي لا تَشغَلكُم أموالُكم ولا أولادكم عن ذكرَ اللهِ، يعني الصَّلاةَ المفروضةَ، والمعنى: لا تشغَلكُم كثرةُ أموالكم وحفظُها وتنميتها، ولا تربيةُ الأولادِ وإصلاحُ حالهم عن طاعةِ الله وعن الصَّلاة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾؛ أي ومَن ينشغِلْ بالمالِ والأولاد عن طاعةِ الله فأُولئك هم الْمَغْبُونُونَ لذهاب الدُّنيا والآخرة عنهم، وهلاكِ أنفُسهم التي هي رأسُ مالهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ ﴾؛ معناهُ: وأنفِقُوا الأموالَ في الزَّكاة والجهادِ وغيرهما من الحقوقِ الواجبة من قبلِ أن يأتِيَ أحدَكم الموتُ فيعلم أنه ميِّت.
﴿ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ﴾؛ في الدُّنيا؛ أي يتمَنَّى القليلَ من التأخيرِ ليتصَدَّق به ويكون من الصَّالِحين بالتلافِي والتوبةِ واستئناف العملِ الصالح، ولاَ ينفعهُ تَمَنِّيهِ عند ذلك، والمعنى: إنه يستزيدُ في أجَلهِ حتى يتصدَّقَ ويُزَكِّي. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾؛ قِِيْلَ: إنَّ معناه وأحجُّ، عن ابنِ عبَّاس. وقوله: ﴿ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ على قراءةِ مَن جزمَ عطفَهُ على موضعِ ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ لأنه على معنى إنْ أخرَجتَني أصَّدَّقُ وأكُنْ، ولولا الفاءُ لكان فأَصَّدَّقْ مجزومٌ، ومن قرأ (وَأكُونُ) فهو عطفٌ على لفظ ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾.
وانتصبَ قوله تعالى ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ لأنه جوابُ التَّمنِّي، فالفاءُ وأصله: فَأَتَصَدَّقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ ﴾؛ أي لا يُؤخِّرها عن الموتِ إذا جاء وقتُ إهلاكها.
﴿ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾؛ من الخيرِ والشرِّ، وبمن أخَّرَ في أجله أنه يتوبُ أو لا يتوبُ.
Icon