تفسير سورة الطلاق

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة الطلاق
مدنية بها وآياتها اثْنَتَا عشرَة آيَة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (١) ناداه أولاً؛ لأنه سيد القوم وإمامهم، وفيه إجلال له، وإشارة إلى أنهم لا يصدرون إلا عن رأيه. والمعنى: إذا أردتم الطلاق كقوله: (إِذَا قُمتُمْ إِلَى الصَّلَاة) وله نظائر. تتزيلاً للمشرف على الشيء منزلة المباشرة. والطلاق المأمور به: أن يكون في طهر لم يجامع فيه، أو حامل استبان حملها. واللام للتوقيت. فالذي يقول: إن الأقراء بالأطهار فلا إشكال عنده. والذي يقول: بالحيض يقدر مستقبلات كقولك: جئتك لليلة بقيت في الشهر. روى البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: " أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر - رضي الله عنه - رسول اللَّه - ﷺ - فتغيظ منه وقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت فليطلقها إن شاء ". فإن قلت إذا كان الغرض إيقاع الطلاق في الطهر فما معنى تكرار الطهر في الحديث؟ قلت: أن لا يكون الرجوع للطلاق،
178
ولأن طول المدة عسى تؤثر في تبدل الحال، والطلاق أنكر المباحات فاحتيط لذلك، وقوله: " مره فليراجعها " دل على وقوع الطلاق في الحيض، وإطلاقه دل على أن الثلاث دفعة لا بدعة فيها، وما روي أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً فقال رسول اللَّه - ﷺ -. " أتلعبون بكتاب اللَّه " لا أصل له، ولا ذكر الثلاث في كتاب اللَّه في معرض الذم. (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) واحفظوها. (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) في التطويل في العدة، والإضرار بالنساء. (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) مساكنهن إلى انقضاء العدة. (وَلَا يَخْرُجْنَ) أيضاً استقلالاً، وإن أذن الأزواج؛ لأن ذلك حق الشارع ليس لأحد إسقاطه. (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) هي الزنا، أو النشوز بأن طلقت وهي ناشزة؛ لأن النشوز يسقط الحق حال الوفاق فأولى أن يسقطه حال الفراق، فالاستثناء راجع إلى الأمرين. أو البذاء وإيذاء الزوج، فيرجع إلى الأول. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) الأحكام. (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) عرضها لسخط اللَّه. (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) الرغبة في المطلقة، والندم على فراقها. واستدل الإمام أحمد على أن المبتوتة، والمتوفى عنها زوجها لا سكنى لها.
179
(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ... (٢) شارفن آخر العدة، (فَأَمْسِكُوهُنَّ) راجعوهن إن شئتم. (بِمَعْرُوفٍ) بحسن عشرة؛ لئلا يؤدي إلى فراق آخر. (أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) بإيفاء حق، وانتفاء ضرر بأن يراجعها ثم يطلقها تطويلاً للعدة. (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الفراق والرجعة؛ لأنه أبعد عن الريبة وأقطع للنزاع. أمر ندب، وعن الشافعي رحمه اللَّه قول بالوجوب في الرجعة. (وَأَقِيمُوا الشَهَادَهَّ لِلَّهِ) أدوها من غير ميل ولا غرض أيها الشهود.
(ذَلِكُمْ) المذكور من إيقاع الطلاق على وجه السنة، وإحصاء العدة، والكف عن الإخراج، وإقامة الشهادة. وقيل: إشارة إلى الأخير. والأول أوجه؛ لقوله: (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يؤْمِنُ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) سيما إذا جعل (وَمَن يَتَّقِ اللَّه يَجْعَل لَه مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ... (٣) اعتراضاً مؤكداً لتلك الأمور، وإن كان الأوجه أن يكون استطراداً دالًّا على أن التقوى ملاك الأمر، به نيط سعادة الدارين، ويتناول أمر الزوجين أول تناول. عن ابن إسحاق أن عوف بن مالك الأشجعي أسر ابنه، فشكى إلى رسول اللَّه - ﷺ - الفاقة، فأمره
بالصبر وكثرة قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه، فلم يفجأ أبويه إلا وهو بالباب يناديهما ومعه سرح القوم قد استاقها، فنزلت. (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) في أموره (فَهُوَ حَسْبُهُ) كافيه (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) الذي يريده ولا يفوته، قرأ حفص بالإضافة. (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) تقديراً وتوقيتاً لا يتقدمه ولا يتجاوزه. وفي الحديث " يستجاب لأحدكم ما لم يتعجل ويقول دعوت فلم يجب لي ".
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ... (٤) روى ابن جرير عن أبي بن كعب أنه سأل رسول اللَّه - ﷺ - عن عِدَدِ النساء لم تذكرْ في الكتاب فنزلت. والآيسة: هي التي انقطع دمها لكبر السن. واختلاف القراء في اللائي تقدم في الأحزاب، (إِنِ ارْتَبْتُمْ)
181
جهلتم وشككتم في عدتهن، (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) من الصغر (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ) (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ) طلقت، أو توفي عنها زوجها. (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ذهب علي وابن عباس رضي اللَّه عنهما إلى أن عدة المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين من أربعة أشهر وعشر ومدة الحمل؛ للتعارض من غير علم بتأخر إحداهما. وذهب ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى أن هذه الآية ناسخة لآية البقرة في قدر ما تناولته من الحوامل، وقال: من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى بعد التي في البقرة. والعام المتأخر، ناسخ للخاص المتقدم، فأولى إذا كان العموم من وجه. ويؤيد قول ابن مسعود - رضي الله عنه - ما روى البخاري ومسلم أن سبيعة الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة. توفي زوجها وهي حامل، فوضعت بعده بأربعين يوماً، فأنكحها
182
رسول اللَّه - ﷺ -. وأما كون العموم هنا بالذات وهناك بالعرض، وكون الحكم معللاً مما لا يعد مرجحاً (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) يسهل عليه أمره.
(ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ... (٥) لتعملوا بموجبه. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) يوم الجزاء. ولقد بالغ في أمر النساء بالحث على التقوى مراراً؛ وذلك لضعفهن ونقصان عقلهن، وما يبدو منهن مما يوجب النفرة والغضب. وفي آخر خطبة خطبها رسول اللَّه - ﷺ -: استوصوا بالنساء خيراً، خلقن من ضلع أعوج إن ذهبت تقيمه كسرته.
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ... (٦) ما تقدرون عليه. الوجد: الوسع (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) فيحتجن إلى الخروج. (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) تعميم الإسكان وتخصيص الإنفاق بأولات الأَحمال، دليل ظاهر للشافعي رحمه اللَّه على أن المبانة لا نفقة لها. وللحنفية أن هذا مفهوم لا يعارض ما روى عثمان وعمران أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: لها السكنى والنفقة. وفائدة التقييد: دفع وهم من ذهب إلى أن المدة إذا زادت عن أربعة أشهر وعشر لا يستحق الزيادة. (فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ) بعد انقطاع النكاح، (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) على الإرضاع، مقيد بغير اللّبأ الذي به البقاء غالباً. (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أنفقوا على أمر الولد بلا مشاقة. و (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ). (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ) ثم تضايقتم، (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) امرَأة. وفيه معاتبة للأم وحث على المساهلة.
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ... (٧) كل من الموسر والمعسر على قدر حاله. (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) من المال، (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) وعد للفقراء بأن الحال يتبدل كقوله (إِن مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) وحث على الإنفاق بقدر الطاقة.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ... (٨) فحلّ بهم بأس اللَّه تعالى. فخذوا حذركم. بعد بيان جمل من الأحكام أشار إلى أن أهل قرى كثيرة عاندوا، واشتغلوا عن امتثال أوامره. قرأ ابن كثير " كاءٍ " على وزن فاعٍ. (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) أهلكناهم؛ لقوله - ﷺ - " من نوقش في الحساب هلك " (وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) كالخسف والغرق.
(فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا... (٩) وخامة الأمر الذي خالفته، (وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) لا ربح فيه.
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا... (١٠) يوم القيامة وقيل: الحساب والعذاب يوم القيامة. والتعبير بالماضي كقوله (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)، لأن المترقب من وعده ووعيده كالكائن. وقوله: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) تكرار للوعيد. (فَاتَّقُوا اللَّهَ) بعد هذا البيان (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) العقول الخالصة. (الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا... (١١) الذكر: القرآن، و (رسولًا) بدل منه بدل اشتمال، والمراد به جبرائيل. أو الشرف فبدل كل. ويجوز أن يراد محمد عليه السلام. أو نصبه بـ (أرسل) مقدراً دل عليه الإنزال. وهذا هو المتبادر، ويدل عليه قوله: (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ)، لأن تلاوة جبرائيل عليهم تجوز. وجعل الخطاب شاملاً له وللمؤمنين تكلف. (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: ليخرجكم. والإتيان بالظاهر؛ للإشارة إلى فائدة الإرسال. (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) من الضلالة إلى الهدى. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) قرأ نافع وابن عامر بالنون، وهو أبلغ في الوعد. (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) أي: رزق فيه تعجيب.
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ... (١٢) سبع أرضين أيضا. روى البخاري عن سعيد بن زيد أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: من غصب شبرًا من
185
الأرض طوقه من سبع أرضين. وفي الحديث: " ما السموات السبع، والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة في فَلاة " وحملها على الأقاليم باطل، (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أي: قضاء اللَّه بالإماتة والإحياء، وسائر أحكامه. (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا). علة لـ (خلق)، أو لـ (يتنزل)، أو لمقدر يعمهما. فإن كل واحد يدل على كمال القدرة.
* * *
تمت سورة الطلاق. والحمد للَّه الملك الخلاق. والصلاة على الكامل بالاتِّفاق، وآله وصحبه إلى يوم التلاق.
* * *
186
Icon