تفسير سورة الإنسان

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ
٧٦-سورة الإنسان
وتسمى سورة الدهر والأمشاج و ﴿ هل أتى ﴾ وهي مكية وآيها أحدى وثلاثون.
روى الإمام مسلم١ عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة و ﴿ هل أتى على الإنسان ﴾ ".
١ اخرجه في ٧- كتاب الجمعة، حديث رقم ٦٤ (طبعتنا)..

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الإنسان
وتسمى سورة (الدهر) و (الأمشاج) و (هل أتى) وهي مكية وآيها إحدى وثلاثون.
روى الإمام مسلم «١» عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة- الم تنزيل السجدة- وهل أتى على الإنسان
. القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١)
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أي في ذلك الحين، بل كان شيئا منسيّا، نطفته في الأصلاب. والاستفهام للتقرير.
قال الشهاب: أي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه، والمقرر به من ينكر البعث. وقد علم أنهم يقولون: نعم، قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه. فيقال لهم: فالذي أوجدهم بعد أن لم يكونوا، كيف يمتنع عليه إحياؤهم بعد موتهم؟
والمراد بالإنسان جنس بني آدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢]
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي ذات أخلاط، وهي موادها المؤلفة منها. جمع مشج أو مشيج. كسبب وأسباب، ونصير وأنصار. أو مفرد، كبرمة أعشار (البرمة القدر. وأعشار أي منكرة كأنها صارت عشر قطع) انتهى نَبْتَلِيهِ أي نختبره. والجملة في موضع الحال أي خلقناه مبتلين له، أي مريدين ابتلاءه، لا عبثا وسدى فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً أي لننظر هل صرف سمعه وبصره إلى استماع آيات الله والنظر فيها. ولما كان تمام المنّة بهما بهبة العقل، أشار إليه بقوله سبحانه:
(١) أخرجه في: الجمعة، حديث رقم ٦٤.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٣]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك. أي عرّفناه وبينا له ذلك، بأدلة العقل والسمع إِمَّا شاكِراً أي بالاهتداء والأخذ فيه وَإِمَّا كَفُوراً أي بالإعراض عنه. ونصبهما ب (يكون) مقدرة. أي ليكون إما شاكرا وإما كفورا. أي ليتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته. كقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: ٢].
(قال الرازي) قال القفال: ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل: قد نصحت لك. إن شئت فاقبل وإن شئت فاترك. أي فإن شئت فتحذف الفاء. فكذا المعنى إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ فإما شاكرا وإما كفورا. فتحذف الفاء. وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد. أي إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر، وإن شاء فليشكر. فإنا أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا. كقوله: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: ٢٩]. انتهى.
لطيفة:
قال في (النهر) : لما كان الشكر قلّ من يتصف به قال (شاكرا) ولما كان الكفر كثيرا من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر قال: كَفُوراً بصيغة المبالغة. انتهى.
وهذا ألطف من القول بمراعاة رؤوس الآي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٤]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤)
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ أي ليقادوا بها ويستوثق بها منهم شدّا في الجحيم وَأَغْلالًا أي لتشد فيها أيديهم إلى أعناقهم وَسَعِيراً أي نارا تسعر عليهم فتتوقد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٥ الى ٦]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦)
إِنَّ الْأَبْرارَ أي الذين برّوا بطاعتهم ربهم في أداء فرائضه واجتناب معاصيه
يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي خمر، أطلقت عليها للمجاورة كانَ مِزاجُها أي ما تمزج به كافُوراً قال ابن جرير: يعني في طيب رائحتها كالكافور. ولما كان الكافور من أطيابهم كان كناية عما يطيب به مما له عرف ذكي عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يثيرونها من منابعها في روض الجنة، إثارة مبهجة، تفننا في النعيم. وعَيْناً منصوب بنحو (يؤتون) والباء في بِها بمعنى من. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٧]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ استئناف مسوق لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر من النعيم، مشتمل على نوع تفصيل لما ينبئ عنه اسم الأبرار إجمالا. كأنه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية؟ فقيل: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم؟ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ أي عذابه مُسْتَطِيراً منتشرا ظاهرا للغاية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٨]
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي مع حب الطعام، كقوله: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: ٩٢]، أو على حب الله تعالى، لما سيأتي من قوله: لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان: ٩]، مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً أي مأسورا من حرب أو مصلحة.
وإنما اقتصر على الثلاثة لأنهم من أهم من تجدر الصدقة عليهم. فإن المسكين عاجز عن الاكتساب لما يكفيه. واليتيم مات من يعوله ويكتسب له، مع نهاية عجزه بصغره. والأسير لا يملك لنفسه نصرا ولا حيلة.
قال في (الإكليل) : والآية تدل على أن إطعام المشرك ما يتقرب به إلى الله تعالى، أي لقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٩]
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي قائلين ذلك بلسان الحال أو المقال، إزاحة لتوهم المنّ المبطل للصدقة وتوقع المكافأة. أي لا نقصد بإطعامكم إلا ثوابه تعالى والقربة إليه والزلفى عنده. وإطلاق (الوجه) على الذات مجاز مشهور لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي مكافأة وَلا شُكُوراً أي ثناء ومديحا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ١٠]
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي عذاب يوم عَبُوساً أي شديدا مظلما. أو تعبس فيه الوجوه من شدة مكارهه وطول بلائه قَمْطَرِيراً أي شديد العبوسة والكرب. وخوفهم من اليوم كناية عن عمل ما يؤمنهم فزعه وهوله، من الصالحات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١١ الى ١٣]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣)
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي بسبب ما ذكر من خوفهم منه وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي في الوجوه وَسُرُوراً أي في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أي على طاعة الله واجتناب محارمه والدعوة لسبيله واحتمال الأذى جَنَّةً وَحَرِيراً أي يلبسونه ويتزيّنون به مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي السّرر لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أي لا حرّا ولا بردا. من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١٤ الى ١٦]
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها أي ظلال أشجارها. أي قريبة منهم، مظلة عليهم، زيادة في نعيمهم وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي سهلت ثمارها لمتناوليها. فلا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك. وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب، وهو كوز لا أذن له: كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قال أبو البقاء: حسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلهما. ولولا التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية، لشدة اتصال الصفة بالموصوف قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم. فجاءت كما قدّروا. أو قدرها لهم السقاة على قدر ريّهم. لا يزيد ولا ينقص. وهو ألذّ للشارب، لكونه على مقدار حاجته، لا يفضل عنها ولا يعجز.
قال أبو حيان: أقرب من هذا ما نحاه أبو حاتم. وهو أن أصله قدر ريهم منها تقديرا والري العطش، فحذف المضاف وحرف الجر وأوصل الفعل له بنفسه.
قال الشهاب: وفي كونه أقرب، نظر. فإنه أكثر تكلفا. ولكن كل حزب بما لديهم فرحون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨)
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا أي ما يشبهه في الطعم. وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا وهي شديدة الجرية المنسابة بنوع خاص بهيج. ونصب عَيْناً بنحو (يؤتون) أو (ينظرون).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ١٩]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي لا يموتون. أو دائم شبابهم لا يتغيّرون عن تلك السن. أو مسوّرون. أو مقرطون. إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أي لحسنهم وكثرتهم في منازلهم، وانبثاثهم في منازه أماكنهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي نظرت في الجنة، ورميت بطرفك ما أوتي الأبرار رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أي واسعا لا ينفذه البصر عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ وهو ما رقّ من الحرير خُضْرٌ قرئ بالرفع صفة ل ثِيابُ وبالجر ل سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٌ وهو ما غلظ من الديباج. وفيه القراءتان، رفعا وجرّا وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أي ليس برجس كخمر الدنيا. أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدى الوضرة، وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان التي لم يعن بتنظيفها. والآية مما يستروح بها في نجاسة الخمر، لما فيها من التعريض بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٢]
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
إِنَّ هذا أي ما عدّ من ثوابهم كانَ لَكُمْ جَزاءً أي على ما قدمتم من الصالحات وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي مجازى عليه غير مضيّع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٣]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أي عظيما لا يقدر قدره. أي فأمره الحق ووعده الصدق. والقصد تثبيت قلبه صلوات الله عليه، وشرح صدره وتحقيق أن المنزل وحي. وعدم المبالاة برميهم له بالسحر والكهانة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٤]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي من الصدع به، والتبليغ لآية والعمل بأوامره وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أي ولا تطع في معصيته تعالى من مشركي مكة، من ركب الإثم وجاهر بالكفر، ممن يريدك عن الرجوع عن دعوتك، بما شئت من مال أو مطلب وأَوْ إما على بابها. أي لا تطع من كان فيه أحد هذين الوصفين، فالنهي عمن اجتمعا فيه يعلم بالطريق الأولى. وإما بمعنى الواو.
قال الفرّاء: أَوْ هاهنا بمنزلة الواو. وفي الجحد والاستفهام والجزاء يكون بمعنى (لا) فهذا من ذلك مع الجحد. انتهى.
وإما بمعنى (بل) إضراب إلى وصف هو به أخلق وأجدر. وإما للتخيير في التسمية أي من شئت تسميه بالآثم أو الكفور، لتحقق مفهومهما فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي بدعائه وتسبيحه والصلاة له بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي بالتهجد فيه وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا أي مقدارا طويلا، نصفه أو زيادة عليه. وفي هذه الأوامر، مع الأمر في أول (المزمل) وأمثالها، ما يدل على العناية بقيام الليل والحرص عليه.
ويأتي البحث المتقدم هنا أيضا. في أن الأمر خاص به صلوات الله عليه بناء على أنه للوجوب، أو يشمل غيره تبعا وهو للقدر المشترك، قولان معروفان في نظيره. والقصد حثه ﷺ أن يستعين في دعوة قومه والصدع بما أمر به، بالصبر على
أذاهم والصلاة والتسبيح وقد كثر ذلك في مواضع من التنزيل كقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: ٤٥]، وقوله: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ [ق: ٣٩- ٤٠]، وأمثالهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٧]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)
إِنَّ هؤُلاءِ أي المشركين يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي اللذات العاجلة، فيسعون لها جهدهم، وإن أهلكوا الحرث والنسل وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا أي شديدا، لثقل حسابه وشدته وعسره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٨]
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي خلقهم وأعضاء بناهم.
قال الشهاب: الأسر، معناه لغة الشد والربط. ويطلق أيضا على ما يشد ويربط به. ولذا سمي الأسير أسيرا بمعنى مربوطا. فشبهت الأعصاب بالحبال المربوط بها، ليقوى البدن بها أو لإمساكها للأعضاء. ولذا سموها رباطات أيضا.
وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أي بإهلاكهم والإتيان بآخرين. وهذا محط الترهيب، وما قبله كالتعليل له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٩]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩)
إِنَّ هذِهِ أي السورة، أو الآيات القريبة تَذْكِرَةٌ أي عظة لمن اعتبر واتعظ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي بالطاعة الموصلة لقربه، إيصال السبيل للمقاصد.
فهو تمثيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
379
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قال ابن جرير: أي وما تشاءون اتخاذ السبيل إلى ربكم إلا أن يشاء الله ذلك لكم، لأن الأمر إليه لا إليكم. أي لأن ما لم يشأ الله وقوعه من العبد، لا يقع من العبد. وما شاء منه وقوعه، وقع. وهو رديف (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) هذا تأويل السلف. وقالت المعتزلة: أي وما تشاءون الطاعة إلا أن يشاء الله بقسرهم عليها. والمسألة مبسوطة في الكلام. وقد لخصناها في (شرح لقطة العجلان) فارجع إليه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بأحوالهم وما يكون منهم حَكِيماً أي في تدبيره وصنعه وأمره يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ قال أبو السعود:
بيان لإحكام مشيئته المترتبة على علمه وحكمته. أي يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها. وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى، حيث يوفّقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة. وَالظَّالِمِينَ وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى خلاف ما ذكر أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني عذاب النار. وقاناه الله بمنه وكرمه.
380
Icon